فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة، لئلا يخفق في الامتحان، ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض.
فقد يضعف لثقل الأمر، خاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد، فيلوح الله له بما هو خير من ذلك وأبقى، ليستعين به على مقاومة الفتنة، ويتقوى ويثبت.
وبعض الناس يظن أن الاعتراف بألوهية الله في ذاته هو الإيمان.. وأن الناس متى اعترفوا بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية.. دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو العبودية.. فيطيعونه ويخضعون له في كل شيء.. فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له.. ولا يحكمون في أمرهم كله غيره.
وبعضهم يظن أن العبودية تتحقق بمجرد تقديم الشعائر لله.. ويحسبون أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده.. فقد عبدوا الله وحده، بينما كلمة (العبادة) مشتقة من عبد، وعبد تفيد ابتداء: دان وخضع.
وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع، لا يستغرق كل حقيقة الدينونة، ولا كل مظاهرها.
يا حسرة على العباد من سوء الفهم.. وسوء الظن.. وسوء الجهل.
إن الجاهلية ليست فترة من الزمان مضت فقط، إنما هي انحسار معنى الألوهية والعبادة على هذا النحو، هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك، وهم يحسبون أنهم على دين الله كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
فهل يليق بالمسلمين أن يؤدوا الشعائر لله، بينما أربابهم في الحياة غير الله، يشرعون لهم بما لم يأذن به الله فيطيعونهم، وتلك عبادتهم إياهم.
والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق هذا الكون، وله الأمر والحكم فيه، فهو الذي يحكم العباد بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له وحده، ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما شرعه لهم في جميع أحوالهم، فلا يجوز لهم أن يشركوا معه أحداً سواه.(4/117)
إن على المصلحين والدعاة إلى الله أن يعملوا لإعادة هذا الدين في حياة الأمة إلى الوجود الفعلي في مختلف شعب الحياة، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في أغلب بقاع الأرض، وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام، وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر‘ تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين، وتوهمهم أنه لا يزال بخير، وهو يمحى من الوجود محواً، وتطرد شرائعه وأحكامه من واقع الحياة طرداً، وتهدم أركانه وواجباته وسننه كل حين.
إن مجتمع التوحيد والإيمان قد وجد في مكة، قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد، وجد من يوم قيل للناس: (? چ چ چ چ ? ??) [الأعراف: 85].
فعبدوه، ولم تكن عبادتهم حينئذ ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت، إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة لله وحده في كل شيء قبل نزول الشرائع.
وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع والشعائر، ودان الناس لربهم بهذا وهذا على حد سواء.
إن الناس لا تتحول أبداً من الجاهلية وعبادة لطواغيت، إلى الإسلام وعبادة الله وحده، إلا عن طريق ذلك الطريق الطويل البطيء، الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة من أول يوم فأفلحت.
ذلك الطريق الذي بدأه فرد، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم تتبعه طليعة مؤمنة، ثم تتحرك هذه العصبة في وجه الجاهلية، وتعاني ما تعاني، حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق، ويمكن لها في الأرض فتقيم الشعائر والشرائع في جميع أحوالها، ثم يدخل الناس في دين الله أفواجاً: (چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الحج: 40، 41].
وهذه الأمة التي اختارها الله لحمل أمانة الدين والدعوة إليه، لها صفات، وعليها واجبات، ولها مكانة عند الله، ومكانة عند الناس.(4/118)
وقد جمع الله المنهاج الذي رسمه لهذه الأمة، ولخص التكاليف التي ناطها به، وقرر مكانها الذي قدره لها بقوله:
(گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 77، 78].
إن الله عزَّ وجلَّ يناديهم بالصفة التي ميزهم بها عن غيرهم وهي الإيمان، ثم يأمرهم بالركوع والسجود، وهما ركنا الصلاة البارزان، ثم يأمرهم ثالثاً بالأمر العام بالعبادة، وهي أشمل من الصلاة.
فعبادة الله تشمل الفرائض كلها، وتزيد عليها كذلك كل عمل، وكل حركة، وكل نية، يتوجه بها العبد إلى ربه، ثم يختم بفعل الخير عامة في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة.
يأمر الله عزَّ وجلَّ الأمة المسلمة بذلك رجاء أن تفلح، فهذه هي أسباب الفلاح:
العبادة تصلها بالله خالقها.. وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة على قاعدة الإيمان بالله.
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة، من الصلة بالله، واستقامة الحياة، نهضت بالتبعة الشاقة: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
والجهاد في سبيل الله يشمل:
جهاد النفس.. وجهاد العدو.. وجهاد الشر والفساد.. كلها سواء.
وجاهدوا في الله حق جهاده فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة، واختاركم لها من بين عباده، وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة، ينبغي أن يقابل منها بالشكر، وحسن الأداء لهذه الأمانة.
وهو تكليف محفوف برحمة الله، فلا حرج فيه ولا مشقة.
وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه، ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته، فلا تبقى طاقته حبيسة مكتومة، ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم الذي يتلف كل شيء بلا حساب.(4/119)
إنه منهج الله الذي أكرم به البشرية، ملة أبيكم إبراهيم، منبع التوحيد الذي بقي في ذريته، لم ينقطع من الأرض، كما انقطع من قبل إبراهيم، وقد سماكم الله بالمسلمين من قبل، وبعد نزول القرآن.
والإسلام هو إسلام الوجه والقلب لله وحده لا شريك له، فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الرسل والرسالات والأجيال، حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحتى سلمت إليها الأمانة، وعهد الله إليها بالوصاية على البشرية إلى يوم القيامة.
فهذه الأمة هي القوامة على البشرية بعد نبيها، وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وهي أمينة على ذلك، ومسئولة عنه.
فعليها أداء الشهادة لهذا الدين من خلال واقعها، ومنهج حياتها، كما أراد الله، ليدخل الناس في دين الله أفواجاً، وهي مسؤولة عنهم، وشاهدة عليهم.
فما أعظم الكرامة.. وما أكبر المهمة.. وما أثقل الأمانة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، وهذه الأمة تشهد على الناس: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
وقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي، وطبقته في حياتها الواقعية، ومشت به في الناس.
حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله من مكان القيادة والعزة، إلى مكان التابع في ذيل القافلة، حتى تحكم فيها أحفاد القردة والخنازير من اليهود والنصارى.
وما تزال ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اصطفاها الله له.
وهذا الأمر العظيم يقتضي الاحتشاد له، والاستعداد له: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها الله لها، وشرفها بها.
إن الإيمان أمانة الله في الأرض، ولا بدَّ من الابتلاء، ليعلم الله الصادق من الكاذب كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 2، 3].(4/120)
ومن الفتن أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدافع عنه، ولا يملك النصر لنفسه ولا المنعة، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان.
وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة، فهناك فتن كثيرة في صور شتى، ربما كانت هي أمر وأدهى.
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعاً.
وقد يهتفون به ليسالم أويستسلم، وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك.
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين ومرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصاغ لهم الأمجاد، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا تقضي له حاجة، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه، إلا القليلون من أمثاله، الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً.
وهناك كذلك فتنة الغربة في البيئة، حين يرى المؤمن كل من حوله غارقاً في تيار الضلالة، سابحاً في بحر الشهوات، وهو وحده موحش غريب طريد.
وهناك كذلك فتنة من نوع آخر، فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان، ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله ورسوله.
وهناك فتنة أكبر من هذا كله، إنها فتنة النفس والشهوة، وجاذبية الأرض، والرغبة في المتاع والسلطان، وفي الدعة والراحة، وصعوبة الاستقامة على صراط الله، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة.
فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله.
وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى.
أمانة السماء في الأرض.. وأمانة الله في قلب الإنسان.(4/121)
وما بالله حاشا لله أن يعذب المؤمنين بالابتلاء.. وأن يؤذيهم بالفتنة.. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة.. فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية الشاقة.. وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات.. وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام.. وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه.. على الرغم من طول الفتنة.. وشدة الابتلاء.. واقتحام الأهوال.
والنفس تطهرها الشدائد، فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها.
وكذلك تفعل الشدائد بالمؤمنين، فلا يبقى صامداً إلا أصلبهم عوداً، وأشدهم اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده.
وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها، بعد الاستعداد والاختبار.
وإن هؤلاء الأخيار ليتسلمون الأمانة، وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن، وبما بذلوا لها من الصبر على المحن، وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات.
فهؤلاء هم الذين يشعرون بقيمة الأمانة، فلا يهون عليهم أن يسلموها رخيصة، بعد كل هذه التضحيات والآلام.
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية، فأمر تكفل به الله، وما يشك مؤمن في وعد الله، فإن أبطأ فلحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله.
وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة.. ويقع عليهم البلاء.. أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله ودينه، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة.. فهو يختارهم للابتلاء حسب إيمانهم.(4/122)
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاء؟ فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
والذين يفتنون المؤمنين ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 4].
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [النساء: 123].
فإن الله عزَّ وجلَّ الذي جعل الابتلاء سنة، ليمتحن إيمان المؤمن، ويميز بين الصادقين والكاذبين، هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.
وإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب، وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين، وأخذ المفسدين، سنة جارية لا بدَّ أن تجيء.
وهذه النفوس التي تحتمل تكاليف الإيمان، ومشاق الجهاد، إنما تجاهد لنفسها ولخيرها، واستكمال فضائلها، ولإصلاح أمرها وحياتها، وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد، وإنه لغني عن كل أحد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
فلا يقفن أحد في وسط الطريق يطلب من الله ثمن جهاده.. ويمن عليه وعلى دعوته.. ويستبطئ المكافأة على ما ناله.. فإن الله لا يناله من جهاد العبد شيء.. وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).(4/123)
وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده.. وأن يستخلفه في الأرض به، وأن يأجره في الآخرة بثوابه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [العنكبوت: 7].
فليطمئن المؤمن على ماله عند الله، وليصبر على تكاليف الجهاد، وليثبت على مرارة الفتنة والابتلاء: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الشورى: 36].
ومن أدى الأمانة فاز بالجنة والرضوان، ومن ضيع الأمانة باء بالنار والخسران: (ے ے ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 18-20].
هذا مبدأ الجزاء العادل الذي يفرق بين المحسنين والمسيئين في الدنيا والآخرة، والذي يعلق الجزاء بالعمل على أساس العدل والإحسان.
فما يستوي المؤمنون والفاسقون، في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا والآخرة سواء.
المؤمنون متجهون إلى الله مؤمنون به عاملون بمنهجه.
والفاسقون منحرفون شاردون، مفسدون في الأرض، لا يلتقون مع المؤمنين على منهج الله في الحياة.
فلا عجب أن يختلف طريق المؤمنين وطريق الفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده، وما قدمت يداه.
وميثاق الله تبارك وتعالى مع النبيين عامة، ومع أولي العزم خاصة، هو حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه، وتبليغه للناس، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها.
وهو ميثاق واحد مطرد من لدن نوح صلى الله عليه وسلم إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو منهج واحد، وأمانة واحدة، يتسلمها كل منهم، ويقوم بحقها، حتى يسلمها إلى من بعده، حتى انتهت إلى سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 7].
والله عزَّ وجلَّ يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه على صراط مستقيم، ويوصيه بالتمسك بما أوحي إليه من ربه، والثبات عليه، مهما لاقى من عنت الشاردين عن الطريق بقوله سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [الزخرف: 43].(4/124)
إن هذا القرآن العظيم يرفع ذكرك وذكر قومك، بما فيه من الهدى والرشاد الذي سعدت به البشرية، وما زالت تسعد، والذي تحقق بفضل الله على يد الرسول ومن آمن معه: (? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 44].
فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ملايين الشفاه تصلي وتسلم عليه في كل لحظة، في كل زمان ومكان، ومئات الملايين من القلوب، تخفق بذكره وحبه، من بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة، وهو الذي جعل لهم الدور الأكبر في حياة البشرية.
وهو الذي واجهوا به الدنيا، فعرفتهم بالصدق والأمانة والعدالة، ودانت لهم طول الفترة التي تمسكوا فيها به.
فلما تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا، وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين.
وإنها لتبعة ضخمة ستسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة إذا هي تخلت عن الأمانة.
وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار على التضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.
والتضحية تكون ببذل المحبوب للوصول إلى ما هو أحب منه، وترك المحبوب لما هو أحب منه، وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، وذلك لا يكون إلا مع كمال الإيمان.
فالمهاجرون أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق، أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد من قرابتهم وعشيرتهم، لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله.
وقد خرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 8].(4/125)
خرجوا بدينهم معتمدين على الله، لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه، وهم مع أنهم مطاردون قليلون، ينصرون الله ورسوله بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، أولئك هم الصادقون الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه، وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه، تمشي به في الناس.
وهؤلاء السابقون من المهاجرين بذلوا كل شيء من أجل إعلاء كلمة الله، وضحوا بكل شيء من أجل نصرة دين الله.
فهم أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا غرابة فقد ضحوا بأغلى ما يملكون من أجل إعلاء كلمة الله:
فضحوا بستة أشياء من أجل لا إله إلا الله، ضحوا بالأوقات.. والأنفس.. والأموال.. والبلدان.. والشهوات.. والجاه ولهذا سماهم الله بالصادقين، لأنهم أتبعوا القول بالعمل، وصدقوا فيما عاهدوا الله عليه..
ثم يليهم في الفضل الأنصار الذين قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 9].
هذه المجموعة العجيبة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاماً طائرة.
هؤلاء الذين تبوءوا المدينة دار الهجرة قبل المهاجرين، كما تبوؤوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار.
وهذا موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم، ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه كما يثوب المرء إلى داره.
ولم تعرف البشرية كلها حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين، لقد استقبلوهم بالحب الكريم، والبذل السخي، والمشاركة الطيبة في الأموال، وشاركوهم في الشعور والمشاعر، والإيمان والأعمال.
وتسابق الأنصار إلى الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين.(4/126)
فلله در هذه الأنفس ما أعزها وما أكرمها وما أشرفها.
وهؤلاء الأنصار نفوسهم عزيزة كريمة، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون من مقام مفصل، ومن مال يختصون به، كهذا الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، وخصهم به دون الأنصار.
بل يؤثرون المهاجرين على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا، وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد له البشرية نظيراً، وكانوا كذلك في كل مرة، وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر.
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم قسمة ما أفاء الله عليه من أموال بني النضير قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة»؟.
وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم من الغنيمة شيء؟
فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها.
فلله در هذه النفوس الأبية، وتلك القلوب الزاكية النقية.
وشح النفوس هو المعوق عن كل خير، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، وقد حمى الله الأنصار منه.
ولا يمكن أن يفعل الخير شحيح يهم أن يأخذ دائماً، ولا يهم مرة أن يعطى. على يد هؤلاء المهاجرين. وهؤلاء الأنصار.. قام شكل الدين.. وقامت روح الدين.. وقامت أخلاق الدين.. وكمل بناء الدين على أجمل صورة.
وانتقلت أعمال الدين من جسد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء، وكانوا نواة الإسلام الأولى، فحملوا الأمانة، وقاموا بها خير قيام، فرضي الله عنهم ورضوا عنه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
فأيُّ رجال أولئك؟.. ماذا تركوا من الفضائل والأخلاق ما تجملوا به؟.. وماذا تركوا من البلاد والأمصار ما فتحوها بلا إله إلا الله؟
أما الصورة الثالثة الجميلة الرضية الواعية فهي تمثل أول مجموعة انتقلت إليهم صفاتهم، وهم التابعون: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الحشر: 10].(4/127)
فهذه الآية تبرز أهم ملامح التابعين، كما تبرز أهم خصائص الأمة الإسلامية على الإطلاق، في جميع الأوطان والأزمان.
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار، سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى الله في طلب المغفرة لنفسها، ولسلفها الذين سبقوها بالإيمان، وفي طلب براءة القلب من الغل على المؤمنين على وجه الإطلاق، مع الشعور واليقين برأفة الله ورحمته.
هذه قافلة الإيمان تحمل جمال الظاهر.. وجمال الباطن.. وإنها لقافلة كريمة على الله وعلى الناس.
إنها تقف صفاً واحداً، وكتيبة واحدة، على مدار الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والأنساب واللغات، تحت راية الله ورسوله.
تقف بإيمانها مترابطة، متكافلة، متوادة، متعاونة صاعدة في طريقها إلى الله.
فهل عرفتَ بشراً أفضل من هذا الطراز؟
وهل رأيت صدقاً وجمالاً وحسناً بلغ كماله في أحسن من هؤلاء؟
فأي جزاء وثواب، وأي مغفرة وأجر، ينتظر هؤلاء عند ربهم؟
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات من المؤمنين، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة:
أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، وأدوا حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
انتقلت إليهم صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانوا القرن الأول الذين تلقوا أحكام الدين وسننه وآدابه وأخلاقه من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة.
وبذلوا من أجل ذلك كل شيء، فكانت أوقاتهم للدين.. وأفكارهم للدين، وأنفسهم للدين.. وأموالهم للدين.. وأعمالهم كلها قائمة على الدين.
أئمة في العبادة.. وأئمة في الدعوة.. وأئمة في التعليم.. وأئمة في التعاون على البر والتقوى.. والتواصي بالحق.. والتواصي بالصبر.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 74].(4/128)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا أدْرَكَ مُدَّ أحَدِهِمْ، وَلا نَصِيفَه» متفق عليه(1).
إن حرية الاختيار التي أعطاها الله سبحانه للإنسان عبر عنها في القرآن الكريم بكلمة الأمانة فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 72].
والأمانة معناها العام: أن يعطيك أحد شيئاً تحفظه عندك كأمانة بلا شهادة أحد، فإن كان هناك شهود، أو كُتب على ورقة، فهو دَيْن لا أمانة.
والأمانة التي حملها الإنسان، عرضها الله قبل ذلك على عدد من مخلوقاته العظام، السموات والأرض والجبال، لكن هذه المخلوقات جميعاً رفضت أن تحمل الأمانة، لأنها أحست أنها لن تستطيع أن تفي بها.
فالنِّعم التي أعطاها الله سبحانه لنا، لها حق أداء الشكر، وهذه المخلوقات كلها أحست بعجزها عن أداء حق الشكر لله عليها، ولذلك رفضت تحملها.
وجاء الإنسان وقَبِل حمل الأمانة، قَبِل أن يأخذ النِّعم، ويؤدي عنها حق الشكر، وحق العبادة لله، وأن يكون في ذلك مختاراً يفعل أو لا يفعل، وفرح الإنسان بأن لديه رصيداً من النعم التي سخرها الله له، يستطيع أن يسحب منها كما يشاء، دون أن يؤدي حق الله فيها، حق الشكر، وحق العبادة، وحق الطاعة.
ولقد كان الإنسان حين فرح بذلك ظلوماً لماذا؟
لأنه ظلم نفسه، فتحمل ما لا تقدر عليه هذه النفس الضعيفة، أمام مغريات الكون وشهواته.
ولأنه ظلم غيره، لأن البعد عن منهج الله سبحانه لا يتم إلا بظلم، فلو اتبعنا جميعاً الحق ما بعدنا عن منهج الله، ولا فسدت الأرض، فالحق هو ما يطالبنا الله به.
فإن اتبعناه فنحن لم نخن الأمانة، لأننا اتبعنا منهج الله في الأرض.
ولكن متى نخون الأمانة؟.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3673)، ومسلم برقم (2540) واللفظ له.(4/129)
عندما نظلم، عندما نأخذ حق الغير، عندما نعتدي على حرمة غيرنا وماله وعرضه.
حينئذ نكون قد ظلمنا أنفسنا، وظلمنا الناس، وخنَّا الأمانة.
والإنسان عندما فعل ذلك كان جهولاً لماذا؟
لأنه ظن أنه سيكسب شيئاً، فقاد نفسه إلى الهلاك دون أن يكسب أي شيء.
فالإنسان حمل الأمانة.. أمانة الشكر على عطاء الله.. الشكر على نعمة الحياة.. الشكر على رزق الله.. الشكر على أن الله سبحانه يبارك له ويعطيه ويرزقه.. وينجيه من كل سوء.. ويدفع عنه كل شر..
حمل الأمانة التي تلزمه بالحق بين الناس.. وبالعدل في حكمه.. وباحترام حقوق الآخرين مهما كانوا ضعفاء.
لقد حمل الإنسان الأمانة، ونزل إلى الأرض، فماذا فعل؟
لقد استطاع الشيطان أن يصل إلى قلبه، وصوَّر له أنه يستطيع أن يملك، وأن يملك بلا حساب، ليشغله بذلك عن وظيفته، ويفسد عليه دينه.
بينما في الحقيقة أن ملك الإنسان ينحصر فيما ينفقه لحاجاته.
فأحياناً نجد إنساناً غنياً تقدم به العمر، ومع ذلك فهو يحاسب على كل قرش أنفقه، ويحاول أن يوفر بقدر ما يستطيع، وقد تعجب من ذلك، كيف تكون هذه الأموال كلها عند هذا الرجل، ثم يقتر على نفسه؟
إنها مسألة لا تتمشى مع حكم العقل، ولا مع منطق التفكير، ولكنها تتمشى مع قدر الله العليم الخبير.
فالمال رغم أن الرجل قد كسبه، ليس من رزقه، ولو كان رزقه لتمتع به، ولكنه مجرد حارس عليه، ليسلمه إلى صاحبه، وهو في دوره هذا بالحراسة على هذا المال. إنما يأخذ منه رزقه فقط، ويبقى أميناً حافظاً على الجزء الباقي، حتى يوصله إلى أصحابه فيأخذوه، وربما أنفقوه فيما ينفع، أو فيما لا ينفع.
وقد حمل الله الإنسان أمانة الطاعة لله، والشكر لله، وجعل هذه الأمانة بينه وبين الله سبحانه، لا يطلع عليها أحد.
فالأمانة تكون بين العبد وربه، ولا يعرف ثالث عنها شيئاً، كذلك العبادة، وكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، يكون بين الله والعبد.
وأفعال الإنسان الاختيارية قسمان:(4/130)
قسم لا ثواب ولا عقاب عليه، كأن تحب أن تأكل صنفاً معيناً من الطعام أحله الله لك، أو تختار نوعاً من الفاكهة، أو تختار لون ثوبك، فهذه أنت حر فيها، وليس عليها ثواب ولا عقاب.
والقسم الآخر: الأعمال الاختيارية التي أنزل الله فيها أحكاماً بالفعل أو الترك، وهذا هو الاختبار الإيماني في الحياة، اختبار لحرية الإنسان في الفعل.
وقد يريد الإنسان أن يعمل عملاً، ولكنه لا يملك القدرة لإتمامه، فقد لا يتم العمل، لأن الله وحده هو الذي يريد، ويفعل ما يريد، ويقول للشيء كن فيكون.
وقد وضع الله عزَّ وجلَّ الإرادة الحرة للإنسان، في مكان لا يستطيع أحد في العالم أن يسيطر عليها.
إنها في القلب، وما هو داخل القلب لا يستطيع أحد، ولا تستطيع الدنيا كلها أن تصل إليه.
فأنت قد تكره إنساناً، ولكن ربما تحت التعذيب أو التهديد أو الخوف تتظاهر بالحب له، ولكن الحقيقة أنك تكرهه من داخل قلبك.
فالحساب هنا على الإرادة الحرة، التي لا يستطيع بشر ولا قوة في الأرض أن تجبرك على شيء فيها، ولكنها متروكة لك وحدك.
وهي لا تتغير ولا تتبدل، سواء كنت غنياً أو فقيراً، قوياً أو ضعيفاً، هذه المنطقة بالذات هي التي يتم على أساسها الحساب، تركها الله سبحانه وتعالى حرة لك، وجعلها مركز الأسرار والنيات والأمانات الخاصة بك.
هذه هي منطقة الأمانة التي حملتها.
ولكن لماذا هي أمانة؟
لأن ما فيها بينك وبين الله وحده؟.
فلا يستطيع أحد أن يعرف عنه شيئاً، فما في القلب سر بين العبد وربه، وهو الأمانة التي حملها الإنسان في الأرض، فإن فعل إثماً بإرادته الحرة بلا إكراه استحق العقاب.
وإن فعل خيراً، وقلبه مصدق لعمله، بلا محاولة للتظاهر أو التفاخر أثيب.
فالله سبحانه حينما أعطانا الاختيار.. حدد منطقة الاختيار في أعمالنا، وأخرج منها عدداًَ من الأعمال التي ليس فيها تشريع، وترك لنا حرية الاختيار بلا ثواب ولا عقاب، ثم جاء لمنطقة الأمانة، وجعل الثواب والعقاب فيها.(4/131)
ولكن لماذا جعل الله منطقة الثواب والعقاب هي القلب؟.
والجواب: لأنه الجزء الوحيد الذي لا يسيطر على مشاعره أحد إلا أنت، فما في قلبك ملكك وحدك، بإرادتك وحدك، وليس لأحد سيطرة عليه.
وبذلك يكون الحساب عدلاً، لا يدخل فيه ظلم أبداً.
إن الكون كله قد أسلم لله، ورفض أن يكون مختاراً في أن يؤمن أو لا يؤمن، أسلم طوعاً، واختار الإيمان بالله دون أن تكون له إرادة في المعصية.
أما الإنسان فقد قبل حمل الأمانة، وأن يؤمن بالله باختياره عن حب، فأعطاه الله حرية الاختيار أن يؤمن أو لا يؤمن.
والله عزَّ وجلَّ حين أعطانا حرية الاختيار، وأعطانا وسخَّر لنا كلَّ ما في الكون، كان هذا من أجل الإنسان، ثم أعطانا الأمانة، وهي العقل وحرية الاختيار، وأشهدنا على نفسه بأنه الرب الخالق المالك لكل شيء، وبيده كل شيء، وله كل شيء.
خلق الدنيا من أجلنا، وجعلها مكان مؤقتاً للعمل.
وخلق الآخرة من أجلنا، وجعلها مكاناً دائماً للثواب والعقاب.
وأنزل إلينا المنهج الذي يسعدنا في الدنيا والآخرة.
وحملنا هذه الأمانة، فمن أدى الأمانة أسعده الله في الدنيا والآخرة.
وبعض الناس حمل الأمانة وراح يضيعها فيما لا ينفع، وفيما نهى الله عنه، معتقداً أن الدنيا دائمة، وأن الحياة بلا نهاية، كافراً بلقاء الله.
إن كل الذين أسلموا في عهد النبوة وبعده، أتوا باختيارهم طائعين، ولا يقبل قول من قال إن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه، ذلك لأن السيف في الإسلام وضع لحماية حرية الإنسان في أن يؤمن أو لا يؤمن، ولمنع الإكراه. فقد كانت هناك قوى متسلطة على الناس بالسيف تكرههم على عبادة غير الله، وتمنعهم من عبادة الله، وترغمهم على عقائد زائفة، بل منهم من أكره الناس على عبادته.
فكان الحاكم ينصب نفسه إلهاً، فمن عبده فله الأمان، ومن لم يعبده فدمه مباح.(4/132)
وهنا قال الإسلام: دعوا الناس أحراراً في اختيار ما يعتقدون، نعرض عليهم الإسلام، واعرضوا أنتم عليهم ما أردتم، وبعد ذلك: (? ? ? چ چ چچ) [الكهف: 29].
إن سماحة الإسلام، وعظمة الإسلام، وجمال الإسلام، ورحمة الإسلام، وعدل الإسلام، هي الدافع لأن يعتنقه ملايين البشر، لأنهم رأوا فيه دين الحق والعدل والإحسان.
وكل من علم به، وأعرض عنه فهو مطرود محروم، ليس أهلاً لهذه النعمة التي أكرم الله بها عباده، فهو شاذ عن سائر المخلوقات بمعصيته للواحد القهار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 83].
إن الإسلام هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، سبقته صور منه تناسب أطواراً معينة من حياة البشرية.
وسبقته تجارب في حياة الرسل والأمم السابقة، تمهد كلها لهذه الصورة الكاملة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات، وأن يظهره على الدين كله في الأرض.
فقوم موسى الذين أرسله الله إليهم آذوه، وانحرفوا عن رسالته، فضلُّوا، ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 5].
وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله، فلم يعودوا أمناء عليه، فقد زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغاً، وأزاغ قلوبهم، فلم تعد صالحة للهدى.. وكيف يهدون وهم غير مهتدين؟.
وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبداً، والله لا يهدي القوم الفاسقين.
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لحمل أمانة الدين والدعوة إليه، وهم على هذا الزيغ والضلال.(4/133)
ثم تتابعت الرسل من بني إسرائيل، ثم أرسل الله عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ليقول لبني إسرائيل إنه جاء امتداداً لرسالة موسى صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وممهداً للرسالة الأخيرة، ومبشراً برسولها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 6].
فلم يقل لهم نبي الله عيسى أنه الله، ولا أنه ابن الله، ولا أنه ثالث ثلاثة، بل قال إنه رسول الله، إنه عبد الله، جاء بدين الله الذي هو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها.
فلما اختلف بنو إسرائيل في عيسى صلى الله عليه وسلم وآذوه، وانحرفوا عن عقيدة التوحيد، وضلوا عن شريعتهم، وأضلوا غيرهم، لم يعودوا صالحين لحمل الرسالة الإلهية للناس.
فلما ضلَّ الناس، وانتشر الظلم والفساد في الأرض، ونحيت شريعة الله من حياة الناس، فلم يعمل بها، وكان مقرراً في علم الله، أن يستقر دين الله في الأرض كاملاً شاملاً في صورته الأخيرة على يد رسوله الأخير.
فأرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كافة إلى يوم القيامة: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [الصف: 9].
وقد وقفت بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه بشتى الطرق والوسائل، وأعلنوها حرباً شعواء، لم تضع أوزارها حتى اليوم: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الصف: 8].
ولقد ظهرت إرادة الله، فظهر هذا الدين على الدين كله.
ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وصفائه، وشعائره وشرائعه، وأخلاقه وآدابه.
فأما الديانات الوثنية فهي هزيلة ليست بشيء؛ لأنها من أوهام البشر.
وأما الديانات الكتابية كاليهودية والنصرانية ونحوها، فهذا الدين الإسلامي خاتمها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها.(4/134)
ولقد حرفت تلك الديانات.. وبدلت.. وشوهت.. ومزقت.. وزيد فيها ما ليس منها.. ونقصت من أطرافها.. وكتم بعضها.. وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة.. لا في العقيدة.. ولا في الشعائر.. ولا في الشرائع.
وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبداً، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود، ولجيل محدود.
أما من ناحية واقع الحياة، فقد صدق الله وعده، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله.
فقد دانت له معظم الرقعة المعمورة من الأرض في مدى قرن من الزمان.. ثم زحف سلمياً إلى قلب آسيا وأفريقيا.
وما يزال يمتد بنفسه في كل بيت، وفي كل قرية، وفي كل مدينة، وفي كل دولة، على الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، تحقيقاً لوعد الله، بأن يظهر دينه على الدين كله.
فهل نؤدي الأمانة التي اختارنا الله لها، بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى، في العمل بالدين، وإبلاغه للبشرية كافة؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفتح: 28]
إن هذا ليسكب في قلوب المؤمنين الطمأنينة، وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإن هم إلا أداة.
وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد الله، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر، حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله.
إن الله تبارك وتعالى ينادي المؤمنين، ويهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة، تجارة الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 10، 11].
وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة، ثم يكسب مغفرة ذنوبه كلها، وإسقاط ديونه كلها، والفوز بالجنات والمساكن والقصور، ورضوان من الله أكبر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 12].(4/135)
فهل انتهى حساب هذه التجارة الرابحة عند هذا؟
إنه لربح ضخم هائل أن يعطى المؤمن الدنيا، ويأخذ الآخرة.
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة من أول يوم حين بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في مكة.
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: «تُبَايِعُونِي عَلَى أنْ لا تُشْرِكُوا بِا? شَيْئًا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأجْرُهُ عَلَى ا?، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأمْرُهُ إِلَى ا?، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» متفق عليه(1).
ولكن فضل الله عظيم، وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض، فيبشرها بما قدره في علمه المكنون، من إظهار هذا الدين في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 13].
وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح في الدنيا والآخرة، والذي لا يملكه إلا الله، ولا يعطيه إلا الله.
الله الغني الذي لا تنفد خزائنه، والذي لا ممسك لرحمته.
فمن الذي يدله الله على هذه التجارة، ثم يتقاعس عنها أو يحيد؟.
أما له في جنة الخلد من رغبة؟.. أما له في العزِّ من نصيب؟.
ألا من مشمر إلى الجنة؟.. ألا من مسارع إلى الخيرات؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 14].
وهل هناك أرفع من هذا المكان؟.
وهل هناك أشرف من هذا العمل؟.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7199)، ومسلم برقم (1709) واللفظ له.(4/136)
لقد قام الحواريون مع عيسى صلى الله عليه وسلم بنصرة دين الله، فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة، ثم أيد الله المؤمنين بالله، ونصرهم على أعدائهم، وأظهرهم عليهم.
لقد انتدبوا لهذا الأمر، ونالوا هذا التكريم من ربهم، لقيامهم بنصرة دين الله مع نبيهم صلى الله عليه وسلم .
فما أجدر أتباع سيد الرسل أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم، كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت.
إن أتباع سيد الرسل وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم هم الأمناء على منهج الله في الأرض، وهم ورثة العقيدة والرسالة الإلهية بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهم المختارون من بين الأمم لهذه المهمة الكبرى، والأمانة العظمى.
وقد منَّ الله على العرب الأميين، فاختارهم ليجعلهم أهل الكتاب المبين، ويرسل فيهم رسولاً منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم، ويخرجهم من أميتهم وجاهليتهم إلى نور العلم والإيمان، ويميزهم على العالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [الجمعة: 2، 3].
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من جهل وضلال، فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة، الأمناء عليها، بما علم سبحانه في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح، ومن طاقة تنهض بهذه العقيدة الجديدة، ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة، ونشرها صافية في العالم، وإقامة حياة الناس في الأرض على أساسها.
فاستلمته أول طليعة من هذه الأمة.. وتلقته بالقبول والسمع والطاعة أول مجموعة من هذه الأمة، هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. وقد فرغت منه ونبذته نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر.. فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات.. ومن ثم لم تستقم أبداً بعد ذلك، لا في حياة موسى ولا من بعده.(4/137)
ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وحرفوا في دينهم، وبدلوا وغيروا، وظلموا وكذبوا، وصدوا عن سبيل الله، وقتلوا الأنبياء: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [البقرة: 79].
وقد منَّ الله على بني إسرائيل، فأرسل إليهم كليمه موسى ^، وآتاه التوراة، ثم تابع من بعده الرسل الذين يحكمون بالتوراة من بني إسرائيل، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر.
ثم مع هذه النعم التي لا يعرف قدرها إلا الله، كلما جاءهم رسول بما لا تهواه أنفسهم استكبروا عن الإيمان به، ففريقاً من الأنبياء كذبوهم، وفريقاً قتلوهم: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 87].
وقد خان اليهود الأمانة ونقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فطبع الله على قلوبهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النساء: 155].
فلما فعلوا هذه الكبائر والجرائم والقبائح والفواحش، كتب الله عليهم لعنته وغضبه، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة، فلم يعودوا صالحين للاقتداء، ولا مؤهلين لحمل الأمانة، فلا يستحقون إلا الذلة واللعنة والغضب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 61].
فلما صار اليهود أشر خلق الله كفراً وظلماً وفساداً وعناداً أذلهم الله ولعنهم: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [المائدة: 60].
وقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فرقة، ويعزهم بعد ذلهم، وكانوا يستفتحون بذلك على العرب.
ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب الأميين غير اليهود، فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الكاملة للبشرية، بعدما ضلت وزاغت وكفرت بآيات الله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [البقرة: 89].(4/138)
وإن اختيار الله لفرد أو جماعة أو أمة، لحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله، وموضع تلقي فيضه، إن ذلك لفضل عظيم لا يعدله فضل.
فضل عظيم يربي على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته.
والله عزَّ وجلَّ يذكر المؤمنين باختيارهم لحمل هذه الأمانة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
فاليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله، فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل، فهم كما وصفهم الله بقوله: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الجمعة: 5].
فبنو إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة على أيدي الرسل، ثم لم يحملوها ولم يعملوا بها، ولم يعلِّموها.
فهم لم يقدروا هذه الأمانة، ولم يفقهوا حقيقتها، ولم يعملوا بها، ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها، فهو ليس صاحبها، وليس شريكاً في الغاية منها.
والذين حملوا أمانة العقيدة من هذه الأمة ثم لم يحملوها، فهؤلاء كأولئك اليهود، وأولئك كلهم كالحمار يحمل أسفاراً.
إن هذا الدين العظيم الذي أنزله الله أمانة، وأمر الدين والعقيدة جد خالص، حازم جازم، جد كله لا هزل فيه، ولا مجال فيه للهزل واللعب.
جد في الدنيا.. وجد في الآخرة.. وجد في ميزان الله وحسابه.. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك، قليلاً ولا كثيراً.
وأي تلفت عنه من أي أحد، أو إدخال فيه ما ليس منه، يستنزل غضب الله الصارم، وأخذه الحاسم، ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول، فالأمر عظيم أكبر من الرسول، وأكبر من البشر، إنه الحق الذي لا تستقيم الحياة إلا به، الحق من رب العالمين: (? ? ژژ ڑ ڑ کک ک ک گ گگ گ ? ? ? ? ??) [الحاقة: 44-47].
فمتى يشعر الإنسان بعظمة القاهر الجبار؟.
ومتى يحس بضآلة نفسه أمام قدرة الله التي لا يقف لها شيء؟.
ومتى يقدر عظمة الأمانة التي تحملها؟.(4/139)
إن الله قادر على أخذه أخذاً شديداً في الدنيا والآخرة، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا المنهج الذي يريده الله للبشرية، ممثلاً فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة.
فهذا المنهج وهذا الحق لا يجيء ليهمل ولا ليبدل، إنما يجيء ليطاع ويحترم، ويقابل بالاستجابة والتقوى، وإلا فهو الأخذ والقصم، وهناك الهول والروع فقد: (? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ??) [الحاقة: 4-10].
فثمود كذبوا رسولهم، فأخذهم الله بالصيحة الطاغية.
وعاد كذبوا رسولهم، فأخذهم بريح صرصر عاتية.
وفرعون ومن قبله من المكذبين أخذهم الله بالنقمة الرابية الغامرة الطامرة.
إنها تذكرة تلمس القلوب الخامدة، والآذان البليدة، التي تكذب بعد كل ما سبق من النذر، وكل ما سبق من المصائر، وكل ما سبق من الآيات، وكل ما سبق من العظات، وكل ما سبق من آلاء الله ونعمه على هؤلاء الغافلين.
وكل هذه المشاهد المروعة، الهائلة القاصمة الحاسمة، تبدو صغيرة ضئيلة إلى جانب الهول والموقف الأكبر، هول الحاقة والقارعة والصاخة والواقعة التي يكذب بها المجرمون، والتي ستقع بلا شك:
(? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? چچ چ چ ??) [الحاقة: 13-15].
فإذا نفخ إسرافيل في الصور، قامت الخلائق لربها، ويتبع ذلك حركة هائلة للأرض والجبال، فترفع وتدك دكة واحدة، لتصبح أرضا مستوية.
إنه مشهد عظيم مروع، يشعر معه الإنسان بضآلته، وضآلة عالمه، إلى جانب هذه القدرة العظيمة، ولا يقتصر الهول على حمل الأرض والجبال ودكها دكة واحدة، فالسماء في هذا اليوم الهائل ليست بناجية: (? ? ? ? ??) [الحاقة: 16].
ويحشر الناس إلى ربهم، فيحاسب من قام بأداء الأمانة، ومن خان الأمانة فرداً فرداً، ونية وقولاً وعملاً، ويجازي كل إنسان بما عمل من خير وشر: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [الكهف: 47].(4/140)
إن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة كان يَعِدُ المؤمنين به، المبايعين له، وهم يبذلون الأموال والأنفس، ويضحون بالأوقات والشهوات، يعدهم بالجنة على الإيمان والعمل الصالح.
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة، واستقبال المكاره، هذه القلوب يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد، بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء، وتحتمل كل شيء، إلى أي شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله، والفوز بالجنة.
قلوب مؤمنة مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء، وحرمان وعذاب، وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة، وغلبة الإسلام، وظهور المسلمين.
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي ذاقت حلاوة الإيمان.. وعرفت ما يجب عليها.. وعلمت أنه ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل.. وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء.. وموعداً كذلك للفصل بين أهل الحق والباطل.. وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت.. أتاها النصر في الأرض.. وائتمنها على الحق لا لنفسها فقط.. ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي.. وهي أهل لأداء الأمانة.. تعمل بالدين.. وتحكم بالدين في حياتها.. وتدعو البشرية إلى الدين.
فقد كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه.
وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه، والفوز بالجنة في الآخرة:
(ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
وبعد أن استقرت هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين، جاء نصر الله في المدينة بعد أن أصبح المؤمن لا يتطلع إليه، وإنما يتطلع إلى رضوان الله والجنة.(4/141)
وجاء نصر الله ذاته، لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج ولهذا الدين واقعية في الحياة الإنسانية، تقرره في صورة عملية محددة، وتبرزه في منتهى الجمال والكمال، ويكون قدوة للبشرية كلها إلى يوم القيامة:
في الإيمان.. وفي العبادات.. وفي المعاملات.. وفي المعاشرات.. وفي الأخلاق.
تراها الأجيال، وتقتدي بها الأمم في كل زمان ومكان.
فلم يكن النصر للمؤمنين جزاء على التعب والنصب والتضحية، وإنما كان قدراً من قدر الله له حكمته ومنافعه، به مكن الله المؤمنين أن يقيموا حياتهم وفق مراد الله، كما يحب الله، أما جزاؤهم فهو ينتظرهم في الآخرة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
إن الله عزَّ وجلَّ يريد من المؤمنين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها في جميع الأحوال:
أمانة العبادات.. أمانة المعاملات.. أمانة الأخلاق.. أمانة العلم.. أمانة الاستقامة.. أمانة الدعوة.. أمانة الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام.
فيقفون في وجه الشر والفساد والطغيان، ولا يخافون لومة لائم:
سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين كفرعون.. أو الأغنياء المتسلطين بالمال.. أو الأشرار المتسلطين بالأذى.. أو العامة المتسلطين بالهوى..
وكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، فتعم جميع وظائف الدين.
والأمانة تشتمل على ثلاثة أمور:
الأول: اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه، وعدم التفريط به أو التهاون بشأنه.
الثاني: عفة الأمين عما ليس له به حق.
الثالث: تأدية الأمين ما يجب عليه من حق لغيره.
وأداء الأمانة من صفات المؤمنين كما وصفهم الله بقوله: (? ? ? ? ??) [المؤمنون: 8].
وقد أمرنا الله عز وجل بأداء الأمانات إلى أهلها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 58].
والأمانة لفظ عام يشمل كل ما استودعك الله أمره، وأمرك بحفظه.(4/142)
فيدخل فيها حفظ القلوب والجوارح عن كل ما لا يرضي الله.. وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق العباد.
وتعم الأمانات كذلك جميع الواجبات على الإنسان.
سواء كانت واجبة لحق الله كالعبادات من صلاة وصيام ونحوهما، أو كانت واجبة لسبب من الأسباب كالكفارات والنذور ونحوهما من الحقوق الواجبة لله.
أو كانت واجبة لحقوق العباد بعضهم على بعض، بسبب من الأسباب كالودائع والديون ونحوهما.
ويدخل في ذلك الولايات كالإمامة والإمارة والوزارة والرئاسة والوظائف، وغير ذلك مما يؤتمن عليه الإنسان.
فكل ذلك داخل في الأمانة التي أمرنا الله بأدائها.
ويدخل في الأمانة التي يجب حفظها حفظ الجوارح عن المحرمات:
فاللسان أمانة.. والأذن أمانة.. والعين أمانة.. والقلب أمانة.. والبطن أمانة.. والفرج أمانة.. واليد أمانة.. والوقت أمانة.. والمال أمانة.. والأهل أمانة.
فاللسان أمانة يجب على المسلم استعماله في تلاوة القرآن، وقراءة الكتب النافعة، وتعليم أحكام الدين، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوعظ والإرشاد، والإصلاح بين الناس، وما أوجبه الله من الأذكار.
يباح استعماله في حاجات المسلم كالبيع والشراء، والحديث النافع من الأهل والضيف.
ويحرم استعماله في الغيبة والنميمة، والسب والشتم، والسخرية والاستهزاء، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك ونحوه فقد خان الأمانة، وقد حذر الله من ذلك بقوله: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 27].
والأذن أمانة يجب على المسلم أن يسمع بها ما ينفعه، وما أمره الله به، كالقرآن والحديث، وما فيه صلاح دينه ودنياه.
ولا يجوز أن يسمع بها ما حرمه الله من السوء والفحشاء، واللغو والسب، والغيبة والنميمة، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة.
والعين أمانة يجب على المسلم أن يبصر بها ما أباحه الله له، وما فيه نفعه في العاجل والآجل، كالنظر في ملكوت السموات والأرض، ومصالح معاشه.(4/143)
ولا يجوز أن ينظر بها إلى ما حرم الله من العورات والنساء الأجنبيات، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة.
والقلب أمانة، يجب عليه أن يملأه بالتوحيد والإيمان، والخوف والخشية من الله، والمحبة له، وتعظيمه، والذل له، والصدق والإخلاص، والخشوع والتقوى.
ولا يجوز أن يملأه الإنسان بالشرك والنفاق، والكبر والحسد، ونحو ذلك، فإن فعل فقد خان الأمانة.
والبطن أمانة، فيجب أن لا يدخل فيه إلا ما أحله الله من الطيبات بلا إسراف.
ومن أدخل بطنه شيئاً من المحرمات من مأكول ومشروب فقد خان الأمانة.
والفرج أمانة فيجب حفظه فيما أحل الله من الزواج والتسري، ومن تجاوز ذلك إلى الزنا والفواحش فقد خان الأمانة.
واليد أمانة فيجب استعمالها في طاعة الله، وكفها عما حرم الله، فمن استعمل يده في السرقة أو الغش أو تناول بها المحرمات أو قتل بها النفوس المعصومة فقد خان الأمانة.
والرجل أمانة، فيجب استعمالها في طاعة الله، كالمشي إلى الصلوات والجهاد، ومجالس العلم والذكر، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام ونحو ذلك.
ومن استعمل قدميه فيما حرم الله كالمشي للإفساد في الأرض، ومواطن الريب، وأماكن اللهو واللعب والخنا، فقد خان الأمانة.
والعقل أمانة، وأداء الأمانة فيه استعماله في طاعة الله ورسوله، بالتفكير في العلوم النافعة، وما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ونحو ذلك.
ومن استعمل عقله في المكر والكيد، والخديعة والظلم، والكذب والتزوير، والحيلة الباطلة، والإضرار بالمسلمين فقد خان أمانة العقل.
والعلم أمانة، وأداء الأمانة فيه العمل به، ودعوة الناس إليه، وتعليمهم إياه، والصبر على الأذى الذي يحصل بسببه.
ومن لم يعمل بعلمه، ولم يدع الناس إليه، ولم يصبر على ذلك، فقد خان الأمانة.(4/144)
والنفس أمانة، فيجب حملها على طاعة الله ورسوله، والعمل بالدين، والدعوة إليه، ومن أطلق لنفسه العنان، وتركها ترتع في اللهو والشهوات فقد خان الأمانة.
والوقت أمانة، فيجب حفظه بالعبادة والتعليم والدعوة والأعمال الصالحة، وطلب اللازم من المعاش.
ومن أضاع أوقاته في الشهوات والقيل والقال، والأعمال السيئة فقد خان الأمانة.
والمال أمانة فيجب كسبه من الحلال، وإنفاقه فيما يرضي الله، ونفع النفس والأهل والمسلمين به، ومواساة المحتاجين منه.
ومن اكتسبه من المحرمات، وأنفقه في المحرمات فقد خان الأمانة.
والأهل والأولاد أمانة، فيجب على المسلم رعاية هذه الأمانة، بشكر المنعم بها، وتربية الأهل والأولاد على الحق والدين، والسنن وحسن الأخلاق، بتعليمهم القرآن والسنة، والفقه الشرعي، وترغيبهم في معالي الأمور، وحفظهم من كل ما يضرهم، وأداء حقوقهم.
ومن أرخى لزوجته وأولاده العنان، وترك لهم الحبل على الغارب، يفعلون ما يشاؤون، ويأكلون ما يشاؤون، ويسمعون ما يشاؤون، وينظرون إلى ما يشاؤون، فقد خان الأمانة، وأضاع من تحت يده، وغدر بأقرب الناس إليه.
ومن أعظم الأمانات التي يجب رعايتها، ما ائتمن الله عليه بعض عباده، من ولاية عامة أو خاصة.
فولي أمر المسلمين يجب عليه أداء الأمانة.. بالنصح لرعيته.. وإيصال حقوقهم إليهم.. والحكم بينهم بما أنزل الله.. ونشر العدل والأمن.. والضرب على أيدي العابثين.. والمفسدين في الأرض.. ونصر المظلوم.. وقمع الظالم.. والإحسان إلى الناس.. وتعليمهم الدين.. ونشر الدين.. والجهاد في سبيل الله.
ومن تولى أمور المسلمين فغشهم.. ومنع حقوقهم.. وحكم بينهم بالظلم والجور.. ونشر الفساد.. وقمع الدعاة.. وأسكت العلماء.. وقعد عن نصر الدين ونشره، فقد خان الأمانة.(4/145)
ويجب على الرعية طاعة إمام المسلمين، وأداء الأمانة له بالسمع والطاعة.. وعدم شق عصا الطاعة.. وعدم الخروج عليه.. ولزوم النصح له.. والتعاون معه على البر والتقوى.. والدعاء له بالهداية والصلاح والنصر.
وتجب طاعة الإمام ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
ومن غش الإمام، وشق عصا الطاعة، وخرج عليه ظلماً وعدواناً، فقد خان الأمانة.
والقاضي والأمير والوزير والموظف يجب عليه أن يؤدي الأمانة بالعدل بين الناس والإحسان إلى الخلق، والنصح لهم، وقضاء حوائجهم.
ومن تعمد ظلم الناس وغشهم وأكل أموالهم فقد خان الأمانة.
ألا ما أعظم الأمانة.. وما أشد حملها.. وما أثقل أداءها.. وإنه ليسير على من عرف ربه.. وعرف جزيل إنعامه.. وعرف ثوابها.. وعرف عقوبة الخيانة.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 58].
وقال الله تعالى: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 27].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» أخرجه مسلم(1).
والأمانة من أبرز أخلاق الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنوح وهود وصالح وغيرهم، كل رسول من هؤلاء قال لقومه: (? ? ? ?? ? ? ??) [الشعراء: 107، 108].
وجبريل صلى الله عليه وسلم أمين الوحي كما وصفه الله بذلك بقوله: (گ گ گ ?? ? ? ? ?? ? ں ں ? ??) [الشعراء: 192-194].
8- حكمة إهباط آدم إلى الأرض
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [البقرة: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [البقرة: 38، 39].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2582).(4/146)
الله عزَّ وجلَّ خلق آدم من الأرض، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 35].
ولكن الشيطان أغراهما بالأكل من الشجرة فأكلا منها.. وعصيا ربهما: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 36].
فأهبط الله آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض، وجعل لهم فيها مسكناً وقراراً ومتاعاً إلى حين انقضاء آجالهم، ثم ينتقلون إلى الدار التي خلقوا لها، وخلقت لهم.
فخلق الله الثقلين: الجن والإنس، وأسكنهم في الأرض، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فمن آمن بالله فله الجنة، ومن عصاه فله النار.
وقد أخرج الله آدم أبا البشر من الجنة، وأهبطه إلى الأرض لحكم عظيمة.. تعجز العقول عن معرفتها، وتعجز الألسن عن وصفها، وهذه إشارة إلى بعضها.
فقد أراد الله تبارك وتعالى أن يذيق آدم وذريته من نصب الدنيا وهمومها، وغمومها وآلامها، ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم الجنة في الدار الآخرة، إذ لو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.
وأراد سبحانه ابتلاءهم وأمرهم ونهيهم، فأهبطهم إلى الأرض، وعوضهم بذلك أفضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الأمر والنهي.
وأراد عزَّ وجلَّ أن يتخذ من بني آدم رسلاً وأنبياء، وأولياء وشهداء، يحبهم ويحبونه، فخلى بينهم وبين أعدائه وامتحنهم بهم في هذه الدار.
فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابه، نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك أصلاً، ولم يكن ينال هذا إلا على الوجه الذي قدره وقضاه من إهباطه إلى الأرض.
والله سبحانه له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه الغفور الرحيم، العفو الحليم، القاهر القادر، الكريم الرزاق، التواب الخلاق.
وهو الذي يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويرزق ويشفي.
ولا بدَّ من ظهور أثر هذه الأسماء وغيرها، فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته داراً يظهر عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلا.(4/147)
فيغفر لمن يشاء.. ويعذب من يشاء.. ويرحم من يشاء.. ويعز من يشاء.. ويذل من يشاء.. ويعطي من يشاء.. ويمنع من يشاء، إلى غير ذلك..
وكذلك الله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، والملك الذي هو الذي يأمر وينهى، ويعز ويذل، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب.
فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته داراً تجري عليهم فيها أوامر الملك، ثم ينقلهم إلى دار تتم عليهم فيها أحكام الملك.
وأيضا فإنه سبحانه أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب، فلو خلقوا في دار النعيم، لم ينالوا درجة الإيمان بالغيب، واللذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه.
والله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، والأرض فيها الطيب والخبيث، والكريم واللئيم، والسهل والحزن.
فعلم سبحانه أن في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره، فأنزله وذريته إلى دار استخرج فيها الطيب من الخبيث.
ثم ميزهم سبحانه بعد القدوم عليه بدارين:
فجعل الطيبين أهل جواره، ومساكنته في داره دار السلام.
وجعل الخبيثين في دار الخبث والخبثاء والأشقياء دار البوار.
وأراد سبحانه أن يظهر لعباده وخلقه وملائكته، ما جعله في الأرض من خواص خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه، ومن يتقرب إليه، ويبذل نفسه في مرضاته ومحبته، مع مجاهدة شهوته وهواه ابتغاء مرضاته، لا كمن يعبده من غير معارض له، ولا شهوة تعتريه، ولا عدو سلط عليه كالملائكة.
وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يظهر ما خفى على خلقه من شأن عدوه إبليس، ومحاربته له، وتكبره عن أمره، وسعيه في خلاف مرضاته.
وهذا وهذا كانا كامنين مستترين في أبي البشر آدم صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي الجن إبليس، فأنزلهم إلى دار أظهر فيها ما كان الله سبحانه منفرداً بعلمه، لا يعلمه سواه، وظهرت حكمته وتم أمره، وظهر للملائكة من علمه ما لم يكونوا يعلمون.(4/148)
وكذلك الله سبحانه لما كان يحب الصابرين، ويحب المحسنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الشاكرين، ويحب المتقين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً، وكانت محبته أعلى أنواع الكرامات.
اقتضت حكمته أن أسكن آدم وذريته داراً يأتون بها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته، فكان إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عليهم.
وأيضاً فإنه سبحانه أراد أن يتخذ من بني آدم ذرية يواليهم ويودهم، ويحبهم ويحبونه، فمحبته لهم هي غاية كمالهم وشرفهم.
ولا يتحقق لهم ذلك إلا بموافقة رضاه، واتباع أمره، واجتناب ما يكره.
فأنزلهم داراً أمرهم فيها ونهاهم، ليقوموا بامتثال أمره، واجتناب نهيه، فينالوا درجة محبتهم له، ومحبته لهم.
وأيضا فإنه سبحانه خلق خلقه أطواراً وأصنافاً، وفضَّل آدم وذريته على كثير من مخلوقاته، وجعل عبوديته أفضل درجاتهم، وجعلها لأنبيائه ورسله وأتباعهم.
فاقتضت حكمته سبحانه أن أسكن آدم وذريته داراً ينالون فيها هذه الدرجة العالية، بكمال طاعتهم له، وتقربهم إليه بمحابه، وترك مألوفاتهم من أجله، فكان ذلك من تمام نعمته عليهم، وإحسانه إليهم.
وكذلك الله سبحانه أراد أن يعرف عباده الذين أنعم عليهم تمام نعمته عليهم، ويعرفهم قدرها، ليكونوا أعظم محبة له، وأكثر شكراً له، بما أعطاهم من النعيم.
فأراهم سبحانه فعله بأعدائه، وما أعدلهم من العذاب، وأشهدهم تخليصهم من ذلك، وتخصيصهم بأعلى أنواع النعيم، ليزداد سرورهم، وتكمل غبطتهم، ويعظم فرحهم.
ولم يكن بدّ في ذلك من إنزالهم إلى الأرض وامتحانهم، وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلاً، وخذلان من شاء منهم حكمة منه وعدلاً، وهو الحكيم العليم.
وهو سبحانه خلق الخلق لعبادته، وكمال العبودية لا يحصل في دار النعيم والبقاء، إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء.
وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم، لا دار امتحان وابتلاء.(4/149)
وأيضاً فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والغضب، وداعي العقل والعلم، فخلق في البشر داعي العقل والشهوة ليتم مراده.
فاقتضت حكمته ورحمته أن أذاق أباهم وبيل مخالفته، وعرفه ما جنت عليه شهوته وهواه، ليكون أعظم حذراً فيها، وأشد هروباً.
فمن تمام نعمة الله على آدم صلى الله عليه وسلم وذريته، أن أراهم ما فعل العدو بهم وبأبيهم، ليستعدوا له ويحذروه، ويأخذوا أهبتهم منه.
فإن قيل: كان من الممكن ألا يسلط عليهم العدو؟
قيل: الله تبارك وتعالى خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مستلزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم به.
ولو شاء الله خلقهم كالملائكة الذين هم عقول بلا شهوات، فلم يكن لعدوهم طريق إليهم، وبنو آدم ركبوا على العقل والشهوة.
ولما كانت محبة الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال ولا سعادة له أصلا بدونها.
وكانت المحبة الصادقة إنما تتحقق بإيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفس، واحتمال أعظم المشاق في طاعته ومرضاته.
اقتضت حكمة العزيز الحكيم إخراجهم إلى هذه الدار المحفوفة بالشهوات ومحاب النفوس من مطعوم ومشروب، وملبوس ومنكوح، ومركوب ومسموع، ومرئي، والتي بإيثار محبوب الحق عليها، والإعراض عنها يتحقق حبهم له، وايثارهم إياه على غيره.
وأيضا فإنه سبحانه له الحمد المطلق الكامل، وظهور الأسباب التي يحمد عليها، من مقتضى كونه محموداً، وهي من لوازم حمده تعالى، وهي نوعان:
فضل.. وعدل.. وهو سبحانه المحمود على هذا.. وعلى هذا.
فلا بدَّ من ظهور أسباب العدل، واقتضائها لمسبباتها، ليترتب عليها كمال الحمد الذي هو أهله.
فكما أنه سبحانه محمود على إحسانه وبره، وفضله وثوابه، فهو محمود على عدله وانتقامه وعقابه.
إذ مصدر ذلك كله عن عزته وحكمته ورحمته.
فما وضع نعمته ونجاته لرسله ولأتباعهم إلا في محلها اللائق بها.
وما وضع نقمته وإهلاكه لأعدائه إلا في محلها اللائق بها.(4/150)
والله تبارك وتعالى لكمال حكمته فاوت بين عباده أعظم تفاوت وأبينه، فجعل فيهم الغني والفقير، والصحيح والسقيم، والمؤمن والكافر، وذلك ليشكره من ظهرت عليه نعمته وفضله، ويعرف أنه قد حبي بالإنعام، وخص دون غيره بالإكرام.
ولو تساووا في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة قدرها.
فاقتضت حكمته خلق الأسباب التي يكون شكر الشاكرين عندها أعظم وأكمل.
والله عزَّ وجلَّ أحب شيء إليه من عبده تذلله بين يديه، وخضوعه وافتقاره، وانكساره وتضرعه إليه، وهذا لا يتم إلا بأسبابه التي يتوقف عليها، وحصول هذه الأسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة ممتنع، وهو مستلزم للجمع بين الضدين.
وأيضاً الله عزَّ وجلَّ له الخلق والأمر، والأمر هو شرعه ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وليست الجنة دار تكليف، وإنما هي دار نعيم ولذة.
فاقتضت حكمة الله عزَّ وجلَّ استخراج آدم وذريته إلى دار تجري عليهم فيها أحكام دينه وأمره، ليظهر فيهم مقتضى الأمر ولوازمه.
والله سبحانه يحب من عباده أموراً يتوقف حصولها منهم على حصول الأسباب المقتضية لها، ولا تحصل إلا في دار الابتلاء والامتحان.
فإنه سبحانه يحب الصابرين، ويحب المحسنين، ويحب الشاكرين، ويحب التوابين، وحصول هذه المحبوبات بدون أسبابها ممتنع.
فاقتضت حكمته ومحبته لذلك، خلق الأسباب المفضية إليه، ليترتب عليه المسبب الذي هو محبوب له.
وأيضا فإن الله سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الأرض، فأراد سبحانه أن ينقلهم من هذا الاستخلاف إلى توريثه جنة الخلد.
وعلم سبحانه أنه لضعفه وقصور نظره قد يختار العاجل الفاني الخسيس على الآجل الباقي النفيس.
فالإنسان خلق عجولاً، وخلق من عجل، وعلم سبحانه ما في طبيعته من الضعف والخور.
فاقتضت حكمته أن أدخله الجنة، ليعرف النعيم الذي أعد له عياناً، فيكون إليه أشوق، وعليه أحرص، وله أشد طلباً.(4/151)
واقتضت حكمته أن أراها أباهم آدم، وأسكنه إياها، ثم قص على بنيه قصته، فصاروا كأنهم مشاهدون لها، حاضرون مع أبيهم، فاستجاب من خلق لها وخلقت له، وسارع إليها، فلم يثنه عنها حب العاجلة، بل يعد نفسه كأنه فيها، ثم سباه العدو، فهو دائم الحنين حتى يعود إليها.
فكان إسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الأسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتمام إنعامه عليهم.
والله عزَّ وجلَّ جعل النبوة والرسالة، والخلة والتكليم، والولاية والعبودية من أشرف مقامات خلقه، ونهايات كمالهم، فأنزلهم داراً أخرج منهم فيها الأنبياء، وبعث فيها الرسل، واتخذ من اتخذ منهم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، واتخذ منهم أولياء وشهداء وعبيداً، وخاصة يحبهم ويحبونه، وكان إنزالهم إلى الأرض من تمام الإنعام عليهم، والإحسان إليهم.
ومن تأمل آيات الله المشهودة والمسموعة ورأى آثارها علم تمام حكمته في إسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم.
فالله عزَّ وجلَّ إنما خلق الجنة لآدم وذريته، وجعل الملائكة فيها خدماً لهم، ولكن اقتضت حكمته أن خلق لهم داراً يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم، وأنهم لا ينالونها إلا بالزاد كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 18-20].
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الخامس ... 2
كتاب التوحيد ... 2
1- فقه التوحيد ... 2
2- خطر الجهل ... 33
3- خطر الكفر ... 52
4- خطر الشرك ... 70
5- خطر النفاق ... 95
6- فقه التوفيق والخذلان ... 105
7- فقه حمل الأمانة ... 116
8- حكمة إهباط آدم إلى الأرض ... 152(4/152)
موسوعة فقه القلوب (6)
الباب السادس
فقه القلوب
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السادس
فقه القلوب
1- خلق القلب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 78].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، والإنسان له ظاهر وباطن، وفي باطنه أكثر الأعضاء وأهمها كالقلب والكبد والمعدة.
ولفظ القلب يطلق على معنيين:
أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، يدخل فيه الدم، ثم يدفعه بواسطة العروق لتغذية البدن.
الثاني: لطيفة ربانية روحانية، لها بذلك القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان.
وهو المخاطب والمطالب، والمثاب والمعاقب، ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسماني.
أما الروح: فهو جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، ينتشر بواسطة العروق إلى سائر أجزاء البدن.
وجريانه في البدن، وفيضان أنوار الحياة والحس، والسمع والبصر والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت.
وسريان الروح، وحركته في باطن الإنسان، يشبه حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه.
أما النفس: فتطلق على ذات الإنسان، وهي اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته، وتطلق على المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان.
أما العقل: فهو ما يعقل الإنسان عما يشينه ويدنسه من الأقوال والأفعال وضده الجنون.
فيطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب.
ويطلق ويراد به تلك اللطيفة المدرك للعلوم فيكون هو القلب.
ولما خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان ابتلاه وامتحنه، بما يعرف به صدقه وكذبه، وطاعته ومعصيته وطيبه وخبثه.(5/1)
فمزج في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي:
الصفات السبعية.. والبهيمية.. والشيطانية.. والربانية..
وكل ذلك مجموع في قلبه.
فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع، من العداوة والبغضاء، والتهجم على الناس بالشتم والضرب والقتل.
وهو من حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم، من الشره والحرص والنكاح والشبق وغير ذلك.
وهو من حيث اختصاصه عن البهائم بالتمييز، مع مشاركته لها في الغضب والشهوة، حصلت فيه شيطانية، فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.
ومن حيث أنه في نفسه أمر رباني، فإنه يدعي لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء والاستعلاء في كل شيء، ويحب الاستبداد في الأمور كلها، والتفرد بالرياسة، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع.
ويدعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور.
والإحاطة بجميع الحقائق، والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك.
وكل إنسان فيه شوب من هذه الأوصاف الأربعة.
فمعرفة القلب، وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس طريق السالكين: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [النور: 40].
والقلب يغرق فيما يستولي عليه من محبوب أو مكروه أو مخوف.
فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه.. والخوف يحذره.
والرجاء يتعلق بالمحبوب.. والخوف يتعلق بالمكروه.
ولا يأتي بالحسنات والمحبوبات إلاّ الله، ولا يذهب بالسيئات والمكروهات إلاّ الله والله أعلم حيث يجعل رسالته: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [يونس: 107].
2- منزلة القلب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [ق: 37].(5/2)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى ا? فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(1).
الله تبارك وتعالى فضَّل الإنسان، وشرفه على كثير من خلقه، باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله، وفخره وسعادته وأنسه، وفي الآخرة عدته وذخره.
وإنما استعد للمعرفة بقلبه، لا بجارحة من جوارحه، فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو العالم بما عند الله، وإنما الجوارح أتباع له وخدم وآلات.
يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، واستخدام الإنسان للآلة.
فالقلب هو المقبول عند الله، إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله، إذا صار مستغرقاً بغير الله.
وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه.
وهو المطيع في الحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات والأخلاق أنواره وآثاره.
وبحسب ما فيه من النور والظلام، تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء بما فيه ينضح، والقلوب كالقدور تغلي بما فيها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).(5/3)
وصلاح العالم وفساده يكون بحسب حركة الإنسان في الحياة، إذ هو قلب العالم ولبه، وصلاح بدن الإنسان وفساده قائم على صلاح القلب وفساده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى ا? فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(1).
والقلب هو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ربَّه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، ومن جهل نفسه فقد جهل ربَّه، ومن عرف ربه فقد عرف كل شيء، ومن جهل ربه فقد جهل كل شيء.
ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وربهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
وحيلولته: بأن يمنعه سبحانه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة أسمائه وصفاته.
وكيفية تقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، أنه كيف يهوي مرة إلى أسفل سافلين، وينخفض إلى رتبة الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين.
وحاجة القلب إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والشراب.
بل نسبة حاجات القلب إلى الإيمان، ومعرفة الله عزَّ وجلَّ، وحاجات البدن للطعام والشراب كالذرة بالنسبة للجبل، والقطرة بالنسبة للبحر.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ في كل إنسان ثلاث أوانٍ أساسية وهي:
الدماغ... والقلب.. والمعدة.
فالدماغ آنية العقل والعلم.. والقلب آنية الإيمان والتوحيد.. والمعدة آنية الطعام والشراب.. فلكل آنية غذاء.. ولك غذاء ثمرة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).(5/4)
فالقلب محل الإيمان والتصديق، واليقين والتعظيم لرب العالمين، والخوف منه، والتوكل عليه، ومحبته والأنس به، ومعرفته، والانقياد له، والتسليم له سبحانه.
ولذا صار القلب محل نظر الله من العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم(1).
وأصل العلم الذي يورث العمل.. ويوجب خشوع القلب.. وخشيته لربه.. ومحبته له.. والقرب منه.. والأنس به.. والإقبال عليه.. ولزوم طاعته.. هو العلم بالله.. وهو معرفة أسمائه وصفاته.. وآلائه ونعمه.. وصفات جلاله وجماله.. ثم معرفة وعده ووعيده.. وماذا أعد الله من النعيم للمتقين.. وماذا أعد من العذاب للمجرمين.
ثم يتلوه العلم بأحكام الله.. وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد.. ويستقيم على ذلك إلى أن يموت.
ومن فاته هذا العلم النافع، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا» أخرجه مسلم(2).
والله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم.. خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء.. وخلق العين يرى بها الأشياء.. وخلق الأذن يسمع بها الأصوات.. وخلق العقل يعقل به الأشياء..
كما خلق سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور وعمل من الأعمال فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للأكل، والأنف للشم، وكذلك سائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، لكل وظيفة وحكمة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خلق له، وأعد لأجله فذلك هو الحق، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو ولربه، وللشيء الذي استعمل فيه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).
(2) أخرجه مسلم برقم (2722).(5/5)
وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالاً، فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفراً.
وسيد الأعضاء، ورأسها وملكها هو القلب، والفكر للقلب كالإصغاء للأذن.
وصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء:
فيعرف ربه ومعبوده وفاطره.. وما ينفعه وما يضره.. وما يصلحه وما يفسده.. ويعرف أسباب النجاة وأسباب الهلاك.. ويميز بين هذا وهذا.. ويختار ما ينفعه وما يصلحه.. ويعتصم بالله.. ولا يلتفت إلى ما سواه.
والناس متفاوتون في الخلق.. ومتفاوتون في عقلهم الأشياء.. من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير.. وجيد ورديء.
وإذا آمن العبد بالله أكرم الله قلبه بعشر كرامات:
الأولى: الحياة: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
ومن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وكذلك الله عزَّ وجلَّ خلق القلب، وجعل فيه نور الإيمان، فلا يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب.
الثانية: الشفاء: كما قال سبحانه: (پ پ ? ??) [التوبة: 14].
فالعسل شفاء الأبدان.. والإيمان شفاء القلوب.. والعلم شفاء من الجهل.
الثالثة: الطهارة: فالصائغ إذا امتحن الذهب مرة لا يدخله النار، وكذلك الله إذا امتحن قلوب المؤمنين لا يدخلهم النار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 3].
الرابعة: الهداية: كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 11].
الخامسة: ثبوت الإيمان: فكما أن الورقة إذا كتب فيها قرآن لم يجز إحراقها، فكذلك قلب المؤمن إذا كتب فيه الإيمان لم يجز إحراقه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [المجادلة: 22].
السادسة: السكينة: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الفتح: 4].(5/6)
السابعة: الإلفة: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 63].
الثامنة: الطمأنينة: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
التاسعة: المحبة: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الحجرات: 7].
العاشرة: الزينة والحفاظة من السوء: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الحجرات: 7].
3- صلاح القلب
قال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 2].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 11].
أصل كل خير وسعادة للعبد كمال حياته وكمال نوره، فالحياة والنور مادة الخير كله في الدنيا والآخرة.
فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره، وحياؤه وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح.
وكلما قويت حياته، قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته، ضعفت فيه هذه الصفات.
وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الحي إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه، وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك فيعطب.
وكذلك إذا قوي نور القلب وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه.
فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته، وكذلك قبح القبيح.
والقرآن نور تستضيء به القلوب وتشرق به، وروح تحيا به القلوب، فالمؤمن حي أكرمه الله بالنور الذي يبصر به الحق من الباطل.
والكافر ميت القلب، مغمور في ظلمة الجهل، والكافر لانصرافه عن طاعة الله، وجهله بمعرفته وتوحيده، وشرائعه وسننه، وترك العمل بما يؤد به إلى نجاته وسعادته، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه ولا يدفع عنها مكروه.(5/7)
فإذا هداه الله للإسلام، وجعل قلبه حياً بعد موته، ومشرقاً ومستنيراً بعد ظلمته، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه، وأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور يستضيء به، ويمشي به في الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
وحياة القلب واستنارته تحصل بالاستجابة لله والرسول، وما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
وحياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركاً للحق.. مريداً له.. مؤثراً له على غيره.. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.
والقلب فيه قوتان:
قوة العلم والتمييز.. وقوة الإرادة والمحبة.
وكمال القلب وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه.
فكمال استعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته، وايثاره على الباطل.
فمن لم يعرف الحق فهو ضال.. ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه.. ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
فالمسلمون أخص بالحق؛ لأنهم عرفوه واتبعوه.
واليهود أخص بالغضب؛ لأنهم أمة عناد، عرفوا الحق فلم يتبعوه.
والنصارى أخص بالضلال؛ لأنهم أمة جهل، عرفوا الحق وضلوا عنه.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بطلب الهداية إلى طريق الحق، وهو طريق المنعم عليهم بمعرفة الحق والعمل به بقوله سبحانه: (ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفاتحة: 6، 7].
وكل إنسان خاسر في هذه الحياة، إلا من كملت قوته العلمية بالإيمان بالله، وقوته العملية بالعمل بطاعة الله، فهذا كماله في نفسه.
ثم كمَّل غيره بوصيته له بذلك، وأمره إياه به، والصبر على ذلك، كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
وهاتان القوتان لا تتعطلان في القلب.(5/8)
بل إن استعمل العبد قوته العلمية في معرفة الحق وادراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل.
وكذا قوته الإرادية، إن استعملها في العمل بالحق، وإلا استعملها في ضده. ولا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره ومعبوده وحده لا شريك له.
فكل مخلوق، وكل حي، سوى الله سبحانه، من ملك أو إنس أو جن أو حيوان أو نبات فهو فقير إلى ربه في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك إلا بتصوره للنافع والضار.
والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بدَّ للعبد من أمرين:
أحدهما: معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به، ويلتذ بإدراكه.
والثاني: معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود.
وبإزاء ذلك أمران آخران:
أحدهما: مكروه بغيض ضار.
والثاني: معين دافع له عنه.
فهذه الأربعة ضرورية لكل عبد، بل لكل حيوان.
وإذا ثبت ذلك فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو والمطلوب الذي يراد وجهه، ويبتغي قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك.
وعبودية ما سواه، والالتفات إليه، والتعلق به، هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون سواه.
فهو المعبود المحبوب المراد.. وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له.. والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدره.. وهو المعين لعبده على دفعه عنه.
والله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له.
فبذكره سبحانه تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم.
فلا يعطيهم سبحانه في الآخرة شيئاً خيراً لهم، ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه، ورضوانه عليهم.(5/9)
ولم يعطهم في الدنيا شيئاً خيراً لهم، ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره وعبادته.
وحاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه أعظم من حاجتهم إليه في خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم.
فإن العبادة هي الغاية المقصودة لهم، ولا صلاح ولا سعادة لهم بدون ذلك.
والله تبارك وتعالى يريد من خلقه أن يعرفوا أطيب ما في الدنيا.. وأطيب ما في الآخرة.. فيقبلون عليه علماً وعملاً.
ويعرفوا شر ما في الدنيا.. وشر ما في الآخرة.. فيحذروه ويجتنبوه.
والأصل هو القلب، فإن كان صالحاً صلحت أعمال الجوارح، وإن كان فاسداً فسدت أعمال الجوارح.
والعين تبصر في ضوء الشمس صورة الشيء لا حقيقة الشيء، امتحاناً وابتلاءً، ولكن لا يعرف الحقيقة إلا القلب، ويعرف القلب ذلك إذا كان فيه نور الإيمان.
فكما تحتاج العين إلى الضوء الخارجي لمعرفة الأشياء ورؤيتها، فكذلك القلب لا يعرف حقيقة الشيء إلا بنور الإيمان، ومن اسود قلبه لا يعرف حقيقة الأشياء، بل يعرف صور الأشياء.
وإذا استنار القلب بنور الإيمان أناب إلى الله، فأحب الطاعات وكره المعاصي، وبنور القلب تبين قيمة الأموال والأشياء، وقيمة الإيمان والأعمال، ولا يبقى للعبد تعلق بالدنيا، بل يكون تعلقه بالآخرة.
ونور الإيمان في القلب يرسخ حقيقة الوعد والوعيد.
وإذا جاءت حقيقة الوعد والوعيد زدنا في الطاعات، ونفرنا من المعاصي، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة.
ونور القلب في الدنيا يكون مستوراً، وفي الآخرة يكون ظاهراً للمؤمنين.
وبامتثال أوامر الله، وفعل كل سنة، يزداد نور القلب، وبمخالفة السنن يزيد ظلام القلب، وتثقل الطاعات.
ومحبة الله نور في القلب والوجه.. ومحبة غير الله ظلام في القلب والوجه.(5/10)
وكل من أقر بـ (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) جاء النور في قلبه، وإذا جاء نور الهداية في القلب سهل تطبيق أوامر الله، والإكثار منها، والتلذذ بها، ودعوة الناس إليها، والصبر على كل ذلك.
ونور الهداية في القلب: أن يتيقن العبد أن المعطي والمانع، والمعز والمذل، والنافع والضار، والمحيي والمميت فقط هو الله وحده لا شريك له.
وحاجات القلب كثيرة كالبحر، وحاجات البدن كالقطرة، لأن القلب محل الإيمان، والإيمان ليس له حد، وبالإيمان يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
والإيمان يزيد في القلوب بكثرة الطاعات، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، والجهد للدين، وتحصل بذلك الهداية.
ولكن الباطل لا يزول إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله بالأموال، والأنفس، والشهوات، والجاه، والأوقات.
ولما تركت الأمة التضحية بذلك نقص الإيمان، وقلت الطاعات، وكثرت المعاصي، فجاء البلاء والفساد والعقاب.
فالشيطان يزين للإنسان الشهوات التي عاقبتها الهلاك، والأنبياء يأمرون الناس بالإيمان والأعمال الصالحة التي عاقبتها الفلاح.
وزينة القلب بالإيمان، وزينة الجوارح بالأعمال، وزينة الإنسان الداخلية والخارجية تكمل بالأخلاق الحسنة التي وصف الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: (? ? ? ںں) [القلم: 4].
وليس في الوجود شيء غير الله سبحانه يسكن إليه القلب، ويطمئن به، ويأنس به، ويتلذذ بالتوجه إليه.
ومن عبد غير الله سبحانه، وحصل له به نوع لذة ومنفعة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ.
وكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى، فسد فساداً لا يرجى صلاحه، إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون لله وحده هو إلهه ومعبوده ومحبوبه.(5/11)
وفقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب والنفس، لكن بينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له ولا سعادة إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو.
فلا يطمئن إلا بذكره.. ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه.. ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك.
وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته.
وأما إلهه الحق فلا بدَّ له منه في كل وقت، وفي كل حال، وأينما كان.
فنفس الإيمان به، ومحبته وعبادته، وإجلاله وذكره، هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه.
أما من قال إن عبادة الله وذكره وشكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل، كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها، ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، فهذا قول من قل نصيبه من العلم والتحقيق، ومن ذوق حقائق الإيمان وحلاوته.
بل عبادته سبحانه ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان.
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمناً وتبعاً في بعضها لأسباب اقتضته لا بدَّ منها.
فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم، هي قرة العيون، ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسورها، وبها شفاؤها وسعادتها، وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 57، 58].
ولم يسم الله عزَّ وجلَّ أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفاً، وإنما سماها روحاً ونوراً، وهدى وحياة، ورحمة وشفاء، وعهداً ووصية، ونحو ذلك، وما ذكر في القرآن من ذكر التكليف فإنما ورد في جانب النفي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].(5/12)
وأجل نعيم في الجنة، وأفضله وأعلاه على الإطلاق، هو النظر إلى وجه الرَّب جل جلاله، وسماع خطابه.
فالمؤمنون مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة، لم يعطهم ربهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه.
وإنما كان ذلك أحب إليهم، لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم، والفرح والسرور، وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب، والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعمتين البتة.
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة، إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فكذلك لا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه، والأنس به.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ، يَا أهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ، رَبَّنَا! وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى؟ يَا رَبِّ! وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ! وَأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدًا» متفق عليه(1).
والمخلوق كله، كبيره وصغيره، قويه وضعيفه، ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل.
بل الله الواحد القهار هو الذي يملك كل ذلك وحده دون سواه.
والعبد ضعيف مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، وإلى من يجلب له منافعه برزقه، فلا بدَّ له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذي ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين.
ومن كمال إيمان العبد أن يعلم أن الله إذا مسه بسوء، لم يرفعه عنه غيره، وإذا ناله بنعمة، لم يرزقه إياها سواه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6549)، ومسلم برقم (2829)، واللفظ له.(5/13)
وهذا يقتضي من العبد التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاؤه وسؤاله وحده دون سواه، ومحبته وعبادته، لإحسانه إلى عبيده، وإسباغ نعمه عليهم.
فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه، فتح الله لهم من لذيذ مناجاته، وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه، ما هو أحب إليهم من قضاء حاجاتهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [يونس: 107].
وقال الله سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 160].
وتعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته.
فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك.
ولو أحب العبد ما سوى الله ما أحب، فلا بدَّ أن يُسلبه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بدَّ أن تضره محبته، ويعذب بمحبوبه، إما في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معاً، وهذا هو الغالب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
فكل من أحب شيئاً سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله تعالى ولا لكونه معيناً له على طاعته، عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة.
فإذا كان يوم القيامة ولَّى الحكم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه في الدنيا، فكان معه إما منعماً أو معذباً.
فالمؤمن الذي يحب المؤمنين، يكون معهم في الجنة، والكافر الذي اجتمع مع الكفار على غير طاعة الله ورسوله، يجمع الله بينهم يوم القيامة في النار، ويعذب كلاًّ منهم بصاحبه، ويلعن بعضهم بعضاً كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ??) [الزخرف: 67].
فكل من أحب شيئاً سوى الله فالضرر حاصل له بمحبوبه، إن وجد وإن فقد، فإنه إن فقده عذب بفراقه، وتألم على قدر تعلق قلبه به.
وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد والتعب في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته، أضعاف أضعاف ما في حصوله من اللذة.(5/14)
واعتماد العبد على المخلوق، وتوكله عليه، يوجب له الضرر من جهته هو ولا بدَّ، عكس ما أمَّله منه، فلا بدَّ أن يُخذل من الجهة التي قدر أن يُنصر منها، ويُذم من حيث قدر أن يُّحمد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ??) [مريم: 81، 82].
فالمشرك يرجو بشركه النصر تارة.. والعز تارة.. والسعادة تارة.. والحمد تارة.. والثناء تارة.. وأنى له ذلك.
فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [الشعراء: 213].
وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به، فاحذر ذلك: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الإسراء: 22].
والله عزَّ وجلَّ غني كريم، عزيز رحيم، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة.
بل رحمة منه وإحساناً ومحبة له، وهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ينفعوه أو يدفعوا عنه أو يرزقوه: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژژ) [لذاريات: 56-58].
وماذا يملك العبد الفقير حتى يعطي؟.. وماذا يعلم من الخلق حتى يواسي غيره؟.. وماذا يملك من العمر حتى يبقى؟.
إن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة لذلك.
فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، فهو الذي بيده الخير كله، واليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره ضرر محض لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك، وغالب الخلق إنما يريدون قضاء حوائجهم منك، وإن أضر ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما يريدون قضاء حوائجهم ولو بمضرتك.(5/15)
والرَّب تبارك وتعالى إنما يريد لك المصلحة، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره؟
والله سبحانه رفيع الدرجات، الذي تعالت ذاته أن يُتقرب إليه إلا بالعمل الصالح الزكي الطاهر، وهو الإخلاص الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه، ويجعلهم فوق خلقه.
والوحي للأرواح والقلوب، بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 14، 15].
إن من لم يكن في قلبه نور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية.
وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجه الناس إلى غير الله، والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح، في الدنيا والآخرة، بيد الله وحده لا شريك له.
وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله.. والأجساد مزينة بالسنن، فتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
وإذا أحب الله عبداً، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: (? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الشورى: 13].
اللهم اهدنا فيمن هديت.. وعافنا فيمن عافيت.
وتولنا فيمن توليت.. واستعمل ألسنتنا بذكرك..
وجوارحنا في طاعتك وعبادتك.
4- حياة القلب
قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [النحل: 97].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
حياة القلب ونعيمه وسروره وبهجته بالإيمان بالله، ومعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وعبادته، وطاعته وطاعة رسوله.(5/16)
فإنه لا حياة أطيب من هذه الحياة، ولا نعيم فوق نعيمها إلا نعيم الجنة الذي يجتمع فيه كمال الإيمان، وكمال النعيم.
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فطابت كما طاب.
وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [النحل: 97].
وحياة القلب تكون بثلاثة أشياء:
قصر الأمل.. وتدبر القرآن.. وتجنب مفسدات القلب.
فأما قصر الأمل، فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب.
فإنه يبعثه على تدارك الأيام، وانتهاز الفرص التي تمر مر السحاب، ويثير عزمات القلب إلى دار البقاء والخلود، ويزهده في الدنيا، ويرغبه في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحقاف: 35].
وأما تدبر القرآن، فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [ص: 29].
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، واقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وجمع الفكر فيه على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر، وتدله على مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صور الدنيا والآخرة، والجنة والنار.
وتحضره بين الأمم السابقة، وتريه أيام الله فيهم، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يحبه الله وما يبغضه.
وتريه طريق أهل الجنة، وأهل النار، ومراتب أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وتطلعه على تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والترغيب والترهيب، والمواعظ والصبر وغيرها.
وأما مفسدات القلب فكثرة الخلطة. والتمني.. والتعلق بغير الله.. وكثرة الشبع وكثرة النوم.. فهذه الخمسة أكبر مفسدات القلب.(5/17)
فالقلب السليم يسير إلى الله تعالى والدار الآخرة، وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتضعف قواه، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه.
فإنه لا نعيم للقلب ولا لذة، ولا ابتهاج ولا كمال، إلا بمعرفة الله ومحبته، والطمأنينة بذكره، والفرح والابتهاج بقربه، والشوق على لقائه، فهذه جنته العاجلة.
كما أنه لا نعيم له في الآخرة، ولا فوز ولا فلاح إلا بجوار ربه في دار النعيم في الجنة الآجلة.
فله جنتان: لا يدخل الثانية منهما حتى يدخل الأولى، وهذه الأشياء الخمسة قاطعة عن هذا، حائلة بين القلب وبينه.
ولحياة القلب علامات أهمها:
وجل القلب من الله سبحانه، وشدة خوفه منه، كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 2].
ومنها: القشعريرة في البدن، ولين الجلود والقلوب عند سماع القرآن كما قال الله سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الزمر: 23].
ومنها: خشوع القلب عند ذكر الله سبحانه كما قال الله عزَّ وجلَّ: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16].
ومنها: الإذعان للحق والإخبات له كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 54].
ومنها: كثرة الإنابة إلى الله كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [ق: 33].
ومنها: السكينة والوقار كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الفتح: 4].
ومنها: خفقان القلب بحب المؤمنين كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الحشر: 10].
ومنها: سلامة القلب من الأحقاد كما قال الله سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [آل عمران: 103].(5/18)
وإذا مات قلب العبد تعطلت جوارحه عن الطاعة والعبادة.. ولم يؤد حق الله من الطاعة والعبودية.. ولم يعمل بكتاب ربِّه.. ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وعادى الرحمن.. ووالى الشيطان.
وأكل رزق الله ولم يشكره.. ودفن الموتى ولم يعتبر.. وعلم أن الموت حق ولم يستعد له.. وأقبل على الدنيا يعمرها ويجمعها وينافس في جمع حطامها.. ويتعذب بذلك ليله ونهاره كله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
ومحركات القلوب إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثة:
المحبة.. والخوف.. والرجاء.
فالمحبة أقواها، ويحركها في القلب كثرة ذكر المحبوب، ومطالعة آلائه ونعمائه، فيسير إلى محبوبه الذي يرى كل نعمة منه.
والخوف، المقصود منه المنع والزجر عن الخروج عن الطريق.
ويحركه في القلب مطالعة آيات الوعيد والزجر، والعرض والحساب والنار وأهوالها، والعقوبات التي حلت بالمجرمين.
أما الرجاء، فيقود الإنسان إلى الطريق.
ويحركه في القلب مطالعة الكرم والإحسان، والحلم والعفو، والعطاء والمنّ.
وقلوب العباد كلهم بيد الله:
فمن أقبل على الله أقبل الله بقلوب عباده إليه فأحبوه.
ومن أعرض عن الله أعرض الله بقلوب عباده عنه.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [مريم: 96].
5- فتوحات القلب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه(1).
القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا، وتعلق بالآخرة، وتأهب للقدوم على الله عزَّ وجلَّ، فذلك أول فتوحه، وتباشير فجره.
فعند ذلك يتحرك قلب العبد لمعرفة ما يرضى به ربه منه، فيفعله ويتقرب به إليه، وينبعث لمعرفة ما يسخطه منه فيجتنبه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1073).(5/19)
فإذا تمكن العبد في ذلك، فتح الله له باب الأنس بالخلوة والوحدة، ومحبة الأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك.
فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وإقباله على ربه، وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه، وتمزق شمله.
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات.
ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له.
ثم يفتح له باب شهود عظمة المتكلم به وجلاله، وكمال نعوته وصفاته، ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك.
ثم يفتح له باب الحياء من الله عزَّ وجلَّ، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عزَّ وجلَّ، فيستحي منه في خلواته وجلواته.
ويرزقه الله عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى ربه، حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، مطلعاً على حركاتهم.
فإذا استولى هذا على العبد، غطى عليه كثيراً من الهموم بالدنيا وما فيها، فهو في وجود بين يدي ربه ووليه، والناس في وجود آخر.
ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية لربه على جميع الكائنات، فيرى سائر التقلبات الكونية، وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده.
فيشهده ذلك ربه العظيم، مالك النفع والضر، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، فيتخذه وحده وكيلاً، ويرضى به رباً ومدبراً، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه.
فإذا استمر له ذلك، فتح عليه باب القبض والبسط، فيقبض عليه حتى يجد ألم القبض لقوة وارده، وتفيض أنوار المعرفة والمحبة والإخلاص من قلبه، كما يفيض نور الشمس من جرمها.(5/20)
وكلما سار إلى ربه من الطريق الموصل إليه، زادت الهداية في قلبه، وزاد نور الإيمان، وانشرح صدره، ووجد اللذة في طاعة مولاه.
فإذا استمر على حاله، واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يجيب غير من يدعوه إليه، ويعلم أنه لم يصل بعد، رجا أن يفتح له فتح آخر، هو فوق ما كان فيه.
فيستغرق قلبه في أنوار مشاهدة جلال الله، بعد ظهور أنوار الوجود الحق، ويبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال والجمال لربه، فتنبع الأنوار من باطنه، كما ينبع الماء من العين، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء.
ثم يرقيه الله تبارك وتعالى فيشهد قلبه أنوار الإكرام، بعد ما شهد أنوار الجلال والعظمة لمولاه.
فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال والإكرام، والإنعام والإحسان، فيذوق المحبة الخاصة، الملهبة للارواح والقلوب، الباعثة لحسن العبادة، ولذة المناجاة.
فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه العزيز الكريم، ووليه الغفور الرحيم، ممتحناً بحبه، مستسلماً لطاعته، متلذذاً بعبادته، مستغرقاً في جلاله وجماله، وهذا غاية مراد الرب من عبده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى، من الأموال والأشياء، والصور والرئاسة، معذبون بذلك قبل حصوله، وحال حصوله، وبعد حصوله.
وأشرفهم منزلة، وأعلاهم مرتبة، من يكون مفتوناً بالحور العين، أو عاملاً على تمتعه في الجنة، بالأكل والشرب والجماع واللباس.
وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على غيره، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق، لعلو درجته عند ربه، وقرب منزلته من حبيبه.(5/21)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ ا?! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: « بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِا? وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ»متفق عليه(1).
وهذا العبد معية الله معه، فإن المرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
فهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل، إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق، فيقع أجره على الله، وله ما نوى.
والقلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، ولها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت نشطت للفرائض والسنن، وتلذذت بذلك، ونافست في الخير، وسارعت إليه قولاً وفعلاً.
وإذا أدبرت وضعفت نلزمها على الأقل الفرائض والواجبات.
6- أقسام القلوب
قال الله تعالى: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 74].
تنقسم قلوب العباد إلى ثلاثة أقسام:
صحيح.. وسقيم.. وميت.
فالقلب الصحيح هو السليم الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره.
فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما.
بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادة ومحبة، وتوكلاً وإنابة، وخشية وإخباتاً وخوفاً ورجاء.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256)، ومسلم برقم (2831)، واللفظ له.(5/22)
وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا أزكى القلوب، وهو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الشعراء: 88، 89].
والقلب الثاني: القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه.
بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه، رضي ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله حباً وخوفاً ورجاءً، ورضاً وسخطاً، وتعظيماً وذلاً.
إن أحب أحب لهواه.. وإن أبغض أبغض لهواه.. وهواه أحب إليه وآثر عنده من رضا مولاه.
فالهوى إمامه.. والشهوة قائده.. والجهل سائقه.. والغفلة مركبه.. والسيئات تجارته.. والمعاصي بضاعته.. والمحرمات سلعته.
لا يستجيب لداعٍ ولا ناصح، ويتبع كل شيطان مريد.. من الإنس والجن، فهذا أخبث القلوب وأنجسها وأركسها: (? ? ? ? ? ژژ) [غافر: 35].
والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، فهو السقيم.
فله مادتان: تمده هذه مرة.. وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما.
ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به، والإخلاص له، والتوكل عليه، ما هو مادة حياته ونجاته.
وفيه من محبة الشهوات وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة، والظلم، ما هو مادة هلاكه وعطبه.
وهو ممتحن بين داعيين:
داعٍ يدعوه إلى الله والدار الآخرة، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأعلاهما صوتًا، وأكثرها حضوراً.
فالقلب الأول حي مخبت واع لين، والثاني يابس ميت، والثالث مريض.
فإن كان له مذكر فهو إلى السلامة أدنى، وإن لم يكن له مذكر فهو إلى العطب أدنى، وهوصيد من يسبق إليه.(5/23)
وقد جمع الله بين هذه القلوب الثلاثة في قوله سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 53، 54].
فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو الإدراك للحق، ثم الانقياد له والقبول.
والقلب الميت القاسي لا يقبل الحق ولا ينقاد له.
والقلب المريض إن غلبت عليه صحته التحق بالقلب السليم، وإن غلب عليه مرضه التحق بالقلب الميت القاسي.
وكل ما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ.. وفي القلوب من الشبه والشكوك.. فتنة لهذين القلبين.. وقوة للقلب الحي السليم.. لأنه يرد ذلك ويكرهه ويبغضه.. ويعلم أن الحق في خلافه.
ويستدل على معرفة ما في القلوب بحركة اللسان، فإن القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها.
فلسان المرء يغرف لك من قلبه:
حلو وحامض.. وعذب وأجاج.. وحار وبارد.. وطيب وخبيث.. وحسن وقبيح.. وحق وباطل.. وخير وشر.
فالقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل.. ومن الحقد والحسد.. ومن الشح والبخل.. ومن الكبر والعلو.. ومن حب الدنيا.. وحب الرياسة.
فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله والدار الآخرة.
ولا تتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء:
من شرك يناقض التوحيد.. ومن بدعة تخالف السنة.. ومن شهوة تخالف الأمر.. ومن غفلة تناقض الذكر.. ومن هوى يناقض الإخلاص.
والقلوب بالنسبة للاستجابة للحق تنقسم إلى قسمين:
أحدها: قلوب مستجيبة للحق، فهذه بأرفع المنازل في الدنيا والآخرة.
الثاني: قلوب معرضة عن الحق، والإعراض مراتب:
فالإعراض مرتبة... والتكذيب مرتبة فوقها.. ثم الاستهزاء مرتبة فوقها.. والمرتبة الأسوأ من ذلك هي الصد عنه كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [النحل: 88].(5/24)
والله جل جلاله جعل القلوب على ثلاثة أقسام:
مخبتة.. ومريضة.. وقاسية.
فالقلوب المخبتة: هي التي تنتفع بالقرآن، وتزكو به.
والإخبات: سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله.
ومن آثار الإخبات:
وجل القلوب لذكر الله سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه كما قال سبحانه: (گ گ گ) گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الحج: 34، 35].
فالقلب المخبت ضد القاسي والمريض، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتًا إليه، وبعضها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا.
اما القلوب القاسية الحجرية، فهي التي لا تقبل ما يبث فيها، ولا ينطبع فيها الحق، ولا ترتسم فيها العلوم النافعة، ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة.
فالقسوة يبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل، فلا يتأثر لغلظه وقساوته، لا لصبره واحتماله.
ومن آثار قسوة القلب:
تحريف الكلم عن مواضعه.. وعدم قبول الحق.. والصدّ عنه.. ونسيان ما ذكِّر به، وهو ترك ما أمره الله به علمًا وعملاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 74].
أما القلوب المريضة فهي التي يكون الحق ثابتًا فيها، لكن مع ضعف وانحلال كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الحج: 53].
فذكر سبحانه القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، ثم القلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه.
فهذان القلبان شقيان معذبان.
ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.
وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف ما في القلوب الثلاثة.
فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر، والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى، وزيادة محبة الرب، وبغض الكفر والشرك.(5/25)
والقلب عضو من أعضاء الإنسان، وهو أشرف أعضائه، وكل عضو كاليد مثلاً، إما أن يكون جامدًا يابسًا، أو يكون مريضًا ضعيفًا، أو يكون حيًا قويًا.
فالقلوب كذلك ثلاثة:
قلب قاسٍ بمنزلة اليد اليابسة.. وقلب مائع رقيق جدًا.. وقلب رقيق صاف صلب.
فالأول لا ينفعل بمنزلة الحجر، والثاني بمنزلة الماء، وكلاهما ناقص.
وأصح القلوب القلب الرقيق الصافي الصلب.. فهو يرى الحق من الباطل بصفائه.. ويقبله ويؤثره برقته.. ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته.
وهذا أحب القلوب إلى الله، وهو القلب المستقيم المخبت المطمئن: (گ گگ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الحج: 34، 35].
وأبغض القلوب إلى الله القلب القاسي، والقلب القاسي والمريض كلاهما منحرف عن الاعتدال، هذا بمرضه، وهذا بقسوته: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الزمر: 22].
وهؤلاء أصحاب القلوب المريضة والقاسية، المعرضون عن دين الله، المعارضون له، ألا يتدبرون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؟.
فإنهم لو تدبروه لدلهَّم على كل خير، وحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر؟.
ولعرفهم بربهم سبحانه، وبأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل.
أم قلوبهم مقفلة على ما فيها من الشر، فلا يدخلها خير أبدًا: (ک گ گ گ گ ? ??) [محمد: 24].
اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، وارزقنا حسن تلاوة كتابك، وحسن العمل بشرعك، وصدق الإخلاص في عبادتك: (? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [آل عمران: 53].
7- غذاء القلوب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الإٍسراء: 82].
الله عزَّ وجلَّ جعل للقلوب نوعين من الغذاء:(5/26)
الأول: الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله.
الثاني: غذاء روحاني معنوي، خارج عن الطعام والشراب من السرور والفرح، والابتهاج واللذة، والعلوم والمعارف.
وبهذا الغذاء كان سماويًا علويًا، وبالغذاء المشترك كان أرضيًا سفليًا، وقوامه بهذين الغذاءين.
وللقلب ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس، وله غذاء يصل إليه منها كحاسة السمع والبصر، وحاسة اللمس والشم والذوق، وارتباطه بحاستي السمع والبصر أشد من ارتباطه بغيرهما، ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس.
وانفعاله عنهما أشد من انفعاله عن غيرهما، واقترانه في القرآن بهما أكثر من اقترانه بغيرهما.
بل لا يكاد يقرن إلا بهما أو بأحدهما كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 78].
وتأثر القلب بما يراه ويسمعه، أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه، ولأن هذه الثلاثة هي أهم طرق العلم وهي السمع والبصر والعقل.
وتعلق القلب بالسمع والبصر، وارتباطه بهما، وتأثره بهما لا يخفى، لكن ما يدركه بحاسة السمع من العلم والهدى أعم وأشمل، وما يدركه بحاسة البصر أتم وأكمل.
فللسمع العموم والشمول، والإحاطة بالموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، وللبصر التمام والكمال.
وهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح، وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها.
فمن الناس من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها، فهو بمنزلتها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44]
ولهذا نفى الله تبارك وتعالى عن الكفار السمع والبصر والعقل، لعدم انتفاعهم بها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 179].(5/27)
فهم يسمعون ويبصرون بالحواس الظاهرة، وبهما قامت عليهم الحجة، ولا يسمعون ولا يبصرون بالحواس الباطنة، التي هي سماع القلب، التي هي روح حاسة السمع، التي هي حظ القلب، ولو سمعوه من هذه الجهة، لحصلت لهم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
وتعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب، أشد من تعلق البصر به، وآثاره على قلب الإنسان أسرع وأشد، فربما غشي على الإنسان إذا سمع كلامًا يسره أو يسوؤه، أو صوتًا لذيذًا طيبًا مناسبًا، ولا يحصل له ذلك من رؤية الأشياء بالبصر الظاهر إلا نادرًا.
فإذا كان المسموع معنى شريفًا بصوت لذيذ، حصل للقلب حظه ونصيبه من إدراك المعنى، وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له، كما يحصل للقلب عند سماع آيات القرآن المرتلة.
وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه، فيحصل لها الارتياح، ويتم الابتهاج، وتتضاعف اللذة، حتى ربما فاض الابتهاج والسرور على البدن والجوارح وعلى الجليس.
ويكاد القلب لكمال لذته، وتوفر غذائه، أن يفارق هذا العالم، ويلج عالمًا آخر، ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره البتة.
وذلك لمحة من حال أهل الجنة في الجنة.
فيا له من غذاء ما أصلحه.. وما أنفعه.. وما أيسره.
والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله، سمع كلام محبوبه، وتأثر به وانتفع به.
وقلوب البشر على ثلاثة أقسام:
أحدها: من اتصف قلبه بصفات نفسه، بحيث صار قلبه نفسًا محضة، فغلبت عليه آفات الشهوات والأهواء.
فهذا حظه من السماع الديني كحظ البهائم، لا يسمع إلا دعاءً ونداءً.
الثاني: من اتصفت نفسه بصفات قلبه، فصارت نفسه قلبًا محضًا، فغلبت عليه المعرفة والمحبة، والعقل واللب.
وعشق صفات الكمال، فاستنارت نفسه بنور قلبه، واطمأنت إلى ربها، وقرت عينها بعبوديته، وصار نعيمها في حبه وقربه.
فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة، وسماعه غذاء قلبه وروحه، وقرت عينه.(5/28)
الثالث: من له منزلة بين منزلتين، وقلبه باق على فطرته الأولى، لكن ما تصرف في نفسه تصرفًا أحالها إليه، ولا قويت النفس على القلب فأحالته إليها، فبين النفس والقلب منازلات ووقائع.
تدال النفس عليه تارة.. ويدال عليها تارة.. والحرب سجال.
فهذا حظه من السماع حظ بين الحظين، فإن صادفه وقت دولة القلب كان حظه منه قويًا، وإن صادفه وقت دولة النفس كان ضعيفًا.
ومن هنا يقع التفاوت في الفقه عن الله، والفهم عنه، والابتهاج به، وحصول النعيم واللذة بسماع كلامه.
وخلاصة غذاء القلوب يمكن الحصول عليه من أربعة أبواب:
الأول: الكلام في عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله والتحدث بذلك، والنظر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية.
الثاني: الكلام في آلاء الله ونعمه، ورؤية إحسانه وجماله وإكرامه والتحدث بذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [الضحى: 11].
الثالث: معرفة وعد الله لعباده المتقين بالجنة، وذكر منازلها وقصورها، ورؤية ما فيها من النعيم واللذات، والتنعم برؤية الرب جل جلاله، وسماع كلامه، والتحدث بذلك بين الناس.
الرابع: معرفة وعيد الله لمن عصاه، وتذكر النار وما فيها من السعير والسموم، والقمع والإحراق، وعند ذلك ترق القلوب وتمتلئ بالخوف والوجل من معصية الرب، وتقبل على ربها بلباس الإيمان والتقوى.
وحاجات الإنسان قبل الموت كالقطرة، وحاجات الإنسان بعد الموت كالبحر.
وحاجات البدن في الدنيا كالقطرة، وحاجات القلب كالبحر.
وليس للقلوب سرور ولا لذة ولا نعيم إلا بالإيمان بالله ومحبته، والتقرب إليها بما يحبه، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله والمعرفة به.
ومن كان محبًا لغير الله في الدنيا، فهو معذب في الدنيا والآخرة، فإن نال مراده عذب به، وإن لم ينله فهو في العذاب والحسرة والحزن.(5/29)
وكل من استقام على الدين، واجتهد للدين، ظهرت شعب الإيمان في حياته، من التوكل والخشية، والخوف والرجاء، والمحبة والإنابة، والاستعانة بالله في جميع الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وفاز بالسعادة في الدنيا.. ودخل الجنة في الآخرة.
8- فقه أعمال القلوب
قال الله تعالى: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 32].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 52].
الأوامر تنزل في كل لحظة من ذات الله تبارك وتعالى، والأعمال تصدر من ذات الإنسان، فإذا تطابقت الأوامر والأعمال، فلهذا الإنسان السعادة في الدنيا والآخرة، وإذا خالفت أعمال الإنسان أوامر الرب، شقي هذا الإنسان في الدنيا والآخرة.
والأعمال التي تصدر من الإنسان نوعان:
أعمال القلوب.. وأعمال الجوارح.
وأعمال القلوب من أصول الإيمان وقواعد الدين:
كالإيمان والتوحيد.. ومحبة الله ورسوله.. والتوكل على الله.. وإخلاص الدين له.. واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته.. والخوف منه.. والرجاء له.. والخشية منه.. والخشوع له.. والتذلل والتضرع بين يديه.. والصبر على حكمه، والاستعانة به ونحو ذلك.
فهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات:
ظالم لنفسه.. ومقتصد.. وسابق بالخيرات.
فالظالم لنفسه: هو العاصي بترك مأمور، أو فعل محظور.
والمقتصد: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات.
والسابق بالخيرات: المتقرب إلى ربه بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، التارك للمحرم والمكروه، الذاكر لربه في كل حين.
وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، كلاهما مطلوب، لكن الأول أساسي للثاني، والثاني مظهره وعلامته، لكنه لا يقبل بدونه.
وإنما خص الله أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فلولا إرادة القلب لم تحصل أفعال الجوارح ولهذا قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? پ پ پ پ ??) [العاديات: 9-11].(5/30)
وجعل الله القلوب الأصل في المدح كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 2].
وجعلها الأصل في الذم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [البقرة: 283].
وأعظم المخلوقات، وأنزهها وأطهرها، وأنورها وأشرفها، وأعلاها ذاتًا وقدرًا، وأكرمها وأوسعها، عرش الرحمن جل جلاله، ولذلك صلح لاستوائه عليه.
وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان، وأشرفها وأنورها وأجلها، لقربها من عرش الرحمن إذ هو سقفها.
وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة، وأضيقها وأبعدها من كل خير، وهي النار.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ القلوب، وجعلها محلاً لمعرفته ومحبته وإرادته، فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفة الله ومحبته وإرادته كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [النحل: 60].
والقلب إن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها، لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة، وإلا استوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها، حتى تعود القلوب على قلبين:
قلب هو عرش الرحمن: ففيه النور والحياة، والفرح والسرور، والبهجة وذخائر الخير.
وقلب هو عرش الشيطان: فهناك الضيق والظلمة، والموت والحزن، والهم والغم.
والنور الذي يدخل القلب إنما هو من آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم تكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق.
والتوحيد والإيمان والإخلاص شجرة في القلب، فروعها الأعمال الصالحة، وثمرها طيب الحياة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة.
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب فروعها الأعمال السيئة، وثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم، وفي الآخرة عذاب الجحيم.(5/31)
فشجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح، والأخلاق المرضية، والآداب الحسنة، في السماء دائمًا، يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان، ما ينتفع به المؤمن، وينفع غيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [إبراهيم: 24، 25].
وأما شجرة الكفر فهي شجرة خبيثة المأكل والمطعم كشجرة الحنظل ونحوها، لا عروق تمسكها، ولا ثمرة صالحة تنتجها.
كذلك كلمة الكفر والمعاصي ليس لها ثبوت نافع في القلب، ولا تثمر إلا كل قول خبيث، وعمل خبيث، يضر صاحبه ولا ينفعه، ولا يصعد إلى الله منه عمل صالح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [إبراهيم: 26].
والقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.
والقلوب آنية الله في أرضه، وأحبها إليه ألينها وأرقها وأصفاها.
وإذا زهدت القلوب في موائد الدنيا، قعدت على موائد الآخرة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد الغالية.
ولا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا، وإذا أحب الله عبدًا اصطنعه لنفسه، واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بخدمته، وصرف قلبه عما سواه.
والقلب يعمل، والبدن يعمل، والقلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه بالتوبة والحمية.. والقلب يصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر.. والقلب يعرى كما يعرى الجسم، وزينته بالتقوى..
والقلب يجوع ويظمأ كما يجوع البدن ويظمأ، وطعامه وشرابه العلم بالله والمعرفة، والمحبة والتوكل، والإنابة والعبادة.
والوصول إلى المطلوب المحبوب موقوف على ثلاثة أمور:
هجر العوائد.. وقطع العلائق.. وإزالة العوائق.(5/32)
فالعوائد: ما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والعادات التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عند بعضهم أعظم من الشرع، وهذه الرسوم قد استولت على طوائف من بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والعامة والخاصة.
ينكرون على من خالفها، وربما كفروه أو بدعوه، أو ضللوه أو قتلوه، واتخذها الناس سننًا، وهُجر لأجلها الكتاب والسنة.
وأما العلائق: فهي كل ما تعلق به القلب من دون الله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياساتها، وصحبة الناس، والتعلق بهم.
ولا سبيل إلى قطعها إلا بقوة التعلق بالمطلوب الأعلى، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه.
وأما العوائق: فهي أنواع المخالفات التي تعوق القلب عن سيره إلى الله وهي ثلاثة: الشرك، والبدعة، والمعصية.
والإيمان مبني على أصلين:
أحدهما: تصديق الخبر عن الله ورسوله، وبذل الجهد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضته.
الثاني: طاعة أمر الله ورسوله، ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة.
فالشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده.
كما أن الأصلين الأولين: تصديق الخبر، وطاعة الأمر، أصل فلاح العبد وسعادته في معاشه ومعاده.
وكل عبد له قوتان:
الأولى: قوة الإدراك والنظر، وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام.
الثانية: قوة الإرادة والحب، وما يتبعهما من النية والعزم والعمل.
فالشبهات تؤثر فسادًا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها.
والشهوات تؤثر فسادًا في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها بإخراجها.
ومن تمام حكمة الله تعالى أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلاً، ولو تفرغت هذه النفوس لكانت أئمة تدعو إلى النار.
وهذا حال من تفرغ منها كما هو مشاهد بالعيان، فإن داء الأولين والآخرين أمران:(5/33)
اتباع الشهوات المانعة من متابعة الأمر.. والخوض بالشبهات المانعة من الانقياد للأمر.
وهذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق لنعيم الآخرة، ولا تزال ساعية في نيل شهواتها، فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل، فاحذر هؤلاء ومجالسهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 68].
ومن رزقه الله قلبًا سليمًا، رأى الحق حقًا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه.
فإذا رأى الناس متوكلين على تجارتهم، وصحة أبدانهم، توكل على الله: (ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الطلاق: 3].
وإذا رآهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق اشتغل بما لربه عليه، لعلمه أن رزقه سيأتيه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
وإذا رآهم يتحاسدون في دنياهم ترك ذلك لهم، لعلمه أن نصيبه من الرزق سيصل إليه، ولن يأخذه غيره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 32].
وإذا رأى الناس يطلبون العزة والمكانة عند المخلوق بالمال والجاه والمناصب، طلب المكانة عند ربه بالتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
وإذا رأى الناس يركضون وراء شهواتهم، أجهد نفسه في دفع الهوى حتى تستقر على طاعة الله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [النازعات: 40، 41].
وإذا رأى الخلق كل له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، جعل محبوبه حسناته التي لا تفارقه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [الكهف: 46].
9- صفات القلب السليم
قال الله تعالى: (? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الشعراء: 87-89].
وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ??) [الأنفال: 2، 3].
القلب السليم الذي ينجو من عذاب الله يوم القيامة، هو القلب الذي قد سلم من مرض الشهوات، وسلم من مرض الشبهات، الذي قد سلم لربه، وسلم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره، ولا معارضة لخبره.(5/34)
فهو سليم مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله عزَّ وجلَّ.
فالله وحده غايته.. وأمره وشرعه وسيلته.. لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره.. ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه.
ومتى كان قلب العبد كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من المعاصي، وسليم من الغي، وسليم من الباطل.
فالقلب السليم هو الذي سلم لعبودية ربه حبًا وخوفًا، ورجاءً وطمعًا، وسلم لأمره وسلم لرسوله تصديقًا وطاعة، واستسلم لقضاء الله وقدره، فلم يتهمه ولم ينازعه، ولم يتسخط لأقداره.
فأسلم لربه ومولاه انقيادًا وخضوعًا، وذلاً وعبودية.
وسلم جميع أحواله وأقواله، وأعماله الظاهرة والباطنة، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وسالم أولياء الله وحزبه المفلحين، الذابين عن دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والقائمين بها، والداعين إليها.
وعادى أعداءه المخالفين لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، الخارجين عنهما، الداعين إلى خلافهما.
والمؤمن حي، والكافر ميت، والميت لا يؤمر بصلاة ولا صيام حتى تنفخ فيه روح الإيمان، وإن كان سيحاسب على تركه الإيمان والأعمال يوم القيامة.
فإذا حيي قلبه بالإيمان، صار قابلاً ومستعدًا لقبول الأوامر والنواهي.
فالمؤمن حي، والحي إما صحيح، وإما مريض، فصاحب القلب السليم هو الصحيح، وصاحب القلب المريض هو السقيم.
والمرض قسمان:
مرض شبهة.. ومرض شهوة.
فالأول كما قال سبحانه عن المنافقين: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 10].
والثاني: كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 32].
وشفاء هذين المرضين في القرآن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 44].
ويحصل تأثر القلب بالقرآن أو بالمواعظ أو غيرها بأربعة أمور:
الأول: المؤثر كالقرآن مثلاً يسمعه أو يقرؤه.(5/35)
الثاني: المحل القابل، وهو القلب الحي الذي يعقل عن الله.
الثالث: وجود الشرط، وهو الإصغاء.
الرابع: انتفاء المانع، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب.
فإذا تمت هذه الشروط، حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر والاستقامة.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [ق: 37].
(? ? ? ?) هذا هو المؤثر.
(? ٹ ٹ ٹ) هذا هو المحل.
(ٹ ? ?) وهذا هو الشرط وهو الإصغاء.
(? ??) وهذا انتفاء المانع.
وقلب الإنسان له أربعة أبواب، وكلها تصب في القلب وهي:
اللسان.. والأذن.. والعين.. والدماغ.
فما يتكلم به اللسان يتأثر به القلب، فإذا تكلم بالإيمان، وتلاوة القرآن، تأثر بذلك قلبه، وزاد إيمانه.
والأذن باب إلى القلب، فإذا سمع كلمات الإيمان والقرآن تأثر بها قلبه، وزاد إيمانه.
والعين باب إلى القلب، فالنظر إلى المخلوقات، وعظيم صنع الباري يؤثر في القلب، وتعلم الإيمان بالنظر للكاملين في الإيمان، فكلما نظروا إلى المخلوق زاد إيمانهم بالخالق سبحانه.
أما ناقص الإيمان فينظر إلى المخلوق ويغرق فيه، فينقص إيمانه، لأنه اشتغل به ولم يتعداه إلى خالقه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101].
وكلما تفكر الدماغ في عظمة الله، وعظيم إحسانه، تأثر بذلك القلب، وزاد إيمانه.
والقلب السليم هو ما سلم من ستة أدواء:
فهو سليم من الشرك.. سليم من الجهل.. سليم من الكبر.. سليم من الغفلة.. سليم من حب الدنيا.. سليم من سيئ الأخلاق.
فهو قلب طاهر زكي، مملوء بالإيمان والتوحيد والعلم، والتواضع لربه، ولزوم ذكره، يحب الله والدار الآخرة، متجمل بمكارم الأخلاق.
فهذا القلب السليم إذا نظر الله إليه، - رضي الله عنه - وأحبه واجتباه، وأعانه على كل خير، ومنع عنه كل سوء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].(5/36)
وإذا تأكد المسلم من صحة قلبه وسلامته، فهو مطالب بالمحافظة عليه بما يحفظ عليه قوته بالإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية من المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي والمحرمات.
وإلى استفراغ المواد الفاسدة التي تعرض له بالتوبة النصوح والاستغفار، وإلى شغله بكل ما يورث القلب إيمانًا، ويزيده من العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، فكل ذلك أغذية له.
والقلب السليم: هو الذي سلم من الغل والحقد، والحسد والشح، وسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله.
فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، حيث كمال النعمة، وكمال النعيم، ورؤية المنعم جل جلاله.
ولا تتم سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء:
من شرك يناقض التوحيد.. ومن بدعة تخالف السنة.. ومن شهوة تخالف الأمر.. ومن غفلة تناقض الذكر.. ومن هوى يناقض التجريد.
وهذه الخمسة حجب عن الله، ولهذا اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم كل يوم، بل في كل صلاة، بل في كل ركعة.
والقلب يتعلق به أحكام من جهة خلقه وشكله.. ومن جهة الوارد عليه من الله، ومن النفس، والشيطان.. ومن جهة المطلوب منه من العبادة وطاعة الله ورسوله.
وخير القلوب ما كان داعيًا للخير ضابطًا له، وليس كالقلب القاسي الذي لا يقبله، فهذا قلب حجري، ولا كالمائع الأخرق الذي يقبل، ولكن لا يحفظ ولا يضبط.
والفرق بين سلامة القلب، والبله والتغفل:
أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته.. فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به.. وهذا بخلاف البله والغفلة.. فإنها جهل وقلة معرفة.. وهذا لا يحمد إذ هو نقص.
فالكمال أن يكون القلب عارفًا بالخير، مريدًا له، عارفًا بالشر، سليمًا من إرادته.(5/37)
وأصل أعمال القلوب المأمور بها:
الإيمان.. والإحسان.. والتقوى.. والتوكل.. والخوف.. والرجاء.. والإنابة.. والتسليم ونحوها.
وأصل ذلك كله الصدق، فكل عمل صالح ظاهر وباطن فمنشؤه الصدق، وأضداد ذلك من أعمال القلوب المنهي عنها هي:
الرياء.. والعجب.. والكبر.. والفخر.. والخيلاء.. والبطر.. والأشر.. والعجز.. والكسل.. والجبن، وغيرها.
وأصل ذلك كله الكذب، فكل عمل فاسد ظاهر وباطن فمنشؤه الكذب.
والله عزَّ وجلَّ يعاقب الكذاب، بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق، بأن يوفقه للقيام بمصالح دينه ودنياه وآخرته.
فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا استجلبت مضار الدنيا والآخرة ومفاسدهما بمثل الكذب.
ولهذا رغب الله عباده المؤمنين بالصدق، وأمرهم بلزوم أهل الصدق في القول والعمل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
ولهذا كان الصدق أساس البر، والكذب أساس الفجور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً. وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? كَذَّاباً» متفق عليه(1).
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، كما أفسد على اللسان أقواله.
فيعم الكذب أقواله، وأعماله، وأحواله.
فيستحكم عليه الفساد، ويترامى داؤه إلى الهلكة، إن لم يتداركه الله بدواء الصدق الذي يقلع تلك المادة من أصلها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 8].
10- فقه سكينة القلب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الفتح: 4].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094)، واللفظ له، ومسلم برقم (2607).(5/38)
وقال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الفتح: 18].
السكينة: هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف.
فلا ينزعج مما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات.
ولهذا أخبر الله عزَّ وجلَّ عن إنزالها على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار، والعدو فوق رؤوسهم، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار، وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم.
والسكينة اسم لثلاثة أشياء:
أولها: سكينة بني إسرائيل التي أعطوها في التابوت، ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا.
الثانية: التي تنطق عل لسان المحدثين، ليست شيئًا يملك، إنما هي شيء من لطائف صنع الحق، تلقى على لسان المحدث الحكمة.
فالسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح وخشعت، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو وكل باطل.
وربما ينطق من في قلبه السكينة بكلام لم يكن عن فكرة منه ولا روية، ويستغربه هو من نفسه.
وأكثر ما يكون هذا عند الحاجة، وصدق الرغبة من السائل والمجالس، وصدق الرغبة منه هو إلى الله، وحضرته مع تجرده من الأهواء.
الثالثة: السكينة التي نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين.
وهذه السكينة تشتمل على النور.. والقوة.. والروح.
فبالروح الذي فيها حياة القلب.. وبالنور الذي فيها استنارته وإشراقه.. وبالقوة ثباته وعزمه ونشاطه.
فالنور يكشف للعبد عن دلائل الإيمان، ويميز له بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشد.. والحياة توجب كمال يقظته وفطنته.. والقوة توجب له الصدق وصحة المعرفة.. وقهر داعي الغي.. وضبط النفس عن جزعها وهلعها.. واسترسالها في النقائص والعيوب.. ولكي يزداد بالسكينة إيمانًا مع إيمانه.(5/39)
والإيمان يثمر له النور والحياة والقوة، فإذا حصلت هذه الثلاثة بالسكينة، سكن إليها العاصي، وهو الذي سكونه إلى المعصية والمخالفة، لعدم سكينة الإيمان في قلبه، صار سكونه إليها عوض سكونه عن الشهوات والمخالفات.
فيجد في هذه السكينة مطلوبه، وهي اللذة التي كان يطلبها في المعصية، فإذا نزلت عليه السكينة اعتاض بلذتها وروحها ونعيمها عن لذة المعصية، وصارت لذته روحانية قلبية، بعد أن كانت لذته جسمانية بهيمية، وسكن خوفه، وذهب همه وغمه.
فالسكينة: هي طمأنينة القلب واستقراره.. وأصلها في القلب.. ويظهر أثرها على الجوارح.. والناس فيها متفاوتون:
فسكينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخص مراتبها وأعلاها، وذلك مثل السكينة التي نزلت على إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار التي أضرمها له أعداؤه.
فلله عظمة وطمأنينة تلك السكينة التي أنزلها الله على قلبه.
وكذلك السكينة التي حصلت لموسى صلى الله عليه وسلم وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم.
فلله ما ألذ تلك السكينة التي أنزلها الله على قلب موسى صلى الله عليه وسلم حين ضرب البحر، وحين عبر البحر، وحين رأى أعداءه يغرقون في البحر.
وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له عند الشجرة.
وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانًا مبينًا أمام فرعون وملئه.
وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال السحرة وعصيهم كأنها حيات تسعى، فأوجس في نفسه خيفة، ثم ألقى عصاه التي ابتلعت تلك العصي والحبال.
فلله عظمة تلك السكينة حين رأى فعل ربه بعدوه، ونصره لنبيه.
وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، وقد أشرف عليه أعداؤه، فصرفهم الله عنه.
فلله كم لذة تلك السكينة التي رأى فيها حفظ وليه من كيد أعدائه.(5/40)
وكذلك السكينة التي نزلت عليه صلى الله عليه وسلم في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به في يوم بدر، ويوم الخندق، ويوم حنين، وغيرها.
فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي آية عظيمة على صدق الأنبياء.
وأما سكينة أتباع الأنبياء، فتكون للمؤمنين بحسب متابعتهم، وهي سكينة الإيمان واليقين.
وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الفتح: 4].
ولما علم الله ما في قلوب المؤمنين من الاضطراب والقلق، وذلك حين منعتهم قريش من دخول بيت الله عام الحديبية، وعلم ما فيها من الإيمان والصدق والخير، وحب الله ورسوله ثبتها بالسكينة وأنزلها عليهم كما قال سبحانه: (کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الفتح: 18].
ومنها السكينة التي يجدها العبد عند القيام بوظائف العبودية، وهي التي تورث الخشوع والخضوع، وجمعية القلب على الله، بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه قانتًا لله عز وجل.
والخشوع نتيجة هذه السكينة، وثمرتها، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب.
والأسباب المؤدية إلى السكينة سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه.
وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة، والمحبة والخضوع، والخوف والرجاء، ما لا يحصل بدونها، فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصول أعمال القلوب وفروعها كلها في كلمة واحدة، وهي قوله: «الإحسان: أنْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، واللفظ له، ومسلم برقم (9).(5/41)
وكل عبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة، وعند الخطرات السيئة، ليثبت قلبه ولا يزيغ، وعند المخاوف ليثبت قلبه ويسكنه جأشه، وعند الفرح، لئلا يطمح به مركبه فيجاوز الحد، وعند هجوم الأسباب المؤلمة، لئلا ييأس ويقنط.
ولهذا أنزل الله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين في مواقع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة حينما أحاط المشركون بالغار، كما قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 40].
وكيوم حنين حين ولى المؤمنون مدبرين من شدة بأس الكفار، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 26].
وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوب المؤمنين من تحكم الكفار عليهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الفتح: 4].
وأما سكينة الوقار فهي نوع من السكينة، وسكينة الوقار كالضياء لتلك السكينة، كما يحصل الضياء عن الشمس.
وسكينة الوقار لها ثلاث درجات:
الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة رعاية وتعظيمًا وحضورًا، فالخشوع في العبادة يكون برعاية حقوقها الظاهرة والباطنة، وتعظيم الخدمة وإجلالها، وذلك تبع لتعظيم المعبود وإجلاله ووقاره.
فعلى قدر تعظيمه في قلب العبد وإجلاله، يكون تعظيمه لخدمته وإجلاله ورعايته لها.
وحضور القلب فيها بمشاهدة المعبود كأنه يراه، ويتقدم من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان كما قال سبحانه: (ےے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16].
الثانية: السكينة عند المعاملة:
وتحصل بمحاسبة النفس، وملاطفة الخلق، ومراقبة الحق سبحانه.
فمحاسبة النفس حتى تعرف ما لها وما عليها، وزكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها.(5/42)
وبمحاسبة النفس، يطلع على عيوبها ونقائصها، فيمكنه السعي في إصلاحها. وملاطفة الخلق بمعاملتهم بما يحب أن يعاملوه به من اللطف، ولا يعاملهم بالعنف والشدة والغلظة، فإن ذلك ينفرهم عنه، ويغريهم به، ويفسد عليه قلبه ووقته وحاله مع الله.
فليس للقلب شيء أنفع من معاملة الناس باللطف واللين، والحلم والرحمة.
فإن معاملة الناس بذلك ثمرته:
إما أجنبي تكسب مودته ومحبته.. وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته.. وإما عدو ومبغض فتطفئ بلطفك جمرته وتستكفي شره.
أما مراقبة الله سبحانه، فهي الموجبة لكل صلاح، وخير عاجل أو آجل، ومراقبة الحق سبحانه توجب إصلاح النفس، واللطف بالخلق.
الثالثة: السكينة التي تثبت الرضا بالقسم، وتمنع من الشطح، وتوقف صاحبها عند حده من رتبة العبودية.
فهذه الرتبة توجب لصاحبها أن يرضى بالمقسوم، ولا تتطلع نفسه إلى غيره، وهي من أعظم مواهب الحق جل وعلا، ومن أجلّ عطاياه.
ولهذا لم يجعلها الله في القرآن إلا لرسوله وللمؤمنين، والسكينة كأنها رداء ينزل، فيثبت القلوب الطائرة، ويهدئ الانفعالات الثائرة.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.. وصرفها في طاعتك.. واهدنا لأحسن الأقوال والأعمال.. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
11- فقه طمأنينة القلب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الفجر: 27، 28].
الطمأنينة: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه.
فالصدق مثلاً يطمئن إليه قلب السامع، والكذب يوجب له اضطرابًا وارتيابًا.
وذكر الله هو القرآن، وبه تحصل طمأنينة القلوب، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن.
والفرق بين السكينة والطمأنينة:
أن الطمأنينة: سكون القلب مع قوة الأمن، والسكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان، فيسكن القلب في بعض الأوقات.(5/43)
أما سكون أهل الطمأنينة فهو دائم، ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس.
والطمأنينة أعم، فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم، ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن، لما حصل لها الإيمان به.
وأما السكينة فهي ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه، وزوال قلقه واضطرابه.
والطمأنينة على ثلاث درجات:
الأولى: طمأنينة القلب بذكر الله عزَّ وجلَّ، وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء، فالخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به، وأراد الله عزَّ وجلَّ أن يريحه ويحمل عنه، أنزل عليه السكينة، فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به.
وطمأنينة الضجر إلى الحكم، فإن من أدركه الضجر من قوة التكاليف، وأعياه الأمر، لا سيما من يقوم بدعوة الناس إلى الخير وتعليمهم، وجهاد أعداء الله ونحو ذلك، فلا بدَّ أن يدركه الضجر، ويضعف صبره.
فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه، أنزل الله عليه سكينته، فاطمأن إلى حكمه الديني، وحكمه القدري.
وبحسب مشاهدة العبد لهما تكون طمأنينته وراحته، بل لذته.
فإذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق، وهو صراطه المستقيم، وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم.
وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني، علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف الإيمان واليقين.
فكل محذور، وكل مخوف، إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه، وإن قُدر فلا سبيل إلى صرفه، بعد أن أبرم تقديره العليم القدير.
وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة، فإن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه، واطمأن قلبه بمشاهدة العوض.
وإنما يشتد عليه البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب على البلاء.
وقد تقوى ملاحظة الثواب حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمه، كالدواء الكريه يلتذ به لملاحظة نفعه.(5/44)
الثانية: طمأنينة الروح إلى الطريق الموصل إلى المطلوب، ومعرفة عيوب النفس، وآفات الأعمال، ومعرفة المطلوب المقصود بالسير، وهو معرفة الأسماء والصفات، والإيمان والتوحيد.
فتسكن النفس لذلك، وتطمئن إليه، كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام، ويسكن إليه قلبه.
الثالثة: طمأنينة القلب إلى لطف الله عند شهوده ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلولا الطمأنينة لمحقه الشهود، فقد خرَّ موسى صلى الله عليه وسلم صعقًا لمّا تجلّى ربُّه للجبل.
وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه، وكذلك القلب السليم يرى الحق سبحانه وحده قائمًا بذاته، ويرى كل شيء قائمًا به.
والله عزَّ وجلَّ قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان.
والطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده، تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه، يسمع به، ويبصر به، ويتحرك به، ويبطش به.
فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله، وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى الله، ويلين جلده ومفاصله وقلبه إلى خدمته والتقرب إليه.
ولا يحصل ذلك إلا بالله وبذكره، وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة:
أن تطمئن في باب معرفة أسماء الله وصفاته إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله.
فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان، وانشراح الصدر له، وفرح القلب به، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب، حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي، بشاشة قلبه.
فيطمئن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه، حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فلا يبالي بعد ذلك بأي مخالف، فهذه أول درجات الطمأنينة.(5/45)
ثم لا يزال يقوى كلما سمع آية متضمنة لصفة من صفات ربه، فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان، التي قام عليها بناؤه.
ثم يطمئن إلى خبره بما بعد الموت من أمور البرزخ، وما بعدها من أهوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانًا.
وهذا حقيقة اليقين الذي وصف الله به أهل الإيمان بقوله: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 4].
فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله به عنها.
والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان:
طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها واعتقادها.. وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من أثار العبودية.
فالطمأنينة إلى القدر وإثباته والإيمان به، يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها، فيسلم لها ويرضى بها، ولا يسخط ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه.
فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه ربه، لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التغابن: 11].
وهكذا سائر الصفات كالسمع والبصر، والمحبة والعلم، والرضا والغضب، فهذه طمأنينة الإيمان.
وأما طمأنينة الإحسان: فهي الطمأنينة إلى أمر الله امتثالاً وإخلاصًا ونصحًا، فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدًا، فلا يسكن إلى شبهة تعارض خبره، ولا إلى شهوة تعارض أمره.
وعلامات هذه الطمأنينة:
أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها، إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها، وكل عاصٍ في قلبه الخوف والقلق، ولكن سكر الشهوة والغفلة يواري عنه ذلك الخوف والقلق.
ولكل شهوة سكر يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب.
وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض، إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره، وتعلق الروح بحبه ومعرفته.
وإذا اطمأنت النفس وترحلت من الشك إلى اليقين.. ومن الجهل إلى العلم.. ومن الغفلة إلى الذكر.. فقد باشرت روح الطمأنينة.(5/46)
وأصل ذلك كله ومنشؤه من اليقظة، فهي أول مفاتيح الخير، فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه، والتزود لمعاده، بمنزلة النائم، بل أسوأ حالاً منه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 179].
اللهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [آل عمران: 53].
12- فقه سرور القلب
قال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [يونس: 58].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 170].
الله عزَّ وجلَّ أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته، وذلك تابع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة.
فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم، محسن بر، يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى.
والفرح: لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، والسلامة من المكروه.
فيتولد من ذلك حالة تسمى الفرح والسرور.
كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب، وحصول المكروه، فيتولد من ذلك حالة تسمى الحزن والغم.
ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة، وشفاء الصدور من أدواء الجهل والظلم، والغي والسفه، وهو أشد ألمًا لها من أدواء البدن، ويشتد ألمها به عند مفارقة الدنيا، فهناك يحضرها كل مؤلم محزن. وما آتاها من ربها من الهدى، الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها.
فهذا ليس بموضع فرح، لأنه عرضة للآفات، ووشيك الزوال.
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين:
فرح مطلق.. وفرح مقيد.
فالمطلق جاء في الذم كقوله سبحانه عن قارون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 76].
والمقيد نوعان:
الأول: فرح مقيد بالدنيا، ينسي صاحبه فضل الله ورحمته فهو مذموم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 44].(5/47)
الثاني: فرح مقيد بفضل الله ورحمته، فهو محمود كالفرح بالله ورسوله، والفرح بالإيمان والسنة والقرآن كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
والفرق بين الفرح والاستبشار، أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله، والاستبشار يكون بالمحبوب قبل حصوله، إذا كان على ثقة من حصوله كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 170].
فالفرح أعلى وأعظم نعيم القلب ولذته وبهجته، والفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه.
والسرور: اسم لاستبشار جامع يظهر أثره على الوجه، فإنه تبرق منه أسارير الوجه.
والاستبشار: مأخوذ من البشرى، والبشارة: أول خبر صادق سار، سميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه بالنور والسرور.
والبشرى نوعان:
بشرى سارة.. وبشرى محزنة.
فالأولى: تكسب الوجه نضرة وبهجة.
والثانية: تكسبه سوادًا، وعبوسًا.
والبشرى إذا أطلقت كانت للسرور، وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به من الأحوال.
والسرور على ثلاث مراتب:
الأولى: سرور ذوق طعم الإيمان، والإقبال على الله، والأنس به، وحلاوة مناجاته، والتلذذ بعبادته.
ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الالتجاء إليه، والفرار منه إليه.
وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، والتسليم لقضائه وقدره، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره.
الثانية: سرور شهود العبد آلاء ربه ونعمه، وجماله وجلاله، فيقبل على الطاعات مسرورًا، لأنه يراها غذاءً لقلبه، وسرورًا له، وقرة عين في حقه، ونعيمًا لروحه، يلتذ بها، ويتنعم بملابستها، أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب.
فاللذات القلبية الروحانية أقوى وأتم من اللذات الجسمية، فلا يجد في العبادات كلفة، بل يسر بها، ويتلذذ بتكرارها والإكثار منها.(5/48)
الثالثة: سرور سماع الإجابة، وهو سماع انقياد القلب والروح والجوارح لما سمعته الآذان، ويزيل بقايا الوحشة التي سببها ترك الانقياد التام.
وهو إذا دعا ربه سبحانه فسمع ربه دعاءه سماع إجابة، وأعطاه ما سأله أو أعطاه خيرًا منه، حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد.
فللعطاء والإجابة سرور وأنس وحلاوة في قلب العبد.
وللمنع وحشة ومرارة وضيق.
والفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته، ولا لذة له ولا سرور إلا بأن يكون ربه معبوده ومحبوبه ومطلوبه.
والفرح بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذة وبهجة وسرور، فكل فرح راضٍ، وليس كل راضٍ فرحًا.
والفرح صفة كمال، ولهذا يوصف الرب جل جلاله بأعلى أنواعه وأكملها، كفرحه سبحانه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته، التي عليها طعامه وشرابه، في الأرض المهلكة، بعد فقده لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه(1).
والفرق بين فرح القلب، وفرح النفس ظاهر.
فإن الفرح بالله ومعرفته ومحبته ومحبة كلامه ودينه من القلب كما قال الله سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
فهذا فرح القلب وهو من الإيمان، ويثاب عليه العبد.
والفرح يكون على قدر المحبة.. وعلى قدر المعرفة.
فالفرح بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنته وكلامه محض الإيمان وصفوته ولبه، وله عبودية عجيبة، وأثر في القلب لا يعبر عنه، والفرح بذلك أفضل ما يعطاه العبد، بل هو أجلّ عطاياه.
والفرح في الآخرة بالله ولقائه، بحسب الفرح به، ومحبته في الدنيا.
فهذا شأن فرح القلب.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747)، واللفظ له.(5/49)
وله فرح آخر، وهو فرحه بما من الله به عليه من معاملته، والإخلاص له، والتوكل عليه، والثقة به، وحسن عبادته.
وله فرحة أخرى عظيمة الشأن، وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة، فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة.
وسر هذا الفرح، إنما يعلمه من علم سر فرح الرب تعالى بتوبة عبده أشد من فرح العبد الذي أضل راحلته في أرض فلاة ثم وجدها.
وفوق ذلك فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل الله إليه الملائكة فبشروه بلقائه، وقال له ملك الموت: أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فترجع الروح الطيبة إلى ربها راضية مرضية: (? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?? ? ??) [الفجر: 27-30].
ومن بعدها أنواع من الفرح:
منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، وفتح أبواب السماء لها، وصلاة ملائكة السماء عليها، وكيف يقدر فرحها، وقد استؤذن لها على ربها ووليها فوقفت بين يديه، وأذن لها بالسجود فسجدت.
ثم يذهب إلى الجنة فيرى مقعده فيها، وما أعد الله له، ويلقى أهله وأصحابه فيستبشرون به ويفرحون.
وهذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد: بجلوس المؤمن في ظل العرش.. وشربه من الحوض.. وأخذه كتابه بيمينه.. وثقل ميزانه.. وبياض وجهه.. وإعطائه النور التام.. وقطعه جسر جهنم.. وانتهائه إلى باب الجنة.
وقد أزلفت له في الموقف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [ق: 31].
وتلقاه خزنتها بالسلام والترحيب والبشارة والإكرام.
وقدومه عل منازله وقصوره وأزواجه.
والنعيم الذي لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
فلله ما أعظم هذا النعيم، وما أشد فرح العبد به.. وما أخسر من أضاعه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يقدر قدره، تتلاشى هذه الأفراح والمسرات عنده، وهو رؤية المؤمنين لربهم، وسلامه عليهم، ورضاه عنهم، وتكليمه إياهم كما قال سبحانه: (پ ? ?? ? ? ??) [القيامة: 22، 23].(5/50)
13- فقه خشوع القلب
قال الله تعالى: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16].
وقال الله تعالى: (? ? ?? ? پ پ پ پ?) [المؤمنون: 1، 2].
الله تبارك وتعالى هو الواحد القهار، ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي خضعت رقاب العباد لعظمته، وخشعت الأصوات لهيبته، وذل الأقوياء لعزته، وافتقرت جميع الخلائق إليه.
والخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل.
ومحله القلب، وثمرته على الجوارح، فإن حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، والكمال الخارجي ثمرة الكمال الداخلي.
فالخشوع معنى يلتئم من:
التعظيم للرب.. والمحبة له.. والذل له.. والانكسار بين يديه.
والخشوع أربعة أنواع:
الأول: اتضاع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها، وهو مقام الرب على عبده بالإطلاع والقدرة والربوبية، فخوفه من هذا المقام يوجب له خشوع القلب لا محالة، وكلما كان أشد استحضارًا لعظمة الرب وجلاله وجماله وإحسانه كان أشد خشوعًا.
الثاني: التذلل للأمر، بتلقيه بذلة القبول والانقياد والامتثال، مع إظهار الضعف والافتقار إلى الهداية للأمر قبل الفعل، والإعانة عليه حال الفعل، وقبوله بعد الفعل.
والاستسلام للحكم القدري، بعدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض.
الثالث: ترقب آفات النفس وآفات العمل، وذلك بانتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما لك.
فذلك يجعل القلب خاشعًا لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما، من الكبر والعجب والرياء، وقلة اليقين، وتشتت النية، وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك، ورؤية فضل كل ذي فضل عليك.
وذلك بأداء حقوق الناس، وعدم مطالبتهم بحقوق نفسك، وتعترف بفضلهم، وتنسى فضل نفسك عليهم.(5/51)
الرابع: ضبط النفس بالذل والانكسار عن البسط والإدلال الذي تقتضيه المكاشفة، وأن يخفى أحواله عن الخلق جهده، كخشوعه وذله وانكساره، لئلا يراها الناس، فيعجبه اطلاعهم عليها، ورؤيتهم لها، فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل.
وأن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله، فهو المانّ به بلا سبب منك. والشهقة التي تعرض أحيانًا عند سماع القرآن أو عند ذكر الله لها أسباب منها:
أن يلوح له عند سماع القرآن والذكر درجة ليست له فيرتاح لها، فيشهق، فهذه شهقة شوق.
أو يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفًا، فهذه شهقة خشية.
أو يلوح له نقص في العمل لا يقدر على دفعه فيحدث حزنًا، فيشهق شهقة حزن.
أو يلوح له كمال محبوبه، ويرى الطريق إليه مسدودة، فيشهق شهقة أسف.
أو يذكره ذلك بمحبوبه، ويرى الطريق إليه مفتوحًا، فيشهق شهقة فرح وسرور.
أو يذكره ذلك جلال ربه وجماله، وإحسانه وإكرامه، فيرى الخلائق كلها تحت قهره، مدينين لفضله وإحسانه، فيشهق لما يرى من كمال عظمة الرب، وجميل إحسانه إلى عباده: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16].
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم، واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله.
فبعث إليها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها، وأنزل عليها الآيات البينات، ليخرجها من الظلمات إلى النور.
وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر.
إنه عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الله من الخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال.(5/52)
وإلى جانب الحض والاستبطاء، تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين، حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق.
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16].
إن القلب البشري سريع التقلب، كثير النسيان، وفيه نور الفطرة، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وأظلم وأعتم، فلا بدَّ من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع.
ولا بدَّ من الطرق عليه حتى يشف ويرق، ولا بدَّ من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولكن لا بأس من قلب خمد وجمد، وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله.
فالله عزَّ وجلَّ يحيي الأرض بعد موتها، فتزخر بالنبات والأزهار، وتخرج الحبوب والثمار، وتصبح الأرض مخضرة بعد أن كانت مغبرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 5].
وكذلك القلوب حين يشاء الله، وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب بالإيمان، كما تحيا الأرض بالماء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 17].
والذي أحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم.
والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر، قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحق على رسوله.
فمتى يجيء الوقت الذي تلين فيه القلوب، وتخشع لذكر الله الذي هو القرآن؟.. ومتى تنقاد لأوامره وزواجره؟.
ومتى يخشع القلب لربه، وما أنزله من الكتاب والحكمة؟.
ومتى نترقى من سمعنا وعصينا إلى سمعنا وأطعنا؟. ونقدم أوامر الرب على محبوبات النفس؟.. ونؤثر الحياة العالية على الشهوات الفانية؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 51](5/53)
ألا ما أحوج القلوب في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة والموعظة، لئلا تحصل لها الغفلة والقسوة وجمود العين: (? ? ? ? ??) [ق: 45].
14- فقه حياء القلب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ??) [العلق: 14].
وقال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [النساء: 1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إلهّ إلاّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ » أخرجه مسلم(1).
الحياء: رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء.
والحياء خلق عظيم لا يأتي إلا بخير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرف في وجهه صلى الله عليه وسلم .
وحقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في الطاعات والمحاسن، يتولد من امتزاج التعظيم بالمودة.
وعلى حسب قوة حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح.
ومن استحى من الله مطيعًا، استحى الله منه وهو مذنب، لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه ما يشينه عنده.
والحياء خلق جميل، خص الله به الإنسان دون جميع الحيوان.
وهو أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا.
بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة.
ولولا خلق الحياء لم يقر الضيف.. ولم يوف بالعهد.. ولم تؤد أمانة.. ولم تقضَ لأحد حاجة.. ولا ستر له عورة.. ولا آثر الجميل على القبيح من الأقوال والأعمال.. ولا امتنع من فاحشة.
وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئًا من الأمور المفروضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقًا، ولم يصل له رحمًا، ولا بر له والدًا.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (35).(5/54)
فإن الباعث على هذه الخصال الحميدة:
إما ديني: وهو رجاء عاقبتها الحميدة.
وإما دنيوي علوي: وهو حياء فاعلها من الخلق.
فلولا الحياء إما من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» أخرجه البخاري(1).
فالرادع عن فعل القبيح إنما هو الحياء، فمن لم يستح فإنه يصنع ما يشاء، ولكل إنسان آمران وزاجران:
آمر وزاجر من جهة الحياء.. وآمر وزاجر من جهة الهوى والطبيعة.
فمن لم يطع آمر الحياء وزاجره، أطاع آمر الهوى والشهوة كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [مريم: 59].
وحياء البشر على عشرة أوجه:
حياء جناية.. وحياء تقصير.. وحياء إجلال.. وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه.. وحياء كرم.. وحياء حشمة.. وحياء استصغار للنفس واحتقار لها.. وحياء محبة.. وهو حياء المحب من محبوبه.
وحياء عبودية.. وهو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده سبحانه، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.
وحياء الشرف والعزة.. وهو حياء النفس العظيمة الكبيرة، إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء أو إحسان، فإنه يستحي مع بذله حياء شرف نفس وعزة.
وحياء المرء من نفسه.. وهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيًا من نفسه.
وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحى من نفسه، فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
والحياء على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: حياء يتولد من علم العبد بنظر الحق إليه، وذلك يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة، ويحمله على استقباح الجناية، وأرفع منه درجة الاستقباح الحاصل عن المحبة، فاستقباح المحب أتم من استقباح الخائف.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3484).(5/55)
وهذا الحياء يكف العبد أن يشتكي لغير الله، فيكون قد شكى الله إلى خلقه.
الثانية: حياء يتولد من النظر في علم القرب من الله، فيدعوه إلى ركوب المحبة، والله قريب من أوليائه وأهل طاعته، وكلما ازداد العبد حبًا ازداد قربًا.
والقرب نوعان:
قربه سبحانه من داعيه بالإجابة.. وقربه من عابده بالإثابة، وهؤلاء هم أهل طاعته.
فالأول: كقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].
والثاني: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم(1).
الثالثة: حياء يتولد من انجذاب الروح والقلب من الكائنات، وعكوفه على رب البريات، فهو في حضرة قربه مشاهدًا لربه، وإذا وصل القلب إليه غشيته الهيبة والإجلال لمولاه.
فلا يخطر بباله في تلك الحال سوى الله وحده، فهو سبحانه ليس له غاية ولا نهاية لا في وجوده، ولا في مزيد جوده.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء.. وهو الآخر الذي ليس بعده شيء.. ولا نهاية لحمده وعطائه.. ولا نهاية لعظمته وجلاله.
وكلما ازداد العبد شكرًا زاده الله فضلاً، وكلما ازداد له طاعة زاده لمجده وكرمه مثوبة.
وأهل الجنة في مزيد دائم بلا انتهاء، فإن نعيمهم متصل بمن لا نهاية لفضله ولا لعطائه، ولا لمزيده ولا لأوصافه، فتبارك الله رب العالمين، الرزاق ذو القوة المتين: (ے ? ? ? ? ? ??) [ص: 54].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل.. ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
15- أسباب مرض القلب والبدن
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 31].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 179].
مرض البدن: خروجه عن اعتداله الطبيعي لفساد يعرض له، يفسد به إدراكه، وحركته الطبيعية.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (482).(5/56)
فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في الآلات، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًا، والطيب خبيثًا.
وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة، أو الجاذبة.
فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، وسبب هذا الخروج عن الاعتدال:
إما فساد في الكمية.. وإما فساد في الكيفية.
فالأول: إما لنقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما لزيادة فيها فيحتاج إلى نقصها.
والثاني: إما بزيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، أو نقصانها عن القدر الطبيعي.
فيداوى بمقتضى ذلك.
والصحة تقوم على ثلاثة أصول:
حفظ القوة.. والحمية عن المؤذي.. واستفراغ المواد الفاسدة.
ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة.
وإذا عُرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته.. وهو الإيمان والطاعات.
ومحتاج إلى حمية من الضار المؤذي.. وذلك باجتناب الآثام والمعاصي.. وأنواع المخالفات.
ومحتاج إلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح ولزوم الاستغفار.
ومرض القلب: هو نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره للحق، وإرادته له، فلا يرى الحق حقًا، أو يراه خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له.
فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له وهو الغالب.
ولما كان البدن المريض، يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، من يسير الحر والبرد والحركة، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة، وحتى لا يقوى على دفعها إذا وردا عليه.
والقلب الصحيح يطرقه أضعاف ذلك فيدفعه بقوته وصحته.
وإذا أظلم القلب رأى المخلوق يفعل، وإذا استنار القلب بالإيمان رأى الفاعل الحقيقي هو الله وحده.
وبقدر قوة اليقين على عظمة الله، تكون قوة الإيمان، ثم تكون قوة الأعمال، ثم حصول البركات.
وأعظم أسباب مرض القلب هي:(5/57)
الغفلة عن الله.. والغفلة عن أوامر الله.. والغفلة عن اليوم الآخر.
فالغفلة عن الله سببها قلة ذكره، وتعلق القلب بغيره من المحبوبات.
والغفلة عن أوامر الله سببها عدم الرغبة فيها، وإيثار الشهوات عليها، وتعلق القلب بالهوى والشيطان.
والغفلة عن اليوم الآخر سببها قلة المذكر بالموت والحشر، والجنة والنار.
وإذا تمت الغفلة بأركانها الثلاثة.. ثقلت على العبد الطاعات.. وشمرت النفس للمعاصي.. وآثرت الدنيا على الآخرة.. وقدمت الشهوات على أوامر الله.. وتجاوزت العدل إلى الإسراف.. وقدمت مراد النفس على مراد الرب كما قال سبحانه: (ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [مريم: 59].
فغذاء البدن بالطيبات، وغذاء القلب بالإيمان والأعمال الصالحة.
ولما كانت أعمال القلب، وأعمال البدن مستمرة، فلا بدَّ من الغذاء اليومي لهما.
فالبدن يصح على أكل الطيبات.. ويعتل يأكل الخبائث.
فكذلك القلب يزكو ويصح بمعرفة الطيب من القول.. وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته.. ومعرفة جلاله وعظمته.. ومعرفة نعمه وآلائه.. ومعرفة وعده ووعيده.. ومعرفة دينه وشرعه.
ويفسد القلب بالجهل بذلك، واتباع الهوى، وطاعة الشيطان، والإعراض عن الله ورسوله ودينه.
16- مفسدات القلب
قال الله تعالى: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الإسراء: 22].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 25].
مفسدات القلوب كثيرة ويجمعها خمسة أمور:
الأول: كثرة مخالطة الناس:
فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، يوجب له تشتتًا وتفرقًا، وهمًا وغمًا، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عن مصالحه بهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم ومجالسهم.
فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟.
وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة؟.(5/58)
وكل المشتركين في تحصيل غرض، يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض، أعقب ندامة وحزنًا، وانقلبت تلك المودة بغضًا، ولعنة من بعضهم لبعض إلا ما شاء الله.
ومحكم القول في أمر الخلطة:
أن يخالط الإنسان الخلق في الخير كالجمعة والجماعة.. والأعياد والحج.. والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والعلم والجهاد.. والنصيحة وبذل المعروف.. ويعتزلهم في الشر.. وفضول المباحات.
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، فليحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه، والصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة.
وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس إلى مجلس طاعة لله إن أمكنه، فإن عجز عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين.
وليكن فيهم حاضرًا غائبًا، قريبًا بعيدًا، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم، ورقى به إلى الملأ الأعلى، مع الأرواح العلوية الزكية، ولا ينال هذا إلا بتوفيق الله وعونه.
المفسد الثاني: ركوبه بحر التمني.
وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، والخيالات، والأماني الكاذبة، وتلك بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية.
والناس متفاوتون في ذلك، وكل بحسب حاله:
فمِن متمَنٍّ للقدرة والسلطان.. وللضرب في الأرض.. والتطواف في البلدان.. أو متمنٍّ للأموال والأثمان.. أو للنسوة والمردان.. أو للعب واللهو.. أو للشهوات واللذات.
وصاحب الهمة العالية، أمانيه تحوم حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويكون سبباً للفوز بالجنة.
فالقلوب جوالة منها ما يطوف حول العرش.. ومنها ما يطوف حول الحش.
والذي يتمنى الخير، ربما جعل الله أجره كأجر فاعله، كالقائل: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان الذي يتقى الله في ماله، ويصل فيه رحمه.(5/59)
وكما تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون متمتعًا وقد قرن، فأعطاه الله ثواب القران بفعله، وثواب التمتع الذي تمناه بأمنيته، فجمع له بين الأجرين، والله غني كريم.
الثالث: التعلق بغير الله تبارك وتعالى.
وهذا أعظم مفسدات القلب على الإطلاق.. فليس عليه أضر من ذلك.. ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه.. فليحذره العبد.
فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عزَّ وجلَّ بتعلقه بغيره، والتفاته إلى ما سواه.
فهو لا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل.
فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله.
وأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها التعلق بغير الله، وصاحب ذلك مذموم مخذول كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الإسراء: 22].
الرابع: الطعام.
والمفسد للقلب من الطعام نوعان:
أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات وهي نوعان:
محرم لحق الله كالميتة والدم ولحم الخنزير، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
ومحرم لحق العباد كالمسروق والمغصوب والمنهوب، وما أخذ بغير رضا صاحبه، إما قهرًا، وإما حيلة.
الثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حده كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يشغله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤونة البطنة حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها، شغله بمزاولة تصريفها والتأذي بثقلها، وقوي عليه مواد الشهوة، ووسع عليه طرق مجاري الشيطان، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فكثرة الأكل يوسع طرق الشيطان في الإنسان، والصوم يضيق مجاريه، ويسد عليه طرقه.
الخامس: كثرة النوم:
فكثرة النوم تميت القلب، وتثقل البدن، وتضيع الأوقات، وتورث كثرة الغفلة والكسل.
والنوم درجات، فمنه المكروه جدًا، ومنه الضار غير النافع للبدن.
وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أنفع وأحمد من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه.(5/60)
وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر، والنوم أول النهار إلا لسهران.
ويكره النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، ووقت نزول الأرزاق والبركات، وأول النهار ومفتاحه، ومنه ينشأ النهار.
وأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات.
وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه، أو نقص منه، أثر عندهم في الطبيعة.
ومن النوم الذي لا ينفع، النوم أول الليل عقيب غروب الشمس، وهو مكروه شرعًا وطبعًا.
وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجره مورث لآفات عظام، من سوء المزاج ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضًا متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل.
وشياطين الإنس والجن يقتحمون النفس البشرية بسلاحين:
أحدهما: سلاح الشهوات، لإفساد سلوكه فيغوى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [مريم: 59].
الثاني: سلاح الشبهات، لإفساد فكره فيضل: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 7].
وقد حث الله المؤمنين على مجاهدة هؤلاء الأعداء بسلاحين أمضى وأقوى:
أحدهما: سلاح الصبر، وبه يجتث شجرة الشهوات والأهواء.
الثاني: اليقين الذي يحطم الشبهات والأوهام كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
والذنوب والخطايا، والمعاصي والسيئات، توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه.
فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.
ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، وضعف عن الطاعة.
والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.
فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا.
فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان.(5/61)
وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان، وصلاح القلب ونعيمه وحياته لا يتم إلا بهذا.. وهذا كما قال الله تبارك وتعالى: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 222].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه(1).
وهذا يدل على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما.
وكما أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، فكذلك الذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه.
فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، وخروجهما فيه راحة البدن والقلب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» متفق عليه(2).
فالماء والغسل لإزالة الأوساخ والأدران عن البدن، والتوبة والاستغفار لإزالة الآثام والذنوب التي تراكمت على القلب.
فالأول به جمال الظاهر، والثاني به جمال الباطن والظاهر.
17- مداخل الشيطان إلى القلب
قال الله تعالى: (چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الأعراف: 16، 17].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 120، 121].
سبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكًا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا.
واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقًا، والذي يتهيأ به لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانًا.
والملك عبارة عن خلق خلقه الله من نور، شأنه إفاضة الخير، وإفادة العلم، وكشف الحق، والوعد بالخير، وكمال الطاعة، والأمر بالمعروف، وقد خلقه الله وسخره لذلك.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (142)، ومسلم برقم (375).(5/62)
والشيطان عبارة عن خلق خلقه الله من نار، وشأنه ضد عمل الملك، فعمله الوعد بالشر، والأمر بالفحشاء والمنكر، والتخويف عند الهم بالخير بالفقر، وإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والأمر بالسوء، وتزيين المعاصي للعباد، وهو عدو بني آدم قاطبة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [فاطر: 6].
والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك.. ولقبول آثار الشيطان.. صلاحًا متساويًا.
ويترجح أحد الجانبين على الآخر باتباع الهوى، والانغماس في الشهوات، أو الإعراض عنها ومخالفتها.
فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة، ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى، وصار القلب عش الشيطان ومعدنه، لأن الهوى مرعى الشيطان ومرتعه.
وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه، وتشبه بأخلاق الملائكة، صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم.
ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى، وجد الشيطان مجالاً فوسوس.
ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان، وضاق مجاله، وأقبل الملك، وألهم فعل الخير.
والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين دائم، إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن، ويكون اجتياز الثاني اختلاسًا.
ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به، لأنه إذا خطر في القلب شيء، انعدم منه ما كان فيه من قبل.
فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه، لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه.
وأن يعرف سلاح عدوه، ليدفعه عن نفسه، وسلاح الشيطان الهوى والشهوات، وذلك كافٍ للعالمين.
فالقلب كالحصن، والشيطان عدو يريد أن يقتحم الحصن ويدخله، فيملكه ويستولي عليه.
ولا يقدر الإنسان على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله، ومواضع ثلمه.
فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة، فالغضب غول العقل، وإذا ضعف جند العقل، هجم جند الشيطان، فأفسد القصر ومن فيه.
ومهما غضب الإنسان، لعب الشيطان به، وفجر شهواته فيما يغضب الله.(5/63)
ومن أبوابه العظيمة: الحسد والحرص، فمهما كان الإنسان حريصًا على كل شيء، أعماه حرصه، وأصمه عن الإيمان، وأقعده عن الطاعات، وزين له الكفر والفسوق والعصيان.
ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس، وإذا غلب عليه الطمع زين له الشيطان، وحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس، حتى يصير المطموع فيه معبوده، فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه ولو على حساب دينه.
ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير، وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب والعقار والأشياء.
فكل ما يزيد على قدر القوت والحاجة، فهو مستقر الشيطان، فإن من معه قوته فهو فارغ القلب.
فلو وجد مائة دينار مثلاً على طريق، انبعث من قلبه عشر شهوات، تحتاج كل شهوة إلى مائة دينار أخرى، فلا يكفيه ما وجد، فيزيد في الطلب، ويزيد في الإنفاق، وذلك أمر لا آخر له.
ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، حتى يقع فيما لا يحمد عقباه.
ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوف الفقر، ليمنع به الصدقات والزكوات والإحسان إلى العباد، لتكثر الجرائم والسرقات.
ومن آفات البخل: الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال، والأسواق مسرح الشياطين، تزين لأهلها الكذب والغش والاحتيال.
ومن أبوابه العظيمة: حب التزين في الأثاث والثياب، والمراكب والمساكن.
فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالبًا على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيينها وتوسيعها، ويدعوه إلى التزين بالثياب والدواب والمراكب، وتجديد الأواني والأثاث، ويستسخره فيها طول عمره، ويشغله بها عما خلق له، من طاعة الله وعبادته والدعوة إليه.
ولا يزال يغريه ويزين له، حتى ينقله من صف المحسنين المتقين إلى صف المسرفين والمبذرين والمترفين.
ومن أبوابه المهلكة: التعصب للمذاهب والقبائل والأهواء والأشخاص، والحقد على الخصوم، والنظر إليهم بعين الازدراء والاستخفاف والاحتقار.(5/64)
وذلك مما يهلك العباد والفساق جميعًا.
فالطعن في الناس، والاشتغال بذكر عيوبهم ونقصهم، وأكل لحومهم، من صفات السباع المهلكة.
ومن أبوابه كذلك سوء الظن بالمسلمين، فيغريه الشيطان بغيبته فيهلك، ويقصر في القيام بحقه، أو يتوانى في إكرامه، وينظر إليه بعين الاحتقار، ويرى نفسه خيرًا منه، وكل ذلك من المهلكات.
ومن أبوابه العظيمة: الإسراف في إضاعة الأموال بالشهوات، وإضاعة الأوقات بالباطل، وإضاعة العقول بالعلوم السافلة، وإضاعة الحسنات بجمع الحطام الفاني.
والملائكة والشياطين تتوارد على القلوب، وتحوم حول أبوابها، فإن أصابه هذا من جانب، أصابه الآخر من جانب آخر.
فإذا نزل به الشيطان، فدعاه إلى الهوى، نزل به الملك فصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر، جذبه شيطان آخر إلى غيره، وإن جذبه ملك إلى خير، جذبه ملك آخر إلى خير غيره.
فتارة يكون القلب متنازعًا بين ملكين.. وتارة بين شيطانين، وتارة بين ملك وشيطان.
والقلوب في التقلب والثبات على الخير والشر ثلاثة:
أحدها: قلب عُمر بالتقوى، وطهر عن خبائث الأخلاق، تنقدح فيه خواطر الخير، المفتوحة فيه أبواب الملائكة، المسدودة عنه أبواب الشياطين، يرى الحق ويحبه، ويعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينفر مما سوى ذلك.
الثاني: قلب مخذول مشحون بالهوى، مدنس بالأخلاق المذمومة، والقبائح والخبائث، المفتوح فيه أبواب الشياطين، المسدود عنه أبواب الملائكة.
ومبدأ الشر فيه، أن ينقدح فيه خاطر الهوى فيأنس به ويستجيب له، فيرى الباطل ويحبه، ويعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينفر مما سواه.
الثالث: قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان والهدى، فيدعوه إلى الخير والهدى.(5/65)
فتنبعث النفس بشهواتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوى الشهوة، وتحسن التمتع والتنعم، فينبعث العقل إلى خاطر الخير، فيدفع عن وجهه الشهوة، ويقبحها ويقبح فعلها، وينسبها إلى الجهل، ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر، وقلة اكتراثها بالعواقب.
فتميل النفس إلى نصح العقل، فيحمل الشيطان حملة على العقل، فيقوي داعي الهوى، ثم يحمل الملك على الشيطان، فعند ذلك تستجيب النفس إلى قول الملك.
ولا تزال الأحزاب والجنود متوالية عليه، حتى يظفر به أقواهما وأصبرهما.
وقد جعل الله للشيطان دخولاً في جوف العبد، ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم، ويتجول على سائر أعضائه وجوارحه.
وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ». قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ ا?! قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلا أنَّ اللهَ أعَانَنِي عَلَيْهِ فَأسْلَمَ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِخَيْرٍ » أخرجه مسلم(1).
وقد وصف الله عزَّ وجلَّ الشيطان بأعظم صفاته، وأشدها خطرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة.
فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية فيوسوس إليه الشيطان، ويخطر الذنب بباله، ويشهيه له، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، وينسيه علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فلا يرى إلا صورة المعصية فقط، وينسيه ما وراء ذلك.
فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم وعونًا.
فإن فتروا حركهم، وإن سكنوا أزعجهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [مريم: 83].
فأصل كل معصية الوسوسة، ولهذا وصفه الله بها، وحذرنا: (ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گگ ? ? ?? ) [الناس: 4-6].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2814).(5/66)
فالذي يوسوس في صدور الناس نوعان:
إنس.. وجن.
فالجني يوسوس في صدور الناس.. والإنسي أيضًا يوسوس إلى الإنسي.
والوسوسة: الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 112].
فشياطين الإنس والجن يشتركون في الوحي الشيطاني، ويشتركون كذلك في الوسوسة، ويشتركون كذلك في الفساد والإفساد.
وكما أن الملائكة ليس لهم عمل إلا عبادة الله وطاعته، فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
فكذلك الشيطان وذريته ليس لهم هم ولا عمل إلا إضلال بني آدم، وإغوائهم ابتلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يطيع عدوه.
وحيل الشيطان، ومكره، وكيده، وخطواته في تحقيق ما يريد، من أعجب العجب.
فإذا أقبل على الإنسان بجنوده وعساكره.. فوجد القلب في حصنه جالسًا على كرسي مملكته.. أمره نافذ، وجنده قد أحاطوا به.. يحرسونه ويدافعون عنه.
فلا يتمكن الشيطان وجنوده من الهجوم عليه إلا بمخارة بعض أمرائه، وأخص جنده وهي النفس، فزينوا لها الشهوات والمحبوبات، حتى استولت على القلب، ومكنت للشياطين من الاستيلاء على ثغور المملكة:
العين.. والأذن.. واللسان.. والفم.. واليد.. والرجل.
وأمر الشيطان جنوده بالمرابطة على هذه الثغور.
وقال: ادخلوا منها إلى القلب لتقتلوه أو تثخنوه، ولا تمكنوا أحداً يدخل منها إلى القلب، فيخرجكم منه، ويفسده عليكم.
وامنعوا ثغر العين أن يكون نظرها اعتبارًا، بل اجعلوه تفرجًا وتلهيًا، وبالعين تنالون بغيتكم من بني آدم.
فابذروا في القلوب بذور الشهوة، ثم اسقوه بماء الأمنية، ثم عِدوه ومنّوه حتى تقوى عزيمته، فيقع في المعصية فيهلك.
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم أمركم.
واجتهدوا ألا يدخل منه إلا الباطل واللهو، فإنه خفيف على النفس، تستحليه وتستملحه وتطرب له.(5/67)
وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله ورسوله، لئلا يفسد عليكم أمركم، ويحرق سلعتكم.
فإن دخل شيء فأفسدوه عليه بإدخال ضده عليه أو تهويله.
ثم امنعوا ثغر اللسان أن يدخل منه ما ينفع القلب، من ذكر الله واستغفاره وتلاوة كتابه، ونصح عباده، والدعوة إليه.
وزينوا له الكلام بما يضره ولا ينفعه، إما بالتكلم بالباطل، وإما بالسكوت عن الحق.
فالرباط.. الرباط.. الرباط.. على هذا الثغر أن يتكلم بحق، أو يمسك عن باطل.
وهذا الثغر هو الثغر الأعظم، الذي أهلك منه الشيطان بني آدم، وأكبهم على مناخرهم في النار.
واقعدوا لبني آدم بكل رصد.. وبكل طريق.. وبكل مناسبة: (چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الأعراف: 16، 17].(5/68)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِبْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ أتُهَاجِرُ وتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ. فَقَالَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? عزَّ وجلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? عزَّ وجلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى ا? أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّة» أخرجه أحمد والنسائي (1).
والسبل التي يسلكها الإنسان أربعة:
اليمين.. والشمال.. والأمام.. والخلف.
وأي سبيل سلكها الإنسان من هذه وجد الشيطان عليها رصدًا له.
فإن سلكها العبد في طاعة وجد الشيطان عليها يثبطه عنها، ويبطئه ويعوقه.
وإن سلكها في معصية وجده عليها حاملاً له وخادمًا، ومعينًا ومزينًا.
ثم الزموا ثغر الأيدي والأرجل، فامنعوها أن تبطش بما يضركم أو تمشي فيه، وقيدوها عن الأعمال الصالحة، وحركوها لتمشي في كل شر وفساد، وتبطش بكل صالح تقي.
واعلموا أن أكبر أعوانكم النفس الأمارة، فاستعينوا بها على حرب النفس المطمئنة.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16054)، انظر السلسلة الصحيحه رقم (2937).
وأخرجه النسائي برقم (3134)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2973).(5/69)
فإذا قويت النفس الأمارة، فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه.
واستعينوا على بني آدم بجنديين عظيمين:
أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله، وعن أوامر الله، وعن الدار الآخرة، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه.
والثاني: جند الشهوة، فزينوا الشهوات في قلوب بني آدم، وحسنوها في أعينهم، فإن رأيتم جماعة اجتمعوا على ذكر الله، ولم تقدروا على تفريقهم، فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين.
وانتهزوا فرصة الشهوة والغضب، فلا تصطادوا بني آدم في أعظم من هذين الوطنين، فإني أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، وألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 20].
فالمداخل التي يأتي الشيطان من قبلها إلى الإنسان ثلاثة:
الشهوة.. والغضب.. والهوى.
فالشهوة بهيمية، وبها يصير الإنسان ظالمًا لنفسه، ومن نتائجها الحرص والبخل.
والغضب سبعية، وهو آفة أعظم من الشهوة، وبالغضب يصير الإنسان ظالمًا لنفسه ولغيره، ومن نتائجه العجب والكبر.
والهوى شيطانية، وهو آفة أعظم من الغضب، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى خالقه بالشرك والكفر، ومن نتائجه الكفر والبدعة والمعصية.
وأكثر ذنوب الخلق بهيمية، لعجزهم عن غيرها، ومنها يدخلون إلى بقية الأقسام.
18- علامات مرض القلب وصحته
قال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [التوبة: 124، 125].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [النساء: 61].
خلق الله تبارك وتعالى كل عضو من أعضاء البدن لفعل خاص به، وجعل كماله في حصول ذلك الفعل منه.
ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب والنقص.(5/70)
فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن أن تتعذر عليه حركته الطبيعية، أو يضعف عنها.
ومرض القلب أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على جميع شهواته.
فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا.
ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين.
بل إذا كان قلب العبد خاليًا عن ذلك، عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير معذبًا بنفس ما كان منعمًا به من جهتين:
من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به.
ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له.
وكل من عرف الله عزَّ وجلَّ أحبه، وأخلص له العبادة، ولم يؤثر عليه شيئًا من المحبوبات.
فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات فقلبه مريض ولا بدَّ، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب، سقطت عنها شهوة الطيب.
وقد يمرض قلب الإنسان ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لانشغاله عنه، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته.
وعلامة ذلك:
أن لا تؤلمه جراحات القبائح.. ولا يوجعه جهله بالحق.
فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، لضعف علمه وبصيرته وصبره.
والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، والحق إذا لاح وتبين، لم يحتج إلى شاهد يشهد به، كما أن الأجسام إذا تجلت أمام العين لم تحتج إلى شاهد.(5/71)
والحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، وإذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ فالزم الحق.
فالعصر إذا كان فيه إمام عارف بالسنة داعٍ إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السّواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [النساء: 115].
ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة.. وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار.
والقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، يؤثر الضار المهلك على النافع الشافي.
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان.. وأنفع الأدوية دواء القرآن.. وكل منهما فيه الغذاء والدواء، والشفاء والرحمة.
ومن علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ حاجته ويعود إلى وطنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أخرجه البخاري(1).
وكلما صح القلب من مرضه، ترحل إلى الآخرة، وقرب منها حتى يصير من أهلها، يعمل بأعمالها، ويجني من ثمارها.
وكلما مرض القلب واعتل، آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6416).(5/72)
ومن علامات صحة القلب، أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به.
ومن علامات صحته كذلك أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه، ويذكره به.
ومن علامات صحته أنه إذا فاته فرض من فرائض الله، أو فاته ورده، وجد لفواته ألمًا عظيمًا، أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
ومن علامات صحته أنه يشتاق إلى الخدمة والعبادة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام أو الشراب، وأنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه.
ومن علامات صحته أن يكون همه واحدًا، وأن يكون في الله، وأن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شحًا بماله.
وأن يكون اهتمام العبد بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل.
فيحرص فيه على الإخلاص والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله جل جلاله.
فالقلب السليم الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله لله، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه له، والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم حول مراضيه، ومحابه سبحانه.
وكلما وجد من نفسه تقاعسًا أو التفاتًا إلى غيره تلا عليها: (? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?? ? ??) [الفجر: 27-30].
فإذا انصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، صارت العبودية صفة له، وأتى بها توددًا وتحببًا وتقربًا.
فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي قال: لبيك وسعديك، والمنّة لك، والحمد فيه عائد إليك: (ے ے ? ? ? ? ??) [البقرة: 285].
وإن أصابه قدر قال: أنت ربي العزيز الرحيم، وأنا الفقير العاجز الضعيف، لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا ملجأ لي منك إلا إليك.
وإن أصابه ما يكره قال رحمة أهديت إلي، وإن صرف عنه ما يحب قال شرًا صرف عني.(5/73)
فكل ما مسه به من السراء والضراء، اهتدى بها طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه.
والقلب الصحيح: هو الذي عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل واجتنبه.
فاللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.
ومرض القلوب نوعان:
مرض شبهات وشكوك.. ومرض شهوات وفسوق.
وصحة القلب الكاملة تتم بشيئين:
كمال معرفته بالله وعلمه ويقينه.. وكمال إرادته وحبه لما يحبه الله ويرضاه.
فإن كان عند الإنسان شبهات تعارض ما أخبر الله به، في أصول الدين وفروعه، كان علمه منحرفًا.. وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله، كان ذلك انحرافًا في إرادته، وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
فلا تغلب على العبد الشبهات إلا بفساد علمه بالله، وجهله بعدله وقضائه، وحكمته وشرعه وجزائه.
ولا تغلب عليه الشهوات إلا بفساد نفسه، وغلبة شهوات الدنيا عليه، وغلبة رياساتها وحظوظها على ما عند الله والدار الآخرة.
وإنما يكون فقط أحدهما أبرز من الآخر.
فمن الأول قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 10].
ومن الثاني قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 32].
والقلب مكان الإيمان والتقوى، كما أن المعدة مكان الطعام والشراب، والإيمان في القلب يحرك البدن لطاعة الله، كما أن الطعام في المعدة يمد البدن بالغذاء الذي به تتم صحته وتكمل حركته.
فالقلب يحتاج إلى غذاء الإيمان، والبدن يحتاج إلى أكل الطيبات، وكلاهما لازم للإنسان، وكماله باجتماعهما، وهلاكه بفقدهما.
ولهذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بهذا وهذا فقال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [البقرة: 172].
والقلب منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، والصفات الرديئة فيه مثل الغضب والشهوة المحرمة، والحقد والحسد، والكبر والعجب، وأخواتها كلها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب؟.(5/74)
وحرام على قلب أن يدخله النور، وهو مظلم فيه شيء مما يكره الله عزَّ وجلَّ.
وعلل القلب كثيرة مؤلمة أشد من ألم البدن.
وعلاجها: أن ينظر إلى العلة أولاً.. فإن كان المرض داء البخل.. فعلاجه بذل المال.. ولكن لا يسرف، أو يبذر، ولا يقتر.
ومعرفة الوسط تكون بأن تنظر إلى نفسك.
فإن كان إمساك المال وجمعه، ألذ عندك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك البخل، فعالج نفسك بالبذل.
وإن كان البذل ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك، فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الإمساك.
ولا تزال تراقب نفسك، حتى تنقطع علاقة قلبك بالمال، فلا تبالي من قلته أو كثرته، ولا تميل إلى بذله ولا إمساكه.
فكل قلب صار كذلك فقد جاء الله سليمًا.
وإذا أراد الله بعبد خيرًا بصره بعيوب نفسه.. وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج.. وما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء.. علمه من علمه وجهله من جهله.
وعلاج أدواء القلوب معلوم موجود، وهو أن تعرف فاطرها ومعبودها وتطيع أمره.. وتحب ما يحب.. وتحذر مما يكره.. وذلك كله في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 44].
19- فقه أمراض القلوب وعلاجها
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 10].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 28].
مرض القلب: هو نوع فساد يحصل له، ويفسد به تصوره وإرادته.
ففساد تصوره يكون بالشبهات التي تعرض له، حتى لا يرى الحق، أو يراه خلاف ما هو عليه.
وفساد إرادته يكون ببغض الحق النافع، وحب الباطل الضار.
فلهذا يفسر المرض تارة بالشك كما قال سبحانه عن المنافقين: (? ? ?) [البقرة: 10].
وتارة يفسر بالشهوة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?) [الأحزاب: 32].
والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، والمرض في الجملة يضعف الإنسان، ويجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه القوي.(5/75)
والمرض يقوى بمثل سببه ويزول بضده، فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه، وزاد ضعف قوته، حتى ربما هلك.
ومرض القلب: ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب.
وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب، وشفاء العي السؤال.
والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فللقلب موت ومرض، وحياة وشفاء.. كالبدن تماماً.
وحياة القلب وموته، ومرضه وشفاؤه، أعظم من حياة البدن وموته، ومرضه وشفائه.
فلهذا مريض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه.
والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات، ففي القرآن من البينات ما يزيل الحق من الباطل.
فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.
وفيه من الحكمة، والموعظة الحسنة، والقصص التي فيها عبرة، ما يوجب صلاح القلب، فيرغب فيما ينفعه، ويحذر ما يضره.
فالقلب يتغذى من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويشفيه، كما يتغذى البدن من الطعام والشراب بما ينميه ويقومه، فزكاة القلب مثل نماء البدن.
والقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد، حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولا بدَّ مع ذلك من منع ما يضره.
فالصدقة مثلاً تزكي القلب، وكذلك ترك الفواحش والمعاصي يزكو بها القلب، فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن.
فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة، استراح البدن ونما، وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب، كان استفراغًا من تخليطاته، حيث خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
فإذا تاب العبد من الذنوب والمعاصي، تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك المواد الفاسدة التي كانت فيه.
فصلاح القلب في العدل وهو التوحيد والإيمان، وفساده في الظلم وهو الشرك والكفر.(5/76)
ولهذا جميع الذنوب يكون العبد فيها ظالمًا لنفسه، وظالماً لغيره.
والعمل له أثر في القلب، من نفع وضر، وصلاح وفساد، قبل أثره في الخارج.
وصحة القلب وصلاحه في العدل، ومرضه من الزيغ والانحراف والظلم.
والظلم كله من أمراض القلوب بأنواعه الثلاثة:
الظلم في حق الرب.. والظلم في حق النفس.. والظلم في حق الخلق.
وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
ومن أمراض القلوب الحسد: وهو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود.
والحسد نوعان:
أحدهما: كراهة الإنسان للنعمة على غيره مطلقًا، وهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضًا في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه.
الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله، أو أفضل منه، فهذا حسد، وهو الذي يسمى الغبطة والمنافسة.
وهذا وإن كان مباحاً، إلا أن السالم من هذه الأمور أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة.
ويعرض لكل قلب مرضان عظيمان وهما:
مرض الرياء.. ومرض الكبر.
فدواء مرض الرياء بـ: (? ?) [الفاتحة: 5].
ودواء مرض الكبر بـ: (? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
فإذا عوفي المسلم من مرض الرياء بإياك نعبد.. ومن مرض الكبر بإياك نستعين.. ومن مرض الجهل والضلال باهدنا الصراط المستقيم.. فقد عوفي من أمراضه وأسقامه.. وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم.. وهم الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه.. ولا الضالين.. وهم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وزكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 21].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعلى: 14، 15].(5/77)
فأصل ما تزكو به الأرواح والقلوب هو التوحيد والإيمان، الذي بهما يزكو القلب، وينشرح الصدر.
فإن ذلك يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء.
فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة، فإنه كذلك يحصل بإزالة الشر.
فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعًا.
فمن غض بصره عما حرم الله عزَّ وجلَّ، عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فمن أمسك نور بصره عن المحرمات، أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره، ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه.
والقلوب تمرض كما تمرض الأبدان، وتعتريها الآفات كما تعتري الأعضاء والجوارح.
وكما أن للأبدان غذاءً ودواءً، فكذلك للقلوب غذاء ودواء.
وعلامة صحة القلب قبوله ما ينفعه ويغذيه من الإيمان، ومعرفة ربه، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، وحب الطاعات والأعمال الصالحة، والإعراض والنفرة عما سوى ذلك.
وعلامة فساد القلب، عدوله عن الأغذية النافعة إلى الأغذية الضارة، من الكذب والنفاق والرياء، والحقد والحسد، والعجب والكبر، والجهل والظلم، ونحو ذلك من حب المعاصي والفواحش والمنكرات.
وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا بصّره بعيوب نفسه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، بسبب موت قلوبهم أو مرضها أو نقص إدراكها، بحيث لا تميز بين القبيح والمليح وما يزينها وما يشينها، وما ينفعها وما يضرها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
والله عزَّ وجلَّ خلق طبيعة الغضب من النار، وغرزها في الإنسان، فإذا صدَّ الإنسان عن غرض من أغراضه، اشتعلت نار الغضب، وثارت ثورانًا يغلي به دم القلب، وينتشر في العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار.(5/78)
وقوة الغضب محلها القلب، ومعناها: غليان دم القلب بطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها.
والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ولا تسكن إلا به.
والأسباب المهيجة للغضب هي:
الزهو.. والعجب.. والمزاح.. والهزل.. والهزء.. والتعيير.. والغدر.. وشدة الحرص على فضول المال والجاه.. ونحوها من الأخلاق الرديئة.. ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب.
فلا بدَّ من إزالة هذه الأسباب المهلكة بأضدادها المنجية:
فتميت الزهو بالتواضع.. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك.. وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك.. وإنما الفخر بالفضائل.
والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل، وأشدها هلاكاً للعبد.
وأما المزاح فتزيله بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر، من الذكر والعبادة، والعلم والدعوة.
وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل، والأخلاق الحسنة، والعلوم الشرعية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة.
وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بها.
وأما التعيير فتزيله بالحذر عن القول القبيح، وصيانة النفس عن مُرّ الجواب.
وأما شدة الحرص فتزال بالقناعة بقدر الضرورة، طلبًا لعز الاستغناء، وترفعًا عن ذل الحاجة.
فهذا حسم لمواد الغضب، وقطع لأسبابه، حتى لا يهيج، فيهلك صاحبه:
فإذا جرى سبب هيجانه، فعند ذلك يجب الصبر والتثبت، حتى لا يقع ما لا تحمد عقباه.
وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم.. والعمل.. والصبر.
أما العلم فيعلم العبد فضل كظم الغيظ، والعفو والحلم، وما في ذلك من الثواب، فتمنعه شدة الحرص على الثواب من التشفي والانتقام، فيسكن غضبه، ويخوف نفسه بعقاب الله، ويقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان.
ويحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام، وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه، ويفكر بقبح صورته عند الغضب، وأنه كالكلب الضاري، والسبع العادي.(5/79)
أما الحليم الهادي فهو كالأنبياء والأولياء في علمه وحلمه، وكالقمر في نوره.
ويقول لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة، وأنه يوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه.
وأما العمل، فإنه يقول من أصابه الغضب:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن لم يزُلْ بذلك فاجلس إن كنت قائمًا، واضطجع إن كنت جالسًا، فإن لم يزل بذلك فليتوضأ بالماء البارد وليصلّ. وأما الصبر فيتذكر عاقبته، وثوابه الجزيل في الدنيا والآخرة.
وأما الحقد، فإن الغضب إذا لزم كظمه، لعجز عن التشفي في الحال، رجع إلى الباطن واحتقن فيه، فصار حقدًا ينشأ عنه الحسد للإنسان، وهجره، والاستصغار له، وذمه، والاستهزاء به، وإيذاؤه، ومنعه حقه من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك حرام.
والحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ولا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
الأولى: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها.
والثانية: أن لا تحب زوالها عنه، ولا تكره وجودها، ولكن تشتهي لنفسك مثلها، فالأولى حرام، والثانية جائزة.
وأشد أسباب الحسد العداوة والبغضاء، فمن آذاه شخص وخالفه أبغضه قلبه، وغضب عليه وحقد عليه، وانتقم منه إن قدر.
ومنها التعزز، فإن أصاب أحد أقرانه ولاية أو مالاً أو علمًا ثقل عليه، وخاف أن يتكبر عليه، ولا يطيق تكبره فيحسده.
ومن أسباب الحسد الكبر، وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه، ويستصغره ويستخدمه، فإذا نال نعمة خاف ألا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته.
ومنها العجب، فيتعجب أن يفوز برتبة عالية من دونه، وهو أقل منه فيما يرى فيحسده.
ومنها الخوف من فوت المقاصد، ومنه تزاحم الضرات على مقاصد الزوجية، وتزاحم الأخوة على نيل المنزلة في قلب الأبوين.(5/80)
ومنها حب الانفراد بالرياسة، وطلب الجاه لنفسه، كمن يحب أن يكون عديم النظير، ليس مثله أحد، ليقال أنه فريد عصره.
ومنها خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله، فيضيق ذرعًا إذا سمع بأحد نال نعمة، ويفرح بإدبار أحوال الناس، نعوذ بالله من ذلك الخلق الشيطاني.
ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، ومجال المسارعة والمسابقة إلى الخيرات مفتوح لجميع العباد.
والله عزَّ وجلَّ يحدث في قلب من يشاء من عباده ما شاء، ويطلعه على أمور تخفى على غيره، وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها، ويواريها عنه بالغين الذي يغشى قلبه، وهو أرق الحجب.. أو بالغيم، وهو أغلظ منه.. أو بالران، وهو أشدها.
فالأول: وهو الغين يقع للأنبياء والرسل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم(1).
والثاني: وهو الغيم، يكون للمؤمنين.
والثالث: وهو الران، يكون لمن غلبت عليه الشقوة، كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [المطففين: 14].
والحجب التي تحول بين القلب وبين الله عشرة:
الأول: حجاب التعطيل والكفر، وهو أغلظها، فلا يتهيأ لصاحب هذا الحجاب أن يعرف الله، ولا يصل إ ليه البتة.
الثاني: حجاب الشرك، وهو أن يعبد مع الله غيره.
الثالث: حجاب البدعة القولية، كحجاب أهل الأهواء.
الرابع: حجاب البدعة العملية، كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طرقهم.
الخامس: حجاب أهل الكبائر الباطنة، كحجاب أهل الكبر والعجب، والرياء والحسد، والفخر والخيلاء، ونحوها.
السادس: حجاب أهل الكبائر الظاهرة، وهؤلاء حجابهم أرق وأخف من حجاب أهل الكبائر الباطنة مع كثرة عبادتهم وزهدهم كالخوارج، وكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أهل الكبائر الباطنة.
السابع: حجاب أهل الصغائر.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2702).(5/81)
الثامن: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات.
التاسع: حجاب أهل الغفلة عن استحضار ما خلقوا له، وما أريد منهم، وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته.
العاشر: حجاب المجتهدين السالكين المستمرين في السير عن المقصود.
فهذه عشرة حجب تحول بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى.
وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر:
عنصر النفس.. وعنصر الشيطان.. وعنصر الهوى.. وعنصر الدنيا.
فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب البتة.
وهذه الأربعة تفسد القول والعمل والقصد أن يصل إلى القلب، وما وصل إلى القلب قطعت عليه الطريق أن يصل إلى الرب.
فإن حاربها العبد، وخلص العمل إلى قلبه دار فيه، وطلب النفوذ من هناك إلى الله، فإنه لا يستقر دون الوصول إليه: (? ? ? ??) [النجم: 42].
فإذا وصل إلى الله عزَّ وجلَّ أثابه عليه مزيدًا من الإيمان واليقين، وجمل به ظاهره وباطنه، فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال، وصرف عنه به سيئ الأخلاق والأعمال.
وأقام الله سبحانه من ذلك العمل جندًا يحارب به قطاع الطريق للوصول إليه.
فيحارب الدنيا بالزهد فيها، وإخراجها من قلبه.
ويحارب الشيطان بترك الاستجابة لداعي الهوى، فإن الشيطان مع الهدى لا يفارقه.
ويحارب الهوى بتحكيم الأمر الشرعي المطلق، والوقوف مع الهدى.
ويحارب النفس بقوة الإخلاص، وتقديم مراد الله على مرادها.
وإن دار العمل في القلب، ولم يجد منفذًا إلى الله، وثبت عليه النفس فأخذته وصيرته جندًا لها، فصالت به وعلت وطغت: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 53].
20- أدوية أمراض القلوب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [يونس: 57].
وقال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الإسراء: 82].
تنقسم أدوية أمراض القلوب إلى قسمين:
أدوية طبيعية.. وأدوية شرعية.
ومرض القلب نوعان:(5/82)
الأول: مرض لا يتألم به صاحبه في الحال كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشهوات والشكوك، وهذا النوع هو أشد النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكر الجهل والهوى يحول بينه وبين إدراك الألم، وهو متوارٍ عنه لاشتغاله بضده.
وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض، ولا شفاء منه إلا باتباع ما جاءوا به من الهدى.
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم، والحزن والغيظ ونحوها، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجبها مع قيامها.
فقلب الإنسان يتألم بما يتألم به بدنه، ويشقى بما يشقى به البدن، وأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت.
وأما أمراض القلب التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بالأدوية المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء.
فالغيظ مثلاً مؤلم للقلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاد مرضه، واستحق العقوبة عليه، كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق.
وكذلك الهم والغم والحزن من أمراض القلب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور والأنس.
فإن كان بحق شفي القلب، وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر، وأعقب أمراضًا أصعب وأخطر.
وكذلك الجهل مرض مؤلم للقلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، بل تزيده مرضًا إلى مرضه، وإنما شفاؤه وصحته بالعلوم الإيمانية النافعة.
وكذلك الشاك المرتاب في الشيء، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين به، ولما كان ذلك يوجب له حرارة، قيل لمن حصل له اليقين ثلج صدره، وحصل له برد اليقين.
فمن أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها ما لا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية.(5/83)
والقلب له حياة وموت.. ومرض وشفاء.. وذلك أعظم مما للبدن.
وجماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، وجميع الأسقام:
ففيه من الآيات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل.. فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك.. بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.
وفيه إثبات التوحيد.. وإثبات الصفات.. وإثبات المعاد.. وإثبات النبوات.. وفي ذلك كله شفاء من الجهل.
وهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانًا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس بين علوم لا ثقة بها، وبين ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئًا، وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها، وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها.
وأما شفاؤه لمرض الشهوات.. فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة.. بالترغيب والترهيب.. والتزهيد في الدنيا.. والترغيب في الآخرة.. والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار.
فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبًا للرشد مبغضًا للغي، ويعود للفطرة التي فطره الله عليها، كما يعود البدن المريض إلى صحته.
ويتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه.
وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح.
فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له، والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن.
ونجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة.(5/84)
فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة، تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع فنما البدن.
فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة، فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة، والمواد الرديئة فزكا القلب ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت، فصلحت المملكة.
فزكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 21].
وقال سبحانه: (? ? ? ?? ? ? ? ??) [الشمس: 9، 10].
والإنسان إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله، أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك وإلا حرفه.
فهذا وإخوانه من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله ورسوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 41].
أما القلب الطاهر، فلكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته.
وأما القلب الذي لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح.
وطهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى الذي يعلم ما في القلوب، ويعلم ما يصلح له منها وما لا يصلح، ومن لم يطهر الله قلبه فلا بدّ أن يناله الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة القلب وخبثه.(5/85)
فالجنة دار الطيبين لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث، فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهرًا من نجاساته دخلها بغير معوق؛ لأنه جاء ربه بقلب سليم، وعمل سليم.
ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها إلى الجنة بعد طهارته.
وكذلك المؤمنون إذا جاوزوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيهذبون وينقون، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة.
والله جل جلاله بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا كل طيب طاهر.
والذنوب والخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسةً وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه.
فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.
ولذلك كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه.
والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.
فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، وإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا والذنوب.
فالقلب والبدن بأشد الحاجة إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه(1).
وقلوب البشر لها آفات وعلل، وأمرض وأسقام.
والحسد من الأمراض العظيمة التي تصيب القلوب، ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل.
فالعلم النافع لمرض الحسد، هو أن يعرف الإنسان أن الحسد ضرر عليه في الدنيا والدين.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، واللفظ له، ومسلم برقم (598).(5/86)
أما في الدين فهو أنك سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بحكمته، فاستنكرت وكرهت واستبشعت ما قضاه الله وقدّره واختاره لعبده.
وهذه جناية كبرى على التوحيد والإيمان والدين.
وأما كونه ضررًا عليك في الدنيا، فهو أنك تتألم في الدنيا، أو تتعذب به، فالذين تحسدهم لا يخليهم الله من نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتألم بكل نعمة تراها، وتتعذب بكل بلية تصرف عنهم، فتبقى مغمومًا محرومًا، قد نزل بك ما تشتهيه لأعدائك.
فهذه هي الأدوية العلمية، فإذا فكر الإنسان فيها بذهن صافٍ، انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك لنفسه، ومفرح عدوه، ومسخط ربه، ومنغص عيشه.
وأما العمل النافع فيه، فهو أن يحكم الحسد، ويكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده، كلف لسانه المدح له، والثناء عليه.
وإن حمله الحسد على التكبر عليه، ألزم نفسه التواضع له، والاعتذار إليه.
وإن بعثه على كف الإنعام عليه، ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فإذا عرف المحسود ذلك طلب قلبه وأحبه، وجاءت الموافقة التي تقطع مادة الحسد.
فهذه أهم أدوية الحسد، وهي نافعة جدًا، إلا أنها مرة على القلوب جدًا، ولكن النفع في الدواء المر، فمن لم يصبر على مرارة الدواء، لم ينل حلاوة الشفاء.
ومن أمراض القلوب حب الدنيا فكرًا.. وطلبًا.. وتمتعًا، والإعراض عن الآخرة، ومن اتخذ الدنيا ربًا اتخذته عبدًا، والعاقل من يرضى منها بالقليل مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بقليل الدين مع سلامة الدنيا.
ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، وبقدر ما يحزن الإنسان للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبه.
وبقدر ما يحزن العبد للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبه.
فالدنيا والآخرة ضُرَّتان.. فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى، وبقدر ما تعمر إحداهما تهدم الأخرى.. وبقدر ما تقدم إحداهما تؤخر الأخرى.(5/87)
وطالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا، حتى يقتله الشرب.
والدنيا سريعة الفناء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، وهي كالظل فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر.
والدنيا كالأرض إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها على رأسك قتلتك.
وهي دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين.. ودار عارية لا دار ملك.. ودار فناء لا دار بقاء.. ودار زوال والآخرة هي دار القرار.
والعاقل من صرف همه عنها حتى لا يتألم عند فراقها، ويأخذ منها بقدر الحاجة ما يستعين به على عبادة ربه.
وأما الشهوات فيقمع منها ما خرج عن طاعة الشرع والعقل، ولا يتبع كل شهوة، ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل، وخير الأمور أوسطها.
ولا يترك كل شيء في الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا، بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويأخذ منه قدر حاجته.
فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة.. ويأخذ من المسكن ما يكن من الحر والبرد.. ويحفظ الأهل والمال من اللصوص.. ويستقل من المركب ما يحمله لحاجاته من غير إسراف ولا مخيلة.. ويلبس من الكسوة ما يستر عورته.. ويتجمل به في صلاته، ويتزين به في العيد ولقاء الضيوف.
حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله بكليته، واشتغل بالذكر والفكر والطاعات في جل وقته، وكل ميسر لما خلق له، والله شكور حليم.
ومن أمراض القلب: الحرص والطمع.
فالمال وسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يكون آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، فهو بحسب استخدامه يكون محمودًا أو مذمومًا.
ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة عن سبيل الله، وكان المال مسهلاً وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية من المال.
فعلى العبد القناعة، فإن تشوف إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة، وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص.(5/88)
وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق، وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، والوقوف بأبواب اللئام.
وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
ودواء الحرص والطمع:
الاقتصاد في المعيشة.. والرفق في الإنفاق.. والرضا بما قسم الله له.
فإذا تيسر للعبد في الحال ما يكفيه، فلا يضطرب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن الرزق الذي قدر له لا بدَّ أن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، وأن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الحرص والطمع من الذل.
وبذلك تنبعث رغبته في القناعة، لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل، وكلاهما مذموم.
وينظر في أحواله المتنعمين من اليهود والنصارى وأراذل الناس.
ثم ينظر في أحوال الأنبياء والأولياء، ويخير نفسه بين أن يكون مشابهًا لأراذل الناس، أو مقتديًا بأعز الخلق عند الله، ويفهم ما في جمع المال من الخطر، وما فيه من خوف السرقة والنهب، والضياع والفساد، وما في خلو اليد من الراحة والأمن والفراغ.
وبهذه الأمور يقدر على التخلص من الحرص والطمع، وعلى اكتساب خلق القناعة.
والمال إن كان مفقودًا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجودًا فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء، واصطناع المعروف، والتباعد عن الشح والبخل، فإن الجود والسخاء من أخلاق الأنبياء والفضلاء.
ومن أمراض القلب: البخل والشح.
وسببهما حب المال، ولحب المال سببان:
أحدهما: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل ولكن له أولاد، أقام الولد مقام طول الأمل.(5/89)
الثاني: أن يحب عين المال، فمن الناس من يملك ما يكفيه بقية عمره وهو شيخ بلا ولد، ومعه أموال كثيرة، ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة، ولا بمداواة نفسه منها عند المرض، بل صار محبًا لها، عاشقًا لها، يلتذ بوجودها في يده، ويكنزها تحت الأرض أو في مكان أمين، وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها غيره.
ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق أو يعالج نفسه منها.
وهذا مرض للقلب عظيم.. عسير العلاج.. لا سيما في كبر السن.
فعلاج كل علة في القلب بمضادة سببها.. فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر.. ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت.. ويعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه.
ومن الأدوية النافعة: كثرة التأمل في أحوال البخلاء، ونفرة الطبع عنهم، واستقباحه لهم، والتفكر في مقاصد المال، وأنه لماذا خلق؟.
وما هو ثواب إنفاقه في سبيل الله ومرضاته؟.
فإذا عرف الإنسان هذا، وعرف أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة، هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً.
فإن هاجت شهوة الإمساك، قمعها برؤية ثمرة الإنفاق وثوابه، وحسن عاقبته.
ومن أمراض القلب: الرياء والسمعة.
والرياء: مشتق من الرؤية، والسمعة: مشتقة من السماع.
والرياء: أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، والمراءى به كثير، وهو كل ما يتزين به العبد للناس.
والرياء يحصل بستة أشياء هي:
البدن.. واللباس.. والقول.. والعمل.. والأتباع.. والأشياء.
وكذلك أهل الدنيا يراؤون بهذه الأسباب.
فالرياء في الدين بالبدن يكون بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين.
والرياء بالهيئة والزي بشعث الرأس، وإطراق الرأس في المشي، ولبس غليظ الثياب، وترك تنظيف الثياب، وترك الثوب مخرقًا، كل ذلك يرائي به ليظهر أنه متبع للسنة.(5/90)
وأما الرياء بالقول فيكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار لأجل البروز في المحاورة، وإظهارًا لغريزة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، ونحو ذلك.
وأما المراءاة بالعمل فكمراءاة المصلي من حوله بطول القيام والركوع والسجود، وإطراق الرأس، وكذلك بالصوم والصدقة، وإطعام الطعام ونحو ذلك.
وأما المراءاة بالأصحاب والزوار كالذي يتكلف أن يستزير عالمًا من العلماء ليقال إن العالم فلانًا قد زار فلانًا، أو عابدًا من العباد، ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته، ونحو ذلك.
فالرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، وهو من كبائر الذنوب والمهلكات.
وما هذا وصفه فجدير بالعاقل التشمير عن ساق الجد في إزالته، وذلك بقلع عروقه واستئصال أصوله.
وأصله: حب المنزلة والجاه عند الناس، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس.
فيعلم أن طلب المنزلة والجاه عند الله بالطاعة، أعظم وأولى من طلبها عند الناس بالرياء والنفاق.
ويعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إليه سبحانه، فلا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخلُ من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخلُ عن المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله لذلك.
وأما ذمهم فلم يحذر منه؟.. ولا يزيده ذمهم شيئًا ما لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة.
وما يعرض من الرياء أثناء العبادة لا بدَّ أنه يشمر لدفعه وقهره، بذكر ومراعاة باطن العبادة وظاهرها.
ففي إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء.
وفي الإظهار فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء.
والسر أحرز العملين، ولكن في الإظهار فائدة الاقتداء، وفي كل خير، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأعمال والأشخاص: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 274].(5/91)
وقال الله سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 271].
ومن أعظم أمراض القلوب: الكبر والعجب.
والكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن.
فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، وهي ثمرات ذلك الخلق.
وعلامة المتكبر:
إن حاج أحدًا أنف أن يرد عليه.. وإن وعظه أحدٌ استنكف من القبول.. وإن وعظ عنّف في النصح.. وإن رُد عليه شيء من قوله غضب.. وإن علم لم يرفق بالمتعلمين.. واستذلهم وامتنّ عليهم.. وإن رأى لمن دونه تكريماً حقد عليه.
ويحب قيام الناس له أو بين يديه.. ولا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه.. ويحب أن يثنى عليه في المجالس.. وأن يصدر في المجالس.
فهذا داء الكبر، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه الزهاد والعبّاد والعلماء والولاة فضلاً عن عوام الخلق.
ولا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال.
وجماع ذلك يرجع إلى أمرين:
كمال ديني.. وكمال دنيوي.
فالديني هو العلم والعمل.. والدنيوي هو النسب، والمال، والجمال، والقوة، والذكاء، وكثرة الأنصار ونحو ذلك.
فالكبر استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير، وهذا الشعور الباطن له موجب واحد، وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه أو بعلمه أو بعمله، أو بشيء من أسبابه، استعظم نفسه وتكبر.
فالعجب يورث كبر الباطن، وكبر الباطن يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].(5/92)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُّحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ» أخرجه أحمد والترمذي (1).
ولما كان الكبر من المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته واجبة، وهو لا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة، واستعمال الأدوية القامعة له، وذلك يتم بأمرين:
أحدهما: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب، وذلك بأن يعرف نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر.
فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة.
وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله وحده لا شريك له.
ثم يتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين.
وأما علاج التكبر بالأسباب المذكورة السابقة:
فيعلم نسبه الحقيقي، ويذكر أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وجده البعيد تراب ذليل.
ومن تكبر بجماله فدواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر في باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال.
فالأقذار في جميع أجزائه:
البول في مثانته.. والرجيع في أمعائه.. والمخاط في أنفه.. والبزاق في فيه.. والدم في عروقه.. والصديد تحت بشرته.. والصنان تحت إبطه.. والوسخ في أذنيه.. ورائحة العرق تنبعث من جلده.
فهل لأحد أن يتكبر بعد هذا؟.
__________
(1) حسن، أخرجه أحمد برقم (6677).
وأخرجه الترمذي برقم (2492)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2025).(5/93)
وأما التكبر بالقوة والأيدي، فيمنعه منه علمه بما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو اعتل عرق واحد من بدنه، لصار أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل.
ثم إنه لا يطيق شوكة، ولا يقاوم بقة، ولا يدفع عن نفسه ذبابة، فلا ينبغي أن يفتخر بقوته وهذه حاله.
ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو جمل.
وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم؟.. ويأكل بها القوي الضعيف؟.
أما الغنى وكثرة المال، وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار، فكل ذلك تكبر خارج عن ذات الإنسان.
وهذا أقبح أنواع الكبر.
فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره، ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً.
والمتكبر بمعرفة السلطان وتمكينه له على وجل، فلو تغير عليه كان أذل الخلق.
أما الكبر بالعلم، فهو أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بجهد جهيد، وتعب شديد، لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وللعلم طغيان في النفوس كطغيان المال.
ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم، إذ من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وذنبه أعظم من الجاهل.
وأن يعرف كذلك أن الكبر لا يليق إلا بالله الملك العزيز الجبار المتكبر وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتًا عند الله، لأن اللائق بالمخلوق الضعيف العاجز التذلل والخضوع لا الكبر.
وأما التكبر بالورع والعبادة فذلك فتنة عظيمة على العباد، وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر الخلق، ويعلم أن من تقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان، لما عرفه من فضيلة العلم.
والعجب من أمراض القلوب، وهو يدعو إلى الكبر، ويدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، لظنه أنه مستغنٍ عن تفقدها، وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه فلا يتداركه، بل يظن أنه يغفر له.(5/94)
وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويستعلي بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق لها، والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، والأعمال ما لم تكن خالصة لله، نقية من الشوائب، قلما تنفع.
والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عند الله منّة وحقًا بأعماله التي هي نعمة من نعمه.
ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، وإن أعجب بعلمه ورأيه وعقله منعه ذلك من الاستفادة، ومن الاستشارة والسؤال، فيستبد بنفسه ورأيه، ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه، ويستجهل غيره، ويصر على خطئه.
فإن كان في أمر دنيوي أخفق فيه، وإن كان في دين هلك به.
ومن أعظم آفات العجب أنه يفتر عن السعي، لظنه أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه.
وعلاج العجب:
أن من أعجب ببدنه في جماله وهيئته.. وقوته وصحته.. وحسن صوته وصورته.. أن يعلم أن ذلك كله نعمة من الله تعالى عليه.. وواجب النعم الشكر للمنعم.. وأن يعلم أن النعم عرضة للزوال كالأنفس.. وعلاجه بما ذكرناه في الكبر.. وأن يعلم أن الوجوه الحسان.. والأبدان الناعمة سوف تتمزق في التراب.. وسوف تنتن في القبور حتى تستقذرها الطباع.
وعلاج العجب بالعقل والفطنة والذكاء.
أن يعلم أن ذلك نعمة من الله فليشكر الله عليها.. ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه يوسوس ويجن، ويضحك منه الخلق.
وعلاج العجب بالنسب الشريف.
أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم، وظن أنه يلحق بهم فقد جهل، فليتشرف بما شرفوا به من الإيمان والأخلاق والتقوى.
ومن أعجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والأنصار.
فعلاجه: أن يتفكر في ضعفه وضعفهم، وأنهم كلهم عبيد عجزة، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.
ثم كيف يعجب بهؤلاء وهم سيفترقون عنه إذا مات، ويهربون منه يوم القيامة؟.(5/95)
ومن أعجب بالمال وافتخر به فعلاجه: أن يتفكر في آفات المال، وكثرة حقوقه، وعظم غوائله، وينظر إلى فضيلة الفقراء، وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة، ويعلم أن المال غاد ورائح لا أصل له، وأن في اليهود والكفار والفساق واللئام من يزيد عليه في المال، وغاية المال بلا إيمان أن يكون كقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض.
ومن أعجب برأيه الخطأ فعلاجه: أن يعلم أن جميع أهل البدع والضلال، إنما أصروا عليها، لعجبهم بآرائهم، وتعصبهم لها.
وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره، لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه، ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف، والجهل داء لا يعرف، فعسرت مداواته جدًا.
فعلاجه أبدًا أن يكون متهمًا لرأيه لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح.
ومن أمراض القلب: الغرور.
والغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، عن شبهة وخدعة من الشيطان.
فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، وأشدهم غرورًا الكفار.. والعصاة.. والفساق.
فالكفار منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غرَّه بالله الغَرور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [فاطر: 5].
فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فهي إذاً خير، فلا بدَّ من إيثارها.
وقالوا: اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا نترك اليقين بالشك.. فانظر كيف صاغ لهم الشيطان هذه المقدمات التي جرهم بها إلى النار؟
وعلاج هذا الغرور والجهل بالإيمان والتصديق بما جاء عن الله ورسوله.
وأما غرور الكفار بالله فقولهم: إنه لو كان لله معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظًا فيه وأسعد حالاً: (? ? ? ? ? ? ? ?ں) [سبأ: 35].(5/96)
وأما غرور العصاة من المؤمنين فهو قولهم: إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن رحمة الله واسعة وكرمه عميم، وربما كان رجاؤهم مستندًا إلى صلاح الآباء، وعلو مرتبتهم.
والمغرورون من البشر أصناف، والأصناف فرق ودرجات:
فأولهم: أهل العلم، والمغترون منهم فرق:
ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية واشتغلوا بها، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم عند الله بمكان، ولو كانوا مقصرين في العمل.
وفرقة أحكموا العلم والعمل، فواظبوا على الطاعات الظاهرة، وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم، ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والشهرة في البلاد والعباد، فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم.
وفرقة علموا أن هذه الأخلاق مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، ثم إذا ظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة، وطلب العلو والشرف قالوا: ما هذا كبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، ونصرة دين الله، ونسي هؤلاء ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من التواضع والتبذل، والقناعة ولين الجانب.
ونسي المغرور من هؤلاء أن عدوه الذي حذره الله منه هو الشيطان.. وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به.. وينسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا نصر الدين؟.. وبماذا أرغم الكافرين؟.. وبماذا جذب قلوب العالمين؟.
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل، وطهروا الجوارح، وزينوها بالطاعات، واجتنبوا المعاصي، وتفقدوا أخلاق النفس، وصفات القلب من الرياء والحسد والكبر وطلب العلو، وجاهدوا أنفسهم على التبري منها، وقلعوا من القلوب منابتها القوية.(5/97)
ولكنهم بعد مغرورون، إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخداع النفس ما دق وغمض مدركه، فلم يفطنوا لها وأهملوها.
فالعالم قد يفعل كل ذلك، ويغفل عن المراقبة للخفايا، فتراه يسهر ليله، ويتعب في نهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها ونشرها، وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته.
ولعل باعثه الخفي: هو طلب الذكر، وانتشار الصيت في الأطراف، وكثرة الرحلة إليه من الآفاق، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء، والمدح بالزهد والورع والعلم.
فنسأل الله السلامة، وحسن الإخلاص، وحسن العمل، ابتغاء وجهه سبحانه.
وفرقة اشتغلوا بعلم الكلام، وفنون الجدل والمناظرات، والمجادلة في الأهواء، فتقطعت أعمارهم في تعلم الجدل، وهذيانات المبتدعة، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم، حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة.
وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب وأفضل عند الله.
ومجموعة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس، وصفات القلب من الخوف والرجاء، والصبر والشكر، والإخلاص واليقين، وهم مغرورون، يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات، ودعوا الخلق إليها، فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات، وهم منفكون عنها عند الله، إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين.
وغرور هؤلاء أشد الغرور، لأنهم معجبون بأنفسهم غاية الإعجاب، ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله، وهكذا.
فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين، ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب، ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين.(5/98)
وفرقة أخرى عدلوا عن المنهاج الشرعي في الوعظ والتعليم، فاشتغلوا بالطامات والشطح، وتلفيق الكلمات طلبًا للإغراب، وشغفوا بطيارات النكت والسجع في الألفاظ، وغرضهم أن يكثر الناس حولهم، ويكثر في مجالسهم الزعاق والصراخ، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وما يفسدونه أكثر مما يصلحونه.
وطائفة أخرى قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا، وتكلموا به على المنابر وفي الأسواق ومجامع الناس.
وكل منهم يظن أنه تميز بهذا القدر، وأنه قد أفلح ونال الغرض، وصار مغفورًا له، وأمن عقاب الله، من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام، لكونه يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه، وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم.
وطائفة استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث في سماعه، وجمع الروايات الكثيرة منه، وطلب الأسانيد الغريبة العالية.
فهمة أحدهم أن يدور في البلاد، ويرى الشيوخ ليقول: أنا أروي عن فلان، وفلان، وفلان، وفلان.
فهؤلاء أكثرهم مغرور ليس معه إلا النقل، يحفظ الأسانيد والروايات، ويظن أنه يكفيه العمل بما يروى ويحفظ، ويتركون العلم الذي يحصل به علاج القلب من معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، والعلم الذي يحصل به معرفة الدين وأحكامه والعمل به.
ويشتغلون بكثرة الأسانيد، وتعدد الطرق، وطلب العالي منها، همة أحدهم أن يقول: معي من الإسناد ما ليس مع غيري.
وهل نزل الوحي إلا للعلم والعمل والتعليم للدين؟.
فما أشد غرور هؤلاء، والأمة تحتاج من هؤلاء من كان تقيًا عاملاً بعلمه.
وطائفة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة، وزعموا أنهم من علماء الأمة، إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في طلب ذلك.(5/99)
فهؤلاء كمن يفني عمره في تعلم الخط وتحسين الكتابة، ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة، وكان يكفيه معرفة أصل الخط والباقي زيادة.
فهؤلاء مغرورون أضاعوا أوقاتهم وأوقات غيرهم، واشتغلوا في غير ما خلقوا له، فيكفيهم من اللغة معرفة الغريب في القرآن والسنة، ومن النحو ما يتلعق بالقرآن والحديث.
فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى، فهو فضول مستغنى عنه، يضيع الأوقات، ويشغل عن أداء الحقوق والواجبات.
والصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل.
والذين غرهم الشيطان منهم فرق كثيرة:
فمنهم من غروره في الصلاة.. ومنهم من غروره في تلاوة القرآن.. ومنهم من غروره في الحج أو الصيام أو الأذكار.. ومنهم من غروره في الوضوء.. ومنهم من غروره في الزهد.
وكل عامل غالبًا لا يخلو من غرور إلا من رحم الله.
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالنوافل والفضائل، وربما تعمقوا في الفضائل حتى وصلوا إلى حد العدوان والسرف، كمن غلبه الوسواس في الوضوء والغسل.
وفرقة أخرى غلب عليها الوسواس في الصلاة، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة أو الركعة، ويخرج الصلاة عن وقتها، وإن كبَّر شككه الشيطان في صحة نيته.
ومنه من تغلب عليه الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط ويردد التشديدات لا يهمه غيره، ذاهلاً عن معاني الآيات، والاتعاظ بها وفهمها، وهذا من أقبح أنواع الغرور، فإن الله لم يكلف عباده في تلاوة القرآن إلا بما جرت به عادتهم في الكلام.
وطائفة اغتروا بتلاوة القرآن يهذونه هذًا، وربما ختموه في اليوم والليلة مرتين، يتلوه هذا المغرور، وقلبه في أودية الأماني يتجول، فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة مع الغفلة عن تدبره والعمل بموجبه.
وفرقة أخرى اغتروا بالصوم، وربما صاموا الدهر، أو صاموا الأيام الشريفة، لكن صام الظاهر منهم دون الباطن.(5/100)
فأطلقوا ألسنتهم في كل شيء من الهذيان والغيبة، وملؤوا بطونهم بالحرام عند الإفطار، وقعدوا عن الدعوة إلى الحق، ونشر الهداية.
وكذلك الحج غرهم الشيطان فحجوا بزادٍ حرام، وعليهم من المظالم والديون ما عليهم، وأشغلهم بالرفث والفسوق والخصام.
وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ينكرون على الناس ما ظهر من المعاصي، وينسون ما في بواطن أنفسهم من المنكرات التي تأكل ما جمعوه من الحسنات.
وفرقة زهدت في المال، وقنعت من اللباس والطعام بالدون، ومن المساكن بالمساجد، وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهم مع ذلك راغبون في الرياسة والجاه، إما بالعلم، وإما بالوعظ أو بمجرد الزهد.
وهكذا في كل عمل للشيطان منه نصيب.
ومنهم فرقة غرهم الشيطان، وجعل لهم زيًا وهيئة ومنطقًا وحركات ومراسم، واختار لهم أدعية باطلة، وحالات مشينة كالتماوت والسماع والتنفس إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات المشينة التي غرهم بها الشيطان.
وفرقة منهم ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق، ومجاوزة المقامات والأحوال، والملازمة في عين الشهود والكشف والوجد، وغيرها من الطامات والهذيان والبهتان، حتى ظن بعضهم أن ما هم عليه من الباطل أعلى من علم الأولين والآخرين، وينظر هؤلاء إلى الفقهاء والعلماء والمحدثين والمفسرين بعين الازدراء، فضلاً عن العوام، فكم يفرح الشيطان بمثل هؤلاء؟.
وفرقة أخرى وقعت في الإباحة، وطووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام.
فبعضهم يزعم أن الله مستغنٍ عن عمله فلِمَ يتعب نفسه؟.
وقال بعضهم: كلف العباد ما لا يطيقون من تطهير القلوب من الشهوات وحب الدنيا وذلك محال.
فلله كم أضل الشيطان من البشر بمثل هذه الخواطر والأفكار؟.
الصنف الثالث: أرباب الأموال.
والمغترون منهم فرق:(5/101)
ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والقناطر، وما يظهر للناس، ويكتبون أسماءهم عليها، ليتخلد ذكرهم ويدعى لهم، ويظنون أنهم يغفر لهم بذلك، وهم مغرورون حيث بنوها من أموال محرمة، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها، وكتابة الأسماء تنافي الإخلاص، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا، والله أعلم بما في صدور العالمين.
وربما اكتسبت هذه الفرقة المال من الحلال، وأنفقت على المساجد، وهي أيضًا مغرورة إما بالرياء، وحب الثناء، أو بالإسراف الذي زينه الشيطان بزخرفة المساجد ونقشها، والتي تشغل المصلين، وتخطف أبصارهم.
والمقصود من الصلاة الخشوع، وحضور القلب، وهذه الزخرفة تشغلهم عن ذلك، وتحبط ثواب أعمالهم. ووبال ذلك كله يرجع إليه، وهو مع ذلك يغتر به، ويرى أنه من الخيرات.
وطائفة أخرى من الأغنياء ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين، ويطلبون بذلك المحافل الجامعة، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم جناية عليهم، وكفرانًا لإحسانهم إليه.
ويكرهون التصدق في السر طلبًا لمحمدة الناس، وعلو الجاه عندهم.
وفرقة أخرى من الأغنياء اشتغلوا بحفظ، الأموال وإمساكها بحكم البخل، ثم هم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى النفقة كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن ونحو ذلك.
وهم مغرورون بذلك، لأن البخل المهلك قد استولى على قلوبهم.
وفرقة أخرى غلبهم البخل، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم، ويتردد في حاجاتهم، وكل ذلك من مفسدات النية، ومحبطات الأعمال.(5/102)
وفرقة أخرى من أرباب الأموال والفقراء وعوام الخلق اغتروا بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون الاتعاظ أجرًا، وهم مغرورون، لأن فضل مجالس الذكر لكونها مرغبة في الخير، فإن لم يهيج المجلس الرغبة في العمل فلا خير فيه.
فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلى القلب وهي كثيرة، فليس في الإنسان صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان، ومدخل من مداخله، ومطيَة من مطاياه.
وعلاجها على وجه العموم بثلاثة أمور:
الأول: اللجوء إلى الله بالدعاء وسؤاله إبعاد الشيطان عنه.
قال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [فصلت: 36].
الثاني: العناية في إزالة هذه الصفات المذمومة من القلوب، وقلعها منها، فإن الشيطان مثل الكلب في التسلط على الإنسان، فإذا كان الإنسان متصفًا بهذه الصفات الذميمة من الغضب والحسد والحرص ونحوها، كان بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم، فإن الكلب لا محالة يتهور عليه ويتوثب، ويشق دفعه.
وإن لم يكن متصفًا بها لم يطمع فيه، لأنه لا داعي له هناك، ويكون دفعه أسهل ما يكون.
وتزال تلك الصفات بضدها.. فيزال الغضب بالرضا.. ويزال الكبر بالتواضع.. ويزال الطمع بالورع.. ويزال الحسد بمعرفة أن النعم فضل الله يؤتيه من يشاء.. وهو أعلم بمن يصلح لها.. ويزال البخل بالإنفاق.. وهكذا.
الثالث: ذكر الله تعالى والفكر، فكلما ألم بقلوبهم شيء من تلك الصفات المذمومة ذكروا الله وتفكروا في حقه، وفيما أمر به، وفيما نهى عنه، فعند ذلك تحصل لهم البصيرة كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الأعراف: 201].
والغين على القلب ألطف شيء وأرقه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2702).(5/103)
والران من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها، فإذا كثرت الذنوب والمعاصي عند العبد، وتوالى الذنب بعد الذنب، أحاطت تلك الذنوب والمعاصي بالقلب وتغشته، فيموت القلب إذا غمرته تلك الأعمال الخبيثة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ (? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [المطففين: 14]» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
فالذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [المطففين: 14].
فالغين ألطف شيء وأرقه.. والران أن يسود القلب من الذنوب.. والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الران.. والأقفال أشد من الطبع.. وهي أن يقفل على القلب فلا يصل إليه شيء كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ??) [محمد: 24].
وجميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس، ومن جانب الشيطان، ولكل منهما على القلب آثار وأضرار.. ولكل منهما علامات، ولكل منهما دواء.
ولا تزكو القلوب إلا بثلاثة أمور:
تزكية القلوب بالتوحيد والإيمان.. والتزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات.. والتزكية بفعل النوافل المشروعة.
فإذا زكت القلوب ذكرت ربها في كل حين، وعبدته بكل جارحة، وأطاعته في كل أمر، وتخلقت بأحسن الأخلاق، مع الله بالإيمان وأحسن الأعمال، ومع الخلق بأحسن المعاملات والمعاشرات: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 18].
1- علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 53].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [النازعات: 40، 41].
__________
(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3334)، وقال حسن صحيح، وهذا لفظه.
وأخرجه ابن ماجه برقم (4244)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3422).(5/104)
إن جميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس.
فالمواد الفاسدة كلها تنصب إليها، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب.
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شرها عمومًا، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي (1).
والنفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، فإنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وزجرها ومخالفتها.
فإن الناس على قسمين:
قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعًا لها، ينفذ أوامرها.
وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعًا لهم، منقادة لأوامرهم.
فالنفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا.. والرب يدعو عبده إلى طاعته وخوفه، ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين.
يميل إلى هذا الداعي مرة.. وإلى هذا مرة.. وهذا موضع المحنة والابتلاء.
والنفس واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها:
نفس مطمئنة.. ونفس لوامة.. ونفس أمارة بالسوء.
فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إليه، وأنست بقربه، فهي المطمئنة، وهي التي يقال لها عند الموت: (? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?? ? ??) [الفجر: 27-30].
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى أحدٍ سواه.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (1239)، وهذا لفظه، صحيح الأدب المفرد رقم (914).
واخرجه الترمذي برقم (3529)، صحيح سنن الترمذي رقم (2792).(5/105)
فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره.. واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره.. واطمأنت إلى لقائه ووعده.. واطمأنت إلى قضائه وقدره.. واطمأنت إلى كفايته وحسبه.. واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسماء الله وصفاته.. واطمأنت بأن الله وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها.. ومالك أمرها كله.. وأن مرجعها إليه.. وأنه لا غنى لها عنه طرفة عين.. واطمأنت إلى الرضى بالله ربًا.. وبالإسلام دينًا.. وبمحمد رسولاً.
والنفس الأمارة بالسوء هي التي بضد ذلك تأمر صاحبها بالسوء.. وبما تهواه من شهوات الغي والباطل.. فهي مأوى كل سوء.. وإن أطاعها العبد قادته إلى كل قبيح.. وساقته إلى كل مكروه.. وهي التي ذكرها الله بقوله: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 53].
وعادة النفس ودأبها الأمر بالسوء إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء، لأنها في الأصل خلقت جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك.
فإذا الله لم يلهمها رشدها، بقيت على ظلمها وجهلها، فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم.
فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 21].
وسبب الظلم إما جهل.. وإما حاجة.
والنفس في الأصل جاهلة، والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء لازمًا لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله.
فإذا أراد الله بها خيرًا جعل فيها ما تزكو به من الإيمان والأعمال الصالحة.
وإن لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم.
أما النفس اللوامة فهي اللؤم كما أخبر الله عنها بقوله: (ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گگ) [القيامة: 1، 2].
فكل نفس تلوم نفسها يوم القيامة:
تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانًا.. وتلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته.(5/106)
والمؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته:
يلومها على كل ما يفعل، ويلومها على ترك ما أمر الله به.. ويلومها على تأخيره ونقصه إن فعله، ويلومها على فعل ما نهى الله عنه وعلى كثرته وإعلانه.
والنفس قد تكون تارة لوامة.. وتارة أمارة بالسوء.. وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد، والساعة الواحدة، يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها.
فكونها مطمئنة وصف مدح لها.. وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه من ترك واجب، أو فعل محرم.
ومرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه له علاجان هما:
محاسبة النفس.. ومخالفة النفس.
وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها.
والنفس مع صاحبها كالشريك في المال بينهما شروط وعهود، فكذلك النفس حتى تزكو لا بدَّ أن يتفق معها على شروط.
يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك وهي: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرجل.
وهذه هي مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها.
فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [النور: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??) [النور: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 36].
وقال الله تعالى: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الأحزاب: 70].
فإذا شارط العبد نفسه على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها ومراقبتها، فلا يهملها لئلا ترتع في الخيانة، ومتى أحس بالنقصان بادر إلى محاسبتها وتذكيرها بما شارطها عليه.
فإن أحس بالخسران استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره فإنه لا بدَّ له منه.(5/107)
فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله، ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة، معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا، إذا صار الحساب إلى غيره يوم القيامة.
ويعينه كذلك معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، والفوز برضوانه.
وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، والتعرض لسخطه.
فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم وغدًا: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [آل عمران: 30].
ومحاسبة النفس لها مرحلتان:
الأولى: محاسبتها قبل العمل.
فإذا تحركت النفس لعمل من الأعمال، وهم به العبد، فلينظر هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور له؟.
فإن لم يكن مقدورًا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا له، نظر هل فعله خير له من تركه؟.. أو تركه خير له من فعله؟.
فإن كان الثاني تركه، وإن كان الأول وقف ونظر هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟.
فإن كان الثاني لم يقدم عليه، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك، يثقل عليها العمل لله تعالى.
وإن كان الأول وقف ونظر هل هو معان عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه، إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟.
فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، بمكة حتى صار له شوكة وأنصار في المدينة.
وإن وجد نفسه معانًا فليقدم عليه فإنه منصور.
ولا يفوت النجاح والفوز والفلاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال.
الثانية: محاسبة النفس بعد العمل.
وتكون بمحاسبتها على طاعة قصرت فيها في حق الله تعالى.
وحق الله في الطاعة ستة أمور وهي:
الإخلاص في العمل.. والنصيحة فيه لله.. ومتابعة الرسول فيه.. وشهود مشهد الإحسان فيه.. وشهود منة الله عليه فيه.. وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.(5/108)
ويحاسبها كذلك على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله، وعلى كل أمر مباح أو معتاد لم فعله؟، وهل أراد به الله والدار الآخرة؟، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟.
وصلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها.
وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح أو الإكثار من النوافل.
ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
ثم يحاسب نفسه كذلك على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له، تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى.
ثم يحاسبها على ما تكلم به لسانه، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه، ماذا أردت بهذا؟.. ولم فعلته؟.. وعلى أي وجه فعلته؟.
فكل عبد سيسأل عن الإخلاص والمتابعة في كل عمل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
وإذا كان العبد مسؤولاً ومحاسبًا على كل شيء، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 18].
وأنفع ما للقلب النظر في حق الله على العبد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والازدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الذل والخضوع والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته.
فإن من حقه سبحانه أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يعبد وحده دون سواه.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علم اليقين أنه غير مؤدٍ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا طلب العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ??) [المائدة: 23].(5/109)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ ا?! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى ا? أدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه(1).
وإذا تأمل العبد حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتلذذ بذكره، والابتهاج بطاعته، وهذا غاية جهل الإنسان بنفسه وربه.
فمحاسبة النفس تكون بنظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي لجلال الله ثانيًا، ثم نظره هل أداه في وقته ثالثًا ثم نظره في تقصيره عن شكر ما أنعم الله به عليه رابعاً.
وأفضل الفكر الفكر في ذلك.. فإنه يسير بالقلب إلى الله.. ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا.. منكسرًا كسرًا فيه جبره.. ومفتقرًا فقرًا فيه غناه.. وذليلاً ذلاً فيه عزه.
ومعرفة العبد بحق الله عليه يجعله لا يدلي بعمل أصلاً كائنًا ما كان، ومن أدلى بعمله لم يصعد إلى الله تعالى، والله غني عن كل ما سواه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
«اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيم» متفق عليه(2).
2- علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان
قال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [فصلت: 36].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہہ) [المؤمنون: 97، 98].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، ومسلم برقم (2818) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705)، واللفظ له,.(5/110)
الشيطان عدو لجميع بني آدم، ولذلك جاء ذكره في الكتاب والسنة أكثر من ذكر النفس، وحذر الله عباده منه أكثر من تحذيره من النفس، وذلك لعظيم خطره، وكثرة حيله، وشدة عداوته وكثرة جنوده.
وشر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مركبه، وموضع شره، ومحل طاعته، ولذلك فهو ملازم لها، ويجري في ابن آدم مجرى الدم.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغيرها، لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم يأمر سبحانه بالاستعاذة من النفس في موضع واحد.
وإنما جاءت الاستعاذة من شر النفس، وشر الشيطان في قوله صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي (1).
فالشر كله إما أن يصدر من النفس.. أو يصدر من الشيطان.
وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته، وبيان مصدري الشر، وغايتيه التي يصل إليهما.
وأمر الله عزَّ وجلَّ بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [النحل: 98، 99].
فالقرآن شفاء لما في الصدور، يذهب ما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات، والإرادات الفاسدة، فأمر الله العبد أن يطرد مادة الداء، ويخلي منه القلب.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (1239)، وهذا لفظه، صحيح الأدب المفرد رقم (914).
وأخرجه الترمذي برقم (3529)، صحيح سنن الترمذي رقم (2789).(5/111)
والقرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، وكلما أحس الشيطان بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عزَّ وجلَّ منه، لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن من المنافع.
والملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدته عنه، حتى يحضره خاص ملائكته.
وكذلك الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن الانتفاع بالقرآن، ويحول بينه وبينه، فأمر عند الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله منه.
وكذلك الشيطان يلقي في قراءة القارئ، ويلبس عليه، ولهذا يغلط القارئ تارة، ويخلط عليه تارة، فأمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن.
والله عزَّ وجلَّ لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، لكن قد تصدر من المؤمنين من المعاصي والمخالفات التي تضاد الإيمان، ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أُحُد بمعصية الرسول ومخالفته.
فالأصل نصر الله لمن أطاعه، وخذلان من عصاه: (? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 141].
وقال الله سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 160].
والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانًا، حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذ للشيطان على الإنسان تسلطًا وقهرًا بالإغواء والإضلال، بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك والمعاصي، ويزعجهم إليها، ولا يدعهم يتركونها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [مريم: 83].
فالتوحيد والإيمان، والإخلاص والتوكل على الله يمنع سلطانه كما قال الله سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [النحل: 99].
والشرك وفروعه من المعاصي والمنكرات والفواحش يوجب سلطانه على البشر الذين تولوه، ودخلوا في طاعته، وانضموا لحزبه.(5/112)
فهؤلاء الذين جعلوا للشيطان ولاية على أنفسهم، فأزهم إلى المعاصي أزًا، وقادهم إلى النار من حيث لا يشعرون: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 100].
وقد استولى الشيطان على كثير من قلوب البشر وأبدانهم، أمرهم بالكفر فكفروا، وزين لهم المعاصي فعصوا: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 20].
وجميع ذلك بقضاء من أزمة الأمور بيده، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، والله حكيم عليم.
والشيطان دأبه وديدنه الوسوسة، فإذا ذكر العبد ربه هرب الشيطان وخنس واختفى، فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تروعه من سياط وحديد وعصي ونحوها.
فذكر الله عزَّ وجلَّ يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالمقامع التي تؤذي من يُضرب بها من البشر.
ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ضئيلاً مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به من ذكر الله وطاعته.
فكلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد.
أما شيطان الكافر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا، لأنه مطاع فيما يأمر به من المعاصي والمنكرات، فمن لم يعذب شيطانه بذكر الله في الدنيا وتوحيده واستغفاره وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار.
فلا بدَّ لكل أحد أن يعذب شيطانه.. أو يعذبه شيطانه.. وأنت أحدهما ولا بد.
والشر نوعان:
شر من داخل النفس.. وشر من خارج النفس.
وسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الخارجي، وهو ظلم الغير له، كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ??) [الفلق: 1-5].
والشر الخارجي الذي أمر العبد أن يستعيذ بالله منه أربعة أقسام:
الأول: الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من إنسان أو غيره من جن أو حيوان أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة أو غيرها.(5/113)
الثاني: شر الغاسق إذا وقب، وهو الليل إذا أظلم، والقمر علامته، وهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط في النهار، والفلق هو الصبح الذي يطرد الظلام.
الثالث: شر النفاثات في العقد، وهي الأرواح الشريرة، والأنفس الخبيثة، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد فيقع السحر.
الرابع: شر الحاسد إذا حسد من الإنس والجن، وكل عنده حسد، ولكن المؤمن يدفعه، والحاسد عدو النعم يتمنى زوالها.
فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من هذه الشرور الخارجية الأربعة، ويسمى ذلك كله شر المصائب.
أما سورة الناس فقد تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم العبد لنفسه، وهو شر من داخل الإنسان، ويسمى شر المعائب التي أصلها الوسوسة كما قال الله سبحانه: (? ? ? ?? ? ?? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گگ ? ? ?? ) [الناس: 1-6].
والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب، ولا ثالث لهما.
فالأول: وهو شر المصائب، لا يدخل تحت التكليف، لأنه ليس من كسب الإنسان.
والثاني وهو شر المعائب، يدخل تحت التكليف، ويطلب من العبد الكف عنه، وهو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
والله عزَّ وجلَّ سميع لاستعاذة عبده، عليم بما يستعيذ منه، مرة يقرن السمع بالعلم، ومرة يقرنه بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك.
فالاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه جاءت بلفظ السميع العليم كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 200].
والاستعاذة من شر الإنس الذين يرون بالأبصار جاء بلفظ السميع البصير كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [غافر: 56].
وذلك لينبسط المستعيذ، وليعلم أن الله سميع لاستعاذته، مجيب له، عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، فيقبل الداعي على الدعاء.(5/114)
وقد اشتملت الإضافات الثلاث في قوله سبحانه: (? ? ? ?? ? ?? ژ) على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسماء الله الحسنى.
فالإضافة الأولى: (? ??) إضافة الربوبية المتضمنة لخلق العباد وتدبيرهم، وتربيتهم وإصلاحهم، وجلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، وحفظهم مما يفسدهم.
والإضافة الثانية: (? ? ?) إضافة الملك، فهو الملك المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، وهو المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، فليس لهم ملك غيره يلجؤون إليه إذا دهمهم العدو، ويستنصرونه إذا نزل العدو بساحتهم، فهو الملك الآمر الناهي، العزيز الجبار، الحكم العدل، القوي العظيم، الذي له كل شيء، وبيده كل شيء.
والإضافة الثالثة: ( ژ) إضافة الإلهية إليهم، فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده ربهم وملكهم، لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا يحل لهم أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيته.
وقدم سبحانه الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.. وأخر الألوهية لخصوصها، لأنه سبحانه إله من عبده ووحده، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه.
ووسط الملك، لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع إذا أمر، فملكه سبحانه من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه.
والمستعيذ: هو كل مكلف سواء كان نبيًا أو ملكًا، أو إنسيًا أو جنيًا، لأن كل عبد وكل مخلوق محتاج، والمحتاج لا ملجأ له إلا الله الذي خلقه، فلا ملجأ منه إلا إليه سبحانه.
والمستعاذ به: هو الله عزَّ وجلَّ، فإن المستعاذ به لا بدَّ أن يكون قادرًا مطلقًا على الإجارة والتعويذ، عالمًا بجميع أحوال المستعيذ، وذلك لا يعلمه إلا الله، فكل استعاذة بغير الله شرك وخيبة.(5/115)
أما المستعاذ منه فكثير كما ورد في القرآن والسنة من الاستعاذة من الشيطان، وشر ما خلق الله، وشر الغاسق، وشر النفاثات، وشر الحاسد إذا احسد، والجهالة، والسؤال عما لا يليق.
وفي السنة الاستعاذة بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
والاستعاذة من الهم والحزن، والعجز والكسل، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ومن عذاب جهنم، ومن البرص والجنون والجوع ونحو ذلك.
ولما كان شر الشيطان جنيًا أو إنسيًا أكبر الأمور المانعة من قراءة القرآن والدعوة إليه، اختص بالذكر بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن.
ومخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: شر محض كالنار وإبليس باعتبار ذاتهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهم الله من أجلها فهي خير، وفيها من المنافع ما لا يحصيه إلا الله.
الثاني: خير محض كالجنة والرسل والملائكة.
الثالث: ما فيه خير وشر، ونفع وضر، كعامة المخلوقات.
والاستعاذة إنما تكون من شر ما فيه شر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من نزل منزلاً فقال: «أعُوذُ بِكَلِمَاتِ ا? التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» أخرجه مسلم(1).
والذي يوسوس في صدور الناس نوعان:
إنس.. وجن.
كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گگ ? ? ?? ) [الناس: 5، 6].
فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضًا يوسوس للإنسي، والوسوسة الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الإنس والجن، وإن كان الإنسي يلقى بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج لذلك، لأنه يدخل في ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة، اشتراكهما في الوحي الشيطاني كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 112].
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2708).(5/116)
فشياطين الإنس والجن يشتركون في الوحي الشيطاني، ويشتركون في الوسوسة.
نسأل الله السلامة من شر هؤلاء.. وشر هؤلاء: (? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہہ) [المؤمنون: 97، 98].
«اللَّهُمَّ! لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، أنْ تُضِلَّنِي، أنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإنْسُ يَمُوتُون» متفق عليه(1).
3- شفاء القلوب والأبدان
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [يونس: 57].
وقال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الإسراء: 82].
القرآن كتاب الله عزَّ وجلَّ، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني.
وإذا شفي العبد من أمراض الشهوات، وأمراض الشبهات، زال سقمه، فقدم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه، ووصل القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(2).
ويحصل للمؤمنين بالقرآن كل هدى.. وكل رحمة.
فالهدى: هو العلم بالحق والعمل به.
والرحمة: هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به.
وإذا حصل الهدى للعبد، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7383)، ومسلم برقم (2717)، واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).(5/117)
ولذلك أمر الله عزَّ وجلَّ بالفرح بذلك فقال: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك للمؤمنين به، المصدقين بآياته، وأما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا يزيدهم إلا خسارًا، إذ به تقوم عليهم الحجة.
والشفاء الذي تضمنه القرآن، عام لشفاء القلوب من الشبه والجهالات، والانحرافات والآراء الفاسدة ونحوها.
فهو مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وجهالة.
ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ومشتمل على شفاء الأبدان من أسقامها وآلامها.
فالقرآن شفاء للأسقام القلبية، والأسقام البدنية، لأنه يحث على الإيمان والتوبة من الذنوب، ويزجر عن مساوئ الأخلاق، وأقبح الأعمال، ويأمر بالعدل وعدم الإسراف، واجتناب الخبائث والمضرات.
وأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 125].
فقلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير، فيجعل الله صدره ضيقًا حرجًا، إذ سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا ذكر شيء من عبادة الأصنام واللهو ارتاح إلى ذلك: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [الزمر: 45].
ولما كان القلب محلاً للإيمان والتوحيد، والعلم والمعرفة، والمحبة والسكينة، والصدق والإخلاص ونحوها، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها.
فإذا أراد الله هداية عبد، وسع صدره وشرحه، فدخلت فيه وسكنته.
وإذا أراد ضلاله، ضيق صدره وأحرجه، فلم يجد محلاً يدخل فيه، فيعدل عنه إلى غيره ولا يساكنه.
وكل شيء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه زيادة ضاق إلا القلب اللين السليم، فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم، اتسع وانفسح وانشرح، وهذا من آيات قدرة الرب عزَّ وجلَّ.(5/118)
وشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وضيق الصدر من أعظم أسباب الضلال، وشرح الصدر للإيمان والهدى من أجلّ النعم، كما أن ضيق الصدر من أعظم النقم.
وكلما دخل نور العلم والإيمان والهدى في القلب انفسح وانشرح، والمؤمن منشرح الصدر في هذه الدار على ما ناله من مكروهاتها، وإذا قوي الإيمان كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهواتها ومحابها.
فإذا فارقها كان انفساح روحه، والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
فإذا بعث الله المؤمن يوم القيامة، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية، فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير، وقد طلب موسى من ربه أن يشرح له صدره، لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالة الله إلا بشرح صدره فـ: (? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ??) [طه: 25-28].
أما الأسباب التي تشرح الصدور فهي نور يقذفه الله في القلب، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وضاق، وهو هبة من الله تعالى.
والأمر كله لله، والخير كله بيديه، وليس مع العبد من نفسه شيء، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها، يمنحها من يشاء، ويمنعها من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وإذا أراد الله بعبده خيرًا، وفقه لاستفراغ وسعه، وبذل جهده، فيما يحبه الله ويرضاه، وفي الرغبة إليه، وفي الرهبة منه.
وبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق للعبد، والرغبة في الطاعات، والحذر من المعاصي.
والرغبة والرهبة بيد الله لا بيد العبد، وهما مجرد فضل الله ومنته.
يجعلهما الله في المحل الذي يصلح لهما، ويليق بهما، ويحبسهما عما لا يصلح لهما، ولا يليق بهما.
فإن قيل فما ذنب من لا يصلح؟.
قيل: أكثر ذنوبه أنه لا يصلح، لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه، وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره.(5/119)
فآثر هواه على حق ربه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم، وجحد إلهيته، والشرك به، والسعي في مساخطه، أحب إليه من شكره وتوحيده، والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه.
وأي ذنب وإعراض فوق هذا؟.
فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه، كان قد عدل فيه، وانسدت عليه أبواب الهداية، وطرق الرشاد، فأظلم قلبه، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه.
فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالاً وكفرًا وعنادًا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 96، 97].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [الكهف: 57].
ومن شرح الله صدره للإسلام والإيمان، وأنار قلبه بالتوحيد، وعرف عظمة ربه، وجميل إحسانه وإنعامه، صار لقلبه عبودية أخرى، ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه، وبكل اعتبار.
وعلم أن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، والأمر كله بيده، والحمد كله له، وأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها كلها إليه.
وأعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الزمر: 22].
فالتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك من أعظم أسباب ضيق الصدر.
ومنها نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب العبد، فيشرح الصدر ويوسعه.
ومنها العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر، فكلما اتسع علم العبد بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه انشرح صدره واتسع.
ومنها الإنابة إلى الله سبحانه، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتلذذ بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك.
وكلما كانت المحبة لله أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح.(5/120)
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى.. وتعلق القلب بغيره.. والغفلة عن ذكره.. ومحبته سواه.. فإن من أحب غير الله عذب به.. وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه.
ومن أسباب شرح الصدر وشفاء القلب الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه.
فالكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، والبخيل أضيق الناس صدرًا، وأعظمهم همًا، وأنكدهم عيشًا.
ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكر الله على كل حال، وفي كل موطن.
ومنها الشجاعة، فإن الشجاع أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم صدرًا، والجبان أضيق الناس صدرًا لا فرحة له ولا سرور.
وحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيمًا وعذابًا، وسجنًا وانطلاقًا.
ومنها ترك فضول النظر والكلام، والسماع والمخالطة، والأكل والنوم، فإن هذه الفضول إذا لم تترك، تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب، تحصره وتحبسه ويتعذب بها.
فما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم؟.
وما أنكد عيشه؟.. وما أسوأ حاله؟.. وما أشد حصر قلبه؟.
وما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من الخصال المحمودة بسهم؟.
وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها، فلهذا نصيب وافر من قوله سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک) [الانفطار: 13].
ولذلك نصيب وافر من قوله سبحانه: (ک ک ک گ گ) [الانفطار: 14].
وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر.. وأكمل الخلق متابعة له أكملهم انشراحًا.. وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه ما نال: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الزمر: 22].
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب السادس ... 2
فقه القلوب ... 2
1- خلق القلب ... 2
2- منزلة القلب ... 5(5/121)
3- صلاح القلب ... 10
4- حياة القلب ... 20
5- فتوحات القلب ... 24
6- أقسام القلوب ... 27
7- غذاء القلوب ... 32
8- فقه أعمال القلوب ... 36
9- صفات القلب السليم ... 42
10- فقه سكينة القلب ... 47
11- فقه طمأنينة القلب ... 52
12- فقه سرور القلب ... 56
13- فقه خشوع القلب ... 61
14- فقه حياء القلب ... 65
15- أسباب مرض القلب والبدن ... 68
16- مفسدات القلب ... 71
17- مداخل الشيطان إلى القلب ... 76
18- علامات مرض القلب وصحته ... 84
19- فقه أمراض القلوب وعلاجها ... 90
20- أدوية أمراض القلوب ... 98
1- علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه ... 120
2- علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان ... 127
3- شفاء القلوب والأبدان ... 134(5/122)
موسوعة فقه القلوب (7)
البَابُ السَّابع
فقه العلم والعمل
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
البَابُ السَّابع
فقه العلم والعمل
1- أهل التكليف
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژژ) [الذاريات: 56-58].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 130].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحقاف: 29].
الجن والإنس هم الثقلان، وهم مكلفون مأمورون منهيون، داخلون تحت شرائع الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن كما بعث إلى الإنس.
والجن والإنس كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاص بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم.
ومن قبله من الأنبياء كان يبعث إلى طائفة مخصوصة من الجن والإنس.
والجن والإنس كما هم مأمورون منهيون، فهم كذلك مثابون معاقبون، محسنهم في الجنة، ومسيئهم في النار.
فالجن منهم المسلم والكافر.. والبر والفاجر.. والمطيع والعاصي كالإنس كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ??) [الجن: 14، 15].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجن: 11].
فالجن ثلاث طبقات:
الصالحون.. ودون الصالحين.. والكفار.
والإنس ثلاث طبقات:
أبرار.. ومقتصدون.. وكفار.
ولما كان الإنس أكمل من الجن، وأتم عقولاً منهم زادوا عليهم بثلاثة أصناف أخرين، ليس منها شيء في الجن وهم:
الرسل.. والأنبياء.. والمقربون.
فليس في الجن صنف من هؤلاء بل جبلتهم الصلاح.
فكفار الجن ككفار الإنس في النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 179].
وقال الله سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 13].(6/1)
والمؤمنون من الجن كالمؤمنين من الإنس في الجنة، كما قال سبحانه للجن والإنس: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [الأنعام: 132].
وقال الله سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [الرحمن: 46، 47].
والنبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، إلى جميع الثقلين الجن والإنس.
والجن مكلفون كتكليف الإنس:
المؤمنون منهم في الجنة.. والكفار منهم في النار.
ففي الجن المؤمنون، والكفار، والمشركون، والفساق، والعصاة.
وفيهم من يعبد الله بعلم، وفيهم من يعبد الله مع الجهل كالإنس.
وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس:
فاليهود مع اليهود.. والنصارى مع النصارى.. والمشركون مع المشركين.. والمسلمون مع المسلمين.. والمنافقون مع المنافقين.. والفساق مع الفساق.. وأهل البدع مع أهل البدع.
واستخدام الإنس للجن، مثل استخدام الإنس للإنس في شيء.
فمن الإنس من يستخدم الجن في المحرمات من الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم، وهذا محرمن وهو من أفعال الشياطين.
ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة لجلب ما ينفعه أو لدفع ما يضره، أو إحضار ماله، أو دلالة على مال ليس له مالك معصوم، ونحو ذلك، فهذا مباح كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك.
ومنهم من يستعملهم في طاعة الله ورسوله، كما يستعمل الإنس في ذلك، فيأمرهم بما أمره الله ورسوله به، وينهاهم عما نهاهم لله ورسوله عنه، كما يأمر الإنس وينهاهم.
وهذه حال النبي صلى الله عليه وسلم ، وحال من اتبعه واقتدى به من أمته، وهم أفضل الخلق لقيامهم بالدعوة إلى الله لعموم الثقلين.
والذين يستخدمون الجن في المباحات، يشيه استخدام سليمان صلى الله عليه وسلم لهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستخدم الجن أصلاً، لكن دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وهذا أفضل شيء، وأعظم شيء.
وسليمان صلى الله عليه وسلم أعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وسخرت له الإنس والجن، والريح والطير، وهذا لم يحصل لغيره.(6/2)
والإنسان من حيث هو إنسان عار عن كل خير من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح:
فهو ضعيف كما قال الله عنه: (? ٹ ٹٹ) [النساء: 28].
وهو ظلوم كفار كما قال الله عنه: (? ? ? ??) [إبراهيم: 34].
وهو ظلوم جهول كما قال الله عنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 72].
وهو عجول في أموره كما قال الله عنه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الإسراء: 11].
وهو قتور عند الإنفاق كما قال الله عنه: (? ہ ہہ) [الإسراء: 100].
وهو مجادل معاند مع ظهور الحق له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 54].
فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بالإيمان والعلم، والتقوى والعدل، ولا خروج له عن الأخلاق الرديئة إلا بتزكية الله له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 49].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ! آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا» أخرجه مسلم(1).
والله جل جلاله هو الخلاق العليم، وهو على كل شيء قدير، خلق الدنيا والآخرة، وخلق الجنة لأهل طاعته، وخلق النار لأهل معصيته.
وخلق سبحانه المخلوقات الظاهرة والباطنة على أربع مراتب:
الأولى: مخلوقات عاقلة، ظاهرة وباطنة، يصدر منها الخير والشر، وهم المكلفون من الإنس والجن.
الثانية: مخلوقات ظاهرة، خلقها الله وخلق آثارها كالشمس التي خلقها الله، وخلق فيها الأثر وهو النور، وخلق النبات والأشجار، وخلق فيها الأثر وهو الثمار، وخلق اللسان، وخلق فيه الأثر وهو الكلام.
الثالثة: مخلوقات عاقلة باطنة، ترى آثارها وهي لا ترى، ويصدر منهم كل خير، وهم الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم الذين يدبرون هذا الكون بأمر الله سبحانه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2722).(6/3)
الرابعة: مخلوقات باطنة، ترى آثارها وهي لا ترى، ويصدر منهم كل شر، وهم إبليس وذريته من الشياطين.
وخالق هذا الكون، وخالق هذه الأرض، وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض، وهو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات، التي تسمح بحياة هذا الجنس البشري على ظهر هذه الأرض من ماء ونبات، ونور وهواء، وتقوته وتعوله، وتكنه بما جعل الله فيها من أسباب الرزق والمعايش كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 10].
فالله تبارك وتعالى هو الحكيم العليم، الذي جعل هذه الأرض مقرًا صالحًا لنشأة الإنسان، بجوها وتركيبها وحجمها، وبما أودع فيها من الأرزاق والأقوات، ومن القوى والطاقات، ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته.
وهو سبحانه الذي جعل هذا الجنس البشري سيد مخلوقات هذه الأرض، وجعله قادرًا بما أودعه الله من معرفة وطاقات، على تطويعها واستخدامها وتسخيرها في حاجته، وأكرمه الله بما لم يكرم أحدًا سواه كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الإسراء: 70].
والإنسان ابن هذه الأرض، فقد أنشأه الله من تراب هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعله سيد أهلها، وجعل له فيها أرزاقًا ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها، ليستعين بذلك على عبادة ربه الذي خلقه واستخلفه، ويشكره على نعمه.
ولكن الناس قليلاً ما يشكرون.. لأنهم لا يعلمون قدر المنعم وعظمته وإحسانه.. ولا يعلمون قدر نعمه وكثرتها.. وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله حقها من الشكر.. وأنى لهم الوفاء لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون.. ويعفو عن كثير، ويضاعف الحسنات ويغفر السيئات: (? ? ? ??) [الشورى: 23].
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وصوره في أحسن تقويم، وأعطاه خصائصه الإنسانية عند خلقه، وذلك كله تشريفًا له على غيره من المخلوقات.(6/4)
وأعلن الله بذاته العلية الجليلة العظيمة، ميلاد هذا الكائن الإنساني، في مجمع حافل بالملأ الأعلى من الملائكة، ومعهم إبليس، كما قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [ص: 71-74].
وإبليس من الجن لا من الملائكة كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 50].
والجن خلق غير الملائكة.. فالملائكة خلقهم الله من نور.. والجن خلقهم الله من نار.. والبشر خلقهم الله من تراب.
فأما الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله، هذه طبيعتهم، وهذه وظيفتهم.
وبهذا السجود من الملائكة ظهرت كرامة آدم على الله، كما ظهرت الطاعة المطلقة من الملائكة، فسجدوا لآدم إكرامًا واحترامًا، وإظهارًا لفضل آدم.
وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله سبحانه، وهو يعلم أن الله ربه وخالقه، ومالك أمره، وأمر الكون كله.
فهذه ثلاثة نماذج من خلق الله.
أهل الطاعة المطلقة والتسليم التام لله، وهم الملائكة.
وأهل العصيان المطلق والاستكبار المقيت، وهم إبليس وذريته.
وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية، وهم آدم وذريته.
فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله بالتسليم المطلق: (? ? ? ? ? ? ? ??) [التحريم: 6].
وأما الطبيعتان الأخريان، الإنسان والشيطان، فلهما شأن آخر.
فأما إبليس فجعل له رأيًا مع النص، وجعل لنفسه حقًا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى، مع وجود الأمر من ربه.
وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر، وتتعين الطاعة التامة للآمر سبحانه، ولكن إبليس أبى أن يسجد لربه حين أمره بالسجود: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 12].(6/5)
وإبليس لعنه الله لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق، الذي يدبر الكون ويصرفه، ولا يقع شيء في الوجود إلا بإذنه وقدره، ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه، بمنطق من عند نفسه، فكان جزاؤه العاجل الذي تلقاه لتوه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 13].
إن علم إبليس بالله لم ينفعه، واعتقاده بوجوده لم ينفعه، وكذلك كل من يتلقى أمر الله، ثم يجعل لنفسه نظرًا في قبوله أو رده.
فإبليس خالف الأمر، وعصى الآمر سبحانه، فكفر وأبى واستكبر، من أجل ذلك طرد الله إبليس من الجنة، وطرده من رحمة الله، وحقت عليه اللعنة، وكتب عليه الصغار: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [ص: 77، 78].
ولكن إبليس الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب واللعنة له، ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم منه، ثم ليؤدي وظيفة الشر الذي تمحضت في آدم وذريته.
فماذا قال إبليس لربه؟: (? ? ? ? ?? ? ? چ چچ) [الأعراف: 14، 15].
لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث، وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا يقع إلا بإرادة الله وقدره.
وقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار لحكم عظيمة، ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وحكمة الله تقتضي ابتلاء العباد ليتبين الصادق من الكاذب، ومن يطيعه ممن يطيع عدوه، فلما حصل إبليس على قضاء الله له بالبقاء الطويل، أعلن في تبجح خبيث، ينبئ عن شر كامن فيه فماذا قال؟:
(چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الأعراف: 16، 17].
إنه سيرد على تقدير الله له الغواية، وإنزالها به بسبب معصيته وتبجحه، بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده.(6/6)
لقد أعلن إبليس أنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه، وذلك الطريق هو طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضا الله، وأنه سيأتي البشر من كل جهة، من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، وذلك للحيلولة بينهم وبين الإيمان بالله وطاعته.
وقعد إبليس لآدم وذريته على الطريق لإغوائهم، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه، اللهم إلا القليل الذي يفلت، ويستجيب لربه.
فالسبب الحقيقي لقلة شكر البشر لربهم، حيلولة إبليس دونه، وقعوده على الطريق إليهن وصد الناس عنه.
وقد نبهنا الله على ما قال إبليس، وعزم على فعله، لنأخذ منه حذرنا، ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا بالطرق التي يأتي إلينا منها.
فليستيقظ العبد للعدو الكامن فيه، والذي يدفعه عن الهدى، وليأخذ حذره منه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [فاطر: 6].
لقد أجيب إبليس إلى طلبه، لأن مشيئة الله اقتضت أن يترك الإنسان يشق طريقه بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر، وبما وهبه من عقل راجح، وبما أمده من التذكير والتحذير، والتبشير والإنذار على أيدي الرسل، فيختار الهداية أو الضلال، وتحق عليه سنة الله، وتحقق مشيئة الله بالابتلاء، سواء اهتدى أو ضلَّ.
وحين أسكن الله آدم وزوجه الجنة حذرهما من الشيطان بقوله: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 117].
وبعد أن كشف إبليس عن عداوته لآدم وذريته، وما أبطنه من الكيد لهم، أعلن الله عن طرد إبليس طردًا لا معقب له، وأوعده ومن تبعه من البشر بملء جهنم منهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الأعراف: 18].
فأخرج الله الشيطان من الجنة، لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم وأنجسهم.
فخرج منها صاغرًا ذليلاً مذمومًا مدحورًا، جزاءً على كفره وكبره وعجبه، ويوم القيامة يملأ الله النار بإبليس وأتباعه من الجن والإنس.(6/7)
ومن يتبع الشيطان من البشر، قد يتبعه في معرفته بالله، واعتقاده بألوهيته، ثم في رفض حكم الله وقضائه في منهج الحياة، وادعاء أن له الحق في رفض حكم الله، وقبوله أو عدم قبوله وفق هواه، كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلاً.
لقد جعل الله بحكمته لإبليس وقبيله فرصة الإغواء، وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار للهدى أو الضلال، تحقيقًا للابتلاء الذي قضت مشيئة الله أن تأخذ به هذا الكائن الإنساني، وتجعله به خلقًا منفردًا في خصائصه، لا هو ملك، ولا هو شيطان، لأن له دورًا آخر في هذا الكون، ليس هو دور الملك، ولا هو دور الشيطان.
وبعد طرد الشيطان من الجنة، أمر الله آدم وزوجه أن يسكن الجنة، لتتم بذلك تربية الله لهما، وإعدادهما لدورهما الأساسي، الذي خلق الله له هذا الكائن، وهو دور الخلافة في الأرض فقال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [الأعراف: 19].
لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، ووصاهما بالامتناع عن المحظور، ليتدرب الإنسان على ضبط رغباته وشهواته، ويستعلي بإرادته على هذه الرغبات والشهوات، فيظل حاكمًا لها، لا محكومًا بها كالحيوان، وهذه خاصية الإنسان التي يفترق بها عن الحيوان.
ولما سكن آدم وزوجه الجنة، بدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له، فهذا الإنسان كرمه الله فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وهو الذي أخرج إبليس بسببه من الجنة، وطرد من الملأ الأعلى.
هذا الكائن الإنساني مزدوج الطبيعة، مستعد للخير والشر على السواء، وفيه أماكن ضعف معينة يقاد منها، ما لم يلتزم بأمر الله فيها، ومن هذه الثغرات تمكن إصابته، ويمكن الدخول إليه، ويمكن جره وإغواؤه.
إن لهذا الإنسان شهوات معينة يمكن إثارتها، ومن شهواته يمكن أن يقاد، وراح إبليس يداعب هذه الشهوات فماذا فعل؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 20].(6/8)
فجاء إبليس إليهما، ووسوس لهما من ناحية رغائبهما العميقة، ليوقعهما في الشر والغواية، وارتكاب المحظور، مستغلاً أماكن الضعف الفطرية في الإنسان، وهذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر، حتى لا يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر، ولا يكون لكيده الضعيف من تأثير.
ولكن الشيطان داعب رغائب الإنسان الكامنة فيه، إنه يحب أن يكون خالدًا لا يموت، ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير.
فأغراهما بالملك الخالد.. والعمر الخالد.. وهما أقوى شهوتين في الإنسان.
وعلى قراءة (ملَكين) بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود.
ولما كان الشيطان الرجيم يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة، وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته، فقد استعان على زعزعته، إلى جانب مداعبة شهواتهما، بتأمينهما من هذه الناحية، فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح، وفي نصحه صادق: (? ? ? ? ??) [الأعراف: 21].
ونسي آدم وزوجه تحت تأثير الشهوة الدافعة، والقسم المخدر، أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير، وأن الله أمرهما أمرًا عليهما طاعته، سواء عرفا علته أم لم يعرفاها، وأنه لايكون شيء إلا بقدر من الله.
فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه، نسيا هذا كله، فماذا فعل الشيطان بهما؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 22].
لقد تمت الخدعة، وآتت ثمرتها المرة، لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما من رتبتهما العالية التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى مرتبة دنيا، حيث دلاهما بغرور إلى المعصية.
فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وشعرا الآن أن لهما سوآت مواراة عنهما، سوأة المعاصي، وسوأة العورات.
فرآهما الرب يجمعان من ورق الجنة ليسترا به عوراتهما، التي يخجل الإنسان فطرةً من تعريها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 22].(6/9)
وسمع آدم وزوجه هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية، وعلى إغفال النصيحة، وعلى طاعة العدو.
وبعد هذا العتاب تكشف الجانب الآخر من طبيعة هذا الإنسان، وهو أنه ينسى ويخطئ، إن فيه ضعفًا يدخل منه الشيطان، إنه لا يلتزم دائمًا، ولا يستقيم دائمًا، ولكنه يدرك خطأه، ويعرف زلته، ويندم على معصيته.
ويطلب العون من ربه والمغفرة، إنه يتوب ولا يلج في المعصية كالشيطان، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية، إنه يعلم أنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته، وإلا كان من الخاسرين.
فماذا قال آدم وزوجه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأعراف: 23].
قالا: فعلنا الذنب الذي نهيتنا عنه، وظلمنا أنفسنا باقتراف الذنب، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا بمحو أثر الذنب وعقوبته، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا، فغفر الله لهما ذلك، وتاب عليهما: (? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 121، 122].
وهنا تكون التجربة الأولى.. والامتحان الأول.. والتربية الكبرى.. قد تمت.. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى.. وعرفها آدم وذاقها.. وذاق ألم عقوبتها.
واستعد بهذا التنبيه، وهذا الامتحان، لمزاولة اختصاصه في الخلافة في الأرض، وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبدًا مع عدوه الشيطان، الذي كشر عن عداوته من قبل، وهو مستمر على طغيانه، غير مقلع عن عداوته وعصيانه.
وبعد ذلك جاء أمر الله لآدم وإبليس.
(? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 24، 25].
لقد أهبطوا جميعًا إلى الأرض، آدم وزوجته، وإبليس وقبيله، هبطوا ليصارع بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا، ويجاهد بعضهم بعضًا، ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين مختلفتين:
إحداهما ممحضة للشر.
والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر.
وليتم الابتلاء، ويجري قدر الله بما شاء، وكتب على آدم وذريته:
أن يستقروا في الأرض، ويمكنوا فيها، ويستمتعوا بما فيها إلى حين.(6/10)
وكتب عليهم أن يحيوا فيها، ثم يموتوا فيها، ثم يخرجوا منها، فيبعثوا ليعودوا إلى ربهم، فيدخلهم جنته أو يدخلهم ناره، كل حسب عمله.
لقد أعلن الله ميلاد هذا الكائن الإنساني في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى من الملائكة: (? ? ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [ص: 71-74].
وأعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه فقال: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [البقرة: 30].
فما أعظم الكرامة التي خص الله بها هذا الإنسان؟.
وما أعظم الدور الذي أعطاه بارئه له؟.
فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه، لأمر عظيم لا يصلح له إلا مخلوق عظيم.
إن هذا الإنسان يتعامل مع ربه تعاملاً مباشرًا:
فهو الذي خلقه الله بيده.. وهو الذي أعلن الله ميلاده في الملأ الأعلى، وفي الكون كله.. وأسكنه الجنة يأكل منها حيث يشاء ليربيه.. ثم خوله خلافة الأرض بعد ذلك بأمره.. وعلمه أساس المعرفة بتعليمه الأسماء كلها.. وأوصاه وصيته في الجنة وبعدها.. وأودعه الاستعدادات الخاصة التي تميزه عن غيره.. وأرسل له الرسل منه بهداه.. وكتب على نفسه الرحمة أن يقبل عثرته ويقبل توبته.
فما أعظم نعم الله على بني آدم، وما أجل احتفاء الله بهم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الإسراء: 70].
ثم هذا الإنسان يتعامل مع الملأ الأعلى:
أسجد الله له الملائكة.. وجعل منهم حفظة عليه.. كما جعل منهم من يبلغ الرسل وحيه.. وأنزلهم على أهل الاستقامة يبشرونهم ويثبتونهم.. وأنزلهم على المجاهدين في سبيل الله ينصرونهم ويبشرونهم كذلك.. وسلطهم على الذين كفروا يقتلونهم ويستلون أرواحهم في تأنيب وتعذيب.. ويسلمون على المؤمنين في الجنة.. ويقومون على عذاب الكفار في النار.
وما أكثر ما بين الملائكة والبشر من تعامل في الدنيا والآخرة.(6/11)
ويتعامل الإنسان كذلك مع الجن صالحيهم وشياطينهم، فله مع الشيطان أحوال وجولات، كما له مع صالحي الجن معاملات.. فهم يسمعون منه.. ويؤمنون بما يدعوهم إليه.. ويطيعونه فيما يأمرهم به، كما ذكر الله عن تسخير الجن لسليمان صلى الله عليه وسلم : (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 12].
كذلك هو يتعامل ويستفيد من هذا الكون، فهو الخليفة في هذه الأرض عن الله، الذي سخر له قواها وطاقاتها وأرزاقها، وأعطاه الاستعداد لفتح ما شاء الله من مغاليق أسرارها، وهو يتعامل مع جميع الأحياء فيها.
والإنسان بازدواج طبيعته واستعداداته يتحرك إلى العلو والمعالي.
إنه يعرج إلى السموات العلى، ويتجاوز مراتب الملائكة، حين يخلص عبوديته لله وحده، ويترقى فيها إلى منتهاها وأعلاها.
كما أنه يهبط إلى ما دون مستوى البهيمة، حين يتخذ إلهه هواه، ويتمرغ في الوحل الحيواني، أو الكيد الشيطاني، وبين هذين المجالين أبعاد أضخم مما بين السموات والأرض في عالم الحس، وأبعد مدىً.
والإنسان مع تفرده في هذه الخصائص ضعيف في جوانب تكوينه، حتى ليمكن قيادته إلى الشر، والارتكاس إلى الدرك الأسفل من خطام شهواته.
وهو ينحط إلى أسفل سافلين، حين يبعد عن هدى الله، ويستسلم لهواه، أو يستسلم لعدوه العنيد، الذي أخذ على عاتقه إغواءه في جميع الأوقات من جميع الجهات.
وقد اقتضت رحمة الله به، أن لا يتركه لفطرته وحدها، ولا لعقله وحده، بل أرسل إليه الرسل للإنذار والتبشير والتذكير، لينجو من شهواته بالتخلص من هواه، والفرار إلى الله، والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه، وتذكر رحمته وغضبه، وثوابه وعقابه، وهذه كلها مقويات لإرادته، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته.
وقد كان أول تدريب له في الجنة بابتلائه بما يحل وما يحرم، لتقوية هذه الإرادة، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف.(6/12)
ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحًا له في كل لحظة، فإذا نسي ثم تذكر.. وإذا عثر ثم نهض.. وإذا غوي ثم تاب.. وجد الباب مفتوحًا له.. وقبل الله توبته.. وأقال عثرته.. وغفر ذنوبه.. ودخله جنته.
فإذا استقام على الصراط المستقيم، بدل الله سيئاته حسنات، وضاعف له ما شاء.
لقد نسي آدم وأخطأ، ثم تاب واستغفر، وقد قبل الله توبته وغفر له، وهذه سنة الله لآدم وذريته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 37].
وقد خلق الله في الإنسان ثلاث قوى:
قوة العقل.. وقوة الغضب.. وقوة الشهوة.
وأعلى هذه القوى القوة العقلية التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب، وتشاركه فيه الملائكة.
فالملائكة عقول بلا شهوات.. والبهائم شهوات بلا عقول.. والبشر ركب الله فيهم عقولاً.. وجعل لهم شهوات.
فالمؤمن الذي يغلب عقله شهوته خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه.
ثم خلق الله في الإنسان القوة الغضبية لدفع المضرة، ثم القوة الشهوية لجلب المنفعة.
وبحسب هذه القوى الثلاث، انقسمت الأمم التي هي أفضل الجنس الإنساني، وهم العرب والفرس والروم، وكل ما ساواهم تبع لهم.
فهذه الأمم الثلاث هي التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية فغلب على العرب القوة العقلية النطقية، فهم عرب من الإعراب، وهو البيان والإظهار.
وغلب على الفرس القوة الغضبية، من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة.
واشتق اسمها من وصفها، فقيل فرس، يقال فرسه إذا قهره وغلبه.
وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والشراب والنكاح ونحو ذلك.
واشتق اسمها من وصفها، فالروم هو الطلب والشهوة.
وهذه الصفات الثلاث غالبة على هذه الأمم الثلاث.
فالعرب أفضل الأمم.. ثم تليها الفرس، لأن القوة الدفعية أرفع.. ثم تليها الروم.
وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثاً:
فضيلة العلم والإيمان التي هي كمال القوة العقلية.
وفضيلة الشجاعة التي هي كمال القوة لغضبية، وكمال الشجاعة هو الحلم.(6/13)
وفضيلة السخاء والجود، الذي هو كمال القوة الطلبية، فإن السخاء يصدر عن اللين والسهولة.
وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث، المسلمون.. واليهود.. والنصارى.
فالمسلمون فيهم العقل والعلم والاعتدال في الأمور، فإن معجزة نبيهم هي علم الله وكلامه، وهم الأمة الوسط.
واليهود فيهم القسوة، ولهذا أضعفت فيهم القوة الشهوية، حتى حرم الله عليهم من المطاعم والملابس ما لم يحرم على غيرهم، وأمروا من الشدة والقوة بما أمروا به، وغالب معاصيهم من باب القسوة والشدة والظلم لا من باب الشهوة.
والنصارى فيهم الرحمة واللين، ولهذا أضعفت فيهم القوة الغضبية، فنهوا عن الانتقام والانتصار، ولم تضعف فيهم القوة الشهوية، فلم يحرم عليهم من المطاعم ما حرم على من قبلهم، بل أحل لهم بعض الذي حرم على من قبلهم.
وظهر في النصارى من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر في اليهود، وفيهم من الرأفة والرحمة والرقة ما ليس في اليهود.
وغالب معاصيهم من باب الشهوات لا من باب الغضب.
والطبيعة البشرية كلما التوت وانحرفت عن التوحيد والطاعات، إلى الشرك والمعاصي، تحتاج إلى رادع وزاجر يزجرها عما يهلكها، ويردها إلى بارئها.
فطبيعة بني إسرائيل بعدما أفسدها طول الذل والعبودية لفرعون، أرسل الله موسى صلى الله عليه وسلم لإنقاذها من عبودية فرعون، الذي كان من المفسدين، إلى عبودية رب العالمين.
فجاءت كل الأوامر من الله لبني إسرائيل مصحوبة بالتشديد والتوكيد تربيةً لهذه الطبيعة التي ارتخت والتوت، وانحرفت عن الاستقامة والجد كما قال سبحانه عن موسى صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 145].(6/14)
ومثل طبيعة بني إسرائيل، كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل لغير الله من الطغاة، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنبًا للمشقة، كما هو ملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة، لتهرب من تكاليفها، وتسير سائمة هائمة مع القطعان الضالة، لأن السير معها لا يكلفها شيئًا.
إن هذا الإنسان عجيب في خلقه.. عجيب في فكره.. عجيب في أعماله.
إنه لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة.
فإذا أمن هذا الإنسان فإما النسيان.. وإما الطغيان.. أو كلاهما.
إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن، مجلوة بجلاء الإيمان: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 65].
والبغي من المحرمات المهلكات، سواء كان بغيًا على النفس، خاصة بإيرادها موارد الهلكة، أو كان بغيًا على الناس بظلمهم.
وأعظم البغي وأشده، وأبشعه وأشنعه، البغي على ألوهية الله سبحانه، واغتصاب الربوبية ومزاولتها في عباده ظلمًا وعدوانًا.
والناس حين يبغون هذا البغي، يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا، قبل أن يذوقوا جزاءه في الآخرة: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [يونس: 23].
يذوقون هذه العاقبة فسادًا في الحياة كلها.. فلا يبقى أحد لا يشقى به.. ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا فضيلة لا تضار به.
فالناس إما أن يخلصوا دينهم لله.. وإما أن يتعبدهم ويذلهم الطغاة.
فما أحسن أن يطيع العبد ربه الذي خلقه.. ولا يتعرض لسخطه بمعصيته: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [النساء: 66-68].(6/15)
وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميًا، فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله، أن يتلقى في أي شأن من شئون الحياة عن أعمى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 19].
إنه لا يجوز لمسلم قط يعرف هدى الله، ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد مقعد التلميذ، الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى، ولم يعلم أنه الحق، فهو أعمى بشهادة الله سبحانه، فكيف يطلب هداية الطريق من أعمى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
وأعجب العجب أن بعض الناس يزعمون أنهم مسلمون، ثم يأخذون منهج الحياة البشرية عن اليهود والنصارى، أو عن فلان أو فلان، من الذين يقول الله عنهم أنهم عمي.
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون للحق، المهتدون به، أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، والذين يسيرون على هدى الله وحده، والذي يصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه.
إنها قطعًا لا تصلح بالقيادات الجاهلية الفاجرة، الضالة العمياء، التي تخالف منهج الله الذي ارتضاه للبشرية قاطبة.
إن جميع تلك المذاهب والنظم من صنع العمي، الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده، وما سواه باطل، ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه، ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه.
وآية هذا وبرهانه القاطع الساطع هو هذا الفساد الطامي، الذي يغشى ويعم وجه الأرض اليوم، لا في بلاد الكفار فحسب، بل في ديار المسلمين كذلك.
ومتى تبصر البشرية طريقها؟.. ومتى تسعد في حياتها؟.. ومتى ترضي ربها؟
والخلافة في هذه الأرض للعمي: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 25].(6/16)
واأسفاه.. لقد شقيت البشرية وقتًا طويلاً وهي تتخبط بين شتى المناهج.. وشتى الأوضاع.. وشتى الشرائع.. بقيادة أولئك العمي.. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.. ويحسبون أنهم على شيء.. وهم ليسوا على شيء.
إن الإنسان لا يكون سويًا ولا مأمونًا ولا صالحًا، حتى يسير على منهج الله الذي خلقه من تراب، ونفخ فيه من روحه.
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية في الإنسان، والعناصر العلوية، هو الأفق الأعلى، الذي يطلب إليه أن يبلغه، وهو الكمال البشري المقدر له.
فليس مطلوبًا من الإنسان أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكًا، أو ليكون حيوانًا، وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان، ولا الحكمة التي خلق الله من أجلها الإنسان.
فإن الله عزَّ وجلَّ جعل المخلوقات ثلاثة أقسام:
أحدها: ظلوم جهول وهو الآدمي.
الثاني: عالم عادل لا يتطرق إليه الجهل والظلم وهم الملائكة.
الثالث: من ليس بعالم ولا عادل، ولا من شأنه أن يكسب ذلك كالبهائم.
فالبهائم فانية بمراد نفسها عن مراد غيرها.. والملائكة فانية عن مراد نفسها باقية بمراد ربها منقادة مطيعة له.
والآدمي أودع الله فيه قوتين:
قوة ملكية.. وقوة بهيمية.
فتارة يفنى بمراد نفسه، وتارة يفنى بمراد ربه، وبين القوتين تجاذبًا وتزاحمًا، فالملكية تجذب إلى العلو، والبهيمية تجذب إلى السفل، وإذا برزت إحداهما كمنت الأخرى، وهذا سر التكليف.
والله عزَّ وجلَّ يمد هذه.. ويمد هذه.. حسب الطلب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [الإسراء: 20].
والإنسان مركب من جسد وروح، ولكل واحد منهما غذاء خاص، والذي يحاول أن يعطل طاقات الإنسان الجسدية الحيوانية، هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية، كلاهما يخرج على سواء فطرته، ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له.
وكلاهما يدمر نفسه بتدمير جزء من كيانها الأصيل، وهو محاسب على سوء تصرفه، واختياره ما لم يأذن به الله.(6/17)
من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يخرج عن سواء فطرته.
عن أنس - رضي الله عنه - أن نفرًا من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَألُوا أزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا بَالُ أقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأنَامُ، وَأصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه(1).
وقد شاء الله تبارك وتعالى أن يخلق البشر باستعداد للهدى والضلال.. وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين.. ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين.. بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن.. والحس والقلب والعقل، حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار.
ثم شاء الرؤوف الرحيم بعد هذا كله.. أن لا يدعهم لهذا العقل وحده.. فوضع لهذا العقل ميزانًا ثابتًا في شرائعه التي جاءت بها رسله.. يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر.
وهو ميزان ثابت لا تعصف به الأهواء.. ولم يجعل سبحانه الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان.. ولكن جعلهم مبلغين مبشرين ومنذرين، ليس عليهم إلا البلاغ.. يأمرون بعبادة الله وحده.. وينهون عن عبادة ما سواه.. من وثنية وهوى، وشهوة وسلطان: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
ففريق أطاع الرسل، واستجاب للإيمان والهدى، وفريق عصى الرسل، وشرد في طريق الضلال: (? ? ? ? ? ? ? ? ) [النحل: 36].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063)، ومسلم برقم (1401) واللفظ له.(6/18)
وهذا الفريق.. وذلك الفريق.. كلاهما لم يخرج عن مشيئة الله.. وكلاهما لم يقسره الله قسرًا على هدى أو ضلال.. وإنما سلك طريقه بما وهبه الله من حرية في الاختيار.. بعدما زوده الله بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق.. وبعدما أرسل إليه رسله.. وأنزل عليه كتبه.
والمؤمن يرى رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض، وفي ابتلائه في أثناء الخلافة، وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف.
ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله، فلا يتبرم بتكاليفه ولا يضيق بها صدرًا، لأنه يؤمن أن الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه.
وذلك يسكب في قلبه الطمأنينة والراحة والأنس، ويستنهض همة المؤمن وعزيمته للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه كما أخبر بذلك ربه بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].
وكل إنسان سيرجع إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه، فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد.
ورجعة الناس كلهم إلى ربهم فرادى تجعل كل إنسان يقف مدافعًا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد.
فهو مسؤول عن نفسه، وعن حق الله فيها، وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، وعبوديته له وحده شعورًا وسلوكًا.
فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فما أحد من العبيد بدافع عنه يوم القيامة، ولا شافع له، وما أحد من العبيد بحامل عنه وزره، ولا ناصر له من الله في اليوم الآخر.
ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه، والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردًا وحيدًا.(6/19)
والمسلم يقوم بالعمل، ودائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرفه، حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة فيه، وحينذاك يتوجه إلى ربه بطلب العفو والسماح: (? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].
ويسأل ربه جل وعلا أن يثبته على الدين، ويصرف عنه الشرك الذي يوقعه في الأصر، وذلك بعبادة الله وحده، وطاعته وحده، وتلقى الشريعة منه وحده.
فالشرك بالله هو الأصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده لا شريك له: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].
وكذلك يسأل المؤمنون ربهم أن يرحم ضعفهم، فلا يكلفهم ما لا يطيقون، كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه، وإلا فهي الطاعة المطلقة، والتسليم التام.
إنه طمع الصغير في رحمة الكبير، وطمع الفقير العاجز في رحمة الغني القادر، والاعتراف بالضعف والتقصير لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور.
فالعبد مقصر مهما حاول الوفاء والكمال، ومن رحمة الله أن يعامله بالعفو والمغفرة والرحمة.
فهلاّ يتوجه المسلم إلى مولاه، ويتوكل عليه، وهو يعمل لإحقاق الحق الذي أمره الله به، والله مولاه ومعزه وناصره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].
وما الأقوام.. وما العمران.. إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات، هذا يسقى بالماء، وذاك يسقى بالوحي، غرس منها يزكو، وغرس منها خبيث، غرس منها ينمو ويثمر، وغرس منها يجف ويموت غرس منها يقبل فيحيا، وغرس منها يرفض فيموت: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 4].
وحياة الإنسان كتاب ذو ست صفحات:
الأولى: صفحة الحياة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 28].
الثانية: صفحة العمل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 46].
الثالثة: صفحة الاحتضار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [ق: 19].(6/20)
الرابعة: صفحة البعث والحشر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ژ ژ ڑ) [ق: 20، 21].
الخامسة: صفحة الحساب كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ? ? ??) [الغاشية: 25، 26].
السادسة: صفحة القرار في الجنة أو النار كما قال سبحانه: (? ? چچ چ چ ??) [الشعراء: 90، 91].
والواجب على الإنسان أن يمسح جميع العواطف لغير الدين، عواطف حب الدنيا، وحب المال، وحب الرئاسة، وحب الجاه، حتى لا تبقى إلا عاطفة الدين عملاً به، ودعوةً إليه.
وقيمة الإنسان عند الله بما يحمل من الإيمان والأعمال الصالحة، لا بما يملك من الأموال والأشياء، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجه الناس إلى غير الله، وهذا بلاء عظيم.
وهذا الكون كله مملوك لربه، خاضع له، عابد له، مطيع له، من الذرة حتى الجبل، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الإسراء: 44].
ومن يؤمن من البشر، فأكثرهم إيمانه ممزوج بالشرك: (ٹ ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 106].
فالمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله.. والمشركون من اليهود قالوا عزير ابن الله.. والمشركون من النصارى قالوا المسيح ابن الله.
فأي مقولة أعظم من هذه ممن وهبهم العقول؟.
وأي افتراء وبهتان وجهل بالله فوق هذا؟.
إن الكون كله ينتفض لهذه المقولة المنكرة في حق الله: (ے ے ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 88-92].
إن الكون كله يغضب لبارئه، سماواته وأرضه، وجباله وبحاره، ويهتز كل ساكن فيه، ويرتج كل مستقر، وهو يحس بتلك الكلمة العظيمة النابية من جهلة البشر في حق الله، تصدم كيانه وفطرته، وتجافي ما وقر في ضميره، وما استقر في كيانه.
وفي وسط الغضبة الكونية على هذه الكلمة النابية في حق الله، يصدر من الرب البيان الرهيب: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 92، 93].(6/21)
والمشركون لا يرجون لقاء الله، ولا يحسبون حسابه، ولا يقيمون حياتهم على أساسه، ومن ثم لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله، فتنطلق ألسنتهم بكلمات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [الفرقان: 21].
إنه تطاول على مقام الله سبحانه، تطاول الجاهل المستهتر، الذي لا يحس جلال الله في نفسه، ولا يقدر الله حق قدره.
فمن هم حتى يتطاولوا هذا التطاول؟.
ومن هم إلى جوار الله العظيم الجبار المتكبر؟.
ومن هم وهم في ملك الله وخلقه كالذرة التائهة الصغيرة؟.
إنه لا قيمة لهم عند الله حتى يربطوا أنفسهم بالله، عن طريق الإيمان بالله، فيستمدوا منه قيمتهم.
لقد عظم شأنهم في نظر أنفسهم، فاستكبروا وطغوا طغيانًا كبيرًا.
وفي مقابل هؤلاء الكفار عباد الله الذين آمنوا بالله ورسوله، عباد الرحمن الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده.
هاهم أولاء بصفاتهم المميزة، مثالاً حيًا واقعًا للجماعة المسلمة التي يريدها الله ويحبها.
وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ الله بهم في الأرض، ويوجه إليهم عنايته، فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم لولا أن هؤلاء فيهم، وعباد الرحمن لهم سمات وصفات:
فالسمة الأولى لعباد الرحمن، أنهم يمشون على الأرض هونًا، يمشون مشية سهلة هينة.. مشية سوية مطمئنة.. جادة قاصدة.. فيها وقار وسكينة.. وفيها جد وقوة.. وليس فيها تكلف ولا تصنع.. وليس فيها خيلاء ولا تنفج.. ولا تصعير خد.. ولا تخلع ولا ترهل.. وهم في جدهم ووقارهم لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى.. وسفه السفهاء.. ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى.. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، لا عن ضعف ولكن عن ترفع.. ولا عن عجز ولكن عن استعلاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 63].(6/22)
هذا نهارهم وسلوكهم مع الناس، فأما ليلهم فهو مع ربهم، واقفون بين يديه ركعًا سجدًا، يتقون الله، ويشعرون بجلاله: (? ? ? ? ??) [الفرقان: 64].
وهم في قيامهم وركوعهم وسجودهم، يتوجهون إلى الله في ضراعة وخشوع أن يصرف عنهم عذاب جهنم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 65].
وهم في حياتهم وأموالهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 67].
فالإسراف والتقتير كلاهما مذموم.
فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله.
فحبس المال يحدث أزمات واختناق، ومثله إطلاقها بغير حساب، والاعتدال سمة من سمات الإيمان.
وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله، ويتحرجون من قتل النفس إلا بحق، ومن الزنا: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الفرقان: 68].
وهذه الصفات الثلاث مفرق الطريق بين الحياة العالية الغالية والحياة السافلة الرخيصة.
إنها الحياة التي يشعر الإنسان فيها بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ الهابط، وسموه إلى الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله.
ومن سماتهم أنهم لا يشهدون الزور، لما في ذلك من إضاعة الحقوق، والإعانة على الظلم، ويفرون من مجالس الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعًا منهم عن شهود مثل هذه المجالس القذرة.
وهم كذلك يصونون أنفسهم وألسنتهم عن اللغو والرفث والهذر، ويوفرون أوقاتهم لما كلفهم الله به: (ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [الفرقان: 72].
ومن سماتهم أنهم سريعوا التذكر إذا ذكروا، قريبو الاعتبار إذا وعظوا، يتأملون آيات الله وما فيها من صدق: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الفرقان: 73].(6/23)
وعباد الرحمن لا تكفيهم تلك السمات والصفات، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على هديهم ونهجهم، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم، فتقر بهم عيونهم، ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الفرقان: 74].
ومن سمات عباد الرحمن: أنهم يوفون بعهد الله الذي عهده إليهم، والذي عاهدهم عليه، من القيام بحقوقه كاملة موفرة من الإيمان والتوحيد والأعمال الصالحة، ومن تمام الوفاء بها أنهم لا ينقضون الميثاق: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الرعد: 20].
ومن سمات عباد الرحمن: أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل من جميع أمور الدين، من الإيمان بالله ورسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله ^، ودعوة الخلق إليه، وتعليمهم شرعه.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والعمل، وعدم عقوقهم.
ويصلون الأقارب والأرحام بالإحسان إليهم قولاً وفعلاً.
ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك بأداء حقهم كاملاً موفرًا.
ومن سماتهم: أنهم يخشون ربهم ويخافونه، فيمنعهم خوفهم منه، والقدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به، خوفًا من العقاب، ورجاءً للثواب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 21].
ومن سماتهم الصبر على الإسلام الخالص، إسلام القلب والوجه لله، ومغالبة الهوى والشهوة، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة، والالتواء والانحراف.
والصبر على السخرية والاستهزاء بهم، فصبروا على الإيمان، وثبتوا على العمل، فلم تزعزعهم عن ذلك شبهة ولا شك، ولا ثناهم عن الإيمان رياسة ولا شهوة ولا مال ولا ولد.
وصبرهم ابتغاء وجه ربهم فقط، طلبًا لمرضاة ربهم، ورجاء القرب منه، والحظوة بثوابه، وهذا الصبر من خصائص أهل الإيمان.
ومن سماتهم حسن علاقتهم بالخالق، ودوام ذكره وشكره والثناء عليه، ودوام ذلك بالصلاة التي يؤدونها كاملة بشروطها وأركانها.(6/24)
ومن سماتهم حسن علاقتهم بالخلق، ومواساتهم بما يحتاجون إليه من المال وسائر المنافع، يفعلون ذلك سرًا لكمال إخلاصهم، وعلانية ليُقتدى بهم.
ومن صفاتهم: أنهم يدرؤون بالحسنة السيئة، وذلك أشد من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية، إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، بالصعود إلى أفق أعلى، ودرجة أسمى، درجة السماحة الراضية، التي ترد القبيح بالجميل، وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء، والرحمة والإحسان.
وذلك أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الصادقون.
فمن أساء إليهم بقول أو فعل لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه، فيعطون من حرمهم، ويصلون من قطعهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم.
وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بما يقابلون به المحسن؟.
إن هؤلاء بصفاتهم العالية، رحمة تجري على وجه الأرض، وشمس تجري في جو السماء: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الرعد: 22].
ومن سماتهم أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، واللغو فارغ الحديث الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه، وهو الهذيان الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب والعقل زادًا جديدًا، ولا معرفة مفيدة، وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان، سواء وجه إلى مخاطب، أم حكي عن غائب.
فالقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو، ولا تستمع إلى ذلك الهذر، ولا تعنى بهذا البذاء، فهي مشغولة بتكاليف الإيمان، مرتفعة بأشواقه، متطهرة بنوره.
ينزهون أنفسهم عن اللغو، ويصونونها عن الخوض فيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [القصص: 55].
فأما جزاء الرحمن، تلك الخلاصة الصافية للبشرية، الذين هم لب العالم وصفوة بني آدم، أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، والأخلاق العالية.
فما جزاء أولئك على صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم؟.(6/25)
أولئك الكرام يُستقبلون في الجنة بالتحية والسلام، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 75، 76].
فلهم تحية وسلام من ربهم، ومن ملائكته الكرام، ومن بعضهم لبعض، وهم سالمون من جميع المكروهات والمنغصات.
أولئك الكرام لهم عقبى الدار، جنات عدن يقيمون فيها إقامة دائمة، ولا يبغون عنها حولاً، لأنهم لا يرون فوقها غاية، لما اشتملت عليه من النعيم الذي لا يزول، وليس فوقه نعيم.
ومن تمام نعيمهم وسرورهم وقرة أعينهم، أنهم يدخلون الجنة، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
والملائكة يسلمون عليهم، ويهنئونهم بالسلامة، وكرامة الله لهم، ويقولون لهم صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية والنعيم الأبدي.
فيا سعادة هؤلاء: ( ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الرعد: 22-24].
فحقيق بكل عبد نصح نفسه، وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي منية النفوس، وسرور الأرواح، الجامعة لجميع اللذات والأفراح.
ألا ما أعظم منة الله على عباده.. حيث بين لهم أوصاف من يحب.. ونعت لهم أوصافهم، ووصف هيئاتهم، وبين لهم همهم.. وأوضح أجورهم.. وكشف عن منازلهم في الجنة.. ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم.. ويبذلوا جهدهم في الاقتداء بهم.. ويسألوا ربهم أن يهديهم كما هداهم.. ويتولاهم كما تولاهم.
فلله ما أعلى هذه الصفات، وما أرفع هذه الهمم، وما أزكى تلك النفوس، وما أطهر تلك القلوب.
ولله ما أصفى هؤلاء الأخيار الأبرار، وما أتقى هؤلاء السادة الأئمة.
ولله در هذه الأنفس ما أعزها، وهذه الأخلاق ما أحسنها، وهذه الهمم ما أرفعها.
ولله فضل الله عليهم ونعمته التي جللتهم، ورحمته التي وسعتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل العالية: (ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 17، 18].(6/26)
وما قيمة البشرية كلها لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله، وتتضرع إليه، وتوقره وتحبه، وتعبده وتطيعه؟.
وما هذه الأرض الواسعة التي تضم البشر جميعًا؟.
إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل، والبشرية كلها إن هي إلا نوع واحد من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض، والأمة واحدة من أمم هذه الأرض، والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم، لا يعلم عدد صفحاته إلا الله العليم الخبير.
وما قيمة الإنسان بلا إيمان؟.
إنه لقي ضائع لا يعبأ الله به، لو وضع نوعه كله في الميزان، ما رجحت به كفة الميزان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 77].
والفقراء هم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام، الذين لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة، أو وضع اجتماعي، أو مكانة أو رياسة، ومن ثم فهم الملبون السابقون.
ومن بيوت الفقراء نبت العلماء والفقهاء، والحكماء والقادة، وهم الصف الأول في إجابة الرسل والإيمان بهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 8].
فأما الملأ الكبراء، فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم القائمة على الأوضاع المزيفة، والقائمة على احتقار من دونهم، ومن ثم يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بعامة الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة، قيمة الإيمان والعمل الصالح.
ترفع قومًا.. وتضع آخرين.. تعز قومًا.. وتذل آخرين.
وهذا ما يصد كثيرًا من الكبراء عن الإيمان كما قال الكفار لنوح صلى الله عليه وسلم : (?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [الشعراء: 111-115].
وقالوا لصالح صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 27].
فما أجهل هؤلاء بربهم.. وما أضلهم عن معرفة سنة الله في خلقه.(6/27)
إن الفقر والغنى من سنة الله في عباده، فالفقر له أوامر وله أهل، والغنى له أوامر وله أهل، والله يعلم من يصلح لهذا، ومن يصلح لهذا، ولكل منهما عبودية، فعبودية الفقر الصبر، وعبودية الغنى الشكر.
أما الإيمان فهو حق للجميع، وواجب على الجميع، وحاجة الجميع، يحتاجه الغني كما يحتاجه الفقير، ويجب على الغني كما يجب على الفقير، ويستطيعه الفقير كما يستطيعه الغني: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [النساء: 53، 54].
فما أسمج هؤلاء، وما أسخف عقولهم، وما أقل فقههم.
(? ژ ژ ڑڑ) [الجاثية: 6].
إن الله تبارك وتعالى اصطفى آدم على مخلوقات الأرض.. واصطفى الأنبياء على البشر.. واصطفى المؤمنين على الكفار.
والله عزَّ وجلَّ يريد إقامة عالم رباني خالص، عالم محوره الإيمان بالله وحده، يشد المسلمين كلهم إلى هذا المحور، بعروة واحدة لا انفصام لها، ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى:
عصبية القوم.. أو الجنس.. أو الأرض.. أو العشيرة.. أو القرابة.. أو اللون.. أو اللسان.
ليجعل مكانها عقدة واحدة هي عقيدة الإيمان بالله، والوقوف تحت راية لا إله إلا الله مع حزب الله.
إن العالم الذي يريده الله عالم رباني، يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله، يشمل الجنس الإنساني كله، ويجمعه في رحاب العقيدة، في رحاب الإيمان، في رحاب الشريعة.
وتذوب فيه جميع فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب، وسائر ما يميز إنسانًا عن إنسان عدا عقيدة الإيمان.
وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله.
ودون إقامة هذا المجتمع الفاضل المتميز تقف عقبات كثيرة منذ فجر الرسالة.
وما تزال في العالم كله إلى اليوم عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتصعب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض.(6/28)
كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس، وأهواء القلوب من الحرص والشح، وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية، والالتواءات النفسية، وغيرها مما تكنه الصدور، ويوغر القلوب.
والإسلام يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة.
إنه يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة، ليخرج بها من هذا الضيق المحلي النفسي الحيواني، إلى الأفق العالمي الإنساني.
والله تبارك وتعالى يخلق لهذا الدين من يحمله، ويهتدي بهديه، ويعتز به، ويشعرهم أنهم رجاله وحزبه.
ومن ثم فهم يوسمون بسمته، ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة، وتلك السمة بين الأقوام جميعًا في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [البقرة: 138].
والله عزَّ وجلَّ يشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه، فهم رجاله المنتسبون إليه، الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أولياؤه وأحباؤه، يعاديهم من يعاديه، فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه.
والله يدعوهم باسم الإيمان الذين ينسبهم إليه، يدعوهم ليحذرهم من حبائل أعدائهم، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عواتقهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الممتحنة: 1].
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة، والوشيجة التي تربطه بغيره هي الدين، والأقارب والأرحام والأولاد إذا كانوا كفارًا، قد تجر القلوب جرًا إلى المودة، وتنسى تكاليف الدين، وتضطر المسلمين إلى مودة أعداء الله وأعدائهم وقاية لها.
فهذه المودة لا تنفع، لأن العروة التي تربط المسلم بغيره مقطوعة وهي الإيمان: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الممتحنة: 3].(6/29)
فإذا انتفى العداء والعدوان من الكفار، فهو البر لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل ولو كانوا كفارًا، فعسى هذا البر يكون سببًا في إسلامهم، ويعود الجميع إخوة مؤتلفي القلوب: (ٹٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الممتحنة: 7، 8].
إن الإسلام دين سلام، ودين محبة وأمن ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، ويصبغهم بصبغته، وأن يقيم فيهم منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الإسلام إخوة متحابين.
ونهى الإسلام أشد النهي عن الولاء لمن قاتل المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، وحكم على المؤمنين الذين يتولونهم بأنهم ظالمون: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الممتحنة: 9].
إن القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي مسألة العقيدة وحدها، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة، وحرية العقيدة، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله عز وجل.
فالعقيدة هي الراية الجامعة التي يقف تحتها المسلمون أين كانوا، ومن كانوا. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم.. ومن قاتلهم من أجلها فهو عدوهم.
ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه.
ولكن أنى للكفار أن يسالموا أحدًا أو يرعوا عهدًا؟.
إن من البلاء العظيم أن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة، وأن لا يرتقي الإنسان الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده وقيمته ورسالته.
ومن العجب كذلك أن يعلم الإنسان أنه جهاز له عمل وإنتاج، ولكن لا يدري من يدير هذا الجهاز، لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه، والعاقل يعلم أن خالق هذا الكون هو الذي يدبره.
ألا ما أخطر العلم الذي يقبع في سجن المادية وجدرانها، ولا علاقة له بفاطر السموات والأرض، ولا صلة له بدينه وشرعه.(6/30)
إن أرباب هذا العلم يعيشون في تخلف عقلي عن العلم، وفي تخلف روحي عن الدين، وفي تخلف إنساني عما يليق بالإنسان الذي كرمه الله وفضله على ما سواه.
إن هذا الإنسان عظيم، وخلق لأمر عظيم، وإن هذا الدين عظيم، وإن هذا القرآن عظيم، وإن شأن من عمل به لعظيم: (? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 44].
فهل يفقه البشر هذا؟.
وهل يفرغون من كل لغو، وينتهون إلى التسبيح باسم الرب العظيم؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ???) [فصلت: 38].
إن الله سبحانه أكرم البشرية بالدين الذي ينظم حركة الحياة في الكون، فحركة الحياة ميدان كل إنسان سواء كان مؤمنًا أو كافرًا.
فكل أحد يريد أن يتحرك في الحياة ليحصل على رزقه وقوته، وما يحتاجه مما يعينه على أمور معاشه.
لذلك كان المؤمن متحركًا في الحياة.. والكافر متحركًا في الحياة.
فلا بدَّ من منهج يسير عليه البشر، ولا بدَّ أن يكون المنهج موحدًا، حتى لا يقع التصادم بين البشر، ويهلك الناس بعضهم بعضاً.
فأنزل الله الدين الكامل ينظم الحياة فقبله المؤمن، ورده الكافر.
فالمؤمن يتحرك في حياته وفقًا لمنهج الله المرسوم، فيسعد في الدنيا والآخرة بامتثال أوامر الله سبحانه، في علاقته مع ربه، وفي علاقته مع غيره من المخلوقات: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 30].
وأما الكافر فيتحرك في الحياة وفق هواه وشهواته، لا يعرف حلالاً ولا حرامًا، ولا طيبًا ولا خبيثًا، يأخذ ما شاء، ويتمتع بما شاء ويفعل ما شاء، ولا تحكم حركته حدود ولا قيود: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
وقد خلق الله السموات والأرض، والشمس والقمر، والجبال والبحار، والنبات والحيوان، ثم خلق آدم آخر المخلوقات.
فلما أعد الله السكن وهيأه سبحانه، خلق من يسكنه.
وكأن هذا الكون شجرة، والإنسان ثمرة لهذه الشجرة.(6/31)
ثم إن الإنسان في هذه الحياة انخدع بهذه المخلوقات لحاجته إليها، فاشتغل بها وغفل عن الله الذي خلقها، ففسدت أحوال الإنسانية واضطربت أحوالها، فأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، لهداية الناس ونجاتهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
و جهد الإنسان في هذه الحياة لا يخلو من شيئين:
أحدهما: جهد على الأموال والأشياء والشهوات، وهذا الجهد له أثره على القلب، يولد فيه الحرص والطمع، والجشع والحسد، والظلم والكذب، ويجعل صاحبه لا يحب الله ولا رسوله ولا المؤمنين، ولا يرغب في الطاعات، ولا يحجز نفسه عن المحرمات.
وكلما كثرت الأموال والأشياء عنده زاد حبه لها، وتعلق قلبه بها، وزاد جهده وشقاؤه، ثم يزداد كبره وإعراضه عن الدين، حتى يكمل عذابه وشقاؤه بعد الموت في النار.
فما أخسر هؤلاء الناس، وإن نالوا شيئًا من النعيم الزائل في صورة عذاب: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
الثاني: جهد على الإيمان والأعمال الصالحة، وهو جهد الأنبياء والصالحين، وهو جهد الدين.
وأثره على القلب أنه يولّد فيه محبة الله ورسوله والمؤمنين، وأعمال الدين، فيسعد القلب ويطمئن، ويزداد فرحه وسروره بربه.
وكلما اجتهد المسلم للدين أكثر زاد إيمانه، وارتفعت درجاته، وزادت سعادته في الدنيا ثم في القبر ثم في الحشر ثم تبلغ كمالها في الجنة دار النعيم والخلود.
وهذا الإنسان المؤمن يرجح بالسموات والأرض، لأنه حقق مراد الله عزَّ وجلَّ، وقدمه على شهواته ومحبوباته، والله سبحانه يكمل له شهواته ومحبوباته في الجنة كما أكمل محبوبات الله في الدنيا: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 17].
فعلى المسلم أن يأخذ من الدنيا فقط بقدر الضرورة، ويتفرغ لما خلق له من عبادة ربه، والدعوة إليه، والعمل بشرعه، والمسارعة إلى الخيرات.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.(6/32)
2- وظيفة العقل البشري
قال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [يوسف: 2].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [البقرة: 164].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومدبر كل شيء.
خلق السماء والأرض، وخلق الجماد والنبات، وخلق الإنسان والحيوان، وفضل الإنسان على سائر هذه المخلوقات.
فأعطاه السمع يسمع به المسموعات، ويميز بينها بعقله.
وأعطاه البصر يبصر به المخلوقات ويميز بينها بعقله.
وأعطاه العقل يميز به بين ما ينفعه وما يضره، ويميز به بين البدائل، فيختار هذا لمنفعته، ويرد هذا لمضرته.
ويميز به بين ما يبقى وما يفنى، وما يحسن وما يقبح، من الأقوال والأفعال والأشياء، ثم يختار أحسنها وأفضلها.
وبهذا العقل شرّف الإنسان على سائر المخلوقات، وصار أهلاً ليكون خليفة في الأرض.
فالعقل نعمة كبرى، وهي من أكبر النعم على الإنسان بعد الإيمان، إذ بالعقل يستقبل الإنسان الوحي، وبه يؤدي السنن والأحكام في أماكنها وأوقاتها كما وردت.
وقد خلق الله في الإنسان طاقات كثيرة ومن أهمها:
الطاقة البدنية.. والطاقة الروحية.. والطاقة التناسلية.. والطاقة العقلية.
ولو كان الله سبحانه وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها يعلم أن العقل البشري الذي وهبه للإنسان يكفيه في بلوغ الهدى لنفسه، والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده، يبحث به عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب.
ولما أرسل إليه الرسل، ولما جعل حجته على عباده هي إرسال الرسل إليهم، ولما جعل حجة الناس على ربهم هي عدم مجيء الرسل إليهم.(6/33)
ولكن لما علم الله سبحانه أن العقل الذي آتاه الله للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى بغير توجيه من الرسالة.. وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة للإنسان في الدنيا والآخرة، وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة.. لما علم الله هذا شاء بحكمته ورحمته أن يبعث الرسل إلى الناس.. وأن لا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 15].
وإذا علمنا هذا فما وظيفة هذا العقل البشري؟.
وما هو دوره في مسألة الإيمان والهدى؟.
وما موقفه من منهج الحياة ونظامها؟.
وما وظيفة العقل البشري ودوره في أعظم وأكبر قضايا الإنسان؟.
وهي قضية الإيمان بالله التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها، وبكل مقوماتها، كما يقوم عليها مآله في الآخرة، وهي أكبر وأبقى.
إن دور هذا العقل أن يتلقى الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومهمة الرسول أن يبلغ ويبين الدين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما ران عليها من الشهوات والشبهات، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم للعقل منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح، ومنهج العمل الصحيح.
وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.
وليس دور العقل البشري أن يكون حاكمًا على الدين، من حيث الصحة والبطلان، أو القبول أو الرفض، بعد أن يتأكد صحة ثبوته عن الله ورسوله، وبعد أن يفهم مقصوده.
ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها، بعد إدراك مدلولها، ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.
بل العقل ملزم بقبول أحكام الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح.(6/34)
فالدين يخاطب العقل ويوقظه ويوجهه، ويقيم له منهج النظر الصحيح، لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بالصحة أو البطلان، أو القبول أو الرفض على هواه.
بل متى ما ثبت النص الشرعي كان هو الحكم، وكان على العقل البشري أن يقبله، وأن يطيعه وينفذه، سواء كان مدلوله مألوفًا له، أو غريبًا عليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
إن دور العقل هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص، وما المراد منه ليعمل به، وعند هذا الحد ينتهي دوره.
فالنص من عند الله، وما يحمله النص من حكم هو أمر الله، وهو الحق قطعأً.
والعقل ليس إلهًا يحكم بالصحة أو البطلان، أو القبول أو الرد، لما جاء من عند الله ورسوله.
إن الشريعة الإسلامية تخاطب العقل، ليدرك الأحكام، والآيات الشرعية والكونية، وترغبه في ذلك، وتجعل ذلك عبادة.
وتضع له المنهج الصحيح للنظر والاعتقاد والعمل في شئون الحياة.
فإذا أدرك وفهم ما يعني النص الشرعي، لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة، والانقياد والتنفيذ.
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله هو أن لا يواجه العقل مقررات الدين وأحكامه بمقررات له سابقة عليها، كوّنها الإنسان بنفسه من مقولاته وتجاربه.
فالإسلام دين العقل والفطرة، يخاطب العقل بأحكامه وسننه وأوامره، ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان، ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى والإيمان في الأنفس والآفاق، ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة، وغبار الشهوات والشبهات المضلة للعقل والفطرة.
ويكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحتمل أحكامه لعباده، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه.
فإذا أدرك وفهم المراد من النصوص، لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن، أو عدم التسليم بها فهو كافر.
وليس هو حكمًا في صحتها أو بطلانها، وليس هو مأذونًا في قبولها أو ردها.(6/35)
أما من جعل العقل إلهًا يقبل ما يريد، ويرفض ما يرفض، ويختار ما يشاء، ويترك ما يشاء، فهذا هو الكفر الذي ينال صاحبه بسببه أشد العذاب كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
والله سبحانه خالق كل شيء، خلق هذا الكون، وأمر باتباع الشرع.
فإذا قرر الله سبحانه حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى، أو إذا قرر أمرًا في فرائض الدين، أو في النواهي.
فهذا الذي قرره الرب وأمر به واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه، متى أدرك المدلول منه، وفهم المراد منه.
فإذا قال الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].
أو قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأنبياء: 30].
أو قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [النور: 45].
أو قال سبحانه: (ے ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الرحمن: 14، 15].
ونحو ذلك مما قاله الله سبحانه عن الكون والكائنات، والأشياء والأحياء، فالحق هو ما قال وليس للعقل أن يقول، فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للصواب والخطأ، وما قرره الله سبحانه لا يحتمل إلا الحق والصواب.
وإذا قال الله سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [المائدة: 44].
أو قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [البقرة: 278].
أو قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الأنعام: 121].
أو قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 53].
ونحو ذلك مما قاله الله تبارك وتعالى في شأن منهج الحياة البشرية، فالحق ما قاله سبحانه، وليس للعقل أن يقول: ولكنني أرى لمصلحة في كذا وكذا مما يخالف أمر الله، أو فيما لم يأذن به الله، ولم يشرعه للناس.
فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب، وتدفع إليه الشهوات والنزوات، وإقحام للعقل فيما ليس من شأنه.(6/36)
وما يقرره الله ويحكم به لا يحتمل إلا الصحة والصواب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 50].
وما قرره الله وحكم به وشرعه من العقيدة، أو منهج الحياة ونظامها، سواء في موقف العقل إزاءه.
متى صح النص، وكان قطعي الدلالة، ولم يوقّت بوقت، فليس للعقل أن يقول: آخذ في العقيدة والشعائر التعبدية، ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها، فيتبع غير شرع الله.
فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته، فما دام النص مطلقًا، فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان، احترازًا من الجرأة على الله، ورمي علمه بالنقص، سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.
وإنما يكون جهد العقل في تطبيق النص على الحالة الحادثة لا في قبوله أو رده.
وليس في شيء من هذا انتقاص من قيمة العقل، ودوره في الحياة البشرية، بل هو كمال الأدب مع خالقه، وحسن استقبال أوامره. والمدى أمام العقل أوسع في التعرف على طبيعة هذا الكون وطاقاته.. وقواه ومدخراته.. وطبيعة الكائنات فيه والأحياء.. ومخلوقات الله في البر والبحر.. والسماء والأرض.. وتنمية الحياة.. والاستفادة من الكائنات في حدود منهج الله.. ومعرفة بارئه وفاطره وأسمائه وصفاته.. ومظاهر قوته ورحمته.. ومعرفة نعمه وآلائه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [البقرة: 164].
وما أجهل أكثر الخلق بالله، إنهم يكفرون بالله، ويبارزونه بالمعاصي، وهو يعافيهم ويرزقهم.
إن بأس الله شديد، وقوته قاهرة، ولكنه رحيم ودود ينبه الغافلين السادرين، ويوقظ فهيم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 97، 98].
إن بأس الله لأشد من أن يقف له البشر نائمين أم صاحين، جادين أم لاعبين، إنه العزيز الجبار الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، السموات والأرض وما فيهما بيده أصغر من الخردلة في يد الإنسان.(6/37)
فأين العقول التي تدرك بأس الله في كل من طغى وكذب واستكبر؟.
إن سنة الله لا تتخلف، ومشيئته لا تتوقف، وما الذي يعجزه؟، وما الذي يمنعه؟.
وما الذي يؤمن المكذبين أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟، وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدون بعد ذلك؟.
وما يريد الله بهذا التحذير أن يعيش الناس فزعين قلقين، يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار.
إنما يريد الله منهم اليقظة ومراقبة النفس، وإدامة الاتصال بالله.
والإنسان يدعي العلم، وهو لا يعلم نفسه، ولا ما يستقر فيها من مشاعر، ولا يدرك حقيقة نفسه، ولا حقيقة مشاعره.
فالعقل نفسه لا يعرف كيف يعمل؟.
لأنه لا يملك مراقبة نفسه في أثناء عمله، وحين يراقب نفسه يكف عن عمله الطبيعي، فلا يبقى هناك ما يراقبه.
وحين يعمل عمله الطبيعي لا يملك أن يشتغل في الوقت ذاته بالمراقبة.
ومن ثم فهو عاجز عن معرفة خاصة ذاته، وعن معرفة طريقة عمله، وهو الأداة التي يتطاول بها الإنسان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 16].
إن الإيمان بالله هو كبرى المنن التي ينعم الله بها على عبد من عباده في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 17].
إن إيمان العبد بالله يعرّفه بحقيقة الوجود حوله، وحقيقة الدور المقسوم له، وحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور.
ومن هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله.. ولما يقع له.. فهو يعرف من أين جاء؟.. ولماذا جاء؟.. وإلى أين يذهب؟.. وماذا هو واجد هناك؟.. وأنه موجود هنا لأمر.. وما يقع له مقدر لتمام هذا الأمر.. وأنه لم يخلق عبثًا.. ولن يترك سدى، ولن يمضي مفردًا.
ومن هذه المعرفة الإيمانية تختفي مشاعر القلق والشك والحيرة الناشئة عن عدم معرفة المنشأ والمصير، وعدم رؤية المطوي من الطريق.(6/38)
إن المؤمن يعرف بقلب مطمئن، وروح مستبشرة أنه يلبس ثوب العمر بقدر الله الذي يصرف الوجود كله، تصريف الحكيم الخبير، وأن اليد التي خلقته وألبسته إياه أحكم منه وأرحم به، وأنه يلبسه لأداء دور معين، في هذا الكون الذي يتأثر بكل ما فيه، ويؤثر في كل ما فيه.
إن المؤمن يقطع الرحلة إلى الآخرة، ويؤدي الدور المطلوب منه في ثقة وطمأنينة ويقين.
إنه يقطع الرحلة، ويؤدي دوره في فرح وسرور، شاعرًا بجمال الهبة، وجلال العطية الكبرى.
هبة العمر الممنوح له من يد الكريم المنان الجميل اللطيف.. وهبة الدور الذي يؤديه مهما كان شاقًا.. لينتهي به إلى ربه الكريم والمقام الأمين.
إن الإيمان بالله قوة دافعة، وطاقة مجمعة، ما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل، ولتحقق ذاتها في الواقع، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة، كما أنها تستولي على مصادر الحركة كلها في الكائن البشري، وتدفعها في الطريق السوي.
ذلك سر قوة الإيمان في القلب، وسر قوة الإنسان بالإيمان، فبه صنع الخوارق التي غيرت وجه الحياة، وبه يندفع المرء إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى، وبه يقف الفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان الغاشم، وقوى المال الفاتن، وقوى الحديد والنار، فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح الفرد المؤمن المتصل بربه.
وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعًا، ولكنها قوة الله التي استمدت منها تلك الروح، والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [الأنفال: 17].
إنها المنّة الكبرى على العباد، منة الإيمان التي لا يملكها ولا يهبها إلا الله وحده، لمن يعلم أنه مستحق لها، وأهل للقيام بشكرها.
وماذا فقد من وجد الأنس بالله بالإيمان الذي يصله بربه، وقطع رحلته على هذه الأرض في ظلال شريعة الله وهداها.(6/39)
وماذا وجد من فقد ذلك، ولو تقلب في أعطاف النعيم، وتمتع وأكل كما تأكل الأنعام، والأنعام أهدى منه، لأنها تعرف بفطرتها الإيمان، وتهتدي به إلى بارئها الكريم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44].
والله تبارك وتعالى بالآيات الكونية، والآيات الشرعية، ينبه العقل الغافل، ويوقظه لمعرفة عظمة هذا الكون، وتناسقه وجماله، ومعرفة الخالق العظيم الذي أبدعه: (ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گگ) [الرحمن: 7، 8].
فإلى جانب هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الواسعة، المملوءة بالمخلوقات التي تعبد ربها وتطيعه، وضع سبحانه الميزان، ميزان الحق وضعه ثابتًا راسخًا مستقرًا رحمة بالعباد.
وضعه منهج حياة لتقدير القيم، قيم الأشخاص والأحداث، كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى.
وضعه في الفطرة، ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسل، وتضمنه القرآن.
وضع الميزان لئلا تطغوا في الميزان فتغالوا وتفرطوا: (گ گ ? ? ? ??) [الرحمن: 9].
ومن ثم يستقر الوزن بالقسط بلا طغيان ولا خسران.
ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر، ببناء الكون ونظامه، يرتبط بالسماء حيث يتنزل منها وحي الله ومنهجه، ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي عطاء الربوبية عطاءً متساويًا للجميع، فالشمس ترسل أشعتها للمؤمن والكافر على حد سواء، بدون جهد من الإنسان وكذلك الهواء.
والأرض تنفعل لكل من حرثها، ووضع البذرة فيها، ثم سقاها بالماء، سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، وكذلك البحار والجبال والمعادن تنفعل لمن اجتهد عليها، هذا كله عطاء الرب لخلقه جميعًا.(6/40)
ولا أحد يستطيع أن ينكر عطاء الربوبية، لأنه ظاهر، ولا يمكن لأحد أن يدعيه لنفسه من دون الله، فعطاء الربوبية لا يختلف عليه أحد، ولكن المسألة في العبادة، فعطاء الربوبية أمامنا واضحاً جلياً، ويجب أن يقودنا إلى العبودية لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
والعقل مخلوق كغيره، وله طاقة محدودة كغيره، يدرك بعض الأشياء ويفهمها، ويخفى عليه أكثرها.
فالكون فيه الظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والكبير والصغير.
والقرآن فيه محكم ومتشابه.
ولا يعلم ذلك كله إلا الله وحده، والعقل يدرك ما أذن الله له من ذلك بمعرفته، ويجهل أكثره.
والله وحده عالم الغيب والشهادة: (? ں ں ? ? ??) [السجدة: 6].
والأعمال التي كلفنا الله بها قسمان:
أحدها: ما نعرف وجه الحكمة فيه على الجملة بعقولنا كالصلاة والزكاة والصوم ونحوها، فإن الصلاة تواضع محض، وتضرع للخالق.
والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، وتطهير للنفس من الشح.
والصوم تعويد على الصبر، وسعي في كسر الشهوة.
الثاني: ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كبعض أفعال الحج.
فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات، وتقبيل الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، والارتحال من منى إلى عرفات إلى المزدلفة.
لكن كما يحسن من الله أن يأمر عباده بالنوع الأول، يحسن منه كذلك أن يأمرهم بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف وجه المصلحة فيه.
أما الطاعة في الوجه الثاني فإنها تدل على كمال الانقياد، ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف وجه المصلحة البتة فيه، لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم لمن هو أعلم منه.
والعاقل يؤمن بهذا وهذا، وينقاد ويسلم لكل ما أمر الله به، وكل ما أخبر الله به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].(6/41)
وسمى العقل عقلاً، لأنه يعقل به صاحبه ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به من الخير، وأول تارك لما ينهى عنه من الشر.
فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله.. أو نهاه عن الشر فلم يتركه.. دل على عدم عقله وجهله، خاصة إذا كان عالمًا بذلك: (?? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [البقرة: 44].
فلا يجوز للإنسان إذا لم يقم بما أمره الله به أن يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن على كل إنسان واجبين:
أمر نفسه بالخير، ونهيها عن الشر.. وأمر غيره بالخير، ونهيه عن الشر.
فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر.
فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير.
وكذلك النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، لأن الأفعال تؤثر أكثر من الأقوال، ولأنه تناقض لا يحسن من العاقل، ولذلك قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الصف: 2، 3].
والعاقل حقًا يعلم أن الله عزَّ وجلَّ لم يخلق هذا الكون عبثًا ولا سدى، ولا لغير فائدة، وإنما خلقه بالحق ليقوم أمره وشرعه، ولتتم نعمته على عباده، وليروا من حكمته وقهره وتدبيره، ما يدلهم على أنه وحده معبودهم ومحبوبهم وإلههم: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 44].
وشر الدواب عند الله هم الكفار، لأن الله أعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليستعملوها في طاعة الله، فاستعملوها في معصيته، وكان يمكنهم أن يكونوا من خير البرية، فأبوا هذا الطريق، واختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية: (?? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 22، 23].(6/42)
فقامت عليهم الحجة بالسماع، وإنما لم يسمعهم الله السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرًا يصلحون به لسماع آياته، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون، فالله لا يمنع عباده الإيمان والخير إلا لمن يعلم أنه لا خير فيه، ولا يزكو لديه، ولا يثمر عنده.
والعقل ضد الجنون، فالمجنون لا تكليف عليه، لأنه فقد الآلة التي يستقبل بها الوحي، وينفذ الأمر، ويجتنب النهي، وهي العقل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الرعد: 4].
ومن لا عقل له، لا قيد له، ولا إناء معه، ولا فائدة له.
والعقل البشري ثلاثة أنواع:
الأول: عقل غريزي، ينتفع به الإنسان في أمور معاشه.
الثاني: عقل إيماني، مستفاد من مشكاة النبوة، وبه يستقبل الوحي، وعليه مدار سعادته في الدنيا والآخرة.
الثالث: عقل نفاقي شيطاني، يظن أربابه أنهم على شيء، وهذا العقل هو حظ أكثر الناس، وهو عين الهلاك.
فإن أربابه يرون أن العقل إرضاء الناس جميعهم، واستجلاب مودتهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم، ولو كان في معصية الله، وإطلاق شهواتهم كالحمر والبهائم.
فسبحان من بيده الداء والدواء، والعافية والبلاء، والرخص والغلاء، والضلال والهدى.
وسبحان من خلق آدم، وخلق من أجله الأشياء، وبث من نسله الرجال والنساء، فمنهم العالم الذاكر، ومنهم الجاهل الغافل.
وسبحان من قسم الخلائق سعيدًا وشقيًا، وقسم الأرزاق بينهم فترى فقيرًا وغنيًا، وقسم العقول فترى منهم ذكيًا وغبيًا.
وأنت أيها الإنسان.. وأنت أيها العاقل.. وأنت أيها الراحل.
يا من سلعه كلها معيب، أمامك يوم عصيب، يا مريضًا ما يعرف أوجاعه وأسقامه، يا غافلاً عن ما يراد منه، وعن ما يراد به، وعن ما أعد له.
يا من لا يردعه ما يسمعه، ولا يقنعه ما يجمعه متى تصحو؟.
ما من وهى شبابه، وامتلأ بالزلل كتابه متى تفيق؟.
يا من كلما زاد عمره زاد إثمه، يا معتقدًا صحته فيما هو سقمه متى تصحو؟.(6/43)
فليطلب العاقل الناصح لنفسه الذروة العالية من الدين، كما يطلب أهل الدنيا الذروة العالية من الدنيا، وليشد ركائبه إلى جنة الرحمن، كما يشد الكفار ركائبهم إلى النار.
ولله در تلك القلوب الطاهرة التي رفضت حلية الدنيا وإن كانت فاخرة، كم تركت لله من شهوة وهي عليها قادرة، وباتت عيونها والناس نيام ساهرة، كم بينهم وبين بائع الآخرة؟.
3- فقه النية
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى ا? وَرَسُولِه فَهجْرتُهُ إلى ا? وَرَسُولِهِ، وَمنْ كانََتْ هجرتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوْ إلَى امْرَأةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» متفق عليه(1).
النية: هي عزم القلب على شيء ما خيرًا كان أو شرًا، ومحلها القلب.
وتطلق شرعًا على الإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء وجه الله تعالى.
والنية شرط لقبول الأعمال، فكل عمل لا قيمة له عند الله إلا بنية.
والناس في نياتهم متفاوتون:
فمنهم من يكون عمله للطاعات، وتركه للمعاصي إجابة لباعث الخوف من الله عزَّ وجلَّ.
ومنهم من يكون عمله إجابة لباعث الرجاء من الله.
ومنهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف والرجاء معًا، وهذا أكمل، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
وثمة مقام أرفع من هذين: وهو أن يعمل الطاعة على نية جلال الله، لاستحقاقه الطاعة والعبودية، وهذه أعز النيات وأعلاها، وقليل من يفهمها فضلاً أن يتعاطاها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].
والنية: هي انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنه مصلحة لها في الحال أو في المآل.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1)، واللفظ له، ومسلم برقم (1907).(6/44)
وكل إنسان مسؤول عن نيته وعمله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 36].
والله عزَّ وجلَّ عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو مطلع على نية الإنسان المضمرة في صدره، وسيحاسب كل امرئ بما نوى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 29].
والنية تنقسم إلى قسمين:
الأولى: نية العمل، بأن ينوي الوضوء أو الغسل أو الصلاة مثلاً.
الثانية: نية المعمول له، وهو الله عزَّ وجلَّ فينوي بالوضوء أو الغسل أو الصلاة أو غيرها التقرب إلى الله وحده.
والنيتان مطلوبتان في كل عمل، لكن الثانية أهم من الأولى.
والنية في العمل لها أربعة أحوال:
الأول: أن يكون أصل الباعث له على العمل طاعة الله عز وجل، دون حصول أي مصلحةٍ دنيويةٍ وراء تلك الطاعة، فهذا عمله مقبول، وهذه أعلى المراتب عند الله عزَّ وجلَّ.
الثاني: أن يقصد بالعمل الدنيا فقط، ولا ينوي شيئاً من الآخرة:
فهذا عمله مردود، وهذا صنيع أهل النفاق: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [النساء: 142].
الثالث: أن يستوي عنده قصد الدنيا، وقصد الآخرة، فلا اعتبار لهذا العمل عند الله.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «قَالَ اللهُ تَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَ» أخرجه مسلم(1).
الرابع: أن يكون الباعث له على العمل هو نية الآخرة، ونية الدنيا حصلت تبعاً، فهذا لا يؤثر، وهو مأجور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [البقرة: 198].
والأعمال الظاهرة لها ميزان.. والأعمال الباطنة لها ميزان.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2985).(6/45)
فميزان الأعمال الباطنة قوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدُنْيَا يُصِيبُهَا أوْ إلَى امْرَأةٍ يتزوجها، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» متفق عليه(1).
وميزان الأعمال الظاهرة قوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ» متفق عليه(2).
فالأول يدل على وجوب الإخلاص، والثاني يدل على وجوب المتابعة، ولا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصًا لله، صوابًا على سنة رسول الله، موزونًا بما سبق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
ولما كانت الأعمال بالنيات، فعلينا أن نوسع النية، لنحصل على الأجور الكثيرة، فإن الله واسع عليم.
ففي العبادة: ننوي القيام بالفرائض والنوافل، والسنن والمستحبات، إلى قيام الساعة، ونقوم بما نستطيع حسب الطاقة.
وفي الدعوة: ننوي هداية العالم، والله عزَّ وجلَّ يعطينا الأجر على قدر النية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت نيته هداية العالم، ودعوتهم إلى الله، ولكنه لم يخرج من الجزيرة العربية، ولكن الله كتب له أجر كل من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة.
وفي العلم: ننوي طلب العلم إلى يوم القيامة، وننوي تعليم الأمة ما جاء عن الله ورسوله من السنن والأحكام والآداب ابتغاء وجه الله، والله يعطينا الأجر على قدر النية.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1)، واللفظ له، ومسلم برقم (1907).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718) واللفظ له.(6/46)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الله كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عزَّ وجلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً » متفق عليه(1).
وهكذا في باقي الأعمال، ننوي الاستعداد للقيام بأي عمل، فإذا قمنا به كان لنا الأجر بالعمل، والباقي بالنية.
فالنية أساس الأمر وعموده وأساسه، وأصله الذي يبنى عليه، فهي روح العمل وقائده وسائقه وحامله، والعمل تابع لها مبني عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها.
وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة.
فكم بين مريد بالفتوى مثلاً وجه الله ورضاه، والقرب منه وما عنده من الثواب، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته، وما يناله منه خوفًا أو طمعًا، أو يطلب بها الرئاسة والشهرة.
فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة، أو يصليان الصلاة الواحدة، أو يؤديان الزكاة الواحدة، أو يقدمان النصيحة الواحدة، وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب.
هذا نيته أن تكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، ورسوله هو المطاع، راغبًا في ثواب ربه، طالبًا مرضاته.
وذلك نيته أن يكون قوله هو المسموع، وهو المشار إليه، وجاهه هو القائم، سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما.
لكن من سنة الله سبحانه أن يلبس المخلص من المهابة والنور، والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه، ما هو بحسب إخلاص العبد ونيته ومعاملته لربه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6491)، واللفظ له، ومسلم برقم (131).(6/47)
ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور، من المقت والمهانة والبغضاء ما هو اللائق به بحسب نيته.
والله عزَّ وجلَّ وضع الأقوال والأفعال بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد الإنسان من أخيه شيئًا عرف بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب سبحانه على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ.
ولم يرتب الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة قول أو فعل، ولا على مجرد ألفاظ المتكلم بها لم يرد معانيها، ولم يحط بها علمًا.
بل تجاوز للأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به.
وتجاوز لها عما تكلمت به أو عملته مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به، إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].
ولما نزلت هذه الآية قال الله: «قَدْ فَعَلْتُ» أخرجه مسلم(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ» متفق عليه(2).
فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم، وهذا من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب، وإرادات النفوس، لا تدخل تحت الاختيار، فلو ترتبت عليها الأحكام، لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة، ورحمة الله تعالى وحكمته تأبى ذلك.
والغلط والسهو والنسيان وسبق اللسان بما لا يريده العبد، أو التكلم به مكرهًا وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية، لا يكاد الإنسان ينفك عن شيء منه، فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة، وأصابها غاية التعب والمشقة، فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله، حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر، وكذلك الخطأ والنسيان، والإكراه والجهل بالمعنى، وسبق اللسان بما لم يرده، والتكلم في الإغلاق، ولغو اليمين.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (126).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5269) واللفظ له، ومسلم برقم (127).(6/48)
فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها، لعدم قصده ونيته، وعقد قلبه الذي يؤاخذ به، فالأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
فالخطأ من شدة الفرح كما في حديث فرح الرب بتوبة عبده، وقول الرجل من شدة فرحه لما وجد راحلته: «اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» أخرجه مسلم(1).
وأما الخطأ من شدة الغضب فكما قال سبحانه: فلو أجاب الله دعاء من دعا على نفسه وولده حال الغضب، لأهلك الداعي من دعا عليه.
وأما الخطأ من السكر فكما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [النساء: 43].
فلم يرتب على كلام السكران حكمًا حتى يعلم ما يقول.
وأما الخطأ والنسيان فقد قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 286].
فقال الله: «قَدْ فَعَلْتُ» أخرجه مسلم(2).
وأما المكره فقد قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النحل: 106].
وأما اللغو فقد رفع الله المؤاخذة به حتى يحصل عقد القلب عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 89].
وأما سبق اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ، والخطأ في القصد، فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين.
وأما الإغلاق فكل من أغلق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران، والمكره والغضبان، فقد تكلم في الإغلاق.
والله سبحانه رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرهًا، لما لم يقصد معناها ولا نواها.
فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق، والوقف واليمين والنذر مكرهًا، لا يلزمه شيء من ذلك لعدم نيته وقصده، وقد أتى باللفظ الصريح، فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2747).
(2) أخرجه مسلم برقم (126).(6/49)
والله سبحانه رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة، ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقًا من غير قصد لفرح إو دهشة أو نحو ذلك.
ومن غصب مالاً وبنى به مسجدًا، أو حفر به بئرًا للناس والبهائم، فهذا النفع الحاصل للناس متولد من مال هذا، وعمل هذا، والغاصب وإن عوقب على ظلمه وتعديه، واقتص للمظلوم من حسناته، فما تولد من نفع الناس بعمله له، وغصب المال عليه.
وهو لو غصبه وفسق به لعوقب عقوبتين، عقوبة على الغصب، وعقوبة على الفسق به.
فإذا غصبه وتصدق به، أو بنى به مسجدًا، أو فك به أسيرًا، فإنه قد عمل خيرًا وشرًا: (? ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گ گگ) [الزلزلة: 7، 8].
وأما ثواب صاحب المال المغصوب، فإنه وإن لم يقصد ذلك، فهو متولد من مال اكتسبه، فقد تولد من كسبه خير لم يقصده، فيشبه ما يحصل له من الخير بولده البار، وإن لم يقصد ذلك الخير.
وكذلك فإن أخذ ماله مصيبة، فإذا أنفق في خير، فقد تولد له من المصيبة خير، والمصائب إذا ولدت خيرًا، لم يعدم صاحبها منه ثوابًا.
والنية المجردة عن العمل يثاب عليها، والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» أخرجه مسلم(1).
والنيات محلها القلب، وإذا صح القلب صلحت النيات، وإذا فسد القلب فسدت النيات، وانعكست الآثار على الجوارح خيرًا أو شرًا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1911).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).(6/50)
والمحاسبة عند الله عزَّ وجلَّ على ما في القلب من النيات والأعمال التي تتبعها. أما الأجساد والصور والألوان فليست محل محاسبة عند رب العالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 37].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وأموالكم، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعماكم» أخرجه مسلم(1).
ولا يقبل الله عزَّ وجلَّ من النيات والأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم(2).
وكل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، وإذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» متفق عليه(3).
ويؤجر المسلم على جميع الأقوال والأعمال الصالحة إذا كانت مقرونة بالنية الشرعية، وهي التقرب بذلك العمل إلى الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: «ولست تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ ا? إلا اُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللقمة تجعلها فِي فِي امْرَأتِكَ» متفق عليه(4).
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
4- العلوم الممنوحة والممنوعة
قال الله تعالى: (?? ? چچ چ چ? ? ??) [الرحمن: 1-4].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).
(2) أخرجه مسلم برقم (2985).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (31)، ومسلم برقم (2888).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (56)، ومسلم برقم (1628).(6/51)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 19].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه البيان بأنواعه:
البيان الذهني.. والبيان اللفظي.. والبيان الكتابي.. والبيان بالإشارة.
وأعطاه العقل الذي بواسطته يستقبل العلم الذي فيه صلاحه، وصلاح معاشه ومعاده، ويسر عليه طرق ما هو محتاج إليه من العلم، فأعطاه معرفة خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، ويسر عليه طرق هذه المعرفة، وجمعها وشرحها وفصلها وبينها في كتابه عزَّ وجلَّ.
ويسر عليه طرق هذه المعرفة، فليس في العلوم ما هو أجلّ وأعظم وأبين وأيسر منها، لعظم حاجة الإنسان إليها في معاشه ومعاده: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [ص: 29].
ثم وضع سبحانه في العقل من الإقرار بحسن شرعه ودينه، الذي هو ظله في أرضه، وعدله بين عباده، ونوره في العالم.
فيه تبيان كل شيء.. وتفصيل كل شيء.. ومعرفة الحق من الباطل.. وبيان الهدى من الضلال.. ومعرفة التوحيد من الشرك.. وبيان أسماء الله وصفاته وأفعاله.. وما يحبه وما يسخطه.. وبيان ثواب أهل الطاعة.. وعقوبة أهل المعصية.. وغير ذلك من بركاته.
فلو اجتمعت عقول العالمين كلهم، فكانوا على عقل أعقل رجل منهم، لما أمكنهم أن يقترحوا شيئًا أحسن منه، ولا أعدل ولا أنفع، ولا أصلح ولا أهدى للخليقة في معاشها ومعادها منه.
فهو أعظم آياته، وأوضح بيناته على ربوبتيه وألوهيته، وعدله وإحسانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الإسراء: 88].
وكذلك أعطاهم الله سبحانه من العلوم المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجتهم، كعلم الطب والحساب، وعلم النبات والزراعة، وعلم الصناعة والمعادن، واستخراج المياه، وإقامة المباني، وصناعة وسائل النقل والاتصالات، وصناعة الأدوية، وطرق الصيد، والتصرف في وجوه الكسب المشروع والتجارة، ونحو ذلك مما فيه قيام مصالح العباد، وتيسير معاشهم.(6/52)
فسبحان العليم الحكيم الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، وزوده بآلات العلم والمعرفة، فمتى يشكر الإنسان هذه النعم؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 78].
ثم إن الله تبارك وتعالى منع البشر علم ما سوى ذلك، مما ليس من شأنهم ولا حاجة لهم به، ولا مصلحة لهم فيه، ولا نشأتهم قابلة له كعلم الغيب.. والعلم بكل ما كان وما يكون.. والعلم بما في قلوب الناس.. والعلم بعدد القطر.. وعدد أمواج البحار.. والعلم بعدد ذرات الرمال.. والعلم بعدد الأوراق ومساقطها.. والعلم بعدد الكواكب ومقاديرها والمسافات بينها.
والعلم بما فوق السماوات.. وما تحت الثرى.. وما في لجج البحار.. وما في أقطار العالم من المخلوقات والحركات.
والعلم بتسبيح الجبال والطير والحيوان والنبات.. ومعرفة ما في الأرحام، ووقت نزول الأمطار.. وعدد الأنفاس.. إلى سائر ما حجب الله عن البشر علمه، واختص بعلمه عالم الغيب والشهادة.
فمن تكلف علم ذلك فقد ظلم نفسه، وتدخل فيما لم يؤمر به، وتجاوز ما حد له، وكلف نفسه ما لا طاقة له به، وأوضاع أوقاته فيما لا يمكنه الإحاطة به.
ومن حكمته سبحانه ما منع عباده من العلم بوقت قيام الساعة، ومعرفة آجالهم، ومقدار مكاسبهم، وأماكن موتهم، وطوى علم ذلك عن جميع خلقه، واختص به وحده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 34].
وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر.
فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصيرًا لم يهنأ بالعيش، وكيف يهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت.
وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول إذا قرب الوقت أحدث توبة.
وهذا لا يرضاه العباد من بعضهم، فكيف يرضاه رب العباد.
فلو أن عبدًا أسخط سيده سنوات، ثم لما علم أنه صائر إليه أرضاه ساعة، لم يقبل منه، ولم يرض عنه.(6/53)
وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه توبة ولا إقلاع: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [النساء: 17، 18].
فما أعظم حكمة الله في عباده.. وما أعظم نعمه عليهم.. حيث ستر عنهم مقادير آجالهم.. ومبلغ أعمارهم.. ومكان وفاتهم.
فلا يزال من وفقه الله يترقب الموت في كل يوم، بل كل لحظة، فيكف عما يضره في معاده، ويجتهد فيما ينفعه ويسر به عند القدوم على ربه.
فسبحان مالك الملك، ومدبر الدهور والخلائق، القائم على كل نفس، الذي إذا شاء أحيا، وإذا شاء أمات، وإذا شاء أعطى، وإذا شاء منع، وإذا شاء عافى، وإذا شاء أسقم، وإذا شاء أغنى، وإذا شاء أفقر، وإذا شاء هدى، وإذا شاء أضلَّ.
وهو الحكيم العليم الذي يضع الشيء في موضعه، وهو أعلم بمن يصلح له، ومن لا يصلح، ومن يشكر النعمة، ومن لا يشكرها.
كاشف الكربات.. ومجيب الدعوات.. ومغيث اللهفات.. وغافر الخطيات.
أحاط بكل شيء علمًا.. وأحصى كل شيء عددًا.. ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 59].
إن هذا الكون العظيم هو كتاب الحق المفتوح، الذي يقرأ بكل لغة، ويدرك بكل وسيلة، ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ، وساكن العمائر والقصور.
كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده، فيجد فيه زادًا من الحق حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق، وهو قائم مفتوح كل آن: (? ? ? ? ?ں) [ق: 8].
ولكن العلم الإنساني الحديث يطمس هذه التبصرة، أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين والخالق الحكيم، لأنه في رؤوس مطموسة، رانت عليها خرافة المنهج العلمي الوثني، الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101].(6/54)
أما كتاب الله عزَّ وجلَّ الذي أنزله على رسوله، فقد جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وفيه العلم الحق الذي ينبغي لكل مسلم أن يتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 10].
والعلم الحق أن يعرف الإنسان حقيقة الارتباط بين هذا الكون وخالقه، وحقيقة الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه.
وهاتان حقيقتان ضروريتان لكل علم حق، وبدونهما يبقى العلم قشورًا لا تؤثر في حياة الإنسان، ومعلومات تصدع الرؤوس.
ومن أوتي من العلم مالا يبكيه، ولا يبعثه لطاعة ربه، ولا يزجره عن معصيته، خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، ويؤثر في عقله وقلبه، وروحه وبدنه، لأن الله وصف العلماء بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الإسراء: 107-109].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 28]
ومن علم هذا تفطر قلبه على كل علم يجر إلى الكبر، ولا يبعث على الخشية والعمل.
وشعور الإنسان بأن له خالقًا، خلقه، وخلق هذا الكون، يغير من شعوره بالحياة، ويجعل لوجوده قيمةً وهدفًا.
وشعوره بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه يغير من فكره وعمله.
فيؤثر الإيمان على الكفر.. والأعمال الصالحة على ما سواها.. والآخرة على الدنيا.. والأوامر على الشهوات.. والسنن على العادات.
فسبحان من استأثر بعلم كل شيء، وأحاط بكل شيء، وقدر كل شيء، وتصرف في كل شيء، وله كل شيء.
فالله قوي والعبد ضعيف.. والله قادر والعبد عاجز.. والله غني والعبد فقير.. والله عليم بكل شيء.. والعبد جاهل بكل شيء إلا ما علمه الله إياه.
أعلمه الله أشياء.. وأخفى عنه أشياء.. وأقدره على أشياء.. وأعجزه عن أشياء.. وهو الحكيم العليم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا هداة مهتدين.
5- أقسام العلم
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [البقرة: 31، 32].(6/55)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 104].
العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج، وإثباتها في النفس.
والعمل: نقل صورة علمية من النفس، وإثباتها في الخارج.
والعلوم باعتبار منفعتها نوعان:
الأول: علم تكمل النفس بإدراكه والعلم به، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، وكتبه وأمره ونهيه.
الثاني: علم لا يحصل للنفس به كمال، وهو كل علم لا يضر الجهل به، فإنه لا ينفع العلم به، كدقائق علم الفلك ودرجاته، وعدد الكواكب ومقاديرها، ونحو ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع.
والعلوم باعتبار مصدرها تنقسم إلى قسمين:
علوم شرعية.. وعلوم غير شرعية.
فالعلوم الشرعية: هي ما استفيد من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي قسمان:
منها ما يتعلق بالقلوب كالإيمان والتوحيد، والخوف والرجاء، والمحبة والتوكل ونحو ذلك.
ومنها ما يتعلق بالجوارح وهو علم المسائل والأحكام كالعلم بكيفية العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك.
والعلوم التي ليست بشرعية ثلاثة أقسام:
علم محمود.. وعلم مذموم.. وعلم مباح.
فالعلم المحمود: ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، فالطب ضروري لبقاء الأبدان وسلامتها، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله، وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وهو أفضل العلوم بعد علم الشرع، وفيه أجر بحسب نية صاحبه.
وكذلك الحساب، فإن تعلمه ضروري في المعاملات والبيوع، وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها، وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الفرض عن الباقين.
فهذه العلوم وغيرها من أصول الصناعات كالفلاحة والخياطة والحياكة ونحوها مما يحتاجه عموم الناس في حياتهم، لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وتعرضوا للهلاك، وهي فرض كفاية.(6/56)
فلا يجوز إهمالها لما فيها من منافع للناس في معاشهم، لكن نتعلم منها، ونعلم بقدر الحاجة فقط.
وأما المذموم منه: فعلم السحر والكهانة والشعوذة ونحوها مما يفسد البلاد والعباد والأخلاق.
وأما المباح منه: فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار والأحداث ونحو ذلك.
والعلوم باعتبار ذاتها ثلاثة أقسام:
قسم محمود قليله وكثيره.. وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل.. وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وخزائنه ووعده ووعيده.
وقسم مذموم قليله وكثيره.. وهو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا، إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والكهانة والنجوم ونحو ذلك.
وقسم يحمد منه مقدار الكفاية، ولا يحمد الفاضل عليه، والاستقصاء فيه، وهو علم الطب والحساب، وأصول الصناعات ونحوه من فروض الكفايات.
وأنواع العلم خمسة:
علم هو حياة الدين وأصله: وهو علم التوحيد.
وعلم هو غذاء الدين: وهو علم الإيمان، والتذكر، والتفكر في الآيات القرآنية والآيات الكونية.
وعلم هو دواء الدين: وهو علم المسائل، وعلم الفتوى، فإذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه بحكمها.
وعلم هو داء الدين: وهو الكلام المحدث، والقول على الله بلا علم.
وعلم هو هلاك الدين: وهو علم السحر والكهانة ونحوهما.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون الدين، فإذا ذهبوا إلى بيوتهم صاروا معلمين لأهلهم الدين، فإذا خرجوا إلى الأسواق والبلاد كانوا دعاة ومبلغين للدين، فإذا كانوا في ميدان الجهاد كانوا مجاهدين يقاتلون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
والعلم الشرعي له شعبتان:
فضائل.. ومسائل.
فمذاكرة الفضائل تولد الشوق والطلب والرغبة لامتثال أوامر الله، وأوامر رسوله، وهي من الإيمان، ونتعلمها قبل الأحكام، فإن القلوب تتأثر من كلام الله ورسوله، وبها تُعرف قيمة الأعمال، فتتحرك الجوارح لأداء الطاعات بالرغبة والشوق.(6/57)
والمسائل: هي الأحكام التي نتعلمها، ونعمل بها، ونعلمها للناس، والقصد من معرفتها أن تكون جميع أعمالنا على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولا ريب أن الذين أوتوا العلم والإيمان، أرفع من الذين أوتوا الإيمان فقط، والعلم الممدوح هو الذي ورثه الأنبياء لأممهم، وهذا العلم ثلاثة أقسام:
الأول: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر.
والناس في العلم بذلك متفاوتون، فمستقل ومستكثر ومحروم، والله عليم حكيم (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 269].
الثاني: العلم بما أخبر الله تعالى به مما كان من الأمور الماضية، أو ما يكون من الأمور المستقبلة والحاضرة، وفي مثله أنزل الله قصص الأنبياء مع أممهم، وأخبار اليوم الآخر، وما فيه من الوعد والوعيد ووصف الجنة والنار.
الثالث: العلم بما أمر الله به، وما نهى عنه، من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله، ومن معارف القلوب وأحوالها، وأحوال الجوارح وأعمالها، وهو دين الله وشرعه لعباده.
والعلم من حيث الحصول عليه ثلاث درجات:
الأولى: علم جلي، وهو ما يدرك بالحواس كالسمع والبصر والعقل، وهي طرق العلم وأبوابه، وكذلك ما يدرك بخبر الصادق، وما يحصل بالفكر والاستنباط.
والفرق بين العلم والمعرفة، أن المعرفة لب العلم، ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان.
الثانية: علم خفي، ينبت في القلوب الطاهرة من كدر الدنيا، والاشتغال بها، وفي الأبدان الزاكية التي زكت بطاعة الله، ونبتت على أكل الحلال.
فمتى خلصت الأبدان من الحرام، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا، زكت أرض القلب، فقبلت بذر العلوم والمعارف.
الثالثة: علم لدني، وهو ما يحصل للعبد من غير واسطة، بل بإلهام من الله، وتعريف منه لعبده.(6/58)
والعلم اللدني: ثمرة العبودية والمتابعة، والصدق مع الله، والإخلاص له، وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله، والانقياد له، فيفتح الله له من فهم الكتاب والسنة بأمر يخصه به.
فالعلم اللدني الرحماني هو ثمرة هذه الموافقة والانقياد، والمحبة التي أوجبها التقرب بالنوافل بعد الفرائض.
واللدني الشيطاني: هو ثمرة الإعراض عن الوحي، وتحكيم الهوى والنفس والشيطان.
والعلماء ثلاثة أقسام:
الأول: عالم بالله، وبأمر الله، فهذا في أعلى الدرجات.
الثاني: عالم بالله، غير عالم بأمر الله.
الثالث: عالم بأمر الله، غير عالم بالله.
أما الأول فهو الذي عرف ربه وعظمته وجلاله، وعرف أحكام دينه وشرعه، فهذا سبيل الأنبياء والصديقين.
وعلامته أن يكون دائم الذكر لربه، خائفًا منه، مستحيًا منه، عابدًا له، مطيعًا له، محبًا له، معظماً له.
وهو أعلى وأفضل مما بعده، لكونه معلمًا للقسمين بعده، وكونه بحيث يحتاجان هما له، ويستغني هو عنهما.
وأما الثاني فهو الذي استولت المعرفة الإلهية على قلبه، فهو يرى عظمة الله وكبرياءه فلا يتفرغ لتعلم الأحكام إلا ما لا بد منه.
وأما الثالث فهو الذي عرف الحلال والحرام، وحقائق الأحكام، لكنه لا يعرف أسرار جلال الله وعظمته وجماله وحقوقه على عباده.
ومعرفة الله سبحانه نوعان:
أحدها: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها جميع الناس، البر والفاجر، والمطيع والعاصي، كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 172].
الثاني: معرفة توجب الحياء منه، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وخشيته، والأنس به، والفرار من الخلق إليه، والتوكل عليه وحده، والناس فيها متفاوتون.
ولهذه المعرفة بابان واسعان:
الأول: باب التفكر والتأمل في آيات القرآن، والفهم الخاص عن الله ورسوله.(6/59)
الثاني: باب التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمة الله فيها، ومعرفة عظمته في بديع صنعها.
وجماع ذلك: الفقه في أسمائه وصفاته سبحانه، والفقه في أوامره ونواهيه، والفقه في قضائه وقدره، فمن أوتيه فليحمد الله بالعمل به، والدعوة إليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
ومن رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم الرسل بآيات تبين الحق وتظهره، وتوضح المشكل، وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للأبصار، يرى بها الإنسان كل شيء جليًا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 104].
فيا أيها الإنسان.. عش ما شئت فإنك ميت.. وأحبب من شئت فإنك مفارقه.. واعمل ما شئت فإنك ملاقيه: (? ? ?? ? ? ? ??) [الغاشية: 25، 26].
وكمال الإنسان لا بذاته، بل بإيمانه وعلمه وعمله، وأشرف العلوم وأجلّها وأكملها وأزكاها:
العلم بالله وأسمائه وصفاته.. والعلم بدينه وشرعه.
فالأول معرفة المعبود، والثاني معرفة ما يتقرب به العبد إلى المعبود، ولا بدَّ لكل عبد من هذا وهذا كل يوم.
الأول فيه غذاء قلبه وروحه، والثاني فيه عبودية بدنه وجوارحه.
وبذلك يكمل ظاهر الإنسان وباطنه، وسره وعلانيته، وقلبه وبدنه، ويسعد في دنياه وآخرته.
والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين:
علوم خبرية اعتقادية.. وعلوم طلبية عملية
فالأول: كالعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعلم بملائكته وكتبه ورسله، والعلم باليوم الآخر، وما فيه من البعث والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، ونحو ذلك.
الثاني: العلوم العملية الطلبية، وهي ما يتعلق بأعمال القلب والجوارح من الأحكام، من الأركان والواجبات، والسنن والمستحبات، والمحرمات والمكروهات، والمباحات.
1- العلم بالله وأسمائه وصفاته
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 19].
وقال الله تعالى: (? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [المائدة: 98].(6/60)
العلم بالله ما قام عليه الدليل، وهو تركة الأنبياء التي يرثها العلماء عنهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين.
وهو الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال والأحوال.
وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد.
وبه يُعرف الله ويُعبد، ويُذكر ويحمد، وبه تُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام.
وهو حجة الله في أرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إلى ربهم وإلى جنته، ولا دليل إلى الله والجنة إلا الكتاب والسنة.
وأفضل ما اكتسبته النفوس، وحصَّلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المجادلة: 11].
وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالية في الدنيا والآخرة.
وأكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان، اللَّذَين بهما السعادة والرفعة، وأكثرهم ليس معهم إيمان ينجي، ولا علم يرفع، بل قد سدوا على أنفسهم طرق العلم والإيمان اللَّذين جاء بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة.
وكل طائفة اعتقدت أن العلم معها وفرحت به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 53].
وأعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة، والفهم عن الله ورسوله نفس المراد، وعلم حدود المنزل.
وأخس الهمم في طلب العلم من قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل، ولا هو واقع، وشغل الأوقات والناس بذلك، وكانت همته معرفة الاختلاف، وتتبع أقوال الناس، وضرب بعضها ببعض، وشحن أذهان الناس بذلك: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 101].
وأعلى الهمم في باب الإرادة والعمل، أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله، والوقوف مع مراده الديني الأمري.
وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله لا غير، فهو إنما يعبد الله لمراده منه، لا لمراد الله منه.(6/61)
فالأول: يريد الله، ويريد مراده من الله، والثاني يريد من الله وهو فارغ عن إرادته.
ولذة العلم أعظم اللذات، واللذة التي يجد الإنسان طعمها في الحياة، والتي تبقى بعد الموت، وتنفع في الآخرة، هي لذة العلم بالله وأسمائه وصفاته، ولذة مناجاته وعبادته، وهي لذة الإيمان والأعمال الصالحة.
فأطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه.
وفضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته.. وتارة من شدة الحاجة إليه.. وتارة من ظهور النقص والشر بفقده.. وتارة من حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده.. وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه وإفضائه إلى أجلّ المطالب.
وهذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم، فإنه أعم شيء نفعاً، وأكثره وأدومه، والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفس.
والعلم ملائم للنفوس غاية الملاءمة، والجهل مرض ونقص، وهو في غاية الإيذاء والإيلام للنفس.
والعلوم غذاء للقلوب.. والأطعمة غذاء للأبدان.. والعلوم متفاوتة أعظم التفاوت وأبينه كالأطعمة.
فليس علم النفوس بفاطرها وبارئها ومبدعها، ومحبته والتقرب إليه، كعلمها بالطبيعة وأحوالها.
وشرف العلم تابع لشرف المعلوم، ولا ريب أن أجلّ معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السموات والأرضين، الملك الحق المبين.
فأجل العلوم وأفضلها وأشرفها هو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، بل هو أصلها كلها.
فإن العلم الإنساني لا يساوي ذرة بالنسبة للعلم الإلهي، وما يعلمه الإنسان من العلوم لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمه، والعلم بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله يستلزم العلم بما سواه.
فهو في ذاته سبحانه رب كل شيء ومليكه، والعلم به أصل كل علم ومنشؤه، فمن عرف ربه عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، والأنعام السائمة خير منه.(6/62)
ولا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم للقلب من معرفة ربه، ومحبة فاطره وباريه، ودوام ذكره، والسعي في مرضاته، وهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه.
وله خلق الخلق.. ولأجله نزل الوحي.. وأرسلت الرسل.. وقامت السموات والأرض.. وخلقت الجنة والنار.
ولأجله شرعت الشرائع، وقام سوق الجهاد، وضربت أعناق من أباه، وآثر غيره عليه.
ولا سبيل إلى الدخول إلى ذلك والمنافسة فيه إلا من باب العلم، فإن محبة الشيء فرع عن الشعور به.
وأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له وخضوعاً له وتعظيماً له، والعلم يفتح الباب العظيم الذي هو سر الخلق والأمر.
ومن أحب شيئاً كانت لذته عند حصوله على قدر حبه إياه، والحب تابع للعلم بالمحبوب، ومعرفة جماله الظاهر والباطن.
فلذة النظر إلى الله بعد لقائه بحسب قوة حبه وإرادته، وذلك بحسب العلم به وبصفات كماله.
فالعلم أقرب الطرق إلى أعظم اللذات، وكل ما سوى الله مفتقر إلى العلم، فالخلق والأمر مصدرهما علم الرب وحكمته، وما قامت السموات والأرض إلا بالعلم، وما بعثت الرسل إلا بالعلم، وما أنزلت الكتب إلا بالعلم، ولا عُبد الله وحده وحُمد وأُثني عليه ومُجد إلا بالعلم، ولا عُرف الحلال من الحرام إلا بالعلم، ولا عُرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم.
ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومحبته وطاعته، والتقرب إليه، وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته، والله يستحقه لذاته.
وهو سبحانه المحبوب لذاته، الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتأله إلا له، فهو يستحق ذلك؛ لأنه أهل أن يُعبد، ولو لم يخلق جنة ولا ناراً، ولو لم يضع ثواباً ولا عقاباً.
فهو سبحانه يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لذاته، ولما له من أوصاف الكمال والجلال والجمال.
وحبه عزَّ وجلَّ والرضا به وعنه، والذلة والخضوع له والتعبد هو غاية سعادة النفس وكمالها، والنفس إذا فقدت ذلك، كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه.(6/63)
والطريق إلى العلم بأن الله لا إله إلا هو أمور:
أحدها: بل أعظمها تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته، وجلاله وجماله، فإن معرفة ذلك يوجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد، وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأن الله وحده المتفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المتفرد بالألوهية والعبودية.
الثالث: العلم بأن الله وحده هو المتفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به، ومحبته وعبادته وحده لا شريك له.
الرابع: العلم بنصره لأوليائه، وخذلان أعدائه، فإن ذلك يوجب التعلق به وطاعته، والحذر من معصيته، وإخلاص العبادة له.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك ولا يملك عابدوها نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، ولا تجلب خيراً، ولا تدفع شراً.
فالعلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله، وتعلق القلب به، وبطلان ألوهية ما سواه.
وتدبر القرآن العظيم والتأمل في آياته هو الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد، ومعرفة الله بآياته ومخلوقاته، ومعرفة جلاله وجماله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله: (ک گ گ گ گ ? ??) [محمد: 24].
وكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الإقبال على الطاعات، والانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 28].
والعلم بعظمة الله وكبريائه داع إلى خشيته، وأهل خشيته هم أهل كرامته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [البينة: 8].
فأشرف العلوم وأزكاها، وأعلاها وأعظمها، العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.(6/64)
فلا بدَّ للعبد الضعيف العاجز.. الفقير المحتاج.. الظلوم الجهول.. الذي لا يستغني عن ربه طرفة عين أن يعرف ربه الذي يربيه بنعمه الظاهرة والباطنة، وأن يعرف إلهه ومعبوده الذي تكفل بكل ما يحتاجه العباد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه(1).
لا بدَّ لهذا العبد أن يعرف أن ربه هو القوي وحده؛ ليستعين به وحده.
ويعرف أن ربه هو الغني وحده؛ ليطلب منه وحده كل ما يحتاجه.
ويعرف أن ربه هو العفو وحده؛ فيطلب منه مسامحته.
ويعرف أن ربه هو الغفور وحده؛ ليطلب منه مغفرة ذنوبه.
ويعرف أن ربه هو الملك وحده؛ فيتوجه إليه بالطاعة والعبودية وحده.
ويعرف أن ربه هو الرحمن؛ ليطلب منه الرحمة.
ويعرف أن ربه هو اللطيف؛ ليسأله اللطف به.
ويعرف أن ربه هو الكريم؛ ليشكره على إحسانه وإنعامه.
ويعرف أن ربه هو العزيز؛ فيطلب منه أن يعزه في الدنيا والآخرة.
ويعرف أن ربه الكبير؛ ليكبره، وأنه العظيم؛ ليعظمه، وأنه الخالق؛ فيخصه بالعبادة وحده دون سواه.
ويعرف أن ربه العليم بكل شيء؛ فيسأله أن يعلمه، ويحذر من معصيته.
ويعرف أن ربه الحي القيوم؛ ليسأله أن يكلأه ويحفظه.
ويعرف أن ربه الرزاق؛ ليسأله أن يرزقه.
وهكذا في بقية الأسماء يتعلمها، ويحفظها، ويعبد الله بمقتضاها: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 180].
وقد ذكرنا تفصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله في الباب الأول من هذا الكتاب فليرجع إليه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).(6/65)
إن معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله هي الفقه الأكبر، وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وهي أساس دعوة الرسل، إذ لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها وفاطرها ومعبودها، وأن يكون أحب إليها مما سواه، وأن تسعى فيما يقربها إليه دون سائر خلقه.
والعقول محال أن تستقل بمعرفة ذلك فاقتضت رحمة الله أن بعث الرسل إلى خلقه مبشرين ومنذرين، وبه معرفين، وإليه داعين.
وجعل لب دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة الرب المعبود بألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:
الأول: تعريف الناس بالطريق الموصل إليه، وهو شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه في الآخرة، من النعيم المقيم لمن أطاعه وآمن به، والعذاب الأليم لمن كفر به وعصاه.
والله عزَّ وجلَّ رؤوف بالعباد، جواد كريم، عفو غفور، وليس العجب من مملوك فقير عاجز يتذلل لله ويتعبد له، ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه.
إنما العجب الذي يأخذ الألباب والعقول من مالك غني قادر يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه، ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه.
والله عزَّ وجلَّ محسن، والعبد مسيء أو مفرط أو مقصر، فطوبى لعبد إن آخذه ربه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله.
وإن عمل حسنة رآها من منَّته، وإن عمل سيئة رآها من تخلِّيه عنه وخذلانه له.
فإن عذبه عليها فبعدله، وإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده.
ومن أعجب الأشياء:
أن تعرف الله بجلاله وجماله ثم لا تحبه ولا تطيع أمره.
وأن تسمع داعيه يدعوك إليه ثم لا تجيبه.
وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره وتعرض عنه.
وأن تعرف قدر حلمه وعفوه ومغفرته ثم لا تقف ببابه.
وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له بالمنكرات والمعاصي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
فسبحان الله ما أضعف بصائر العباد؟.
كيف يُخاف ويُرجى من لا حول له ولا قوة، ولا يملك مثقال ذرة؟.(6/66)
بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان، ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه.
فإنه على قدر خوفك من غير الله، يسلطه الله عليك، وعلى قدر رجائك لغير الله يكون الحرمان.
وأساس كل خير أن يعلم العبد أن الله يراه ويسمعه، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله وحده.
وحينئذ يتيقن العبد أن الحسنات من نعم الله فيشكره عليها.
ويتضرع إليه أن لا يقطعها عنه.
وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فيبتهل إليه أن يحول بينه وبينها، وأن لا يكله في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسه.
والعارف: هو من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في نيته ومقصوده وعمله.
ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة، وآفاته المشينة.
ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته.
ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله.
ومن علامات المعرفة بالله حصول الهيبة منه، وحصول السكينة، فمن ازدادت معرفته بربه، ازدادت هيبته وسكينته، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
ومن عرف الله تعالى بكماله وجلاله وجماله ضاقت عليه الدنيا بسعتها شوقاً إلى ربه، فالدنيا سجن المؤمن، واتسع عليه كل ضيق؛ لأطمئنانه بربه وثقته به.
ومن عرف الله عزَّ وجلَّ قرت عينه بالله، وقرت عينه بالموت، وقرت به كل عين، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق.
ومن عرف الله تبارك وتعالى لم يبق له رغبة فيما سواه، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به، وتلذذ بذكره وعبادته، وخافه ورجاه، وتوكل عليه وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجله وعظمه على قدر معرفته به.
والعارف لا يطالب ولا يخاصم ولا يعاتب، ولا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له على أحد حقاً، ولا يأسف على فائت، ولا يفرح بآت.(6/67)
ولا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض صبوراً يطؤها البر والفاجر، ونافعاً كالسحاب نافعاً يظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب، وكالشمس ينور كل ما مر به.
والعارف ملازم لشيئين:
بكاء على نفسه.. وثناء على ربه.
وذلك لعلمه ومعرفته بنفسه وآفاتها وعيوبها، ومعرفته بربه وكماله وجلاله.
والعارف أنسه بربه، ووحشته ممن يقطعه عنه، أنس بالله فأوحشه من الخلق، وافتقر إلى الله فأغناه عنهم، وذلَّ لله فأعزه فيهم، وتواضع لله فرفعه بينهم، واستغنى بالله فأحوجهم إليه.
والمعرفة حياة القلب مع الله والأنس به، وعبادته بما يرضيه.
والمعرفة على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: معرفة أسماء الله وصفاته، فلا يستقر للعبد قدم في المعرفة ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جلَّ جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه.
فالإيمان بالأسماء والصفات هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان.
ولما كان أحب الأشياء إلى الله مدحه وحمده والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر بالله، وهو شر من الشرك وأقبح.
فإنه لا يستوي جحد صفات الملك وحقيقة ملكه، والتشريك بينه وبين غيره في الملك.
فالمعطلون أعداء الرسل بالذات، بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل، فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن السوء به لما أشرك به.
كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لقومه: (? ? ? ? ?? ژ ژڑ) [الصافات: 86، 87].
أي ما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟.
أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟.
أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرِّفه كالملوك؟.
أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟.
أم هو قاسٍ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟.
أم هو ذليل محتاج إلى أولياء يتكثر بهم من قلة، ويتعزز بهم من ذلة؟.
أم يحتاج إلى ولد يساعده ويرث عنه ملكه، فيتخذ صاحبة يكون له الولد منها ومنه؟.(6/68)
تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 116، 117].
فسبحان الله أين العقول والبصائر؟ وأين القلوب والألباب؟.
أيليق بالعاقل أن ينكر مدبر هذا الكون؟.
أم يليق به أن يجعل معه شريكاً في التصريف والتدبير؟.
فيسأله ويدعوه، ويرجوه ويخافه.
ألا ما أعظم تلاعب الشيطان بالعباد، حتى حطهم إلى هذه الدرجة السافلة في الاعتقاد والعمل.
فلا يليق بهم يوم القيامة إلا الحرمان من الجنة، ودخولهم النار: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
فالتعطيل من الشرك وأساسه، فلا تجد معطلاً إلا وشركه على حسب تعطيله، فمستقل ومستكثر.
والرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم أُرسلوا بالدعوة إلى الله، وبيان الطريق الموصِّل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه.
فعرَّفوا المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه: يكلم ملائكته.. ويدبر أمر مملكته.. ويسمع أصوات خلقه.. ويرى أفعالهم وحركاتهم.. ويبصر ظواهرهم وبواطنهم.
ويشاهدونه كل يوم:
يأمر وينهى.. ويرضى ويغضب.. ويحب ويسخط.. ويغيث الملهوف.. ويكرم أهل طاعته.. ويهين أهل معصيته.. ويحيي ويميت.. ويعطي ويمنع.. ويجبر الكسير.. ويجيب المضطر.. ويؤتي الملك من يشاء.. وينزع الملك ممن يشاء.. ويعز من يشاء.. ويذل من يشاء.
كل يوم هو في شأن:
يغفر ذنباً.. ويفرج كرباً.. وينصر مظلوماً.. ويقصم ظالماً.. ويهدي ضالاً.. ويرحم مسكيناً.. ويشفي مريضاً.. ويقضي ديناً.. ويسهل عسيراً.
يُقدم ما يشاء تقديمه.. ويؤخر ما يشاء تأخيره.. وأزمة الأمور كلها بيده وحده لا شريك له.
فطوبى لعبد رزقه الله هذه المعرفة فعبد الله كأنه يراه.(6/69)
وكذلك عرَّف الرسل العباد بالطريق الموصِّل إلى الله، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده ووعيده.
وكذلك تعريف العباد ما لهم بعد الوصول إليه، وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب والميزان، والصراط والحوض.
وقد جاء الوحي بإثبات صفات الرب، وظهرت شواهدها في المخلوقات، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، والصور تدل على وجود المصور سبحانه، والنعم تدل على وجود المنعم.
ويظهر شاهد اسم الرازق من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم الرحمن من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة.
ويظهر اسم الحليم من حلمه على الجناة والعصاة وعدم معاجلتهم.
ويظهر اسم الغفور والتواب من مغفرة الذنوب، وقبول التوبة.
وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله.
فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسماء الله وصفاته وأفعاله.
الدرجة الثانية: معرفة الذات.
فإذا استمر عكوف القلب على الله عزَّ وجلَّ، ونظر قلبه إليه كأنه يراه سبحانه، ويرى تفرده بالخلق والأمر، والنفع والضر، والعطاء والمنع فقد كملت وتمت معرفة العبد لربه.
وكلما تمكن العبد في التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه، لم يعرفها العبد من ذاته، ولا بغير تعريف الحق له.
وعرف أن الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وقادر على كل شيء، وعالم بكل شيء، ومحيط بكل شيء.
وهذا يوصله إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال والجلال والجمال.
الدرجة الثالثة: معرفة مستغرقة في محض التعريف.
فالمعرفة: صفة العبد وفعله، والتعريف: فعل الرب وتوفيقه.
فالله عزَّ وجلَّ هو الذي عرَّف العبد فعرف، ولولا فضل الله ما وجد، ولا علم، ولا آمن، ولا اهتدى.(6/70)
وهذه مرتبة شريفة وفضل من الله، فهو الذي خلق الإنسان وعلمه ما لم يعلم، وصاحب هذه المعرفة كلما كانت معرفته أتم كان قربه من ربه أتم.
ويجب على كل عبد أعطاه الله عقلاً يدرك به حقائق الأشياء أن يعرف ربه.. ونفسه.. ودنياه.. وآخرته.
فإذا عرف ربه.. نشأ من ذلك محبة الله وتعظيمه، وطاعته وعبادته.
وإذا عرف نفسه.. نشأ من ذلك الحياء والخوف من ربه.
وإذا عرف دنياه.. نشأ من ذلك شدة الرغبة عنها.
وإذا عرف آخرته.. نشأ من ذلك شدة الرغبة فيها.
والناس في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله متفاوتون، حسب كمال المعرفة ونقصها.
فمنهم من يعرف ربه بالجود والإفضال والإحسان.
ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم، والتجاوز والصفح.
ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام.
ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة.. ومنهم من يعرفه بالقوة والقدرة.. ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء.. ومنهم من يعرفه بالرحمة واللطف.. ومنهم من يعرفه بالقهر والملك.. ومنهم من يعرفه بالرقابة والحفظ.. ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته، وإغاثة لهفته، وقضاء حاجته.
وأكمل هؤلاء من عرفه بجميع أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله.
فرأى ربه فعالاً لما يريد، فوق كل شيء، قادراً على كل شيء، خالقاً لكل شيء، أكبر من كل شيء، وبيده كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 68].
وأحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه العارفون بما يستحقه مولاهم من أوصاف الجلال ونعوت الكمال، وبما أسداه إلى عباده من الإنعام والإفضال، وبما يستحيل عليه سبحانه من العيوب والنقائص، والتحول والزوال، وما يجوز له فعله من الأمر والنهي، والوعظ والزجر، والبعث والإرسال، والتبشير والإنذار، والحشر والنشر، والثواب والعقاب، والإهانة والإجلال.
فهم لا يعبدون سواه، ولا يبغون إلا رضاه.(6/71)
قد أحضرهم لديه، فلا يشكون إلا إليه، ولا يتوكلون إلا عليه، فهم في رياض معرفته حاضرون، وإلى كمال صفاته ناظرون:
إن نظروا إلى جلاله هابوه.. وإن نظروا إلى جماله أحبوه.
وإن نظروا إلى إحسانه شكروه.. وإن نظروا إلى شدة نقمته خافوه.
وإن نظروا إلى سعة رحمته رجوه.. وإن نظروا إلى آلائه وإنعامه حمدوه.
وإن نظروا إلى أمره ونهيه أطاعوه.. وإن نظروا إلى ندائه أجابوه.
وإن نظروا إلى توحده بالأفعال لم يتكلوا إلا عليه.
وإن نظروا إلى اطلاعه عليهم استحوا أن يخالفوه.
فهم في هذه الرتب مختلفون، وأفضلهم في هذه الدار أعلاهم غداً في دار القرار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
وأهم المعارف محصور في أمرين:
معرفة الربوبية.. ومعرفة العبودية.
وكمال معرفة الربوبية بينه الله بقوله سبحانه: (پ پ پ پ? ? ?? ? ? ??) [الفاتحة: 2-4].
أما معرفة العبودية فلها مبدأ وكمال.. وأول وآخر.
أما أولها ومبدؤها فهو الاشتغال بالعبودية، وهو المراد بقوله سبحانه: (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
وأما كمالها وآخرها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله.
فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل المطالب كلها، وهو المراد بقوله سبحانه: (? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
فعلينا إذا عرفنا الله أن نطيعه.. وإذا قرأنا القرآن فيجب أن نعمل به.. وإذا كنا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن نعمل بسنته.. وإذا عرفنا الشيطان فيجب أن نحذره ولا نوافقه.
وإذا كنا نحب الجنة فيجب أن نعمل لها.. وإذا كنا نخاف الله فيجب أن نقلع عن الذنوب.. وإذا عرفنا أن الموت حق فيجب أن نستعد له.. وإذا عرفنا أننا نأكل من رزق الله فيجب أن نشكره.. ونستحي منه، فلا نأكل من رزقه ونعصيه.
وعلينا أن نعمل للدنيا بقدر بقائنا فيها.. ونعمل للآخرة بمقدار بقائنا فيها.(6/72)
ونعمل لله بمقدار حاجتنا إليه.. ونعمل من المعصية بقدر ما نطيق من حرارة النار، وهيهات ما لأحد بنار جهنم من طاقة.
والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه.
واليقين: هو أن نعلم أن الفوز والفلاح، والسعادة والنجاة، وجميع المخلوقات كلها بيد الله وحده لا شريك له.
والإنسان إذا جاء في قلبه نور الإيمان رأى كل شيء على حقيقته.
الدنيا والآخرة.. الأموال والأشياء.. الأعمال والأخلاق.. وكما أنه إذا طلعت الشمس ميز الإنسان الحجر من الذهب، فأخذ الذهب وترك الحجر، فكذلك بنور الإيمان يقدم المسلم الآخرة على الدنيا، ويؤثر الأعمال الصالحة على جمع حطام الدنيا، ويعمل لآخرته بقدر طاقته، ويأخذ من الدنيا بقدر حاجته.
والعلم من أحسن الصفات التي تحصل بها اللذة، وهو درجات.
فأعلاها: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ودينه وشرعه.
فالعلم بالله وأسمائه وصفاته ألذ العلوم وأشرفها وأعظمها.
ولذة القلب بمعرفة الله تعالى أعظم من لذة البدن بالأكل والشرب، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته في لقاء الله تعالى ورؤيته ورضوانه وسماع كلامه.
ولذة النظر إلى الله يوم القيامة تزيد على لذة المعرفة به في الدنيا، وما فوقها لذة.
نسأل الله أن يبلغنا وسائر المسلمين إياها.
فالعارف حقاً من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرف دينه وشرعه، ثم صدق الله في معاملته، وأخلص له العمل.
يعتزل الخلق فيما بينه وبين الله، حتى كأنهم أموات لا يملكون له ضراً ولا نفعاً.
ويتنقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية أخرى، ويتقلب في محاب الله ومراضيه، جاهداً في إصلاح نفسه وفي إصلاح غيره.(6/73)
فتراه مصلياً.. ذاكراً.. تالياً لكتاب ربه.. داعياً إلى الله.. معلماً للكتاب والسنة.. متعلماً.. متفقهاً.. منفقاً.. متصدقاً.. حاجاً.. صائماً.. مجاهداً.. ناصحاً.. آمراً بالمعروف.. ناهياً عن المنكر.. واصلاً لرحمه.. محسناً إلى الخلق.. مواسياً للفقراء.. وهكذا قلبه متعلق بالآخرة.. متأهب للقدوم على ربه.. معرض عن الدنيا.
قلبه وجوارحه متحركة فيما يرضي ربه.. مجتنبة لما يسخطه.. وألذ شيء لديه خلوته بربه والقيام بين يديه.
مسبحاً له تارة.. ومكبراً له تارة.. وحامداً له تارة.. ومستغفراً له تارة.. وسائلاً له تارة... ومعظماً له تارة.
فإذا حصل له ذلك فتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها، إذ يجد فيها اللذة والراحة.
فإذا دخل في الصلاة ودّ أن لا يخرج منها؛ لأنه يناجي مولاه، ويعبد الله كأنه يراه.
ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله وتلاوته فلا يشبع منه.
ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة أسمائه وصفاته، وجلاله وجماله.
ثم يُفتح له باب الحياء من الله فيستحي منه، ويُرزق دوام المراقبة للرقيب.
ثم يفتح له باب الشعور بالقيومية، فيرى تقلبات الكون وتصاريف الوجود بيده سبحانه فيتخذه وكيلاً، ويرضى به مدبراً وكافياً.
وهكذا يترقى من معرفة إلى معرفة، ومن عمل إلى آخر، ومن منزلة إلى منزلة، حتى يلقى ربه مجاهداً صابراً محتسباً.
ومعرفة الله عزَّ وجلَّ تقوم على ثلاثة أركان:
الهيبة.. والحياء.. والأنس.
فإذا عرف قدرة الله وقوته وعظمته وجلاله جاءت عنده صفة الهيبة.
وإذا عرف نعم الله عليه وعلى غيره مع قلة الشكر، وكثرة المعاصي، جاء عنده الحياء.
وإذا عرف لطف الله ورحمته، وكرمه وجوده، وإنعامه وإحسانه، جاء عنده الأنس بالله، والوحشة من الخلق.
وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله، والمعرفة به، وإخلاص العبادة له، فليهنأ بذلك من رزق ذلك: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].(6/74)
فيا منفقاً بضاعة العمر في مخالفة حبيبه، والبعد عنه.
أما لك في رضا الرحمن من نصيب؟.. أما لك في الجنة من شوق؟.
ونور العلم لم يحجب عن القلوب لبخلٍ ومنعٍ من جهة المنعم سبحانه، ولكنه حُجب لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب.
فالقلوب كالأواني ما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله، ولولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء.
وليس المقصود من العلم العمل فقط، بل المقصود الإيمان والعمل، ولو كان المقصود من العلم العمل فقط لكان المنافقون في الجنة، لكنهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم يعملون بلا إيمان.
وعلم الرب شيء، ومعرفة الرب شيء آخر، وطريق معرفة الرب هو الميدان، والله سبحانه علمنا كيف تعرف موسى على ربه في الميدان في الوادي المقدس طوى، عند الشجرة حين ناداه الله فعلمه التوحيد نظرياً بقوله: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 14].
ثم عرَّفه الإيمان عملياً بتقليب حال العصا أمامه في الحال، فقال له: (? چ چ چچ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گگ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [طه: 17-21].
ثم أمره الله بعد ذلك أن يذهب إلى فرعون، فلما ذهب موسى إلى فرعون ما خاف منه؛ لأنه عرف أن ربه معه، وقبل ذلك كان موسى في قصر فرعون عنده علم الرب، ولما خرج إلى مدين جاء عنده معرفة الرب، معرفة الإيمان بالله الذي بيده كل شيء.
والتربية الإيمانية لها شروط:
أهمها عدم الالتفات إلى الأسباب؛ لأن قدرة الله تظهر إذا انقطعت الأسباب وتوجه المؤمن إلى ربه، فقدرة الله مخفية وراء الأسباب، مع الأسباب لا تظهر.
فترك موسى صلى الله عليه وسلم زوجته وماله.. ولما اقترب قيل له: اخلع نعليك.. ولما اقترب أكثر قيل له: ألق عصاك وهي نافعة.. ثم قيل له خذها وهي ضارة؛ ليعلم أن كل شيء بيد الله، والله يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.(6/75)
وموسى تعلم التربية بأقسامها الثلاثة في الميدان:
التربية البدنية.. ثم التربية الأخلاقية.. ثم التربية الإيمانية.
تعلم التربية البدنية في قصر فرعون، فلقوته قتل القبطي، ورفع الحجر وحده عن بئر مدين، ولطم ملك الموت.. ثم أخرجه الله إلى مدين ليتعلم التربية الأخلاقية؛ لأن الدعوة لا بدَّ أن يكون معها أخلاق من الرفق والرحمة، والحلم والصبر، فرعى الغنم في مدين عشر سنين، وكل نبي رعى الغنم؛ لأن رعي الغنم شبيه برعاية البشر.. ثم نقله الله إلى ميدان آخر، وهو التربية الإيمانية، في البقعة المباركة من الشجرة، كما قص الله ذلك في القرآن في سورة طه والقصص وغيرهما.
والصحابة رضي الله عنهم لما هاجروا إلى المدينة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رباهم عملياً على معرفة الرب، ومعرفة قدرته، فجاءت عليهم في المدينة أحوال شديدة، أصابتهم الحمى، ولا يولد لهم مولود لمدة سنتين، وصاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء، وهزلت أجسامهم.
ولكن لما كانت تربيتهم قوية لم يتأثروا بذلك، فهي إعداد لهم، وترقية لإيمانهم، فقد واجهوا الكفار بعد ذلك في بدر بلا عدد ولا عدة فهزموهم بإذن الله.
ففي مكة كان مصنع الرجال، وتربية الرجال، وفي المدينة كان استخدام الرجال في الميدان.
لذلك في مكة لما أوذي المسلمون لم يدعُ الرسول صلى الله عليه وسلم لهم؛ لأنهم في ميدان التربية، لكن في بدر دعا لهم بقدر حاجتهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 9، 10].
فأظهر الله لهم قدرته، ونصرهم وأعزهم.(6/76)
ففي غزوة بدر أظهر الله قدرته، فأمد المؤمنين بألف من الملائكة، ثم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة آلاف يقاتلون مع المؤمنين، وكان يكفي ملك واحد لتدمير هؤلاء وديارهم كما فعل جبريل بقوم لوط، ولكن الله فرح بخروج هؤلاء المؤمنين لنصرة دين الله، وإعلاء كلمته، ثم قال الله للملائكة إني معكم فثبِّتوا الذين آمنوا، ثم بين لهم أن النصر من عند الله، ينصر من ينصره لنفي اليقين عن الملائكة، حتى لا يكون التوجه إلا إلى الخالق سبحانه، ثم نصرهم الله مع أن أحوالهم ليس فيها من مقومات النصر شيء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [آل عمران: 123].
لذلك ربى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على الدين وعلى الجهد للدين، وبسبب جهدهم للدين صارت أوامر الله غالية عندهم، لا يفرطون بها، يبذلون أموالهم وأنفسهم من أجلها، ويتركون ديارهم وشهواتهم من أجلها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس قدوة للأمة في الصلاة فقط، بل هو إمام وقدوة في كل شيء، في العبادات، والمعاملات، والدعوة، والجهاد.
2- العلم بأوامر الله
قال الله تعالى: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [الجاثية: 18].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء في العالم العلوي وفي العالم السفلي.
خلق جميع المخلوقات وجعل لها أوامر.
وأوامر الله عزَّ وجلَّ نوعان:
أوامر كونية لكافة المخلوقات.. وأوامر شرعية خاصة بالإنس والجن.
وأوامر الله الكونية ثلاثة أقسام:
الأول: أمر الإيجاد، وهو أمر متوجه من الرب سبحانه إلى جميع المخلوقات بالإيجاد، فقد كان الله جل جلاله، ولا شيء غيره، ثم خلق خلقه كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [الزمر: 62].
فهو سبحانه الذي يخلق ما شاء في أي وقت شاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 82].(6/77)
الثاني: أمر البقاء، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء، ولو رفع الله عنها أمر البقاء لهلكت وفنيت وزالت، فهي باقية بأمر الله لها بالبقاء كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [فاطر: 41].
الثالث: أمر النفع والضر، والتحريك والتسكين، والإحياء والإماتة، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات، فلا ينفع شيء ولا يضر إلا بإذن الله، ولا يتحرك شيء ولا يسكن إلا بإذن الله، ولا يحيا شيء ولا يموت إلا بإذن الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 188].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [غافر: 68].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [يونس: 22].
وهذه الأوامر الكونية لازمة الوقوع.
أما الأوامر الشرعية فهي أمر الله الشرعي الموجه إلى الثقلين: الإنس والجن، وهو الدين الذي أرسل الله به رسله.
وأوامر الله الشرعية خمسة أقسام:
الإيمان.. العبادات.. المعاملات.. المعاشرات.. الأخلاق.
وهذه الأوامر الشرعية هي مجموع الدين، قد يستجيب لها بعض الناس، وقد يردها البعض الآخر.
وقد ترك الله للعباد أمر الاختيار: فيستجيب لها من يعلم الله أنه أهل للكرامة، ويردها من يعلم الله أنه أهل للإهانة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وحيث يجعل هدايته، وحيث يجعل علمه.
ولا إكراه في الدين: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الكهف: 29].
والهداية بيد الله، ولكن الله أقام الحجة على العباد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأعطاهم آلات الإدراك التي يعلمون بها الحق من الباطل، وهي السمع والبصر والعقل: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [النحل: 44].
وبعد البيان هدى الله من شاء إلى الحق بمنه وفضله، لعلمه بمن يصلح للهداية، وترك من شاء ممن لم يرد هدايته وخلى بينه وبين نفسه، لعلمه سبحانه بأنه يصلح للغواية لا للهداية.(6/78)
فهدى الله بفضله من شاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأضل من شاء بعدله، بعد قيام حجته سبحانه.
وأسعد الخلق من عرف الحق، وعمل به، ودعا إليه، وصبر على كل ذلك.
فالإسلام هو الدين الحق الذي ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بخلقه في جميع شئون الحياة.
فهو الدين الكامل الشامل الذي أكرم الله به البشرية، ودعاهم إلى الأخذ به ليسعدوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 3].
فهو منهج عظيم شرعه الله لعباده، منهج بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وشهوة الإنسان، وضعف الإنسان.
منهج عدل مطلق لجميع الإنسانية، لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة ولا لشعب، ولا لجنس، ولا لجيل دون جيل؛ لأن الله رب الجميع، والله يريد أن يسعد الجميع، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وهو منهج عظيم، شرعه الذي خلق الإنسان، الذي يعلم حقيقة فطرته، وحاجات هذه الفطرة، وما ينفعها وما يضرها، وما يوافقها وما يخالفها، وما يسعدها وما يشقيها.
وحسب الناس أن يقبلوه، ويسارعوا إليه؛ ليسعدوا في الدنيا والآخرة.
وهو كذلك منهج من مزاياه أن الذي شرعه وأمر به هو خالق هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان، فهو منهج يتلاءم مع ما يجري في هذا الكون، فلا يروح يعارك مخلوقات الله الأخرى، بل يتعرف عليها ويصادقها، حسب المنهج الذي يهديه ويحميه.
وهذا المنهج يكرم الإنسان ويحترمه، ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج، مكاناً للاجتهاد في فهم النصوص الواردة، ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو المبادئ العامة للدين.
ولأهمية هذا الدين وحاجة العباد إليه أرسل به رسله، ليطاعوا بإذنه، لا ليخالف أمرهم، ولا ليكونوا فقط مجرد وعاظ، يلقون الموعظة العابرة، لتذهب في الهواء بلا سلطان... كلا.
إن هذا الدين لباس لهذه الأمة، ووقاية لها من كل سوء، ومتى نزعته أصبحت عارية، وصارت عرضة للهلاك.(6/79)
إن الدين منهج حياة واقعية للأمة، بشكلها ونظامها، وأوضاعها وقيمها، وأخلاقها ومعاشراتها، وعباداتها ومعاملاتها.
وذلك يتطلب أن يكون للرسالة والدين سلطان يحقق المنهج، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ.
والله عزَّ وجلَّ أرسل الرسل ليطاعوا بإذنه، وفي حدود شرعه.
وبهذا يقوم منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة بموجبه.
فالإسلام دعوة وبلاغ، ونظام وأحكام، وخلافة بعد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم بالدين، وتنفذ شريعة الله في الأمة.
لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول.. وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسل.. وتحقيق مراد الله في عباده.
وبهذا لا بغيره تتحقق سعادة البشرية، ويحصل لها الفوز والفلاح: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
هذا وإن كان يكفي لإثبات الإسلام القيام بالأعمال وتحاكم الناس إلى شريعة الله، فإنه لا يكفي في الإيمان هذا ما لم يصاحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب لله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
هذا هو الإسلام.. وهذا هو الإيمان.. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؟.. وأين هي من الإيمان؟.
قبل ادعاء الإسلام، وقبل ادعاء الإيمان.
فهذا الدين منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم، إنه لا يكلف العباد فوق طاقتهم، ولا يكلفهم عنتاً يشق عليهم.
فالله الذي خلق الإنسان يعلم ضعف الإنسان، ويرحم هذا الضعف.
والله عزَّ وجلَّ عليم حكيم يعلم أنه لو كلفهم تكاليف شاقة ما أداها إلا قليل منهم.
والله الرحمن الرحيم لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية.
ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم، واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها، لنالوا خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة.
ولأعانهم الله بالهدى كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والإرادة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [النساء: 66-68].(6/80)
إن هذا الدين ميسر يمكن أن ينهض به كل ذي فطرة سوية، إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر.
وهذا الدين ما جاء لهذه القلة القليلة، إنما جاء للناس جميعاً.
والناس معادن وطبقات وألوان من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف.
وهذا الدين ييسر لهم جميعاً أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى الله عنها.
وقتل النفس والخروج من الديار مثلاً للتكاليف الشاقة التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم.
وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس، وأن ينكل عنها عامة الناس.
بل المراد أن يؤديها الجميع، وأن يقدر عليها الجميع، وأن يشمل موكب الإيمان كل النفوس السوية العالية والعادية.
وليس اليسر في هذا الدين هو الترخص، ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين، وجعلها منهج الحياة.
فهذا الدين عزائم ورخص، والعزائم هي الأصل، والرخص للملابسات والأحوال الطارئة.
وبعض المخلصين حسني النية، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين، يعمدون إلى الرخص فيجمعونها، ويقدمونها للناس على أنها هي الدين، ويقولون لهم: انظروا كم هو ميسر هذا الدين؟.
وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الناس، يبحثون عن منافذ لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص، ويجعلون هذه المنافذ هي الدين.
ولكن الدين ليس هذا، وليس ذاك، إنما هو بجملته برخصه وعزائمه ميسر للناس.
يقدر عليه الفرد العادي حين يعزم، ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي في حدود بشريته، كما يبلغ العنب كماله الذاتي في الحديقة الواحدة: (ں ں ? ? ? ? ??) [القمر: 17].
وفي مكة حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته، فصان الله هذه الشريعة أن تكون حديث ألسن، وموضوعات دراسة، قبل أن يهيئ لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة، ويسلم نفسه لله جملة، ويعبد الله بالطاعة لشريعته في كل شأن.(6/81)
وقبل أن يهيئ لها الدولة ذات السلطان، التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلاً، وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه فوراً.
فتأتي الأوامر والأحكام، فتستقبلها القلوب بالقبول والإذعان كما حصل ذلك في المدينة بعد الهجرة.
والإسلام له أحكام مرحلية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين.
وله كذلك أحكام نهائية وردت في سورة التوبة، فينبغي الرجوع إليها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة.
وكذلك للإسلام في كثير من القضايا والأوامر أحكام مرحلية، ثم أحكام نهائية، كما في تحريم الربا والخمر ونحوهما.
والعلوم كالمياه، منها عذب فرات سائغ شرابه، ومنها ملح أجاج.
والعلوم الإلهية التي جاء بها الرسل فيها الغذاء والدواء والشفاء، وهي رحمة من الله، أرسل بها رسله إلى عباده.
فمن قبلها سعد في الدنيا والآخرة.. ومن ردها شقي في الدنيا والآخرة.
والسمع والبصر والقلب هي أمهات ما ينال به العلم ويدرك.
فالقلب: يعقل الأشياء بنفسه إذ كان العلم هو غذاؤه وخاصته.
والأذن: تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب.
والعين: تنقل ما رأت وتصبه في القلب.
وصاحب الأمر هو القلب، وسائر الأعضاء حجبة له، توصل إليه من الأخبار والمرئيات ما لم يكن ليأخذه بنفسه.
والقلب خُلق للإيمان والتوحيد وذكر الله، والذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم.
فكما لا يجد الجسم لذة الطعام والشراب مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الإيمان والذكر مع حب الدنيا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وإذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، متفكراً في العلم، فقد وضع في موضعه، كما أن العين إذا صرفت إلى النظر إلى الأشياء فقد وضعت في موضعها.
أما إذا لم يصرف القلب إلى العلم، ولم يودع فيه الحق فهو ضائع، والقلب نفسه لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه، فإنه لا يقبل غير ما خلق له، وهو مع ذلك ليس بمتروك.(6/82)
فإنه لا يزال في أودية الأفكار الرديئة وأقطار الأماني السافلة.
وإنما يحول بين القلب وبين الحق في غالب الأحوال شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس.
وقد يعرض له الهوى قبل معرفة الحق، فيبعده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق، وكثيراً ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب الحق، وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه.
والقلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، والقلوب أوعية فخيرها أوعاها وأرقها وأصفاها.
فالقلب إن كان ليناً رقيقاً كان قبوله للعلم سهلاً يسيراً، ورسخ فيه العلم وثبت وأثر.
وإن كان القلب قاسياً غليظاً كان قبوله للعلم صعباً عسيراً.
ولا بدَّ مع ذلك أن يكون القلب زاكياً صافياً سليماً حتى يزكو فيه العلم، ويثمر ثمراً طيباً، وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب أن ينبت منعه أن يزكو ويطيب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).(6/83)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ ا?، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى ا? الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه(1).
والعلم الحقيقي هو الذي يورث العمل، ولا بدَّ في كل عمل من أمرين:
إخلاص العمل لله.. وأداؤه كما جاء في سنة رسول الله.
والاتباع الكامل يتحقق بثلاثة أمور:
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في نيته.. واتباعه في وجهته وهي الآخرة.. واتباعه في هيئة العمل.
فالوضوء له أحكام معلومة.. والصلاة كذلك.. والدعوة كذلك.
وأشرف العلوم بعد العلم بالله وأسمائه وصفاته معرفة دينه وشرعه، وأشرف العلوم من ذلك علم الحدود، لا سيما حدود المشروع: المأمور به، والمنهي عنه.
فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها، وأجهلهم أجهلهم بتلك الحدود كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [التوبة: 97].
فأعدل الناس من قام بحدود الأقوال والأعمال والأخلاق والمشروعات معرفةً وعملاً، ودعوةً وإرشاداً.
والله تبارك وتعالى فضل بعض مخلوقاته على بعض، واختص بعض عباده بكثرة الأموال، وبعضهم بحسن الأخلاق، وبعضهم بالإكرام، وبعضهم بغزارة العلم، وبعضهم بقضاء حاجات العباد.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79)، واللفظ له، ومسلم برقم (2282).(6/84)
وعلى طالب العلم مسئولية عظيمة، وهي متفاوتة بحسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب طاقته وقدرته.
أما من جهة نفسه:
فعليه أن يعتني بحفظ وفهم الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وكلام أهل العلم، وأن يخلص لله ويراقبه ويتقيه، ويعمل بما علم، وأن يكون هدفه إرضاء الله عزَّ وجلَّ، وأداء الواجب، وبراءة الذمة، ونفع الناس.
ولا يهدف بعلمه وعمله إلى مال ولا عرض من الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة.
فطالب العلم له موقف مع ربه بالصدق والإخلاص، وله موقف مع نفسه بالعلم والعمل، وله موقف مع غيره بالتعليم وحسن الخلق.
وقبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه معلوم مشاهد في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.
فإذا كان القلب مملوءاً بالباطل اعتقاداً ومحبةً لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع.
وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير طاعة الله، لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.
فكذلك قلب الإنسان المشغول بمحبة غير الله وإرادته، والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته والشوق إليه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، ولا يمكن شغل حركة اللسان بذكره، والجوارح بخدمته، إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته.
فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق، والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيه موضع للشغل بالله، ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكام دينه.
وإذا امتلأ القلب بالشبه والشكوك والخيالات، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها، ثم جاءته حقائق القرآن، والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً تعدته وتجاوزته إلى محل سواه.
والعالم بالله هو الذي يخشاه.. والعالم بأمر الله هو الذي يعرف أمره ونهيه.. والخشية تمنع اتباع الهوى.. ومعرفة أوامر الله تمنع اتباع البدع.. والكمال في العلم وعدم اتباع الهوى.(6/85)
وثمرة العلم العمل، والعمل يكمل ويكون مقبولاً إذا توفرت فيه خمسة أمور:
الأول: الإيمان: وهو أساس كل عمل، والمحرك والباعث عليه.
الثاني: الاحتساب: وهو معرفة ثواب العمل عند الله.
الثالث: العلم: وهو أن يقوم بالعمل حسب ما ورد في السنة.
الرابع: الإحسان: وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الخامس: الإخلاص: بأن تكون أعمال العبد خالصة لله وحده.
وشرطي المرور، وعامل البناء، وكل عامل يقوم بعمل، تصرف له الأجرة من المخلوق، وكذلك المسلم يقوم بالصلاة والصيام، والذكر والدعاء فيقضي الله حاجته، ويرزقه الحسنات، ويكفر عنه السيئات.
ولتحريك البدن، ودفعه للقيام بالطاعات، وبعثه للقيام بالمأمورات نذكر الله كثيراً، فنتكلم بعظمة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ونذكر نعمه وإحسانه، حتى يتأثر القلب، ثم القلب إذا زاد فيه الإيمان أمر الأعضاء والجوارح بامتثال الأوامر، وقادها للطاعات بالشوق والرغبة والمحبة.
والإنسان إذا أراد أن يعمل عند أحد عملاً سأل كم الأجرة التي سيدفعها له صاحب العمل؟، وبناء عليها يكون العمل وحسنه.
فكذلك المؤمن إذا أراد أن يعمل الطاعات، تعلم الفضائل قبل ذلك ليعرف قيمة العمل عند الله، وماذا يعطي الله عليه من الحسنات، وبمعرفة ذلك ينشط لأدائه، ويسهل عليه القيام به، ويداوم عليه، ويكثر منه، ويسارع إلى فعله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى باب أحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ» متفق عليه(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (668).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33) واللفظ له، ومسلم برقم (760).(6/86)
فكل شيء له قيمة، وبحسب كماله ونفعه وحسنه تكون قيمته، والأشياء المادية يعرف الإنسان قيمتها؛ لأن لها قيمة في قلبه، فهو يعمل من أجل الحصول عليها، أما الأعمال الصالحة التي جاءت عن الله ورسوله فقيمتها مجهولة عند كثير من الناس، بينما القلوب مملوءة بحب ومعرفة قيمة الأشياء المادية.
إن الجهل بأعمال الدين وقيمتها وأجوددها يجعل المسلم لا يرغب ولا يشتاق لتلك الأعمال، ولا يؤديها بيقين وحضور قلب وانشراح صدر.
فلا بدَّ بعد الإيمان من تعلم فضائل الأعمال قبل تعلم المسائل والأحكام فنعرف أولاً:
ما قيمة لا إله إلا الله؟.. ما قيمة ذكر الله؟.. ما قيمة الدنيا؟.. ما قيمة الآخرة؟.. ما قيمة الصلاة؟.. ما أجر الجهاد؟.. ما قيمة الاستغفار؟ ما قيمة الصوم والحج وحسن الخلق؟.
وهكذا، فكل عبادة لها فضائل ومسائل، فنتعلم الفضائل، ثم نتعلم المسائل، ثم نقوم بالعمل على بصيرة بالمحبة والرغبة والتعظيم للمعبود.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالأعمال الصالحة، وجعل على نفسه الجزاء بمنه وفضله، فله الحمد على ما هدى، وله الحمد على ما شرع، وله الحمد على ما أثاب وأعطى.
وكل شيء له ثلاثة أحوال وهي:
لفظ.. وصورة.. وحقيقة.
فالتقوى مثلاً شرط لحصول الرزق والبركات، ودخول الجنة، واليسر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الطلاق: 2، 3].
فلو تكلم المسلم عن التقوى بلسانه، أو كتب عنها بيده، أو فكر فيها بدماغه، وليس في قلبه حقيقة التقوى، لم تحصل له الموعودات السابقة على التقوى؛ لأنه جاء بلفظ التقوى، ولكن ليست عنده حقيقة التقوى.
وإذا كان المسلم لباسه فيه التقوى، وكلامه فيه التقوى، وصورته فيها التقوى، ولكن ليس في قلبه حقيقة التقوى، فليس له الموعود على التقوى، فهذه صورة التقوى.
وحقيقة التقوى:
تكون في القلب بالإيمان بالله وطاعته وعبادته وخشيته.
ثم تظهر على الجوارح بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي.(6/87)
وهذه هي التي تتحقق بها موعودات الله على التقوى.
فما أحسن الفقه في الدين، ومعرفة أحكامه وسننه، وليس فوق هذا شيء من الخير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» متفق عليه(1).
فعلى المسلم أن يحرص على حضور مجالس الذكر التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها رياض الجنة، ليتأثر من كلام الله ورسوله، ويعرف أحكام دينه، ويزيد يقينه على ربه، وعلى موعوداته في الجنة، ويعرف قيمة الأعمال الصالحة، ويسمع كلام الله بالتوجه والإنصات لتحصل له الهداية، ثم يعمل بما علم، ويبلغه للناس: (ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 18].
فلله كم يحصل لهؤلاء من الأجر والثواب؟ وكم تنزل عليهم من الرحمات؟ وكمن يذكرهم الله فيمن عنده؟.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ژژ) [آل عمران: 79].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى باب أحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ» أخرجه مسلم(2).
والله عزَّ وجلَّ فاوت بين النوع الإنساني أعظم تفاوت يكون بين المخلوقين، فاوت بينهم في الخَلْق والخُلُق، وفاوت بينهم في العلم، وهذا التفاوت العظيم إنما حصل بالعلم وثمرته، ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين، والالتحاق بعالم الملائكة، وصحبة الملأ الأعلى لكفى به شرفاً وفضلاً، فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به.
وسنة الله أن جعل لكل مخلوق كمالاً يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه واستعمل فيها.
وهكذا الآدمي:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).
(2) أخرجه مسلم برقم (668).(6/88)
إذا كان صالحاً لاصطفاء الله له برسالته ونبوته اتخذه رسولاً ونبياً، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فإذا كان جوهره قاصراً عن هذه الدرجة، صالحاً للنبوة رشحه لذلك، وبلّغه إياها، فإن كان قاصراً عن ذلك قابلاً لدرجة الولاية رُشّح لها.
وإن كان ممن يصلح للعمل والعبادة دون العلم والمعرفة جعل من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين.
فإن نقص عن هذه الدرجة، ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير أصلاً استعمل حطباً ووقوداً للنار.
فالإنسان يترقى في درجات الكمال درجة بعد درجة، حتى يبلغ نهاية ما يناله أمثاله، فكم بين حاله في أول كونه نطفة، وبين حاله والرب يسلم عليه في داره، وينظر إلى وجه ربه الكريم.
فكيف يحسن بذي همة أن يرضى أن يكون حيواناً وقد أمكنه أن يصير إنساناً، وبأن يكون إنساناً وقد أمكنه أن يصير ملكاً في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فتقوم الملائكة بخدمته، وتدخل عليه من كل باب قائلين: (ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الرعد: 24].
وقلب الإنسان يعترضه مرضان يتواردان عليه، وإذا استحكما فيه كان هلاكه وموته وهما:
مرض الشهوات.. ومرض الشبهات.
وهذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله، ومرض الشبهات أصعبهما وأقتلهما للقلب.
وللقلب أمراض أخر من الكبر والعجب، والرياء والحسد، والفخر والخيلاء، وحب الرياسة، وحب العلو في الأرض، وكل هذه الأمراض متولدة من مرضي الشهوة والشبهة.
فلا يخرج مرض القلب عن شهوة أو شبهة أو مركب منهما.
وهذه الأمراض كلها متولدة عن الجهل بالله وبدينه وشرعه، ودواؤها بالعلم الإلهي.
فالعلم للقلب مثل الماء للسمك إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، فإذا عدمه كان كالعين العمياء.
والله جلَّ جلاله بحكمته سلط على العبد عدواً عالماً بطرق هلاكه، لا يفتر عنه يقظةً ولا مناماً حتى يظفر به.(6/89)
فيحول أولاً بينه وبين الإسلام، فإن فاته وأسلم زين له البدعة، فإن عجز عنه ألقاه في الكبائر، فإن أعجزه ألقاه في الصغائر، فإن أعجزه أشغله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، فإن أعجزه أشغله بالمباحات والشهوات، فإن أعجزه ذلك سلط عليه حزبه يؤذونه ويشتمونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه ويشغل قلبه عن العلم والإرادة وسائر العمل، فهذه سبع سكاكين يذبح بها الشيطان كل واحد من بني آدم.
ولا يمكن أن يحترز من الشيطان من لا علم له بهذه الأمور، ولا علم له بعدوه، ولا ما يحصنه منه، ولا بكيفية محاربته، ولا بأي شيء يحاربه، وهذا كله لا يحصل إلا بالعلم.
والخير كله بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم، والشر كله بمجموعه شوك يجتنى من شجرة الجهل.
وكل شر في العالم سببه مخالفة ما جاءت به الرسل.
وكل خير في العالم فسببه طاعة الرسل.
وآفة العلم عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة.. ومن فساد الإرادة تارة.
ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله، وهو ليس كذلك، أو يعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعاً، فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل.
وأما فساده من جهة القصد، فأن لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة، بل يقصد به الدنيا والخلق.
ولا سبيل للسلامة من هاتين الآفتين في العلم والعمل إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة، وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة.
فمتى خلا القلب من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمه وعمله.
وكل من آثر الدنيا واستحبها من أهل العلم فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه وفي خبره وإلزامه.
لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة، والذين يتبعون الشهوات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه.(6/90)
فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة، متبعين للشهوات، لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيَّما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق.
وإن كان الحق ظاهراً لا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم يقول سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 169].
وهؤلاء لا بدَّ أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى السنة بدعة، والبدعة سنة.
فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا على الدين، واتبعوا الرياسات والشهوات، يضل أحدهم بعد العلم، ويغوى بعد الرشد، ويتبع الشيطان، ويرغب عن هدى ربه ويتبع هواه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة.
وأما العابد الجاهل، فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه، وغلبة ما تهواه نفسه على ما شرعه ربه.
وعلماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم.
فنفر الناس عنهم وقالوا: لو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هداة وأدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق، فهم كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، وتبقى فيه النخالة من الشوك والحجر.
وكذلك علماء السوء يخرج منهم الحكم، ويبقى الغل في صدورهم، والإضلال في أعمالهم.
وليس العلم بكثرة الرواية والحفظ، إنما العلم نور يقذفه الله في القلب يورث خشية الله وتقواه، ومحبته ولذة مناجاته.
أما من حصّل العلم وهو رديء الأخلاق، فما أبعده عن العلم الحقيقي النافع الجالب للسعادة في الدنيا والآخرة.
فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر أن في الطاعات والحسنات أرباحاً عظيمة، وأن في المعاصي سموماً قاتلة مهلكة.(6/91)
وهل رأيت من يتناول سماً مع علمه بكونه سماً قاتلاً؟.
إنما الذي نسمعه من المترسمين معلومات جمعوها في أذهانهم، لم تنزل في قلوبهم، ولم تظهر على جوارحهم، وإن نطقت بها أفواههم.
فهي حديث يلفقونه بألسنتهم، يقولونه هنا مرة، وهناك مرة وليس ذلك من العلم في شي: (? ? ? ? ژژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 142، 143].
فالفقه في الدين أصله وأساسه العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بدينه وشرعه، ومصدر ذلك القرآن الكريم، والسنة النبوية، ففيهما الهدى والشفاء والعلم والنور، والسعادة والفلاح: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 8].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 104].
والعلوم الشرعية قسمان:
1- ما أخبر به الشارع، وهو ما علَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته بما بُعث به من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ونحو ذلك.
2- ما أمر به الشارع من الأحكام الشرعية من واجب، ومستحب، وما نهى عنه من محرم، ومكروه.
والأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة ثلاثة أقسام:
1- ما يُعرف حدّه ومسماه بالشرع، فهذا قد بيّنه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق.
2- ما يُعرف حدّه باللغة كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبر والبحر.
3- ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم كالبيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد.
فما كان من النوع الأول فقد بيّنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وما كان من النوع الثاني والثالث فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به لمعرفتهم بمسماه لغة أو عرفاً.(6/92)
والاسم إذا بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم حدَّ مسماه، عُرِّف بتعريفه هو صلى الله عليه وسلم كيف ما كان الأمر كاسم الخمر والماء والحيض والنفاس والسفر ونحوها، فكل مسكر خمر، وكل ما وقع عليه اسم الماء فهو طاهر مطهر، والحيض كل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض، والسفر ليس له مسافة محدودة، فكل ما يسمى لغة وعرفاً سفراً تجري فيه أحكام السفر من قصر وفطر ومسح ونحوها.
6- فقه القرآن الكريم
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 9، 10].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ-وَهُوَ التَّعَبُّدُ-اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلَى أهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قال: «مَا أنَا بِقَارِئٍ». قال: «فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قال: «مَا أنَا بِقَارِئ، فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ: «مَا أنَا بِقَارِئٍ»، فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [العلق:1-3].(6/93)
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي». فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأخْبَرَهَا الْخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَا? مَا يُخْزِيكَ اللهُ أبَداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَءاً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَاابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأخْبَرَهُ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعٌ، لَيْتَنِي أكُونُ حيّاً إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ». قال: نَعَم ْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إلا عُودِيَ، وَإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ. متفق عليه(1).
الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن في ليلة مباركة كما قال سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الدخان: 3، 4].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3)، واللفظ له، ومسلم برقم (160).(6/94)
والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي والله أعلم الليلة التي بدأ فيها نزوله، وهي ليلة القدر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?پ) [القدر: 1].
وليلة القدر إحدى ليالي رمضان الذي أنزل فيه القرآن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [البقرة: 185].
والقرآن لم ينزل كله على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، كما أنه لم ينزل كله في رمضان، ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض في رمضان، وكانت هذه الليلة موعد ذلك الاتصال المبارك.
وإنها لمباركة حقاً، تلك الليلة التي يفتح الله فيها ذلك الفتح على البشرية، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر، والتي يتصل الناس فيها بهذا الكون وخالقه عن طريق هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء.
ويقيم من خلاله عالماً إنسانياً مستقراً، عالماً طاهراً نظيفاً كريماً، يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين.
وأول ما نزل من القرآن قوله سبحانه (چ چ چ ? ?? ? ? ? ?? ? ? ) [العلق: 1-3].
وآخر ما نزل من القرآن في ثلاثة مواطن:
1-قول الله تعالى: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 3].
نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة بعد العصر عام حجة الوداع.
2-ثم أنزل الله إليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر؛ إيذاناً بقرب أجل الرسول صلى الله عليه وسلم (? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النصر: 1-3].
3-وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال نزل في المدينة قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 281].
ولقد عاش الذين أُنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء موصولين بالله مباشرة:
يطلعهم كل حين على ما في نفوسهم.. ويشعرهم بأن عينه عليهم.. ويحسبون هم حساب هذه الرقابة.. وحساب هذه الرعاية في كل حركة.. وفي كل هاجسة تخطر في قلوبهم.
ويلجؤون إليه أول ما يلجؤون واثقين أنه قريب مجيب.(6/95)
ومضى ذلك الجيل مثالاً عجيباً وصورة مضيئة للإسلام، وبقي بعده القرآن كتاباً مفتوحاً يهتدي به من شاء موصولاً بالقلب البشري، يصنع به حين ينفتح له ما لا يصنعه أي أمر آخر، ويحول مشاعره بصورة تحسب أحياناً في الأساطير.
وبقي هذا القرآن العظيم منهجاً واضحاً كاملاً صالحاً لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة، وفي كل زمان، حين يعمل به بدون تحريف أو تعطيل.
وقد أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة أولاً للإنذار والتحذير، فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه، وحاجته إلى الإنذار والتنبيه.
وهذه الليلة المباركة بنزول القرآن كانت فيصلاً بهذا التنزيل، إذ فيها يفرق كل أمر حكيم، وقد فرق الله بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيه كل شأن، وتميز الحق من الباطل، ووضعت الحدود، وأقيمت المعالم اللازمة لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين، وكل ذلك بإرادة الله وأمره.
وكان ذلك كله رحمة بالبشرية إلى يوم الدين، فما أعظم بركة تلك الليلة، وما أعظم القرآن الذي أنزل فيها وما أعظم كرامة هذا الإنسان على ربه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [الدخان: 3-7].
وتتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن بهذا اليسر، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلوب، سريع الفهم للعقول، ويجعل الاستجابة له تتم بسهولة، كما تتم دورة الدم في العروق، وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم، والمجتمع البشري إلى حلم جميل.
إن تدبر القرآن يزيل الغشاوة عن القلوب، ويفتح المنافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، وتستنير به الروح: (ک گ گ گ گ ? ??) [محمد: 24].
إن الأقفال التي ركبتها النفس والشيطان من الأموال والأولاد، والشهوات والشبهات، تحول بين القلوب وبين القرآن، تحول بينها وبين النور، تحول بينها وبين الله.
فإن استغلاق القلوب كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور.(6/96)
إن المعجزة الكبرى التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، الذي يوجه العقل البشري إلى آيات الله في الأنفس والآفاق، وما فيهما من إعجاز ظاهر.
فأما ما وقع فعلاً للرسول صلى الله عليه وسلم من خوارق شهدت بها روايات صحيحة، فكانت إكراماً من الله لعبده، لا دليلاً لإثبات رسالته.
وقد جاء القرآن الكريم ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله، وما فيه من آيات الله القائمة الثابتة، ويصله بتلك الآيات في كل لحظة، لا مرة عارضة في زمان محدود، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود، وكلها يلتقي فيها الكمال بالجلال والجمال، وتستجيش لها القلوب، وتؤدي إلى الإيمان العميق.
وأجل نعم الله على الإطلاق إنزاله كتابه العظيم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذا حمد الله نفسه، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتاب عليهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [الكهف: 1-3].
وقد وصف الله كتابه العظيم بوصفين يدلان على أنه كامل من جميع الوجوه وهما:
نفي العوج عنه.. وإثبات أنه مقيم مستقيم.
فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث.
وإثبات الاستقامة يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الإخبارات، وهي الأخبار التي تملأ القلوب معرفة وإيماناً ورحمةً وعلماً كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة، وأن أوامره ونواهيه تزكي النفوس وتطهرها، وتنميها وتكملها؛ لاشتمالها على كمال العدل والقسط والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له.
وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن الكريم قد اشتمل على كل عمل صالح موصل لما تستبشر به النفوس وتفرح به الأرواح في الدنيا بالسعادة والطمأنينة، وفي الآخرة بالجنة ورضوان الله.(6/97)
ومن أراد أن ينتفع بالقرآن الكريم فليأت إليه بقلب سليم، بقلب خالص، بقلب يتقي الله ويخشاه، فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب، وعندئذ يتفتح القلب عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقياً: (? ? ? پ پ پ پ ? ??) [البقرة: 2].
والناس عادة لا يتركون عاداتهم في وقت واحد، ولا ينقادون لجميع الأحكام في وقت واحد.
لذا فطم القرآن الكفار عن الشرك وأحيا قلوبهم بنور الإيمان أولاً، وغرس في نفوسهم حب الله ورسوله، والإيمان بالبعث والجزاء ثانياً، ورغبهم في الجنة، وحذرهم من النار، ورغبهم في الأعمال الصالحة بالفضائل، ودعاهم إلى أحسن الأخلاق ثالثاً.
ثم انتقل بهم إلى العبادات فبدأهم بالصلاة التي تصل المخلوق بخالقه، ثم ثنى بالصوم، والزكاة التي تربط المخلوق بالمخلوق، ثم ختم بالحج في السنة التاسعة من الهجرة.. وهكذا.
وكذا فعل في العادات المتوارثة عندهم، زجرهم أولاً عن الكبائر والفواحش، ثم نهاهم عن الصغائر تدرجاً، وحرك نفوسهم وعواطفهم وعقولهم للمحاسن والفضائل.
والقرآن العظيم كتاب كريم.. حكيم.. مجيد.. عزيز.
أحسن كتب الله نظاماً.. وأحسنها بياناً.. فيه تبيان كل شيء.. وتفصيل كل شيء.
وفيه ذكر أعلى شيء وأدنى شيء من الأقوال والأعمال والأحوال والأشخاص والمنازل.
يهز القلوب التي تتفتح له، ويرجف من مواعظه وآياته الفؤاد، بل يتأثر منه الصخر الجامد لو تنزل عليه كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 21].
وقد كانت الكتب السماوية السابقة أمانة في أعناق البشر، ليحفظوها ويعملوا بها، ولكنهم ضيَّعوها، وحرَّفوها، وبدَّلوها وكتموها، ولم يعملوا بها: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [البقرة: 79].
أما القرآن الكريم فقد تكفل الله بحفظه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?ں) [الحجر: 9].(6/98)
وسيبقى القرآن إلى يوم القيامة محفوظاً من أي عبث بشري، أو أي تدخل من أي جهة كانت، مهما بذلت من محاولات، ومهما دبر مدبر.
فإن أحداً لن يستطيع أن يمس القرآن بسوء؛ لأن الله حافظه وحاميه.
فمثلاً خط الحفاظ على المنهج والعمل به يتقلص مع مرور الزمن، ومع قلة الوعظ والتذكير، بينما خط حفظ القرآن يعلو ويتضاعف، وإنه لعجيب حقاً أن الخط الإيماني يميل إلى الهبوط، بينما خط حفظ القرآن يعلو ويزداد.
ولكن العجب يزول إذا علمنا أن هناك خطاً يتبع الإرادة البشرية وهو الإيمان، وخطاً يتبع إرادة الله وهو حفظ القرآن.
ولو كان الخطان يتبعان إرادة البشر، لكان من المنطقي أن يسيرا في اتجاه واحد، ومستوى واحد، ولكنهما مفترقان:
أما الخط البشري فيتناقص، وأما الخط الإلهي فيعلو ويزداد.
وقد أنزل الله القرآن تذكرة للعالمين، ليذكر الناس بالصراط المستقيم، ليعلمهم طريق العبادة، والحياة الآمنة الطيبة في الدنيا والآخرة، فالقرآن موجود لكل من أراد أن يتذكر.
فمن أراد الاستقامة وطلبها فالقرآن مذكر له، فإذا أخذت القرآن وبدأت تدرس تعاليمه بهدف الاستقامة هداك الله إلى الصراط المستقيم: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [التكوير: 27، 28].
وقد كان المجتمع البشري قبل نزول القرآن مملوءاً بكثير من الأدواء من حروب وقتل وتشريد، وظلم وطغيان، وفساد وفجور، واستعباد وفرقة بين الناس.
القوي يأكل الضعيف.. والدنيا لمن غلب، وما كان لله من الطاعة والعبادة توجهوا به إلى الأصنام والأوثان.
فلما أراد الله شفاء الأمة من هذه الأدواء والأمراض والضلال أرسل الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العالمين بهذا القرآن، ليشفي البشرية من أسقامها، وينقذها من الشقاء الذي تعيش فيه كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الإسراء: 82].(6/99)
فشفي الله البشرية بنزول القرآن، واستقر منهج الله في الأرض، وحكم حركة الحياة في أجمل وأحسن قرون البشرية، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.
ثم توالت الرحمات من رب العالمين لتمنع الشقاء عن الأمة، وكان النصر وكانت العزة لمن تمسك بهذا الدين.
فإذا حدثت غفلة وابتعد الناس عن المنهج جاءت داءات جديدة ومصائب ثقيلة، فإذا عاد الناس إلى المنهج وإلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله جاء الشفاء، وزال الوباء، وجاءت الرحمة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
وكل نبي من الأنبياء أوتي آية ليصدقه من أرسل إليهم، ورآها أولئك كآية الطوفان لنوح، وآية الريح لهود ونحوهما.
ولكن الذي أوتيه محمداً صلى الله عليه وسلم معجزة وآية هو القرآن الكريم، الذي يعطي عطاء لكل جيل، يختلف عن الجيل الذي قبله، وهو صالح لكل زمان ومكان وإنسان، يداوي أمراض المجتمعات أينما كانت، ومهما كانت.
يحمل العلاج لكل الداءات، ويعالج مشاكل البشرية في أنحاء الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].
والقرآن الكريم كلام الله عزَّ وجلَّ، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته: فتارة يتجلى سبحانه في جلباب الهيبة والعظمة والجلال فتخضع الأعناق، وتنكسر الكبرياء، وتخضع النفوس، وتخشع الأصوات.
وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال الدالة على كمال الذات فيستنفد به من قلب العبد قوة الحب كلها، ويصبح فؤاده فارغاً إلا من محبته.
وإذا تجلى سبحانه بصفات الرحمة والبر، واللطف والإحسان، انبعثت قوة الرجاء في العبد فسار إلى ربه، وكلما قوي الرجاء جدَّ في العمل.
وإذا تجلى الرب بصفات العدل والانتقام، والغضب والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة بالسوء، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب، واللهو واللعب، والحرص على المحرمات.(6/100)
وإذا تجلى سبحانه بصفات الأمر والنهي، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وشرع الشرائع، انبعثت من النفس قوة الامتثال والطاعة، وتنفيذ أوامره، والتبليغ لها، والتواصي بها.
وإذا تجلى بصفة السمع والبصر والعلم انبعثت من العبد قوة الحياء، فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه.
فتبقى حركاته وأقواله وأفعاله موزونة بميزان الشرع.
وإذا تجلى سبحانه بصفات الكفاية، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم، ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه، انبعثت من العبد قوة التوكل على ربه، والتفويض إليه، والرضى به.
وإذا تجلى جلَّ جلاله بصفات العز والكبرياء، انبعثت من العبد صفات الذل لعظمة الله، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح لجلاله، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه.
والله عزَّ وجلَّ يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين:
أحدهما: النظر في مخلوقاته ومفعولاته.
الثاني: التفكر في آياته وتدبرها.
فتلك آياته المشهودة.. وهذه آياته المسموعة المعقولة.
فالنوع الأول كقوله سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [آل عمران: 190].
والثاني كقوله سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 82].
والوحي روح ونور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 52].
والحياة والنور موقوفان على نفخ الرسول الملكي.. ونفخ الرسول البشري.
ومن حصل له نفخ الرسول الملكي، دون نفخ الرسول البشري، حصلت له إحدى الحياتين، وفاتته الأخرى، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
ولم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام منه بزيادة أو نقصان كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الإسراء: 82].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [البقرة: 26].(6/101)
والإنسان إذا قرأ القرآن وكرره من غير فهم وعمل، كان كمن يكرر قراءة كتاب الملك كل يوم عدة مرات، وقد أمره فيه بعمارة مملكته، وهو تاركها أو مشغول بتخريبها، ومقتصر على قراءة كتابه.
فلو ترك القراءة مع المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء والمقت.
فالذي يتلو كتاب الله لمجرد التلاوة ويعطل أحكامه، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فكيف حال من لا يقرؤه ولا يهتم به؟: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الجمعة: 5].
إن العارف حقاً لا يقرأ القرآن لأجل المزيد من المعلومات فقط.
ولا لأجل الحصول على الثواب الموعود به على كل حرف فقط.
ولا تكون قراءته بقصد الاستمتاع بفصاحته، وتذوق بلاغته فقط.
بل يقرؤه مع ذلك لأجل أن يتلقى كلام رب العالمين، كلام ملك الملوك.
ويقرؤه كقراءة الجندي أو العبد الذي يقرأ كتاب رئيسه أو سيده ليعمل بمقتضاه، وينفذ وصاياه.
ويفرح به أعظم فرح، وبذلك تنفتح له كنوز العلم والمعرفة، وتحصل له بركاته، ويتيسر له العمل به دون إحساس أو تكلف.
بل يستلذه ويتمتع به، ويضحي بكل شيء من أجله، ويظهر أثره على قلبه وروحه وجوارحه.
فالقرآن العظيم بصائر لجميع الناس، وهدى وشفاء ورحمة بمعنى عام وبمعنى خاص.
ولهذا يذكر الله في القرآن هذا وهذا.
فهو هدى للعالمين، وهدى للمتقين.. وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين.. وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين.
فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة.
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء، فهو دواء له بالفعل.
وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة.
وكذلك الهدى، فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن لم يهتدِ به، وإنما يهتدي به ويُرحم المتقون الموقنون، فهو هدى لأن من شأنه أن يهدي كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہھ) [آل عمران: 138].
فالله عزَّ وجلَّ هو الهادي، وكتابه هو الهدى الذي: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [المائدة: 16].(6/102)
ويهدي به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
فالقرآن الكريم هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة.
وما كل أحد يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، لم يقاومه الداء أبداً.
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الرعد: 31].
فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وشفائه، وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه.
أما عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فسببه أنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان.
فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، إن لم يتلَقَّ هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها.
بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [التوبة: 124، 125].
فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة.
وإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن، الذي هو الشفاء النافع.
وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله.
قال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الإسراء: 82].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا أَنْزَلَ الله دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» أخرجه البخاري(1).
وهذا يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (5678).(6/103)
ولم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الأدواء من القرآن الكريم.
والله سبحانه جعل للإنسان حياتين:
حياة البدن بالروح، وهذه لازمة للحياة.
وحياة الروح والقلب بالنور، وهذه لازمة للنجاة.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 52].
فجعل سبحانه وحيه روحاً ونوراً، فمن لم يحييه بهذا الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نوراً منه فهو في الظلمات ما له من نور.
والقرآن كتاب الله أنزله لينذر من كان حياً.
والمقصود بإنزاله تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [ص: 29].
ولا شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته.
فآيات القرآن تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وتريه طرقهما وأسبابهما، وغايتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما.
وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة.
وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيان الدين على جسده، وتريه صورة الدنيا والآخرة، وصورة الجنة والنار في قلبه.
وآيات القرآن تحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر، وتشهده عدل الله وإحسانه وفضله.
وآيات الكتاب العزيز تعرف الناس بربهم فيعرفون ذاته، ويعرفون أسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد القدوم عليه من الكرامة وتعرفهم في مقابل ذلك ثلاثة ضدها:
ما يدعو إليه الشيطان.. والطريق الموصلة إليه.. وما للمستجيب لدعوة الشيطان من الإهانة والعذاب في النار.
فهذه الأصول لا بدَّ للعبد من معرفتها ليميز بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم.
فتريه الحق حقاً والباطل باطلاً، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد.(6/104)
وآيات القرآن نوعان:
خبر.. وطلب.
والخبر نوعان: خبر عن الخالق.. وخبر عن المخلوق.
فالخبر عن الخالق: ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، ودينه وشرعه، وخلقه وأمره، وثوابه وعقابه.
والخبر عن المخلوق يكون بذكر مخلوقات وأحوال العالم العلوي كخلق السموات والملائكة والكواكب، وذكر مخلوقات وأحوال العالم السفلي كخلق الأرض والجبال والبحار، وخلق الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وذكر مخلوقات وأحوال اليوم الآخر كخلق الجنة والنار، وما فيهما من المخلوقات والمنازل.
والطلب نوعان: طلب فعل.. وطلب ترك.
وهو الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم للناس كافة.
فطلب الفعل يكون بالأمر بفعل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالصلاة والزكاة، والذكر والدعاء.
وطلب الترك يكون بالنهي عن ما يبغضه الله ويكرهه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة كالكبائر والمحرمات، كالربا والزنى، وأكل أموال الناس بالباطل، والكذب والنفاق، وسائر المنكرات والمعاصي.
والنفوس البشرية قسمان:
نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب، غارقة في طلب اللذات الجسمانية.
ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية.
فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول: إنذار وتخويف، فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلى موقظ يوقظهم، وإلى منبه ينبههم.
وأما في حق القسم الثاني: فتذكير وتنبيه؛ لأنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم.
فالقرآن إنذار في حق طائفة، وذكرى في حق طائفة أخرى فهو: (ٹ ? ??) [المائدة: 46].
و(? ??) [الأعراف: 2].
وقد أنزل الله القرآن المتضمن للعقيدة والشريعة المطلوب اتباعها والتقوى فيها، رجاء أن ينال الناس حين يتبعونها رحمة الله في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [الأنعام: 155].(6/105)
إن الناس اليوم في الجاهلية الحديثة الماكرة يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وطريقة حياتهم خارج هذا القرآن، كما كان الناس في الجاهلية القديمة يطلبون للإيمان خوارق ومعجزات غير هذا القرآن كما قال سبحانه عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 51].
فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة وأهواؤهم ومصالحهم الذاتية دون رؤية الآيات الكونية الهائلة، والآيات الشرعية الكاملة في هذا الكتاب العظيم.
وأما أهل الجاهلية الحديثة فيحول بينهم وبين هذا القرآن العظيم غرور العلم البشري الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة، وغرور التنظيمات والتشكيلات التي ظهرت مع تجدد الحياة، وتوالي التجارب، وتجدد الحاجات.
كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد الأعداء من اليهود والنصارى، والصليبيين والمنافقين، الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم.
ومحاولة إلهاء أهله عنه، وإبعادهم عن توجيهه المباشر، وذلك بعدما علم هؤلاء الأعداء من تجاربهم الطويلة معه أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين ما داموا عاكفين على هذا الكتاب، عكوف الجيل الأول، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته وسننه وأحكامه.
وهو كيد مطرد لئيم خبيث، ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس اليوم، والتي تسر الشياطين، وتغضب الله رب العالمين.
ويتبع ذلك محاولات أخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين بأساليب ماكرة، ولتدارس قرآن غير قرآنه، يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف، كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في جميع أحوالهم.
وذلك بتحكيم القوانين والنظم التي يفترونها، ونبذ أحكام الله، ورفعها من منهج الحياة، فنبذوا كتاب الله، واتبعوا ما أمرتهم به الشياطين، وصفق لذلك المنافقون والمغرورون.
فواعجباً لهؤلاء وأولئك، ألا ما أعظم تلاعب الشيطان بالبشر.
هؤلاء أعرضوا عن الدين وأضلوا.. وأولئك ضلوا وخسروا.(6/106)
والجميع في شقاء ووبال وسفال: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 20].
فليهنأ من ثبت على دينه، وسار على هدى ربه وسنة رسوله، ففيهما البصائر والهدى والشفاء، والسعادة في الدنيا والآخرة: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 203].
ولهذا أمرنا الله بتدبر القرآن، والتفكر في آياته، والعمل بما فيه، والمداومة على تلاوته، وحسن الاستماع له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 204].
إن الاستماع لهذا القرآن والإنصات له هو الأليق بجلال هذا القول، وبجلال قائله سبحانه.
وإذا قال الملك الجبار الرحمن الرحيم كلاماً يوجه فيه عباده إلى ما ينفعهم ويحذرهم مما يضرهم، ويعرفهم بعظمته وجلاله، ويذكرهم بآلائه ونعمه، أفلا يستمعون وينصتون لعلهم يرحمون؟.
ألا ما أعظم خسارة البشرية حين يعرضون عن هذا القرآن الكريم.
إن الآية الواحدة منه لتصنع أحياناً في النفس حين تستمع له وتنصت أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة، والطمأنينة والراحة، ما لا يدركه إلا من ذاق ذلك وعرفه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 2].
لقد حاول أعداء هذا الدين أن يصرفوا الناس عن هذا القرآن نهائياً منذ نزوله إلى يومنا هذا كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 26].
فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء، ويطرب لها المستمعون، ولم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه والاتباع.
فقد صاغ لهم أعداء الدين أبدالاً منه، يتلقون منها التوجيه في شئون الحياة كلها، ويسمون أنفسهم مسلمين، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
ولكن القرآن ما يزال يعمل من وراء كيد هؤلاء الأعداء، وسيظل يعمل؛ لأن الله تكفل بحفظه، وسينصر أهله ما حكموه في حياتهم، ويهلك أعداءهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ??) [القلم: 44، 45].(6/107)
والقرآن الكريم كتاب كامل شامل، أنزله الله ليكون منهج حياة للبشرية إلى يوم القيامة.
ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر بباله أن يطلب سواه، أو يطلب تبديل بعض أجزائه.
لكن الذين يجهلون حقيقة القرآن ولا يرجون لقاء الله يطلبون طلباً عجيباً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [يونس: 15].
فالقرآن الذي أنزله خالق الكون كله وما فيه، وخالق الإنسان هو الحق الذي لا حق سواه؛ لأن الله أعلم بما يصلح الإنسان، فما يكون للرسول ولا يحق له ولا لغيره أن يبدله من تلقاء نفسه.
وإنْ هو إلا مبلغ للوحي من ربه ومتبع له، وكل تبديل فيه أو تحريف معصية وراءها عذاب يوم عظيم.
وهذا القرآن العظيم بما فيه من الآيات والمعجزات.. والأخبار والأوامر.. وتنظيم حياة البشر.. وبيان طبيعة البشر.. وطبيعة الحياة.. وطبيعة الكون وتصريفه وتدبيره.. وأحوال اليوم الآخر وقصص الأنبياء مع أممهم.. كل ذلك لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله.
لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله عزَّ وجلَّ، القدرة المطلقة التي تحيط بالأوائل والأواخر، والظواهر والبواطن، وتضع المنهج الكامل المبرأ من النقص والقصور، ومن آثار العجز والجهل: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [يونس: 37].
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى، يبين فيها عظمة الخالق وقدرته، وينشئ بها عقيدة قوية صافية، وتصوراً كاملاً للوجود.(6/108)
كما يجعل فيها منهجاً للتفكير والنظر، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس، فيتحقق التوحيد، ويزيد الإيمان، وتطمئن القلوب، وتنقاد الجوارح للطاعة والعبادة: (? ? ? ?? ? ? ?? ? ? چ چ چچ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ? ? ? ?? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہھ ھ ھ ھے ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [الواقعة: 57-74].
إن الله عزَّ وجلَّ ينشئ العقيدة بعرض آيات قدرته في خلق الناس، وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم، وفي الماء الذي يشربون، وفي النار التي يوقدون، والموت الذي يشاهدون، ليقف الناس وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة.
فيرون كل وقت عظمة الرب، وكمال قدرته، وجمال صنعه.
إنه لا يكل الناس إلى الخوارق والمعجزات الخاصة المعدودة، إنما يكلهم إلى مألوفات حياتهم التي يشاهدونها كل يوم، ولكنهم يغفلون عنها لطول إلفهم لها، فيغفلون عن مواضع الإعجاز فيها.
فالمشاهدات المألوفة التي يراها الناس كل يوم، النسل والزرع، والماء والنار، والحياة والموت، فأي إنسان لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟.
أي ساكن كهف؟.. وأي راع للغنم؟.. وأي عالم ذرة؟.. وأي عالم طبيعة؟.. وأي عالم وأي جاهل؟.
أي واحد من هؤلاء وغيرهم على اختلاف مستوياتهم وأفكارهم، لم يشهد نشأة حياة حيوانية، ونشأة حياة نباتية، ومسقط ماء، وموقد نار، ولحظة وفاة.
من هذه المشاهدات والكائنات الهائلة التي يراها الإنسان، ينشئ القرآن العقيدة، وهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان، وتواجهه يومياً، فماذا يريد البشر فوق هذا؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الجاثية: 6].
وهذا القرآن العظيم من أنزله؟.. ومن أحكمه؟.. ومن فصّله؟: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [هود: 1].
وماذا تضمنت آياته؟.(6/109)
لقد تضمنت أمهات العقيدة وأصولها التي جاء القرآن يقررها، ويقيم عليها الأمة وهي: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 2-4].
(? ? ? ? ?) فهو توحيد العبودية والطاعة لله سبحانه.
(? ہ ہ ہ ہھ) فهي الرسالة وما تضمنته من بشارة ونذارة.
(ھ ھ ھ ے ے ?) فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية إلى التوحيد والطاعة.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) فهو الجزاء للتائبين المستغفرين.
(? ? ? ? ? ? ? ??) فهو الوعيد للمتولين.
(? ? ? ?) فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة.
(? ? ? ? ??) فهي قدرة الله المطلقة، والسلطان الشامل على الكون وما فيه.
هذا هو الكتاب، وهذه هي الأصول التي يدعو إليها:
إيمان وتوحيد.. وبشارة ونذارة.. وعبادة ودعوة.. واستغفار وتوبة.. وثواب لأهل الطاعة.. وعقاب لأهل المعصية.. وعودة إلى الله القدير ليحكم بين العباد.
وكتاب الله عزَّ وجلَّ حق بذاته، وليس لأحد أن يتلمس للنصوص القرآنية مصداقاً من النظريات التي تسمى علمية حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية.
فالنظريات العلمية قابلة دائماً للانقلاب رأساً على عقب.
أما القرآن فهو حق صادق بذاته، سواء اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد.
إن تلمس البعض موافقات من النظريات العلمية للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن، واليقين بصحة ما فيه، وأنه من لدن حكيم خبير.
وهو هزيمة ناشئة من الفتنة بالعلم، وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي، الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في حدود دائرته.
فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على العلم يحسب أنه يخدم القرآن، ويخدم العقيدة، ويثبت الإيمان.
إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم الإنساني المتقلبة ليثبت لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه.(6/110)
إن القرآن هو الأصل، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء، وهو الحق بذاته: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [فصلت: 41، 42].
والقرآن الكريم هو كتاب الله للعالمين إلى يوم القيامة، يهدي للتي هي أقوم في جميع مجالات الحياة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 9].
يهدي للتي هي أقوم في عالم الروح والقلوب بالإيمان بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من عالم الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية للعمل والبناء.
ويهدي للتي هي أقوم في التأليف بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه به الإنسان إلى الله.
ويهدي هذا القرآن للتي هي أقوم في مجال العبادة بالموازنة بين الأوامر الشرعية والطاقة البشرية.
فلا تشق الأوامر على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء.
ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ويقيم هذه العلاقات على أصول عادلة ثابتة لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض.
هذه الأصول التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض، وفي كل جيل.
فيهديهم من يملك الهدى وحده للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، والنظام الفردي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي أقوم بربط كل إنسان بنفسه وعمله، إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها، وما من نفس تحمل وزر أخرى، إنما يسأل كل أحد عن عمله، ويجزى كل بعمله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 15].(6/111)
ويهدي القرآن للتي هي أقوم ببناء الأسرة على الوضوح والعفة، فيأمر باختيار الزوجة الصالحة، وإعلان هذا الزواج بين الناس.
وينهى عن الزنا؛ لأن في الزنا قتلاً من نواح شتى:
ففيه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها، يتبعه غالباً التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق، أو بعد أن يتخلق، أو بعد مولده.
وإذا تُرك الجنين للحياة تُرك في الغالب لحياة شريرة، أو حياة مهينة في المجتمع.
وهو قتل للجماعة التي يفشو فيها، فتضيع الأنساب، وتختلط الدماء، وتزول الثقة في العرض والولد.
وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه، يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي لها، والأسرة هي المحضن الصالح للمواليد الناشئة، لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه.
ولذلك يحذر القرآن من مجرد مقاربة الزنا؛ لأن الزنا تدفع إليه شهوة خفية، فالتحرز من المقاربة أضمن: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [الإسراء: 32].
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة توقياً للوقوع فيه.
فينهى عن الاختلاط في غير ضرورة، ويحرم الخلوة، وينهى عن التبرج بالزينة.
ويحض على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع.
وينهى عن الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور، وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد.
ويحض على إعانة من يرغب في الزواج، ويوقع أشد العقوبة على جريمة الزنا حين تقع، وعلى رمي المحصنات دون برهان.
وذلك ليحفظ المجتمع من التردي والانحلال، وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال وهلاك ودمار.
وهو يهدي للتي هي أقوم في حفظ النفوس والأمم.
فالإسلام دين السلام والحياة، وقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه، فلا تقتل إلا بالحق.
وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدود بيِّن لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي، ولا متأثراً بالهوى.(6/112)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأنِّي رَسُولُ ا?، إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمفارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ » متفق عليه(1).
فالأول: القصاص العادل الذي يحفظ حياة الأمة، ويدفع عنها الشر، وإراقة الدماء.
والثاني: دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة.
والثالث: دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة، ويهدد أمنها، ونظامها الذي اختاره الله لها.
فمن قتل بغير واحد من الأسباب الثلاثة، فقد جعل لوليه سلطاناً على القاتل، إن شاء قتله، وإن شاء عفا على الدية، وإن شاء عفا عنه بلا دية: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الإسراء: 33].
وهو يهدي للتي هي أقوم بالتثبت من كل خبر، ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة قبل الحكم عليها، فالإسلام دين الوضوح والاستقامة، لا يقوم شيء فيه على الظن أو الوهم أو الشبهة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 36].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 6].
إن القلب والعقل متى استقاما على هذا المنهج العظيم لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب.
فالإنسان أين كان ومن كان مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
فلا يقول الإنسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية ولا يحكم حكماً ولا يبرم أمراً إلا وقد تثبت منه؛ لأنه مسئول عنه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6878)، ومسلم برقم (1676) واللفظ له.(6/113)
ويهدي للتي هي أقوم في معرفة الرسل، والإيمان بهم، والإيمان بما جاءوا به من كتب من عند الله: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 9، 10].
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن فهم متروكون لهوى الإنسان العجول، الجاهل بما ينفعه وما يضره: (چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الإسراء: 11].
وهذا الكتاب العزيز ينبغي أن يكون هو كتاب الذكر والوعظ: (گ گ گ ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 50].
وأن يكون كتاب التعليم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژژ) [آل عمران: 79].
وأن يكون كتاب العمل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [الأنعام: 155].
وأن يكون كتاب الدعوة إلى الله، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله قبل الاتجاه إلى مصدر سواه.
والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون الناس إلى ربهم؟.
وكيف يوقظون القلوب الغافية؟.. وكيف يحيون الأرواح الخامدة.. وكيف يلينون القلوب القاسية؟.
إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله، خالق هذا الإنسان، العليم بطبيعة تكوينه، فهو يعرض عليه:
تارة النظر في الآيات الكونية.. وتارة النظر في الآيات الشرعية.. وتارة يرغبه في الجنة.. وتارة يحذره من النار.. وتارة يخاطب فطرته.. وتارة يخاطب عقله.. وتارة يذكره بعظمة الله بذكر أسمائه وصفاته.. وتارة يذكره بنعمه وإحسانه إلى عباده.. وتارة يذكره بالموت والحياة: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الأنعام: 19].
وكما أن عليهم أن يتبعوا منهج الله في البدء بالتوحيد، وتقرير ألوهية الله وربوبيته، فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق، كيفما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده، والاعتراف بربوبيته لعباده، والحكم له فيهم.
فهو الذي له الخلق والأمر، وله العبودية والطاعة من جميع خلقه.(6/114)
والكفار في أنحاء الأرض لا يدركون وظيفة هذا الكتاب، لا يدركون أنه جاء لإنشاء مجتمع عالمي إنساني، وبناء أمة تقود هذا المجتمع العالمي، وأنه الرسالة الخيرة للبشرية من ربها.
وأن الله الذي خلق البشر عليم بما يصلح لهم من المبادئ والشرائع، وإذا كان أكثر المسلمين لا يدركون وظيفة هذا الكتاب، ولا يدركون وظيفتهم في دينهم فكيف تكون حالهم وحال غيرهم؟.
إن مثل آيات هذا الكتاب العظيم كمثل الدواء يعطى منه للمريض جرعات حتى يشفى، ثم ينصح بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [البقرة: 106].
والمشركون لا يدركون ذلك، ولذلك يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب والافتراء، وهو الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه كذباً قط: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 101، 102].
فإذا بدل سبحانه آية انتهى أجلها وتحقق مرادها، وأتى بآية أخرى أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة، فهو العليم الخبير، والشأن له في ملكه وخلقه وأمره: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
وقد كان كفار مكة يستمعون إلى القرآن، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له، ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجاباً مخفياً لا يظهر للعيون، ولكن تحسه القلوب، فإذا هم لا ينتفعون به، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 45].
ولقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت، وما في الإسلام من تماسك، وما في القرآن من سمو وارتفاع، ولكنه الكبر والجحود والحسد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 33].(6/115)
ولقد كانوا ينفرون من كلمة التوحيد التي تهدد وضعهم الاجتماعي، والفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر، والكبرياء تمنعهم من التسليم والانقياد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 46].
وكما أن الروح من الأسرار التي اختص الله بعلمها، كذلك القرآن كلام الله الذي اختص الله بعلمه وتنزيله، ولا يملك الخلق محاكاته، ولا يملك الإنس والجن- وهما يمثلان الخلق الظاهر والخفي- أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، ولو تظاهروا وتعاونوا في هذه المحاولة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الإسراء: 88].
فلا يمكن للبشر ولا للجن ولا لغيرهم أن يأتوا بمثله، وهو كالروح من أمر الله، لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره.
ولقد أنزل الله هذا القرآن ليربي أمة، وينشئ مجتمعاً، ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وإلى انفعال، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع.
والنفس البشرية لا تتحول تحولاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل لمنهج الحياة.
إنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج في مراقيه رويداً رويداً، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً.
فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً.
ومن هنا ندرك جهل الكفار في طلبهم إنزال القرآن جملة واحدة كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 32].
وفي المحسوس المشاهد النفس تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية، فتصبح في اليوم التالي أكثر استعداداً للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذاً بها.
لقد جاء كتاب الله الكريم بمنهاج شامل للحياة كلها، وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها، فجاء لذلك منجَّماً وفق الحاجات والاستعدادات التي تستجد وتنمو يوماً بعد يوم.(6/116)
جاء ليكون كتاب عمل، وليكون منهج تربية، ومنهج حياة، لا ليكون كتاب ثقافة يُقرأ لمجرد اللذة، أو لمجرد المعرفة.
جاء لينفذ حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، وآية آية، وسورة سورة.
جاء لتكون آياته هي الأوامر اليومية التي يتلقاها المسلمون في حينها، ليعملوا بها فور تلقيها في جميع شئون حياتهم.
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك الجمال والجلال، والعظمة والهيبة في حياة الأمة التي تلقته بالقبول والعمل.
فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج، وزحزحوا عنه، وزهدوا بما فيه من البركات والثمرات، وقعوا على جيفة الدنيا، وموائد الشيطان، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة فحسب، وأحياناً تفتتح الجلسات والحفلات بآيات منه، ولم يتخذوه منهج تربية للانطباع والتكيف، ولا منهج حياة للعمل والتنفيذ، فلم ينتفعوا من القرآن بشيء، وحرموا بركته؛ لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير.
فيا ويح هذه الأمة ماذا خسرت، وماذا فقدت حين أعرضت عن مصدر هدايتها وعزتها؟.
إن الله تبارك وتعالى كما أنزل من السماء ماء طهوراً، يغسل وجه الأرض بالماء الطهور، الذي ينشئ الحياة في الموات، ويسقي الأناسي والأنعام، كذلك هو سبحانه أنزل القرآن لتطهير القلوب والأرواح وإحيائها: ( ک ک ک گ گگ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الفرقان: 48-50].
فوا عجباً لهؤلاء البشر، كيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام، ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للقلوب؟.
إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة شاقة ضخمة، فهو يواجه البشرية كلها، وأكثرها أضله الهوى، وأبى إلا الكفر، ودلائل الإيمان حاضرة أمامه.
والله قادر على أن يبعث في كل قرية نذيراً، فتوزع المهمة، وتخف الشقة، ولكن الله اختار لها عبداً واحداً هو خاتم الرسل.(6/117)
وكلفه إنذار القرى جميعاً، لتتوحد الرسالة الأخيرة، فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة، وأعطاه القرآن أعظم الكتب وآخرها، ليجاهدهم به، ويحكمه في حياتهم.
ففيه من القوة والسلطان والتأثير العميق والجاذبية التي لا تقاوم ما كان يهز القلوب هزاً، يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر، ولا يثبت لها جدال أو محال: (ھ ھ ھ ھ ے ے ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 51، 52].
والله عزَّ وجلَّ قادر على أن يلوي أعناق الكفار إلى الإيمان كرهاً بآية قاهرة، تقسرهم عليه قسراً: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الشعراء: 4].
لكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة يراها جيل من الناس، بل جعل آيتها دائمة يراها كل البشر، وهي القرآن الكريم، الذي هو منهج حياة كاملة، ومعجز في كل ناحية.
ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان.
فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة لكل أمة في مشارق الأرض ومغاربها، ومعروضة على كل جيل من أجيال البشرية إلى يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 51].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أوْحَاهُ الله إِلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه(1).
فالمعجزات القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى لا واقعاً يُشهد ويُرى.
فأما القرآن فهو كتاب مفتوح، ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل كل زمان ما يقوم حياتهم، ويلبي حاجاتهم كاملة، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ويعطي لكل طالب بقدر حاجته.
فكيف يليق بالإنسان أن يعرض عن هذا القرآن العظيم؟.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4981)، واللفظ له، ومسلم برقم (152).(6/118)
وكيف يجهل عظيم رحمة الله بتنزيل هذا الذكر الحكيم؟.
ألا ما أحوج البشرية إلى كتاب يهديها إلى ربها، وينظم حركة حياتها.
فإذا جاء من ربها ورفضته، وحرمت نفسها منه، وهي أحوج ما تكون إليه، فهذا فعل مستقبح كريه، وأهله جديرون بالعقاب والعذاب، وسيعاقبهم الله؟.
فما أعجب هؤلاء البشر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الشعراء: 5، 6].
إنهم يطلبون آية خارقة، ويغفلون عن آيات الله الباهرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ژژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الشعراء: 7، 8].
وفي آيات الكون غنى ووفرة وكفاية، ولكن رحمة الله تقتضي أن يبعث الرسل، وينزل الكتب، للتبصير والتنوير، والتبشير والإنذار: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [الحج: 65].
والله سبحانه أنزل الكتاب بالحق، وهو الحق الذي يدعو إلى الحق: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 31].
ودلائل الحق في القرآن جلية واضحة، وهو مصدق لما قبله من الكتب السابقة الصادرة من مصدره كالتوراة والإنجيل.
هذا هو الكتاب في ذاته، وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة، واصطفاها لهذه الوراثة، وأكرمها بذلك، ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [فاطر: 32].
فالفريق الأول: هو الأكثر عدداً ظالم لنفسه، تربو سيئاته على حسناته.
والثاني: وسط مقتصد، حسناته تعادل سيئاته.
والثالث: سابق بالخيرات بإذن الله، تربو حسناته على سيئاته.
ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً.
فكلهم جميعاً انتهى إلى الجنة وإلى النعيم، على تفاوت في الدرجات، ذلك هو الفضل الكبير.
وفي الجانب الآخر الكفار، حيث العذاب والقلق والاضطراب: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 36].
إنهما صورتان متقابلتان:
صورة الأمن والراحة.. تقابلها صورة القلق والاضطراب.
ونعمة الشكر والدعاء.. تقابلها ضجة الصراخ والنداء.(6/119)
ومظهر العناية والتكريم.. يقابله مظهر النسيان والتأنيب.
والكتاب الذي أنزله الله: (? ? ? ? ? ??) [يس: 69].
فهو ذكر وقرآن، وهما صفتان لشيء واحد.
ذكرٌ بحسب وظيفته، وقرآنٌ بحسب تلاوته، فهو ذكر لله يشتغل به القلب، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان.
وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة: (? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 70].
ينذر من به حياة فيجدي فيهم الإنذار، فأما الكافرون فهم موتى لا يسمعون النذير، ولو سمعوا ما استجابوا.
ووظيفة القرآن بالنسبة إليهم هي تسجيل الاستحقاق للعذاب، فإن الله لا يعذب أحداً حتى تبلغه الرسالة، ثم يكفر عن بينة، ويهلك بلا حجة ولا معذرة.
والقرآن الكريم كلام الله عزَّ وجلَّ، جعله عربياً حين اختار العرب لحمل هذه الرسالة، ولما يعلمه من صلاحية هذه الأمة، وهذا اللسان لحمل هذه الرسالة ونقلها للعالمين.
ولهذا القرآن عند الله مكانة عظيمة، فهو كتاب الله للبشرية إلى أن تقوم الساعة: (? ? ? ژژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [الزخرف: 3، 4].
فهل يشعر القوم الذين جعل الله القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم؟.
وهل يتذكرون قيمة النعمة التي أنعم الله بها عليهم؟.
وقد كان عجيباً وما يزال، أن يعنى الله في عظمته وعلوه وغناه بهذا الفريق من البشر، فينزل لهم كتاباً بلسانهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويصلح أحوالهم، ويبين لهم طريق الهدى.
ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون، ولكن الله رحيم لم يعاجلهم بالعقوبة وهم مستحقون للإهمال والإعراض: (گ گ ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 5].
والقرآن العظيم كله محكم، مشتمل على غاية الإتقان والإحكام، والعدل والإحسان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [هود: 1].
وكل القرآن متشابه في الحسن والبلاغة، وتصديق بعضه لبعض كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الزمر: 23].
وآيات القرآن نوعان:
آيات محكمات.. وآيات متشابهات.(6/120)
فالآيات المحكمات: هي الواضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال، وهي أم الكتاب وأصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره.
ومنه آيات متشابهات، يلتبس معناها على كثير من الأذهان، لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى الأفهام غير المراد منها.
فالواجب رد المتشابه إلى المحكم، والخفي إلى الجلي، وبهذا يزول الإشكال والتعارض.
وكل من المحكم والمتشابه من عند الله، وما كان من عند الله فليس فيه تعارض ولا تناقض، بل هو متفق يصدق بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض.
والواجب أن نعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 7].
وكل من المحكم والمتشابه ابتلاء للعقل، يفهم أشياء ويعمل بها، ولا يفهم أشياء فيجب أن يؤمن بها؛ لأن الله قالها، وعليه الانقياد والتسليم في الحالين.
والقرآن الكريم ذكر يذكر الله به عباده بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [التكوير: 27، 28].
فالقرآن الكريم يذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله.. ويذكرهم بحقوق الرب على عباده.. ويذكرهم بالمبدأ والمعاد.. ويذكرهم بالخير ليقصدوه.. وبالشر ليجتنبوه.. ويذكرهم بنفوسهم وما تكمل به.
ويذكرهم بالطاعات ليفعلوها.. ويذكرهم بالمعاصي والشرور ليحذروها..
ويذكرهم بعدوهم وكيف يحترزون منه؟.
ويذكرهم برحمة الله ليسألوه إياها.. ويذكرهم بشدة بطشه ليتقوا غضبه.. ويذكرهم بالنعم ليشكروها.. وبإكرامه لمن أطاعه.. وانتقامه ممن عصى أمره.. وكذب رسله.
وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن أصول الأخلاق التي تحقق السعادة في الدنيا والآخرة، وزين بها أفضل خلقه وأحسنهم وأجملهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فكان أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً؛ لأن خلقه القرآن، يتأدب بآدابه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويتخلق بأخلاقه.(6/121)
وهذه الأخلاق التي وردت في القرآن:
منها ما يتعلق بالفرد والأسرة.. ومنها ما يتعلق بالمجتمع والشعب.. ومنها ما يتعلق بالحاكم والدولة، وهذه الأخلاق موجهة للبشرية قاطبة، لتأخذ بها وتتجمل بها، وتعمل بها، وتدعو إليها، فهي خير أمة أخرجت للناس، وهذه الأخلاق العالية هي التي تميزها عن الناس.
فقد أمر الله سبحانه الفرد بالتحكم في شهواته، وكظم غيظه، وأمر بالصدق والأمانة.. والحلم والعفو.. والرأفة والرحمة.. والعطف والحب.. والثبات والصبر.. والعدل والإحسان.. والتواضع والرفق.. والمبادرة إلى الصالحات.. والمنافسة في الخيرات، والإحسان وصلة الأرحام.
ونهى الإنسان عن رديء الأخلاق وسيئها:
فنهاه عن الكذب والنفاق.. والرياء والخداع.. والكبر والعجب.. والفخر والاختيال.. والحسد والحقد.. والحرص والطمع.. والتعلق بالدنيا.. وسوء الظن.. وتناقض الأعمال والأقوال.. والسب والاستهزاء.. والسخرية والتعيير.. والقتل بغير حق.. وأكل المحرمات.. وتناول الخبائث.. وظلم العباد.
ونهاه عن الغيبة والنميمة.. وعن الزنا.. وأكل الربا.. وشرب الخمر.. وكل فاحشة.. وكل إثم وبغي.. وكل كسب حرام.. إلخ: (چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
وفي مجال الأسرة أمر الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين وطاعتهما.. وبين واجبات وحقوق كل من الزوجين.. وبين واجب الوالدين نحو الأولاد.. وواجب الأولاد نحو الوالدين.. وبين المحرمات من النساء.. وكيفية الزواج وشروطه.. وحسن المعاشرة.. وأحكام النفقة.. وأحكام المواريث والوصايا.. وأحكام الطلاق.. وأحكام العدة.. وأصول التربية، وآداب الأكل والنوم والضيافة ونحو ذلك.(6/122)
أما أصول أخلاق المجتمع، فقد قررها القرآن في أكمل صورة وأحسنها، فقد أمر باحترام الجار.. وإكرام الضيف.. وحسن المعاملات.. وصلة الأرحام.. وأداء الأمانة.. والوفاء بالعهد.. وإصلاح ذات البين.. والإحسان إلى الفقراء.. والرفق بالضعفاء.. والعفو عن المسيء.. والإعراض عن الجاهلين.. إلخ.
ونهى القرآن عن قتل النفس بغير حق، وعن الغدر والخداع، والكذب وشهادة الزور.. وكتمان الحق والجهر بالسوء.
ونهى قبل ذلك عن الشرك وعبادة الأصنام والأوثان والأشخاص.
وحرم السرقة والغش.. والنهب والاختلاس.. وأكل مال اليتيم.. وخيانة الأمانة.. والظلم والإيذاء.. والتواطؤ على الشر.. والنظر إلى عورات المسلمين.. وفتنة المؤمنين والمؤمنات.. والسب والقذف.. والصد عن سبيل الله.. إلخ.
وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالمواقف التي تدل على حسن الخلق، وحسن المعاملة مع الشعوب المسلمة وغير المسلمة في جميع جوانب الحياة؛ لتأليف قلوبهم، وجذبهم بتلك الأخلاق من الرحمة والعفو، والإحسان، والإكرام، والحلم والصبر للدخول في الإسلام، راغبين لا مكرهين.
أما ما يتعلق بالحاكم والدولة، فقد بين الله في القرآن واجبات الحاكم وحقوقه:
فأمر الله في كتابه الحاكم المسلم أن يجعل سياسته حسب مراد الله، ومن هنا كانت السياسة في الإسلام عبادة من العبادات، لها أوامر وسنن وأحكام وآداب.
فأمر الله الحاكم بالحكم بالحق والعدل.. ورغبه في العفو والإحسان.. وأمره بالصبر والرفق.. وإقامة الحدود.. والاهتمام بمصالح المسلمين.. وأداء الحقوق.. والاهتمام بالرعية والنصح لهم.. والعناية بتعليمهم.. وتفقد أحوالهم.. والإحسان إليهم وامتثال أوامر الله في كل حال.. والدعوة إلى الله.. والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.. والحكم بما أنزل الله.(6/123)
ونهاه عن الدجل والنفاق.. والخداع والكذب.. والظلم والغش.. واتباع الهوى.. وأكل الأموال بالباطل.. والاستكبار في الأرض.. والحكم بغير ما أنزل الله.. واجتناب كل ما نهى الله عنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 26].
فما أحسن هذا الكتاب، وما أعظم الرب الذي أنزله، وما أحسن الآداب والسنن والأحكام التي اشتمل عليها، وما أعظم الأخلاق العالية التي يدعو إليها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 89].
وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن أصول دعوة الأنبياء بالتفصيل، وبين كيفية عرض الإسلام على الأفراد والأمم والحكام.. وعلى الأقوياء والضعفاء.. وعلى الأغنياء والفقراء وغيرهم.
فذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وبين كيف نصر الله رسله وأتباعهم.. وكيف خذل ودمر من عاندهم وآذاهم.
سواء كان حاكماً كفرعون ونمرود.. أو فرداً كقارون.. أو شعباً.. أو قبيلة.. أو أمة.. أو عائلة.. أو قوماً كعاد وثمود وغيرهما.
والقرآن الكريم كما أنه كتاب توحيد وإيمان، كذلك هو كتاب شريعة، وكما أنه كتاب علم وحكمة، كذلك هو كتاب دعاء وعبودية، وكتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر.
وميادين جهد المسلم على القرآن أربعة:
جهد على ألفاظ القرآن بحسن التلاوة.. وجهد على معانيه بالفكر والاعتبار، وجهد على العمل بالقرآن في جميع شعب الحياة.. وجهد على الدعوة إلى القرآن، وإبلاغه البشرية في أنحاء الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
والناس في ذلك متفاوتون، وكل له من ذلك نصيب، وأكملهم أعرفهم بكتاب الله، الذي جمع الله فيه علم الأولين والآخرين: (? ژ ژ ڑڑ) [الجاثية: 6].
فما أظلم المعرضين عنه، وما أشد عقوبتهم؟: (ک ک ک کگ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الجاثية: 7، 8].(6/124)
وأنت إذا لاحت لك الحقائق، وتبين النور من الظلام، فكن أسعد الناس بالهدى والنور، وإن جفا ذلك الأغمار، وسخر منه الفجار: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 28].
والقرآن الكريم صفة لله غير مخلوق؛ لأنه كلامه، منه بدأ وإليه يعود.
تكلم به عزَّ وجلَّ، وسمعه جبريل من الله، وبلّغه جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبلّغه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته، وعلى أمته أن تبلغه للناس كافة إلى يوم القيامة.
وإذا قرأنا القرآن فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ.
تارة يضيفه الله إلى الرسول الملكي جبريل إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ں ں ? ? ? ??) [التكوير: 19، 20].
وتارة يضيفه الله إلى الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء؛ لأنه هو الذي بلّغه إلى أمته كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحاقة: 40، 41].
وتارة يضيفه الله إلى نفسه؛ لأنه هو الذي تكلم به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 6].
والقرآن العظيم فيه تبيان كل شيء، وهو هدى ورحمة، ونور وشفاء.
وعمل القلب عند تلاوة القرآن:
أن يستحضر عظمة المتكلم به وهو الله تبارك وتعالى.. ويفهم عظمة كلامه سبحانه.. ويحضر قلبه ويترك حديث النفس عند تلاوته.. ويتدبر ما يقرأ وهو أمر وراء حضور القلب.. ويفهم من كل آية ما تحمله من أحكام.. ويتخلى عن موانع الفهم.. وأن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن.
فإن سمع أمراً أو نهياً قدر أنه المأمور والمنهي، وإن سمع وعداً أو وعيداً فمثل ذلك.
وإن سمع قصص الأنبياء علم أنه المقصود ليعتبر ويتأثر قلبه بآثار مختلفة حسب الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال من الخوف والرجاء والحزن ونحو ذلك.
ويترقى ويحضر قلبه، وكأنه يقرؤه على الله عزَّ وجلَّ، واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليه يستمع منه.(6/125)
فيكون حاله السؤال والتملق، والتضرع والابتهال، ويشهد بقلبه كأن الله عزَّ وجلَّ يراه ويخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه هنا:
الحياء والتعظيم.. والإصغاء والفهم.. والحمد والشكر.
متفكراً في عظمة ربه، وفي آلائه وإحسانه، وفي خلقه وأمره.
يتبرأ من حوله وقوته، ولا يزكي نفسه، فإذا تلا آيات الوعد والمدح للصالحين، فلا يشهد نفسه عند ذلك.
بل يشهد الموقنين الصادقين فيها، ويتشوف إلى أن يلحقه الله بهم.
وإن تلا آيات الوعيد والمقت للعصاة وذم المقصرين، شهد نفسه هناك، وقدر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً، وسأل الله أن يرحمه ويعفو عنه، فالناس رجلان: تائب وظالم: (? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 11].
وقد وصف الله القرآن الكريم بأربع صفات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [يونس: 57].
وقد أنزل الله عزَّ وجلَّ القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ، فعالج به القلوب المريضة بالشرك والكبر والظلم.
فوحدت ربها.. وآمنت به.. وخضعت له.. واستقامت على دينه.
والطبيب إذا وصل إليه المريض فله معه أربع مراتب:
الأولى: أن ينهاه عن تناول ما يضره، ويأمره بالاحتراز من الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض، وهذا هو الموعظة.
الثانية: أن يأمره بتناول الأغذية النافعة، بعد أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة، وهكذا الأنبياء يأمرون الناس بالأخلاق الحميدة بعد زوال الأخلاق الذميمة، وهذا هو الشفاء.
الثالثة: حصول الشفاء بعد تناول الغذاء وزوال الأخلاط، وكذا حصول الهدى، لا يمكن إلا بعد حصول النور في القلب، فإذا جاء نور الإيمان، جاء الهدى ونور القرآن، وإذا جاء الهدى ولى الضلال.
الرابعة: الرحمة، وبالرحمة يكون العلاج، ولولا رحمة الله ما قام في الدنيا والآخرة شيء.(6/126)
فالنفس الزكية البالغة درجات الكمال تفيض أنوارها على أرواح الناقصين، وخص المؤمنين؛ لأن أرواح الكفار والمعاندين لا تستضيء بأنوار أرواح الأنبياء، كما أن الجسم القابل للنور هو الجسم المقابل لقرص الشمس.
وكلام الله عزَّ وجلَّ كله عظيم، وبعضه أفضل من بعض، وذلك أن الكلام له نسبتان:
نسبة إلى المتكلم به وهو الله.. ونسبة إلى المتكلَّم فيه.
فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضاً.
فـ: (? ? ? ??) [الإخلاص: 1].
و: ( ژ ژ ڑڑ) [المسد: 1].
كلاهما كلام الله، وهما مشتركان في هذه الجهة.
لكنهما يتفاضلان من جهة المتكلَّم فيه، فهذا كلام الله وخبره عن نفسه عزَّ وجلَّ، والثاني كلام الله الذي تكلم به عن بعض خلقه.
وكلام الأنبياء والعلماء والخطباء، بعضه أفضل من بعض، وإن كان المتكلم واحداً، وتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه سواء كان خبراً أو إنشاءً أمر معلوم.
فليس الخبر عن الله وأسمائه وصفاته والثناء عليه كالخبر المتضمن لذكر أبي لهب وفرعون وإبليس، وإن كان كل الكلام عظيماً تكلم به الله.
وكذلك الأمر بالتوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ونحو ذلك ليس كالأمر بلعق الأصابع وإماطة الأذى عن الطريق ونحو ذلك، وإن كانت كل الأوامر الشرعية عظيمة أمر الله بها.
والقرآن الكريم أنزله الله هدى للناس: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [البقرة: 26].
فمن سمعه وأطاع الله أفلح، ومن سمعه وعصى الله شقي، والله أعلم بمن يصلح لدار كرامته، ومن يصلح لدار إهانته.
فالقرآن الكريم سمعه أبو بكر - رضي الله عنه - فصار صدّيقاً.. وسمعه مسيلمة فصار كذَّاباً.
وسمعه عمر - رضي الله عنه - فصار فاروق هذه الأمة.. وسمعه أبو جهل فصار فرعون هذه الأمة.. وسمعه أبو عبيدة - رضي الله عنه - فصار أمين هذه الأمة.. وسمعه سعد بن معاذ فصار من المهتدين، واهتز لموته عرش الرحمن، وسمعه عبدالله بن أبي فصار أكبر المنافقين.(6/127)
والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بمن يصلح لولايته.
والمعول والمقصود: سمعنا وأطعنا، ليس سمعنا وعصينا، ولا سمعنا فقط: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 16].
وكما أن رؤية الأشياء تتم بأمرين: سلامة البصر، ووجود النور الخارجي، فكذلك الاستفادة من الدين تتم بأمرين:
نور الإيمان.. ونور القرآن.
فقارئ القرآن بلا إيمان لا يستفيد منه، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن لا يستفيد، فلا بدَّ من نور الإيمان ونور القرآن لتحصل الهداية والسلامة وقد سمى الله القرآن روحاً إشارة إلى أنه لا حياة للناس إلا بالقرآن.
وسماه نوراً إشارة إلى أنه لا نور في الدنيا والآخرة إلا بالقرآن: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [الشورى: 52].
وحقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح.
وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المؤمن من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله عنه.
فهذا الإيمان الذي يتميز به المسلم عن الكافر؛ لأنه تصديق مجرد لله ورسوله: (? ? ? پ پ پ پ ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 2، 3].
وآيات القرآن الكريم تبصر العبد بحدود الحلال والحرام، وتهديه في ظلم الآراء إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل.
وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق، وتناديه كلما فترت عزماته ليلحق بالركب الكريم.
وتحثه على التزود لمعاده، وتحذره وتخوفه من العذاب الأليم، وتوقفه على ما أعد الله لأوليائه من دار النعيم المطلق، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل.
والقرآن كلام الله عزَّ وجلَّ:
وقد وصف الله كلامه بأنه مجيد، وهو أحق بالمجد من كل كلام، كما أن المتكلم به له المجد كله، فهو سبحانه المجيد، وكلامه مجيد، وعرشه مجيد.(6/128)
ووصفه بأنه عظيم، وهو أحق بالتعظيم من كل كلام، والمتكلم به هو العظيم الذي له العظمة كلها.
ووصفه بأنه كريم، وهو أحق بالكرم من كل كلام، والمتكلم به هو الكريم الذي لا أكرم منه، وكثرة خير القرآن لا يعلمها إلا من تكلم به: (? ? ?? ? پ پپ) [الواقعة: 77، 78].
وقد حفظ الله كتابه، فالشياطين لا يمكنهم التنزل به؛ لأن محله محفوظ أن يصلوا إليه، وهو في نفسه محفوظ أن يقدر الشيطان على الزيادة فيه، والنقصان منه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?ں) [الحجر: 9].
فالله تبارك وتعالى حفظ كتابه.. وحفظ محله.. وحفظه من الزيادة والنقصان.. وحفظه من التبديل والتغيير.. وحفظ ألفاظه من التبديل.. وحفظ معانيه من التحريف.. وأقام له من يحفظ حروفه من الزيادة والنقصان.. ويحفظ معانيه من التحريف والتغيير: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [فصلت: 41، 42].
وكتب الله عزَّ وجلَّ فيها الهدى والنور، والموعظة والبيان والشفاء، والمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، وهم الذين تنفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور والموعظة.
أما القلوب القاسية القاسية الغليظة الصلدة، فلا تبلغ إليها الموعظة، ولا تذوق حلاوتها، ولا تسمع لتوجيهاتها، ولا تنتفع من هذا الهدى، ومن هذا النور، بهداية ولا معرفة، ولا تقبل ولا تستجيب.
إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة.. وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة.. وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها إلا القلب الواعي.
وقد بين الله عزَّ وجلَّ في القرآن كل شيء في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدنيا والآخرة، وكل ما يحتاج إليه العباد فهو مبين فيه أتم تبيين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].(6/129)
فلما كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء، صار حجة الله على العباد كلهم، فانقطعت به حجة الظالمين، وانتفع به المسلمون، فصار هدى لهم يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون بها كل خير في الدنيا والآخرة: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [الزمر: 23].
7- فقه السنة النبوية
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
الله تبارك وتعالى امتن على عباده بأكبر النعم، وهي بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، وهداهم به إلى الصراط المستقيم.
بعثه سبحانه إليهم من قومهم ناصحاً لهم مشفقاً عليهم، يتلو عليهم آيات ربه، ويعلمهم ألفاظها ومعانيها، ويزكيهم من الشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق، ويعلمهم القرآن والسنة التي هي شقيقة القرآن.
ويعلمهم الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه، ومعرفة أسرار الشريعة.
فجمع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين:
تلاوة القرآن.. وتعليم الأحكام.. وتزكية القلوب بالإيمان.. وكيفية تنفيذ الأحكام.. وبيان ثواب أهل الطاعة.. وعقاب أهل المعصية.
ففاقوا بمعرفة هذه الأمور والإيمان بها والعمل بموجبها جميع المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين: (? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
والسنة النبوية: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، أو تقرير أو صفة.
والوحي قسمان:
آية محكمة.. وسنة ثابتة.
فالسنة النبوية أحد قسمي الوحي الإلهي، الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النجم: 3، 4].(6/130)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكتاب وَمِثْلَهُ مَعَهُ » أخرجه أحمد وأبو داود(1).
ومن آثار رحمة الله تعالى أن أنزل القرآن الكريم وحياً يتلى إلى يوم القيامة، محفوظ من التبديل والتغيير كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?ں) [الحجر: 9].
فكان دليلاً على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان خير حافظ للشريعة من عبث العابثين، وتحريف الغالين، وكان وما زال نوراً ساطعاً: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [المائدة: 16].
وكما حفظ الله شريعته بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رفع الإصر والحرج عن عباده، فأنزل على رسوله الكريم إلى جانب القرآن العزيز نوعاً آخر من الوحي هو السنة، أنزلها إليه بالمعنى، وجعل اللفظ إليه، إيذاناً بأن في الأمر سعة على الأمة وتخفيفاً عليها.
فيجوز للمسلمين أن يبلغوا عنه صلى الله عليه وسلم باللفظ النبوي إن تيسر وهو الأولى، لما فيه من أنوار النبوة، وحسن الفصاحة.
ويجوز أن يبلغوا عنه صلى الله عليه وسلم بعبارات تفي بالمقصود؛ لأن المقصود المعنى لا اللفظ.
وفي هذا الوحي وهذا الوحي صون للشريعة، وتخفيف على الأمة.
ولو كان الوحي كله من قبيل القرآن الكريم في التزام أدائه بلفظه لشق الأمر، وعظم الخطب، ولما استطاع الناس أن يقوموا بحمل هذه الأمانة الإلهية.
ولو كان الوحي كله من قبيل السنة في جواز الرواية بالمعنى، لكان فيه مجال للريب، ومثار للشك، ومغمز للطاعنين، الذين يقولون لا نأمن من خطأ الرواة في أداء الشريعة.
ولكن الله حكيم عليم صان الشريعة بالقرآن، ورفع الإصر عن الأمة بجواز رواية السنة بالمعنى، لئلا يكون للناس على الله حجة.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (17174)، وأبو داود برقم (4604).(6/131)
والسنة النبوية وحي من الله إلى رسوله، وهي أصل من أصول الدين يجب اتباعها، والعمل بموجبها كالقرآن، وتحرم مخالفتها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الحشر: 7].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
والسنة النبوية مع القرآن لها ثلاثة أحوال:
الأولى: أن تكون موافقة لما جاء في القرآن من حيث الإجمال والبيان، فتكون مؤكدة لما جاء فيه لأهميته كالتأكيد على أهمية الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها.
كقوله صلى الله عليه وسلم : «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ ا?، وَإقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه(1).
مع قوله سبحانه: (گ ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 56].
وقوله سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 183].
وقوله سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 97].
الثانية: أن تكون بياناً لما أجمل في القرآن، وذلك:
ببيان مجمل كالأحاديث التي جاء فيها تفصيل أحكام الطهارة والصلاة، والزكاة والنفقات، والصيام والحج ونحو ذلك.
أو تقييد مطلق كالأحاديث التي بينت المراد من اليد في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [المائدة: 38].
فبينت السنة أنها اليد اليمنى، وأن القطع من الكوع لا من المرفق.
أو تخصيص عام كالحديث الذي بين أن المراد من الظلم في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الأنعام: 82].
أنه الشرك، لا عموم الظلم، فأي أحد لم يظلم نفسه؟.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(8)، واللفظ له، ومسلم برقم (16).(6/132)
أو توضيح لمشكل كالحديث الذي بين أن المراد بالخيطين في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [البقرة: 187].
هو بياض النهار، وسواد الليل.
وأغلب السنة من هذا النوع، ولهذه الغلبة وصفت بأنها مبينة للكتاب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [النحل: 44].
الثالثة: أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن.
كالأحاديث التي دلت على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها في النكاح، والحكم بشاهد ويمين، ووجوب رجم الزاني المحصن، ووجوب الكفارة على من انتهك حرمة صوم رمضان، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، وكون ذكاة الجنين في بطن أمه ذكاة أمه، ونحو ذلك.
وهذه الأحوال الثلاث تقع في الأحكام والأخبار.
ومجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية كانت مفتوحة لكل الناس رجالاً ونساء، عرباً وعجماً، خاصة وعامة، أغنياء وفقراء، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مدرسة مشيدة، ولا معهد للتعليم يجلس فيه إلى أصحابه.
بل كانت مجالسه العلمية كيفما اتفق:
فهو في الجيش معلم وواعظ يلهب القلوب بوعظه، ويحمس الجنود بقوله.
وهو في السفر مرشد وهاد.. وهو في البيت يعلم أهله السنن والآداب.. وهو في المسجد مدرس وخطيب، وقاضٍ ومفتٍ، وهو في الطريق يستوقفه أضعف الناس ليسأله عن أمر دينه فيقف ليعلمه ويرشده.
وهو في جميع أحواله مرشد وناصح ومعلم.
إلا أنه كثيراً ما كان يعقد لأصحابه المجالس العلمية بالمسجد، حيث يجتمعون فيه في أغلب الأوقات لأداء فريضة الصلاة، فكان يتخولهم بالموعظة تلو الموعظة، والدرس تلو الدرس، حتى لا يملوا ويسأموا.(6/133)
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. متفق عليه(1).
فعلى العلماء والدعاة أن يهتدوا بسنته، ويقتدوا بأقواله وأفعاله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
ولم يكن صلى الله عليه وسلم محجوباً عن رعيته كالملوك، ولا سلطاناً مترفعاً عن الاختلاط بأفراد أمته.
بل كان متقلباً بين ظهرانيهم.. يبلغ رسالة ربه.. ويعود مرضاهم.. ويشيع موتاهم.. ويفصل في قضاياهم.. ويفض منازعاتهم.. ويجيب داعيهم.. ويستقبل أدناهم وأشرفهم.. ويكرمهم بالكلمة الطيبة.. ويواسي محتاجهم.
وهم في كل ذلك مقبلون عليه بآذان صاغية، وقلوب واعية.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أصحابه سيخلفونه من بعده، وسيقع على كاهلهم أمر الإرشاد والتعليم والإفتاء والدعوة، فأتى في دروسه العلمية بأمور كان لها أكبر الأثر في توجيه الصحابة وتعليمهم كيف يضطلعون بمهنة التعليم والإرشاد.
فكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا سئل عما لا يعلم سكت حتى يأتيه الوحي من الله بذلك.
وكان من هديه أنه إذا قال كلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه ربما طرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، وليشحذ أذهانهم للفهم.
وكان إذا سئل عن مسألة فأجاب عنها، أفاض في مسائل أخرى لها مناسبة بالمقام، أو صلة بالجواب، فيستطرد ليفيد السائل والحاضرين علماً جديداً.
وكان يخص بعض أصحابه بالعلم دون بعض مخافة ألا يفهموا فيفتنوا.
إلى غير ذلك من الأمثلة والآداب والمواعظ التي تلقوها منه، حتى كانوا أئمة في الدين، أساتذة في التعليم، أمناء على أحكام الدين.
فما أحسن الاستجابة لله والرسول، وما أجدر العاقل بذلك.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (68)، واللفظ له، ومسلم برقم (2821).(6/134)
إن الإسلام يدعو الناس إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة، وتخلص النفوس من ضغط الأوهام والأساطير، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة، ومن العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله يكملون بها ويسعدون في الدنيا والآخرة.
ويدعوهم إلى منهج للحياة ومنهج للفكر يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة التي فطر الناس عليها.
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم، والانطلاق في الأرض كلها لتحرير الإنسان بجملته، وإخراجه من ذل عبودية العباد إلى عز عبودية الله وحده.
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله لتقرير ألوهية الله سبحانه في الأرض وفي حياة الناس، وتحطيم ألوهية العبيد التي قهروا بها العباد وأضلوهم وأفسدوهم.
ذلك مجمل ما جاءت به السنة، ومجمل ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو دعوة إلى الحياة الطيبة في كل شيء.
والله يأمرنا أن نستجيب له طائعين مختارين، وإن كان الله سبحانه قادراً على قهر الناس على الهدى لو أراد، فإنه وحده الذي يحول بين المرء وقلبه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد، وصاحبه لا يملك منه شيئاً، وهو قلبه الذي بين جنبيه.
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، لخلجات القلب، والحذر من كل هاجسة فيه؛ لئلا ينزلق فيما حرَّم الله.
والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في غفلة من غفلاته.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم يكثر من دعاء ربه بقوله: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» أخرجه أحمد والترمذي(1).
فكيف بنا ونحن غير مرسلين ولا معصومين؟.. فالقلوب كلها بيديه سبحانه، والناس محشورون إليه، فلا مفر لأحد.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (12131).
وأخرجه الترمذي برقم (3522)، صحيح سنن الترمذي برقم (2792).(6/135)
ومع هذا الله يدعونا للاستجابة إليه استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور.
ولولا الله تبارك وتعالى ما زكى أحد أبداً، ولكن الله أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وبعثه إليهم بالهدى ودين الحق: ليطهر أرواحهم وقلوبهم من دنس الشرك ولوثة الجاهلية وخرافاتها.
ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات التي تزري بهم إلى أقل من رتبة الأنعام.
ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت، والغش والكذب، والسلب والنهب.
ويطهر حياتهم من الظلم والبغي والعدوان بنشر العدل والإحسان والرحمة.
ويطهرهم من كل ما لا يليق بكرامتهم، ويتنافى مع إنسانيتهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].
وكمال الإنسان يتم بخمسة أمور:
الإيمان.. والعلم.. والعبادة.. والدعوة.. والتقوى.
وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة وهي خالية من هذه الصفات، فنقلها بتوفيق الله وعونه تدريجياً إلى هذه القمة السامقة:
من الكفر إلى الإيمان.. ومن الشرك إلى التوحيد.. ومن الجهل إلى العلم.. ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله.. ومن الظلم إلى العدل.. ومن الضلال إلى الهدى.. ومن الإثم والعدوان إلى البر والتقوى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم هو عمل الأمة من بعده، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
وكل حديث صحيح حجة على جميع الأمة، يجب العمل به والأخذ بمضمونه ما لم ينسخ، أو يخصص، كما يجب العمل بحكم كل آية في كتاب الله ما لم تنسخ أو تخصص، فالسنة النبوية هي الأصل الثاني من أصول التشريع بعد القرآن الكريم.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن ربه ما يوحى إليه، والذي أوحي إليه هو الكتاب والحكمة، والحكمة هي ثمرة هذا الكتاب، وهي مكملة للكتاب في بيان أحكام الدين.(6/136)
والسنة في الجملة موافقة للقرآن الكريم تؤكد ما جاء فيه، وتفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه، وتزيد أحياناً على ما جاء فيه كما سبق.
والأحكام التي استقلت بها السنة لا تقل في المنزلة عن الأحكام التي جاء بها القرآن، فكلاهما وحي من عند الله كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النجم: 3، 4].
والأحاديث النبوية هي مفتاح العلوم الشرعية، ومشكاة الأدلة السمعية، وكشاف المسائل العلمية والعملية، تتفجر منها ينابيع الحكم، وتدور عليها رحى الشرع بالأثر.
وهي ملاك كل أمر ونهي، ولولاها لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا فتناً عمياء.
وللسنة أن تنفرد في التشريع حين يسكت القرآن عن التصريح، ولها أن تقوم بوظيفة البيان حين يترك لها التفصيل والتوضيح، فالشرع الإسلامي قائم على أصلين هما الكتاب والسنة.
وقد فرض الله على الناس الإيمان به وبرسوله، واتباع وحيه وسنن رسوله، وطاعته وطاعة رسوله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 158].
فالقرآن والسنة هما الإمام الذي يقتدى به، والنور الذي يهتدى به، والحبل الذي يعتصم به، والمنهل الذي يستشفى به.
فمن لم يرضع من درهما، ولم يغرف من بحورهما، ولم يقطف من أزهارهما، ولم يستضيء بنورهما، ولم يرتع في رياضهما، فقد حرم من موائد الإكرام من رب البرية، وباع الشريف بالخسيس، وكرع في حياض العفن والدناءة.
وكلام الله المنزل قسمان:
قسم قال الله لجبريل اقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله وقرأه على محمد صلى الله عليه وسلم من غير تغيير في لفظه فهذا هو القرآن الكريم.
وقسم قال الله لجبريل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول: افعل كذا وكذا وأمر بكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو السنة النبوية.(6/137)
وجبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، وكل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، والوحي كله محفوظ بحفظ الله له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه شيء، ولا يحرَّف منه شيء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?ں) [الحجر: 9].
والوحي الذي أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام:
الأول: وحي بمعنى الإلقاء والإلهام.
الثاني: وحي من وراء حجاب.
الثالث: وحي بواسطة الملك الكريم جبريل.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 51].
والقرآن من قبيل القسم الثالث كما قال سبحانه: (گ گ گ ?? ? ? ? ?? ? ں ں ? ?? ? ? ?ہ) [الشعراء: 192-195].
فالقرآن قسم واحد من الوحي، والقسمان الآخران كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى أمور الدين وأحكامه عن طريقهما، فقد أنزل الله على رسوله الحكمة كما أنزل القرآن.
والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق توكلاً على ربه، وأحسنهم يقيناً عليه.
عَنْ جَابِرٍ، قال: أقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ، قال: كُنَّا إِذَا أتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم ، فجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ ا? صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرَطَهُ، فَقَالَ لِرَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم : أتَخَافُنِي؟ قال: «لا». قال: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قال: «اللهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ». قال فَتَهَدَّدَهُ أصْحَابُ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم ، فَأغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ. متفق عليه(1).
وهو صلى الله عليه وسلم أشفق الناس على أمته، يدلهم على كل ما ينفعهم، ويحذرهم مما يضرهم.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2913)، ومسلم برقم (843)، واللفظ له.(6/138)
قال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ ا?، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى ا? الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه(1).
وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيه» متفق عليه(2).
وإذا علمنا ذلك من سيرته صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نقتدي به في حسن خلقه، وحسن توكله، وكمال شفقته على الأمة وفي سائر أخلاقه وعباداته ومعاملاته ومعاشراته.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً، ما خير بن أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3426)، ومسلم برقم (2284) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2913)، ومسلم برقم (843)، واللفظ له.(6/139)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم َيْنَ أمْرَيْنِ إِلا أخَذَ أيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً، فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ الله ِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ ا?، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا». متفق عليه(1).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا». متفق عليه(2).
وحياة النبي صلى الله عليه وسلم تشتمل على ثلاثة أمور:
فرائض حياة.. وطريقة حياة.. ومقصد حياة.
فالله تبارك وتعالى فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فرائض، وهي العبادات التي بين العبد وربه كالصلوات وصيام رمضان والحج ونحوها، والمعاملات التي بين العبد والخلق كأداء الزكاة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والعدل في المعاملات، والصدق وحسن الخلق، واجتناب الكذب والغش والأخلاق السيئة، وأداء الحقوق.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ». قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ ا?! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم(3).
وأما طريقة الحياة فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم داعياً إلى التوحيد والإيمان، والأعمال الصالحة، والآداب الحسنة، والأخلاق الطيبة، فالإنسان ليس كالبهائم يأكل ما شاء، وينام كيف شاء، وينكح ما شاء، ويقضي حياته كيف شاء.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3560)، واللفظ له، ومسلم برقم (2327).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(3562)، واللفظ له، ومسلم برقم (2320).
(3) أخرجه مسلم برقم (2162).(6/140)
بل الله تبارك وتعالى أكرم الإنسان، ومنَّ عليه بالإيمان، وأكرمه بالدين الذي فيه تبيان كل شيء، وأكرمه بالعقل والعلم الذي يعرف به ما ينفعه وما يضره، ومن يستحق أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
فخلق الله سبحانه الإنسان وأنزل له الدين الذي ينظم طريقة حياته من حين يولد إلى أن يموت كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 3].
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يأكل المسلم.. وكيف يأكل.. وماذا يقول عند الأكل.. وماذا يقول بعد الأكل؟.
وبيَّن ما يشرب المسلم.. وكيف يشرب.. وماذا يقول عند الشرب.. وماذا يقول بعد الشرب؟.
وبين ما يلبس المسلم.. وكيف يلبس.. وماذا يقول عند اللبس؟.
وبين ما يركب المسلم.. وكيف يركب.. وماذا يقول عند الركوب؟.
وبين متى ينام المسلم.. وكيف ينام.. وماذا يقول عند النوم.. وماذا يفعل عند النوم.. وماذا يقول بعد النوم؟.
وبين متى يسافر المسلم.. ومتى يغزو المسلم.. وماذا يقول عند السفر.. وماذا يقول بعد الوصول من السفر.
وبين ماذا يسمع المسلم.. وماذا يرى المسلم.. وبماذا يتكلم المسلم.. وماذا يفعل عند المرض.. وماذا يفعل عند الخوف.. وماذا يقرأ المسلم.. وماذا يفعل عند النكاح.. وماذا يفعل عند الوضوء.. وماذا يفعل عند الأذان.. وماذا يفعل عند الصلاة؟.
وبين صلى الله عليه وسلم ماذا يفعل المسلم عند الحرب.. وماذا يفعل عند لقاء العدو.. وماذا يفعل به عند موته ودفنه؟
وبين ماذا يفعل بماله.. وكيف يكسب المال.. وكيف ينفقه.. وكيف يزكيه.. وكيف ينميه؟.
وبين صلى الله عليه وسلم كيف يعامل الرجل زوجه.. وكيف يعامل أولاده.. وكيف يعامل والديه.. وكيف يعامل صديقه.. وكيف يعامل عدوه.. وكيف يعامل البهائم؟.
وبين صلى الله عليه وسلم بم يعامل المحسن.. وبم يعامل الظالم.. وبم يعامل الصائل.. وبماذا يعاقب الزاني أو السارق أو القاتل؟(6/141)
وبين جميع أحكام الحلال والحرام.. وأحكام البيع والشراء.. وأحكام السلم والحرب.. وأحكام الأمن والخوف.
تلقى صلى الله عليه وسلم كتاب ربه، وأحل حلاله وحرم حرامه، وتخلق بأخلاقه.. وتأدب بآدابه، فكان أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن الذي فيه كل خير، وفيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم تفسيراً لهذا القرآن العظيم، فعلى الأمة كافة أن تقتدي به.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
وأما مقصد الحياة فهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [الأحزاب: 45-48].
والله عزَّ وجلَّ أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل، وللحصول على النعيم الكامل لا بدَّ لكل مسلم من القيام بالدين الكامل: تعلم الدين.. والعمل بالدين.. وتعليم الدين.. والدعوة إلى الدين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [آل عمران: 32].
وليس للناس من يقتدون به إلا من اختارهم الله واصطفاهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ورباهم وأرسلهم بالدين الحق، خاصة سيدهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأرسله للناس أجمعين.
فمن آمن به وأطاعه واقتدى به فله الجنة، ومن عصاه شقي في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 71].
وماذا أعد الله لهؤلاء من النعيم المقيم والرضوان من الكريم: (ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [آل عمران: 74].(6/142)
وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم كل من أطاعه بدخول الجنة، وأوعد من عصاه بدخول النار كما قال صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ أمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ ا?، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» أخرجه البخاري(1).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
8- قيمة العلم والعلماء
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المجادلة: 11].
وقال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 18].
أشرف العلوم على الإطلاق هو علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد.
ولا سبيل إلى الحصول على هذين النورين إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته، وصرح الكتاب العزيز بوجوب طاعته ومتابعته، الذي لا ينطق عن الهوى، وكلامه إن هو إلا وحي يوحى، محمد صلى الله عليه وسلم .
وأول ما نزل من القرآن أوائل سورة العلق، وقد ذكر الله فيها ما منّ به على الإنسان من تعليمه ما لم يعلم، وتفضيله الإنسان بما علمه إياه كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ?? ? ? ? ?? ? ? ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گگ) [العلق: 1-5].
وطلب العلم فريضة على كل مسلم.
فالإيمان فرض على كل أحد، وهو مركب من علم وعمل، فلا يتصور وجود الإيمان إلا بالعلم والعمل، وشرائع الإسلام واجبة على كل مسلم، ولا يمكن أداؤها إلا بعد معرفتها والعلم بها.
وعبادة الله واجبة على كل إنسان ولا يمكن أداؤها إلا بالعلم.
والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، وأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له، وأكملهم طاعة له.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7280).(6/143)
وليس العلم كله وسيلة مرادة لغيرها، فإن العلم بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم، وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].
فالعلم بوحدانية الله تعالى، وأنه لا إله إلا هو، مطلوب لذاته، وإن كان لا يكتفى به وحده، بل لا بد معه من عبادته وحده لا شريك له، وكما أن عبادته سبحانه مطلوبة مرادة لذاتها، فكذلك العلم به ومعرفته.
وكمال العبد الذي لا كمال له إلا به أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله منه ويرضاه له، ولا يتم ذلك إلا بالعلم، ولهذا جعل اتباع رسوله دليلاً على محبته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
وأشقى الناس وأخسرهم من لا يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرفه.
وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم وشرفهم بأن جعل كتابه آيات بينات في صدورهم، وهذه منقبة لهم دون غيرهم كما قال سبحانه (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [العنكبوت: 49].
وأخبر سبحانه أن أهل العلم يرون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 6].
وأمر سبحانه بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم فيما يشكل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 43].
وأهل الذكر هم أهل العلم بما أنزل على الأنبياء والرسل.
وأخبر سبحانه أن الأمثال المضروبة في القرآن لا ينتفع بها إلا العلماء كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [العنكبوت: 43].
ومما يدل على قيمة العلم والعلماء، أن الله شهد لمن آتاه الله العلم بأنه آتاه خيراً كثيراً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 269].
وأفضل منازل الخلق عند الله منزلة النبوة والرسالة، فهم الوسائط بين الله وخلقه، في إبلاغ رسالاته، والتعريف به وبأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، فهم أكمل الخلق علوماً وأعمالاً، وأشرفهم أخلاقاً.(6/144)
وجعل أشرف مراتب الناس بعدهم مرتبة خلافتهم ونيابتهم في أممهم وهم العلماء، الذين يقومون بتعليم الأمة، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، ونصر المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهؤلاء أفضل أتباع الأنبياء، وهم ورثتهم حقاً دون الناس: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النساء: 69].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «... مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم(1).
والنجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وكذلك العلماء يهتدى بعلمهم في ظلمات الجهل والبدع.
والنجوم زينة للسماء، وكذلك العلماء زينة للأرض.
وكذلك النجوم رجوم للشياطين الذين يسترقون السمع ويكذبون على الخلق، فكذلك العلماء رجوم لشياطين الإنس والجن.
فقد جعلهم الله حراساً لدينه، وحفظة لشريعته، ورجوماً لأعدائه وأعداء رسله.
والعلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما.
وطلب العلم له أربع حالات:
فمن طلب العلم لله فهذا بأرفع المنازل.. ومن طلب العلم للدنيا فقط فهو آثم.. ومن طلب العلم لله وللدنيا فهذا ينقص أجره ولا إثم عليه.. ومن طلبه رياء فهو آثم.
وأقرب الناس من درجة النبوة العلماء وأهل الجهاد.
فالعلماء دلوا الناس على ما جاءت به الرسل، وأهل الجهاد جاهدوا على ما جاءت به الرسل.
ومن فوائد العلم أنه يثمر اليقين الذي هو أعظم حياة للقلب، وبه طمأنينته وقوته ونشاطه، ولهذا مدح الله أهله في كتابه كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 4].
واليقين والمحبة هما ركنا الإيمان، وعليهما ينبني، وبهما قوامه، وهما يمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، ويثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).(6/145)
وبالعلم يعرف الإنسان مداخل الشيطان ومكايده في إفساد بني آدم، ولهذا جاء ذكر الشيطان في القرآن كثيراً جداً، لحاجة النفوس إلى معرفته لئلا يخدعها ويغرها، فتقع في حبائل مكره وكيده.
وقد أخبر الله آدم بعداوته من أول يوم فقال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 117].
ونعمة العلم من أفضل النعم على العباد، وقد ذكر الله سبحانه فضله ومنته على أنبيائه ورسله وعباده بما آتاهم من العلم.
فذكر نعمته على خاتم أنبيائه ورسله بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 113].
وذكر سبحانه عباده المؤمنين بنعمة العلم وأمرهم بشكرها وأن يذكروه على إسدائها إليهم فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 151، 152].
والجهاد نوعان:
جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير.
وجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة من العلماء، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه من الكفار والمنافقين كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 51، 52].
والجزاء من جنس العمل، فمن سلك طريقاً يطلب فيه حياة قلبه، ونجاته من الهلاك، سلك الله به طريقاً إلى الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «... مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ» أخرجه مسلم(1).
وقد نفى سبحانه التسوية بين أهل العلم وغيرهم فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
وثواب العلم لا ينقطع، وهذا من أعظم الأدلة على شرف العلم وفضله وعظيم ثمرته، فإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به، فكأنه حي لم ينقطع عمله.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).(6/146)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَه» أخرجه مسلم(1).
وقد حصر الله خشيته في العلماء، وكفى بخشية الله علماً، فأهل العلم الإلهي هم أهل خشيته سبحانه كما قال عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 28].
ولأهمية العلم وشرفه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطلب المزيد منه فقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 114].
ولا ينبغي لأحد أن يحسد أحداً حسد غبطة ويتمنى مثل حاله من غير أن يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في اثنتين: وهي الإحسان إلى الناس بعلمه أو بماله، وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمني مثل حاله، لقلة منفعة الناس به.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه(2).
وقيمة الشيء ترتفع بقدر ما فيه من المنافع، وبقدر ما فيه من الصفات، وكذلك قيمة المسلم عند الله ترتفع بقدر ما فيه من المنافع والصفات الإيمانية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المجادلة: 11].
وكمال المسلم بإصلاح نفسه، وإصلاح غيره.
فالداعية: كالنهر يجري في كل مكان، ويكون سبباً لنبات الزروع والأشجار، وكالشمس تجري ويدخل ضوؤها في كل مكان.
والعالم: كالمصباح يستفيد منه كل من اقترب منه، وكالبئر يؤمه الناس ليرتووا منه، وفي كل خير.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1631).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5026)، ومسلم برقم (816) واللفظ له.(6/147)
وإذا كان الداعي يجتهد على الكفار والشاردين خارج المسجد، والعالم يعلم الناس أحكام الدين داخل المسجد، امتلأت الدنيا نوراً، وازدانت بأهل الإيمان والعلم والتقوى، وفتحت عليها بركات السماء والأرض: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
وبقدر توجه السامع الله يلهم المتكلم، فإن أعرض الناس عنه بقلوبهم التبس عليه الأمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ خلفه أحد الصحابة في الصلاة: «مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ» أخرجه أبو داود والترمذي(1).
والعلماء قسمان:
1-أهل الإيمان والتقوى وهم العلماء بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، فهؤلاء في أعلى الدرجات، وهم ورثة الأنبياء.
2-علماء السوء، وهؤلاء كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، وتبقى فيه النخالة، وتخرج من أفواههم الحكمة، ويبقى الغل في صدورهم، العلم يخرج من أفواههم، وأجوافهم منه مقفرة.
فهؤلاء يأكلون الدنيا بالدين، ويقولون على الله غير الحق، فهم أول من تسعر بهم النار؛ لأنهم ضلوا وأضلوا غيرهم.
وطلب العلم الشرعي وتعليمه فرض عين على كل من أعطاه الله فهماً وحفظاً، ولا يقال للعالم رباني حتى يكون عالماً معلماً عاملاً.
فالعالم الرباني سبب لبقاء أعمال الدين وأدائها على الوجه الصحيح، كما أن الداعي سبب لبقاء الدين ذاته وكثرة الداخلين فيه.
وكما وكل الله الشمس بالإنارة في العالم كله كذلك وكل الله المسلمين بنشر الهداية في العالم كله.
فالدعاة إلى الله يدعون البشرية إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والعلماء يعلمون الناس كيف يعبدون الله وحده لا شريك له.
فما أحوج البشرية إلى هؤلاء وهؤلاء.
وما أعظم أثرهم على البلاد والعباد.
وما أعظم أجورهم وأكثر حسناتهم.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (826) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود (736) وأخرجه الترمذي برقم (312)، صحيح سنن الترمذي رقم (257).(6/148)
فالدعاة والعلماء ورثة الأنبياء، ويجب عليهم من البيان ما وجب على الأنبياء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» أخرجه مسلم(1).
9- فقه العلم والعمل
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [النحل: 97].
الناس في العلم والعمل أربعة أصناف:
الأول: من رزقه الله علماً وعملاً، وهؤلاء خلاصة الخلق، وأئمة هذا الصنف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم في ذلك درجات، فأفضلهم أولو العزم، ثم يلي الأنبياء أتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين، وهم في ذلك درجات متفاوتة.
الثاني: من حرم العلم والعمل، وهذا الصنف شر البرية، وهم الصم البكم العمي الذين لا يعقلون، وهؤلاء ناس في الصورة، وشياطين في الحقيقة، وجلهم أمثال البهائم والحمير والسباع.
الثالث: من فتح له باب العلم، وأغلق عنه باب العمل.
فهذا في رتبة الجاهل أو شر منه، وما زاده العلم إلا وبالاً وعذاباً، ولا مطمع في صلاحه وهدايته.
فمن عرف الطريق وحاد عنها متعمداً فمتى ترجى هدايته؟: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 86].
الرابع: من رزقه الله حظاً من الإرادة والعزيمة والعمل، ولكن قل نصيبه من العلم.
فهذا إذا وفق له الاقتداء بعالم أو داع من دعاة الله ورسوله ازداد عمله، وحسن عمله.
والإنسان لا يرغب في طلب العلم، ولا يقبل عليه إلا بإرادة جازمة، ولا تأتي الإرادة إلا بمحرك لها وهو الإيمان، ومعرفة فضل العلم وثواب العلماء، ومعرفة درجاتهم عند الله.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).(6/149)
ومما يرغب العبد لطلب العلم الشرعي، ويحرك نفسه لتعلمه وتعليمه أن يقول لنفسه:
إن الله أمرني بالعبادات والطاعات والفرائض، ولا أقدر على أدائها إلا بالعلم.
ونهاني الله عن المعاصي والآثام، ولا أقدر على اجتنابها إلا بعد معرفة قبحها وسوء عاقبتها، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
ويقول: إن الله عزَّ وجلَّ أوجب علي شكر نعمه الظاهرة والباطنة ولا أقدر على معرفتها، وطاعة الله فيها إلا بالعلم.
وأمرني الله عزَّ وجلَّ بإنصاف الخلق، ولا أقدر على إنصافهم إلا بعد معرفة حقوقهم، وما يجب لهم، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
وأمرني سبحانه بالصبر على بلائه، ولا أقدر عليه إلا بعد معرفة ثوابه وحسن عاقبته، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
وأمرني سبحانه بعداوة الشيطان، ولا أقدر عليها إلا بعد معرفة كيده وخطواته، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
وكمال العمل الصالح وقبوله مبني على ستة أمور:
الأول: إخلاص العمل لله.
الثاني: أن يكون على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث: الاحتساب، بأن يعرف قيمة العمل الذي يؤديه لله.
الرابع: اليقين على ذات الله الذي يملك كل شيء.
الخامس: أن يؤديه بالمجاهدة، بترك ما يحب من أجله.
السادس: أن يؤديه بصفة الإحسان، فيؤديه بأحسن هيئة، ويقوم به أمام ربه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن ربه يراه.
والعمل شرط لصحة الإيمان، والأعمال منها ما هو شرط صحةٍ كالصلاة، ومنها ما هو شرط كمالٍ كبر الوالدين.
والسائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين:
قو ة علمية.. وقوة إرادية.
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك، ويجتنب أسباب الهلاك، ومواضع العطب.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى الله إذا أبصر الطريق وأعلامها، وأبصر المعاثر والوهاد، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر.(6/150)
وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق، قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، وكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى.
فإذا استشعر قرب المنزل، هانت عليه مشقة السفر.
وكلما سكنت نفسه من كلال السير وعدها قرب التلاقي، وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة، فتواصل السير إلى منازل الأحبة، فتصل حميدة مسرورة، يتلقاها الأحبة بأنواع التحف والهدايا والكرامات، وليس بينها وبين ذلك إلا صبر ساعة.
والناس من حيث القوة العلمية والعملية قسمان:
الأول: من تكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه.
ويكون ضعيفاً في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المخاوف والمتالف ولا يتوقاها.
فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، إذ قد يكون لها مقاصد غير وجه الله تحرمها ثمرة العلم، وهو العمل بموجبه، والمعصوم من عصمه الله.
الثاني: من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل.
ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقيدة، والانحرافات في الأقوال والأعمال، كما كان الأول ضعيف العقل والإرادة عند ورود الشهوات.
فداء هذا من جهله.. وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله.
وهذا حال أكثر أرباب الفقر والسالكين على غير طريق العلم.
فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه.
ومن كملت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله عزَّ وجلَّ، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته.(6/151)
ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن لله في خلقه شئون، وحكم وأسرار يجهلها أكثر العباد، والله حكيم عليم.
فلكل إنسان قوتان:
قوة علمية نظرية.. وقو ة عملية إرادية.
وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والعملية.
واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة فاطره وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق التي توصل إليه، ومعرفة آفاتها، ومعرفة نفسه، ومعرفة عيوبها.
فبهذه المعارف الخمس يحصل كمال قوته العلمية، وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم بها.
واستكمال القوة العملية الإرادية لا يحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد، والقيام بها إخلاصاً وصدقاً، ونصحاً وإحساناً، وشهوداً لمنة الله عليه، وتقصيره في أداء حقه سبحانه.
فهو مستح من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه أنها دون ما يستحقه، وحقه أعظم وأكبر من ذلك بكثير، وأنه لا سبيل إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته، فهو مضطر دائماً إلى أن يهديه الصراط المستقيم، وأن يجنبه الخروج عنه، إما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال، وإما بفساد في قوته العملية فيوجب له الغضب من ربه.
والله عزَّ وجلَّ يحب أن تعرف سبيل المؤمنين مفصلة لتحب وتسلك، كما يحب أن تعرف سبيل المجرمين لتبغض وتجتنب.
وقد بين الله في القرآن سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء وهؤلاء، وأعمال هؤلاء وهؤلاء، وتوفيقه لهؤلاء، وخذلانه لهؤلاء، وبين ذلك غاية البيان وأتمه: (? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 55].
والناس في معرفة ذلك أربع فرق:
1-العالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة مفصلة، وعرفوا سبيل المجرمين مفصلة، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى النجاة، والطريق الموصل إلى الهلكة.
فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة.(6/152)
وفي مقدمة هؤلاء الصحابة الذين نشأوا في سبل الضلال والشرك، والسبل الموصلة إلى الهلاك، وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى، فخرجوا من الظلام إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الظلم إلى العدل.
2-الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام، وهم بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.
3-الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها، فهو لا يعرف ضدها إلا من حيث الجملة.
4-الرابعة: من عرف سبيل الكفر والشر والبدع مفصلة، وعرف سبيل المؤمنين مجملة.
وأعمال الإنسان قسمان:
الأول: أعمال القلوب كالإيمان بالله وتوحيده، ومحبته وخشيته، والتوكل عليه، وتعظيمه، والخضوع له، والإنابة إليه، واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته.
الثاني: أعمال الجوارح كالذكر والدعاء، والصلاة والصوم، والحج ونحو ذلك.
وهذه الأعمال تتفاوت وتزيد وتنقص، والناس فيها درجات في الهيئة والقدرة، والقلة والكثرة، والرغبة والرهبة، والحسن والكمال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم(1).
والعلم: هو نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في الداخل.
والعمل: هو نقل صورة المعلوم من النفس وإثباتها في الخارج.
والله بكل شيء عليم، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
والإنسان ظلوم جهول، ولا يعلم إلا ما علمه الله، فهو سبحانه الذي: (ک ک ک ک گگ) [العلق: 5].
والإنسان مهما علم فعلمه لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمه، بل نسبة علوم البشرية كلها إلى علم الله أصغر من الذرة بالنسبة للجبل، وأقل من القطرة بالنسبة إلى البحر، فإن علم الله مطلق، وعلم البشر مهما كان فهو محدود.
ألا ما أجهل الإنسان.. وما أقل علمه.. وما أكثر غروره وطغيانه.. وماذا حصل البشر من العلم؟.. وماذا أدركوا منه؟.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (35).(6/153)
إنك لو سألت أكبر العلماء منهم:
كم شعرة في رأسك؟.. وكم نفساً تنفسته؟.. وكم كلمة قلتها؟.. وكم خطوة مشيتها؟.. وكم لقمة أكلتها؟.. وكم كلمة سمعتها؟.
لم يستطع معرفة ذلك، لكن الله علام الغيوب يعلم ذلك كله.
ولو سألته:
كم عدد قطر الأمطار؟.. وكم عدد ورق الأشجار؟.. وكم مثاقيل الجبال؟.. وكم عدد الطيور والحيوانات؟.. وكم عدد الذرات والنباتات؟.
فإنه لا يعلم، لكن الله عزَّ وجلَّ أحاط بكل شيء علماً.
ولو سألته:
كم في السموات من الملائكة؟.. وكم في الجنة من القصور والأنهار والثمار وألوان النعيم؟.. وكم عدد النجوم والكواكب؟.. وكم عدد الأرواح؟.. وكم مقادير الأرزاق؟.
فإنه لا يعلم، لكن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، وهو بكل شيء عليم، وكل ما علمه الإنسان فهو مما علمه ربه.
ومتى يخاف الإنسان من ربه؟.. ومتى يجلّه ويكبره ويعظمه؟.
إذا عرف عظمته وعلم قدرته، وعلم سعة رحمته وعلمه، وغزارة نعمه.
ومتى يستحي الإنسان من أخيه؟.
عندما يعلم أنه يعرف أحواله السيئة، فكيف لا يستحي العبد من ربه، وهو يعلم سره وعلانيته.. وتقواه وفجوره.
والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر وحده.
فله أوامر على الإنسان في جميع أحواله، وإذا امتثل الإنسان هذه الأوامر سعد في الدنيا والآخرة، وهذه الأوامر هي الدين.
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ كل مسلم ومسلمة بعد الإقرار بالشهادتين بأربعة أشياء:
الأول: الصلاة، وفيها يتصل المخلوق بخالقه فيستفيد من خزائنه.
الثاني: الزكاة، وفيها مواساة المخلوق القادر للمخلوق العاجز.
الثالث: الصيام، وبه يتعود الصبر على الأوامر، والصبر عن الشهوات، فإذا انتصر على النفس أمكنه الانتصار على الغير من أعدائه.
الرابع: الحج، وفيه الخروج في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، وتذكير الإنسان بأنه غريب مسافر إلى دار أخرى.(6/154)
وجميع أعمال الدين كملت في عهده صلى الله عليه وسلم ، وخرجت من مسجده صلى الله عليه وسلم ، وانتشرت في جميع أنحاء العالم.
فكان مسجده صلى الله عليه وسلم مدرسة فتحت أبوابها في جميع الأوقات لتعلم الدين.. والعمل به.. والدعوة إليه.
يتعلم فيها مختلف الأجناس من عرب وعجم.. ومختلف الألوان من بيض وسود.. ومختلف الطبقات من أغنياء وفقراء.. ومختلف الأسنان من شيوخ وشبان.. ومختلف الناس من سادة وعبيد.. وغيرهم.
فكانت حلقة العلم والتعلم في مسجده صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة.. مباركة نافعة.. تلقن العلم والعمل.. وتزكي الروح والبدن.. وتعنى بالتربية قبل التعليم.. وبتهذيب النفوس قبل حشو الرؤوس.
فكان هؤلاء الذين تخرجوا منها تاج خير أمة أخرجت للناس، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فرضي الله عنهم، ورضوا عنه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
ومن هؤلاء، وبهؤلاء ظهر نور العلم.. وظهر نور العمل.. وكان كمال الإخلاص والمتابعة.
ثم أصيب العلم بثلاث آفات:
الأولى: أنه خرج من المسجد إلى خارج المسجد فانطفأ نوره، وبقي في الأذهان بصورة معلومات لا تحرك القلب والبدن، ولا تبعث على العمل.
الثانية: أنه تولد عن هذا العلم الكبر وكثرة الجدل عند العالم والمتعلم بسبب عدم العمل به، وثمرة العلم الإلهي التواضع لله، والعمل به، فانطفأ نور آخر.
الثالثة: أنه فقد الإخلاص؛ لأن حطام الدنيا بدأ يؤكل به، وصار القفز إلى المناصب والوظائف عن طريقه، ولم يطلب لله تعبداً، فانطفأ نور آخر من نوره، بل هو أعظم نوره.
وعلم بلا نور.. ولا تواضع.. ولا إخلاص.. ظلمة على ظلمة على ظلمة، ظلمات بعضها فوق بعض، فأنى تبصر الأمة طريقها في هذه الظلمات.
والعلم هو قائد العمل، والعمل ثمرة العلم.
ولقبول العمل شروط:(6/155)
الأول: الإيمان بالله، وهو التوجه إليه بالعمل.
الثاني: الإخلاص، وهو توحيده بذلك العمل.
الثالث: العلم، وهو أن يكون مطابقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .
الرابع: حفظ العمل بحسن الأخلاق.
فلو كانت أعمال العبد كالجبال وهو يؤذي الناس فهو خاسر؛ لأن الناس يأخذون حسناته يوم القيامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» أخرجه مسلم(1).
وعلوم الدين الواردة في الكتاب والسنة قسمان:
خبر.. وإنشاء.
فالخبر: ما يطلب العلم به، والإنشاء: ما يطلب فعله أو تركه.
والخبر نوعان:
خبر عن الخالق.. وخبر عن مخلوقاته.
فالخبر عن الخالق كالخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا توحيد الربوبية، وإما دعاء إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما يعبد من دونه، وهذا هو توحيد الألوهية.
وإما خبر عن إكرام الله لأهل توحيده وطاعته في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وعن جزائهم في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
وإما أحكام وتشريع، وهذا من حقوق التوحيد، فإن التشريع كالخلق حق لله وحده كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2581).(6/156)
وأما الخبر عن المخلوقات كوصف خلق السماء والأرض.. والسهول والجبال، والبحار والأنهار.. والنبات والحيوان.. والإنسان.. ونحو ذلك مما في الدنيا.
ووصف الجنة، ووصف النار، وأحوال الحشر والبعث، ونحو ذلك مما يجري يوم القيامة.
ففي القرآن علم كل شيء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 89].
والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وآفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات فلا بدَّ أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا تميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة، والسنة بدعة.
وكل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بدَّ أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن أحكام الرب كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس.
فمن أراد الدنيا وزينتها فلا بدَّ أن يهدم الآخرة ويهمل أعمالها؛ لأنشغاله بغيرها، ومن أراد الآخرة وأعمالها فلا بدَّ أن يهدم الدنيا ويعرض عن زينتها؛ لأنشغاله بغيرها.
فالدنيا والآخرة ضرَّتان إن ملت إلى إحداهما أضررت بالأخرى، ولا يمكن الجمع بينهما، فليؤثر العبد ما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الله على ما يبغضه، وما هو أنفع وأدوم وأجمل: (? ? ? ?? پ پ پپ) [الأعلى: 16، 17].
والعلماء هم أولو الأمر وأهل الاقتداء، يقتدي بهم السالك، ويهتدي بهم الحيران، ويشفى بهم العليل، ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم، وأقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، لما كانت لله وبالله، وعلى أمر الله جذبت قلوب الصادقين إليهم.
وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة.
والعلماء ثلاثة:
الأول: عالم استنار بنور العلم، واستنار به الناس منه، فهذا من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء.(6/157)
الثاني: عالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما.
الثالث: عالم لم يستنر بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة لهم، وبسطة الأول رحمة لهم.
فالمؤمن الموفق من هداه الله وعلمه وأعانه، وحبب إليه العلم والعمل والتعليم.
وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه، فهذا لا تزيده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالاً، وكفراً وطغياناً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 64].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 41].
وسبيل الله التي يحبها هي الجهاد وطلب العلم وتعليمه، ودعوة الخلق به إلى الله، فقوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر، ولهذا قرن الله بهما في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الحديد: 25].
ولما كان كل من الجهاد بالسيف.. والجهاد باللسان.. يسمى في سبيل الله، فسر الصحابة رضي الله عنهم قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].
بأن المراد بأولي الأمر: الأمراء المتقون.. والعلماء الربانيون.
فإنهم المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء بأيديهم، وهؤلاء بألسنتهم.
والأمراء يرجعون إلى العلماء فيما أشكل عليهم، فعاد الأمر إلى فضل العلم والعلماء، وأنهم أئمة الناس الذين يقتدى بهم.
والعلم الحق هو المعرفة وإدراك الحق، وهو الذي يثمر العمل والقنوت والطاعة لله، والتوجه إليه في جميع الأمور.
وهو الذي يجعل المسلم يشعر بجلال الله فيخشاه، ويحس بآلائه ونعمه فيحمده ويشكره، ويذكر العبد بتقصيره فيستغفر الله ويتوب إليه.
وهو الذي يمنح القلب نعمة الرؤية والتأثر بما في هذا الكون من مظاهر الجلال والجمال والإحسان، فيقبل على ربه محباً له عابداً له.(6/158)
وهو الذي يجعل المسلم يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فيعمل بما يحبه ويرضاه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن، وتشحن الرأس، ولا تؤثر في القلب، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس.
فأصحاب هذا العلم إنما يجمعون معلومات حفظوها في أذهانهم، ونطقت بها ألسنتهم، ولم تتأثر بها قلوبهم.
أما العلم الحقيقي فهو الذي يورث القنوت لله، والخشية منه، والخشوع له، واطمئنان القلب إليه، وأنسه به، ومراقبته في جميع الأحوال، والعمل بشرعه.
وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المدركة لما وراء الظواهر من حقائق بالانتفاع بما ترى وتعلم، وبذكر الله في كل حال، وفي كل شيء تراه أو تسمعه أو تلمسه، ولا تنساه في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء.
والناس في العمل أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها خالصة لله على طريقة رسول الله، فهؤلاء خيار الخلق وهم بأشرف المنازل.
الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فأعمالهم ليست موافقة للشرع، ولا خالصة لله وحده، وذلك كأعمال المتزينين للخلق، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله.
وهؤلاء هم شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عزَّ وجلَّ.
الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكن أعماله غير موافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم كل من عبدالله بغير أمره، كجهال العبّاد ممن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن الخلوة لمناجاة الله التي يترك بها الجمعة والجماعة قربة، ونحو ذلك مما لم يرد في الشرع، وكل ذلك مردود على صاحبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).(6/159)
الرابع: من أعماله على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم لكنها لغير الله كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل شجاعةً أو حميةً أو رياء، أو يحج ليقال، أو يقرأ القرآن ليقال قارئ، أو يعلم ليقال عالم ونحو ذلك.
فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير خالصة لله فلا تقبل، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ ا? أعْلَى فَهُوَ فِي سَبِيلِ ا?» متفق عليه(1).
فالمقبول من العمل مهما قلَّ أو كثر ما كان خالصاً لله، صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
والحجة إنما تقوم على العباد بشيئين هما:
التمكن من العلم بما أنزل الله.. والقدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل كالخرف فلا أمر عليهما ولا نهي.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 15].
فالمجنون لا يعقل العلم، والخرف لا يقدر على العمل، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ومقاصد الإسلام تدور على أربعة أصول:
الأول: معرفة الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو التوحيد والإيمان.
الثاني: كيفية أداء العبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق التي يحبها الله ويرضاها، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء عنه.
الثالث: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليسعد كل فرد في العالم بهذا الدين.
الرابع: إيقاف المعتدي عند حده، وذلك بوضع الأحكام والعقوبات، التي تحفظ الأمن والأنفس والأعراض والأموال والدين، وهي الجهاد والحدود.
وآفات العمل ثلاث:
فكل عالم وكل عابد وكل عامل وكل داعٍ وكل مجاهد، إذا قام بالعمل، فإنه يعرض له في عمله ثلاث آفات هي:
رؤية العمل.. وطلب العوض عليه.. ورضاه به، وسكونه إليه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2810)، ومسلم برقم (1904)، واللفظ له.(6/160)
فالذي يخلِّص العبد من رؤية عمله والإعجاب به مشاهدته لمنة الله عليه، وفضله وتوفيقه له، وأنه من الله وبه لا من العبد، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 17].
وقال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 21].
فالسمع والبصر والعقل، والتقوى والتوفيق والهداية، والإعانة والقبول ونحوها، كلها عطاء من الله وفضله ونعمته.
والذي يخلِّص العبد من طلب العوض على العمل علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده شيئاً لا عوضاً ولا أجرة؛ لأنه مملوك لسيده، فإن أعطاه سيده شيئاً من الأجر والثواب فهو إحسان وإنعام من سيده لا عوضاً عن العمل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [مريم: 93، 94].
وقال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [غافر: 61].
والذي يخلِّصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران:
الأول: مطالعة عيوبه، وتقصيره في عمله، وما فيه من حظ النفس والشيطان والرياء.
الثاني: علمه بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابها وشروطها، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقها.
وتمام العمل يحصل بأمور أهمها:
الإيمان بالله.. ومعرفة الحق.. وإخلاص العمل لله.. وفعله على السنة.. وأكل الحلال.. وكف الأذى عن الناس.. وحسن الخلق.. وتعظيم الرب.. وتعظيم أمره.. ومحبة الرَّب.. ومحبة ما يحب.
وكمال الإنسان مداره على أصلين:
معرفة الحق من الباطل.. وإيثار الحق على الباطل بالعمل به، والدعوة إليه.
وتفاوت منازل الخلق عند الله في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتهم في هذين الأمرين.
وقد انقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام:
الأول: من عرف الحق وآثره على الباطل بالعمل به والدعوة إليه، فهؤلاء أشرف الخلق وأكرمهم على الله تعالى.
الثاني: عكس هؤلاء، وهم من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة له على تنفيذ الحق على نفسه ولا على غيره.(6/161)
وهؤلاء أكثر الخلق، وأكثرهم شراً وبلاء، وهم الذين غرَّهم الشيطان فصاروا من جنده وحزبه.
الثالث: من له بصيرة في الهدى، ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه.
وهذا حال المؤمن الضعيف، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه.
الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، ولكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين ولا هو موضع لها سوى القسم الأول كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
وكلما كان علم العبد بربه أتم كانت محبته أكمل، وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب، وأفضل العلم العلم بالله، وأعلى الحب الحب له، وأكمل اللذة بحسبهما، فاللذة تابعة للمحبة، والحب والشوق تابع لمعرفته سبحانه والعلم به.
والعلم شيء غالٍ لا يحصل لأي أحد، وحلية ثمينة لا تساق إلا لمن طلبها، وجاهد من أجلها، وكان صالحاً لها.
فلا ينال العلم مستح ٍولا مستكبر، هذا يمنعه حياؤه، وهذا يمنعه كبره.
وللعلم ست مراتب لا ينال إلا بها وهي:
حسن السؤال.. وحسن الإنصات.. وحسن الفهم.. وحسن الحفظ.. والعمل به، فإنه يوجب تذكره وتدبره ومراعاته.. ونشره وتعليمه وإلا نسيه.
والأعمال التي ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها أربعة:
الدعوة.. والجهاد.. والتعليم.. والعبادة.
وكذلك قام بها الصحابة، وهذه أعمال الأنبياء والرسل: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].
فبالدعوة يقوى الإيمان، وتحصل الهداية لنا ولغيرنا، فنتكلم في عظمة الله وكبريائه، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله، وخزائنه، وعجائب قدرته، وبذلك يتأثر الناس، ويزيد إيمانهم، فيقبلون على الأعمال الصالحة كما قال سبحانه: (ھ ھے ے ?? ? ??) [المدثر: 1-3].
ولكن الأعمال الصالحة لا تكون صالحة إلا بالعلم، وبالعلم تكون الأعمال مقبولة من صلاة وزكاة، وصيام وحج وغيرها.(6/162)
فنتعلم فضائل وأحكام ما نريد أن نعمله، ليكون مطابقاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم(1).
ولكن قد يقوى الإيمان، وتكون الأعمال صالحة، لكن قد تأتي بعض العوائق فتفسد العمل كالكبر والرياء، والفخر والعجب، ولذلك لا بدَّ من التزكية بالعبادة التي تهذب الأخلاق، وتزكي النفوس بما تشتمل عليه من الصدق والإخلاص، والإحسان والخشوع، والصبر والحلم وحسن الخلق.
فخير القرون الذي اكتملت فيه هذه الصفات الأربع في حياة الأمة، هو القرن الذي عاش فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» متفق عليه(2).
وبالجهاد تظهر قوة الدين، ويتم حفظه ونشره، وقمع المعتدين عليه.
ثم صار الجهاد من أجل الملك والمال لا من أجل إعلاء كلمة الله، فضعفت الدعوة إلى الله، فأقبل أكثر الناس على الدنيا، واشتغلوا بوظائفها، وانصرف الزهاد والصالحون إلى العلم والعبادة.
ثم تولد عن طلب العلم بدون العمل به كثرة الجدل، وأكل حطام الدنيا به، ودخلت الأهواء وحب الدنيا في طلب العلم، فانصرف خيار الناس عنه، وزهدوا فيه، وحمله من ليس من أهله، فكثر الشقاق والخلاف والعصبية واتباع الهوى.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652)، واللفظ له، ومسلم برقم (2533).(6/163)
وانصرف خيار الناس إلى التزكية عن طريق السنة، فلزموا المساجد، وتركت الساحة لأهل الباطل، وبدأ الدين يخرج من حياة الناس تدريجياً، ففسدت المعاملات والمعاشرات والأخلاق، ثم بدأ الخلل في التقصير في أداء النوافل، ثم دبَّ التقصير في أداء الفرائض، ثم خرجت حقيقة العبادة، وبقيت صورتها، وصارت جسداً بلا روح، صفوف المصلين متراصة، وقلوبهم متفرقة، والأجساد حاضرة، والقلوب شاردة: (? ?? ? چ چ چ چ?) [الماعون: 4، 5].
فما أهون هؤلاء على الله، وهم جديرون أن لا تقام لهم في الأرض راية، ولا يرفع لهم دعاء، وأن تتداعى عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، وأن تحصل لهم الذلة مع أنهم يملكون أسباب العزة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُْمَمُ، مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَْكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا»، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، قَالَ: قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» أخرجه أحمد وأبو داود(1).
وفي الدنيا شجرتان:
شجرة العلم.. وشجرة الجهل.. ولكل منهما ثمرة.
فشجرة العلم لو ظهرت صورتها للأبصار لزاد حسنها على صورة الشمس والقمر، فهي سبب كل خير في العالم.
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (22397)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (958).
وأخرجه أبو داود برقم (4297)، صحيح سنن أبي داود رقم (3610).(6/164)
فالخير بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم، ومن ثمرات هذه الشجرة: الإيمان بالله وتوحيده.. وحب الله ورسوله.. والعمل الصالح بحذافيره.. والحلم والوقار.. والكرم والإحسان.. وخفض الجناح.. وبذل المعروف.. والنصيحة لعباد الله.. والرحمة لهم.. والصبر والشكر ونحو ذلك من الأخلاق العالية من التوكل على الله.. والخشية له.. والخوف منه.. والتواصي بالحق.. والدعوة إلى الله.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وبرّ الوالدين.. وصلة الأرحام ونحو ذلك.
وأما شجرة الجهل فهي سبب كل شر وفساد في العالم، وهي تثمر كل ثمرة مرة خبيثة، ومن ثمراتها:
الكفر والكبر.. والشرك والظلم.. والبغي والعدوان.. والشح والبخل.. والفخر والخيلاء.. والعجب والرياء.. والكذب والنفاق.. والفساد في الأرض.. والدعوة إلى سبيل الشيطان.. وتزيين سلوك طرق الغي واتباع الهوى.. وإيثار الشهوات على الطاعات.. وقيل وقال.. وكثرة السؤال.. وإساءة الجوار.. وقطيعة الأرحام.. وغير ذلك من سبل الغواية.
والناس يعملون، ومن هاتين الشجرتين يتزودون، ولشجرة العلم أهل، ولشجرة الجهل أهل، والله أعلم بمن يصلح لهذه، ومن يصلح لهذه، والفلاح في العلم والهدى والنور: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأنعام: 153].
والعلماء ثلاثة:
عالم بالله.. وعالم بأيام الله.. وعالم بأوامر الله.
فالعالم بالله: هو الذي يعرف الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وما يتبع ذلك من معرفة عظمة ملكه، وسعة خزائنه، ووعده ووعيده.
والعالم بأيام الله: هو العالم بسير الأنبياء والمرسلين، وكيف نصرهم الله وخذل أعداءهم.
والعالم بأمر الله: هو العالم المفتي في الحلال والحرام، والسنن والأحكام التي تتعلق فيما بين العبد وربه.. وفيما بين العبد والخلق.
وأفضل هؤلاء وأعلاهم وأكملهم من جمع بين العلم بالله، وبأيام الله، وبأوامر الله، وهم الصديقون، والخشية والخشوع تغلب عليهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [فاطر: 28].(6/165)
يا حسرة على العباد ماذا قدموا للدين؟، وماذا قدموا للآخرة؟، وماذا قدموا لأنفسهم؟..
للحصول على الدنيا كم نعطي من الوقت والمال والجهد؟.
وإذا أردنا الجنة وهي دار النعيم المقيم فلننظر كم نعطي من الوقت والمال والجهد لأعمال الدين التي هي سبب لدخول الجنة، من عبادة، ودعوة، وتعليم، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد في سبيل الله، والناس في ذلك درجات.. والصحابة رضي الله عنهم درجات.
فبعض الصحابة رضي الله عنهم أعطى كل الوقت وكل المال للدين كأبي بكر - رضي الله عنه - الذي بذل نفسه في سبيل الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، مرة في الهجرة، ومرة في تجهيز جيش العسرة.
لأنه خرج حب النفس والمال من قلبه، ودخل حب الله ورسوله ودينه في قلبه؛ لأنه أنفق ماله للدين فجاء حب الدين في قلبه.
ولذلك لما منع قوم الزكاة في خلافته، وقبل ذلك بعض الصحابة، أبى أبو بكر أن ينقص الدين في حياته؛ لأنه بذل نفسه وأنفق ماله من أجل الدين، فصار يؤلمه أن يدب النقص في الدين الذي اكتمل.
وبعض الصحابة كذلك أعطى كل الوقت للدين كأهل الصفة، وبعضهم أعطى نصف الوقت، ونصف المال كعمر - رضي الله عنه -.
وبعضهم أعطى ثلث الوقت وهم بقية الصحابة.
وأهل الشورى وهم كبار الصحابة وهم من التجار يتناوبون الجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتشاور معهم في أعمال الدين.
وكل عمل من أعمال الدين لا بدَّ فيه من ثلاثة أمور وهي:
النية.. والعمل الصحيح.. وترتيب العمل.
فالصلاة مثلاً عمل لا بدّ له من نية، ولا بدَّ أن تكون موافقة للسنة، ولا بدَّ أن تكون كما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .
فيجب على كل مسلم أداء العمل كما شرعه الله ورسوله:
كمية وكيفية.. ومكاناً وزماناً.
بلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط.(6/166)
عن أنس - رضي الله عنه - قال: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، يَسْألُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ، قَالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَداً، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أتَزَوَّجُ أبَداً، فَجَاءَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أمَا وا? إِنِّي لأخْشَاكُمْ ? وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه(1).
ودَخَلَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟». قَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أمْسَكَتْ بِهِ. فَقَالَ: «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ» متفق عليه(2).
فهؤلاء مخلصون لكن عملهم فوق الترتيب فلا يقبل، فالمطلوب الاعتدال، فالأنبياء يعلمون الناس النية والعمل والترتيب.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063)، واللفظ له، ومسلم برقم (1401).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1150)، ومسلم برقم (784)، واللفظ له.(6/167)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» أخرجه البخاري(1).
والله عزَّ وجلَّ قد وكل بكل عبد من يحفظ عليه عمله، ويحصي أقواله وأفعاله فلا يضيع منها شيء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الطارق: 4].
ثم نبه سبحانه بقوله: (? ? ? ? ?) [الطارق: 8].
على بعث الإنسان لجزائه على العمل الذي حفظ وأحصى عليه، فذكر سبحانه شأن مبدأ عمله ونهايته.
فبدايته محفوظ عليه.. ونهايته الجزاء عليه كما قال سبحانه: (? ? چچ) [الطارق: 9].
والسرائر: جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه لله.
فالإيمان من السرائر.. والشرائع من السرائر.. والشعائر من السرائر.
فتختبر ذلك اليوم حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له.
والأعمال نتاج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحاً، فتبدو سريرته يوم القيامة على وجهه نوراً وإشراقاً وجمالاً.
ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته، ولا اعتبار لصورته، فتبدو سريرته يوم القيامة على وجهه سواداً وظلمةً وشيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6502).(6/168)
والعلم بغير إيمان فتنة، فتنة تعمي وتطغي، فالعلم الظاهري يوحي بالغرور والكبر، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها، وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها، ويلبس ثوباً أكبر منه.
ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل، وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز عنه، لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه.
وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم، واستهزؤوا بمن يذكرهم بما وراءه فحاق بهم العذاب وفق سنة الله: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 83].
والعلوم الشرعية على قسمين:
نظرية.. وعملية.
أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها وأعلاها معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وأحكامه، وأوامره.
وأما العلوم العملية فنوعان:
أعمال القلوب.. وأعمال الجوارح.
فأعمال القلوب: تزكية النفس بالإيمان واليقين، وتربيتها بالأخلاق الحسنة كالصبر والحلم، والشفقة والرحمة، والمحبة والتواضع، والصدق والإخلاص، ونحو ذلك.
وأعمال الجوارح: العبادات، والمعاملات، والمعاشرات.
ولا تجد هذه العلوم كلها مفصلة إلا في القرآن الكريم كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [الإسراء: 12].
فهو كتاب عظيم.. كثير خيره.. دائم عطاؤه.. كثيرة بركته.. يبشر بالثواب والمغفرة.. ويزجر عن القبيح والمعصية: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [فصلت: 42].
إن العلم الذي منحه الله للإنسان لم يخلق مقومات الحياة، ولا هو أعطى شيئاً لم يكن موجوداً، ولكنه وفَّر الرفاهية للإنسان في الكون بإذن الله.
واستخدم هذا العلم من لا يؤمن بالله ظلماً وعدواناً في القتل والتشريد، وإهانة الأمم والشعوب وإذلالها، ونهب ثروات وخيرات الأمم، ونشر الرعب والخوف في العالم.
والعالم اليوم بلغ في العلم الإنساني مبلغاً عالياً، وكلما زادت الاكتشافات زاد الخوف، وزاد الرعب فما السبب؟.(6/169)
السبب أن هذا العلم ما سار على منهج الله، فكل كشف علمي في الأرض يزيد الإنسان إقبالاً على ربه، فهو إظهار لقدرة الله في الكون، وإبداعه في الخلق، أذن الله بخروجه على يد بعض خلقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 53].
إن الذين فتح الله لهم باباً من أبواب العلم كان يجب أن يكونوا أكثر الناس خشية لله؛ لأن الله أطلعهم على آية من آياته، وميزهم عن غيرهم بما علموه من آثار قدرة الله.
ولكن بعض العقول تغتر وتعتقد أنها هي التي فعلت، فتهلل لهم البشر، وهم لا يستطيعون سد عرق انفجر في الإنسان، أو تحريك أصبع أصابه شلل.
إن الإنسان يقتله جشعه، فهو أحياناً يملك المال الذي يكفيه طول حياته ويزيد، ولكنه يطلب مزيداً من المال، ويشقي نفسه في الحصول عليه.
وكل مخلوق لله يأكل على قدر حاجته، فالطير والحيوان والحشرات تلتهم من الطعام ما يكفيها فقط وتترك الباقي.
أما الإنسان فهو الوحيد الذي يجمع ويأكل أكثر من حاجته، مع أن الله أعلمه أنه سيصل إليه رزقه تاماً.
وهذا الجشع البشري هو أساس الشقاء الذي جعله العلم الإنساني أساساً لكمال الحياة الدنيا ورفاهيتها.
والله عزَّ وجلَّ جعل الدنيا وسيلة للآخرة، وهذا العلم الإنساني جعلها مقصداً لا غاية بعدها.
فهؤلاء الذين لديهم العلم الإنساني بلا إيمان يعيشون في رعب وشقاء، وينتظرهم في الآخرة شقاء أشد وأبقى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 34].
أما أهل العلم الإلهي، فهم أكثر الناس طمأنينة، وأشدهم خشية لله، وأشكرهم للمنعم، أولئك لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم المهتدون إلى سواء السبيل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
والعلم الإنساني مهما كان كله جهالة بالنسبة للعلم الإلهي؛ لأن العلم الإلهي يربط المخلوق بالخالق، فيعرف عظمته وقدرته، وجماله وجلاله ويعرف دينه وشرعه.(6/170)
والعلم الإنساني يربط المخلوق بالمخلوق، يدور حول الأرض وما فيها وما تنبت، وحول الجبال وما فيها من المعادن والأسرار، وحول الناس والدواب والأنعام.
والعلماء كلما كشف الله لهم من العلوم والأسرار في هذا الكون، هم أكثر الناس خشية لله، فهم يرون الإعجاز في كل ما خلقه الله.
وقد ذكر الله سبحانه العلم البشري كله في آية واحدة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 63].
والعلم نعمة كبرى خص الله بها بعض خلقه، ومن أكرمه الله بهذه النعمة فيجب أن تكون طاعته لله أكمل، وشكره له أتم، ومعصيته أقبح، ولهذا كان أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فهو أول من تسعر به النار.
وقواعد الشرع تقتضي أن يسامح الجاهل بما لا يسامح به العالم، وأن يغفر له ما لا يغفر للعالم.
ونعمة الله على العالم بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل.
وحكم الله على أن من حبي بالإنعام، وخص بالفضل والإكرام، ثم أطلق لنفسه العنان في الشهوات، وتجرأ على انتهاك الحرمات، واستخف بالتبعات والسيئات، أنه يقابل من الانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته.
وكذلك في المقابل:
من كثرت حسناته وعظمت، وكان له قدم صدق في الإسلام، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعة لما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتله؛ لأنه كتب لقريش فقال له: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3007)، ومسلم برقم (2494)، واللفظ له.(6/171)
وموسى صلى الله عليه وسلم كليم الرحمن ألقى الألواح التي فيها كلام الله حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وأخذ بلحية أخيه هارون وجره بها إليه، وهو نبي الله مثله.
وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه.
فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذيه في الله، أولى أن لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تخفض منزلته.
ومن له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها.
والعالم إذا زلّ فإنه يحسن إسراع الفيئة، وتدارك الفارط، ومداواة الجرح.
وفيه من معرفته بالله، وبأمر الله، وتصديقه بوعده ووعيده، وخشيته من ربه، وإزرائه عل نفسه بارتكابه معصيته، وإيمانه بالله، وأن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، إلى غير ذلك من الأمور المحبوبة للرب، ما يغمر الذنب ويزيل أثره.
بخلاف الجاهل بذلك أو أكثره، فإنه ليس معه إلا ظلمة الخطيئة وقبحها، وآثارها المردية، فلا يستوي هذا وهذا.
فدل على أن سبب العقوبة قائم، لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشاهد العظيمة، والمواقف الجليلة، والنفع العميم، وهذا مقتضى الحكمة والرحمة، والجود والإحسان، وقد قال سبحانه في شأن يونس: (? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ ھے ے ? ??) [الصافات: 143، 144].
أما العقوبة المضاعفة التي ورد التهديد بها في حق أولئك إن وقع منهم ما يكره كما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 74، 75].
وقوله سبحانه: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الحاقة: 44، 45].
وآدم صلى الله عليه وسلم لم يسامح بلقمة واحدة، وكانت سبب إخراجه من الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [طه: 121].
فتلك العقوبة عين الحكمة.(6/172)
فإن من كملت عليه نعمة الله، وأكرمه الله بما لم يكرم به غيره، وحبي بالإنعام وخص بالإكرام، وتميز بمزيد القرب من ربه، وجعل في منزلة الولي الحبيب، اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص، بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع.
فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه، واصطناعه لنفسه، واصطفائه على غيره، تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم، ونعمته عليه أكمل.
والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه كذلك يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضاً.
فاجتمع في حقه الأمران:
فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويأخذهم ويؤدبهم بما لم يأخذ به غيرهم كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [طه: 121، 122].
وكل مؤمن يرى أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون آخر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 6].
فرؤية العلماء أعظم وأكمل من غيرهم لعلمهم بصدق من أخبر به، ومن جهة موافقته للأمور الواقعة والكتب السابقة.
ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة، ولما يرون في الأوامر والنواهي من الهداية إلى الصراط المستقيم، المتضمن لكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره كالصدق والإخلاص، وبر الوالدين وصلة الأرحام ونحو ذلك.
وتنهى عن كل صفة قبيحة تدنس النفس، وتحبط الأجر، وتوجب الإثم والوزر من الشرك والكفر، والزنا والربا، والظلم في الدماء والأموال والأعراض.
وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة تستوجب الحمد والشكر.
والله تبارك وتعالى هو الذي خلق الإنسان وعلمه القرآن.
فالإنسان إنما تعلم القرآن بتعليمه سبحانه، كما أنه صار إنساناً بخلقه، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وعلمه كتابه، وعلمه البيان، كما قال سبحانه: (?? ? چچ چ چ? ? ??) [الرحمن: 1-4].(6/173)
والبيان الذي علمه الله للإنسان له ثلاث مراتب:
أحدها: البيان الذهني، الذي يميز فيه بين المعلومات.
الثاني: البيان اللفظي، الذي يعبر به بلسانه عن تلك المعلومات.
الثالث: البيان الخطي، الذي يخط به تلك الألفاظ التي تحمل تلك المعلومات.
فالأول بيان للقلب.. والثاني بيان للسمع.. والثالث بيان للعين.
وقد جمع الله عزَّ وجلَّ الثلاثة في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 78].
والله حكيم عليم، أعطى الإنسان علم ما فيه صلاح معاشه ومعاده، ومنع عنه علم ما لا حاجة له به، ثم يسر عليه طرق ما هو محتاج إليه من العلم أتم تيسير.
فأعطاه معرفة خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، ومعرفة دينه وشرعه، ويسر عليه طرق هذه المعرفة، فهي أيسر شيء وألذ شيء: (? ? ? ? ? ? ??) [القمر: 22].
وكل ما يراه العبد بعينه، أو يسمعه بأذنه، أو يعقله بقلبه، وكل ما يخطر بالبال، وكل ما تدركه الحواس، فهو دليل على الرب وكمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وقد نصب سبحانه من الأدلة والآيات والبراهين ما يدل على وجوده ووحدانيته وصفات كماله مما لا يحصيه إلا الله، ثم ركز ذلك في الفطر، ووضعه في العقل جملة.
ثم بعث الله الرسل مذكرين به، ومفصلين لما في الفطرة والعقل العلم به جملة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [الذاريات: 55].
وقال الله تعالى: (? ? ? ?? ? ? ??) [الأعلى: 9، 10].
وقد امتن الله على عباده بتعلم القرآن، وتعلم البيان، ونطق اللسان، فقال سبحانه: (?? ? چچ چ چ? ? ??) [الرحمن: 1-4].
وبهذه الحروف والكلمات التي تحمل المعاني علم الله القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر الحيوان.
وبها أنزل كتبه، وأرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد في المعاش والمعاد.
وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها في الأذهان.(6/174)
وكم جلب بها من نعمة، ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيم بها من حق، وهدي بها من ضلالة، وهدم بها من باطل، وأحيا بها من سنة، وأمات بها من بدعة.
وآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل والمنافع في لحم وعصب.
وجعل سبحانه الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة، متعلقاً باسم الرحمن، وهو الاسم الذي تبارك، ومجيء البركة كلها منه، وبه وضعت البركة في كل مبارك، فكل ما ذكر عليه بورك فيه، وكل ما أخلى عنه نزعت منه البركة: (? ? ژ ژڑ) [الرحمن: 78].
وثمرة العلم العمل به، والعمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا بشرطين:
الإخلاص لله.. والمتابعة لرسول الله.
والمتابعة تتحقق بستة أمور:
الأول: السبب: فقيام الليل مشروع، لكن من أحياه ليلة النصف من شعبان، أو ليلة المعراج، يعتقد مشروعيتها فهو بدعة.
الثاني: الجنس: فلو ضحى بفرس فهذا لا يجوز؛ لأن الأضحية مشروعة ببهيمة الأنعام، والفرس ليس بمشروع.
الثالث: القدر: فلو زاد صلاة سادسة لم يقبل منه.
الرابع: الكيفية: فلو غسل رجليه في الوضوء قبل يديه لم يصح لمخالفته الشرع.
الخامس: الزمان: فلو حج أو صام رمضان في غير وقته لم يصح.
السادس: المكان: فلو اعتكف في غير المسجد لم يصح.
وشرف العلم تابع لشرف المعلوم، فأزكى العلوم وأشرفها وأعظمها وأكملها العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، يعلم ما في السموات وما في الأرض.. ويعلم ما بينهما وما تحت الثرى.. ويعلم ما في قعر البحار.. وما في جو السماء.
عالم الغيب والشهادة.. يعلم كل شعرة ومنبتها.. وكل شجرة ومغرسها.. وكل زرع وحبه.. وكل نبات وثمرته.. وكل رطب ويابس.. ومسقط كل ورقة: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 59].(6/175)
ويعلم سبحانه عدد كل كلمة.. وعد الرمل الحصى والتراب.. وحجمه ووزنه ومكانه.. ويعلم مثاقيل الجبال.. ومكاييل البحار والأنهار والرياح.. ويعلم أعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم، وحركاتهم وسكناتهم: (? ? ? ? ? ? ??) [الملك: 14].
وشرائع الإسلام وأحكامه على الأفعال الظاهرة، وأما حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب.
فلله عزَّ وجلَّ حكمان:
حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح.. وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين ويكل سرائرهم إلى الله، فيناكحون ويرثون ويورثون، ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا، ولا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة.
وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر، بل إلى الله وحده، والله يتولاه في الدار الآخرة، فنحكم في الظاهر بصحة صلاة المنافق والمرائي، مع أنه لا يسقط عنه العقاب، ولا يحصل له الثواب في الآخرة، فالله وحده هو الأعلم بما في صدور العالمين.
وليس مقصود العلم العمل فقط، بل المقصود مع ذلك الإيمان بالله، ولو كان المقصود من العلم العمل فقط لكان المنافقون في الجنة، لكنهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم يعملون بلا إيمان.
وجهد الصحابة كان أولاً على أنفسهم بالعلم والعمل ثم على غيرهم، فأصلحوا أنفسهم أولاً، ثم أخرج الله بأعمالهم وصفاتهم الناس من الظلمات إلى النور.
والشيطان حريص على جعل الإنسان يجتهد على الناس وينسى نفسه، وبهذا لا يتأثر الناس منه، ولا يقبلون قوله، وإذا اجتمع هذا مع نسيان الإنسان نفسه بلغ الشيطان مراده من الإنسان.
فالداعي حقاً من يدعو الناس إلى الله، ويقيمهم على الدعوة إلى الله، فالدعوة هي أم الأعمال، وبها تحيا الأوامر والسنن.
والمعلم حقاً من يعلم الناس الدين وأحكامه، ويأمرهم بتعليم الناس ذلك والعمل به، ويسبقهم إلى كل عمل صالح.(6/176)
والصلاة أول الأوامر بعد الإيمان، والفرق بين الإسلام والكفر هو الصلاة، وإقامة الصلاة تكون بفعلها وأمر الناس بأدائها، وإقامتها بسننها وآدابها وشروطها، وتزيين ظاهرها بتطبيق السنن، وتزيين باطنها بالتوجه التام إلى الله، فيصلي العبد لله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته، فلا بدَّ أن نقيم الصلاة ظاهراً وباطناً حتى نقيم سائر الأعمال بالتوجه التام إلى الله، وحسن العمل خارج الصلاة، وإذا كنا في الصلاة في الغفلة فكيف في سائر أعمالنا كم تكون الغفلة؟.
ولا تكون الصلاة صحيحة إلا بعلم كامل، ولا نقوم بأي عمل في الدين إلا بعلم، والعلم هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن والأحكام.
ولتحصيل حقيقة العلم لا بدّ أن نعرف فضائل العلم، لتقبل النفوس على طلبه، وتعبد الله بموجبه، وبدون العلم الناس لا يعرفون الله ولا رسوله ولا أوامره ولا دينه.
وكل الناس يعملون، ولكن ليس كل الناس يفلحون، فمن عمل بأمر الله ورسوله أفلح، ومن عمل بهواه خسر، فسليمان عليه السلام عمل بملكه بأمر الله ورسوله فأفلح، وفرعون عمل بملكه بهواه فهلك.
والعلم هو الطريق لمعرفة العمل المأمور به شرعاً، والوعظ هو الباعث على العلم والعمل، والأحسن ألا يكون الوعظ يومياً؛ لئلا يسأم الناس، أما العلم فإنه يُطلب على قدر الطاقة، والناس في ذلك متفاوتون، وأكملهم أعلمهم وأتقاهم(? ? ? ??) [طه: 114].
10- فقه الإفتاء
قال الله تعالى: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النحل: 116، 117].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 43].
الله تبارك وتعالى خلق البشر، وجعلهم أوعية للأعمال والأخلاق.
فمنهم وعاء للخير.. ومنهم وعاء للشر.. ومنهم وعاء للعلم.. ومنهم وعاء للجهل.. ومنهم وعاء للحلم.. ومنهم وعاء للسفه.. ومنهم وعاء للكرم.. ومنهم وعاء للبخل.. وهكذا.(6/177)
والعلم أعظم حلية يتحلى بها الإنسان، وأحسن زينة يتزين بها عند الله وخلقه.
وما أحسن العلم إذا تبعه العمل، وظهرت آثاره على القلب والبدن، فأورث الإيمان والتقوى.
وعلى المسلم أن يتلقى ما جاء عن الله ورسوله بالسمع والطاعة، والقبول والانقياد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 51].
وإذا ثبت الحكم عن الله ورسوله فيجب اتباعه والأخذ به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 3].
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ جميع المؤمنين باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال والأزمان كما قال سبحانه: (? ? ??) [الأعراف: 158].
وكل من خالف أمر الله ورسوله أو عارض ذلك فهو مستحق للعقوبة كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [النور: 63].
وحذر سبحانه المؤمنين من القول على الله بلا علم كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 116].
وقال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الحجرات: 1].
أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا شيئاً حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي.
ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم أحد بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى ويأذن، وهذا باقٍ إلى يوم القيامة، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته.
فلا يجوز لأحد أن يفتي أو يقضي في دين الله بما يخالف النصوص، ولا يجوز الاجتهاد والتقليد مع وجود النص.
ولا يجوز كذلك معارضة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل الواجب طاعته والانقياد لأمره، والتسليم والتلقي لما جاء به بالسمع والطاعة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].(6/178)
ويحرم الإفتاء بغير علم، فإن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، فلا يحل لأحد أن يفتي إلا بما يعلمه يقيناً من كتاب الله وسنة رسوله كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 116].
ومن أفتى بغير علم فعليه إثم من أضلهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 25].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 36].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه(1).
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن لا ترفع الأصوات فوق صوته، فإن ذلك سبب لحبوط الأعمال، فلا ترفع ولا تقدم الآراء والبدع على سنته وما جاء به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 2].
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم تقديم قوله والعمل به، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد أو فتواه، فكل هذا من قلة الأدب معه، وهو عين الجرأة على سنته وهديه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأحزاب: 36].
ومن آداب العلم والفتوى: تعلُّم لا أدري لما لا تعلمه؛ لأنك إذا قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري.
وحين سأل الله الملائكة لم يستحوا أن يقولوا لا نعلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [البقرة: 31، 32].
وما أخطر المضلين للأمة، الذين يتخذون من كتاب الله وسنة رسوله مادة للتضليل، يلوون ألسنتهم به، ويحرفونه عن مواضعه، ويؤلون نصوصه لتوافق أهواء معينة، ويشترون بهذا كله ثمناً قليلاً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3).(6/179)
وهؤلاء الذين ينسبون إلى الدين ظلماً، يحترفون الدين، ويسخرونه في تلبية الأهواء، ويحرفون الكلم عن مواضعه من أجل حطام يأخذونه، يفعلون هذا ويحسبون أنهم مسلمون: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [آل عمران: 78].
وهذه آفة لا يختص بها طائفة من أهل الكتاب، إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه، حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء.
ويفسد القلب حتى ما يتحرج من الكذب على الله ورسوله.
وهذا المسلك كفيل بسقوط هذه الخشب المسندة، الذين تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم.
وبسبب هذا المسلك نقل الله قيادة البشرية من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 77].
والدعوة إلى الله مسئولية جميع الأمة.
أما الفتاوى في الأحكام والمسائل فهي مسئولية العلماء، فمن علم حكماً أفتى به، ومن جهله دل المستفتي على العلماء الذين اختصهم الله بمزيد من العلم والفقه، والفهم والحفظ، وجعلهم أواني لعلمه وأحكام دينه، يتعلمونها ويعملون بها ويعلمونها الناس.
وكان الصحابة يتدافعون الفتوى فيما بينهم، والمفتون فيهم يعدون على الأصابع كمعاذ وعلي، وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم.
فالفتوى ليست مباحة لكل أحد، أما الدعوة فكل يدعو إلى الله بحسب ما عنده من العلم، وأقله آية.
فالعلماء والفقهاء هم أهل الفتوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 43].
والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمة كلها، كل بحسب علمه وقدرته وبصيرته، وقد قام بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أول يوم قبل نزول الأحكام والعبادات، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
والفقه في الدين من أفضل الأعمال، يعطيه الله من يعلم صلاحيته له، وجاهد من أجله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].(6/180)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه(1).
والإسلام جاء ليكمل مكارم الأخلاق، وهذه الأخلاق الحسنة لا بدَّ من صيانتها في الأمة.
وصيانة الأخلاق وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود تتطلب سلطة تنفيذية، وعقوبات تشريعية؛ لأن أحداً لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء، ليس وراءها سلطة تنفيذية، وعقوبات تأديبية.
وكل يصرخ ولكن لا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحداً لا يستجيب لعقيدة ورسالة ضائعة، ليس وراءها سلطة تحميها، وتنفذ أحكامها وشرائعها.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 26].
وعلماء الأمة صنفان:
حفاظ الحديث.. وفقهاء الإسلام.
فحفاظ الحديث هم الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس، يشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيراً.
وفقهاء الإسلام هم الذين خصهم الله باستنباط الأحكام، واعتنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، وسائر السنن والآداب والأحكام، بما وهبهم الله من القوة والفهم والحفظ والاستنباط.
فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الآباء والأمهات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].
وأولو الأمر: هم العلماء والأمراء.
لكن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف، وما أوجبه العلم الشرعي.
وكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).(6/181)
ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم تبعاً لهم كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما.
فما أعظم بركتهما على الأمة إذا صلحا، وما أشد فسادهما إذا فسدا.
والمفتون صنفان:
مفتٍ بعلم.. ومفتٍ بغير علم.
فالأول خير الناس؛ لأنه يفتي بعلم ابتغاء مرضاة الله.
والثاني شر الناس؛ لأنه يفتي بجهل، ويقول على الله بلا علم طمعاً في منصب أو جاه أو مال: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الأنعام: 144].
فالإفتاء منصب عال شريف، وثوابه جزيل، وهو في نفس الوقت منصب خطير.
لذا ينبغي للمسلم ألا ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
الأولى: أن تكون نيته خالصة لله، فإن لم تكن خالصة لله لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس وأحوالهم.
فهذه دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه.
والفرق بين النصيحة والفتوى، أن الناصح مفتٍ وزيادة، والمفتي يبين الحكم وقد لا يعطي ترغيباً ولا ترهيباً، لكن الناصح يعطي الحكم ويرغب أو يرهب.
والإفتاء منصب عظيم في الدين فمن آتاه الله علماً فعلمه مخلصاً يبتغي به وجه الله نشر الله به السنن، وأمات به البدع، ونور الله به قلوب العباد.
ومن ارتقى إليه بغير علم، وتسلق جداره بغير فقه، فقد ضل وأضل، وهلك وأهلك غيره، وقال على الله غير الحق.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 36].(6/182)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَسَألَ عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَألَ عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أنَاساً يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أرْضِكَ فَإِنَّهَا أرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى ا?، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ، إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ، فَأتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِمَا كَانَ أدْنَى، فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إِلَى الأرْضِ الَّتِي أرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَة» متفق عليه(1).
فبالدعوة يهتدي الناس.. وبالعلم يتعلم الناس كيف يعبدون الله بشرعه.. وبالإفتاء تحل المشاكل والمسائل التي تخفى على بعض الناس.
والناس في ذلك متفاوتون:
فمنهم من آتاه الله الدعوة والعلم والإفتاء، ومنهم من صرف همه إلى الدعوة دون الإفتاء، ومنهم من رزقه العلم والإفتاء، ومنهم من حرم هذا وهذا، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3470)، ومسلم برقم (2766).(6/183)
والإيمان زينة القلوب.. والعلم زينة الأعمال.. والفتوى شفاء للناس من داء الجهل.
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
البَابُ السَّابع ... 2
فقه العلم والعمل ... 2
1- أهل التكليف ... 2
2- وظيفة العقل البشري ... 34
3- فقه النية ... 46
4- العلوم الممنوحة والممنوعة ... 54
5- أقسام العلم ... 58
1- العلم بالله وأسمائه وصفاته ... 64
2- العلم بأوامر الله ... 81
6- فقه القرآن الكريم ... 97
7- فقه السنة النبوية ... 135
8- قيمة العلم والعلماء ... 148
9- فقه العلم والعمل ... 155
10- فقه الإفتاء ... 184(6/184)
موسوعة فقه القلوب(8)
الباب الثامن
قوة الإيمان والأعمال الصالحة
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثامن
قوة الإيمان والأعمال الصالحة
1- فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة
قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [النحل: 97].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 13].
الله عزَّ وجلَّ هو القوي العزيز، وقوته صفة ذاتية لا تنفك عنه، فهو القوي وكل ما سواه ضعيف، وهو خالق القوة في كل مخلوق كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [الزمر: 62].
وقد جعل سبحانه قوة المخلوقات متفاوتة، وسلط بعضها على بعض، فهو سبحانه الذي خلق قوة الملائكة، ومنهم جبريل الذي خلق الله له ستمائة جناح، جناح منها سد الأفق، وبطرف جناحه رفع خمس قرى من قرى قوم لوط بمن فيها إلى السماء ثم قلبها عليهم.
وهو سبحانه الذي خلق قوة السماء.. وقوة الأرض.. وقوة العرش.. وقوة الجبال.. وقوة الحديد.. وقوة النار.. وقوة الماء.. وقوة الرياح.. وقوة النور.. وقوة البشر.. وقوة الحيوان.. وقوة السباع.. وقوة الطير.. وقوة المعادن.. وقوة النبات.. وقوة الجن.. وقوة البترول.
وجميع القوة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ في هذه المخلوقات لا تساوي ذرة بالنسبة لقوته سبحانه كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 16].
وقوة الله جل جلاله مطلقة قهرت كل شيء، فلا يقف لها شيء.
وقوة الجبار صفة لذاته، وهي مطلقة ليس لها حد، وقوة المخلوق محدودة تفنى وتضعف وتزول، وكل قوة في العالم فمن فضله وجوده.
والله عزَّ وجلَّ جعل في الأشياء والمخلوقات قوة.
وجعل كذلك في الإيمان والأعمال الصالحة قوة، وقوة الإيمان والأعمال الصالحة أقوى من قوة الأشياء والمخلوقات.(7/1)
ولذلك الله عزَّ وجلَّ أعطى الأنبياء والرسل الإيمان والأعمال الصالحة فقط، وجعلهم بذلك يستفيدون من خزائن الله، ومن قدرة الله.
وهو سبحانه خالق كل شيء، وخالق القوة في كل عمل.
وجعل سبحانه قوة الأعمال كالأشياء متفاوتة.
فالتوحيد له قوة.. والإيمان له قوة.. والإخلاص له قوة.. والصلاة لها قوة.. والطهارة لها قوة.. والزكاة لها قوة.. والصيام له قوة.. والحج له قوة.. والدعاء له قوة.. والأذكار لها قوة.. والصبر له قوة.. والتقوى لها قوة.. والصدق له قوة.. والإحسان له قوة.. والإنفاق له قوة.. والعفو له قوة.. والشكر له قوة.. وهكذا.
ومن كانت عنده قوة الأعمال سخر الله له قوة المخلوقات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
وقال سبحانه: (?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [سبأ: 10].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 12].
فسبحان القوي العزيز الذي خلق القوة في المخلوقات، وفي الأعمال، ولا يستفيد من قوة الأعمال إلا الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين.
وقد أرسل الله الرسل لأمر الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، ودلهم على الاستفادة من قدرة الله، ومن خزائن الله بالإيمان والأعمال الصالحة.
ولا ينال ما عند الله إلا بطاعته، ولا تكون طاعته إلا بالإيمان به، والعمل بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد بين الله ورسوله قوة المخلوقات وقوة الأعمال.
أما قوة المخلوقات فقد أشرنا إليها فيما سبق في باب الخلق والأمر، وأما قوة الأعمال وقيمة الأعمال فهي المقصودة هنا.
وبقدر قوة التوحيد والإيمان تكون قوة الأعمال، ويحصل للعبد إذا قام بذلك قضاء حاجته، واستجابة دعائه، ونيل مراده.
كما دعا نوح صلى الله عليه وسلم على كفار قومه فأغرقهم الله بالماء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [القمر: 10-14].(7/2)
وكما دعا هود صلى الله عليه وسلم على كفار قومه فأهلكهم الله بالريح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [الذاريات: 41، 42].
وكما دعا صالح صلى الله عليه وسلم على كفار قومه فأهلكهم الله بالصيحة كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الذاريات: 43-45].
وكما دعا إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه حين ألقي في النار فجعلها سبحانه برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 69].
وكما دعا موسى صلى الله عليه وسلم على فرعون وقومه فأهلكهم الله وأغرقهم في البحر.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ??) [الذاريات: 38-40].
وكما دعا محمد صلى الله عليه وسلم على الكفار في بدر فأهلكهم الله وأنجى المؤمنين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 9، 10].
فالاستفادة من قدرة الله، ومن خزائن الله، تكون بالإيمان والأعمال الصالحة، وقد منَّ الله عزَّ وجلَّ علينا بذلك، فلنستفد من ذلك.
فقوة الأعمال الصالحة يحصل بها منافع كثيرة منها:
إجابة الدعاء.. ومغفرة الذنوب.. وستر العيوب.. ورفعة الدرجات.. ومضاعفة الحسنات.. والسعادة في الدنيا.. ودخول الجنة.. ورضا الله عن العبد.. وحصول الأمن.. وبسط الرزق.. وحسن الخلق، ونزول النصر، وكشف الكربات.
والأعمال الصالحة محبوبة للرب، ولكنها ثقيلة على النفس، إذ النفس لذتها بالشهوات، والروح لذتها بالطاعات، فلا بدَّ من بيان قوة الأعمال الصالحة، ومكانتها عند الله، وقيمة الأجر والثواب الحاصل من فعلها، وذلك لتنشط النفس لأدائها، وترغب في ثوابها، وتنافس في أدائها، لما تعلمه من جزيل الأجر والثواب عليها.
فبيان كل عمل وقيمته وعظيم ثوابه يسوق النفوس لفعله: (? ? ? ? ? ? ??) [المطففين: 26].(7/3)
وهذا بيان لما تيسر من الأعمال الصالحة، وبيان قوتها، وقدر الأجر والثواب الحاصل بفعلها، لعل النفوس تشمر لفعلها، وتتحرك الجوارح لأدائها، وتنشط الأبدان والقلوب للمداومة عليها، والإكثار منها.
2- قوة التوحيد
1- قال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الأنبياء: 87، 88].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ شَهِدَ أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأنَّ عِيسَى عَبْدُ ا? وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» متفق عليه(1).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ». قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أنْفِ أبِي ذَرٍّ» متفق عليه(2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5827)، واللفظ له، ومسلم برقم (94).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5827)، واللفظ له، ومسلم برقم (94).(7/4)
4- وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ نَبِيَّ ا? نُوحاً صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لاِبْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ، آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بـ(لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ، لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَسُبْحَانَ ا? وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد(1).
3- قوة الإيمان
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الأنعام: 82].
2- وقال الله تعالى: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الحديد: 21].
3- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 25].
4- وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
5- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُم» أخرجه مسلم(2).
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (6583)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (558):
صحيح الأدب المفرد برقم (426)، انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (134).
(2) أخرجه مسلم برقم (54).(7/5)
6- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» أخرجه مسلم(1).
4- قوة الإخلاص
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» متفق عليه(2).
5- قوة العلم
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المجادلة: 11].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ژژ) [آل عمران: 79].
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ ا?، يَتْلُونَ كِتَابَ ا?، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه مسلم(3).
4- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» أخرجه مسلم(4).
6- قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (26).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1)، واللفظ له، ومسلم برقم (1907).
(3) أخرجه مسلم برقم (2699).
(4) أخرجه مسلم برقم (2674).(7/6)
1- قال الله تعالى: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69-70].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 13].
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ أمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» أخرجه البخاري(1).
7- قوة ذكر الله عز وجل
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 152].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 35].
3- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
4- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه(2).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7280).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، واللفظ له، ومسلم برقم (2675).(7/7)
5- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ ا?، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي ا?، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه(1).
* قوة مجالس الذكر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» أخرجه مسلم(2).
* قوة كثرة ذكر الله:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ??) [الجمعة: 10].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ ا? تَعَالَى» أخرجه الترمذي وابن ماجه(3).
* قوة ذكر الله في السفر:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423)، واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
(2) أخرجه مسلم برقم (2700).
(3) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3377)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2688)،
وأخرجه ابن ماجه برقم (3790)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3057).(7/8)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ ا? التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِك» أخرجه مسلم(1).
* قوة الاستغفار:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [نوح: 10-12].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري(2).
* قوة التوبة:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 31].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 8].
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الله أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أضَلَّهُ فِي أرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه(3).
* قوة التسبيح:
1- قال الله تعالى: (گ گ گ ? ? ? ? ??) [طه: 130].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2708).
(2) أخرجه البخاري برقم (6306).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، واللفظ له، ومسلم برقم (2747).(7/9)
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» متفق عليه(1).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ ا? وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أحَدٌ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلا أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ» أخرجه مسلم(2).
4- وقال صلى الله عليه وسلم : «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ» متفق عليه(3).
5- وقال صلى الله عليه وسلم : «أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ ألْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَألَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أحَدُنَا ألْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أوْ يُّحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيئَةٍ» أخرجه مسلم(4).
* قوة الحمد:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 7].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ ا? وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآن ِ(أوْ تَمْلاُ) مَا بَيْنَ السموات وَالأَرْضِ» أخرجه مسلم(5).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6405)، واللفظ له، ومسلم برقم (2691).
(2) أخرجه مسلم برقم (2692).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6682)، واللفظ له، ومسلم برقم (2694).
(4) أخرجه مسلم برقم (2698).
(5) أخرجه مسلم برقم (223).(7/10)
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أََحَبُّ الْكَلامِ إلى ا? أَرْبعٌ: سُبْحانَ ا?، والحَمْدُ ?، وَلا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، لا يَضُرُّك بأَيِّهِنَ بَدأْتَ» أخرجه مسلم(1).
* قوة التهليل:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ أفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِك» متفق عليه(2).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أعْتَقَ أرْبَعَةَ أنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» متفق عليه(3).
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» متفق عليه(4).
* قوة التكبير:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لأنْ أقُولَ: سُبْحَانَ ا? وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاللهُ أكْبَرُ، أحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» أخرجه مسلم(5).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2137).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6403)، ومسلم برقم (2691) واللفظ له..
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6404)، ومسلم برقم (2693) واللفظ له..
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (128)، واللفظ له، ومسلم برقم (32).
(5) أخرجه مسلم برقم (2695).(7/11)
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» أخرجه مسلم(1).
8- قوة الدعاء
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
2- وقال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الأنبياء: 87، 88].
3- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 89، 90].
4- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الأنبياء: 83، 84].
5- وقال الله تعالى: ( ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [القمر: 9-14].
6- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
7- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي» متفق عليه(2).
9- قوة العبادات
1- قوة الطهارة.
* قوة الطهارة:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 222].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم(3).
* قوة الوضوء:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَوَضَّأ فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أظْفَارِهِ» أخرجه مسلم(4).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (720).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675)، واللفظ له.
(3) أخرجه مسلم برقم (223).
(4) أخرجه مسلم برقم (245).(7/12)
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغُ (أوْ فَيُسْبِغُ) الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ ا? وَرَسُولُهُ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» أخرجه مسلم(1).
* قوة الغسل:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «منِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» متفق عليه(2).
2- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «منْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الإِْمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَ» أخرجه أبو داود وابن ماجه (3).
3- قوة الصلاة
* قوة الصلاة بعد الوضوء:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (234).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(881) واللفظ له، ومسلم برقم (850).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (345) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود (333).
وأخرجه ابن ماجه برقم (1087)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (891).(7/13)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأ فَيُّحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أخرجه مسلم(1).
* قوة الدعاء عند سماع الأذان:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه البخاري(2).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قال حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِا? رَبّاً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا وَبِالإِسْلامِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُه» أخرجه مسلم(3).
* قوة الأذان:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلا إنْسٌ وَلا شَيْءٌ، إلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه البخاري(4).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُؤَذِّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعْنَاقاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه مسلم(5).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الَاوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا» متفق عليه(6).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (234).
(2) أخرجه البخاري برقم(614).
(3) أخرجه مسلم برقم (386).
(4) أخرجه البخاري برقم (609).
(5) أخرجه مسلم برقم (387).
(6) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (615)، واللفظ له، ومسلم برقم (437).(7/14)
4- وقال صلى الله عليه وسلم : «إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ، أدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإذَا قَضَى النِّدَاءَ أقْبَلَ، حَتَّى إذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ أدْبَرَ، حَتَّى إذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذكر كَذَا، اذكر كذا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى» متفق عليه(1).
* قوة صلاة الجماعة:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» متفق عليه(2).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ ا?، لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ ا?، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً» أخرجه مسلم(3).
* قوة صلاة الجماعة في المسجد:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ وَحْدَهُ سَبْعاً وَعِشْرِينَ» متفق عليه(4).
* قوة التردد على المسجد:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا غَدَا أوْ رَاحَ» متفق عليه(5).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (608)، واللفظ له، ومسلم برقم (389).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (645)، واللفظ له، ومسلم برقم (650).
(3) أخرجه مسلم برقم (666).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (645) ومسلم برقم (650) واللفظ له.
(5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (662)، واللفظ له، ومسلم برقم (669).(7/15)
2- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صَلاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ، خَمْساً وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإنَّ أحَدَكُمْ إذَا تَوَضَّأ فَأحْسَنَ، وَأتَى الْمَسْجِدَ، لا يُرِيدُ إلَّا الصَّلاةَ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي- يَعْنِي-عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُّحْدِثْ فِيهِ» متفق عليه(1).
* قوة صلاة الصبح والعصر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» متفق عليه(2)
* قوة صلاة العشاء والصبح في جماعة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» أخرجه مسلم(3).
* قوة الصلوات الخمس:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 45].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْراً بِبَابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟». قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قال: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» متفق عليه(4).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (477)، واللفظ له، ومسلم برقم (649).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (574)، واللفظ له، ومسلم برقم (635).
(3) أخرجه مسلم برقم (656)
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667)، واللفظ له.(7/16)
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِر» أخرجه مسلم(1).
* قوة انتظار الصلاة بعد الصلاة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟». قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ ا?! قال: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» أخرجه مسلم(2).
* قوة صلاة الجمعة:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الجمعة: 9].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى، وَفَضْلُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ» أخرجه مسلم(3).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : « ِإِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ يَسْألُ اللهَ فِيهَا خَيْراً، إِلا أعْطَاهُ إِيَّاهُ» متفق عليه(4).
* قوة صلاة السنن الراتبة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعاً، غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، أَوْ إِلا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ ُ» أخرجه مسلم(5).
* قوة صلاة التهجد:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (233).
(2) أخرجه مسلم برقم (251).
(3) أخرجه مسلم برقم (857).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (935)، ومسلم برقم (852) واللفظ له.
(5) أخرجه مسلم برقم (728).(7/17)
1- قال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 16، 17].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْألُ اللهَ خَيْراً مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِلا أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» أخرجه مسلم(1).
* قوة ركعتي الفجر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها» أخرجه مسلم(2).
* قوة السجود لله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» أخرجه مسلم(3).
* قوة الذكر بعد الفريضة:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» أخرجه مسلم(4).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «من قرأ آيةَ الكُرسِي في دُبرِ كُلِ صَلاة مَكتُوبةٍ، لم يمنعه مِن دُخولِ الجنّة إلا أن يَموت» أخرجه النسائي في السنن الكبرى والطبراني(5).
* قوة أداء الفرائض والنوافل:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (757).
(2) أخرجه مسلم برقم (725).
(3) أخرجه مسلم برقم (488).
(4) أخرجه مسلم برقم (597).
(5) صحيح: أخرجه النسائي في الكبرى رقم (9928)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (972).
وأخرجه الطبراني في الكبير [8: 114]، صحيح الجامع رقم (6464).(7/18)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري(1).
* قوة صلاة الضحى:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» أخرجه مسلم(2).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «صَلاةُ الأوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» أخرجه مسلم(3).
* قوة الصلاة على الجنازة:
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6502).
(2) أخرجه مسلم برقم (720).
(3) أخرجه مسلم برقم (748).(7/19)
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإنَّه يَرْجِعُ مِنَ الأجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أنْ تُدْفَنَ، فَإنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» متفق عليه(1).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أرْبَعُونَ رَجُلا، لا يُشْرِكُونَ بِا? شَيْئاً إِلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» أخرجه مسلم(2).
* قوة أجر من احتسب موت صفيه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَقُولُ الله تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إِلا الْجَنَّةُ» أخرجه البخاري(3).
* قوة ا لصلاة في مسجد مكة والمدينة:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : « صلاة فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ » متفق عليه(4).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : « صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» أخرجه أحمد وابن ماجة (5).
* قوة الصلاة في بيت المقدس:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (47)، واللفظ له، ومسلم برقم (945).
(2) أخرجه مسلم برقم (948).
(3) أخرجه البخاري برقم (6424).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1190)، واللفظ له، ومسلم برقم (1394).
(5) صحيح: أخرجه أحمد برقم (14750)، انظر إرواء الغليل رقم (1129).
وأخرجه ابن ماجه برقم (1406)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1155).(7/20)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ مِنْ أَربَعِ صَلواتٍ فيهِ، وَلَنِعْمَ المُصَلَّى» أخرجه الحاكم (1).
* قوة الصلاة في مسجد قباء:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» أخرجه النسائي وابن ماجه (2).
3- قوة الزكاة
* قوة الزكاة:
1- قال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [البقرة: 277].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 274].
3- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 103].
* قوة الصدقة:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 18].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 245].
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَصَدّّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيِّبَ فَإِنَّ الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» متفق عليه(3).
4- قوة الصيام
* قوة صيام رمضان:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 183].
__________
(1) صحيح: أخرجه الحاكم برقم (8553)، انظر السلسلة الصحيحة (2902).
(2) صحيح: أخرجه النسائي برقم (699)، صحيح سنن النسائي رقم (675).
وأخرجه ابن ماجة برقم (1412)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجة رقم (1160).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1410)، واللفظ له، ومسلم برقم (1014).(7/21)
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ ا? مِنْ رِيحِ الْمِسْك» متفق عليه(1).
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» متفق عليه(2).
4- وقال صلى الله عليه وسلم : «في الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ» متفق عليه(3).
* قوة قيام رمضان:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه(4).
* قوة العمل ليلة القدر:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ?پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ??) [القدر: 1-5].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه(5).
* قوة صيام رمضان مع ست من شوال:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1894)، ومسلم برقم (1151)، واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (38)، واللفظ له، ومسلم برقم (760).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3257)، واللفظ له، ومسلم برقم (1152).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (37)، واللفظ له، ومسلم برقم (759).
(5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1901)، واللفظ له، ومسلم برقم (760).(7/22)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْر» أخرجه مسلم(1).
* قوة صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو حين قال: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقال: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» متفق عليه(2).
* قوة صوم يوم عرفة وعاشوراء:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ والباقية»، وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَة» أخرجه مسلم(3).
* قوة صيام يوم الإثنين:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» أخرجه مسلم(4).
5- قوة الحج
* قوة العمل في عشر ذي الحجة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا الْعَمَلُ فِي أيَّامٍ أفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ». قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ، إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» أخرجه البخاري(5).
* قوة الحج والعمرة:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» متفق عليه(6).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1164).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1976)، واللفظ له، ومسلم برقم (1159).
(3) أخرجه مسلم برقم (1162).
(4) أخرجه مسلم برقم (1162).
(5) أخرجه البخاري برقم (969).
(6) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1521)، واللفظ له، ومسلم برقم (1350).(7/23)
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أمُّهُ» متفق عليه(1).
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» متفق عليه(2).
* قوة الوقوف بعرفة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ يَوْمٍ أكْثَرَ مِنْ أنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أرَادَ هَؤُلاءِ؟»أخرجه مسلم(3).
* قوة العمرة في رمضان:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سنان الأنصارية رضي الله عنها: «مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ». قالتْ: أبُو فُلانٍ، تَعْنِي زَوْجَهَا، كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أرْضاً لَنَا. قال: « فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أوْ حَجَّةً مَعِي» متفق عليه(4).
10- قوة الجهاد في سبيل الله
* قوة الجهاد في سبيل الله:
1- قال الله تعالى: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 10-13].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 74].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 1819)، ومسلم برقم (1350)، واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1773)، واللفظ له، ومسلم برقم (1349).
(3) أخرجه مسلم برقم (1348).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1863)، واللفظ له، ومسلم برقم (1256).(7/24)
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ ا?، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ- أُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري(1).
* قوة الغدوة والروحة في سبيل الله:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ ا? أوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه(2).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ». وَقال: «لَغَدْوَةٌ أوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ ا? خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ» متفق عليه(3).
* قوة النفقة في سبيل الله:
1- قال الله تعالى: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [البقرة: 261].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [البقرة: 262].
3- وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ ا? أوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه(4).
* قوة الشهادة أو الموت في سبيل الله:
1- قال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [آل عمران: 169].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2792)، واللفظ له، ومسلم برقم (1880).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2793)، واللفظ له، ومسلم برقم (1882).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2792)، واللفظ له، ومسلم برقم (1880).(7/25)
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 157].
3- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 74].
* قوة الهجرة في سبيل الله:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 100].
2- وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ??) [الحج: 58-59].
* قوة من جهز غازياً أو خلفه في أهله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ ا? فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ ا? بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» متفق عليه(1).
* قوة التعب والغبار في سبيل الله:
1- قال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [التوبة: 120].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ ا? فَتَمَسَّهُ النَّار» أخرجه البخاري(2).
* قوة الرباط في سبيل الله:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ ا? خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ ا?، أوِ الْغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» متفق عليه(3).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2843)، واللفظ له، ومسلم برقم (1895).
(2) أخرجه البخاري برقم (2811).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2892)، واللفظ له، ومسلم برقم (1881).(7/26)
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأمِنَ الْفَتَّانَ» أخرجه مسلم(1).
* قوة الصيام في سبيل الله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ ا?، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً» متفق عليه(2).
11- قوة المعاملات
* قوة الدعوة إلى الله:
1- قال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» متفق عليه(3).
* قوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110 ].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
3- وقال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [التوبة: 71].
4- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم(4).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1913).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2840)، واللفظ له، ومسلم برقم (1153).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2942)، ومسلم برقم (2406)، واللفظ له.
(4) أخرجه مسلم برقم (49).(7/27)
5- عَنْ أبِي ذَرٍّ، أنَّ نَاساً مِنْ أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ ا?! ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بِالأجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أمْوَالِهِمْ، قال: «أوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أحَدِكُمْ صَدَقَة» أخرجه مسلم(1).
* قوة النصيحة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» أخرجه مسلم(2).
* قوة التواصي بالحق:
1- قال الله تعالى: (?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «.. وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ» أخرجه مسلم(3).
* قوة مواساة المؤمنين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ» أخرجه مسلم(4).
* قوة الإصلاح بين الناس:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1006).
(2) أخرجه مسلم برقم (55).
(3) أخرجه مسلم برقم (2699).
(4) أخرجه مسلم برقم (2699).(7/28)
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [النساء: 114].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ ا? قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ» أخرجه أبو داود والترمذي (1).
* قوة السماحة والسهولة:
1- قال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 40].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً، سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» أخرجه البخاري(2).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأى مُعْسِراً قال لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ» متفق عليه(3).
* قوة الزيارة في الله:
1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أنَّ رَجُلاً زَارَ أخاً لَهُ فِي قَرْيَةٍ أخْرَى، فَأرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً، فَلَمَّا أتَى عَلَيْهِ قال: أيْنَ تُرِيدُ؟ قال: أرِيدُ أخاً لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قال: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قال: لا، غَيْرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ فِي ا? عَزَّ وَجَلَّ، قال: فَإِنِّي رَسُولُ ا? إِلَيْكَ، بِأنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّكَ كَمَا أحْبَبْتَهُ فِيهِ» أخرجه مسلم(4).
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4919)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (1411)،
وأخرجه الترمذي برقم (2509)، صحيح سنن الترمذي رقم (2037).
(2) أخرجه البخاري برقم (2076).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2078)، واللفظ له، ومسلم برقم (1562).
(4) أخرجه مسلم برقم (2567).(7/29)
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ » أخرجه مالك وأحمد (1).
12- قوة المعاشرات
* قوة بر الوالدين:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 23، 24].
2- وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ ا?» متفق عليه(2).
3- وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قال: ثم من؟ قال: «أبوك» متفق عليه(3).
* قوة صلة الرحم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه(4).
* قوة صلة أصدقاء الوالدين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ» أخرجه مسلم(5).
* قوة حسن معاشرة الأولاد:
__________
(1) صحيح: أخرجه مالك برقم (1779)، وأخرجه أحمد برقم (22380).
انظر صحيح الجامع رقم (4331).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (527)، واللفظ له، ومسلم برقم (85).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5971)، واللفظ له، ومسلم برقم (2548).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5986)، واللفظ له، ومسلم برقم (2557).
(5) أخرجه مسلم برقم (2552).(7/30)
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَا وَهُوَ» وضم أصابعه. أخرجه مسلم(1).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئاً، فَأحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنَ النَّارِ» متفق عليه(2).
* قوة كفالة اليتيم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا». وَأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً. متفق عليه(3).
* قوة السعي على الأرملة والمسكين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «السَّاعِي عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله، أوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَار» متفق عليه(4).
* قوة صلة الجار:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» متفق عليه(5).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُّحِبَّ لأخِيهِ (أوْ قال لِجَارِهِ) مَا يُّحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه(6).
13- قوة الآداب
* قوة السلام:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2631).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5995)، واللفظ له، ومسلم برقم (2629).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5304)، واللفظ له، ومسلم برقم (2983).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5353)، واللفظ له، ومسلم برقم (2982).
(5) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6014)، واللفظ له، ومسلم برقم (2624).
(6) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (13)، ومسلم برقم (45)، واللفظ له.(7/31)
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه مسلم(1).
2- وعن عبدالله بن عمرو أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ فقال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» متفق عليه(2).
3- وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ^ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِيُّ ^: «عَشْرٌ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ ا?، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ: «عِشْرُونَ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ ا? وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ « ثَلَاثُونَ» أخرجه أبو داود والترمذي (3).
* قوة البدء بالسلام:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأ بِالسَّلامِ» متفق عليه(4).
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِا? مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» أخرجه أبو داود والترمذي(5).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (54).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (12)، واللفظ له، ومسلم برقم (39).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5191)، صحيح سنن أبي داود رقم (4327).
وأخرجه الترمذي برقم (2689)، صحيح سنن الترمذي رقم (2163).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6077)، ومسلم برقم (2560)، واللفظ له.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5197)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4328)،
وأخرجه الترمذي برقم (2694)، صحيح سنن الترمذي رقم (2167).(7/32)
* قوة السلام عند دخول البيوت:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 27].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 61].
* قوة الإطعام:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ) [الإنسان: 8-12].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
* قوة التسمية على الطعام:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الأنعام: 121].
2- عن عمر بن سلمة - رضي الله عنه - قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا غُلامُ، سَمِّ الله، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ». فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ. متفق عليه(2).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَسى أن يَذكُرَ اللهَ في أَوَّلِ طَعامِهِ فَلْيقُلْ حينَ يَذكُرُ: باسمِ ا? في أوَّلِهِ وَآخرِهِ، فإنَّهُ يَستقبلُ طَعامَهُ جَديداً، ويمنعُ الخبيثَ ما كانَ يصيبُ مِنهُ» أخرجه ابن حبان وابن السني (3).
* قوة الدعاء بعد الأكل أو الشرب:
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2485) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2019).
وأخرجه ابن ماجه برقم (1334)، صحيح سنن ابن ماجه رقم رقم (1097).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5376) واللفظ له، ومسلم برقم (2022).
(3) صحيح: أخرجه ابن حبان برقم (5213)، وأخرجه ابن السني برقم (461).
انظر السلسلة الصحيحة برقم (198).(7/33)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» أخرجه مسلم(1).
* قوة إماطة الأذى عن الطريق:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «بَينَمَا رَجُلٌ يَمشي بِطَريقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّريقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغفرَ لَهُ » أخرجه مسلم(2).
* قوة الصدق في البيع:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أوْ قال: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» متفق عليه(3).
* قوة الدعاء فيمن نزل منزلاً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ ا? التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» أخرجه مسلم(4).
* قوة السفر ليلاً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ» أخرجه أحمد وأبو داود (5).
* قوة النوم على طهارة:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2734).
(2) أخرجه مسلم برقم (1914).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2079) واللفظ له، ومسلم برقم (1532).
(4) أخرجه مسلم برقم (2708).
(5) صحيح: أخرجه أحمد برقم (15157).
وأخرجه أبو داود برقم (2571) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (2241).(7/34)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» متفق عليه(1).
* قوة الذكر والدعاء إذا تقلب ليلاً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقال: لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لله، وَسُبْحَانَ الله، وَلا إلَهَ إلا الله، والله أكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإنْ تَوَضَّأ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاتُهُ» أخرجه البخاري(2).
* قوة عيادة المريض:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» أخرجه مسلم(3).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6311) واللفظ له، ومسلم برقم (2710).
(2) أخرجه البخاري برقم (1154).
(3) أخرجه مسلم برقم (2568).(7/35)
2- وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَتَى أَخَاهُ الْمُسْلِمَ عَائِداً مَشَى فِي خَرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ» أخرجه أبو داود وابن ماجه (1).
* قوة الدعاء للمريض:
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ: أَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عَافَاهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ» أخرجه أبو داود والترمذي (2).
* قوة الدعاء عند الخروج من البيت:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ ا? تَوَكَّلْتُ عَلَى ا? لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِا? قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ» أخرجه أبو داود والترمذي(3).
* قوة الدعاء عند القيام من المجلس:
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3098)، صحيح سنن أبي داود رقم (2655).
وأخرجه ابن ماجه برقم (1442) وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1183).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (3106)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (2663).
وأخرجه الترمذي برقم (2083) صحيح سنن الترمذي رقم (1698).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (5095) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4249).
وأخرجه الترمذي برقم (3426)، صحيح سنن الترمذي رقم (2724).(7/36)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالََ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» أخرجه أحمد والترمذي (1).
14- قوة الأخلاق
* قوة حسن الخلق:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقاً» متفق عليه(2).
* قوة الصبر:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 10].
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الله قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ». يُرِيدُ: عَيْنَيْهِ. أخرجه البخاري(3).
* قوة الصدق:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 119].
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (10420).
وأخرجه الترمذي برقم (3433)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2730).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3559)، واللفظ له، ومسلم برقم (2321).
(3) أخرجه البخاري برقم (5653).(7/37)
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? صِدِّيقاً، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ، يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ، يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? كَذَّاباً» أخرجه مسلم(1).
* قوة التقوى:
1- قال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الأنفال: 29].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
3- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ?ہ) [الطلاق: 2، 3].
4- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 179].
* قوة اليقين:
1- قال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
2- وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [البقرة: 4، 5].
* قوة ا لتوكل:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 3].
2- وقال الله تعالى: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الشورى: 36].
* قوة الخوف:
1- قال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [آل عمران: 175].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ??) [الرحمن: 46].
* قوة الرجاء:
1- قال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 53].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» أخرجه مسلم(2).
* قوة الرفق:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2607).
(2) أخرجه مسلم برقم (2749).(7/38)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُّحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاه» متفق عليه(1).
* قوة الحياء:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ» متفق عليه(2).
* قوة حفظ اللسان:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام أفضل؟، فقال: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» متفق عليه(3).
* قوة الإحسان:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [المرسلات: 41-44].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 112].
* قوة الحب في الله:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُّحِبَّ لأخِيهِ مَا يُّحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه(4).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلالِي، الْيَوْمَ أظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلِّي» أخرجه مسلم(5).
* قوة البكاء من خشية الله:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الملك: 12].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6927)، ومسلم برقم (2593) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (9) واللفظ له، ومسلم برقم (35).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (11) واللفظ له، ومسلم برقم (42).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (13) واللفظ له، ومسلم برقم (45).
(5) أخرجه مسلم برقم (2566).(7/39)
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ ا? وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ ا?» أخرجه الترمذي (1).
* قوة الرحمة:
1- قال الله تعالى: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ» متفق عليه(2).
* قوة العفو والصفح:
1- قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النور: 22].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُّحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» أخرجه مسلم(3).
* قوة الاستعاذة:
1- قال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [فصلت: 36].
2- اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَعَلَ أحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أوْدَاجُهُ، فقال: رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لأعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ: أعُوذُ بِا? مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» متفق عليه(4).
* قوة التواضع:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 18].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم(5).
* قوة قضاء حوائج الناس:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [المزمل: 20].
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (1639)، صحيح سنن الترمذي رقم (1338).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5997) واللفظ له، ومسلم برقم (2318).
(3) أخرجه مسلم برقم (18).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6048)، ومسلم برقم (2610) واللفظ له.
(5) أخرجه مسلم برقم (2588).(7/40)
2- وقال الله تعالى: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [النساء: 114].
3- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ» أخرجه مسلم(1).
* قوة التسمية:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الأنعام: 121].
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الشَّيطانَ يَسْتحِلُّ الطَّعامَ أَنْ لا يُذكَرَ اسْمُ ا? عَليهِ» أخرجه مسلم(2).
3- وقال صلى الله عليه وسلم : «إذَا دخلَ الرَّجُلُ بيتَهُ، فَذكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخولِهِ وَعندَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لَكُمْ وَلا عَشاءَ، وَإِذا دَخَلَ فَلمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيطانُ: أَدْرَكْتُمُ المبيتَ، وَإِذَا لمْ يَذكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعامِهِ، قَالَ: أَدْركْتُمُ المبيتَ وَالعَشاءَ» أخرجه مسلم(3).
15- قوة القرآن الكريم
1- قال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الإسراء: 82].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 44].
* قوة الاجتماع على تلاوة القرآن:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).
(2) أخرجه مسلم برقم (2017).
(3) أخرجه مسلم برقم (2017).(7/41)
1- قال النبي صلى الله عليه وسلم : «.. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ ا?، يَتْلُونَ كِتَابَ ا?، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه مسلم(1).
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» أخرجه البخاري(2).
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثامن ... 2
قوة الإيمان والأعمال الصالحة ... 2
1- فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة ... 2
2- قوة التوحيد ... 6
3- قوة الإيمان ... 7
4- قوة الإخلاص ... 8
5- قوة العلم ... 9
6- قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ... 10
7- قوة ذكر الله عز وجل ... 11
8- قوة الدعاء ... 15
9- قوة العبادات ... 16
10- قوة الجهاد في سبيل الله ... 27
11- قوة المعاملات ... 30
12- قوة المعاشرات ... 33
13- قوة الآداب ... 35
14- قوة الأخلاق ... 40
15- قوة القرآن الكريم ... 45
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).
(2) أخرجه البخاري برقم (5027).(7/42)
موسوعة فقه القلوب (9)
الباب التاسع
فقه العبودية
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب التاسع
فقه العبودية
1- فقه حقيقة العبودية
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژژ) [الذاريات: 56-58].
2- وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
3- وقال الله تعالى: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 21-22].
الله تبارك وتعالى هو الملك الذي لا يخرج عن ملكه أ حد، الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته لا ينفك عنه أبداً.
والله سبحانه هو الصمد، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه.
والإنسان يذنب دائماً، ويقصر دائماً، فهو فقير مذنب مقصر، وربه تعالى يرحمه ويغفر له؛ لأنه هو الغفور الرحيم.
ولولا رحمة الله لعباده وإحسانه إليهم، لما وجد العبد خيراً أصلاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وليست سعادة الإنسان في أن يكون عالماً بالله، مقراً بما يستحقه، دون أن يكون محباً له، عابداً له، مطيعاً له.
بل أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأشقاهم حياة في الدنيا، عالم لم ينفعه الله بعلمه.
فإذا علم الإنسان الحق، وأبغضه وعاداه كان مستحقاً من غضب الله وعقابه ما لا يستحقه من ليس كذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 16].
والله عزَّ وجلَّ هو المستحق للعبادة وحده دون سواه.
فهو سبحانه أعظم من خلق.. وأكرم من سئل.. وأرحم من ملك.. وأحق من عُبد.. لا إله غيره، ولا رب سواه.
فكمال الأدب مع الله يكون بالإيمان به، وتوحيده، وطاعته، والقيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً.
ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء:(8/1)
معرفة الله بأسمائه وصفاته.. ومعرفة دينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه.. ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق، والعمل به والدعوة إليه، والصبر عليه.
ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا بأمرين:
اليقين.. والعافية.
فاليقين: يدفع عن العبد عقوبات الآخرة.
والعافية: تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين عافيتي الدين والدنيا بقوله: «اسْأَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَداً لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْراً مِنَ الْعَافِيَةِ» أخرجه الترمذي (1).
ولله سبحانه على كل إنسان عبودية خاصة بحسب مرتبته وقدرته، سوى العبودية العامة التي سّوَّى الله بين عباده فيها.
فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه، وإلزام من هو عليه به، والصبر على ذلك، والجهاد عليه، ما ليس على المفتي.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القوي بدينه من عبودية الجهاد ما ليس على الضعيف... وهكذا.
وقد غر إبليس أكثر الخلق فحسّن لهم القيام بنوع من الذكر، أو قراءة القرآن، أو الصلاة والصيام، أو الزهد في الدنيا والانقطاع عن الناس، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها.
وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً وفقهاً.
فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك الحقوق التي تجب عليه لله أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي.
فإن ترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3558)، صحيح سنن الترمذي رقم (2821).(8/2)
ومن له بصيرة وخبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، رأى أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً وفقهاً.
وأي دين؟ وأي خير؟ وأي علم؟ وأي فقه؟ فيمن يرى الكفر يملأ الأرض وهو صامت ساكن لا يدعو إلى الله، ويرى الجهل قد عمّ وطمّ، ويرى تفشي البدع وهو ساكن لا يتحرك، ساكت لا يأمر ولا ينهى.
ويرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وهو بارد القلب، صامت اللسان، ساكن الجوارح.
وهل بلاء الدين إلا من هؤلاء، الذين إن سلمت لهم وظائفهم ورياستهم ومآكلهم فلا مبالاة لهم بما جرى على الدين وأهله.
وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهي موت قلوبهم.
فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله ودينه أقوى، وانتصاره للدين أكمل.
وكلما تمكن العبد من منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه.
ولهذا كان الواجب على الأنبياء والرسل أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته وقدرته تكون مسئوليته وعبوديته.
وكمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة، والدواعي إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية.
وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند المعارضة والامتحان، وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 2-4].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 214].
فالجنة غالية الثمن، لا ينالها المؤمنون إلا بالجهاد والصبر، فَخَلْق الشياطين وأوليائهم وجندهم من أعظم النعم في حق المؤمنين.(8/3)
فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله، يحبون في الله، ويبغضون لله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعطون لله، ويمنعون لله.
ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح لها الزكاء والفلاح إلا بذلك.
ولما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة النفس والشيطان وبني جنسه، وكان العامل إذا علم أن ثمرة عمله وتعبه يعود عليه وحده لا يشركه فيه غيره كان أتم اجتهاداً وأوفر سعياً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 6].
ولما كان زمن التألم والعذاب والمجاهدة قصيره طويل، سلَّى الله أهله بأن له أجلاً ثم ينقطع، وضرب لأهله أجلاً للقائه سبحانه، ليهون عليهم أثقاله، ويخف عليهم حمله واحتماله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 5].
وعبادة الله تبارك وتعالى أصل السعادة في الدنيا والآخرة، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وميزه بمزاج لطيف عجيب، وجعل فيه ميل الانتخاب، وميل الأحسن، وميل الزينة.
ولأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله ومشربه ومسكنه ومركبه وملبسه إلى الامتزاج مع أبناء جنسه، ليستفيد كل من الآخر في سائر المعاملات والحاجات.
وذلك يحتاج إلى أوامر من الله يسير عليها العباد في معاملاتهم ومعاشراتهم؛ لئلا يقع بينهم الظلم والعدوان.
ثم لتأسيس إطاعة الأوامر واجتناب النواهي احتاج العبد إلى إدامة تصور عظمة الخالق ومالك الملك في الأذهان، وذلك هو التوحيد والإيمان بالله عزَّ وجلَّ.
ثم لإدامة هذا التصور ورسوخ العقيدة في القلب، يحتاج العبد إلى مذكِّر مكرَّر، وعمل متجدد.
وما المذكر المكرر إلا العبادة من صلاة وصيام وذكر ونحوها.
فالعبادة لتوجيه القلوب والجوارح إلى الخالق الحكيم العليم القدير، والتوجه لتأسيس الانقياد، والانقياد للوصول إلى النظام الشامل لشعب الحياة كلها، والذي شرعه الله لمصالح عباده.(8/4)
والإنسان كما أن له علاقة مع نفسه، ومع أبويه، ومع أقاربه، ومع جيرانه، ومع من يستفيد منه ويتعامل معه في مأكله وملبسه ومركبه ومسكنه ونحو ذلك، فكذلك له علاقة مع ربه، ومع كتابه، ومع رسوله.
والله سبحانه جعل لكل علاقة مما سبق تعليمات وإرشادات، وسنناً وآداباً، وأصولاً وأحكاماً، وأعطى على ذلك الأجر والثواب.
وهذا هو الدين الذي أكرم الله به البشرية، والذي ينبغي أن يدخل في كل شيء؛ لأن به صلاح كل شيء كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 208].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].
فالعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وحاجة العباد إلى الدين أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فالدين إذا خرج من حياة الأمة أصابها بلاء عظيم، وعوقبت بأمرين هما: الجهل والغفلة.
فيصير الإنسان جاهلاً بالحقوق والحدود، غافلاً عن القيام بالواجبات والحقوق والحدود، وكل حق له حد، فطاعة الوالدين حقها أن يطاعا ما لم يأمرا بمعصية الله عزَّ وجلَّ، وطاعة الحاكم حدها أن يطاع في كل شيء ما لم يأمر بمعصية الله عزَّ وجلَّ.
وإذا كانت المعاملات والعلاقات على غير الدين جاء الفساد وكثر، ثم جاءت المصائب والعقوبات نقداً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 41].
والأسباب إنما هي للابتلاء، وهي مكان الأوامر، يبتلي الله بها العباد، ليعلم من يطيع أمره ممن يتبع هوى نفسه كما قال سليمان صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [النمل: 40].
وحقيقة الدين ليس معناها كيف نصوم ونصلي فقط؟، وكيف نؤدي العبادات رسوماً بلا روح، ونفعل ما نشاء، ونترك ما نشاء.
بل حقيقة العبودية:(8/5)
التقرب إلى الله بالدين الكامل.. وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال.. وكيف نشعر أن الله معنا.. وكيف يرضى عنا.. وكيف نرضيه.. وكيف نطمئن بذكره.. نحس بقربه ولطفه فنناجيه ونسأله.. ونقدم الشكوى إليه.. ونتيقن أن الله معنا.. يعلم جميع أحوالنا.. ويسمعنا ويرانا.. ويعلم ما في نفوسنا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
وهو سبحانه يعلم سرنا ونجوانا، وما نخفيه وما نبديه، والكل عنده سواء، وهو علام الغيوب.
وهو سبحانه الملك الكريم العزيز الجبار، وبيده كل شيء.
فنتأدب في عرض أحوالنا وحوائجنا عليه بذكر نعمه وإحسانه وآلائه على العباد، ونذكر عظمته وجلاله وغناه، ونحمده على جميل عفوه ومغفرته، وسعة حلمه ورحمته.
ونضع نواصينا وقلوبنا وجوارحنا بين يديه، معترفين بالتقصير والخطأ، والجهل والظلم، والنسيان والغفلة، واقتراف الذنوب.
فقد قصرنا في أداء العمل، وفي حسن العمل، وفي إكمال العمل، وفي إخلاص العمل.
وهذه ذنوب عظيمة، وليس لنا من يغفرها إلا الله، وليس لنا من يحفظنا إلا الله، وليس لنا من يرحمنا إلا الله، وليس لنا من يرزقنا إلا الله الذي تكفل بأرزاق الخلائق كلها كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
هذا هو الصراط المستقيم الذي يبلغ به الإنسان ويكمل ويصله بربه، فيوجه بركاته ورحمته إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
فالكائنات كلها بيد الله وحده.
فمن أطاع الله ورسوله، وعبد الله بما شرع رسوله، مخلصاً لربه، سخر الله له المخلوقات، وجعلها في خدمته ونصرته، كما سخر الماء لنوح وموسى، والنار لإبراهيم، والريح لهود، والصاعقة لصالح، والملائكة لمحمد ولوط، ونحو ذلك.
وهذا اليقين هو روح العبودية، وإذا عبدنا الله به بالقلب والقالب كان الله معنا، واستفدنا من خزائنه.(8/6)
وكلما انصرف الإنسان عن الله وعن الدين تركه فسقط في أودية الهلاك مهما كان عنده من الأموال والأشياء كما حصل لقوم نوح وهود، وصالح وشعيب، وقوم لوط، وكفار مكة وغيرهم.
فهؤلاء أرسل الله إليهم الرسل بالتوحيد والإيمان، فلما أبوا واستكبروا وظلموا دمرهم الله وأهلكهم، وأنجى رسله والمؤمنين بهم سواء كانت معهم الأسباب أو لم تكن لأن الله معهم، ومن كان الله معه فمن ذا الذي يهزمه أو يخذله أو يقف في وجهه.
وكثير من المسلمين اليوم يرون أن فلاحهم في الملك والمال والأشياء وأن بها يقوم الدين، ويضيعون أوقاتهم وينفقون أموالهم للحصول عليها.
وهذا خطأ، فالذي نحتاج إليه لإقامة الدين في حياتنا وحياة الناس هو كيف يكون الله معنا، ولا يكون معنا بنصره وتأييده إلا بالإيمان والتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 128].
فالله عزَّ وجلَّ ينصرنا بقدرته إذا أطعناه، سواء كانت عندنا الأشياء أو لم تكن.
فالنمرود جمع وقومه الحطب الكثير، وأشعل النار ليلقي فيها إ براهيم صلى الله عليه وسلم ، وما خاف إبراهيم منه ولا من النار؛ لأنه يعلم أن النمرود وملكه وجيشه، ومن في السموات ومن في الأرض، كلهم ليس بأيديهم شيء، وأن الأمر كله بيد الله وحده.
فلما ألقوه في النار، ولقوة يقين إبراهيم على ربه أمر الله الضار أن يكون نافعاً، وسلب النار خاصية الإحراق، جسد إبراهيم خاصية الاحتراق، وجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 68، 69].
وكذا فعل الله بنوح ومن آمن معه فحملهم في السفينة، وجعل الماء الذي أغرق به أعداءه حاملاً لهم، مهلكاً لأعدائه في وقت واحد كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الفرقان: 37].
وطريق معية الله سهل، بأن يعيش الإنسان إنساناً مؤمناً بربه مستقيماً على أوامره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 30].(8/7)
فهذا حق الله علينا أن نعيش كما أراد الله، إنساناً عاقلاً يؤمن بربه، ويمتثل أمره، لا حيواناً يفعل ما يشاء، ويأكل ما يشاء.
وكثير من الناس يعيش حيواناً لا إنساناً، بل أضل من الحيوان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44].
وأعظم منصب يناله الإنسان، وأعلى مقام يصل إليه، وأفضل درجة يرقى إليها، هي مقام العبودية، بأن يكون عبداً لربه ومولاه مالك الملك، وجبار السموات والأرض، الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، كما وصف بها سيد الأنبياء والرسل في مقام الوحي كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ??) [النجم: 10].
وفي مقام الإسراء بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الإٍسراء: 1].
والعبد إنما يفخر ويعتز بمالكه وسيده ومولاه كما قال إبراهيم للنمرود: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [البقرة: 258].
والحر يفتخر ويعتز بما يملك من الأموال والأشياء.
وماذا يملك الإنسان.. وماذا بيده.. وماذا يملك الرب..؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 120].
ولا يكون العبد عبداً لله حقاً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً، فإنه لا يكون عبداً لله خالصاً حتى لا يكون عبداً لما سواه.
فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير، وفيه من الشرك بقدر محبته له، وعبادته لذلك الغير زيادة.
ومن عرف ربه، وعرف جلاله وجماله وكماله، وجد لذة عبادته، وطاب له الاشتغال بها، وثقل عليه الاشتغال بغيرها لوجوه:
أحدها: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بعبادة ربه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرف لسانه بشرف ذكر الله، وتتجمل أعضاؤه بجمال سنن الله.(8/8)
الثاني: أن العبادة أمانة، وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً، وأداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني، فمن حفظ أوامر الله وحدوده حفظه الله وأكرمه، ومن أضاع أوامر الله وحدوده أهلكه الله وأهانه.
الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى الاشتغال بطاعة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة.
والله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، وكل ما سواه عبد مملوك، والله سبحانه بيده كل شيء، وما سواه ليس بيده شيء كما قال عزَّ وجلَّ: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
والناس في العبودية قسمان:
الأول: عبيد الطاعة، وهم أهل الإيمان، والعبيد ليس لهم إلا باب سيدهم، يسألونه من فضله وإحسانه، ويلوذون به ويستعينون به، وإضافتهم إليه كإضافة البيت الحرام إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 63].
الثاني: عبيد القهر والربوبية، وإضافتهم إليه كإضافة سائر المخلوقات إليه، وهذه العبودية يدخل فيها عموم الخلق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 93].
وعبادة الله عزَّ وجلَّ تقوم على أصلين:
المحبة.. والخوف.
فبالمحبة يكون امتثال الأمر.. وبالخوف يكون اجتناب النهي.
وينبغي أن يكون خوف العبد ورجاؤه سواء، فأيهما غلب هلك صاحبه، وعند الموت يُغلِّب جانب الرجاء على الخوف.
والله حكيم عليم، وله في خلقه شئون، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذنه.
ومن سنة الله التي لا تتخلف أنه سبحانه كما أودع الماء حكمته في إزالة أوساخ الجسم به، وجعل ذلك سنة لا تتبدل، فكذلك أودع ما شرعه من أقوال العبادة وأفعالها حكمته التي تطهر النفس وتزيل عنها أدرانها.
فكما يزيل الماء الوسخ الظاهر، فكذلك العبادة تزيل الدرن الباطن، وكلاهما موضوع للتطهير، سنة الله التي لا تتبدل، وهو الحكيم الخبير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفتح: 23].(8/9)
وكما أن الماء إذا لم يحسن الإنسان استعماله في غسل الأجسام والأشياء فإنه لا يؤثر في تطهيرها، لا سيما إذا خالطه شيء لا يتلاءم مع طبيعته، فكذلك العبادة إذا أداها العبد أداءً ناقصاً، أو لابسها شرك أو رياء، فإنها تفقد خاصيتها بالتطهير والتزكية للروح، ومن ثم لا تقبل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق توحيداً وإيماناً، وأكملهم عبودية لله، وأكملهم محبة له، وأكملهم افتقاراً إليه، وأكملهم توبة واستغفاراً لله عزَّ وجلَّ.
فهو أفضل الخلق عند الله، وأكرمهم منزلة، وهو سيد ولد آدم، والخير كله من الله، والخلق كله لله، والأمر كله لله، وليس للمخلوق منه شيء، بل المخلوق فقير إلى الله من كل وجه، والله غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [فاطر: 15].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 53].
والعبد إذا أصبح أو أمسى وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه.
وفرَّغ قلبه لمحبته.. ولسانه لذكره.. وجوارحه لطاعته.
وإذا أصبح أو أمسى والدنيا همه، فرَّق الله عليه شمله، ووكله إلى نفسه، وحمله هموم الدنيا وأنكادها.
فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق.. ولسانه عن ذكره بذكرهم.. وجوارحه عن طاعته بطاعتهم وخدمتهم وتنفيذ أوامرهم.. فهو يكدح كدح ا لوحش والحيوان في خدمة غيره.
وسنة الله جارية أن كل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق، ومحبته وخدمته وطاعته ولو كان في معصية الله، فهو إما عبد لخالقه ومولاه، أو عبد لهواه.
ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غير الله عُذب به، وأصابه الخذلان من جهة ما تعلق به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 72].
وتمام العبودية وكمالها يكون بتكميل نوعين من أنواع التذلل والتعبد:(8/10)
أحدهما: ذل المحبة لله، بأن يشهد العبد عزة محبوبه وجلاله وعظمته، فيحمله ذلك على التقرب إليه، والتودد إليه، والتملق له، وإيثار ما يرضيه، والصبر على أوامره، والرضى بأقداره، والحمد على نعمه، والتلذذ بطاعته.
الثاني: ذل المعصية، فإذا وقع العبد في معصية أحدث له ذلك الذل والانكسار.
فإذا انضاف هذا إلى ذاك لم يبق إلا شهود عزة الله وجلاله وكبريائه، وضعف الإنسان وعجزه، وفقره وذله لربه.
ومتى شهد العبد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، فإذا ابتلي بالذنب تصاغرت نفسه وذل وخضع لربه.
ولكل اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ وصفاته عبودية خاصة تظهر على القلب والجوارح.
فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالنفع والضر، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكل على الله سبحانه.
وعلم العبد بسمع الله تعالى وبصره، وعلمه بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله.
ويجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء، ويثمر له الحياء الإكثار من الطاعات، واجتناب المحرمات.
ومعرفة العبد بغنى الله، وجوده وكرمه، وبره وإحسانه، وعفوه ورحمته يوجب له ذلك سعة الرجاء، والتضرع إلى الله، والوقوف ببابه، وسؤاله ودعائه.
ومعرفته بجلال الله وعظمته وكبريائه وعزته يثمر له الخضوع لربه، والاستكانة إليه، والمحبة له، والاعتماد عليه.
وعلم العبد بكمال الله وجماله، وجمال أسمائه وصفاته وأفعاله، يوجب له محبة خاصة.
فالمحبة نوعان:
محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكراً.
ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى، وعبادة الله عزَّ وجلَّ هي طاعته بامتثال أوامره في جميع الأحوال والأوقات.(8/11)
فالعبادة: هي الغاية من خلق الخلق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژژ) [الذاريات: 56-58].
وبعث الله بها كل رسول إلى قومه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 36].
ودعا إليها كل رسول بقوله: (? ? ? چ چ چ چ ? ??) [الأعراف: 85].
وأمر الله بها الناس جميعاً بقوله: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [البقرة: 21].
والعبادات والشعائر كالصلاة والصيام ونحوهما رباط وثيق بالله.. ولقاء كريم بين العبد ومولاه.. وضيافة عزيزة عند الله... ومعراج للنفس البشرية إلى الملكوت ا لأعلى.
إذ كيف يكون حب من الله لعبده ولا يكون لقاء؟.
وكيف يكون ود من الله لعبده ولا تكون ضيافة؟.
وكيف تكون رحمة من الله لعبده ولا تكون طاعة من العبد لربه؟.
وفي العبادة تجرد لله من كل شيء، لتدريب النفس على عدم التعلق بأحد سوى الله.
وللعبودية منازل:
الأولى: اليقظة والانتباه من النوم، فإذا استنار قلبه بعد الانتباه أوجب له ملاحظة نعم الله الظاهرة والباطنة.
ثم شاهد عظمتها وكثرتها وتنوعها، ثم يئس من عدها، ثم شاهد منَّة الله بها من غير استحقاق ولا دفع ثمن، فيرى تقصيره في شكرها، فيلهج بذكر الله وحمده.
الثانية: مطالعة الجناية بالنظر إلى ما سلف من الإساءة، فيشمر لتخليص نفسه من رق الجناية بالاستغفار والندم، ويمحص نفسه من خبث الجناية بالتوبة والاستغفار، وفعل الحسنات الماحية.
الثالثة: الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام، فيتدارك ما فاته في بقية عمره، ويستغل أوقاته فيما يقربه إلى الله عزَّ وجلَّ.
إن الإسلام ميلاد جديد للإنسان، يخضع فيه العبد لربه، ويتوجه إليه في جميع أحواله، ويمتثل أمر من خَلَقه، ويشكر من رَزَقه، ويتشرف بطاعته.
فالعبودية لله مرتبة عالية، ومنزلة سامية، ورتبة كريمة، ولا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء.(8/12)
والله سبحانه لا يريد من عباده أن يقروا له بالعبودية وأن يعبدوه وحده لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى، ولكنه سبحانه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الربوبية، وحقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية.
فلا يمكن أن تستقر التصورات، ولا أن تستقر الحياة وتنتظم إلا بهذه المعرفة الشاملة.
يريد الله تبارك وتعالى أن يستقر الإيمان في نفوس الناس وفي حياتهم، ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ليعرفوا مّنْ صاحب السلطان في هذا الكون، وفي هذه الأرض.
فلا يخضعوا إلا له، وإلا لمنهجه وشريعته، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه.
يريد سبحانه أن يعرف الناس أن العبيد كلهم عبيد فقراء، ليس فيهم رب ولا إله.
ألا ما أجمل الحياة إذا تعلقت نفوس البشر بالله وحده، وتعلقت قلوبهم برضاه، وتعلقت أعمالهم بتقواه، وتعلق نظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.
وأما ما يجزيهم به في الآخرة فهو كرم منه وفضل وفيض من عطاء الله.
والذين يستنكفون عن عبادة الله يذلون لعبوديات أخرى في هذه الأرض لا تنتهي.
يذلون لعبودية الهوى والشهوة.. أو عبودية الوهم والخرافة.. ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم.. ولهم في الآخرة عذاب أليم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
فالعبادة حق لله وحده، وقد وضعوها في غير موضعها، وصرفوها لغير مستحقها، وهذا ظلم عظيم، وعقوبته أشد عقوبة كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة الإيمان به، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرف عبودية الكل له، وعرف جلاله وجماله وكماله، فلا يبقى أمامه إلا أن يعتصم بالله وحده: (? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 101].
ولا تسكن النفوس ولا تطمئن القلوب إلا بالاعتصام بالله وحده دون سواه.(8/13)
وإذا اعتصم الناس بالله وحده، وقام شرعه في عباده، عرف كل إنسان مكانه على حقيقته، عبدٌ لله، وسيد مع كل من عداه، فالمعبود واحد، والخلق كلهم سواء في العبودية، لكنهم فريقان:
مطيعون.. وعصاة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 175].
فهؤلاء الذين أطاعوه، (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 173].
والله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في ألوهيته، وهو الخالق الواحد الذي لا شريك له في خلقه، وهو المالك الواحد الذي لا شريك له في ملكه.
فوجب بذلك أن لا يقضى شيء إلا بشرعه وإذنه.
فهو جلَّ وعلا صاحب الحق، ومالك الملك، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه.
هو سبحانه الذي يملك أن يشرع لخلقه، وهو الذي يجب أن يطاع شرعه، وينفذ حكمه، وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر الموجب للعذاب الأليم.
وهو سبحانه وحده العليم الحكيم الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب، كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء.
والمؤمنون هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي أمر بها، ويتبعون النظام والشرع الذي يرتضيه لهم، هذه كتلك سواء بسواء.
وهم يعبدونه سبحانه بإقامة الشعائر، ويعبدونه باتباع الشرائع، فكلاهما من عند الله، هذا أمره، وهذا أمره، ولا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه.
وهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، ولا يستحق العبادة أحد سواه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].
وقد حرم الله الخمر والميسر؛ لأنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة التي تصل المسلم بربه.
ويصرفان العبد عن امتثال أوامر الله والنهوض بما أمر الله به، فالخمر تنسي، والميسر يلهي، وغيبوبة السكر واللهو تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم، ليكون موصولاً بالله في كل لحظة، مراقباً لله في كل خطوة.(8/14)
ثم ليكون كذلك بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة، ودينها وشريعتها من كل اعتداء.
فالمسلم سلعة غالية، ولهذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وأعطاهم على ذلك الجنة.
فللمسلم وظائف وأعمال، وجهد وبناء، وليس متروكاً لذاته ولذّاته وشهواته، فعليه في كل لحظة حيث كان ومن كان تكاليف وأوامر من ربه تستوجب اليقظة الدائمة:
تكاليف لربه.. وتكاليف لنفسه.. وتكاليف لأهله.. وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها.. وتكاليف للإنسانية كلها يدعوها إلى ربها، ويهديها إلى خالقها.
ومجموع هذه التكاليف والأوامر هي الدين، وهي العبادة التي يتقرب بها إلى ربه، يؤديها خالصةً لربها، وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].
والناس ليسوا وحدهم في هذا الكون، حتى يكون وجودهم مصادفة، وحتى تكون حياتهم سدى وفوضى.
إن حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم، ومخلوقات أخرى لا يحصيها إلا الله، وكلها تعبد الله وتسبحه سامعة مطيعة لفاطرها كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الإسراء: 44].
وذلك كله يدل على عظمة الخالق، وحسن تدبيره، وسعة رحمته التي عمت كل خلقه، وما ترك الله شيئاً من خلقه بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه، وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها، فيقضي في أمرها بما شاء: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الأنعام: 38].
والله على كل شيء قدير، وقد شاء أن يجعل في الإنسان الاستعداد المزدوج للهدى والضلال عن اختيار وحكمة لا عن قهر وإلزام.
وكذلك الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، بمشيئته تلك التي تعين من يجاهد، وتضل من يعاند، ولا تظلم أحداً من العباد.(8/15)
والله سبحانه هو الإله الذي يستحق أن يعبد ويخضع له، ويطاع أمره، فهو خالق خلقه ومالكهم، وهو كذلك الرازق الذي يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شريك فيه.
فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يأكلونه فإنما هو من هذا الملك العظيم الخالص لله.
فإذا تقرر أن الله وحده هو الخالق المالك الرازق تقرر أن تكون الربوبية له سبحانه، وأن تكون الألوهية له سبحانه، وأن تكون العبودية خالصة له سبحانه.
فلا يُعبد ولا يطاع ولا يُشَرِّع إلا هو سبحانه، ومن له الأسماء الحسنى والصفات العلا والكمال المطلق والجلال والجمال كيف يليق بالإنسان العاقل أن يعرض عنه، ويعبد غيره؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 164].
أغير الله أبغي رباً ناقصاً عاجزاً يحكمني ويصرف أمري؟.
أغير الله أبغي رباً وهذا الكون كله في قبضته، والخلائق كلها تحت قهره وربوبيته؟.
أغير الله أبغي رباً وإليه مرجع العباد فيحاسبهم على نياتهم وأعمالهم، وعلى طاعاتهم ومعاصيهم؟.
أغير الله أبغي رباً وهو الذي خلق الناس، واستخلفهم في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في الجسم والعقل، والعلم والرزق، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟.
أغير الله أبغي رباً فأجعل شرعه شرعاً وأمره أمراً وآيات الكون وآيات القرآن كلها ناطقة شاهدة بأن الله وحده هو الرب الواحد القادر على كل شيء؟.
أغير الله أبغي رباً وهو العزيز الجبار سريع العقاب لمن عصاه، الملك الغفور الرحيم لمن تاب إليه؟.
ألا ما أظلم الإنسان وما أسفهه، وما أوحشه إذا أعرض عن ربه ومولاه، وتولاه عدوه الشيطان، وأطاع نفسه وهواه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
فسبحان العظيم الذي لا أعظم منه، وسبحان الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، الكريم الذي لا أكرم منه، الحليم الذي لا أحلم منه.
أحق من عبد، وأجود من سئل، وأرحم من ملك.(8/16)
هو الملك وكل ما سواه عبد، هو الغني وكل ما سواه فقير، هو القوي وكل ما سواه ضعيف.
ومن هذه أسماؤه وهذه صفاته وهذه أفعاله أيليق بالعاقل أن يتركه ويعرض عنه، ويعبد غيره من طاغوت عاجز أو حجر أو نبات لا يسمع ولا يبصر، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً؟: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الزمر: 64].
(ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 14].
إن الكون كله عابد لربه يسبح بحمده، السموات والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والرياح الدائرة في الجو وكافة المخلوقات في السموات والأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
وإذا كان الكون كله عابداً لربه وبارئه وفاطره كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الإسراء: 44].
فإن استكبار الإنسان عن هذه العبودية التي تؤديها جميع المخلوقات لربها، استكباره نشاز وشذوذ في الوجود، يجعل الناشز غريباً شاذاً شائهاً في الوجود، مع ما أنعم الله عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وفضّله على كثير من خلقه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الانفطار: 6-8].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 41، 42].
(? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ???) [الحج: 18].
والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإيمان به، والإنابة إليه، وطلب مرضاته.
وأخلى لسانه من ذكر ربه، والثناء عليه، وأخلى جوارحه من شكره وطاعته، فلم يرد من نفسه ذلك ونسي ربه لم يرد الله سبحانه أن يعيذه من ذلك الشر، ونسيه كما نسيه، وقطع الإمداد الواصل إليه منه، كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تنال الله من عباده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 37].(8/17)
فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، وخلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل والسوء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الحشر: 19].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 41].
فعدم إرادة الله تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم، أوجب لهم من الشر ما أوجبه.
فالذي إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير بأنواعه التي لا يحصيها إلا هو، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه.
فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة، وبعقوبته لهم به تارة، وإليهم انتهت غايته ووقوعه.
فسبحان من له الملك والحمد، العدل في قضائه، الحكيم في أفعاله.
وإذا كان الإنسان إنما يعبد ربه وحده ويستعين به وحده فقد تخلص الإنسان من استذلال غيره، وفي ذلك كمال العزة والغنى له.
والله يريد لعبده مع غيره هذا الكمال، ويريد لعبده معه الذلة والافتقار كما قال سبحانه: (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
فكمال المسلم بأمرين:
ذلته وافتقاره إلى ربه.. وعزته وغناه عما سواه.
والقوى الإنسانية بالنسبة للمسلم نوعان:
الأولى: قوة مهتدية تؤمن بالله وتتبع منهج الله، فهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون معها على نشر الحق والخير والصلاح، وهم المؤمنون بالله.
الثانية: قوة ضالة لا تؤمن بالله ولا تتبع منهجه، فهذه يجب أن يدعوها إلى الحق، فإن أبت وآذت حاربها وقاتلها كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 193].
ولا يضر المسلمين ولا يخيفهم أن تكون قوة هؤلاء ضخمة أو عاتية، فهي بضلالها عن مصدر قوتها تفقد قوتها، تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها، وتخدع بأشباحها من لا إيمان له، والمخلوقات كلها في قبضة الله، ينجي بها من يشاء ويهلك بها من يشاء: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [البقرة: 249].
وفي خلق الإنسان عجائب في ظاهره وباطنه، وفي أسراره وميوله.(8/18)
فالنفس الإنسانية فيها ميل فطري إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة.
فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ ولا تسكن ولا تستقر حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس وتطمئن به، يتم في الحس كما يتم في النفس، فحينئذ تهدأ وتستريح، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً.
وعلى هذا الأساس الفطري الذي فطر الله الإنسان عليه، شرع الله الشعائر التعبدية كلها كالصلاة والصيام والأذكار ونحوها.
فهذه الشعائر لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلاً ظاهراً كالقيام والركوع والسجود والتكبير والقراءة في الصلاة، والإحرام من الميقات واللباس المعين والطواف والسعي والدعاء والتلبية والنحر والحلق في الحج، والنية، والامتناع عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.
وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة؛ ليؤلف الله بين ظاهر الإنسان وباطنه، ويلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي.
وكذلك النهي عن التشبه بالكفار كاليهود والنصارى وغيرهم في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعرهم الباطنة.
فنهى الله عزَّ وجلَّ عن التشبه بهم في مظهر أو لباس أو حركة أو سلوك؛ لأن ذلك يجر إلى التشبه بهم في الباطن.
ثم الله عزَّ وجلَّ نهى عن التلقي من غير الله، ونهى عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم في الأرض، فالهزيمة الداخلية هي التي تندس في النفس لتقلد هذا المجتمع.
وقد أخرج الله المسلمين وبعثهم ليكونوا في مكان قيادة البشرية، فعليهم أن يستمدوا طريقة حياتهم كما يستمدوا عقيدتهم من المصدر الذي خلقهم واختارهم للقيادة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].(8/19)
والمسلمون هم الأعلون، وهم الأمة الوسط، وهم خير أمة أخرجت للناس، فلا يليق بهم أن يأخذوا من الأقل منهم، ويقلدوا الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه، فالإيمان لا يطيق له في القلب شريكاً، ولا يقبل شعاراً له غير الشعار الذي جاء عن الله ورسوله، وجعله الله مميزاً لهذه الأمة عن غيرها في الشعائر والشرائع، والآداب والأخلاق.
ومعرفة المسلم بأن غاية وجوده هو العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله، من شأنه أن يرفعه إلى الأفق الأعلى، والأدب الأسنى مع أوامر ربه، فهو يسمع ويطيع لأن الله وعده على ذلك الجنة.
فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله.. وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه، وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض.
فالأولى به أن لا يطغى ولا يتجبر، وأولى به أن لا يتعسف ولا يستعجل، وأن لا يركب الصعب من الأمور.
فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة، والعمل الدائب المسنون في حدود طاقته.
فلا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، ولا يستبد به القلق، فكل شيء بقدر، وهو يعبد ربه في كل خطوة، ويحقق غاية وجوده في كل خطرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].
والخلق جميعاً يقفون أمام الرب وأمام الإله موقف العبودية، لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع الذي لا يتقدم بين يدي ربه، ولا يجرؤ على الشفاعة عنده إلا بإذنه.
فالعبودية لازمة لكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 93].
أما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد، فإن القرآن يسكبها في النفس سكباً، ويملأ بها قلب المؤمن، ويفيضها عليه، ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة: محباً لربه، شاكراً له، معظماً له، مسروراً بقربه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
والله جل جلاله وحده هو الملك العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ، العلي العظيم، القوي القدير.(8/20)
وما يتطاول أحد إلى هذا المقام العظيم إلا ويرده الله إلى الخفض والهون، وإلى العذاب والهوان في الآخرة.
ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم، والافتقار إليه في جميع الأحوال والأوقات.
وإذا علم العبد أن ربه الملك القوي العزيز العليم، وإلهه العلي العظيم الكبير، ثاب إلى مقام العبودية، واقفاً بين يدي ربه، ساجداً له، معظماً له، شاكراً له، محباً له، خاشعاً منكسراً بين يديه لما يراه من عظمته وجلاله وجماله وإحسانه، وتطامن كبرياؤه وطغيانه، ورده ذلك إلى مخافة الله ومهابته، وإلى الشعور بجلاله وعظمته، وإلى الأدب في حقه، والتحرج من الاستكبار عن عبادته وطاعته.
فما أعظم مقام العبودية، وما أسعد أهلها، وما أوفر وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، وذلك لا ينال إلا بالإيمان والتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگگ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 15-17].
ولا قيمة لعمل ولا جزاء على بذل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان، وإلا أن يكون باعثه الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [النور: 39].
وما كان الخلاف على مدار الزمن بين الجاهلية والإسلام، ولا كانت المعركة بين الحق والباطل على ربوبية الله سبحانه للكون، وتصريف أموره، وتدبير أحواله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 31، 32].
إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس؟ ومن يكون ملك الناس؟ ومن يكون إله الناس؟.
لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذه الحقوق، ويزاولونها في حياة الناس، ويذلونهم بهذا الاغتصاب والاعتداء على حق الله، ويجعلونهم عبيداً لهم من دون الله.(8/21)
وكانت الرسل تجاهد دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت، ورده إلى صاحبه ومالكه الشرعي وهو الله سبحانه الذي له الخلق والأمر في الكون كله.
إن العبادة: هي الدينونة لله وحده في كل شأن من شئون الدنيا والآخرة، فإن (عبد) معناها: (دان وخضع وذل) سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس.
ولما بهت مدلول الدين والعبادة في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الكفر هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان والقبور مثلاً، وأن الإنسان متى تجنب ذلك فقد بعد عن الشرك والجاهلية، وأصبح مسلماً لا يجوز تكفيره، وهذا وهم باطل، وتبديل وتغيير لمفهوم العبادة التي هي الدينونة الكاملة المطلقة لله في كل شأن، ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن.
كما جاء ذلك صريحاً في كتاب الله في قوله سبحان: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].
والفعلة العظيمة التي استحقت بها الأمم السابقة الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن فقط هي مجرد أداء الشعائر التعبدية لغير الله، فهذه صورة من صور الشرك الكثيرة التي جاء نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ليخرجوا الناس منها إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
إنما كانت الفعلة النكراء التي استحق بها الكفار العذاب هي جحود آيات الله، وعصيان رسله، والكفر به، واتباع أمر الجبارين والطغاة من عبيده كما قال سبحانه عن عاد: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [هود: 59].
ومتى عصى أقوام أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله، بأن لا يدينوا لغير الله، فدانوا للطواغيت، فقد جحدوا بآيات ربهم، وعصوا رسله، وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك.(8/22)
وقد بين الله ذلك مفصلاً في سورة الأنعام عن مشركي قريش، وبين فيها أن إقامة الحياة على غير منهج الله، واتباع الطواغيت في التحليل والتحريم، واتباع شرع لم يأذن به الله، وعبادة الأصنام والتوجه إليها بالعبادة كله ضلال وشرك: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 140].
فهذا كله من الشرك الذي حذر الله منه.
كما حكى الله سبحانه في سورة الأعراف وهود أحوال الأمم المكذبة للرسل، والتي أشركت مع الله غيره سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 65].
وقال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 84].
إن توحيد الربوبية.. وتوحيد الألوهية.. وتوحيد مصدر الشريعة.. وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة.. هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، حتى يكون الله وحده هو المعبود، وهو المطاع دون سواه، وهو الذي يستحق أن تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأوقات والجهود؛ لأن الله في حاجة إلى ذلك، فالله سبحانه غني عن العالمين، وغناه وصف لازم لذاته.
ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم، ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في صلاح الحياة البشرية في كل زمان وفي كل مكان، وهم أحوج إليه من الطعام والشراب.
وما ينال الأمم من العذاب والهلاك، والتدمير واللعنة إلا بسبب ترك التوحيد وترك عبادة الله عزَّ وجلَّ، ومزاولة الشرك في الحياة.
لقد هلكت عاد؛ لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد، هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 60].
وثمود قوم صالح صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقال: (? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 61].(8/23)
فلم يؤمنوا، فابتلاهم الله بالناقة فقتلوها مستهزئين ساخرين، وعقروها غير مبالين كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [هود: 64].
فجاءهم عذاب الله فأهلكوا بالصيحة، ونجى الله صالحاً والمؤمنين معه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [هود: 66].
إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن التوحيد لا يقف عند حد في ضلاله وشروده.
حتى إن الحق الواضح الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها، بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى فطرة أو عقل أو حس.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقالوا: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [ص: 5].
فأي حماقة وأي جهل وأي سفه وراء هذا القول؟
ونوح وهود وصالح دعوا أقوامهم إلى لا إله إلا الله، فقال ملؤهم لكل نبي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الاعراف: 66].
والأمم السابقة واللاحقة كلهم فطرهم الله على التوحيد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 30].
فلم يكونوا يجحدون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 9].
ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله، بما ينبغي أن يتبع من عبادة الله وحده، والدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع، وهو ما يدعوهم إليه كل نبي بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 84].
وما تستقيم عقيدة الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض.
فلا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد أبداً.
والشرك بالله ألوان، منه هذا اللون الذي يعيشه كثير من الناس اليوم، وهو يمثل أصل الشرك الذي يلتقي عليه المشركون في كل زمان ومكان.(8/24)
إن العبادة من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة لله، وإن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ونبذ ما يعبد من دونه، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شريعة الله في كل شأن من شئون الحياة.. والتعامل.. والتجارة.. وتداول الأموال وغيرها.
فلا بدَّ من طاعة الله في كل ذلك وتنفيذ أمره كما قال شعيب صلى الله عليه وسلم لقومه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [هود: 84، 85].
والشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي يزاوله كثير من الناس اليوم وقبل اليوم، فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر التعبدية والشرائع والتعامل.
وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
لقد انحسر مفهوم الدين.. ومفهوم التوحيد.. ومفهوم العبادة.. عند كثير من المسلمين.. بسبب جهلهم وغفلتهم.. وزحزحة شياطين الإنس والجن لأوامر الله من حياتهم.
فهم يستنكرون لهذا وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، ووجود صلة بين التوحيد والمعاملات، فيتساءلون في استنكار:
ما للإسلام والسلوك الشخصي؟.
ما للإسلام وحرية اللباس؟.
ما دخل الإسلام في لباس المرأة؟.
ما للإسلام والمعاملات الربوية؟.
وما للدين والمهارة في الغش والاحتيال؟.
إن جهالة هؤلاء أشد جهالة من جاهلية أهل مدين الذين أرسل الله لهم شعيباً، ليعبدوا الله وحده فتكون حياتهم لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن العبادة عن شرائع الحياة.
فكلها تابعة لأمر الله وشرعه وحكمه، وبتنفيذها تتحقق العبودية الكاملة لله وحده.
وجاهلية اليوم تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود كما قال قوم شعيب له متهكمين ساخرين به: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 87].(8/25)
فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق.
إن صلاح الحياة والمجتمع أن يعيش الإنسان آدمياً مؤمناً بربه، عابداً له، مطيعاً له في جميع أحواله.
وقد يخيل لبعض الناس أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ويضيع بعض الفرص، وهذا ليس بصحيح، بل إنه يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة النجسة، ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متآخياً متعاوناً، لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام.
إن العبادة هي الحكم من جانب الله، والعبودية والطاعة من جانب البشر في كل أمر، وهذا وحده هو الدين القيم كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يوسف: 40].
إن العبودية لله لا تستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم كالدينونة القهرية لله في القدر، فكلاهما من العقيدة اللازمة.
والله الواحد القهار في غنى عن العالمين، فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح، والعمل وعمارة الأرض وفق منهجه، فيعد لهم هذا كله عبادة يؤجرون عليها.
وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم؛ لأصلاح حياتهم وواقعهم، ليسير الناس في جميع أمورهم وفق أمر الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو مفهوم العبادة الشامل الكامل.
إنها الدينونة لله وحده في كل شيء.. والخضوع لله وحده.. واتباع أمره وحده.. سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية.. أو تعلق بتوجيه أخلاقي.. أو تعلق بشريعة في الحياة.. فالدينونة في هذا كله لله وحده لا شريك له هو مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم يجعلها لأحد من خلقه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يوسف: 40].
فالكون كله يسبح الله عبودية وطاعة لله: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الاسراء: 44].(8/26)
إن كل ذرة في هذا الكون الكبير تنتفض روحاً حية، تسبح الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة ترتفع في جلال ودوام إلى الخالق الكبير المتعال.
وإنه لمشهد كوني فريد حين يتصور القلب كل حصاة، وكل حجر، وكل ذرة، وكل حبة، وكل ورقة، وكل زهرة، وكل ثمرة، وكل نبتة، وكل شجرة، وكل حشرة، وكل زاحفة، وكل طير، وكل حيوان، وكل إنسان، وكل دابة على الأرض، وكل سابح في الماء، وكل طير في الهواء، وكل مختبئ في الأرض، ومع هؤلاء سكان السماوات، وكلها تسبح الله، وتتوجه إليه في علاه ناطقة بحمده، مسلمة لأمره: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الجمعة: 1].
وإن القلب ليرجف، وإن الوجدان ليرتعش، وهو يستشعر الحياة تدبُّ في كل ما حوله فيما يراه وفيما لا يراه.
وكلما همت يده أن تلمس شيئاً، وكلما همت رجله أن تطأ شيئاً، وكلما همت عينه أن ترى شيئاً، سمعه يسبح الله، وينبض بالحياة، ويدين لربه بالطاعة: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الاسراء: 44].
ألا ما أجهل البشر، وما أعظم غفلتهم، وما أشد تقصيرهم.
إن كل ذرة في هذا الكون تسبح الله عزَّ وجلَّ.
فأين البشر في ظل هذا الموكب العظيم من الكائنات والمخلوقات العظيمة الهائلة التي تسبح بحمد الله؟
إن البشر في جحود.. وفي غفلة.. وفيهم من يكفر بالله.. وفيهم من يشرك بالله.. وفيهم من ينسب له البنات.. وفيهم من لا يقدر الله حق قدره.. وفيهم من يغفل عن تسبيحه وحمده.
إن البشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد، والمعرفة والتوحيد، لما أكرمهم الله به من العقول، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ووافر النعم، فماذا يريدون فوق ذلك؟.
(? ? ? ??) [المرسلات: 50].
ولولا حلم الله وعفوه ومغفرته لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر، ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم إنه كان حليماً غفوراً.(8/27)
إن الروح حيث تشف وتصفو، فتسمع لكل متحرك أو ساكن، وهو ينبض بالروح، ويتوجه بالتسبيح لبارئه وفاطره، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى، وتدرك من أسرار الوجود ما لايدركه الغافلون.
إن العبادة في الإسلام ليست هي مجرد الشعائر فقط، إنما هي كل عمل.. كل نشاط.. كل حركة.. كل خالجة.. كل نية.. كل اتجاه.. وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه، وأن يتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف، ومن كل التفات.
وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق طعمها، ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، وإلا بالصبر عليها.
إنها مشقة تحث إلى الصبر والاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء، خالصاً من أوشاب الأرض، وأوهاق الحاجات، وشهوات النفس، ومطالب الحياة.
إنه منهج حياة كامل يعيش الإنسان وفقه وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله، فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهرة.
وإنه لمنهج عال يحتاج ويستحق الصبر والمجاهدة والمعاناة، ليرتقي الإنسان سامعاً مطيعاً إلى أفق المثول بين يدي الرب المعبود في جميع أحواله (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [مريم: 65].
وإنه لمن العجيب حقاً أنه مع ظهور الدلائل والبراهين في الآيات الكونية، والآيات الشرعية، لا يزال هناك من يجادل في الله، والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريباً مستنكراً، فكيف إذا كان جدالاً بغير حق، وبغير علم، لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على معرفة، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل، ويوضح الحق، ويهدي إلى اليقين؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الحج: 8، 9].
هذا المستكبر المتعجرف لا يكتفي بأن يَضل، إنما يحمل غيره على الضلال، هذا المستكبر الضال المضل لا بدَّ أن يقمع، ولا بدَّ أن يحطم.(8/28)
فله في الدنيا خزي وهو المقابل للكبر، وقد يمهله الله أحياناً ليكون الخزي أعظم، والتحقير أوقع، أما عذاب الآخرة فهذا أشد وأوجع: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الحج: 10].
ومن الناس كذلك فرقة سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل أهل الحق، وهؤلاء في غاية الجهل، وليس عندهم من العلم شيء، وغاية ما عندهم تقليد أئمة الضلال من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحج: 3، 4].
وهذا نائب إبليس حقاً، فقد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس، وهو متبع لكل شيطان مريد.
ويدخل في هؤلاء جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة يجادلون بغير علم ولا هدى.
ومن آيات الله العجيبة أنك لا تجد داعياً من دعاة الكفر والضلال إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة والبغض، والذم والكره ما هو حقيق به، وكل بحسب أحواله وأعماله وفجوره.
كما أن كل داع من دعاة الحق والهدى له من الإجلال والإكرام والاحترام والمحبة والمودة ما هو جدير به، وكل بحسب علمه وجهده وصلاحه وتقواه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [مريم: 96].
ومن الناس من هو ضعيف الإيمان لم يدخل الإيمان في قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه إما خوفاً وإما عادة، على وجه لا يثبت عند المحن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الحج: 11].
فهذا إن استمر رزقه رغداً، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير لا بإيمانه، فهذا ربما أن الله يعافيه، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه أو زوال محبوب ارتد على وجهه وترك دينه فخسر الدنيا، فلم يحصل له ما أمله بالردة وخاب سعيه، وخسر الآخرة فحرم الجنة وأدخل النار.(8/29)
إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو عليها، فهي الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند إليه، يأوي إليها ويطمئن بها فهو موصول بالله دائماً.
أما من يجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة، إن أصابه خير اطمأن به، وقال: إن الإيمان كله خير، فها هو يجلب النفع، ويدر الضرع، وينمي الزرع، ويربح التجارة.
وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه.
وخسر الآخرة بردته وانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسراً له.
والمؤمن يعبد ربه شكراً له على هدايته له، وعلى اطمئنانه للقرب منه، والأنس به، ولمعرفته بجلاله وجماله وكماله يتوجه إليه بالعبادة وحده دون سواه.
فإن كان هناك جزاء من الرب لعبده فهو فضل من الله ومنة، لا استحقاقاً على الإيمان والعبادة، فإن الإنسان كغيره عبد لله، والعبد مملوك لسيده، ومنعم عليه بجزيل النعم، وماذا عساه أن يؤدي شكر نعمة من النعم التي لا تحصى: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [ابراهيم: 34].
والمؤمن لا يجرب إلهه فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجريه عليه، راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء، وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار، إنما هي إسلام المخلوق للخالق، وهناك السعادة والسلامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 112].
والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب، يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى، إلى جوار خسارة المال أو الولد أو الصحة أو غيرها مما يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره.
ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان، فيا له من خسران، بل ذلك هو الخسران المبين.(8/30)
فما أضل من يرتد على وجهه عند حصول الفتن، حيث أعرض عن ربه الذي بيده كل شيء، النفع والضر، والعطاء والمنع، وأقبل على مخلوق مثله أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب فما أضله.. وما أخسره.. وما أشد حسرته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 12، 13].
إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر إلا بالاستعانة بالله.
فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء.
وأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة، ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة، فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء، وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 15].
وإذا كان كثير من الناس ضالين عاصين، مستكبرين عن طاعة ربهم، مخالفين لأمره، غافلين عن آيات ربهم، فإن هذا الكون العظيم الهائل ما عداهم يتجه بفطرته إلى خالقه، خاضعاً لربه، ساجداً لوجهه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ???) [الحج: 18].
وإذا تدبر الإنسان وتفكر.. فإذا حشد عظيم من الخلائق في السماوات والأرض، مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وإذا حشد من الأفلاك والأجرام مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، وإذا حشد كذلك من الجبال والأشجار والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان، إذا بتلك الحشود من الخلائق كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله وتتجه إليه وحده دون سواه إلا ذلك الإنسان، فهو وحده الذي افترق ما بين مؤمن وكافر، وشاكر وجاحد للحق: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 55].(8/31)
وإذا استقر الإيمان في قلب الإنسان حرك جوارحه للعمل والطاعة، وكلما قوي الإيمان قويت العبادات، وزادت الطاعات.
ولم يشرع الله أمراً فوق طاقة البشر، ولم يكلفهم إلا بما يستطيعون، وقد شرع سبحانه التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس، وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة.
لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون، ولا يبخسهم شيئاً مما يعملون، وكل ما يعملونه محسوب في سجل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 62].
وإنما يغفل الغافلون من البشر؛ لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسها نوره المحيي؛ لأنشغالها عنه، واندفاعها في غمرة النية وسط غمرة من الجهل والظلم، والإعراض تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن والانتفاع به: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [المؤمنون: 63].
إن الكون كله يسبح الله.. سماواته وأرضه.. إنسه وجنه.. أملاكه وأفلاكه.. أحياؤه وجماده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 41].
إن الإنسان ليس وحده في هذا الكون الفسيح، بل حوله، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته، وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال خلائق لا يحصيها إلا الله.
لها طبائع شتى، وصور شتى، وأحجام شتى، ووظائف شتى.
ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده.
والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى ما حوله من خلق الله، وهم يسبحون بحمده وتقواه، كل قانت لربه، عابد له، كل قد علم صلاته وتسبيحه.
والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه، وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح، والعبودية والطاعة.
إن الله تبارك وتعالى هو العلي العظيم، وكتابه عظيم، ورسوله عظيم، ودينه أعظم الأديان وأحسنها، وهذه الأمة عظيمة ما آمنت بربها، وتمسكت بكتابه، وأطاعت رسوله، واهتدت بهديه.(8/32)
إن الإسلام الذي أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ليس فقط مجموعة إرشادات ومواعظ.. ولا مجموعة آداب وأخلاق.. ولا مجموعة شعائر وشرائع.. إنه يشتمل على هذا كله.. ولكن هذا كله ليس هو الإسلام.
إنما الإسلام هو الاستسلام لله، والاستعداد ابتداء لطاعة أمره ونهيه، واتباع المنهج الذي أنزله، دون الالتفات إلى أي توجيه آخر، ودون الاعتماد كذلك على أحد سواه.
وهو الشعور بأن البشر في هذه الأرض خاضعون للرب الواحد، الذي يصرفهم كما يصرف هذا الكون كله، كما يصرف العالم العلوي والسفلي وما بينهما من الكائنات والمخلوقات، ويدبر أمر الوجود كله ما خفي منه وما ظهر، وما غاب منه وما حضر، وما تدركه منه العقول وما لا تدركه.
وهو اليقين بأنهم ليس لهم من الأمر شيء إلا اتباع ما يأمرهم به الله، والانتهاء عما ينهاهم عنه، والأخذ بالأسباب التي يسرها لهم، وارتقاب النتائج التي يقدرها الله تعالى.
هذه هي القاعدة والأصل الذي يقوم عليه كل شيء.
ثم يأتي بعد ذلك العمل ممثلاً في الشعائر والشرائع.. والآداب والأخلاق.. والسنن والأحكام، بوصفها الترجمة العملية لمقتضيات العقيدة المستكنة في القلب، والآثار الواقعية لاستسلام النفس لله، والسير على منهجه في الحياة.
فالإسلام عقيدة، ينبثق منها شريعة، يقوم على هذه الشريعة نظام، فهذه الثلاثة مجتمعة هي الإسلام الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة.
ولتحقيق هذا الإسلام لا بدَّ من تقوى الله، فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى، وهي الحارس القائم في أعماق القلب على التشريع والتنفيذ.
وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه.
والتوجيه الثاني: النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وعدم الاستماع إلى رأيهم، أو اتباع توجيههم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 1].(8/33)
وهذا الأمر.. وهذا النهي.. باق في كل بيئة.. وفي كل زمان.. وفي كل مكان.
فعلى المؤمنين أن يتقوا الله في كل حال، وعليهم أن يحذروا من اتباع آراء الكافرين والمنافقين إطلاقاً، سواء في أمر العقيدة، أو أمر التشريع، أو في منهج الحياة.
ليبقى منهجهم خالصاً لله، غير مشوب بتوجيه سواه.
لا ينخدع أحد بما عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف، فإن الله سبحانه هو العليم الحكيم، وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته، وما عند البشر شيء، وليس بأيديهم شيء.
أما التوجيه الثالث المباشر فهو: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [الأحزاب: 2].
فهذه هي الجهة المأمونة التي تجيء منها التوجيهات، وهذا هو المصدر الجدير بالاتباع، فهو سبحانه العليم الذي يوحي عن خبرةٍ بكم وبما تعملون، وهو الذي يعلم حقيقة ما تعملون، ودوافعكم للعمل.
أما التوجيه الأخير فهو: (? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 3].
فلا يهمنك أكانوا معك أم عليك؟، ولا تحفل بكيدهم ومكرهم، وألق بأمرك كله إلى الله يصرفه بعلمه وقدرته كما يشاء.
وهذه القواعد الثلاث:
تقوى الله.. واتباع وحيه.. والتوكل عليه.. مع مخالفة الكافرين والمنافقين.. هي العناصر التي تزود المسلم بالرصيد، وتقيمه في مجال العبادة والدعوة والتعليم والجهاد، متقياً لربه، متبعاً لوحيه، متوكلاً عليه.
إن قلب الإنسان واحد فـ (? ? ? ? چ چ چ چ?) [الاحزاب: 4].
إنه قلب واحد، فلا بدَّ له من منهج واحد يسير عليه، ولا بدَّ له من تصور كلي واحد للحياة يستمد منه، ولا بدَّ من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوم به الأحداث والأشياء، وإلا تمزق وتفرق، ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.(8/34)
ولا يملك الإنسان، ولا يليق به، لا يحق له، ولا يحسن منه أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين.. وأن يستمد شعائره من معين آخر.. وأن يستمد شرائعه من معين ثالث.. وأن يستمد تنظيم أو صناعة في شئون الحياة من معين رابع.. وأن يستمد تصوراته من معين خامس.
فهذا الخليط المشروب من جهات شتى.. لا يكوِّن إنساناً له قلب مستقيم.
إن صاحب العقيدة لا يتجرد من مقتضياتها في موقف واحد من مواقف حياته كلها صغيراً كان هذا الموقف أو كبيراً.
فلا يتكلم كلمة ولا يتحرك حركة، أو ينوي نية إلا حسب عقيدته؛ لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة، في كل حالة من حالاته على السواء.
وبهذا القلب الواحد الثمين يعيش فرداً، ويعيش في الأسرة، ويعيش في المجتمع، ويعيش في الدولة، ويعيش في العالم، ويعيش سراًَ وعلانية، ويعيش عاملاً، ويعيش صاحب عمل، ويعيش حاكماً أو محكوماً، ويعيش في السراء والضراء.
فلا تتبدل موازينه.. ولا تتبدل قيمه.. ولا يتغير تصوره.
فهو قلب واحد، يؤمن بإله واحد، ويعمل بوحي واحد، ويسير على منهج واحد، ويستسلم لرب واحد، وهو الله وحده.
فالقلب الواحد لا يعبد إلهين، ولا يخدم سيدين، ولا ينهج منهجين، ولا يتجه اتجاهين.
وما يفعل شيئاً من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق، ويتحول إلى أشلاء وركام، وذلك هو الضلال البعيد.
فهل بعد هذا من بيان؟ وهل فوق هذا من برهان؟
(? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [ق: 37].
إن الله خلق الجن والإنس لغاية معينة، وهي عبادته وحده لا شريك له، وهذه وظيفة عظيمة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد.
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بخالق الكون هي عبادة الله، بأن يكون هناك رب وعبد، وأن تستقيم حياة العبد على أوامر الرب سبحانه في جميع الأحوال.(8/35)
فمدلول العبادة أوسع من مجرد إقامة الشعائر، فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر فقط، والله لا يكلفهم هذا وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم أوقاتهم.
أما الإنس فنعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان من القرآن من قوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [البقرة: 30].
فالخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني، وهي تتطلب ألواناً من النشاط في عمارة الأرض، والتعرف على قواها وطاقاتها، وتحقيق مراد الله في الانتفاع بها، وتنفيذ أوامره عند استخدامها.
كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، وتنفيذها في عباده. فالعبودية تقوم على أمرين:
أحدها: استقرار معنى العبودية لله في النفس، والشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد.
الثاني: التوجه إلى الله بكل هاجس في القلب، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر.
وبهذا وذاك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد، والرضى بقدر الله، كلها عبادة، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه مخلوق للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له، لا أرب له فيها ولا غاية من ورائها إلا الطاعة لربه ومولاه.
وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة، ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً، وفضلاً عظيماًَ.
فهو يقوم بالخلافة في الأرض وينهض بتكاليفها، وفي الوقت ذاته ينفض يديه منها خالص القلب من جواذبها.
ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها هي، ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ثم الفرار إلى الله تعالى منها.(8/36)
ومن مقتضيات معنى العبادة أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها، فالإنسان غير معلق بالنتائج، إنما هو معلق بأداء العبادة، في القيام بهذه الأعمال وتنفيذ تلك الأوامر، ولأن الجزاء ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها، ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيراً كاملاً تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال.
فينظر فيها ابتداءً إلى معنى العبادة الكامن فيها، ومتى تحقق هذا المعنى انتهت مهمته، وتحققت غايته.
أما النتائج فأمرها إلى الله، ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد، وشعر أنه أخذ نصيبه وضمن جزاءه بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل، فلن تبقى في قلبه بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب على أعراض هذه الحياة.
فلا يكون حافز المسلم على العمل هو الحرص على تحصيل الرزق فهو مضمون، بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة في طلب الرزق بامتثال أوامر الله فيه.
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق، أفق العبادة في كل أمر، بتحقيق العبودية لله فيه، ويستقر عليه، فإن نفسه تأنف من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة، ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله، وجعل كلمة الله هي العليا.
فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة العالي الكريم، ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات، تحقيقاً لمعنى العبادة في الأداء، أما الغايات فموكولة إلى الله، ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله.
وبهذا يستمتع العبد براحة القلب وطمأنينة النفس، وصلاح البال في جميع الأحوال، سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها، فهو قد أنهى عمله وضمن جزاءه، عند تحقق معنى العبادة.
وقد علم أنه عبد، وعلم أن الله رب، فلم يعد يقتحم فيما هو من شئون الرب، ولا يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد، واستقرت مشاعره عند هذا الحد.(8/37)
إن هذا الكون العظيم كله مرتبط ارتباط العبودية بخالقه المبدع، والكون خليقة حية ذات روح، روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن، ولكنها في حقيقتها واحدة.
ولقد أدرك العقل البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية والكون كله، وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه.
إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه، وهي الحركة الأصيلة، محركة ظاهره إنما هي تعبير عن حركة روحه، وهي حركة العبودية لله، والتي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها: (گ گ گ گ ? ? ??) [الاسراء: 44].
وقوله سبحانه: (? ? ) [الرحمن: 6].
وتأمل هذه الحقيقة، وتأمل الكون في عبادته وتسبيحه، مما يمنح القلب البشري متاعاً عجيباً، وأنساً ولذة، وفرحاً وسروراً، وهو يشعر بكل ما حوله حياً يعاطفه، ويتجه معه إلى خالقه، وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها، وهي تدب فيها جميعاً، وتحيلها إخواناً له ورفقاء، يؤدون وظائفهم معاً، ويعبدون ربهم معاً.
إن كل من في السماوات والأرض متوجه إلى ربه بالعبادة، يسبح الله في كل حين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لأعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أبْعَثَ، إِنِّي لأعْرِفُهُ الآنَ» أخرجه مسلم(1).
فسبحان من له العزة الغالبة، والحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والقدرة القاهرة، والإحاطة التامة، والعلم الشامل.
وهو المهيمن على كل شيء بقوته، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته، إن كل شيء في السماوات والأرض يسبح الله تسبيح المملوك لمالكه المتفرد، الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 41، 42].
فحين نقول في الصلاة: (الله أكبر) فإننا نستحضر كبرياء الله وعظمته وجلاله، ونراه مهيمناً على هذا الكون، متفرداً بالتصريف والتدبير.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2277).(8/38)
وحين نقول: (الحَمْدُ لِلّهِ) فإننا نستحضر مستوجبات الحمد، وهي نعم الله الظاهرة والباطنة في العالم العلوي وفي العالم السفلي.
وحين نقول: (رَبّ العَالمين) فإننا نستحضر نعم الربوبية من خلق وإيجاد من عدم، إلى كون مليء بالنعم التي تعطى بلا مقابل، إلى إخضاع لقوى الكون لخدمة الإنسان، إلى منهج إلهي يحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة.
وحين نقول: (الرَّحْمن الرَّحِيم) فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وفتح باب التوبة، وكل ما وضعه الله سبحانه من رحمة وسعت كل شيء في هذا الكون.
وحين نقول: (? ? ??) فإننا نستحضر يوم الحساب، وكيف أن الله سبحانه سيجزينا خير الجزاء، ويعطينا نعيماً وجنة وفق ما يريد.
فإذا استعرضنا ذلك كله، واستحضرناه، وعرفنا هذه النعم، وهذا الرب الرحيم، فما المطلوب منا؟
المطلوب هو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).
أي أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والعبادة: هي الخضوع، والصلاة عبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله.
والله عزَّ وجلَّ أمرنا بالخضوع له أمام الناس علناً، أن أسجد وأضع رأسي مكان قدمي، وأعلن خضوع ذاتي لله أمام البشر كلهم، أعلن عبوديتي لله، وذلك حتى لا أستكبر.
والله سبحانه يريد الناس جميعاً عبيداً له وحده لا شريك له.
لذا يستوي في العبودية وفي إعلان الخضوع لله الغني والفقير، والكبير والصغير، والملك والعبد، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى، والقوي والضعيف.
وقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون مثلاً أعلى للبشرية كلها في كل شيء، في العبادة لله عن حب وإيمان، وذل وخضوع.
وخضوعنا للرب الملك القادر والقاهر شرف لنا، بل هو قمة الشرف لنا، فالله بعظمته وجلاله وجماله وكماله يجعل الخضوع له شرفاً لنا، فنحن لا نخضع لمساوٍٍ لنا، ولا لمن فوقنا درجة، ولا لمن فوقنا درجات، ولا لأي مخلوق في الكون مهما كان.(8/39)
بل نخضع لخالق الكون كله، ومهما بلغت القوى التي فوقنا، فإن لكل قوة في الكون قدرة لا تتجاوزها.
ولكن الله سبحانه وتعالى فوق كل قدرة، وفوق كل قوة، وفوق كل شيء، والأصل في الحياة أن يخضع الأدنى للأعلى، ولكن الله سبحانه وتعالى حررنا من هذه العبودية، بأن جعلنا لا نخضع لسواه، فله الحمد والشكر على هذه النعمة.
ولجهل الإنسان بربه فقد عبد مخلوقات يعتقد أنها تنفعه، وتدفع عنه ما يضره، كالشمس والقمر، والنار والريح، والأصنام، والملائكة، والجن والقبور وغيرها.
وينتقل من عبودية إلى عبودية أخرى، يصور له جهله أشياء، ويصور له خوفه أشياء، ويصور له حبه أشياء.. وهكذا.
فخضع الإنسان للإنسان، وخضع للحيوان، وخضع للجماد.
وفي كل خضوعه كان يعطي ولا يأخذ، ويعطي الذهب والفضة للمعابد ولا يأخذ شيئاً، ويدعو وينادي ويستغيث ولا مجيب له.
والله يريد منه أن يتحرر من عبادة تلك المخلوقات الهزيلة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 71].
ويريد منه أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 58].
فالله عزَّ وجلَّ بعبادته يريد أن ينجيك من عبادة ما سواه، والتي ليس وراءها نفع ولا طائل، بل فيها أعظم الضرر على القلوب والأبدان والحياة.
والله تبارك وتعالى وحده هو الذي إذا طلبته وجدته، وإذا سألته أجابك، فهو القائم على كل نفس، الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم.
وهو القوي، وقوته أزلية مطلقة.. وهو القادر وقدرته لا تزول.. وهو الحاكم وحكمه لا ينتهي.. وكلمته هي النافذة في كل وقت.. وفي كل عصر.. وفي كل زمان.. وفي كل مكان.. وهو الباقي حين يزول الجميع.. وهو القوي حين يضعف كل شيء.. وهو القادر حين تزول القدرة عن الدنيا كلها، وهو الغني وكل ما سواه فقير.(8/40)
وهو الذي يبدل العسر يسراً.. والظلام نوراً.. والضيق فرجاً.. والذلة عزة.. والمرض صحة.. والبلاء عافية.
ولا يطلب لذلك كله ثمناً ولا جزاءً، بل يعطينا الأجر الجزيل إذا سألناه ذلك وطلبناه منه.
فكل ما سوى الله وكل ما دون الله هو سراب وأوهام وشيء ضائع وزائل، ولكن الباقي هو الله، والملك الذي لا ينازعه أحد في ملكه هو الله، والذي بيده كل شيء هو الله: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [آل عمران: 26].
ومن كانت هذه صفاته وهذه أفعاله فعلينا أن نتوكل عليه وحده دون سواه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النمل: 79].
وما دام الله يأمرنا أن نتوكل عليه وحده، وهو حسبنا ونعم الوكيل، فعلى العبد إذا قصد حاجة أن يقول: اللهم أعني، وإذا أراد أن يعمل عملاً أن يقول: اللهم يسِّر لي، وإذا كان هناك ما يؤرقك فقل: اللهم أذهب عني هذا الهم والبلاء؟.
وإذا كنت تواجه شيئاً عسيراً فاطلب العون من الله، وتوكل على الحي الذي لا يموت، فإنه يراك ويسمعك، والذي لا يعتمد على الحي الذي لا يموت يعيش في ذل وشقاء دائم، وخوف دائم مما قبل الموت، ومما بعد الموت، وهذا الخوف يدفع الإنسان إلى حياة بائسة بغيضة.
والذين يتمسكون غالباً بالدين وبمنهج العبادة هم الضعفاء، ولكن لماذا؟.
لأن ضعفهم نشأ من اغتيال حقوقهم وكسبهم من الأغنياء، الذين يريدون بقاء السيادة لهم، ويريدون أن يُعبدوا من الناس.
فهناك دائماً إنسان قوي في الظاهر لا يريد منهج (إياك نعبد) ولكن يريد كل شيء له، يريد أن يتميز عن الناس جميعاً.
وهناك إنسان ضعيف في الظاهر يتمسك بمنهج (إياك نعبد) لأنه يعيد إلى الضعفاء حقوقهم.
ومن ثم سوف ينشأ صراع بين ضعفاء ومتمسكين بمنهج الله، وأقوياء في الظاهر يرفضون منهج الله.(8/41)
والله جل جلاله يثبت الذين آمنوا ويطمئنهم لئلا يحسوا بالرعب والفزع من أولئك الذين يملكون الأسباب في الدنيا، ذلك أنه إذا عجزت الأسباب فالله سبحانه موجود، وهو قادر على أن يحمي المؤمنين به المطيعين له فليطلبوا المعونة منه بـ (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
وطلب المعونة معناه أنه استنفذ الأسباب التي عنده في أن يقوم بالعمل، فلما عجز استعان بغيره.
فإذا بذلنا الأسباب الممكنة كبشر أمام عدونا وهو أقوى أسباباً، فنقول يا رب فرغت أسبابنا والباطل أمامنا قوي. فأعنا على عدونا، واكفناهم بما شئت، وهنا لا يمكن أن يخذل الله من يخصه بالعبادة، بل يعينه وينصره، وهنا تأتي نصرة الله للمؤمنين، ولكن يجب أن نبذل أسبابنا الممكنة أولاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 110].
والعبد دائماً في كل نية وفي كل عمل محتاج إلى الهداية.. إلى الطريق الذي ارتضاه الله لعباده، فهو دائماً يطلب الهداية من ربه؛ لأنه ارتضاه رباً وإلهاً ومشرعاً، فلا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، ولا يطلب الهداية إلا منه كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
إن جوارح الإنسان خاضعة له بالتسخير في الحياة الدنيا، فإذا أمرها بطاعة استجابت، وإذا أمرها بمعصية فهي تؤديها كارهة؛ لأنها مسخرة لا تستطيع أن تعصي للإنسان أمراً.
فإذا جاءت الآخرة، وزال التسخير نطقت الجوارح بما كان الإنسان يعمله من خير وشر: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [النور: 24].
إن كل حي سوى الله فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بدَّ من أمرين:
أحدهما: المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به، ويستأنس به.
والثاني: المعين الموصل لذلك المقصود، والمانع من حصول المكروه، والدافع له بعد وقوعه.(8/42)
والله عزَّ وجلَّ هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه، ولا معين على المطلوب غيره.
وكل ما سواه هو المكروه المطلوب بعده، وهو سبحانه وحده المعين للعبد على دفعه.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً.
والرب هو الذي يربي عبده، فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله، ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه.
وبذكر الله سبحانه تطمئن قلوب المؤمنين، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ورضوانه عليهم.
ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له.
وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
وحق الله عزَّ وجلَّ على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم إذا قدموا عليه.
وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه، وبه سروره ولذته ونعيمه، فهو أيضاً محبوب الرب من عبده، ومطلوبه الذي يرضى به، ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته.
وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له، وليس في الكون ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه.
ومن عبد غيره وأحبه ففساده ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم.
بل قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق، ولو تألهت غيره لفسدت كل الفساد؛ لانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأله الإله الحق، فهي فقيرة إلى الله وحده في وجودها وبقائها فـ (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 22].(8/43)
وحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الخضوع له، أعظم من حاجة الجسد إلى الروح. بل أعظم وأكبر، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها.
وكل ما يحصل للإنسان من اللذات والسرور بغير الله فلا يدوم له، بل ذلك في الحقيقة غير منعم ولا ملذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به وقربه منه، ووجوده عنده.
فإن القلب يتألم ويتعذب بمحبة ما سوى الله، وهذا كله مبني على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته، بل لمجرد الامتحان والابتلاء، أو لأجل التعويض بالأجر، أو لأجل تهذيب النفس.
بل الأمر أعظم وأجل من ذلك كله، بل أوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، وبها كمال النعيم.
فقرة عين المحب في الصلاة والذكر والصيام وتلاوة القرآن أيما سرور ونعيم، وأما الصدقة فعجب من العجب.
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والصبر على أذى أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر، لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه.
وكل من كان به أقوم كان نصيبه من اللذة والسرور به أعظم:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
الأصل الثاني: أن كمال النعيم في الدار الآخرة به سبحانه: برؤيته، ورضوانه، وسماع كلامه، وقربه.
فالنعيم واللذة في الآخرة بالمخلوق من مأكول ومشروب، وملبوس ومنكوح ومسكون.
لكن اللذة الكبرى والنعيم التام في رؤية الخالق جل جلاله، وسماع كلامه، وحصول رضوانه في الجنة.
كما أن عذاب الحجاب في النار من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به الله أعداءه، ثم عذاب النار.(8/44)
ولا بدَّ للإنسان بعد الإيمان من العمل، والعمل لا يكون إلا بعلم، وإلا فهو مردود.
وصحة العبادة تكون بعلمين:
علم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وعلم بأوامر الله، والعلم بأوامر الله نوعان:
علم الفضائل.. وعلم المسائل.
وعلم الفضائل مقدم على علم المسائل؛ لأنه يهيئ الإنسان لقبول المسائل كما تهيئ التربة لقبول البذر، فالبذر هو المسائل، والتهيئة هو علم الفضائل الذي يحرك مع الإيمان الجوارح للطاعات، ويقيدها عن المعاصي والمحرمات، ويدفعها للمنافسة في الخيرات، والإكثار من الطاعات.
والله عزَّ وجلَّ لم ينزل الأحكام إلا بعد أن أنشأ الاستعداد للقيام بها في القلوب، فلما جاء الإيمان، جاءت الأعمال محبوبة خفيفة على النفوس، ففي مكة فترة الدعوة والجهد لتحصيل الإيمان، ومعرفة الفضائل، والترغيب في أحسن الأخلاق.
وفي المدينة فترة الأحكام والتشريعات والأوامر والسنن.
والأوامر تنزل من ذات الله سبحانه، والأعمال تخرج من ذوات العباد فإذا تطابقت أفعال العباد مع أوامر الله جاء الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا اختلفت جاء الهلاك في الدنيا والآخرة.
وإذا جاء الإيمان في القلب جاء أمران:
الطاعة والعبودية.. والرغبة في هداية الناس.
والدافع والمحرك لهما الإيمان، والعلم نورهما اللذان يسيران به.
وكل واحد من البشر بين أمرين:
الأول: أمر يفعله الله به: كالهداية التي أكرمه الله بها، والنعم التي تنزل عليه كل يوم من ربه، فذلك يحتاج إلى الشكر ليزيد ويبقى.
الثاني: أمر يفعله هو: إما خير وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار ليمحو أثره.
والأعمال التي تصدر من العباد متفاوتة، ومجرد كون الفعل محبوباً إلى الله لا يكفي في كونه قربة إلى الله، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً لله، أو تفويت أمر هو أحب إلى الله من ذلك الفعل، وأما إذا استلزم ذلك فلا يكون قربة.(8/45)
فمثلاً: إعطاء غير المؤلفة قلوبهم من فقراء المسلمين وإن كان محبوباً إلى الله فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه من إعطاء من يحصل بعطيته قوة في الإسلام وأهله، وإن كان غنياً غير مستحق.
والتفرغ لنوافل العبادات إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد باللسان والسنان الذي هو أحب إلى الله من تلك النوافل، وحينئذ لا يكون قربة في هذه الحال وإن كان قربة في غيرها.
وكذلك الصلاة وقت النهي إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله ويكرهه من التشبه بأعداء الله الكفار الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت وهكذا.
فالشريعة مبنية على تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما، وتفويت شر الشرين باحتمال أدناهما، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
والنية سر العبودية وروحها، ومحلها من العمل محل الروح من الجسد، فالنية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد.
فكما أن الجسد إذا فارقه الروح فموات، فكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث.
ومعرفة أحكام القلوب، وأحكام الجوارح، كلاهما مطلوب، إلا أن معرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها.
ولله على العبد عبوديتان في كل عمل:
عبودية باطنة.. وعبودية ظاهرة.
فله على قلبه عبودية.. وله على لسانه وجوارحه عبودية.
والناس في العبودية على أربعة أقسام:
الأول: من قام بعبودية القلب، وعطل عبودية الجوارح.
الثاني: من قام بعبودية الجوارح، وعطل عبودية القلب.
فهؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم، ففسدت عبودية جوارحهم، وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم، ففسدت عبودية قلوبهم.
الثالث: من قام بعبودية القلب، وعبودية الجوارح.
وهؤلاء هم العارفون بالله، وبأمر الله، فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود سبحانه.
وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأدوم، فهي واجبة في كل وقت حتى الممات.(8/46)
الرابع: من لم يقم بعبودية القلب ولا عبودية الجوارح، وهؤلاء شر الناس وأجهل الناس، وأخسر الناس.
والعبادة أعظم مقامات العبد، فهي مقام عالٍ شريف، بها يزول ضيق القلب، ويكمل انشراح الصدر؛ لأنها توجب الرجوع من الخلق إلى الحق.
وزوال ضيق الصدر يتم بأربعة أشياء أمر الله بها رسوله في كتابه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الحجر: 97-99].
والعبودية لها ثلاث درجات:
الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب، أو هرباً من العقاب.
وهذه أدنى الدرجات؛ لأن معبوده ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إليه.
الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو الانتساب إليه، وهذه أعلى من الأولى.
الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذه أعلى المقامات، وأشرف الدرجات للعبد.
ومنازل العبودية متفاوتة، والناس فيها متفاوتون:
فالمهابة والتعظيم أعلى من المحبة؛ لأنها نشأت عن معرفة جلال الرب وتعلقت بالذات والصفات، ثم يليها المحبة الناشئة عن معرفة إنعام الرب وإحسانه، ثم التوكل؛ لأن منشأه ملاحظة التوحد بالأفعال، ثم الخوف والرجاء؛ لأنهما نشآ عن ملاحظة الخير والشر، والإحسان والانتقام وشرفا من جهة معرفة قدرة الله عليهما، إذ لا يرجى من يعجز عن الخير، ولا يخاف من لا يقدر على الضير.. وهكذا باقي الصفات.
وعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإمانة، يثمر له عبودية التوكل عليه وحده.
وعلم العبد بسمع الله وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وتعلقها بما يحبه الله ويرضاه.(8/47)
فيثمر له ذلك الحياء، يثمر له الحياء الإقبال على الطاعات، واجتناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده سبحانه، وكرمه وإحسانه، وبره ورحمته، يوجب له ذلك كله سعة الرجاء، وطلب الحاجات كلها منه ومحبته.
ومعرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستعانة والإجلال لربه.
وعلمه بكماله وجلاله وجماله يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية.
والعبادة عاطفة قد مزجت بدم الإنسان بحكم الفطرة، فكما أن الإنسان يمسه الجوع فيلتمس لإزالته الغذاء.. وكما أنه يشعر بالحر والبرد فيلتمس لاتقائهما الظل واللباس.. وكما يجول في فكره شيء فيبحث عن الألفاظ والإشارات للتعبير عنه.
فهكذا عاطفة العبادة تنشأة في الإنسان من جهة الفطرة فيلتمس لتهدئتها وإبرازها إلهاً ثم يعبده: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].
والعبودية: أن يقر الإنسان بالكبرياء والعظمة والجبروت في قوة أعلى ثم يطيعها ويسلس لها قياده، ويطأطئ لها رأسه، مع كمال التعظيم، وكمال الحب وكمال الذل، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له.
وكل شيء في هذا الكون من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر جسم في الكون، كله مسخر بنظام مهيمن لا قبل له بمخالفته، ولو خالفه وأبى الانقياد له فسد وفني، ولكن أنى له المخالفة، فكلٌ عابد مطيع يؤدي الوظيفة التي فوضت إليه، فلا تهب الرياح، ولا ينزل المطر، ولا يسيل الماء، ولا تنبت الأرض، ولا تجري الشمس، ولا تتحرك الكواكب، إلا بأمر الله وإذنه سبحانه.
فهذا الكون وما فيه كله يعبد الله تعالى ويطيعه، وهذه العبادة والطاعة هي قوام بقائه، ومناط حياته، وما من شيء في الكون يصدف عن عبادة الله طاعته ولو للمح البصر، وإذا صدف لا يتأخر فناؤه ولا لطرفة عين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چچ) [الرعد: 15].(8/48)
فالقنوت لله يغشى كل شيء في الكون، ومكافأة هذه المخلوقات على حسن العبادة والطاعة هي نعمة الوجود وقابلية البقاء والحياة والرزق، فكل شيء يعبد الله ينعم بالحياة، ويمكث في الكون، وينال وسيلة البقاء وهي الرزق والإمداد.
والله عزَّ وجلَّ يشمل بنعمة الوجود والرزق والحراسة الذين ينكرونه ويشركون به، ويأبون أن يعبدوه ويطيعوه، كما يفيض بها على الذين يؤمنون به، ويوحدونه ويعبدونه، ولا يشركون به شيئاً.
فالأجر الذي يناله الإنسان على عبوديته الإجبارية منقطع محدود في الحياة الدنيا ينعم به كغيره إلى أجل مسمى، وأما الأجر الذي يناله الإنسان مكافأة على عبوديته الاختيارية فهو نعمة دائمة كاملة لا خلل فيها ولا نقصان، ورزق لا خوف من انقطاعه.
فلا بدَّ للإنسان أن يعرف ربه ومولاه معرفة خالصة لا يشوبها شرك أو كفر أو شك، ولا يخاف معها أحداً غيره، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه فهذا هو الإيمان.
وأن يطيع ربه فيما يختص بحياته الاختيارية بامتثال أوامر هذا المعبود كما يطيع حكمه وأمره فيما يختص بحياته الإجبارية، حتى تصير حياته بناحيتيها تابعة لإله واحد وحاكم واحد، وهذا هو العمل الصالح.
وليست العبادة فقط هي الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والذكر والتسبيح والتهليل، بل هذه جزء من العبادة الشاملة، وهي تمرينات تزكي روح الإنسان، وتعده للعبادة الرئيسية التي تسمو بحياته من أدنى درجات الحياة الحيوانية إلى أعلى وأرفع ما يكون من درجات الحياة الإنسانية، وتعده لامتثال أوامر الله في كل حال، وتجعله في كلا حالتيه الإجبارية والاختيارية خادماً مطيعاً وفياً لربه ومولاه في كل لحظة من لحظات حياته، بكل قدراته الجسدية والروحية.(8/49)
والإنسان بهذا ينال الشرف الذي لا قِبَل لمخلوق في الكون أن ينازعه فيه، فيكون خليفة الله في الأرض، ويحكم أرض الله بأمره الكريم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ص: 26].
وللجسد لذة، وللسان لذة، وللسمع لذة، وكل ملذوذ إنما له لذة واحدة إلا العبادة فلها ثلاث لذات:
إذا كنت فيها.. وإذا تذكرتها.. وإذا أُعطيت ثوابها.
2- فقه الإرادة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النساء: 27، 28].
الإرادة: هي مركب العبودية، وأساس بنائها الذي لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إرادة له.
وأكمل الخلق صلى الله عليه وسلم أكملهم عبودية ومحبة، وأصحهم حالاً، وأقومهم معرفة، وأتمهم إرادة.
وحقيقة الإرادة: أن يبقى مراد العبد مراد محبوبه، فلو لم يكن مريداً لمراد محبوبه لم يكن موافقاً له في الإرادة، وحظه مراد المحبوب منه، لا مراده هو من المحبوب، وبين الأمرين من الفرق كما بين السماء والأرض.
وليس للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده هو إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومراده.
وما يراد بالعبد نوعان:
أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذي يجري عليه بغير اختياره كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والحياة والموت، ونحو ذلك فهذا لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إرادته، ووقوفه مع ما يراد به، فلا يكون له إرادة تزاحم إرادة الله منه.
فمن الناس من يحب الموت للقاء الله.. ومنهم من يحب البقاء لطاعة الله وعبادته.. وأكمل منهما من يحب ما يحب الله، ويقف مع مراد ربه به من الحياة أو الموت.
الثاني: ما يراد من العبد من الأوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا في إرادته.(8/50)
فالذروة العليا للإرادة ليس نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك، لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون لإرادة محض حق محبوبه، وحصول مرضاته، فانياً عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه فيه نفس حقه ومراده، فهذه هي الإرادة التي لا علة فيها ولا نقص.
والله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض بالحق.
والغاية من خلق المخلوقات نوعان:
غاية تراد من العباد... وغاية تراد بهم.
فالغاية التي تراد منهم: أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، فيكون وحده هو إلههم ومعبودهم، ومطاعهم ومحبوبهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].
وأما الغاية المرادة بهم فهي: الجزاء بالعدل والفضل.. والثواب والعقاب والجنة والنار كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النجم: 31].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجاثية: 22].
والله عزَّ وجلَّ فعال لما يريد، يفعل سبحانه ماشاء بإرادته ومشيئته وذلك من كماله سبحانه، وإذا أراد شيئاً فَعَله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وإما إرادته المتعلقة بفعل العبد، فتلك لها شأن آخر.
فإن أراد فعل العبد، ولم يرد من نفسه أن يعينه ويجعله فاعلاً، لم يوجد الفعل وإن أراده، حتى يريده من نفسه أن يجعله فاعلاً.
فلله عزَّ وجلَّ إرادتان:
إرادة أن يفعل العبد... وإرادة أن يجعله الرب فاعلاً.
وقد يريد فعله، ولا يريد من نفسه أن يخلق له أسباب الفعل، فلا يوجد الفعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه يقول لعبده يوم القيامة: «قَدْ أرَدْتُ مِنْكَ أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ (أحْسِبُهُ قَالَ) وَلا أدْخِلَكَ النَّارَ، فَأبَيْتَ إِلا الشِّرْكَ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3334)، ومسلم برقم (2805)، واللفظ له.(8/51)
ولم يقع هذا المراد؛ لأنه لم يرد من نفسه إعانته عليه وتوفيقه له، وفعل الله سبحانه وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، فهو الفعال لما يشاء، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده كما وصف نفسه بقوله: (? ? ? ? ??) [هود 107].
وما أعظم شأن الإرادة في الإنسان، فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء.
إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته في طاعة ربه، وعدم الخضوع لشهواته.
ويملك كذلك أن يهبط عن أقل من رتبة البهائم فيشقي نفسه، ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه.
والناس في الإرادة أربعة أقسام:
الأول: من لا يريد ربه، ولا يريد ثوابه، وهؤلاء أعداء الله حقاً، وهم أهل العذاب الدائم.
وعدم إرادتهم لثوابه، إما لعدم تصديقهم به، وإما لإيثارهم العاجل عليه ولو كان فيه سخطه.
الثاني: من يريده ويريد ثوابه، وهؤلاء خواص خلقه كما قال سبحانه عن أمهات المؤمنين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 29].
الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله.
فهذا جاهل بربه، ناقص غاية النقص، ليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه البتة.
وأعلى الإرادة عنده إرادة الأكل والشرب والنكاح ونحوها من شهوات الجنة.
وهؤلاء قريبون من مرتبة الحيوان البهيم، وهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها، ومعرفة معبودهم وسر عبوديته.
الرابع: من يريد الله، ولا يريد منه، وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئاً.
فهذا قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلى، فلم يخرج عن الإرادة، وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة.
لكن هذه حال عارضة غير دائمة، ولا هي غاية مطلوبة، ولا هي مقدورة للناس، ولا هي مأمور بها، ولا هي أعلى المقامات فيؤمر بها.(8/52)
3- فقه الرغبة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 90].
وقال الله تعالى: (? ? ?? ? ? ??) [الشرح: 7، 8].
الرجاء طمع، والرغبة طلب، فهي ثمرة الرجاء.
فالعبد إذا رجا شيئاً طلبه، والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف، فمن رجا شيئاً طلبه ورغب فيه، وأقبل عليه، ومن خاف شيئاً حذره وهرب منه، وإذا قوي الطمع صار طلباً.
فأعظمها وأعلاها رغبة أهل الإيمان والإحسان، وهي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ولا مشهد للعبد في الدنيا أعلى من هذا.
ويتولد ذلك من العلم بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه، وذلك يبعث على الاجتهاد المقترن بالشهود وتحفظ العبد من وصف الكسل والفتور، الذي سببه عدم الرغبة أو قلتها.
وتمنع العبد من تتبع الرخص كرخص التأويلات الفاسدة، ورخص المذاهب الشاذة.
فهذه تتبعها لا يجوز؛ لأنه ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص.
فالراغب حقاً في الله وفيما عنده دائم الوقوف بباب مولاه، فهو كالفراش الذي إذا رأى النور ألقى نفسه فيه، ولا يبالي ما أصاب، فرغبته لا تدع من مجهوده شيئاً إلا بذله، ولا تدع لهمته وعزيمته فترة ولا خموداً، ولا تترك في قلبه مكاناً لغير مرغوبه ومحبوبه.
فهو يعبد ربه كأنه يراه، ولا يلتفت إلى ما سواه.
حافظ لحاله مع ربه بالعبودية والاستقامة والطاعة، حذراً من التفاته إلى ما سواه.
ولا ينبغي لبشر ولا يليق به أن يرغب عن التوحيد والإيمان وعبادة الرب الذي جاء بها كل نبي: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [البقرة: 130].
ولا يرغب عن ذلك إلا من سفه نفسه، وجهل ربه ودينه وشرعه، ولا ينبغي للمسلم ولا يليق به كذلك أن يعيش على هواه، ويسكن إلى الراحة، بل عليه أن يجاهد لإعلاء كلمة الله، ويحافظ على جميع أوامر الله، ويقتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال.(8/53)
ولا يرغب بنفسه عن الاقتداء بسيد الأنبياء والرسل، فهو أكمل الخلق إيماناً، وأحسنهم أعمالاً، وأجملهم أخلاقاً.
فأين يرغب الناس إلى غير خالقهم ورازقهم؟
وأين يرغب الناس عن الاقتداء برسولهم، واتباع ما جاء به؟
وماذا لهم من الأجور لو آمنوا بالله واتبعوا رسوله؟
(چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [التوبة: 120].
فليرغب العبد إلى مولاه الذي خلقه وهداه، وعافاه وأغناه، وليرغب في دينه وشرعه الذي به يحصل له الفوز والفلاح، وليرغب في جزيل الأجر والثواب الذي أعده مولاه لمن أطاعه واتبع هداه.
فما أحوج العباد إلى ربهم، وما أشد رغبتهم إليه في جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [التوبة: 59].
4- فقه الشوق
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 5].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» أخرجه النسائي (1).
الشوق أثر من آثار معرفة الله ومحبته، وهو سفر القلب إلى المحبوب في كل حال.
والمحبة أعلى منه؛ لأن الشوق عنها يتولد، وعلى قدرها يقوى ويضعف.
وعلامة الشوق:
السير إلى الله بالعبادة والاستقامة، وفطام الجوارح عن الشهوات التي تعوق سيره.
والشوق: هو احتراق الأحشاء، ومنها يتهيج ويتولد، ويلهب القلوب، ويقطع الأكباد، سببه الفرقة والبعد.
والشوق: يراد به حركة القلب واهتياجه للقاء المحبوب، فهذا يزول باللقاء.
ولكن يعقبه شوق آخر أعظم منه تثيره حلاوة الوصل، ومشاهدة جمال المحبوب وجلاله وعظمته.
فهذا يزيد باللقاء والقرب ولا يزول، كما نرى المحب يبكي عند لقاء محبوبه من شدة شوقه إليه، ووجده به.
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائي برقم (1305)، صحيح سنن النسائي رقم (1237).(8/54)
والشوق على ثلاث درجات:
الأولى: شوق المؤمن إلى الجنة.
ويتولد ذلك من معرفة ما في الجنة من ألوان النعيم، وسعة القصور، وأشكال الطعام والشراب، وحسن الأزواج كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 17].
الثانية: الشوق إلى الله تبارك وتعالى.
والشوق إلى الله لا ينافي الشوق إلى الجنة، فإن أطيب ما في الجنة قربه تعالى، ورؤيته، ورضاه، وسماع كلامه.
فالشوق فقط إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين ناقص جداً بالنسبة إلى شوق المحبين إلى الله تعالى، بل لا نسبة له إليه البتة.
والشوق إلى الله درجتان:
أحدهما: شوق زرعه الحب الذي ينبت على حافات المنن، سببه مطالعة منه الله وإحسانه ونعمه.
الثاني: شوق زرعه الحب الذي نشأ واستقر من معرفة ومحبة أسماء الله وصفاته المختصة بالمن والإحسان، كالبر والمنان، والمحسن والمعطي، والغفور والرحيم، والوهاب والكريم، ونحو ذلك، وهذه أكمل وأقوى.
الثالثة: شوق أضرمه صفو المحبة، لا لأجل المنن والنعم فقط بل لأجل ذات الله وصفاته، وجماله وجلاله وكماله.
فمنعت نار الشوق هذه السكون إلى لذيذ العيش ونغصته، وسلبت السلوة بغيره سبحانه.
ولكمالها وقوتها لم يكفها ويردها قرار دون لقاء المحبوب، وهذه لا يقاومها الإصطبار؛ لأنه لا يكفها دون لقاء من يحب قرار.
وحقيقة الشوق: سفر القلب في طلب محبوبه، بحيث لا يقر قراره حتى يظفر به ويحصل له.
فكأنه لهيب ينشأ بين أثناء الحشا سببه الفرقة، فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب.
والفرق بين الشوق والمحبة، أن الحامل على الشوق هو المحبة، فالمحبة بذر في القلب، والشوق بعض ثمرات ذلك البذر، وكذلك من ثمرات المحبة حمد المحبوب، والرضى عنه، وشكره، وخوفه ورجاؤه، والتنعم بذكره، والسكون إليه، والأنس به، والوحشة من غيره.
وكما أن القلب إذا أبغض شيئاً وكرهه جدَّ في الهرب منه، وإذا أحبَّ شيئاً جدَّ في المسارعة إليه وطلبه.(8/55)
ويوصف الله عزَّ وجلَّ بالمحبة ولا يوصف بالشوق؛ لأنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة، وكل من عرف ربه أحبه، ومن أحبه اشتاق إليه وإلى لقائه.
ولا محبوب في الحقيقة إلا الله سبحانه، ولا مستحق للمحبة التامة سواه.
فالإنسان يحب نفسه وبقاءه وكماله، ويكره ضد ذلك، وهذه جبلة كل حي، وهذا يقتضي غاية المحبة لله عزَّ وجلَّ.
فإن الإنسان إذا عرف ربه عرف قطعاً أن وجوده ودوامه وكماله من الله، فهو عدم محض لولا فضل الله عليه بإيجاده، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل.
فمن عرف ربه أحبه، وكيف يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟
5- فقه الهمة
قال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 15].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 23].
الهمة: ما يبعث العبد للمقصود صرفاً.
فهمة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلباً صادقاً فتلك هي الهمة العالية التي لا يتمالك صاحبها صبره، لغلبة سلطانه عليه، ولا يلتفت عنها إلى ما سواها.
وهمة المؤمن على ثلاث درجات:
الأولى: همة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني.
فالفاني الدنيا وما فيها، وهي توحش قلوب الراغبين فيها، وقلوب الزاهدين فيها.
أما الراغبون فيها فقلوبهم وأرواحهم في وحشة من أجسامهم إذا فاتها ما خلقت له من عبادة الله والفوز بالجنة.
أما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم؛ لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم وهو الله سبحانه.
فهذه الهمة تحمل العبد على الرغبة في الباقي لذاته، وهو الحق سبحانه والباقي بإبقائه وهي الدار الآخرة، وتخلصه من أوساخ الفتور والتواني.
الثانية: همة تورث دوام سير القلب إلى الله، ليحصل له، ويفوز به، فإنه طالب لربه تعالى طلباً تاماً بكل معنى واعتبار في عمله.. وعبادته.. ومناجاته.. وحركته.. وسكونه.. وسائر أحواله.(8/56)
الثالثة: همة صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة، ولا يتعلق بالأحوال والمعاملات وليس المراد تعطيلها، بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها والتعلق بها.
وصاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى، وهو الله الذي لا شيء أعلى منه، والأعواض والدرجات دونه.
فهو سائر وجاد كيف يرضى عنه ربه؟ وكيف يحبه؟ وكيف يأنس بقربه، ويستأنس به، ويستوحش من غيره؟.
6- فقه الطريق إلى الله
قال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأنعام: 153].
وقال الله تعالى: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69-70].
الطريق إلى الله واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً من سلكه إلى مرضاته وجنته.
فالحق واحد، ومرجعه إلى واحد، وهو الله سبحانه.
وأما الباطل فلا ينحصر، بل كل ما سوى الحق باطل، وكما أنه كل طريق إلى الحق فهو حق، فكذلك كل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة متنوعة.
والطريق إلى الله واحدة جامعة لكل ما يحبه الله ويرضاه، وما يحبه الله ويرضيه متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته، جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم.
فمن رحمة الباري سبحانه أنه لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق، ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته قبوله: ( ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 78].
ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ودينه.
فالأنبياء أولاد علات، دينهم واحد، وأمهاتهم شتى، فدين الأنبياء واحد، وشرائعهم متعددة.
والناس قسمان:
علية... وسفلة.(8/57)
فالعلية من عرف الله سبحانه، وعرف الطريق إليه، وسلكها قاصداً الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه الذي قال عنه: (? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
والسفلة من لم يعرف الله، ولم يعرف الطريق إليه، ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال الله فيه: (ک ک ک ک گ گ گگ) [الحج: 18].
والناس متفاوتون في الأفكار والعقول، والقوة والأعمال:
فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يحب سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً عليه، حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، ويفتح له فيها الفتح الخاص طلباً ودراسة، وتعليماً وكتابة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [آل عمران: 79].
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاداً لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه صلاة النوافل، فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها، أو مستعد لها، أظلم عليه وقته، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وبذل أنواع الصدقات.
قد فتح الله له في هذا، وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله.
ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه، ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ منه إلى ربه العمرة والحج.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم جامع المنافذ، السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه، ونصب عينيه، يؤديها أين كانت، ويسير معها حيث سارت.(8/58)
قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك: إن كان علماً وجدته مع أهله، أو جهاداً وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته مع القانتين، أو ذكراً وجدته مع الذاكرين، أو إحساناً وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة أو مراقبة أو إنابة وجدته في زمرة المحبين المنيبين.
يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ينفذ أوامر ربه حيث كانت، وأين كانت.
فهذا هو العبد الموفق السالك إلى ربه.
فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه، وتولاه في جميع أموره، في معاشه ودينه، وتولى تربيته في جميع أحواله.
فإنه سبحانه القيوم، المقيم لكل شيء من المخلوقات، المطيع منها والعاصي، ونواصيهم جميعاً بيده.
فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس رباً وإلهاً، وهادياً ووكيلاً، وناصراً ومعيناً، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقاً إليه.
ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات، والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم.
وإلا فأيُّ قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره، ويسكن إلى ما سواه، هذا ما لا يكون أبداً.
ومن ذاق شيئاً من ذلك، وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وهواه، وشهواته ولذاته، وقع في آثار المعاطب، وجلب لنفسه الهموم والأحزان، واستبدل بأنسه وحشة، وبعزه ذلاً، وذلك لأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها ناكباً عنها، مكباً على وجهه.
فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر، وأقبل ثم أدبر، ودعي فما أجاب، وفُتح له فولّي ظهره الباب.(8/59)
قد ترك طريق مولاه، وأقبل بكليته على هواه، فانحط إلى أسفل سافلين، وصار في عداد الهالكين، وصارت روحه في وحشة من جسمه، وقلبه في ملال من حياته، فيكون معذباً في الدنيا بتنغيص شهواته، وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسَم له، وإن قسم له شيء فحشوه الخوف والحزن، والنكد والألم.
فهو في هم لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي، وحرص لا ينفد، وذل لا ينتهي.. هذا في هذه الدار.
وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك، قد حيل بينه وبين ما يشتهي، وفاته ما كان يتمناه، من قرب ربه، وكرامته، ونيل ثوابه، وأحضر جميع غمومه وأحزانه.
وأما في دار الجزاء فسُجن مع أمثاله من المبعدين المطرودين، ونار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس.
فإن الرب سبحانه إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها، وصارت مأوىً للشياطين، وهدفاً للشرور، ومصباً للبلاء، فالمحروم كل المحروم من عرف طريقاً إلى ربه ثم أعرض عنها، وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات، عاكفاً على ذلك ليله ونهاره.
وطوبى لمن أقبل على الله بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته، وعطفه ورحمته.
وإن الله عزَّ وجلَّ إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله، من بهجة الجلال، وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب سبحانه عبداً أحبوه، وإذا والى ولياً والوه.
فيحبه الله... وأهل السماء... وأهل الأرض.
فيا سعادة من ظفر بمحبة مولاه.. وأقبل عليه بأنواع كرامته، ولحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم و(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
7- فقه السير إلى الله
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 158](8/60)
محبة الله تبارك وتعالى تلقي العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه.
والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده إليه.
فهذه محركات القلوب إلى الله:
المحبة.... والخوف.... والرجاء.
وأقواها المحبة، فإن لم يكن عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه فعليه بكثرة ذكر الله؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلب به، ومطالعة آلائه ونعمائه تبعثه على التوجه إليه والحياء منه.
وكذلك الخوف: تحركه مطالعة آيات الوعيد، ومعرفة عظمة الله، وهيبة جلاله وكبريائه، ومعرفة أهوال يوم القيامة.
وكذلك الرجاء: يحركه مطالعة حلم الله وعفوه وكرمه، ومعرفة آيات الوعد.. وهكذا.
وإذا تحركت القلوب إلى الله وسارت إليه اعتصمت به، وقلت آفاتها، أو ذهبت عنها بالكلية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
ولكن العبد إذا عزم على السفر إلى الله تعالى عرضت له الخوادع والقواطع.
فينخدع أولاً بالشهوات والرياسات والملاذ والمناكح ونحوها، فإن وقف معها انقطع عن ربه.
وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في سيره وطلبه ابتلي بوطء عقبه، وتقبيل يده، وكثرة الأتباع، والتوسعة له في المجلس، والإشارة إليه بالدعاء، ورجاء بركته ونحو ذلك.
فإن وقف مع ذلك انقطع به عن الله وكان حظه منه.
وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات، فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه.
وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي، ولذة الجمعية، وعزة الوحدة، والفراغ من الدنيا.
فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود.
وإن لم يقف معه وسار ناظراً إلى مراد الله منه، وما يحبه منه، بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت؟ وكيف كانت؟ تعب بها أو استراح، تنعم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم.
لا يختار لنفسه غير ما يختار له وليه وسيده، واقف مع أمره ينفذه حسب استطاعته، ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره.(8/61)
فهذا هو العبد الذي وصل ونفذ، ولم يقطعه عن سيده شيء البتة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
وكل مسلم بالنسبة لأوامر الله مكلف بجهات ثلاث:
من جهة قلبه بالإيمان والتوحيد.. والتسليم والانقياد.
ومن جهة عقله بتقديم أوامر الله عزَّ وجلَّ على أوامر الخلق.. وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس.
ومن جهة جسده بالعمل والعبادة.
والإخلاص في العبادة هو أن يؤديها العبد لله؛ لأن الله أمر بها، وإن اشتمل الأمر على حكم تكون علة للامتثال، إلا أن الإخلاص يقتضي أن تكون العلة هي الأمر الإلهي بذلك.
فإن كانت الحكمة علة فالعبادة باطلة، وإن بقيت مرجحة فجائزة.
فالصدق والإخلاص والمتابعة هذه الأركان الثلاثة هي أركان السير إلى الله، وأصول الطريق التي من لم يبن عليها سلوكه وسيره فهو مقطوع.
وإن ظهر أنه سائر فسيره إما إلى عكس جهة مقصوده، وإما سير المقعد المقيد، وإما سير صاحب الدابة الجموح، كلما مشت خطوة إلى أمام رجعت عشراً إلى خلف.
فإن عدم الإخلاص والمتابعة انعكس سيره إلى خلف، وإن لم يبذل جهده ويوحد طلبه سار سير المقيد.
وإن اجتمعت له الثلاثة فذلك الموفق الذي لا يجارى في مضمار سيره إلى ربه (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
8- فقه المحبة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الحجرات: 7].
المحبة: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام.
ومحبة الله ورسوله ودينه وأوليائه هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون.
وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في مجار الظلمات.
وهي الشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال.. والمقامات والأحوال.(8/62)
والمحبة: توحيد المحبوب بالمحبة، وذلك بسقوط كل محبة في القلب إلا محبة الحبيب، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وأن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء.
فتهب إرادتك وعزمك ونفسك وأفعالك ووقتك ومالك لمن تحبه.. وتجعلها حبساً ووقفاً في مرضاته ومحابه.. فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك... فتأخذه منه له سبحانه.
وتمحو من القلب ما سوى المحبوب وما يحب، وهذا كمال المحبة، فما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة.
وحقيقة المحبة:
ميل الإنسان للشيء بكليته، ثم إيثاره له على نفسه وروحه وماله، ثم موافقته له سراً وجهراً، ثم علمه بتقصيره في حبه.
والمحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدره الله وقضاه، والمرء مع من أحب، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره، وإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، أثمرت أنواع الثمار، وأتت أكلها كل حين بإذن ربها، وأثمرت الطاعة والموافقة.
ومحبة العبد لربه لا نهاية لها، وكلما قويت المعرفة، وزاد البر، قويت المحبة.
ولا نهاية لجمال المحبوب سبحانه، ولا لجلاله، ولا لبره، فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم، وكانت على قلب رجل واحد منهم، ثم كانوا كذلك الواحد، كان ذلك دون ما يستحقه الرب جل جلاله من المحبة.
وأصل حب الله لا ينفك عنه مؤمن، أما قوة الحب فينفك عنه الأكثرون.
وقوة الحب للرب تحصل بأمرين:
أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد والصبر.
الثاني: قوة معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ثم تبعها العمل.
ويحصل ذلك بمعرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومداومة ذكره، ومعرفة جلاله وإنعامه وإحسانه.(8/63)
والله تبارك وتعالى جعل الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبته، وهو سبحانه كما أنه يحب أن يُعبد، يحب أن يُّحمد، ويثنى عليه، ويُذكر بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، ويحب من يحبه، ويحمده ويثني عليه، وكلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثني عليه.
ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه؛ لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به، ولذا لا يغفر الله أن يشرك به؛ لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة، والتسوية فيها بينه وبين غيره.
ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه، وتنقص بها مرتبته عنده إذا كان من البشر، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة.
والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً، وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات في حقه.
ومتى علم سبحانه بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب، ولم يقربه إليه، هذا مقتضى الطبيعة والفطرة.
أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبودية والمحبة: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [البقرة: 165].
والله عزَّ وجلَّ يحب نفسه أعظم محبة، ويحب من يحبه ويطيعه ويعبده، وخلق خلقه لأجل ذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك.
وهذا محض الحق الذي قامت به السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذي خُلق له، فرضي عنه خالقه وبارئه وأحبه، وإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها.
فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته.
والأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده هي:(8/64)
قراءة القرآن وسماعه بالتدبر.. والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.. ودوام ذكره على كل حال.. وإيثار محابه على محاب النفس.. مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها.. فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محاله.. ومشاهدة بره وإحسانه وآلائه.. ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة.. وانكسار القلب بين يديه سبحانه.. والخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل لمناجاته وتلاوة كلامه.. والتلذذ بمناجاته ثم استغفاره.. وحضور مجالس الذكر.. ومجالسة المحبين الصادقين.
والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين، وذكر ما يحبه من أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم.
كقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 222].
وقوله سبحانه: (? ? ??) [آل عمران: 146].
وقوله سبحانه: (ٹ ? ??) [آل عمران: 134].
وقوله سبحانه: (? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
وقوله سبحانه: (? ? ? ہہ) [التوبة: 4].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى ا? مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه(1).
والمحبة على ثلاث درجات:
الأولى: محبة تقطع الوساوس، وتلذ الخدمة، وتسلي عن المصائب.
فالوساوس والمحبة متناقضان، فإن المحبة توجب ذكر المحبوب، والوساوس تقتضي غيبته عنه، حتى توسوس له نفسه بغيره، والمحب يلتذ بخدمة محبوبه، فيرتفع عن التعب الذي يراه الخلي في أثناء الخدمة.
والمحبة تسلي عن المصائب فإن المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب التي يصيبه بها حبيبه.
هي محبة تنبت من مطالعة العبد منة الله عليه، ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة، وبقدر ذلك تكون المحبة، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5861)، ومسلم برقم (782)، واللفظ له.(8/65)
وليس للعبد قطّ إحسان إلا من الله، ولا إساءة إلا من الشيطان، ومن أعظم منة الله على عبده هدايته، وتأهيله لمحبته ومعرفته، وإرادة وجهه، ومتابعة خليله.
وأصل هذا نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الحق والباطل، وهذا النور متفاوت في قلوب المؤمنين.
وتثبت هذه المحبة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها.
وهذا الاتباع يوجب محبة الرب لعبده، ومحبة العبد لربه، وليس الشأن في أن تحب الله فقط، بل الشأن أن يحبك الله، والله لا يحبك إلا إذا اتبعت خليله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وصدقت خبره، وأطعت أمره، وآثرته طوعاً.
الثانية: محبة تبعث على إيثار الحق على غيره، وتلهج اللسان بذكره، وتعلق القلب بشهوده، ويتم ذلك بمطالعة صفات الرب جلَّ جلاله، وشهود معاني أسمائه، والنظر في معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة في الأنفس والآفاق.
ولكمال هذه المحبة فإنها تقتضي من المحب أن يترك لأجل الحق ما سواه، فيؤثره على غيره، وإذا أحب الله عبداً أنشأ في قلبه محبته.
الثالثة: محبة خاطفة تخطف قلوب المحبين لما يبدو لهم من جمال محبوبهم، وهذه أعلى درجات المحبة.
والعقل والشرع والفطرة كلها تدعوا إلى محبته سبحانه، بل إلى توحيده في المحبة.
وقلب المحب دائماً في سفر لا ينقضي نحو محبوبه، وقوة تعلق المحب بمحبوبه توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه.
ويظهر صدق المحبة في أربعة مواطن:
أحدهما: عند أخذ الإنسان مضجعه، وتفرغ حواسه وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه، فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه، وشغل قلبه به.
الثاني: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه، فإنه إذا استيقظ ورُدَّت إليه روحه رُدَّ معها إليه ذكر محبوبه الذي قد كان غاب عنه في النوم.(8/66)
الثالث: عند الصلاة، فإنها محك الأحوال، وميزان الإيمان، وبها يوزن إيمان الإنسان ومقدار قربه من الله، فهي محل المناجاة والقربة، ولا شيء أقر لعين المحب ولا ألذ لقلبه منها إذا كان محباً، فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له، ومثوله بين يديه وقد أقبل محبوبه عليه.
فإذا قام العبد إلى الصلاة هرب وفر مما سوى الله إليه، وآوى عنده، واطمأن بذكره، وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته.
فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة.
الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده، فعند الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياء إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربة من محبوبة، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه.
فإذا خاف فوتها، بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذي يفوت بفوات حياته من خالق أو مخلوق محبوب.
ولهذه المحبة علامات:
منها إدمان النظر إلى المحبوب.
ومنها إغضاؤه عن نظر محبوبه إليه مهابة له، وحياء منه، وتعظيماً له.
ومنها كثرة ذكر المحبوب، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره بقلبه ولسانه.
ومنها الانقياد لأمر المحبوب في أي حال.
ومنها قلة صبر المحب عن المحبوب، فينصرف صبره إلى الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على أحكامه.
ومنها الإسراع إليه في السير.. ومنها محبة أحباب محبوبه..
ومنها الإقبال على حديثه.. وإلقاء سمعه كله إليه... فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحب شيء لديه الحديث عنه.. ومنها غيرته على محبوبه... وغيرته لمحبوبه.. ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة به.. ومنها خضوعه لمحبوبه.. ومنها هجر كل سبب يقصيه عن محبوبه.. وارتياحه لكل سبب يدنيه من محبوبه. ومنها بذل كل ما يملك في سبيل مرضاة محبوبه كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 15].(8/67)
وتنقسم المحبة باعتبار الباعث عليها إلى قسمين:
أحدهما: محبة تنشأ من الإحسان ومطالعة الآلاء والنعم.
الثاني: محبة تنشأ من جمال المحبوب وكمال أسمائه وصفاته.
فأما الأول: فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نَفَسٍ ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في كل أحواله.
ولا سبيل إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلاً عن أنواعه، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النَّفَسِ التي لا تكاد تخطر ببال العبد، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس، فلله عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون ألف نعمة، وكل نعمة تحتاج إلى شكر.
فإذا كان هذا أدنى نعمة عليه، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه؟ (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 18].
هذا إلى جانب ما يصرف عن العبد من المضرات وأنواع المؤذيات التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً.
والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال سبحانه: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الأنبياء: 42].
فالله عزَّ وجلَّ منعم عليهم بحفظهم وحراستهم مع غناه التام عنهم، وفقرهم التام إليه سبحانه، فإنه غني عنهم من كل وجه، وهم فقراء محتاجون إليه من كل وجه.
خلق لهم ما في السموات وما في الأرض، وما في الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وأكرمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا.
وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وكتب لهم بالسيئة الواحدة سيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة.
وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفر ربه غفر له.
ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئاً لأتاه بقرابها مغفرة.
وشرع لهم سبحانه التوبة الهادمة للذنوب، فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم.(8/68)
وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، هو الذي أمرهم بها، وخلقهم لها، وخلقها لهم، وأعطاهم إياها، وأعانهم عليها، ورتب عليها الجزاء بمنه وكرمه.
فمنه السبب، ومنه الجزاء، ومنه التوفيق، ومنه العطاء أولاً وآخراً.
وهم محل إحسانه فقط، ليس منهم شيء، إنما الفضل كله والنعمة كلها والإحسان كله من الله أولاً وآخراً.
أعطى عبده المال وقال: تقرب به إليّ أقبله منك، فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولاً وآخراً.
فكيف لا يحب الإنسان مَنْ هذا شأنه؟
وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئاً من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه سبحانه؟
ويفرح سبحانه بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها.
وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 7]
فانظر إلى هذه العناية.. وهذا الإحسان.. وهذا التحنن والعطف.. وهذا التحبب إلى عباده.. وهذا اللطف التام بهم.
فما أجدر العبد بطاعة ربه، وعبادته وحده لا شريك، ودوام الحمد والثناء عليه، وإفراده بالمحبة والتعظيم.
ومع هذا كله.. بعد أن أرسل الله إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله.
فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله الشفاء، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وصاحب الحاجة يسأله قضاءها.
ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه، وعذبوا أولياءه، وأحرقوهم بالنار كما قال سبحانه: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [البروج: 10].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 53].(8/69)
فهذا الباب العظيم يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه، فإن نعمه على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات.
فهذه محبة للرب تنشأ من مطالعة المنن والإحسان، ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف القلب عندها.
وكلما ازداد العبد فيها نظراً ازداد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه.
والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إذا دخلوا منه، دُعوا من الباب الآخر وهو:
القسم الثاني: وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص خلقه وأوليائه، وهو باب المحبين حقاً، الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم.
فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال، لم يتخلف عن محبة مَنْ هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصاً، وأبعدها من كل خير.
فإن الله عزَّ وجلَّ فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، ومعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل.
وكل كمال وجمال في المخلوق فمن آثار صنعه سبحانه، وهو سبحانه الذي لا يحد كماله، ولا يمكن لأحد أن يحيط بجلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته، وعظيم إحسانه، وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم(1).
فهو سبحانه المحمود على كل ما فعل، وعلى كل ما أمر، إذ ليس في أفعاله عبث، ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل والفضل، والرحمة والرأفة.
وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل، فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (486).(8/70)
ولا يتصور بشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفيه حقه، ولو شهد العبد بقلبه صفة واحدة من صفات كماله؛ لأستدعت منه المحبة التامة عليها.
وهل ما مع المحبين من محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به.
فأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حباً له، والخليلان من بينهم أعظمهم حباً له.
ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به، فإنهم منكرون لحقيقة إلهيته، ولفطرة الله التي فطر الله عباده عليها، وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة، وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى.
وهل الأوامر والنواهي إلا خدم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟
وهل خلق الله خلقه إلا لعبادته التي هي غاية محبته والذل له؟
وكل ما سوى الله باطل، وكل محبة متعلقة بغيره باطلة، والمحبة الحق ليست إلا محبته سبحانه.
وكل كمال في الوجود فهو من آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهل الكمال كله إلا لله وحده لا شريك له.
فكل من أحب شيئاً لكمال ما يدعوه إلى محبته فهو دليل على محبة الله، وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء.
ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها، فالله جلَّ جلاله له الكمال المطلق في كل شيء، فكيف لا يفرده العباد بكمال المحبة؟
وكل كمال في الوجود فهو من آثار كماله سبحانه، وكل علم في الوجود فهو من آثار علمه سبحانه، وكل قدرة في الوجود فهي من آثار قدرته.
فنسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله سبحانه كنسبة علوم الخلق وقدرتهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته وقوته وحياته.
ولا نسبة أصلاً بين كمالات العالم وكمال الله سبحانه وتعالى، فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبة غيره من الموجودات له نسبة.(8/71)
بل يجب أن يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [البقرة: 165].
فهذا عقد الإيمان الذي لا يتم إلا به، ولا غنى للعبد عن ذلك، بل هي مسألة تفرض على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل الداخل فيه إلا بها، ولا فلاح له ولا نجاة إلا بها.
ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة (أن لا إله إلا الله) فإن لا الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه، وتدعوه، وتتوكل عليه في مصالحها، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده.
والمحبة درجات متفاوتة:
بعضها أكمل من بعض، فمحبة عامة الناس تنبض من مطالعة النعم والآلاء، ولهذه المحبة منشأ وثبوت ونمو.
فمنشؤها: الإحسان ورؤية فضل الله ومننه على عباده.
وثبوتها: باتباع أوامره التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
ونموها وزيادتها: يكون بإجابة العبد لدواعي فقره وفاقته إلى ربه، فهو فقير بالذات، وربه غني بالذات، فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإذا دامت استجابته لله بدوام الداعي لم تزل المحبة تنمو وتزيد، وإنما كانت هذه محبة العوام؛ لأن منشأها من الأفعال لا من الأسماء والصفات والجمال والجلال.
فلو قطع الإحسان من هذه القلوب لتغيرت، وذهبت محبتها أو ضعفت، فإن باعثها هو الإحسان، ومن وَدَّك لأمر ولّى عند انقضائه، وبتلك المحبة يتلذذ المحب بخدمة محبوبه.
وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان.
ولينظر هل هو متلذذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله عزَّ وجلَّ.(8/72)
وبمحبة الله يسلو العبد عن المصائب، فإن المحب يتسلى بمحبوبه عن كل مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يبال بما فاته، فلا يجزع على ما ناله، فإنه يرى في محبوبه عوضاً عن كل شيء، ولا يرى في شيء غيره عوضاً عنه أصلاً.
فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه، فجميع المصائب لا يمكن دفعها بمثل محبة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالمحبة أصل كل خير في الدنيا والآخرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه(1).
والمحبة الصادرة من الناس خمسة أنواع:
أحدها: محبة الله، وهذه لا تكفي للنجاة من عذاب الله، فإن المشركين واليهود والنصارى يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحب الله من الإيمان والأقوال والأعمال والطاعات والأخلاق والشرائع والأشخاص ونحوها.
وهذه هي التي تدخله في الإسلام، وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [آل عمران: 31].
الثالث: الحب لله، والحب في الله، وهذا من لوازم محبة ما يحب الله.
الرابع: المحبة مع الله، وهي محبة أهل الشرك، فكل من أحب شيئاً مع الله لا لله، ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه نداً من دون الله، وهذه محبة المشركين.
الخامس: المحبة الطبيعية كمحبة الماء والطعام، والزوجة والأولاد ونحو ذلك، فهذه لا تذم إلا إذا أشغلت عن ذكر الله، وألهت عن محبته وطاعته.
والمحبة في الله من كمال الإيمان، فمن كان حبه وبغضه، وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان.
أما الحب مع الله فنوعان:
أحدهما: نوع يقدح في أصل التوحيد وهو شرك كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [البقرة: 165].
وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذا شرك لا يغفره الله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6168)، واللفظ له، ومسلم برقم (2640).(8/73)
الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من الشهوات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 14].
ولهذه المحبة ثلاث درجات:
فإن أحبها لله توصلاً إلى طاعته، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها.
وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله، وإن كانت هي المقصودة وقدمها على ما يحبه الله كان ظالماً لنفسه متبعاً لهواه.
والمحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب.
وكمال المحبة:
أن نحب الله.. ونحب ما يحبه... ونبغض ما يبغضه.
فإذا أحببنا ما لا يحبه الله صارت محبته ناقصة، وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله، وعبوديتها له، وإخلاصها له.
ومحبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وكل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة محمودة.. أو محبة مذمومة.
فجميع الأعمال الصالحة المبنية على الإيمان لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله ورسوله.. ودينه وشرعه.. وأوليائه وعباده الصالحين.
وجميع الأعمال السيئة لا تصدر إلا عن المحبة المذمومة.
ولا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد وحبه كله لله عزَّ وجلَّ، وإلا فمحبة المخلوق من الشهوات السابقة تجذبه.
وحب الخلق له سبب يجذبهم إليه به، وحب الناس له يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الله وخشيته، وإلا جذبوه وأخذوه إليهم كحب امرأة العزيز ليوسف صلى الله عليه وسلم .
فإن قوة إيمان يوسف صلى الله عليه وسلم ومحبته لله وخشيته له كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها.(8/74)
وقد يحبونه لعلمه ودينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية لله، وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والصدر والجاه فتنة لكل مفتون، وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم إن لم يفعلها وإلا نقص الحب أو حصل نوع بغض.
فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه في أغراضهم حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وضره.
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه، ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون تحصيل أغراضهم به.
فإن لم يكن الإنسان عابداً لله، متوكلاً عليه وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة.
وكل إنسان يحب من أحسن إليه، ولاطفه وواساه، ونصره وقمع أعداءه، وأعانه على جميع أغراضه، فهذا محبوب عنده لا محالة.
وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 18].
ولو أن شخصاً أنعم عليك بجميع ما يملك، ومكنك منه لتتصرف فيه كيف شئت، فإنك تظن بل تجزم أن هذا الإحسان منه.
وهذا غلط.. فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال.
فمن الذي أنعم بخلقه؟ وأنعم بخلق ماله؟ ومن الذي خلق فيه إرادة الإنعام؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك دون غيرك؟ ومن الذي ألقى في نفسه وقلبه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك؟ ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم ولا يستطيع مخالفته.
فالمحسن حقيقة هو الله وحده لا شريك له، فهو الذي أمره واضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن الملك، الذي أمر أن يسلم خِلعة الملك لهذا الإنسان.
فالخازن لا يرى محسناً بتسليم خِلعة الملك؛ لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الملك ونفسه لما سلم ذلك، وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله، حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقي في نفسه أن حظه في بذل ذلك فيبذله.(8/75)
فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذ الإحسان من غيره محال، وإحسان الناس من إحسان الله عزَّ وجلَّ.
والمحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فكيف إذا كان محسناً إليك وإلى كافة الخلق.
وهذا يقتضي حب الله تعالى غاية المحبة، وحُبّ ما يحب، بل يقتضي أن لا يحب غيره، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الخلق كافة بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، فكيف يكون غيره محسناً، وذلك المحسن حسنة من حسنات المحسن سبحانه.
وكل من كان متصفاً بصفات الجلال والجمال كالقوة والرحمة وغيرهما، أو كان منزهاً عن الصفات الرذيلة، فإن ذلك يوجب له المحبة.
فصفات الأنبياء والصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً ترجع إلى علمهم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وإلى قدرتهم على إصلاح نفوسهم وتزكية قلوبهم.
وإذا نسبت هذه الصفات إلى صفات الله عزَّ وجلَّ وجدتها مضمحلة بالنسبة لصفات الله سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته.
أما العلم فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ونسبة علمهم إلى علمه سبحانه كذرة من جبل، أو قطرة من بحر، بل أقل، وأما صفة القدرة، فالله على كل شيء قدير، وإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرته تعالى وجدت أن ذلك قطرة من بحر، بل أقل.
فإن أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، قدرته محدودة، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا أذنه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر على ذرة من ذرات المخلوقات.
وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته، وخالق أسبابه، والممكِّن له من ذلك.(8/76)
ولو سلط الله سبحانه بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته. فليس للإنسان قدرة إلا بتمكين مولاه، ونواصي الخلق كلهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقهم، فهو الغني القوي الذي لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى أحد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 28].
فلا قادر على كل شيء إلا هو سبحانه، ولا قوي إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والجبروت.
فإن تُصور أن نحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التعظيم والتقديس والتنزيه إلا له سبحانه وحده لا شريك له.
فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا شريك له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له.
القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
والمحبة قسمان:
محبة خاصة.. ومحبة عامة.
فالمحبة الخاصة: هي محبة العبودية التي تستلزم كمال الذل والطاعة للمحبوب، وهذه خاصة بالله وحده.
أما المحبة العامة المشتركة فهي ثلاثة أنواع:
الأول: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام.
الثاني: محبة إشفاق كمحبة الوالد لولده، أو محبة إجلال كمحبة الولد لوالده.
الثالث: محبة أنس وإلف كمحبة الصديق صديقه، ومحبة الشريك شريكه ونحوهما.
وهذه المحبة بأقسامها الثلاثة لا تستلزم التعظيم والذل، ولا يؤاخذ بها أحد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ» متفق عليه(1).
وكل شيء في العالم لا يجوز أن يحب لذاته إلا الله سبحانه، فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته، فإن محبة الشيء لذاته شرك، فلا يحب لذاته إلا الله وحده.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (15)، ومسلم برقم (44)، واللفظ له.(8/77)
وكل محبوب سواه إذا لم يحب لأجله فمحبته فاسدة.
والله عزَّ وجلَّ خلق في النفوس محبوبين:
حب الغذاء.. وحب النساء.
لما في ذلك من حفظ الأبدان، وبقاء الإنسان، فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس، ففسدت أبدانهم.
ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل، فخلت الأرض منهم، والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده، ويكون هو المعبود المحبوب لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.
وحب الأنبياء والمرسلين وشعائر الدين والمؤمنين تابع لمحبة الله، فإن من تمام محبته حب كل ما يحب سبحانه.
ومحبة الله تعالى يدعيها كل أحد، وذلك غير صحيح حتى تمتحن النفس بالعلامات، وتطالب بالبراهين العملية الدالة على صدق محبة الله، ومنها تقديم ما يحبه الله من الأقوال والأعمال على ما تحبه النفس من الشهوات والملاذ والأموال والأوطان وغيرها.
ومنها أن من أحب الله فإنه يتبع رسوله فيما جاء به، فيفعل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه، ويتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه.
ومنها أن المحبين لله يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله بالنفس والمال واليد واللسان، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يؤثر فيهم إزدراء الناس لهم، ولومهم إياهم كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 54].
ومنها حب لقاء الله تعالى في الجنة، فمن أحب محبوباً أحب لقاءه، وهذا لا ينافي كراهة الموت.
ومنها أن يكون مؤثراً لما يحبه الله على ما تحبه نفسه.
ومنها أن لا يعصي الله، ومن أحب الله فلا يعصه، إلا أن العصيان لا ينافي أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، وسببه أن المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بأصل المحبة.
ومنها أن يداوم على ذكر الله، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه.(8/78)
ومن اجتمعت فيه علامات محبة الله فقد تمت محبته، وصفا في الآخرة شرابه، ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھے ے ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [المطففين: 22-26].
فقابل الخالص بالصرف. ثم قال: (? ? ?? ? ? ? ??) [المطففين: 27، 28].
فقابل المشوب بالمشوب.
وعلامة محبة الله للعبد:
أن يقربه الله من نفسه، ويحبب له طاعته، والإيمان به، ويكره له المعاصي، ويدفع الشواغل والمعاصي عنه، ويوحشه من غيره، ويحول بينه وبين ما يقطعه عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الحجرات: 7، 8].
وإذا أحب الله عبداً ابتلاه.. فإن صبر اجتباه.. فإن رضي اصطفاه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
والمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يسعد بحصوله، فتحرك محب الرحمن ومحب القرآن ومحب العلم والإيمان إلى طاعة الله وعبادته.
كما أنها تحرك محب المتاع والمال، ومحب الأوثان والصلبان، ومحب النسوان، ومحب الأوطان، إلى ما يحب، فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء.
وكل هذه المحاب باطلة سوى محبة الله وما والاها من محبة دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين.
__________
(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).(8/79)
والله عزَّ وجلَّ خلق عباده له ولعبادته، ولهذا اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، وهذا عقد لم يعقده الله مع خلق غيرهم؛ ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له.
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له، مصطفاة عنده، رضية لديه.
وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها، وقدر ثمنها، وكمال صفاتها، فإذا عُرف قدر السلعة، وعُرف مشتريها، وعُرف الثمن المبذول فيها عُلم شأنها ومرتبتها في الوجود.
فالسلعة أنت.. والله المشتري.. والثمن الجنة والنظر إلى وجه الرب، وسماع كلامه في دار الأمن والسلام.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 111].
والله سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها، وأعظمها قيمة، وإذا كان الله قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه يسعون في مصالحه، في يقظته ومنامه، وحياته وموته، ثم إن العبد أبق عن سيده ومالكه معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه على عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه، ولعنته بمحبته ورحمته. فلما أبق هذا العبد عن مالكه وسيده أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عن ما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته، فهو سبحانه عفو يحب العفو، محسن يحب الإحسان، كريم يحب الجود فإذا أبق منه العبد، وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه، فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته، وعقوبته على إحسانه.
وهو سبحانه يحب من نفسه البر والإحسان، وقد استدعى هذا العبد من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه.
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟.(8/80)
ومع سوء هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزي والهوان فالله يستعطفه، ويدعوه إلى العود إليه، ويفرح بتوبته ورجوعه إلى مولاه الحق الذي هو أولى به.
فإذا رجع هذا العبد إلى ما يحب سيده، وتاب إليه ورجع إليه، وأقبل عليه، ورجع عن عدوه، فقد سار إلى الحال التي تقتضي محبة سيده له، وإنعامه عليه، وإحسانه إليه.
فيفرح به مولاه أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل غاية الكمال والغنى والمجد، فرح محسن به، لطيف جواد، غني حميد، لا فرح محتاج إلى حصول متكمل به، بل الله خلق عباده المؤمنين، وخلق كل شيء من أجلهم، وكرمهم وفضلهم على سائر المخلوقات: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 20].
وهذا العبد إذا عاد إلى ربه وتاب إليه، فهو بمثابة من أسر له العدو محبوباً له، وحالوا بينه وبينه فهرب منهم ذلك المحبوب رجاء إلى محبته اختياراً وطوعاً فكم يكون فرحه به؟ «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أحَدِكُمْ مِنْ أحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا» متفق عليه(1).
ومحبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له، فإنه لولا محبة الله له لما جعل محبته في قلبه، فإنه سبحانه ألهمه محبته وآثره بها، فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها، فمن تقرب إلى الله شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذي يحبه فوق محبة العبد له، وإذا تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فرَّ من محبه، وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه، وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله؟.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2675)، واللفظ له.(8/81)
وكلما تاب العبد إلى ربه توبة نصوحاً فرح الله بتوبته، وأعقبه فرحاً عظيماً، ولذة وسروراً، وفرح الله بتوبة عبده لم يأت نظيره في غيرها من الطاعات، مما يدل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والتائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً بدل الله سيئاته حسنات.
9- فقه التعظيم
قال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 255].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 67].
التعظيم: هو معرفة عظمة الرب، وتعظيمه وإجلاله مع التذلل له، وعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم تعظيماً له وإجلالاً، ومحبة وطاعة وعبادة.
والتعظيم على ثلاث درجات:
الأولى: تعظيم الأمر والنهي.
وذلك بأن لا يعارضا بترخص يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال، ولا بغلو يجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي، ولا يحملا على علة توهن الانقياد كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء، فإذا أُمن من هذا المحذور جاز شربه ونحو ذلك.
وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وهذه العلل الفاسدة كم عطلت لله من أمر.. وأباحت من محرم.. وحرمت من مباح؟.
وأما الترخص والغلو، فالأول تفريط، والثاني إفراط، ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه.
فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.
والغلو نوعان:
نوع يخرج العبد عن كونه مطيعاً كمن زاد في الصلاة ركعة عمداً، أو سعى بين الصفا والمروة عشراً عمداً ونحو ذلك.
ونوع يخاف منه الانقطاع كقيام الليل كله، والجور على النفوس في العبادات والأوراد، وسرد صيام الدهر أجمع.(8/82)
وهذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا.. ويسروا وأبشروا.. وأملوا ما يسركم من ربكم.
الثانية: تعظيم الحكم الكوني القدري.
فالأولى تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي، وهذه تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري.
فكما يجب على العبد أن يراعي حكم الله الديني بالتعظيم، فكذلك يراعى حكم الله الكوني بالتعظيم.
وتعظيمه بأن لا يرى فيه عوجاً، ولا يطلب له عوجاً، بل يراه كله مستقيماً؛ لأنه صادر عن عين الحكمة، فلا عوج فيه.
فكل ما يجري في الكون من الحركات والسكنات، والطاعات والمعاصي، والخير والشر، كله بقضاء الله وقدره.
لكن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته، والمقضي فعله المباين له، المنفصل عنه، وهو المشتمل على الخير والشر، والعوج والاستقامة.
فقضاؤه سبحانه كله حق، والمقضي منه حق، ومنه باطل.
وقضاؤه كله عدل، والمقضي منه عدل، ومنه جور.
وقضاؤه كله مرضي، والمقضي منه مرضي، ومنه مسخوط.
وقضاء الله وقدره وحكمه الكوني لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع المدافعة بينهما؛ لأن هذا مشيئته الكونية، وهذا إرادته الدينية، ومن تعظيمهما الانقياد لهما، فهما وصفان للرب سبحانه.
فأمره الشرعي وقدره الكوني سواء، أمره لا يبطل قدره، وقدره لا يبطل أمره، ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه، وهو أيضاً من قضائه.
فما دُفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره، وما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله، ولا دفع مقدور الله إلا بقدر الله وأمره.
ومن تعظيمه أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله، فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه، وعدم تصرفه في نفسه، وأن المتصرف فيه حقاً هو مالكه الحق سبحانه.
فهو سبحانه الذي يقيمه ويقعده، ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم، وذلك مناف لتعظيمه.
الثالثة: تعظيم الرب سبحانه.
الحق الذي له الخلق والأمر، والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقضيه، والأولى تتضمن تعظيم أمره.(8/83)
وتعظيم الحق سبحانه أن لا تجعل دونه سبباً، فهو الذي يوصل عبده إليه، فلا يوصل إلى الله إلا الله، ولا يقرب إليه سواه، ولا يدني إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضاه إلا به، ولا هدى إليه سواه.
وكذلك لا ترى لأحد من الخلق حقاً على الله، بل الحق لله على خلقه، فهو الذي خلقهم ورزقهم وهداهم وأبقاهم.
وأما حقوق العباد على الله تعالى من إثابته لمطيعهم، وتوبته على تائبهم، وإجابته لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا أنها حقوق أحقوها هم عليه.
فالحق في الحقيقة لله على عبده، وحق العبد عليه هو ما اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه سبحانه.
ومن تعظيمه عزَّ وجلَّ أن لا ينازع العبد له اختياراً، فإذا اختار لك أو لغيرك شيئاً إما بأمره ودينه.. وإما بقضائه وقدره، فلا تنازع اختياره، بل ارض باختيار ما اختار لك، فإن ذلك من تعظيمه جلَّ جلاله.
ولا ترد عليه قدره من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قدرها، لكنه لم يخترها له، فمنازعتها غير اختياره من عبده، وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه.
ومن تعظيمه عزَّ وجلَّ تعظيم حرماته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 30].
وحرمات الله هي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص.. والأزمنة والأمكنة.. والأوامر والنواهي.
فتعظيم الأمر، وتعظيم أمره ونهيه، وتعظيم حرماته، وتعظيم قضائه وقدره، هو الواجب على كل مسلم، فيعظم ربه تعظيماً لذاته، وخوفاً من عقابه، وطلباً لثوابه.
فهو سبحانه أهل أن يُعبد وأن يُّحَب، وأن يعظم، وهو الذي يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته، فمنه كل شيء، وبيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء.(8/84)
ومن تعظيم الله جلَّ جلاله صيانة الانبساط بين يدي الله أن تشوبه جرأة فيخرج عن أدب العبودية، فلا بدَّ من مقارنة التعظيم والإجلال لبسط المشاهدة، وصيانة السرور بين يدي الله أن يداخله أمن، فينبغي للعبد أن لا يأمن في هذه الحال المكر، ولا ينسب ما حصل له من الاجتهاد التام والعبادة الخالصة إلى نفسه، بل ذلك محض فضل الله عليه.
ومن أعظم الظلم والجهل والسفه أن يطلب العبد التعظيم والتوقير من الناس، وقلبه خال من تعظيم الله وتوقيره.
فما أجهل الإنسان حين يوقر المخلوق ويجله أن يراه في حال لا يوقر الله أن يراه عليها، فلو عرف الناس ربهم وعظموه، وعرفوا حق عظمته وحَّدوه، وأطاعوه وشكروه.
فطاعة الله سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب، المبني على معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة عظمته وقدرته، ولطفه ورحمته.
ومن وقاره سبحانه أن لا تعدل به شيئاً من خلقه... لا في اللفظ كقولك: ما شاء الله وشئت.. ولا في الحب والتعظيم والإجلال.. ولا في الطاعة فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله، بل أعظم؛ كما عليه أكثر الظلمة والفجرة.. ولا في الخوف والرجاء، فلا يجعله أهون الناظرين إليه.
ولا يستهين بحق الله عزَّ وجلَّ ويقول هو مبني على المسامحة، ولا يجعله على الفضلة ويقدم حق المخلوق عليه.
ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه، ويعطي الله في عبادته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه.
ولا يجعل مراد نفسه مقدماً على مراد ربه.
فهذا كله من عدم وقار الله في القلب، ومن لا يوقر الله العظيم، كيف يوقر كلامه ورسله ودينه وأوامره؟. (? ? ? ? ? ?ٹ) [نوح: 13].
ومن كان كذلك فإن الله لا يلقي له في قلوب الناس وقاراً ولا هيبة، بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقروه مخافة شره فذلك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم.
ومن وقار الله وإجلاله وتعظيمه أن يستحي العبد منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس.(8/85)
ومن وقار الله أن يستحي العبد من اطلاعه على سره وقلبه فيرى فيه ما يكره.
ومن وقار الله توقير كلامه ورسله ودينه، وعدم هجر كتابه، ومن لا يوقر الله وكلامه، وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره وإكرامه؟.
10- فقه الإنابة
قال الله تعالى: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 17].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 54].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 88].
الإنابة: هي الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه. وهي تتضمن المحبة والخشية، فإن المنيب محب لمن أناب إليه، خاضع له، خاشع ذليل بين يديه.
ومعنى الإنابة: هي عكوف القلب على الله عزَّ وجلَّ كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه.
وحقيقة الإنابة: عكوف القلب على محبة الله، وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن لم يعتكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه: (ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الأنبياء: 52].
فالإنابة هي الرجوع إلى الحق، وهي نوعان:
أحدها: إنابة لربوبيته سبحانه، وهي إنابة البشر كلهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 33].
الثاني: إنابة لألوهيته، وهي إنابة أوليائه إليه إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور:
محبة الله.. والخضوع له.. والإقبال عليه.. والإعراض عما سواه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [ق: 31-35].
والصحابة رضي الله عنهم لما آمنوا وأنابوا إلى الله تغير فكرهم.. وتغير عملهم.. وتغيرت عواطفهم.. وتغير جهدهم.(8/86)
فاجتهدوا للدين حتى صارت الطاعات عندهم شهوات، وصارت المعاصي بمنزلة السموم المهلكة.. واجتهدوا على تحصيل الإيمان والأعمال الصالحة بدل الاستكثار من الأموال والأشياء.
وأكثر المسلمين اليوم اجتهدوا للدنيا حتى صارت الأشياء المادية عندهم شهوات.. وثقلت عليهم الطاعات.. وصارت المعاصي لهم محبوبات.. فالإيمان واحد، والوحي واحد، والقلوب واحدة، ولكن اليقين اختلف.
فالمؤمن يقينه على الإيمان والأعمال الصالحة، وغير المؤمن يقينه على الأموال والأشياء.
والصحابة رضي الله عنهم لكمال إنابتهم ومحبتهم للدين يستأذنون الدين ليعملوا قليلاً للدنيا، ونحن نستأذن الدنيا لنعمل للدين.
والصحابة رضي الله عنهم يحبون مجالس الذكر؛ لأن في قلوبهم عظمة الله، والدار الآخرة، وكثير من المسلمين يملون مجالس الذكر؛ لأن في قلوبهم عظمة المخلوق، وحب الشهوات.
والصحابة رضي الله عنهم استخدموا أنفسهم وأموالهم وأفكارهم وأوقاتهم للدين، وأكثر المسلمين اليوم استخدموها للدنيا والشهوات.
والناس في إنابتهم إلى ربهم على درجات متفاوتة:
فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية، والخوف والحذر من سخط الرب وعقوبته.
ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده، وقد حبب إليه فعل الطاعات وأنواع القربات، وهذه الإنابة مصدرها الرجاء، ومطالعة الوعد والثواب والكرامة من الله عزَّ وجلَّ لعباده المؤمنين.
وهؤلاء أبسط نفوساً، وأشرح صدوراً من أهل القسم الأول، وجانب الرجاء ومطالعة المنة والرحمة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعاً، ولكن خوف هؤلاء اندرج في رجائهم فأنابوا بالعبادات، ورجاء الأولين اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم بترك المخالفات.(8/87)
ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاء والافتقار إلى الله، وسؤال الحاجات كلها منه، ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة، والغنى والكرم والقدرة.
فأنزلوا به حوائجهم، وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إليه من هذه الجهة، مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكن إنابتهم الخاصة إنما هي من هذه الجهة.
وأعلى أنواع الإنابة إنابة الروح بجملتها إليه؛ لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم.
وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منها شيء عن الإنابة، فإن الأعضاء كلها رعيتها وملكها تبع للروح.
فلما أنابت الروح بذاتها إليه إنابة محق صادق المحبة، ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه، أنابت جميع القوى والجوارح، فأناب القلب بالمحبة والتضرع.. والذل والانكسار.
وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه شبهة.
وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسية، والأخلاق الذميمة، والإرادات الفاسدة، وانقادت لأوامره، خاضعة له، وفوضت أمرها إلى مولاها، راضية بقضائه، مسلِّمة لحكمه.
وأناب الجسد بالقيام بالأعمال فرضها وسننها على أكمل الوجوه.
وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة، فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عذبة في مباديها، فإنها عذاب في عواقبها.
فإنابة العبد -ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة- أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره.
فأين إنابة هذا من إنابة من قبله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، بل هذه روح منيبة أبداً، وأما أصحاب الإنابات السابقة، فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر، فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ساعة، ثم يترك ذلك مقبلاً على دواعي نفسه وطبعه.(8/88)
والله عزَّ وجلَّ يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته كما اجتبى هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، واختار لها أفضل الأديان وخيرها، وأعظم الكتب وأحسنها.
وهو سبحانه يهدي إليه من ينيب إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الشورى: 13].
والله سبحانه هو الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين.
وإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو العظيم الذي يملك كل شيء، المنفرد بالنعم كلها، وكشف النقم كلها، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات وإن أحداً من الخلق ليس بيده من هذا شيء إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الملك الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، فأقبل عليه، وأناب إليه، وأعرض عما سواه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [يونس: 107].
ومن اطلع الله على قلبه، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه، ومحبته، ومحبة ما يقرب إليه، فإنه وإن جرى منه في بعض الأوقات ما هو مقتضى الطبيعة البشرية، فإن الله يعفو عنه، ويغفر له الأمور العارضة غير المستقرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 25].
11- فقه الاستقامة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [هود: 112].
الاستقامة: أن يعبد المؤمن ربه وحده لا شريك له، ويستقيم على الأمر والنهي، فيعمل بطاعته، ويجتنب معصيته، ويؤدي فرائضه.(8/89)
والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد في النيات والأقوال والأعمال، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عن ذلك فالتفريط والإضاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ أدْوَمُهَا إِلَى الله وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه(1).
فأمرهم بالاستقامة ثم بين أنهم لا يطيقونها، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة.
فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله.
والاستقامة تتعلق بالنيات والأقوال والأعمال والأحوال، والاستقامة فيها وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.
والاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح مات، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد.
وتحصل الاستقامة بثلاثة أشياء:
الأول: تحقيق (لا إله إلا الله) في قلب العبد.
فيتيقن أن الخالق الرازق المالك المتصرف في الكون كله هو الله وحده لا شريك له، فيتوجه إليه وحده في جميع أحواله.
الثاني: تحقيق شهادة (أن محمداً رسول الله) بأن يعلم أن الوصول إلى الله عن طريق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيؤثر حياته على حياة الشهوة والهوى واللعب واللهو.
الثالث: أن يعيش حياته بالإيمان والأعمال الصالحة كأنه عابر سبيل ومسافر من هذه الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» أخرجه البخاري(2).
وهذه الأمة لها مقصد وهو العبادة.. ولها وظيفة وهي الدعوة إلى الله، وكلما تجاوز الإنسان مقصده، وترك وظيفته أصيب بآفتين:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، واللفظ له، ومسلم برقم (782).
(2) أخرجه البخاري برقم (6416).(8/90)
الأولى: الإحساس بالتعب كما قال سبحانه عن موسى صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الكهف: 62].
الثانية: مرافقة الشيطان له، فإذا غفل عن الرحمن وأعرض عنه، رافقه الشيطان يزين له المعاصي والمنكرات، والقبائح والكبائر ويؤزه إليها كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 36، 37].
وهذه الأمة الآن في كثير من البلاد قد تجاوزت مقصد حياتها، وتركت وظيفتها، وظلمت نفسها، وظلمت غيرها، واستقلت المراكب لعمارة الدنيا فماذا حصل؟.
عامة بلاد الإسلام في شقاء وتعب.. وذل وهوان.
ملوكها وأمراؤها.. تجارها وفقراؤها.. رجالها ونساؤها.. أبناؤها وبناتها..
إن الأمة الأسلامية في أغلب ديار الإسلام قد تجاوزت مقصد حياتها، وسافرت إلى الدنيا، فهي الآن عليلة تشكو من كل شيء في أخلاقها ومعاشراتها، في معاملاتها وكسبها، في بيوتها وأسواقها.
لأنها تجاوزت مقصد حياتها فرافقها الشيطان في جميع أحوالها، لا يبيع الإنسان ويشتري إلا والشيطان معه، ولا يأكل ولا يشرب إلا والشيطان معه، ولا يلبس إلا والشيطان معه، ولا ينفق إلا والشيطان معه، ولا يقوم ولا يقعد ولا يمشي إلا والشيطان معه.
ولا صلاح للبشرية إلا بأن ترجع الأمة الإسلامية إلى مقصدها ووظيفتها، بعبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى الله.
فموسى صلى الله عليه وسلم لما جاوز مقصده قال لفتاه: (? پ پ پ پ ? ? ??) [الكهف: 62].
فأحس موسى بالتعب لما جاوز مقصده، ولا يتخلص من هذا التعب، ولا يسلم من الشيطان إلا بالرجوع إلى مقصده (چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الكهف: 64، 65].
فلما رجعا ظفرا بالخير ونالا مرادهما.
وقد منَّ الله على هذه الأمة، وطلب منها أن تستقيم في جميع أمورها، وأن تعيش كما عاش الأنبياء والمرسلون؛ لأنها قدوة البشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [آل عمران: 110].(8/91)
ولكن أكثر الأمة ترك مقصد حياته.
فصار كثير من المسلمين اليوم يعيشون عيشة اليهود والنصارى في أفكارهم وأعمالهم، وفي كسبهم ومعاملاتهم، وفي سائر شعب حياتهم في الدنيا يرافقون ويشاركون اليهود والنصارى والشياطين في طريقة حياتهم، وفي الآخرة يريدون مرافقة الأنبياء والمرسلين في الجنة، وهذا ليس من سنة الله، بل سنة الله معلومة لا تتبدل: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69، 70].
فالأمة إذا تركت الحق حركها الشيطان بالباطل.. وإذا لم تقتدِ بالأنبياء والمرسلين ابتليت بالاقتداء بأحفاد القردة والخنازير والشياطين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ ا?، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قال: «فَمَنْ» متفق عليه(1).
وحسب أعمال البشر يرسل الله تبارك وتعالى الأحوال على العباد.
فمن كانت أعماله طيبة نزلت عليه من الله أحوال طيبة، ومن كانت أعماله سيئة نزلت عليه أحوال سيئة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
فإذا كانت الأعمال التي تصدر من الجسد موافقة لأوامر الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أعمال صالحة.
فالعين إذا رأت حسب أمر الله.. والأذن إذا سمعت حسب أمر الله.. واللسان إذا تكلم حسب أمر الله.. والبدن عَبَدَ الله حسب أمر الله، فهذه أعمال صالحة تسعد الإنسان في دنياه وآخرته.
والإنسان آلة الأعمال، فهو إما أن يتحرك بطاعة أو يتحرك بمعصية فهو يومياً ينتج أعمالاً كثيرة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3456)، واللفظ له، ومسلم برقم (2669).(8/92)
والملائكة كل يوم يتعاقبون على البشر، ويصعدون بسجلات الأعمال إلى ربهم، ويعرضونها أمام الله، ثم يرسل آخرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» متفق عليه(1).
فسبحان من أحصى كل شيء عدداً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ثم الله عزَّ وجلَّ ينزل الأحوال حسب الأعمال خيراً كانت أو شراً: (ہ ہ ہ ھھ ھ ھے ے ?? ? ? ? ?? ? ?? ? ??) [الليل: 5-10].
ولله على كل قلب هجرتان:
الأولى: هجرة إلى الله بالتوحيد والإيمان.. والإخلاص والتقوى.. والإنابة والمحبة.. والخوف والرجاء.. والتوكل والاستعانة.. وعدم الالتفات إلى ما سواه.
الثانية: هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحكيم له، والتسليم والانقياد لحكمه، وتلقي الأحكام من مشكاته.
فمن قام بهذه الهجرة فهو من أسعد الناس في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [النحل: 97].
وأصول الدين الإسلامي ثلاثة:
الإيمان.. والأحكام.. والأخلاق.
فالإيمان: هو اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأساسه العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
أما الأحكام: فهي ما شرعه الله لعباده من الأعمال والأوامر التي يسيرون عليها، والمراد بها الأعمال الظاهرة التي تقوم بها الجوارح كالعبادات والمعاملات.
والشريعة لا تنفك عن العقيدة، ولا يتم قبول العمل إلا بهما جميعاً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (555)، ومسلم برقم (632) واللفظ له.(8/93)
والعقيدة لن تثمر والشريعة لن تؤثر في حياة الإنسان إلا حين يتحلى الإنسان بصفة الإحسان في كل شيء.
فالإحسان أعظم الأخلاق وأعلاها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فيجب على العبد أن يحسن المعاملة مع ربه، ومع الناس، وأن يحسن في عبادته كلها، وأن يحسن في جميع أموره كما أمر الله ورسوله.
والاستقامة: ثمرة الإيمان، وبها يحصل كمال التقوى، وكمال العمل.
وكمال العمل يحصل بتطبيق حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، والقيام بجهد محمد صلى الله عليه وسلم ، -العبادة والدعوة إلى الله-.
والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
وعند الفتن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام اعتزلهم.
لكن ينبغي أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله أبداً، ثم ليكن في خلوته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، والاستغناء عن الناس، وعدم الإصغاء إلى أراجيف البلد، والقناعة باليسير من المعيشة، وتذكر الموت.
والعزلة والخلطة تختلف بحسب الأحوال والأشخاص، لكن في الأصل الخلطة أفضل.
ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله عزَّ وجلَّ.. مستغرق اللسان بذكره.. مستغرق الأعضاء والجوارح بعبودية الله.
فإذا كان كذلك أحبه الله ثم أنزل له القبول والمحبة في الأرض، فصارت الألسنة جارية بمدحه، والقلوب مجبولة على حبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [مريم: 96].
وكما أن النفس تحب تكميل الشهوات، فكذلك الله عزَّ وجلَّ يحب تكميل الأوامر التي هي الدين، وهي:
الإيمان.. والعبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.
فالإيمان: أساس كل شيء.
والعبادات: تنظم علاقة العبد مع ربه سبحانه، وتقوي إيمانه، ليكون ذاكراً لربه حامداً له.(8/94)
والمعاملات والمعاشرات والأخلاق تنظم علاقة العبد مع العباد، ليكون الجميع كالجسد الواحد.
وعلى من يطلب الاستقامة أن يحفظ نفسه من أربعة أشياء:
اللحظات.. والخطرات.. واللفظات.. والخطوات.
ومن حفظ نفسه من هذه الأربعة فقد أحرز دينه، وحفظ استعمالها كما أمر الله سبحانه.
وإذا أهملها العبد وغفل عنها دخل منها العدو فجاس خلال الديار وأهلك الحرث والنسل، وأفسد الظاهر والباطن.
وكلما كان إيمان العبد أقوى، وعبادته أحسن، كانت معاملاته ومعاشراته وأخلاقه أفضل وأحسن.
وبمقدار ما يكون العبد محبوباً عند الله، يكون محبوباً عند أهل السماء وعند أهل الأرض.
وكل من ضحى بشهواته من أجل الدين أعطاه الله امتثال أوامره في جميع الأحوال على وجه الكمال.
والله تبارك وتعالى أوجب على كل مسلم من هذه الأمة العبادة والدعوة.
وكما يسأل الإنسان عن حياته، فكذلك سيسأل عن مسئوليته.
وجميع المسلمين يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرهم يكرهون حياته.
وكل المسلمين يكرهون اليهود والنصارى، وأكثرهم يحبون حياتهم.
وبعض المسلمين يحبون حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا يريدون ولا يطيقون ولا يرغبون في جهد النبي صلى الله عليه وسلم .
وتمام الاستقامة بتطبيق حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، والقيام بجهد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].
وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم عنده محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن عنده إيمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهو في النار.
والمنافقون عندهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن عندهم دين النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهم في النار، فشرط الصحبة القيام بالدين.(8/95)
والإنسان يقضي حاجاته الدنيوية بالأسباب، وكذلك الله يدخلنا الجنة بالأسباب والأعمال، وهي الإيمان والعبادات والأخلاق والأعمال الصالحة فهذه أسباب.
فللدنيا أسباب.. وللآخرة أسباب.. وللجنة أسباب.. وللنار أسباب.
والله عزَّ وجلَّ أمر عباده أن يقوموا بجهد أوامر الله في مجال العبادة، وفي مجال الدعوة وفي مجال التعليم.. وهكذا.
كما أمرهم أن يقوموا بجهد الكسب وأسبابه، فكلمة الزراعة لها جهد ولها أوامر.. وكلمة التجارة لها جهد ولها أوامر.. وكلمة الصناعة لها جهد ولها أوامر.. وهكذا، والكل عبادة.
وكذلك كلمة الإيمان لها جهد ولها أوامر.. وكلمة الوضوء لها جهد ولها أوامر.. وكلمة الصلاة لها جهد ولها أوامر، وكلمة الرزق لها جهد ولها أوامر.. وهكذا، والكل عبادة.
فحتى يأتي الإيمان لا بدَّ من الجهد، وحتى تأتي الهداية لا بدَّ من الجهد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
وحتى يأتي الرزق لا بدَّ من الجهد، والأرزاق بيد الله، ولكن الله جعل لها أسباباً تنال بواسطتها كالتجارة والزراعة ونحوهما، وهذه لعموم البشر، وللمؤمنين باب آخر يحصلون منه على أرزاقهم، وهو باب الإيمان والتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہ) [الطلاق: 2، 3].
وعلى قدر الإيمان تكون الطاعة، وعلى قدر الطاعة تكون الهداية.
وإذا قام الجهد للدين انتشرت الرحمة في العالم، وعمت الفضيلة، وإذا فقد الدين جاءت المصائب في العالم، وعمت الرذيلة، كالمطر إذا جاء نفع الجميع، وإذا انقطع صار مشكلة على الجميع.
فالاستقامة: لزوم طاعة الله واجتناب معصيته في جميع الأحوال.
والناس عامة رؤوسهم ثلاثة:
العلماء.. والعبَّاد.. والأغنياء.
وإذا صلحت أحوال هؤلاء صلحت أحوال الناس، وإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [التوبة: 34].
ثم قال: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [التوبة: 34].
والاستقامة على ثلاث درجات:(8/96)
الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، وذلك ببذل المجهود وأداء العمل بإخلاص وفق السنة.
والاقتصاد في العمل هو السلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإفراط جور على النفوس، والتفريط إضاعة الأمور.
فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية إلى البدعة، وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام به.
وإن رأى فيه حرصاً على السنة وشدة طلب لها أمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها.
وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف، وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة، وكل الخير في اجتهاد في اقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع.
الدرجة الثانية: استقامة الأحوال، بشهود تفرد الرب بالأفعال وتفرده بالوجود، وتفرده بالإيجاد، وما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله، ويستيقظ من غفلته، ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه، حفظاً من الله له، لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه، فليس سبب بقائه في قدر اليقظة بحفظه؛ بل بحفظ الله له.
الثالثة: الاستقامة بترك رؤية الاستقامة، وأنها حصلت بتوفيق الله، فالله هو الذي أقامه ورزقه الاستقامة، لا بنفسه ولا بطلبه، فذكره لهذا يغيب به عن استشعار طلبه لها.
والاستقامة كلمة جامعة، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والطاعة والوفاء بالعهد.
واستقامة الأمة المسلمة تقوم على أمرين:
الأول: الإيمان والتقوى، التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل، التقوى الدائمة المستمرة حتى يبلغ الكتاب أجله كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
الثاني: الأخوة في الله على منهج الله، والتعاون لتحقيق منهج الله، بالاعتصام بحبل الله، لا بأي حبل من حبال الجاهلية الكثيرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [آل عمران: 103].(8/97)
وبهذين الأمرين تحقق الأمة وجودها، وتؤدي دورها وفق مراد ربها، وبدون ذلك يكون تجمعها جاهلياً يمزق الأمة، ويفسد الأخلاق، ويعبث في حياة الأمة بلا منازع.
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد، يملك السلطان على القلوب والأبدان، ويملك السلطان على الظواهر والبواطن، ويملك السلطان على الحركة والسلوك.
ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الآخرة، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له.
وإنما تشقى البشرية وتفسد حياتها وتضطرب أحوالها حين تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي.
حين تكون السلطة لله في القلوب والشعائر، بينما السلطة لغيره في الأنظمة والشرائع.
حين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة، بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا. وبمثل هذا تفسد الحياة، وتتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، فيحصل التصادم بين أوامر الله، وأهواء البشر.
ويحصل لمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
ومن أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، سواء كان هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها. فقد جاء ومعه شريعة معينة تحكم واقع الحياة، إلى جانب عقيدة تنشئ التصور الصحيح بالإيمان بالله، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله، والتي تذكره بربه فيقبل على طاعته ويحذر معصيته.
وهذه الجوانب الثلاثة قوام دين الله حيثما جاء دين من عند الله.
والحياة البشرية لا يمكن أن تصلح وتستقيم، حتى يكون دين الله هو منهج الحياة كلها.
والحكم بما أنزل الله وإقامة الحياة وفق شريعة الله سيواجه في كل زمان ومكان معارضة من بعض الناس، ولن تقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام.(8/98)
وهذه سنة الله، فالحق له أهل وأنصار، والباطل له أهل وأنصار ستواجه الحق وأهله معارضة الكبراء والطغام والسلاطين.
وستواجهه معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت.
وستقاومه سهام ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال؛ ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها، وسيأخذهم بالعقوبة عليها، وسيجعل الناس أمام دين الله سواء.
وستواجهه أفراد وأمم ومذاهب حسداً من عند أنفسهم.
وستقاومه وتقف له الجموع المضللة أو المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها.
فعلى أهله الذين كلفوا بالاستقامة عليه والمحافظة عليه، وكلفوا أن يكونوا شهداء عليه أن يؤدوا الشهادة له في أنفسهم بالاستقامة عليه، والثبات عليه، وبذل النفوس من أجله.
وقد علم سبحانه أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات، فلا بدَّ من مواجهة هذه المقاومة والصمود لها، واحتمال تكاليفها في النفس والمال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [المائدة: 44].
فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله، ولا تقف خشيتهم لهؤلاء وغيرهم دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة.
فالله وحده هو الذي يستحق أن يخشوه ويخافوه.
وقد علم سبحانه أن بعض المستحفظين على كتاب الله قد تراودهم أطماع الدنيا وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله ورسوله، فيتملقون شهوات هؤلاء جميعاً طمعاً في عرض الحياة الدنيا كما يقع من علماء السوء المحترفين في كل زمان ومكان، فالله ينادي هؤلاء بقوله: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [المائدة: 44].
وذلك لقاء السكوت.. أو لقاء التحريف.. أو لقاء الفتاوى المدخولة، وكل ما أخذوه -ولو كان ملك الدنيا- فهو قليل يباع به الدين، وتشترى به جهنم عن يقين.
فما أشنع خيانة المستأمن.. وما أبشع تفريط المستحفظ.(8/99)
وما أخس تدليس المستشهد.. وما أخطر الحكم بغير ما أنزل الله.. وما أشد تحريف الكلم عن مواضعه؛ لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله سبحانه.
فما أخسر هؤلاء؟.. وما أشد حسابهم؟.. وما أعظم جرمهم؟.
(? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [المائدة: 44].
إن كيد الأعداء للمسلمين عجيب، وأعجب منه غفلة المسلمين عن هذا الكيد قروناً طويلة، وأعجب من هذا وذاك وجود العلاج بين أيديهم، وهم لا يفقهونه، ولا يعرفونه، ولا يستخدمونه.
ومن هذا الكيد اللئيم:
هذه الدراسات والبحوث الفقهية غير المطبقة في الحياة، إنها دراسة للتلهية، لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكاناً في الأرض التي تدرسه في معاهدها ومساجدها وهي لا تطبقه في واقع حياتها، وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ليخدر مشاعر الأمة بهذا الإيهام والتضليل، وإضاعة الأوقات في بحوث باردة لا تحرك ساكناً ولا تقيم معوجاً.
إن هذا الدين جد وحق، جاء ليحكم الحياة في النفس والمجتمع، في المسجد والبيت والسوق، وفي كل مكان وزمان.
جاء ليعبد الناس الله وحده، ويرد الأمر كله إلى شريعة الله، لا إلى شرع أحد سواه.
جاء هذا الدين العظيم الكامل الشامل ليحكم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية.
ولم يجيء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار، ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة، ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاماً فقهية في الهواء.
وبمثل هذا انحدر كثير من المسلمين في القاع، وبدلوا نعمة الله كفراً، وارتدوا على أعقابهم من بعد ما تبين لهم الهدى، وركبوا مركباً آخر، وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول، أو مغتر كفور: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 50].
إن هذا الدين الذي أكرم الله به هذه الأمة ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب للترفه الذهني، والتكاثر بالعلم والمعرفة.(8/100)
وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، بل إنما هو مع ذلك حركة لتغيير منهج الناس في الحياة ليكون على مراد الله لا على مراد غيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 39، 40].
والاستقامة مبنية على شيئين:
أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها، والاسترسال معها.
الثاني: صدق التأهب للقاء الله عزَّ وجلَّ.
فأصل الفساد كله يجيء من قبل الخواطر؛ لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب.
فإذا تمكن بذرها في القلب تعهدها الشيطان بالسقي مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال المهلكة.
ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فالخواطر كالشرارة يسهل إطفاؤها، والإرادات والعزائم كالنار المشتعلة.
ولحفظ الخواطر أسباب عدة:
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه عليك، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفاصيل خواطرك.
الثاني: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته وعبادته.
الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.
السادس: خشيتك أن يستعير شرر تلك الخواطر فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله.
السابع: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به.
الثامن: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان، ودواعي المحبة في قلب المؤمن؛ لأنها ضدها من كل وجه.
التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته.(8/101)
العاشر: أن تلك الخواطر الرديئة هي وادي الحمقى، وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، أما الخواطر الإيمانية فهي أصل الخير كله، فإذا بذر في القلب بذر الإيمان، والخشية، والمحبة، والإنابة، أثمرت كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات.
وحفظ الخواطر نافع لصاحبه بشرطين:
أحدها: أن لا يترك به واجباً ولا سنة.
الثاني: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود، بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر الرديئة، ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معاً كان خاسراً، فلا بدَّ من الانتباه لهذا.
أما صدق التأهب للقاء الله فهو من أنفع ما للعبد، وأبلغه في حصول استقامته.
فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها وعن مطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله وعلى محبته، وعلى إيثار مرضاته.
واستحدث همة أخرى وعلوماً أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه.
فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة.
فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة، كخروج جسمه عن بطن أمه بارزاً إلى هذه الدار.
وأكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة ولا تصوروها، فضلاً عن أن يصدقوا بها، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، وإلا كما كان بطن أمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة.
وإذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد.
وكل إنسان في العالم هالك وخاسر إلا من قضى حياته في أمرين:
إصلاح نفسه.. وإصلاح غيره.
فإصلاح النفس تزكيتها وتربيتها حتى تستقيم على أوامر الله.
وإصلاح الغير دعوة الناس إلى الحق والصبر على ذلك كما قال سبحانه:(8/102)
(?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وهو العدل الذي يجمع الحكمة والعفة والشجاعة، فالله عزَّ وجلَّ لما أسكن الروح في البدن المعرض للمهالك أودع فيه ثلاث قوى:
القوة الشهوانية البهيمية الجالبة للمنافع.. والقوة الغضبية السبعية الدافعة للمضار.. والقوة العقلية الملكية المميزة بين النافع والضار.
والله بحكمته لم يحدد تلك القوى.
فيحصل فيها إما الزيادة، أو النقصان، أو العدل -وهو الوسط-.
فتفريط القوة العقلية الغباوة والبلادة.. وإفراطها التدقيق في سفاسف الأمور.. ووسطها الحكمة.
وتفريط القوة الشهوانية الخمود وعدم الاشتياق إلى شيء، وإفراطها الفجور، بأن يشتهي ما صادف، حَلّ أو حَرُم، ووسطها العفة، بأن يرغب في الحلال، ويهرب من الحرام.
وتفريط القوة الغضبية الجبن والخوف مما لا يخاف منه، وإفراطها التهور.. ووسطها الشجاعة لإعلاء كلمة الله.
فالأطراف الستة ظلم.. والأوساط الثلاثة هي العدل الذي هو الصراط المستقيم.
وقد أرسل الله الأنبياء بالدين الذي جاء بتنظيم وتحسين حياة الناس عامة في العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق.
فمن استقام على ذلك أسعده الله في الدنيا والآخرة.
ومن انحرف عن ذلك شقي في الدنيا والآخرة.
أما من يصلي على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم .. ويبيع ويشتري على طريقة اليهود.. ويتزوج ويلبس على طريقة النصارى.. ويأكل ويشرب على طريقة المجوس، فهذا الخلط مردود غير مقبول، ولمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بعبادته وطاعته، وأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قدوة للبشرية إلى يوم القيامة.
فمن آمن به وأطاعه واقتدى به سعد في الدنيا والآخرة.
ومن عصاه واقتدى بمن خالفه شقي في الدنيا والآخرة.(8/103)
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أول الناس إيماناً به، وأحسنهم اقتداء به، وأعظمهم نصرة له؛ لأزموه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل إليه.
فكانت لياليهم كليل النبي صلى الله عليه وسلم : صلاة وذكر، ودعاء وبكاء لهداية الأمة.
ونهارهم نهار النبي صلى الله عليه وسلم : دعوة الناس إلى الله، وغشيانهم في مجالسهم، وتلاوة القرآن عليهم، وتعليمهم أحكام الدين، ومواساتهم بما يسرهم.
وظاهرهم ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم : مزين بالسنن في جميع الأحوال، وباطنهم باطن النبي صلى الله عليه وسلم : مزين ومعمور بالإيمان والتقوى، واليقين وتعظيم الله، وخشيته ومحبته.
وقلوبهم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم : شفقة ورحمة للناس، وتواضع لهم، ورغبة في هدايتهم وصلاحهم، وصبر على أذاهم.
وأموالهم أنفقوها في سبيل الله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وإكراماً لأضياف الإسلام، ومواساة للفقراء والمساكين وما تحتاجه النفس، وما يلزم للأهل والأولاد.
فهم أول الناس إسلاماً، وأحسنهم أخلاقاً، وأقربهم اقتداء بسيد المرسلين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [التوبة: 100].
والله عزَّ وجلَّ خلقنا.. وهدانا.. واشترانا.. وشرفنا.. وكرمنا.. واجتبانا.. وحملنا ثلاث مسؤوليات كبرى وهي:
تعلم الدين.. والعمل بالدين.. والدعوة إلى الدين.
وهذه واجبة على كل أحد بحسب استطاعته.
وكل فساد في العالم سببه نسيان هذه المسؤوليات الثلاث، أو التقصير فيها، حتى صار الناس كالأنعام؛ بل أضل، يعيشون كيف شاءوا لا كما يشاء الله تعالى ويحب ويريد: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [النساء: 66-68].
وإذا قام الإنسان بهذه المسؤوليات الثلاث صار أفضل الناس، يتعلم كيف يعبد الله، ويدعو إلى عبادة الله.(8/104)
وإذا كانت أحوال الأسرة داخل البيت الزوج يعيش كيف شاء، والزوجة تعيش كيف تشاء، والولد يعيش كيف شاء، والبنت تعيش كيف تشاء، فهذا البيت لا يسمى بيت الإنسان، بل بيت الحيوان.
وكم البيوت في العالم الآن تعيش بهذا الترتيب كما تشاء، لا كما يشاء الله تبارك وتعالى ويحب.
وهكذا هذه الدنيا جعلها الله بيتاً للإنسان، فكم يكون الفساد في العالم بسبب خراب هذا البيت الكبير؟.
ولهذا بعث الله الأنبياء والرسل لإصلاح أحوال سكان هذا البيت الكبير بالإيمان بالله، وفعل ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه.
وحياة الناس في الجاهلية فاسدة ومضطربة بسبب تعطيل هذه المسئوليات الثلاث.
فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالدين من عند الله أفهمهم مسئوليتهم، فعاشوا بترتيب الإنسان، وتركوا حياة الحيوان والشيطان.
ونقلهم بأمر الله وبدين الله من شر القرون إلى خير القرون:
نقلهم من الشرك إلى التوحيد.. ومن الكفر إلى الإيمان.. ومن الجهل إلى العلم.. ومن الظلم إلى العدل.. ومن القسوة إلى الرحمة.
فكانوا أحسن الناس استقامة كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 110].
فعلينا القيام بأداء هذه المسؤوليات لتصلح أحوال هذا البيت الكبير ومن فيه، وتنكشف عنه الغموم والهموم، وتزول عنه الأسقام والآلام كما أمر الله سبحانه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??) [آل عمران: 104].
والشيطان لما كفر واستكبر وترك مسئوليته صار أكبر مضل ومفسد في العالم، فاستحق الطرد والإبعاد واللعنة والعذاب الأليم.
فكل من ترك مسئوليته من البشر صار من أتباع الشيطان.. يتعلم الضلال.. ويعمل بالضلال.. ويدعو إلى الضلال والنار. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [فاطر: 6].
والعقل حين ينعزل عن منهج الله بعيداً عن الوحي فإنه حينئذ يتعرض للضلال والإنحراف وسوء الرؤية وفساد العمل.(8/105)
فيرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، ويدمر أجهزة إنسانية كريمة.
ولو اتبع الوحي الإلهي لكفى البشر هذا الشر كله، وجعل التجارب والتقلبات في الأشياء والآلات، وهي مجاله الطبيعي، والخسارة في النهاية مواد وأشياء لها أنفس وأرواح.
فالعقل وحده قاصر يتقلب ويضطرب تحت ضغط الشهوات والأهواء، فلا بدَّ له من ضابط آخر يضبطه ويحرسه ويرجع إليه وهو الوحي.
فالعقل يضل.. والفطرة وحدها تنحرف.. ولا عاصم لعقل ولا لفطرة إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي.. فهو النور الذي يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الأنعام: 153].
والدين يأتي في حياتنا بقدر التضحية من أجله بالأنفس والأموال، والشهوات والأوقات، والأوطان.
فنضحي بالدنيا من أجل الدين.. وبالشهوات من أجل الأعمال.. والله يرضى عنا بقدر قوة الدين في حياتنا.
وإذا فكرنا في الموت والآخرة، وتذكرنا نعيم الجنة وعذاب الآخرة، سهل علينا التضحية بالدنيا، وامتثال أوامر الله وتقديمها على ما سواها.
وطالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين:
الأول: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه بذكر الله وطاعته، وفعل الواجبات والمندوبات التي يحبها الله.
الثاني: حبس قلبه عن الالتفات إلى غيره، كحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات بترك المحرمات والمكروهات.
وكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وهو المؤمن، أو سائر إلى الحبس وهو الكافر: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الروم: 14-16].
وقد ربى الله بالقرآن الكريم وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم جيلاً كريماً مستقيماً رضِيَ اللهُ عنهُ ورضوا عنه، فهم قدوة البشرية إلى يوم القيامة.
إنهم خير القرون، وخير جيل عرفته الأرض، إنه عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله.(8/106)
عالم عالي الصفات.. نقي القلب.. طيب المشاعر.. عف اللسان.. عف السريرة.. له أدب مع الله.. وأدب مع رسول الله.. وأدب مع نفسه.. وأدب مع غيره.. أدب في هواجس قلبه.. وفي حركات جوارحه.. له شرائعه المنظمة لأوضاعه.. وله أحكام تضبط استقراره.. وتكفل صيانته.
إنه عالم كريم له أدب مع الله، ومع رسول الله، يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب، وأمام الرسول الذي يبلغ عن الرب، فلا يسبق المؤمن إلهه في أمر ولا نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم، ولا يتجاوز ما يأمر به، وما ينهى عنه، ولا يجعل لنفسه إرادة، أو رأياً مع خالقه تقوى منه وخشية، وحياءً وأدباً.
فلا يقول في أمر قبل قول الله وقول رسوله فيه.
وذلك أدب نفسي مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل.
وهو منبثق من تقوى الله، النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم، وكذلك أدب المؤمنين مع ربهم ومع رسولهم.
فلا يقترح منهم مقترح على الله ورسوله.. ولا يدلي منهم أحد برأي لم يطلب منه أن يدلي به.. ولا يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول رسوله.
حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عما يعلمونه قطعاً في حجة الوداع، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم، خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ! وهو ما نهى الله عنه بقوله: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الحجرات: 1].(8/107)
وعن نفيع بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوم النحر فقال: «أتدرون أيَّ يَوْمٍ هَذَا». قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، فقَالَ: «ألَيْسَ بِيَوْمَ النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ ا?، قَال: «فأي شهر هذا؟» قلنا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قال: «أَلَيْسَ بِذي الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ ا?! قَال: «فَأَيُّ بَلدٍ هذا؟» قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، قال: حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، قَال: «أَلَيْسَ بالبلدَةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ ا?! قالَ: «فَإنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ وَأعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هذا، فَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» متفق عليه(1).
ولهذا الجيل الطيب الطاهر السامق أدب مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في الحديث والخطاب، وتوقيرهم له في قلوبهم توقير ينعكس على أصواتهم ويميز شخص رسول الله بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله جل جلاله يدعوهم إلى ذلك الأدب بهذا النداء الحبيب: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 2].
وكانوا يوقرون النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعاهم إلى الإيمان، وتلا عليهم القرآن، وجمعهم على الهدى، فكانوا معه في غاية الأدب خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون.
وقد نوه الله بتقواهم وغضهم أصواتهم عند رسول الله بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 3].
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل عالم، لا يزعجونه حتى يخرج إليهم، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.
فالنداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67)، ومسلم برقم (1679)، واللفظ له.(8/108)
والنداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير.
وهذا وذاك هما الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات، فلا بدَّ من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها. أما النداء الثالث فهو يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء؟ وكيف يتصرفون بها؟ ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 6].
فلا بدَّ من التثبت من خبر الفاسق.
أما المؤمن الصالح فيؤخذ بخبره؛ لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، أما الشك في جميع المصادر، وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة.
فعلى من أراد الاستقامة:
أن يدخلوا في السلم كافة.. وأن يتركوا أمرهم لله ورسوله.. ويستسلموا لقدر الله وتدبيره.. ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه.. ويشكروا ربهم على نعمة الإيمان الذي هداهم إليه.. وحرك قلوبهم لحبه.. وكشف لهم عن جماله وفضله.. وعلق أرواحهم به.. وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.. وهذا كله من رحمة الله وفيضه.
فهو الذي أراد بهم هذا الخير.. وخلص قلوبهم من ذلك الشر.. وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلاً منه ونعمة.
وليطمئنوا إلى قضاء الله وتدبيره، فالله يختار لهم الخير، ورسول الله يأخذ بأيديهم إلى هذا الخير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الحجرات: 7، 8].
والاستقامة هي الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف، وذلك في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة، ليكون على منهج الله وفق أمر الله، وهذا ما أمر الله به رسوله ومن تاب معه بقوله: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [هود: 112].(8/109)
ثم أعقب الأمر بالاستقامة بالنهي عن القصور والتقصير، بل بالنهي عن الطغيان والمجاوزة.
وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه من يقظة القلب قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر، والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته، والله مطلع على القلوب والأعمال.
ولا يجوز لأهل الإيمان والاستقامة أن يركنوا إلى الذين ظلموا من الجبارين، والطغاة المفسدين، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبدونهم لغير الله من العبيد: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ) [هود: 113].
فركون المؤمنين إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الأكبر، وجزاء هذا الانحراف أن تمسهم النار، وليس لهم من الله والٍ ولا ناصر.
والاستقامة على الطريق في فترات الشدة وتكالب الأعداء أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين.
والله يرشد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين إلى زاد الطريق بقوله: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 114].
وهذا الزاد هو الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف.
ذلك أنه يصل القلوب المؤمنة بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية.
والاستقامة في حاجة إلى الصبر، كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر.
فالاستقامة إحسان.. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان.. والصبر على كيد المكذبين إحسان.. والله لا يضيع أجر المحسنين (? ? ? ? ? ? ??) [هود: 115].(8/110)
وأهل الاستقامة هم الذين استقاموا على أن الله ربهم وحده.. واستقاموا على طاعته وأداء فرائضه.. واستقاموا على إخلاص الدين والعمل إلى الموت.. واستقاموا في أقوالهم وأفعالهم.. واستقاموا في سرهم وجهرهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على التوحيد ومعرفة الله وخشيته وإجلاله ومهابته استقامت الجوارح كلها على طاعته.
12- فقه الإخلاص
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].
الإخلاص: هو إفراد الله تبارك وتعالى بالقصد في الطاعة، وتصفية العمل عن ملاحظة الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
والإخلاص يكون بتصفية العمل عما يشوبه من شوائب إرادات النفس:
إما طلب التزين في قلوب الخلق.. وإما طلب مدحهم.. وإما الهرب من ذمهم.. أو طلب تعظيمهم.. أو طلب أموالهم أو خدمتهم.. أو طلب محبتهم وقضائهم حوائجه.. أو غير ذلك من العلل والشوائب التي يجمعها إرادة ما سوى الله بعمله كائناً ما كان.
والإخلاص سر بين العبد وربه لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا عدو فيحسده.
والإخلاص على ثلاث درجات:
الأولى: عدم رؤية عمله وملاحظته، والخلاص من طلب العوض عليه، وعدم رضاه به وسكونه إليه.
فالذي يخلص العبد من رؤية عمله مشاهدته لمنَّة الله عليه، وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه.
والذي يخلصه من طلب العوض على العمل علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجرة.
وما يناله من الأجر والثواب تفضل منه، وإحسان إليه، وإنعام عليه، لا معاوضة ولا أجرة.(8/111)
والذي يخلص من رضاه بفعله وسكونه إليه مطالعة عيوبه وآفاته، وتقصيره فيه، وما فيه من حظ النفس والشيطان، وعلمه بما يستحقه الرب جلَّ جلاله من حقوق العبودية، وآدابها الظاهرة والباطنة، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقها، وأن يرضى بها لربه.
الدرجة الثانية: خجله من عمله، مع بذل مجهوده فيه، وهو شدة حيائه من الله، إذ لم ير ذلك العمل صالحاً له، ودون ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه.
وتوفير الجهد التام لتصحيح العمل محتمياً عن شهوده له، ورؤية عمله من عين جوده سبحانه، لا بالعبد ولا منه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 17].
الدرجة الثالثة: إخلاص العمل، بأن يجعل العبد عمله تابعاً للعلم، موافقاً له، مؤتماً به، يسير بسيره، ويقف بوقوفه.
ناظراً إلى الحكم الديني الشرعي، متقيداً به فعلاً وتركاً، ناظراً إلى ترتيب الثواب والعقاب عليه سبباً وكسباً.
شاهداً للحكم الكوني القدري الذي تنطوي فيه الأسباب والمسببات، والحركات والسكنات، فلا يبقى هناك غير محض المشيئة، وتفرد الرب وحده بالأفعال.
نافياً لما سواه، معتصماً به وحده، متوكلاً عليه وحده، قاصداً وجهه وحده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه: «أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم(1).
والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأعمال بدون الإيمان لا تكون شيئاً، ولا تكون عملاً صالحاً، بل هي مطلق عمل لا يعبأ الله به.
فإذا كانت مع الإيمان وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت أعمالاً صالحة.
وكذلك الإيمان مقترن بالإخلاص فهما توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فأول من يدخل الجنة الشهيد والجواد والقارئ، وأول من تسعر بهم النار هؤلاء الثلاثة.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2985).(8/112)
فبوجود الإيمان والإخلاص لهؤلاء الجنة، وبفقد الإيمان والإخلاص هؤلاء إلى النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأعْطَاهُ مِنْ أصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم(1).
والرياء ضد الإخلاص، وهو مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع.
فالمرائي يري الناس أو يُسمعهم ما يطلب به الحظوة والمنزلة عندهم، والرياء محبط للأعمال، وسبب لمقت الله تعالى.
وأصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وذلك يرجع إلى ثلاثة أصول وهي:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1905).(8/113)
حب لذة الحمد.. والفرار من ألم الذم.. والطمع فيما في أيدي الناس.
عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» متفق عليه(1).
فهو يقاتل شجاعة ليذكر ويحمد، ويقاتل حمية لأنه يأنف أن يقهر ويذم، ويقاتل رياء ليرى مكانه، وهذا هو لذة الجاه والمنزلة في القلوب، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك الرياء.
والرياء له صور مختلفة:
فتارة يكون من جهة البدن.. وتارة من جهة اللباس.. وتارة من جهة الكلام.. وتارة من جهة العمل.. وتارة بكثرة الأصحاب والزوار، ونحو ذلك.
وفي إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء.
وفي إظهار الأعمال فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير.
ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، فعلى المظهر للعمل أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي، بل ينوي الاقتداء به.
فمن كان قوي الإيمان، تام الإخلاص، وصغر الناس في عينه، واستوى عنده مدحهم وذمهم، فلا بأس له في الإظهار؛ لأن الترغيب في الخير خير.
والله تبارك وتعالى خلق الإنسان للآخرة، وأعطاه الدنيا يستعين بها على طاعة الله، ومن جعل مقصد حياته الدنيا أعطاه الله من الدنيا ما يشاء، ولا حظ له في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 18].
فالذي يجعل مقصد حياته التجارة والزراعة أو الصناعة، الله يفهمه سر ذلك.
والذي يجعل مقصد حياته عبادة الله، والدعوة إلى الله، الله عزَّ وجلَّ يفهمه سر جمع الأمة على الإيمان والهدى وأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7458)، واللفظ له، ومسلم برقم (1904).(8/114)
فأهل الدنيا الله أعطاهم مقصدهم، وأهل الدين كذلك، لكن أهل الدنيا أخلصوا في عملهم فزادت وزانت دنياهم كما نرى، ولكن الدنيا فانية رامحة متقلبة فلا يفرح بها إلا جاهل: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
أما الذي يستحق أن يفرح به فهو الدين الذي أكرم الله به البشرية كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
وأهل الدين لم يخلصوا في أعمالهم، فلذلك الله لم يعطهم؛ لأن معهم صورة الدين لا حقيقة الدين، ولو أخلصوا أعمالهم لله، واتبعوا رسوله فيما جاء به لنصرهم وأعزهم ورفع مكانهم ووفر أرزاقهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
وقلب الإنسان يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة.
فهذه الثلاثة تملؤه غلاً ودغلاً، ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الأمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» أخرجه أحمد والدارمي (1).
فالقلب لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه عنه.
والفقه أن يمقت المسلم الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً، فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم، وضعفهم وتفريطهم، وإضاعتهم لحق الله، وإقبالهم على غيره، وبيعهم حظهم من الله بالعاجل الفاني، لم يجد بداً من مقتهم على إعراضهم عن ربهم.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (21590) وهذا لفظه.
وأخرجه الدار مي برقم (233)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (404).(8/115)
ولكن إذا رجع العبد إلى نفسه وحاله وتقصيره كان لنفسه أشد مقتاً، فكم في النفوس من علل وأمراض، وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه.
فقد يعمل العبد العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه وهو خالص لوجه الله، ولا يعرف هذا إلا أولو البصائر.
فبين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب، وفرق شيطانية مستعدة لإزهاق روح العمل قبل أن يصل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء، ولا زهد في الدنيا، ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه، وبين الحق والباطل.
ثم بين الرب وبين القلب مسافة، وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال، ورؤية العمل، ونسيان منَّة الله فيه، وعلل خفية لو استقصى العبد في طلبها لرأى العجب.
ومن رحمة الله أن سترها على أكثر العمال، إذ لو رأوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط، وترك العمل، وفتور الهمة.
والرياء ضد الإخلاص وهو نوعان:
أحدها: الرياء المذموم: وهو أن يكون الباعث عليه قصد التعظيم والمدح، والرغبة فيما عند من ترائيه أو الرهبة منه ونحو ذلك كمن يتصدق أو يصلي أو يذكر، أو يعلم أو يجاهد من أجل أن يرى أو يقال عنه كذا، فهذا كله من الرياء المذموم شرعاً.
الثاني: الرياء المحمود: وهو أن لا يكون الباعث عليه ما سبق كمن يحسن صلاته وعنده من يريد أن يتعلم منه، فيكون محسناً إليه بالتعليم، وإلى نفسه بالإخلاص، وتعريف الجاهل، وكمن ينفق ماله جهراً ليقتدى به في الخير، فهذا جدير بأن يحصل له مثل أجور من اقتدى به.
13- فقه التوكل
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ??) [المائدة: 23].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 3].
التوكل من أعظم مقامات الدين وأجلها وأفضلها.(8/116)
وقد أمر الله أنبياءه ورسله وعباده بالتوكل عليه، وحثهم عليه في جميع أحوالهم، وفيما أمرهم به، وفيما تعبدهم به.
وأخبر سبحانه أنه يحب المتوكلين عليه، كما يحب الشاكرين والمحسنين وأخبر سبحانه أن كفايته للناس مقرونة بتوكلهم عليه، وأنه كاف من توكل عليه.
وجعل سبحانه لكل عمل من أعمال البر جزاء معلوماً، وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ?ہ) [الطلاق: 2، 3].
ثم قال في التوكل: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 3].
فالتوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه، والتوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة.. والإنابة هي العبادة.
وقد خاطب الله بالتوكل أحب الخلق إليه، وأقربهم إليه، وأكرمهم عليه وهم المؤمنون، وأمرهم به، وجعله شرطاً في صحة إيمانهم، فمن لا توكل له لا إيمان له فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [المائدة: 23].
وقال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 2].
وأخبر سبحانه عن رسله أن التوكل على الله ملجؤهم ومعاذهم في جميع أحوالهم فقال عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [يونس: 84، 85].
فالتوكل أصل لجميع مقامات الدين من الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، ومنزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
وينشأ التوكل من علم العبد أن الأمور كلها بيد الله، والخلائق كلها في قبضة الله، وهي موكولة إليه سبحانه.
وأن العبد لا يملك شيئاً منها، فهو لا يجد بداً من اعتماده عليه، وتفويض أمره إليه، وثقته به من الوجهين:
من جهة فقر العبد إلى ربه وعدم ملكه شيئاً البتة.. ومن جهة كون الأمر كله بيد الله، والتوكل ينشأ من هذين العلمين.(8/117)
ومقصود التوكل على الله تسليم الأمر إلى من هو له، وعزل نفسه عن منازعة مالكه واعتماده عليه فيه، وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه كما قال سبحانه عن رسله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 12].
فالأنبياء وأتباعهم يتوكلون على ربهم في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم؛ لعلمهم بتمام كفايته، وكمال قدرته، وعموم إحسانه، وسعة رحمته.
وتوكل الأنبياء في أعلى المطالب وأشرف المراتب، وهي التوكل على الله في إقامة دينه ونصره.. وهداية عبيده.. وإزالة الضلال عنهم، وهذا أكمل ما يكون من التوكل.
ومجموع الدين أمران:
أن يكون العبد على الحق.. وأن يكون متوكلاً على الله.
(? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النمل: 79].
والإنسان آفته: إما من عدم الهداية.. وإما من عدم التوكل.
فإذا جمع مع الهداية التوكل فقد جمع الإيمان كله.
والناس في التوكل متفاوتون:
فمن متوكل على الله في حصول الملك.. ومن متوكل على الله في حصول رغيف.. ومن متوكل عليه في جلب مصلحة دينية أو دنيوية.. أو دفع مفسدة دينية أو دنيوية.
ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله.
فإن كان محبوباً لله مرضياً له كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه.
وإن كان مباحاً حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه، إلا إذا استعان به على طاعته.
والتوكل عمل القلب، وعلم القلب بكفاية الرب للعبد، وانطراح القلب بين يدي الرب يقلبه كيف يشاء.
والمتوكل من رضي بالله وكيلاً، ورضي بكل ما يفعل الله، وتعلق بالله في كل حال.
والتوكل: أن لا يظهر في العبد انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقته إليها، ولا يزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفه عليها.
والتوكل على الله لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد.(8/118)
والتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم ، والكسب سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته، فمن طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان.
والتوكل درجته أن يكون بعد التقوى التي هي القيام بالأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الطلاق: 2، 3].
فالتوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه مع فعل ما أمر به، والتفويض إليه في كل حال، وقطع علائق القلب بغير الله.
وسر التوكل:
هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه.
فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء آخر، فقول العبد توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله تبت إلى الله وهو مصر على معصيته مرتكب لها.
والتوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به.
فإن قيل: المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قد قدَّر حصل، توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدعُ؟.
وإن لم يقدَّر لم يحصل، توكل أو لم يتوكل، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدِّر له؟.
فيقال: بقي قسم ثالث وهو الواقع، وهو أن يكون قد قضى الله بحصول الشيء عند وجود سببه من التوكل والدعاء، فنصب سبحانه التوكل والدعاء سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يفعل السبب لم يحصل.
كما قضى سبحانه بحصول الشبع إذا أكل، وحصول الري إذا شرب، فإن لم يفعل لم يشبع ولم يرو، وقضى بحصول الولد إذا جامع الرجل المرأة، فإن لم يجامع لم يخلق الولد، وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض، وإلقاء البذر فيها، فإذا لم يفعل ذلك لم يحصل إلا الخيبة.
وقضى سبحانه بدخول الجنة لمن أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا لم يسلم ولم يعمل صالحاً لم يدخلها أبداً.(8/119)
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل.
ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره.
فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية.
ومن نفى الأسباب فالبهائم أفقه منه؛ لأنها تسعى في السبب بالهداية العامة.
ولا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل:
توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل.
فإن العبد متى التفت قلبه إلى غير الله نقص من توكله بقدر ذلك الالتفات.
ومن هنا ظن بعض الناس أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح.
فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلق الجوارح بها، فيكون منقطعاً عنها بقلبه، متصلاً بها ببدنه، وتلك سنته صلى الله عليه وسلم ، وفعله وأمره.
فخلع الأسباب من القلوب توحيد، وتعطيل الأسباب إلحاد وزندقة، فخلعها عدم اعتماد القلب عليها وركونه إليها مع قيامه بها، وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح.
فالذي أمر بالتوكل بقوله: (? ? ? ? ? ??) [المائدة: 23].
هو الذي أمر بأخذ الحذر بقوله: (? ? ? ? ? ں ں?) [النساء: 71].
ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع كما قال سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 159].
أما أركان التوكل:
فالتوكل حال مركبة من عدة أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها: وأول ذلك معرفة العبد بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع فيها العبد قدمه في مقام التوكل.(8/120)
والثاني: إثبات الأسباب على الجوارح، ورفضها عن القلوب، ومن نفاها فتوكله مدخول.
والثالث: اعتماد القلب على الله وسكونه إليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولا سكون إليها.
وعلامة هذا: أن لا يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها.
الرابع: حسن الظن بالله، فحسن الظن بالله يدعو العبد إلى التوكل عليه، إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه.
والخامس: استسلام القلب لله، والانقطاع عما سواه، بأن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد ولا يمتنع منه، ولا يكون له حركة ولا تدبير، بل يستسلم لتدبير الرب، وهذا في غير باب الأمر والنهي، بل في باب القضاء والقدر، أي فيما يفعله الرب بالعبد، لا فيما أمرك الرب بفعله.. فتنبه.
وروح التوكل ولبه وحقيقته:
تفويض الأمور كلها إلى الله، وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً، كتفويض الابن العاجز الضعيف كل أموره إلى أبيه، العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته، وحسن ولايته وتدبيره، فهو يرى أن تدبير أبيه له وقيامه بمصالحه خير له من تدبير نفسه، فلا يجد أصلح له وأرفق به من تفويض أموره كلها إلى أبيه.
فإذا وضع العبد قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضا، وهي ثمرة التوكل وأعظمها فائدة.
فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.
وباستكمال هذه الدرجات يستكمل العبد مقام التوكل، وتثبت قدمه فيه.
والتوكل له تعلق بعامة أسماء الله وصفاته كالغفار والعزيز، والرحمن والتواب، والفتاح والرزاق، والقوي والقدير، والمعطي والمانع ونحو ذلك.
وبحسب معرفة العبد بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، يصح له مقام التوكل، وكلما كان بالله أعرف كان توكله على ربه أقوى.(8/121)
وكان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
الأول: من عنده الأشغال الكسبية، وهؤلاء عامة الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: من ليس عنده الأشغال الكسبية، كأصحاب الصفة رضي الله عنهم.
ومن كان عندهم الأشغال الكسبية كان في توكلهم شيئان:
الأول: أنهم لا ينظرون إلى زيادة المال، بل ينظرون إلى تنفيذ أوامر الله ورسوله فيه ولو قل المال.
الثاني: أنهم كانوا متهيئين مع شغلهم ومستعدين للخروج في سبيل الله في أي وقت طلبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ومتى لزم الأمر، ولا يتفكرون في أموالهم، وبذلك أعطاهم الله البركة في أموالهم.
أما من ليس عنده الأشغال الكسبية ففي توكلهم ثلاثة أشياء:
أنهم كانوا لا يسألون الناس باللسان ولا بالحال.. وليس في قلوبهم إشراف لما عند الناس.. وإذا جاءت عليهم المشقة لا يخبرون أحداً بل يتوجهون إلى الله وحده ويبكون أمام الله، وبذلك يأتيهم الفرج، وتنزل عليهم نصرة الله.
وقد وكل الله عزَّ وجلَّ بدينه أنبياءه ورسله، ومن آمن بهم، ووفقهم للإيمان به والقيام بحقه، والذب عنه، وجهاد أعدائه.
وهو توكيل رحمة وإحسان، وتوفيق واختصاص، لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجته إليه.
فمن آمن بهم أسعده الله في الدنيا والآخرة، ومن كذبهم وأعرض عن هديهم فالرسل قائمون بها، مؤدون لها، مستقيمون عليها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 90].
والتوكل على ثلاث درجات:
الأولى: التوكل على الله مع الطلب وفعل السبب، على نية شغل النفس بالسبب مخافة أن تفرغ فتشتغل بالهوى والشهوات، فإنه إن لم يشغل النفس بما ينفعها شغلته بما يضره.
وكذلك يقوم بالسبب على نية نفع النفس، ونفع الناس بذلك.
وكذلك يقوم بالسبب ليتخلص من إشارة الخلق إليه، الموجبة لحسن ظنه بنفسه، الموجب لدعواه، فالسبب ستر لحاله ومقامه، وحجاب مسبل عليه.(8/122)
ومن وجه آخر، وهو أن يشهد به فقره وذله، وامتهانه امتهان العبيد والفعلة، فيتخلص من رعونة دعوى النفس.
وأعظم من هذا كله أن القيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية، وحق الله على عبده، الذي توجهت به نحوه المطالب، وترتب عليه الثواب والعقاب، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض.
الدرجة الثانية: التوكل مع إسقاط الطلب من الخلق، فإن الطلب من الخلق في الأصل محظور، ولا يباح إلا عند الضرورة، فلا يطلب من أحد شيئاً.
فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير، والله تعالى غني حميد، يحب من يسأله، وقبيح بالإنسان أن يتعرض لسؤال العبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِا?، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (1).
الدرجة الثالثة: أن يعلم أن ملك الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة لا يشاركه فيها أحد، فهي ملكة قوة وامتناع وقهر تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك.
فهو سبحانه العزيز في ملكه، الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه، كما هو المتفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك.
وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها، وقدرته على كل شيء، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون من أقوى أسباب توكله.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669).
وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).(8/123)
فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة لم يجد بداً من اعتماد قلبه عليه سبحانه وثقته به، وسكونه إليه وحده، وطمأنينته به، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وجميع مصالحه كلها بيد الله وحده، لا بيد غيره.
وعلة التوكل:
التفات القلب إلى ما سوى الله، إلى من ليس له شركة في ملك الحق، ولا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فهذه علة توكله، وعلة أخرى وهي رؤية توكله، فإنه التفات إلى عوالم نفسه.
وعلة ثالثة وهي صرف قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه.
والتوكل: عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده.
وحال العبد في توكله على الله درجات:
الأولى: أن يكون حاله مع ربه وثقته بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل عادة.
الثانية: وهي أقوى، أن يكون حاله مع ربه كحال الطفل مع أمه، فهو لا يعرف غيرها، ولا يفزع لأحد سواها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها، وطلب منها كل ما يريد.
الثالثة: وهي أعلاها، أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته كالميت بين يدي الغاسل، يرى تدبيره وتصريفه بيد مالكه الذي يدبر الكون، فهو مثل صبي علم أنه إن لم يزعق بأمه، فالأم تطلبه ولا تتركه.
وهذا المقام في التوكل سببه المعرفة والثقة بكرم الله وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يُسأل، ويقتضي الشكر له، وسؤاله وعدم سؤال غيره.
ووجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
وقوة التوكل مبنية على كمال التوحيد، فمن كان توحيده أكمل كان توكله على الله أعظم.
فإذا آمن العبد بالله رأى كل شيء صادراً عن الواحد، ومتى علم أنه لا فاعل سوى الله لم ينظر إلى غيره، بل يكون الخوف منه، والرجاء له، وبه الثقة، وعليه التوكل وحده؛ لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، والكل مسخرون له.(8/124)
فلا يعتمد على المطر أو الماء في خروج الزرع.. ولا يعتمد على الريح في سير السفينة.. ولا على العين في الرؤية.. ولا على الأذن في سماع الأصوات.. ولا على الطعام في الشبع.. ولا على الدواء في الشفاء. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه.. شكر الكاتب دون القلم.
وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب.
فسبحان مسبب الأسباب، الفعال لما يريد، الذي لا تتحرك ذرة إلا بإذنه.
فالتوكل هو اعتماد القلب على الوكيل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء يحبها ويطمئن إليها كالشفقة والقوة، والمعرفة والغنى، والهداية والأمانة، وحسن التدبير، وحسن الخلق.
وإذا عرفت هذا فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنه لا فاعل سواه، واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة، واسع الرحمة، عظيم الحلم، جزيل العطاء، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه من الوجوه.
وإذا لم يجد العبد هذه الحالة في نفسه فذلك إما لضعف اليقين بإحدى هذه الخصال، وإما لضعف القلب باستيلاء الجبن عليه.
فلا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوة اليقين جميعاً.
وليس معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالعقل والقلب، والسقوط على الأرض، فهذا فعل الجهال، وهو محرم في الشرع.
وقد أثنى الله سبحانه على المتوكلين وأعلن محبته لهم.
وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده.
وسعي العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب.. أو لحفظ موجود كالادخار.. أو لدفع ضرر لم ينزل كدفع الصائل.. أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض.
فحركات العبد لا تعدو هذه الأربعة.(8/125)
فالأول: جلب المنافع، وتجلب إما بأسباب مقطوع بها كالأسباب التي أمر الله بها شرعاً وجعلها سبباً كأن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع فلا تمد يدك إليه، وتقول أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، فهذا جنون وسفه محض، ليس من التوكل في شيء.
وكذلك لو لم تزرع وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون وجهل بسنة الله، وليس من التوكل.
وإنما التوكل أن تعتمد على الله في كل شيء، وتباشر الأسباب التي أمر الله بها ببدنك.
والثاني: أسباب ليست متيقنة كمن يسافر بغير زاد متوكلاً على الله، فهذا مجرب على الله، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به.
الثاني: في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل.
الثالث: مباشرة الأسباب الدافعة للضرر، فليس من التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في أرض مسبعة، أو مجرى السيل، أو تحت جدار خراب، فكل ذلك منهي عنه.
ولا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال، ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضياً بكل ما يقضي الله عليه.
ومتى عرض له أنه إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه فقد بان أن توكله مدخول، وأنه بعيد عن التوكل.
الرابع: السعي في إزالة الضرر كمداواة المريض ونحو ذلك.
فالسبب المزيل للضرر إما مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا تركه ليس من التوكل في شيء، بل تركه جنون وسفه.
وإما أن يكون السبب مظنوناً كالفصد والحجامة، وشرب المسهل ونحو ذلك فهذا لا يناقض التوكل.
وقد تداوى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالتداوي.
وإما أن يكون السبب موهوماً كالكي والرقية زمن العافية لئلا يمرضوا، فهذا ينافي التوكل، وإنما تكون الرقية والكي بعد المرض.(8/126)
وليس معنى التوكل أن نترك العمل، بل الله عزَّ وجلَّ أمرنا بأمرين:
أمرنا أن نعمل.. وأمرنا ألا نعتمد على العمل.
أمرنا أن نكتسب، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الرزاق وحده.. وأمرنا أن نتداوى، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الشافي وحده.. وأمرنا أن نعد للعدو ما نستطيع، وأمرنا أن نعتمد عليه وحده.. وأمرنا أن نأخذ بالأسباب وأن نعتمد عليه وحده.
فمن أعد وعمل ولم يتوكل عليه سبحانه فقد أخل بأحد الأمرين، ومن توكل ولم يستعد فقد أخل بأحد الأمرين.
فلا بدَّ من الإيمان بالله، والإيمان بالأسباب التي بثها الله في الكون، فمن أنكر الأسباب وعطلها كفر، ومن جعل لها تأثيراً أشرك.
فالأسباب نؤمن بها ونفعلها، ولكن لا نعتمد إلا على الله وحده لا شريك له: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].
14- فقه الاستعانة
قال الله تعالى: (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 45].
العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والاستعانة: هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما.
وقد ذكر الله سبحانه الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع أعماله وعباداته إلى الاستعانة بالله تعالى.
فإنه إن لم يعنه لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي.
فهو سبحانه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاستعانة بالصبر والصلاة على جميع الأمور.
ففي الصبر بجميع أنواعه -وهي الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، في الصبر على ذلك كله- معونة عظيمة على كل أمر من الأمور.(8/127)
وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان وعلامته، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، يستعان بها على كل أمر من الأمور.
وقلب الإنسان يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف وهما: الرياء، والكبر.
فدواء مرض الرياء بـ: (? ?) [الفاتحة: 5].
ودواء مرض الكبر بـ: (? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
فإذا عوفي العبد من مرض الرياء بـ: ( ? ?)، ومن مرض الكبرياء والعجب بـ: (? ?ٹ)، ومن مرض الضلال والجهل بـ:
(ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6]، فقد عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم، الذين عرفوا الحق واتبعوه، غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد كاليهود الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، والضالين، وهم أهل فساد العلم كالنصارى الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه، فهم يعمهون في الضلال.
فالذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به وهم المؤمنون.
فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كاليهود، وإن اختل قيد العلم فهم الضالون كالنصارى.
ولا يمكن للعبد أن يعبد ربه إلا بتوفيقه وعونه، فلا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله.
فالله وحده خالق كل شيء، وبيده كل شيء، وإلقاء الداعية في القلب، وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى، ولا معنى للإعانة إلا ذلك.
والاستعانة هي طلب العون من الله تبارك وتعالى.
ويطلب من المخلوق ما يقدر عليه من الأمور.
وكل عبد مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، وصلاح العبد في عبادة الله والاستعانة به، ومضرته وهلاكه وفساده في عبادة غير الله والاستعانة بما سواه.
والإنسان ضعيف عاجز محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات.(8/128)
فمن حقق الاستعانة بالله في ذلك كله أعانه الله، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولاً؛ لأنه عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه جميعاً إلا الله عزَّ وجلَّ.
فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المذموم المخذول كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [الإسراء: 22].
والاستعانة حال للقلب ينشأ من معرفته بالله تعالى، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فيوجب للعبد ذلك اعتماداً على ربه، واستعانةً به، وثقةً به، ويقيناً بكفايته.
والاستعانة تجمع أصلين:
الثقة بالله.. والاعتماد عليه.
فالعبد قد يثق بالواحد من الناس وهو مع ذلك لا يعتمد عليه لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقثه به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
والله عزَّ وجلَّ هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته، وهو المعبود المستعان في كل أمر كما قال سبحانه: (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
والاستعانة جزء من العبادة، والعبادة حق الله الذي أوجبه على عباده، والاستعانة طلب العون على العبادة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة له من الله أعظم.
والاستعانة بالله لها وجهان:
أحدهما: أن يسأل الله تعالى من ألطافه ما يقوي دواعيه، ويسهل الفعل عليه.
الثاني: أن يطلب باستعانته بقاء كونه قادراً على طاعة ربه مستقبلاً، بأن تجدد له القدرة حالاً بعد حال.
والناس في العبادة والاستعانة أربعة أقسام:
الأول: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، وهؤلاء أجل الأقسام وأفضلهم.
الثاني: أهل الإعراض عن العبادة والاستعانة بالله، وهؤلاء هم شر البرية.(8/129)
الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة أو باستعانة ناقصة، فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم.
الرابع: الذين يشهدون تفرد الله بالنفع والضر، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدوروا مع ما يحبه الله ويرضاه، ومع ذلك توكلوا عليه واستعانوا به على حظوظهم وشهواتهم، فهؤلاء لا عاقبة لهم، وما أعطوه من جنس الملك الظاهر والأموال التي لا تستلزم الإسلام فضلاً عن الولاية والقرب من الله تعالى.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
15- فقه الذكر
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [الأحزاب: 41، 42].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
ذكر الله عزَّ وجلَّ هو قوت القلوب التي متى ما فارقها صارت الأجساد لها قبوراً.
وفي كل جارحة من جوارح الإنسان عبودية مؤقتة كالصلاة والصيام والحج، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة.
والذكر جلاء القلوب وصقالها ودواؤها، وبه يزول الوقر عن الآذان، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار.
زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء.
والذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عباده ما لم يغلقه العبد بغفلته.
وبالذكر يصرع العبد الشيطان، وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه.
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بذكره، ونهى عن ضده من الغفلة والنسيان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 205].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الحشر: 19].
فالذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان، والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل، والنسيان ترك بغير اختياره، ولهذا قال سبحانه: (? ? ? ??) [الأعراف: 205].(8/130)
فلم يقل: ولا تكن من الناسين؛ لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه.
والذكر من حيث ما يذكر ثلاثة أنواع:
ذكر الله وأسمائه وصفاته ومعانيها والثناء على الله بها وتوحيد الله بها.. وذكر الأمر والنهي.. والحلال والحرام.. وذكر الآلاء والنعماء والإحسان.
وذكر الله تبارك وتعالى تارة يكون بالقلب واللسان وهو أعلى الدرجات.. وتارة يكون بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية.. وتارة يكون باللسان المجرد وهو في الدرجة الثالثة.
وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكراً له، وذكر بعده به صار العبد مذكوراً، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 152].
والذكر على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الذكر الظاهر ثناءً أو دعاءً أو رعاية، والمراد بالظاهر ما تواطأ عليه القلب واللسان.
فذكر الثناء: نحو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وذكر الدعاء: نحو: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأعراف: 23].
وذكر الرعاية: ما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب، وأنسه بالله، وثقته به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [التوبة: 40].
فيشعر قلب العبد أن الله معنا، وأنه يرانا، وأنه يسمعنا.
فيتولد من ذلك الحياء من الله، والإقبال على طاعته، والبعد عن معصيته، ودوام ذكره وشكره.
الدرجة الثانية: الذكر الخفي، وهو الذكر بمجرد القلب بما يعرض له من الواردات.
ويكون بالتخلص من الغفلة والنسيان، والحجب الحائلة بين القلب والرب سبحانه، وملازمة الحضور مع المذكور سبحانه، ومشاهدة القلب له حتى كأنه يراه، ولزوم القلب لذكر ربه.
تملقاً تارة. وتضرعاً تارة.. وثناءً تارة.. وتعظيماً تارة.. ومحبة تارة.. وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسر والقلب.. وهذا شأن كل محب وحبيبه.(8/131)
الدرجة الثالثة: الذكر الحقيقي، وهو شهود ذكر الحق سبحانه إياك، فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي، حيث ذكره فيمن اختصه وأهَّله للقرب منه، ولذكره فجعله ذاكراً له.
فهو سبحانه الذي جعل الذاكر ذاكراً، والموحد موحداً، والكافر كافراً، والأبيض أبيض، والقصير قصيراً، فله المنَّة والفضل، والعطاء والمنع، وله كل شيء، وبيده كل شيء، وهو رب كل شيء.
وحقيقة ذكر الله هي تركيز اتجاه القلب إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت من الأوقات بالذكر والدعاء، وعند الأوامر والنواهي، وسائر الأحوال.
فالمسلم يبدأ ذكر الله بلسانه نطقاً ومقالاً.. ثم بقلبه يقيناً واعتقاداً.. ثم بعمله طاعة وامتثالاً لأوامر الله سبحانه.
وذكر الله سبحانه هو ثمرة المعرفة بالله والإيمان به سبحانه، وقد أمرنا الله بذكره دائماً حتى نستحضر عظمته وجلاله، وجماله وكماله، لنطيعه ولا نعصيه، ونشكره ولا نكفره.
والهدف من ذكر الله:
هو إحياء جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته، والتزام شرعه، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
والذكر قسمان: فرض.. ونفل.
فكما أن الصلاة والصيام قسمان: فرض ونفل، فكذلك الذكر نوعان:
فالذكر الحقيقي: هو الالتزام بأداء جميع الأحكام والعبادات المفروضة في وقتها، والالتزام بجميع الأدعية والأوراد المشروعة طبقاً لما ورد في السنة، وهذا هو الذكر الواجب.
يؤدي المسلم ذلك كله معظماً لربه، حامداً له، محباً له، خاشعاً لربه، معتقداً بفضلها، راجياً من ربه الثواب عليها.
أما الذكر النفلي: فهو عبارة عن الأذكار المسنونة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي ترسخ حقائق الأوامر الإلهية في القلب، وتنشط الجوارح لأدائها والإكثار منها، والصبر عليها.
فالذكر الحقيقي: فرض واجب، ولا يمكن تركه، ولا الزيادة فيه، ولا النقصان منه، ولا التصرف في كيفية أدائه، أو تحديد أوقاته.(8/132)
أما الذكر النفلي: فهو أمر اختياري مسنون، يقوم به العبد المسلم في الأوقات المتبقية من أداء الواجبات والفرائض الشرعية، وذلك حتى يظل المسلم دائم الصلة بربه، وحتى لا يشتغل الإنسان بالأعمال التي لا تعنيه في حياته.
إذ أن الشيطان يسعى لإشغال المسلم القائم بأداء واجباته الدينية في أوقات الفراغ باللهو واللعب، واللغو والفواحش، فللبعد عن حملات الشيطان، وهوى النفس وشهواتها، والمحافظة على الرباط الذي يربط المسلم بربه، لتحصل له البركات، لزم الاهتمام بالذكر النفلي.
وحتى يصل الإنسان إلى حقيقة الذكر لا بدَّ من أمور:
الأول: بذل الجهود الممكنة لفهم القرآن وتدبره، وقراءة ما تيسر منه يومياً إما في آخر الليل، أو قبيل نوافل التهجد.
ومن لا يستطيع أن يقرأ فعليه أن يهتم بسماع القرآن من غيره، وعلى القارئ أن يقرأ بتدبر وتفكر ليتأثر قلبه فينشط للإيمان والخشوع والطاعات، معظماً لربه، وكلام مولاه، منفذاً لأحكامه.
ويتيقن أن الله يراه، ويسمع تلاوته، وأنه مطالب بالعمل بما جاء فيها من أحكام بقلبه وجوارحه.
الثاني: المحافظة على الأذكار الواردة في السنة يومياً كأذكار الصباح والمساء، وأذكار أدبار الصلوات الخمس، والأذكار المطلقة، مثل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ونحو ذلك.
الثالث: الاهتمام بأداء الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسب الأوقات والأحوال المختلفة كدعاء دخول المسجد والخروج منه، ودعاء لبس الثوب، والدعاء عند دخول الحمام، وعند الفراغ من الوضوء، والدعاء عند النوم، وعند الأكل والشرب، وغير ذلك من الأدعية والأذكار المقيدة بتلك الأحوال مما ورد في السنة النبوية الصحيحة.
الرابع: أن يتعود الإنسان على ذكر الله دائماً، ويلازم ذكراً خاصاً مما ورد في السنة المطهرة، وهذا التعود يجنب الإنسان اللغو، كما يجعله مستحقاً للثواب والأجر، دائم الصلة بمولاه.(8/133)
ويختار من تلك الأذكار ما يناسب ظروفه وطبيعته، فيكثر مثلاً من (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فله بكل واحدة يقولها شجرة في الجنة.
وكذلك يكثر من (لا حول ولا قوة إلا بالله) فهي كنز من كنوز الجنة، وبذلك يصفو ذهنه، ويخشع قلبه، وينشط بدنه لطاعة ربه، ولسانه لذكره، ويسلم من أعدائه.
وإنما كانت المعاصي سبباً لمحق بركة الرزق والأجل؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللباس والركوب والجماع؛ لما في مقارنة اسم الله من البركة.
وذكر اسمه سبحانه يطرد الشيطان فتحصل البركة.
وقد لعن الله عدوه إبليس، وجعله أبعد خلقه منه، فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به، ومن هنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق، والعلم والعمل.
والذكر ثلاثة أقسام:
إما أن يكون باللسان.. أو بالقلب.. أو بالجوارح.
فذكر الله باللسان:
أن يحمد العبد ربه، ويسبحه، ويكبره، ويثني عليه، ويقرأ كتابه.
وذكر الله بالقلب ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يتفكر العبد في الدلائل الدالة على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
الثاني: أن يتفكر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، فيفعل ما يقربه إلى الله، ويجتنب ما يبعده عنه.
الثالث: أن يتفكر في أسرار مخلوقات الله، وما له سبحانه فيها من الحكم.
أما ذكر الله بالجوارح:
فيكون بأن يستعمل العبد جوارحه كلها في طاعة الله، لتكون جوارحه مستغرقة في الأعمال التي أمره الله بها، وخالية من الأعمال التي نهى الله عنها.
وذكر الله معناه: استحضاره، واستحضار عظمته، واستحضار عظمة أوامره، واستحضار عظمة وعده ووعيده في كل حين.
فلا يتحرك حركة ولا يعمل عملاً في ليل أو نهار إلا وهو يستحضر ربه ويذكره، وكل عمل خلا عن ذلك فلا روح له، بل هو كالميت.(8/134)
والذكر أفضل العبادات، بل هو الغرض المقصود من العبادات كلها، فإنها شرعت لتعين العبد على ذكر الله عزَّ وجلَّ كما قال سبحانه: (? ? ??) [طه: 14].
والذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا.
وألفاظ الذكر ثلاثة أنواع:
فأفضلها ما كان ثناء على الله سبحانه كقوله تعالى: (پ پ پ پ? ? ?? ? ? ??) [الفاتحة: 2-4].
وقول المصلي في دعاء الاستفتاح: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ» أخرجه أبو داود والترمذي (1).
وقوله في الركوع «سبحان ربي العظيم»، وفي السجود «سبحان ربي الأعلى»، ثم يليه ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافاً بما يجب لله عليه، كقوله تعالى: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [الأنعام: 79].
وقول المصلي في الركوع: «اللَّهُمَّ! لَكَ رَكَعْتُ»، وفي السجود: «اللَّهُمَّ! لَكَ سَجَدْتُ» أخرجه مسلم(2).
ثم يليه ما كان دعاءً وطلباً من العبد كقوله سبحانه: (ٹ ٹ ٹ?) [الفاتحة: 6].
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه(3).
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (775)، صحيح سنن أبي داود رقم (701).
وأخرجه الترمذي برقم (243)، صحيح سنن الترمذي رقم (202).
(2) أخرجه مسلم برقم (771).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598).(8/135)
والإنسان إذا استعاذ بالله من الشيطان حفظه الله، ووقاه كيده، وإذا ذكر الله وبدأ عمله ذاكراً اسم الله فإنه يشعر أن الله معه يعينه ويسدده، ويشعر أنه بدون الله غير قادر، وأن قوته الذاتية لا تنفعه، وأنه بحاجة إلى عون الله في كل لحظة، وفي كل عمل، ويطرد الغرور عن نفسه.
ومن لا يذكر الله يعمل والغرور يملأ قلبه؛ لأنه يشعر أنه يستطيع أن يحقق ما يريد بقوته الذاتية.
فكأنه استغنى عن الله وابتعد عنه، وكيف يستغني العاجز الفقير عن الغني الحميد؟.
ومن أعظم المصائب أن يحس الإنسان أنه يستطيع أن يحقق لنفسه ما يريد بذاته ناسياً ربه.
فإذا أصابته نعمة من الله نسبها إلى نفسه، وادعى أنه يستطيع الحصول على الرزق بقدرته هو، مستغنياً عن ربه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 83].
فإذا أنعم الله عليه بنعمة نسبها إلى نفسه، فأعرض عن الله بدلاً من أن يشكره.. لماذا؟.
لأنه حقق شيئاً بما أعطاه الله من علم في الأرض، فأوهمه هذا العلم أنه استغنى عن الله، وأنه بذاته يحصل على ما يريد.
ولا ريب أن الله بيده كل شيء، والمؤمن دائماً يسأل ربه حاجته، ويستعين به في جميع أموره.
فإن نزل المطر شكر ربه.. وإن تأخر المطر رفع يديه إلى السماء طالباً من الله رحمته، هذا حال الإنسان، حتى أنعم الله عليه بشيء من العلم فاستطاع أن يشق الأنهار، ويبني السدود، ويخزن المياه؛ ليستعين بها في وقت الجفاف على حوائجه، فأحس أنه استغنى عن الله فلا يدعو ربه، فهل نسي أن الله هو الذي أنزل الماء الذي ملأ به السد، وحفظه من التسرب والفساد؟.
وهكذا أنعم الله على الإنسان بالعلم الذي استطاع به أن يقيم سداً، ليحجب ويحفظ مياه المطر حتى الموسم القادم.(8/136)
وكان الرد أن الإنسان بدلاً من أن يشكر الله على نعمة العلم الذي أتاحه له ليجعل حياته أيسر، فإذا به ينأى عن الله سبحانه وينساه، وينسب العلم إلى نفسه وإلى قدراته هو، وكأنه استغنى عن الله الذي خلقه، وساق إليه المطر، وأوصله إليه، وأعطاه العلم ليبني السد ويحفظ الماء فيه.
وماذا يغني السد لو حبس الله المطر؟.
وماذا يغني السد لو ملأه الله بالماء الملح الأجاج الذي لا يقبله نبات، ولا حيوان، ولا إنسان؟.
ألا ما أجهل الإنسان.. وما أشد غروره.. كلما زاده الله نعمة ازداد بها غروراً وطغياناً: (گ گ ? ?? ? ? ??) [العلق: 6، 7].
إن الله تبارك وتعالى كلما كشف للبشر من العلم ليعطيهم حياة أيسر وأفضل ابتعد هؤلاء الناس عن الله، وانشغلوا بالمخلوق عن الخالق، وبالنعمة عن المنعم، ونسوا أن الذي أعطاهم السمع والبصر والعقل، هو الذي أعطاهم العلم، وهو الذي أعطاهم النعم.
إن العبد كلما ذكر الله كان الله معه يعينه، ويفتح له الطريق، ويحفظه من الشر، ويذلل له العقبات، ويدله على الخير، كما أمر الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام أن يذهبا إلى فرعون ذاكرين لله بقوله(? ? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [طه: 42-44].
فلما قالا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 45].
قال الله لهما: (? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 46].
والإنسان عندما يعتاد دوام ذكر الله في كل أحيانه، ويذكر الله عند كل عمل، فإنه لا يمكن أن يبدأ بمعصية.
فلا يسرف، ولا يزني، ولا يشرب الخمر، ولا يقتل، ولا يسرق.
فما دام ذكر الله على لسانه فإنه يمنعه من المعاصي، وهو سد منيع بينه وبين الآثام، ولذلك أمرنا الله بذكره في جميع الأحوال والأوقات.
وإذا تعودت ذكر الله في كل عمل استحييت أن تبدأ عملاً يغضب الله؛ لأنك لا تبدأ باسم الله إلا فيما أجازه الله، أو أباحه الله، أو أوجبه الله.(8/137)
والله سبحانه يريد بالتسمية قبل كل سورة في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) أن يذكرنا دائماً أن ندخل عليه متوكلين عليه، معتمدين على رحمته لا على عملنا، فالإنسان مهما عمل.. ومهما اجتهد.. ومهما بذل وأعطى.. ومهما نصح.. فلا يخلو عمله من شائبة.
فإن تكلم فقد ينم ويغتاب.. وإن حكم فقد يظلم.. وإن عمل فقد يقصر، والإنسان خلق ظلوماً جهولاً، وخلق خطاءً، ولولا رحمة الله ما بقيت لنا نعمة: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 34].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّة» قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ ا?! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه(1).
إن الذين يبذلون أقصى جهدهم في طاعة الله لا يصلون إلى مرتبة الكمال، وحسبهم أن يقاربوا، فالكمال لله وحده، والإنسان ظلوم كفار، وإن عمل فهو خطاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (2).
والشيطان يريد ويحاول أن يقعد بالإنسان عن الصراط المستقيم، وأن يمنعه من طاعة الله، والنفس تأمره بالسوء.
ولذلك كان لا بدَّ من باب الرحمة يدخل منه البشر إلى الله سبحانه، وأن يكون الباب مفتوحاً على مدى الزمن يهرع إليه كل عبد، وكل عاص، وكل تائب.
وكم من الكفار والعصاة الذين فتح الله لهم باب رحمته فتابوا إلى الله، فقبل توبتهم، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أئمة هذا الدين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 7].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673)، ومسلم برقم (2816)، واللفظ له.
(2) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2499)، صحيح سنن الترمذي رقم (2029).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4251)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3428).(8/138)
والله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته وذكره، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك، فمن أطاع فهو من المفلحين، ومن عصى فهو من الخاسرين.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [الأحزاب: 41، 42].
وذكر الله ليس باللسان فقط، إنما هو شعور بجلال الله ورقابته، والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويكرم ويهين، فمن وهبه الله هذا ذاق حلاوة الإيمان، وتلذذ بذكر ربه.
والشكر لله درجات تبدأ بالاعتراف بفضله، والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جفان.
ومن قصر في الذكر والشكر انتهى به ذلك إلى الكفر والعياذ بالله.
ولقد ذكر المسلمون الأوائل ربهم وشكروه فذكرهم ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة، ثم نسوه فإذا هم همل ضائع، وذيل تافه، لا ذكر لهم في الأرض، ولا في الملأ الأعلى، ولا عند المولى، ومن ذكر الله ذكره، والوسيلة قائمة: (? ? ? ? ? ??) [البقرة: 152].
ولكي يؤثر ذكر الله في القلب لا بدَّ عند الذكر من ثلاثة أشياء:
أحدها: فراغ القلب من كل شيء سوى الله، كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ? ??) [الشرح: 7، 8].
الثاني: التبتل وهو الانقطاع إلى الله، والانفصال بالقلب عن الخلائق كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ?) [المزمل: 8].
الثالث: التدبر لما يقول، فإذا قال: سبحان الله، قال: يا الله أنت بريء من كل عيب، وأنا مليء بكل عيب، وإذا قال: الحمد لله، قال أنت العظيم الكريم فلك كل حمد، وأنا لا أستحق الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله، قال: أنت معبودي وإلهي وأنا لا أمشي على هواي، وإذا قال: الله أكبر قال: أنت الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، وكل ما سواك مخلوق صغير.(8/139)
فبالتدبر يدخل كل هذا في القلب، ويؤثر فيه أعظم من تأثير الطعام في البدن، وبذلك يحصل على كمال الإيمان واليقين والتقوى.
فالعبادات والصلوات والأذكار كلها تذكر العبد بربه.. فيزيد إيمانه.. ويحرص على طاعته.. ويجتنب معصيته.. ويرجو رحمته.. ويخاف عذابه.. ويشكره على نعمه.. ويستحي أن يراه على معصيته.
ولذلك أمرنا الله بكثرة ذكره وتسبيحه في كل حين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [الأحزاب: 41، 42].
16- فقه التبتل
قال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ??) [المزمل: 8].
وقال الله تعالى: (چ چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الحجر: 98، 99].
التبتل: هو الانقطاع إلى الله بالكلية، والانفصال بالقلب عن الخلائق.
والتبتل على أربع درجات:
الدرجة الأولى: انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه، وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفاً منه، أو رغبة فيه، أو فكراً فيه، بحيث يشغل قلبه عن الله.
ثم اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له حباً له، وخوفاً منه، ورجاء له، وإنابة إليه، وتوكلاً عليه.
والذي يعين على ذلك حسم مادة رجاء الخلق من القلب، والرضا بحكم الله عزَّ وجلَّ، فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع.
ويحسم مادة الخوف من الخلق التسليم لله، فإن من سلَّم نفسه لله واستسلم له، علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه نصيب.
فإنه قد سلَّم نفسه إلى وليها ومولاها، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها، فلا معنى للخوف من غير الله بوجه، وإذا سلَّمها لله فقد أودعها عنده حيث لا تنالها يد عدو، ولا باغ مهما كان.
وكذلك يرى كل شيء من الله وبالله، وفي قبضته، وتحت قهره، فلا يتحرك شيء إلا بأمره، ولا يسكن إلا بأمره، ولا يتغير شيء إلا بحوله وقوته، ولا ينفع ولا يضر أحد إلا بإذنه وعلمه.(8/140)
فلا يبالي العبد بما سوى الله بعد هذا الشهود، وبذلك ينقطع عن الخلق، ويتصل بالخالق.
الثانية: الانقطاع عن النفس بمجانبة الهوى، وتنسم روح الأنس بالله عزَّ وجلَّ، فالنفس لا بدَّ لها من التعلق، فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله، فأبصرت جمال وجلال معبودها، وطريقة الوصول إليه، وما أعده من النعيم لأوليائه.
وأدركت عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها، فانقطعت لربها ومولاها، الذي هو نعم المولى ونعم النصير.
الثالثة: الإعراض عما سوى الله، ولزوم الإقبال عليه، والاشتغال بمحابه، فلما كانت الدرجة الأولى انقطاعاً عن الخلق، والثانية انقطاعاً عن النفس، فالثالثة طلباً للسبق، وذلك بتصحيح الاستقامة بالإقبال على الله، وأن يشغله طلب الوصول إليه عن كل شيء، ويعلم أن قيام الخلق كلهم بالحق وحده، وقيامه عليهم بالربوبية والتدبير والتصريف.
الرابعة: انقطاع العبد عن مراده من ربه إلى مراد ربه منه، فلا يريد منه، بل يريد ما يريده الله منه من عبادته، وطاعته وتوحيده، منقطعاً بذلك عن كل إرادة.
فيعبد ربه بما شرع، ويستعين به في جميع أموره، ويوحده بذلك كله، مريداً بذلك وجهه، منقطعاً بذلك عن كل حظ ومراد يزاحم حق ربه ومراده.
فالتبتل معناه: الانقطاع إلى الله بالكلية بعيداً عن ملاحظة الأعواض، فالمتبتل ليس كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة، فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر، بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا من أجل الأجرة (چ چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الحجر: 98، 99].
17- فقه الصدق
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 119].
الصدق: الوفاء لله بالعمل، والقول بالحق في مواطن الهلكة.(8/141)
وأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم مع كمال الإخلاص للمرسل: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69، 70].
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الإسراء: 80].
وأخبر عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: (? ? ? ? ? پپ) [الشعراء: 84].
وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق فقال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 2].
وكذلك أخبر الله أن لهم مقعد صدق عند ربهم فقال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [القمر: 54، 55].
فهذه خمسة أشياء:
مدخل الصدق.. ومخرج الصدق.. ولسان الصدق.. وقدم الصدق.. ومقعد الصدق.
وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان بالله ولله، من الأقوال والأعمال والنيات، ومداخله صلى الله عليه وسلم ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره، ولابتغاء مرضاته.
والصادق لا تراه إلا هارباً من مكان إلى مكان، ومن عمل إلى عمل، ومن حال إلى حال؛ لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها أن تقطعه عن مطلوبه، فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى، الذي يفوق به الأغنياء.
والصادق مطلوبه رضى ربه، وتنفيذ أوامره، وتتبع محابه، فهو متقلب فيها يسير معها حيث سارت، فبينما هو في صلاة، إذ رأيته في ذكر، ثم في غزو، ثم في حج، ثم في إحسان إلى الخلق، ثم في أمر بالمعروف، ثم في نهي عن منكر، أو في عيادة مريض، أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم.. أو غير ذلك من القرب والطاعات وأعمال البر المختلفة.
والصدق يطلق على معان كثيرة:
منها الصدق في القول، فلا يتكلم إلا بالصدق، والصدق باللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها.(8/142)
وينبغي للعبد أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه، فإن كان قلبه منصرفاً عن الله، مشغولاً بالدنيا، فهو كاذب.
ومنها الصدق في النية والإرادة، وذلك يرجع إلى الإخلاص، فإن فقد ذلك بطل صدق النية.
ومنها الصدق في العزم والوفاء به كأن يقول: إن آتاني الله مالاً تصدقت به ونحوه.
ومنها الصدق في الأعمال، وهو أن تستوي سريرته وعلانيته في جميع أعماله.
ومنها الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء، والزهد والحب، والتوكل على الله ونحو ذلك.
وكل من عامل الله بالصدق استأنس به، واستوحش من الخلق.
ومن علامات الصدق:
كتمان الطاعات والمصائب جميعاً.. وكراهة اطلاع الخلق على ذلك.
ومقام الصديقين مقام رفيع، ومع علو هذا المقام فهو بفضل الله ميسور لمن أراده، وليس وقفاً على أفراد، ولا على طائفة، فكل من يحقق إيمانه بالله ورسله فله حظ في هذا المقام الرفيع: (? ? ? ? ? پ پپ) [الحديد: 19].
ألا ما أجمل هذا الدين وما أحسنه؟.
إنه طريق مفتوح لجميع البشر، وأفق يتطلع إليه الجميع، ليس فيه احتكار للمقامات، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم، وليس إلا العمل الصالح المبني على التقوى، فهو الذي يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ ا?! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِا? وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3256)، ومسلم برقم (2831)، واللفظ له.(8/143)
والصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم القوية، ولذلك صار موصلاً إلى الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ، يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? كَذَّابًا» أخرجه مسلم(1).
والصدق على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: صدق القصد، وهو كمال العزم وقوة الإرادة، بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السلوك، وبه يتلافى كل تفريط، فلا يترك فرصة تفوته، وما فاته يتداركه بحسب الإمكان.
فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة، ويعمر فيه ما خربته يد البطالة، ويقلع ما وجده شوكاً، ويزرع منه ما وجده بوراً.
قد انجذبت قوى روحه كلها إلى إرادة الله وطلبه، وابتعد عن صحبة أهل الغفلة وقطاع الطريق إلى الله، فإن اضطر لصحبتهم صحبهم بقالبه لا بقلبه؛ لئلا يفسدوا عليه حاله.
الدرجة الثانية: أن لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص، فهو لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضى محبوبه، ويقوم بعبوديته لا لعلة من علل الدنيا وشهواتها، ولا يرى نفسه إلا مقصراً قليل الزاد.
فمن عرف نفسه وعرف ربه لم ير نفسه إلا بعين النقصان والتقصير، ويعمل على رضا محبوبه والتقلب في محابه، فإن كانت الرخص أحب إليه من العزائم كالفطر في السفر فعلها، فهو يستعد بهذه الرخصة لعبودية أخرى.
أما الرخص التأويلية، والآراء الشاذة، والأقوال التي تصيب وتخطئ، فالأخذ بها عين البطالة وهو مناف للصدق.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2607).(8/144)
الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق، فإن العبد إذا صدق الله رضي الله بعمله وحاله ويقينه؛ لأنه قد رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
فرضي الله به عبداً، ورضي بأقواله وأعماله القائمة على الإخلاص والمتابعة: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [البينة: 7، 8].
والصدِّيق كثير الصدق، الذي لم يصدر منه الكذب أصلاً، الذي صدق بقوله واعتقاده وأعماله كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [مريم: 41].
والصديقون قوم دون الأنبياء في الفضيلة، ودرجتهم تلي درجة النبيين.
والصدق هو الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من الهالكين، وبه تميز أهل الإيمان من أهل النفاق، وسكان الجنان من سكان النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضِع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أزاله وصرعه، وهو روح الأعمال ولبها.
والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر.
وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 24].
وأخبر سبحانه أنه لا ينفع العبد ولا ينجيه من عذابه يوم القيامة إلا الصدق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 119].
18- فقه التقوى
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 2، 3].
تقوى الله تبارك وتعالى أكرم ما أسررنا، وأزين ما أظهرنا، وأفضل ما ادخرنا، وأحسن ما لبسنا.
والخاسر من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من يستوي عنده السر والعلانية.
وتقوى الله عزَّ وجلَّ: أن تفعل ما أمرك الله به رجاء ثوابه، وأن تترك ما نهاك عنه خوفاً من عقابه.(8/145)
وحق تقاته: أن لا يترك المسلم شيئاً مما أمر الله به إلا فعله، وأن يجتنب كل ما نهى الله عنه.
فيطيع ربه ولا يعصيه.. ويذكره ولا ينساه.. ويشكره ولا يكفره.. ويؤمن به ويتوكل عليه.
وقد أمر الله عباده المؤمنين بالتقوى؛ لأنهم هم الذين يعرفون ما يستحقه سبحانه من التعظيم والإجلال والتوقير، وكمال المحبة والطاعة والذل للرب سبحانه فقال: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
ولكن أحداً لا يستطيع أن يقوم بكمال التقوى، فمن رحمة الله أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإذا فعل الإنسان ما يستطيع مما أمر الله ورسوله به، وترك ما نهى الله ورسوله عنه، فقد اتقى الله حق تقاته كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 16].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الحشر: 7].
والتقوى تقوم على أصول عظيمة، ولها دلائل وشواهد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والأعمال الصالحة التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره، والأخلاق الحسنة التي هي جمال الإنسان، فمن اتصف بهذه الصفات فهو من الأبرار الصادقين المتقين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [البقرة: 177].
والتقوى: هي التحلية بعد التخلية، والتزين بعد التطهر بفعل الطاعات بعد التخلي عن السيئات.
والتحلية فعل الحسنات إما بالقلب، أو القالب، أو المال.
فرأس الأعمال القلبية الإيمان، والجامعة للأعمال البدنية هي الصلاة التي هي عماد الدين، وقطب الأعمال المالية هي الزكاة والصدقات كما قال سبحانه: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 1-3].
والتقوى وصية الله للأولين والآخرين كما أخبر الله بذلك بقوله: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 131].(8/146)
وتقوى الله عزَّ وجلَّ هي أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، وأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
والتقوى قسمان:
تقوى القلوب.. وتقوى الجوارح.
والأصل تقوى القلوب، وتقوى الجوارح من لوازم تقوى القلوب، وهي ثمرة تقوى القلوب، فالتقوى في الحقيقة في القلب كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 32].
وتقوى الجوارح لا قيمة لها ولا وزن بدون تقوى القلوب.
والله سبحانه أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم، وحقائق الإيمان على بواطنهم، ولا يقبل واحد منهما إلا بصاحبه وقرينه، والإسلام علانية، والإيمان في القلب.
وكل إسلام ظاهر لا يقوم على حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه إيمان باطن.
وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت.
فلو تمزق القلب بالمحبة لله، والخوف منه، والتعظيم له، ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار.
كما أنه لو قام بظواهر الإسلام، وليس في باطنه حقيقة الإيمان، لم ينجه ذلك من النار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
وأكمل الهدي في الإسلام والإيمان والإحسان وفي كل شيء هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان موفياً كل واحد حقه، فكان مع كمال تقواه وإرادته يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويحج ويعتمر، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، ويكرم الضيوف، ويواسي المحتاجين، ويخالط أصحابه، ويؤدي الفرائض، ولا يترك شيئاً من النوافل والأذكار والأوراد.
وإذا عرف هذا فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان:(8/147)
الأول: من صرف ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها، وإن لم يكونوا خالين من أصلها، ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال الصالحة.
الثاني: من صرف ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم، وعكوفها على الله وحده، والجمعية عليه، وحفظ الخواطر والإرادات معه.
وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة للرب، والخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والتعظيم والحمد، ورأوا أن أيسر الواردات على قلوبهم من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية.
فإذا حصل لأحدهم وارد أنس، أو حب، أو انكسار، أو ذل، لم يستبدل به شيئاً سواه البتة، إلا أن يجيء الأمر الواجب فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد؛ فإذا جاءت النوافل فإن أمكن القيام إليها فذاك، وإلا نظر في الأرجح والأحب إلى الله:
هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف، وإرشاد الضال، وجبر المكسور، واستفادة إيمان ونحو ذلك.
فهاهنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة.
ومتى قدمها لله وتقرباً إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان.
وإذا كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه، فإنه يفوت والنافلة لا تفوت.
وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق، ومراتب الأعمال، وتقديم الأهم فالمهم و«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين» متفق عليه(1).
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم مصالح الدنيا والآخرة في قوله: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» أخرجه ابن ماجه (2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607).(8/148)
فنعيم الآخرة ولذاتها إنما ينال بتقوى الله عزَّ وجلَّ.
وراحة القلب والبدن، والسلامة من التعب والكد في طلب الدنيا، إنما ينال بالإجمال في الطلب.
فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة.. ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها.
وتقوى الله عزَّ وجلَّ تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، ولهذا أمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اتَّقِ ا? حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» أخرجه أحمد والترمذي (1).
فتقوى الله توجب للعبد محبة الله له، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، والتقصير في فعل الطاعات، أو فعل السيئات، يمحوه اتباع ذلك بفعل الحسنات.
والعبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، وأقرب الوسائل إلى الله ملازمة السنة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، والتضرع إليه، وإرادة وجهه وحده بالنيات والأقوال والأعمال.
ومن أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره وإجلاله وتقواه.
ومن السفاهة والجهل أن توقر المخلوق وتجله أن يراك، في حال لا توقر الله أن يراك عليها، وهذا من أعظم الجهل، فمن لم يعرف الله لم يوقره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?ٹ) [نوح: 13].
ولا بدَّ لكل إنسان من أمرين:
أحدهما: طاعة الله ورسوله، بفعل المأمور وترك المحظور.
الثاني: الصبر على ما يصيبه من القضاء المقدور.
فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر، وقد جمعهما الله في قوله: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [يوسف: 90].
وقد خلق الله في كل نفس ثلاث قوى:
قوة البذل والإعطاء.. وقوة الكف والامتناع.. وقوة الإدراك والفهم.
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (21354). وأخرجه الترمذي برقم (1987)، صحيح سنن الترمذي رقم (1618).(8/149)
فمن وفقه الله للإيمان وهداه استعملها فيما يحب الله، ويسره لكل يسرى في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھھ ھ ھے ے ??) [الليل: 5-7].
ومن خذله ولم يرد له الهداية استعملها فيما يبغض الله، فنال بسبب ذلك العقوبة كما قال سبحانه: (? ? ? ?? ? ?? ? ??) [الليل: 8-10].
وأبواب البركات تفتح مع كمال الإيمان، وكمال التقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 96].
والبركات الإلهية لا يحصيها إلا الله.. ومنها البركة في العمر.. والبركة في الرزق.. والبركة في الوقت.. والبركة في الأهل والأولاد.. والبركة في الأموال.. والبركة في الأعمال.
ومنها قضاء الحاجات بدون الأسباب: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الطلاق: 2، 3].
ومنها حصول الأموال بدون جهد، وحصول الأشياء بدون تعب، وحصول الأرزاق مباشرة من الرب، كما قال الله عن مريم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 37].
والآن أغلقت أبواب البركات، وحرم منها أكثر المسلمين، بسبب ضعف الإيمان، ونقص التقوى.
نسينا الله فنزع منا كل شيء، والذي لم ينزع ذهبت بركته.
نزع منا حب كلام الله، وحب كلام رسوله، وحب عبادة الله، وحب طاعته، وحب أوليائه، وحب أوامره، وحب دينه.
فارتفعت الخيرات والبركات؛ لكثرة المعاصي والمخالفات.
وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه، وقيمة كل شيء ترتفع بقدر ما فيه من الصفات.
وكذلك قيمة الإنسان ترتفع عند الله بقدر ما فيه من الصفات الإيمانية، وبقدر ما يقوم به من الأعمال الصالحة، وما يتحلى به من الأخلاق العالية.
وبنو آدم كثيرون لا يحصيهم إلا الله، ولكن الله اشترى منهم أحسنهم وأكملهم وأفضلهم وهم المؤمنون.
فهؤلاء خير الناس، وأفضل الناس، وأكرم الناس، وأغلى الناس، والسلعة إذا خفي عليك قدرها، فانظر المشتري لها من هو؟.(8/150)
وانظر إلى الثمن المبذول فيها؟، وانظر إلى من جرى على يده عقد التبايع؟
فالسلعة: النفس المؤمنة، والمشتري لها: هو الله سبحانه، وثمنها: جنات النعيم.
والسفير في هذا العقد: خير خلقه من الملائكة وأكرمهم وهو جبريل، وخير خلقه من البشر وأكرمهم عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد أعلن الله هذا العقد للبشرية كافة بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 111].
وقد أوجب الله على كل عبد واجبين:
واجب بينه وبين الله.. وواجب بينه وبين الخلق.
فأما الواجب بينه وبين الله سبحانه فهو الإيمان به، وعبادته وحده، وإيثار طاعته، وتجنب معصيته، وكمال تقواه.
وأما الواجب بينه وبين الخلق فهو أن تكون مخالطته لهم تعاوناً على البر والتقوى علماً وعملاً، لا تعاوناً على الإثم والعدوان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 2].
والبر: كلمة جامعة لجميع أنواع الخير.
والإثم: كلمة جامعة لجميع أنواع الشر التي تهلك الإنسان.
وكل عمل لا يكون طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض، لا العادة ولا الهوى، ولا طلب المحمدة والجاه، بل لا بد أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثواب الله تعالى وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب.
والإثم والعدوان في جانب النهي نظير البر والتقوى في جانب الأمر.
والفرق بين الإثم والعدوان:
أن الإثم ما كان محرم الجنس كالزنى والسرقة والكذب ونحو ذلك.
والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة، بأن يتعدى ما أبيح له منه إلى القدر المحرم، كما إذا أُتلف عليه شيئاً أَتلف أضعافه، أو كأن يتزوج خامسة، أو يطأ امرأته في حيضها أو نفاسها أو دبرها، أو اعتدى في الدعاء، أو زاد ركعة في الصلاة، أو أخذ أكثر من حقه ونحو ذلك.
والتقوى باعتبار ما يتقيه الإنسان ثلاثة أقسام:(8/151)
فتارة تضاف إلى الله؛ لأنه أعظم من يتقى ويُخاف ويُرجى كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
وتارة تضاف إلى مكان عقوبة الله كالنار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [آل عمران: 131].
وتارة تضاف إلى زمان عقاب الله كيوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 281].
ومعية الله ونصرته تكون معنا في الأحوال الآتية:
الأولى: حين تأتي فينا الصفات التي يحبها الله من الإيمان، والتقوى، والإحسان ونحوها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 128].
الثانية: حين نمتثل أوامر الله ونطيعه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [المائدة: 12].
الثالثة: حين نقوم بالدعوة إلى الله، ونضحي بما نملك من أجل إعلاء كلمة الله، ونشر دينه كما قال الله لموسى وهارون حين ذهبا لدعوة فرعون إلى الله: (? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 46].
والله سبحانه أنزل للبشر لباسين:
لباساً ظاهراً يواري العورة ويسترها.
ولباساً باطناً من التقوى يجمل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها.
واللباس وستر العورة زينة للإنسان، وستر لعوراته الجسدية، كما أن التقوى لباس، وستر لعوراته النفسية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 26].
والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها.
والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس، وتعرية النفس من التقوى، ومن الحياء من الله، ومن الناس، والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم لتأصيل هذه المحاولة، هم الذين يريدون سلب الإنسان خصائص فطرته.. ونزع زينته الداخلية والخارجية.. والتي صار بها إنساناً.. وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان.. ليتولى كشف سوأته.(8/152)
إن العري فطرة حيوانية، ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من رتبة الإنسان، وإن رؤية العري جمالاً هو كرؤية الكفر فلاحاً، وذلك انتكاس في الذوق، والعقل البشري قطعاً، والعري النفسي من الحياء والتقوى، وهو ما تجتهد فيه أقلام وأفلام أهل الباطل هو النكسة والردة إلى الجاهلية.
والتزود في السفر شأن العقلاء، فإن فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن سؤالهم أموالهم، وفي الإكثار منه نفعٌ وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين هذا في سفر الدنيا.
وأما الزاد الحقيقي فهو زاد التقوى، الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجلّ نعيم دائم أبداً كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 197].
وأهل الإيمان والتقوى هم الفائزون بالسعادة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 62-64].
وماذا أعد الله للمتقين في الآخرة؟ وماذا ينتظرهم من النعيم المقيم؟ فلنسأل القرآن لنعلم ماذا أعد الله لعباده المتقين: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [الرعد: 35].
وقال سبحانه (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 15].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 20].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 73].
وقال سبحانه: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [محمد: 15].
وقال عزَّ وجلَّ: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [آل عمران: 133].
وقال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گگ گ ? ? ? ?? ? ? ? ں ں ? ?? ?? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھے ے ? ? ? ? ? ??) [ص: 49-54].
وقال عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [القمر: 54، 55].(8/153)
وقال سبحانه: (چ چ چ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ژژ ڑ ڑ ک ک ک کگ گ گ گ? ? ? ? ? ??) [الذاريات: 15-19].
وقال سبحانه: (? ? ?? ? پپ پ پ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [النبأ: 31-36].
فسبحان الله! ماذا أعد الله من النعيم للمتقين؟ وماذا هيأ لهم من الكرامات والبشائر؟ والحبور والسرور؟ وألوان الطعام والشراب وفاخر الدور؟ والغرف والقصور؟
وأما في الدنيا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون: (? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ?ہ) [الطلاق: 2، 3].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 4، 5].
وماذا على المسلم إذا علم ما أعد الله لأهل التقوى من جزيل الأجر والثواب؟
(? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
(گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 69-71].
وقال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 35].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 119].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 18].
وقال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 28].
والله حكيم عليم خلق كل شيء بحكمة، وخلق كل شيء لمقصد وحكمة، فخلق سبحانه الشمس للإنارة.. وخلق الماء للشرب.. وخلق النبات والحيوان لخدمة الإنسان.. وخلق الإنس والجن للعبادة.
والإنسان صنع السيارة للنقل.. والقلم للكتابة.. وهكذا.
وكل شيء يؤدي وظيفته والمقصد منه، فهو محترم مكرم محبوب، غال عند أهله، فإذا ترك المقصد، أو تعطل عن العمل، ذهبت قيمته، وزهد فيه أهله.
وكذلك الإنسان خلقه الله لعبادته، وأمره بالإيمان والتقوى، فإذا ترك المقصد منه وهو العبادة، صار لا قيمة له في الدنيا والآخرة، وهو محاسب على ترك المقصد الانفرادي وهو العبادة، وترك المقصد الاجتماعي وهو الدعوة إلى الله، وإلى دينه.(8/154)
وعمل هذه الأمة عمل الأنبياء، ووظيفتها وظيفة الأنبياء، إيمان وتقوى، وعبادة، ودعوة، تعلم وتعليم، وجهاد وصبر: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
19- فقه الغنى
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 164].
وقال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
الغنى: اسم للملك التام، فالمالك من وجه دون وجه ليس بغني، وعلى هذا لا يستحق اسم الغني بالحقيقة إلا الله وحده، وكل ما سواه فقير إليه بالذات.
ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغنى به، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم.
والغنى في الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق.
وكما أن كون الإنسان مخلوقاً أمر ذاتي له، فكونه فقيراً أمر ذاتي له، وغناه أمر نسبي عارض له، فإنه قد استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به، فقير إليه.
ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته، وهو الله الغني بذاته عما سواه كما قال سبحانه: (?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [فاطر: 15].
وغنى البشر قسمان:
غنى عال.. وغنى سافل.
فالغنى السافل هو الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين، والأموال، والأنعام، والحرث والزرع، والعقار والمراكب ونحو ذلك.
وهذا أضعف الغنى، فإنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع إلى مالكها سبحانه عن قريب.
ولا أضعف من همة مَنْ رضي بهذا الغنى الزائل، وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، ولا أحب إلى الشيطان ولا أبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى، والخوف من فقده.(8/155)
فجدير بمن نصح نفسه أن لا يغتر به، ولا يجعله غاية مراده، بل إذا حصل له جعله سبباً لكسب الأجور، ووسيلة لغناه الأكبر، ويجعله خادماً من خدمه لا خادماً له، ويعز نفسه أن يُعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمة لغيره: (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 66].
أما الغنى العالي، فإن العبد إنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته، ويدفع حاجته، وهو نوعان: غنى بالله.. وغنى عن غير الله.
وفي قلب الإنسان فاقة عظيمة، وضرورة تامة، وحاجة شديدة، لا يسدها إلا بحصول الغني الحميد، الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء.
ومن استغنى به سبحانه عما سواه زالت عنه كل حسرة، وحضره كل سرور وفرح.
والغنى على ثلاث درجات:
الأولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، فيتعلق بالله وحده، وإذا تعلق به تخلص من التعلق بغيره.
والغنى عند أهل الغفلة بالسبب والأشياء، ولذلك قلوبهم معلقة به، وصاحبها غني بها إذا سكنت نفسه إليها.
وغنى العارفين بالمسبب سبحانه، فمن كان سكونه إلى ربه فهو غني به، وكل ما سكنت النفس إليه فهي فقيرة إليه.
الثانية: غنى النفس، فالنفس من جند القلب ورعيته، وهي من أشد جنده خلافاً عليه وشقاقاً له، وغناها تماماً لغناه، ويكون ذلك باستقامتها على المرغوب وهو الحق سبحانه باستدامة طلبه، وقطع المنازل بالسير إليه، وسلامتها من التعلق بغير الله، وبراءتها من المراءاة، وهي إرادة غير الله بشيء من أعمالها.
فمراداتها دليل على شدة فقرها، وعدم استقامتها على مطلوبها الحق.
وذلك يدل على أنها غير واجدة لله، إذ لو وجدته لاستقامت على السير إليه، ولقطعت تعلقاتها وحظوظها من غيره، ولمََا أرادت بعملها غيره.(8/156)
الثالثة: الغنى بالحق، وذلك يكون بشهود ذكره إياك، ومطالعة سبقه للأشياء جميعاً، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والفوز بوجوده، فهو الموجود بذاته، والغني بذاته، وجميع المخلوقات في العالم العلوي والسفلي هو الذي كساها حلة الوجود، فهي معدومة بالذات، فقيرة إليه بالذات، وهو سبحانه الغني بذاته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 68].
والقلب لما كان هو الملك، فصلاحه صلاح لجميع رعيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه(1).
فالقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه، وعطاياه السنية من الإيمان والتوحيد، والمعرفة والعبودية، والطاعة والاستقامة، خلع على الأمراء والرعية خلعاً تناسبها، تأنس بها وتسعد بها:
فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة، والرضا والإخبات، فأدت الحقوق سمحة بانشراح ورضى، وجانست القلب ووافقته، وصارت وزير صدق، بعد أن كانت عدوة له معاندة له.
وأثمرت هذه المؤازرة والموافقة الطمأنينة واللذة.
وسلاح النفس كامن متوارٍ، لولا قوة سلطان القلب وقهره لها لحاربت بكل سلاح تملكه.
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار والانقياد، وخلع على الوجه خلعة المهابة والنور والبهاء..، وخلع على اللسان خلعة الصدق، والقول السديد والحكمة النافعة..، وخلع على العين خلعة الاعتبار في النظر، والغض عن المحارم..، وخلع على الأذن خلعة استماع النصيحة، واستماع القول النافع من كلام الله ورسوله..، وخلع على اليدين والرجلين خلعة المسابقة والمسارعة إلى الخيرات والطاعات..، وخلع على الفرج خلعة العفة عما حرم الله.. وهكذا.
فلا ترى هذا العبد إلا يغدو ويروح يرفل في هذه الخلع والحلل.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، واللفظ له، ومسلم برقم (1599).(8/157)
فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس فذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض.
وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر، وطلبها الرفيق الأعلى، فحينئذٍ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق.
مؤدية لحقوقه.. قائمة بأوامره.. راضية عنه.. مرضية له.
(? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?? ? ??) [الفجر: 27-30].
فغنى القلب سلامته من الفقر إلى السبب، وشهوده والاعتماد عليه، والركون إليه والثقة به.
فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط.
ومتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن منازعته لأحكام الله، ومن علة مخاصمة الخلق إلا في حقوق ربه استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً أمره إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: «اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلا أنْتَ، أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ» متفق عليه(1).
وأما غنى النفس فهو استقامتها على المرغوب، وهو أمر الله الديني الذي يحبه ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيماً لله سبحانه، وتعظيماً لأمره، وإيماناً به، واحتساباً لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلباً لتعظيم المخلوقين ومدحهم له، أو هرباً من ذمهم، أو طلباً للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل الفقر إلى المخلوق لا إلى الله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120)، واللفظ له، ومسلم برقم (769).(8/158)
أما الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه فهي أعلى درجات الغنى، وأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عزَّ وجلَّ إياك قبل ذكرك له، وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر سبحانه خلقك ورزقك وعملك، وإحسانه إليك، ونعمه عليك، حيث لم تكن شيئاً البتة.
وذكرك جلَّ جلاله بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، فجعلك أهلاً لما لم تكن له أهلاً قطّ، وإنما هو الذي أهَّلَك بسابق ذكره، وهو الذي أيقظك وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام.
ومن الذي وفقك للتوبة وقبلها منك فذقت حلاوتها؟.
ومن الذي وفقك لمحبته وعمر قلبك بمحبته فأنست به بعد الوحشة؟
ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة، فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة، ذكرك بها قبل وجودك، وتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده.
إذ هو الجواد المحسن، المحسن لذاته لا لمعاوضة، ولا لطلب جزاء منك، ولا لحاجة دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟.
فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك؛ لذكره لك بها، فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبب إليك بنعمته.
هذا كله مع غناه عنك، فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عالٍ لا يشبهه شيء.
أما الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عزَّ وجلَّ فهي دوام شهود أوليته سبحانه، وهذه أعلى مما قبلها.
فالله عزَّ وجلَّ إذا فتح قلب عبده فشهد أوليته سبحانه، حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الكامل في أسمائه وصفاته، الغني بذاته عما سواه.
الحميد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويمجده ويعبده، فهو معبود محمود، حي قيوم، له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال.(8/159)
فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه، فسائر الموجودات كلها سواه سبحانه أفنتها أولية الحق سبحانه، وكل صفة من صفات الرب سبحانه يستغنى العبد بها بقدر حظه من معرفتها، وقيامه بعبوديتها.
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتوفيته لعباده، وتعبد بمقتضى هذه الصفات، يعرج قلبه إلى الصمد مناجياً له، مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز الجبار.
فيشعر بأن كلامه وعمله صاعدان إليه، معروضان عليه، فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك.
ويشهد نزول الأوامر والمراسم الإلهية إلى أقطار العالم كل وقت بأنواع التدبير والتصريف:
من الإحياء والإماتة.. والتولية والعزل.. والخفض والرفع.. والعطاء والمنع.. والإكرام والإهانة.. والغنى والفقر.. والصحة والمرض.. وتقلب الدول.. ومداولة الأيام بين الناس.. إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فهو الذي: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [السجدة: 5، 6].
والمسلم إذا أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك إذا شهد العبد مشهد علم الله المحيط، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا في أعماق البحار، ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط علمه سبحانه بكل شيء في الكون، وعلمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود، من مراقبته لنفسه، وحراسة خواطره وألفاظه، وجميع أحواله وعزماته وجوارحه، علم أن جميع حركاته الظاهرة والباطنة، وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لربه علانية، بادية لا يخفى على الله منها شيء.
وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله سبحانه سماع صوت من جهر عن سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع من سمع في كل زمان ومكان.(8/160)
ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 28].
فإذا استشعر ذلك، وتعبد بمقتضى هذا الشعور بذكر ربه والثناء عليه، وتعظيمه وإجلاله، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وجوارحه، استغنى بذلك عما سواه سبحانه.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير، الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه في العالم العلوي والسفلي.
وكذلك إذا شهد مشهد قيومية الرب تعالى، وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس، وأنه تعالى القائم بنفسه، المقيم لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره.
وأنه سبحانه بكمال قيوميته لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضل ولا ينسى، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قادر على كل شيء.
فهذا المشهد العظيم مشهد الربوبية الذي يدركه كل إنسان.
وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم، وهو شهادة أن (لا إله إلا الله)، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه باطل ومحال.
فلا أحد سواه سبحانه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية التعظيم مع نهاية الذل له إلا هو سبحانه.
وذلك لكمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو عزَّ وجلَّ المستحق للطاعة التامة وحده، والمعبود وحده، وله الخلق والأمر وحده، وله الحكم وحده، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى عنه سبحانه فقر وفاقة، وكل عزٍّ بغيره ذلٌّ وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة.
فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره، فكذلك يستحيل أن يكون لهم إله غيره.(8/161)
فهو الذي انتهت إليه الرغبات والمخلوقات، وتوجهت نحوه الطلبات والسؤالات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فهو الغني الصمد بذاته، الذي حاجة كل أحد إليه، ولا حاجة به إلى أحد.
وتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره؛ لصحة دلالته وظهورها، وقبول العقول والفطر لها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].
والدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب سبحانه الفوز بوجوده، وهذا الغنى أعلى درجات الغنى.
لأنه غنى بالحق سبحانه، وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده، يعرف بذلك النور عظمة الذات كما يعرف عظمة الصفات، ويميز به بين الحي الذي يموت ويفنى، والحي الباقي الذي لا يزول ولا يفنى، فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم.
فيا له من فقر ينقضي، ومن غنى يدوم، ومن عيش لذيذ.
ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين؛ لأنه قد قرت عينه بالله، والفوز بوجوده، فيناجيه ويعبده كأنه يراه، ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة» أخرجه ابن ماجه (1).
وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه، فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه؟.
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (4105)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3313).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (950).(8/162)
فالفقر الحقيقي: الافتقار إلى الله في جميع الأحوال، والاستغناء به في جميع الأحوال، وأحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه في جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال.
وحاجات هذا العبد الفقير إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر، فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات، وطلبها ممن يملكها بطريقها الصحيح، فهو عامل على مراد الله منه، لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من الله، قد خلص بكليته لله سبحانه، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب، زاهد في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إلى الله.
وقد نزه الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن الفقر الذي يسوغ أخذ الصدقة بقوله سبحانه: ( ژ ژ ڑڑ ک ک کک گ گ گگ) [الضحى: 6-8].
وعوضه سبحانه عما نزهه عنه بأشرف المال وأجله وأفضله، وهو ما أخذه بظل رمحه وقائم سيفه من أعداء الله، الذين كان مال الله بأيديهم ظلماً وعدواناً كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الحشر: 7].
فالله عزَّ وجلَّ خلق المال ليستعان به على طاعته ونفع عباده، وهو بأيدي الكفار ظلماً وعدواناً.
فإذا فاء ورجع إلى أولياء الله وأهل طاعته فاء إليهم ما خلق لهم.
ولكن لم يكن غنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وملكه من جنس غنى بني الدنيا وأملاكهم، فإن غناهم بالشيء، وغناه صلى الله عليه وسلم عن الشيء وهو الغنى العالي.(8/163)
وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم، وهو صلى الله عليه وسلم إنما يتصرف في ملكه تصرف العبد الذي لا يتصرف إلا بإذن سيده كما قال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَاللهُ الْمُعْطِي وَأنَا الْقَاسِمُ، وَلا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ ا? وَهُمْ ظَاهِرُونَ» متفق عليه(1).
وذلك لكمال مرتبة عبوديته، ولأجل ذلك لم يورث، فإنه عبد محض من كل وجه لربه عزَّ وجلَّ، والعبد لا مال له فيورث عنه.
وقد جمع الله عزَّ وجلَّ له بين أعلى أنواع الغنى، وأشرف أنواع الفقر، وأكمل له بذلك مراتب الكمال، فكان في فقره أصبر خلق الله، وأشكرهم له، وكذلك في غناه.
وقد جعله الله قدوة للأغنياء والفقراء، وأي غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، وعرض عليه أن يجعل له جبل الصفا ذهباً فلم يقبله، وخير بين أن يكون ملكاً نبياً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً.
ومع هذا جبيت إليه أموال جزيرة العرب وغنائم حنين، فأنفقها كلها، ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمل عيال المسلمين وديونهم فقال: «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا» متفق عليه(2).
فرفع الله سبحانه قدر نبيه أن يكون من جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، كما نزهه أن يكون من جملة الأغنياء الذين أغناهم بالأموال المكتسبة والموروثة، بل أغناه به عما سواه، وأغنى قلبه كل الغنى، ووسع عليه غاية السعة.
فأنفق صلى الله عليه وسلم غاية الإنفاق، وأعطى أجل العطايا، ولا استأثر بالمال، ولا اتخذ منه عقاراً ولا أرضاً، ولا ترك شاة، ولا بعيراً، ولا عبداً، ولا ديناراً ولا درهماً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3116)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2398) واللفظ له، ومسلم برقم (1619).(8/164)
فصلوات الله وسلامه عليه، فقد أكمل مرتبتي الغنى والفقر، وأوفاهما حقهما وعبوديتهما، وقد أغنى الله به الفقراء، وأعز به الأذلاء. فما نالت أمته الغنى والعز إلا بسببه، وأغنى الناس من صار غيره به غنياً: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 128].
وأعظم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه كتاب الله عزَّ وجلَّ، الذي هو هدى للناس، وموعظة للقلوب، وشفاء لما في الصدور ورحمة للعالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 57، 58].
فالقرآن العظيم شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني.
وفي القرآن الكريم من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد ما يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت عند الإنسان الرغبة في الخير والرهبة من الشر أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوات نفسه.
وفي القرآن الحكيم من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبيَّنها أحسن بيان ما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده.
والقرآن المجيد هدى للناس، ورحمة للعالمين، والهدى هو العلم بالحق، والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به، فالهدى أجلّ الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يُهتدى به ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور، وحصل الغنى التام للقلب ولذلك أمر الله عباده بالفرح بذلك فقال سبحانه: ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].(8/165)
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين أعظم نعمة ينعم بها الإنسان على الإطلاق، ولا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا مما هو مضمحل زائل.
20- فقه الفقر
قال الله تعالى: (?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [فاطر: 15].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 8].
الفقر: عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه.
وكل موجود سوى الله تعالى فهو فقير إليه بالذات والصفات؛ لأنه محتاج إلى الله في وجوده، وفي بقائه، وفي حركاته وسكناته، وفي سائر حوائجه.
وفقر العبد إلى ربه بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر؛ لأن حاجاته لا حصر لها، فالله عزَّ وجلَّ غني بالذات، والخلق كلهم فقراء إليه بالذات.
وقد نادى الله جميع الناس وأخبرهم بحالهم، ووصفهم بأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه.
فقراء في إيجادهم.. فلولا خلق الله لهم لم يوجدوا.
وفقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، فلولا إعداد الله إياهم بها لما استعدوا لأي عمل كان.
وفقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة.. فلولا فضل الله وإحسانه وتيسيره الأمور لما حصل لهم من الأرزاق والنعم شيء.
وفقراء إلى الله في تربيتهم بأنواع التربية وأجناس التدبير.
وفقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم.. فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا.
وفقراء إلى ربهم في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم؛ لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
وفقراء إلى ربهم في تألههم له، وحبهم له، وعبادتهم إياه، وإخلاص العبادة له.. فلو لم يوفقهم لذلك لهلكوا، وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم.(8/166)
فهم الفقراء بالذات إلى ربهم بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أو لم يشعروا، ولكن الموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع إليه سبحانه أن يعينه على جميع أموره، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، وغناه تام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، ومن غناه أنه أغنى الخلق كلهم في الدنيا والآخرة.
وهو سبحانه الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها عليا، وأفعاله كلها فضل وإحسان، وعدل وحكمة ورحمة، فهو الحميد في ذاته، الحميد في أسمائه وصفاته، الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، الحميد في غناه.
فهذا الفقر العام المطلق، أما الفقر من المال فالعاقل يرى أن الأموال والأشياء كلها في خزائن الله تعالى لا في يد نفسه، فلا يفرق بين أن تكون بيده أو بيد غيره، وكل رزق في الكون فهو من رزقه.
وللفقير إلى الله آداب في باطنه وظاهره.. وآداب في مخالطته.. وآداب في أفعاله.
فأما أدب باطنه، فأن لا يكون فيه كراهة لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر، فالله أعلم بما يصلح له، وإن كان كارهاً للفقر، فهذا أقل درجاته وهو واجب، وأرفع من هذا أن لا يكون كارهاً للفقر بل يكون راضياً به، وأرفع منه أن يكون طالباً له وفرحاً به، لعلمه بغوائل الغنى، كما قال سبحانه: (گ گ ? ?? ? ? ??) [العلق: 6، 7].
وأما أدب ظاهره فأن يظهر التعفف والتجمل، ولا يظهر الشكوى والفقر، بل يستر فقره ويستر أنه يستره، مستغنياً بربه مفتقراً إليه وحده، فهؤلاء الفقراء الأغنياء: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [البقرة: 273].(8/167)
وأما في أعماله فأن لا يتواضع لغني لأجل غناه، فهذه رتبة، وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء، ولا يرغب في مجالسهم؛ لأن ذلك من مبادئ الطمع وهو مذموم.
وأما أدبه في أفعاله فينبغي له أن لا يفتر بسبب الفقر عن العبادة، ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عن حاجته، فإن ذلك جهد المقل، وفضله أكثر مما يبذل عن ظهر غنى.
والسؤال محرم في الأصل، وإنما يباح لضرورة أو حاجة مهمة.
وإنما حرمه الشرع؛ لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:
الأول: أنه إظهار لشكوى الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه، وهو عين الشكوى لله.
وكما أن العبد المملوك لو سأل غير سيده لكان سؤاله تشنيعاً على سيده، فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى، فهو محرم لا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة للمضطر.
الثاني: أنه فيه إذلال للسائل نفسه لغير الله تعالى، وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله، بل عليه أن يذل نفسه لمولاه، فأما الخلق فإنهم عباد أمثاله، فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة، وفي السؤال ذل للسائل، وظلم للمسئول من الخلق.
الثالث: أن السؤال لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً؛ لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب نفس، فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ، وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع.
ففي المنع نقصان جاهه، وفي البذل نقصان ماله، وكلاهما مؤذيان، والسائل هو السبب في الإيذاء، وأذى المسلم محرم.
والفقراء أربعة:
فقير لا يسأل، وإن أعطي لا يأخذ، فهذا بأرفع المنازل.
وفقير لا يسأل، وإن أعطي أخذ، فهذا دونه.
وفقير يسأل عند الحاجة، فهذا دونه.. وهؤلاء كلهم محمودون.
وفقير يسأل من غير حاجة وضرورة، فهذا مذموم، وصاحبه مأزور غير مأجور.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَألَ النَّاسَ أمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْألُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِر» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1041).(8/168)
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد، ويسمى ذلك فقراً، وإما بانزواء العبد عنها، ويسمى ذلك زهداً.
ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادة.
والدنيا ليست محذورة لعينها، بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى.
والفقر ليس مطلوباً لعينه، بل لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل به، وكم من غني شغله غناه عن ربه؟ وعن تنفيذ أوامره؟
وكم من فقير شغله فقره عن ربه، وعن امتثال أوامره؟ وصرفه عن حب الله والأنس به، وإنما الشاغل له حب الدنيا، والدنيا معشوقة الغافلين.
فالمحروم منها مشغول بطلبها.. والقادر عليها مشغول بحفظها وجمعها والتمتع بها، وتنميتها والاستكثار منها.
والفقير عن الخطر أبعد، وفراق المحبوب شديد، فإذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى، فيكون قدومك بعد الموت على ما تكرهه، وفراقك لما تحبه.
وكل من فارق محبوباً كان أذاه في فراقه بقدر حبه له وأنسه به، فعلى العاقل أن يحب من لا يفارقه وهو الله تعالى، ويزهد في الدنيا التي إن لم تفارقه هي فارقها هو، فهو دائم الخوف والحسرة عليها.
وأما آداب الفقير في قبول العطاء:
فإن جاءه مال بغير سؤال ولا استشراف فينبغي أن يلاحظ فيه ثلاثة أمور:
نفس المال.. وغرض المعطي.. وغرضه في الأخذ.
أما في المال فينبغي أن يكون خالياً عن الشبهات كلها، فإن كان فيه شبهة لم يأخذه.
وأما غرض المعطي فلا يخلو إما أن يكون طالباً للمحبة والإلفة وهو الهدية، فلا بأس بقبولها إذا لم تكن رشوة، ولم يكن فيها منَّة.
وإن كان غرض المعطي الثواب وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر هل هو مستحق لذلك أم لا؟
وإن كان غرض المعطي الشهرة والرياسة والسمعة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد فلا يأخذه.
وأما غرضه في الأخذ فلينظر هل هو محتاج إليه أو مستغن عنه؟(8/169)
فإن كان مستغنياً عنه لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات فالأفضل له الأخذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» متفق عليه(1).
والفقر نوعان:
الأول: فقر اضطراري، وهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه.
الثاني: فقر اختياري، وهو نتيجة علمين شريفين:
أحدهما: معرفة العبد بربه.. والثاني معرفته بنفسه.
ومن حصلت له هاتان المعرفتان أثمرتا له فقراً هو عين غناه، وعنوان سعادته وفلاحه.
وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين:
فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق.. ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل والظلم.
والله عزَّ وجلَّ أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً، ولا يقدر على عطاء ولا منع، ولا ضر ولا نفع، ولا شيء البتة.
فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمراً مشهوداً محسوساً لكل أحد، ولا ريب أن هذا من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إلى بارئه وفاطره.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7163)، ومسلم برقم (1045)، واللفظ له.(8/170)
فلما أسبغ الله عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأعلمه وأقدره، وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على الدواب، وعلى صيد الطيور، وقهر الوحوش، وحفر الآبار، وغرس الأشجار، وتعلية البناء، ويسر له الكسب والتجارة، ورزقه الأموال والأشياء، ظن المسكين أن له نصيباً من الملك والتصريف والتدبير.
وادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 67].
ففقر العباد إلى ربهم نوعان:
فقر إلى ربوبيته: وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى ربها، في إيجادها ومصالحها.
وفقر إلى ألوهيته: وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين.
وهذا هو الفقر النافع، فإن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له ليس له نظير فيقاس به.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، ومهما حصل له من اللذات والسرور بغيره فلا بدَّ أن يفارقه.
وأما إلهه الحق فلا بدَّ له منه في كل وقت وفي كل حال وأينما كان.
فنفس الإيمان به وتوحيده، ومحبته وعبادته، وذكره وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه.
فليست عبادته وشكره وذكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لمجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان.
بل عبادة الله وشكره ومعرفته وتوحيده قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب، وأطيب نعيم ناله من أكرمه الله بهذا الشأن.
وفقر العباد إلى الله أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، وغنى الرب سبحانه لذاته لا لعلة أوجبت غناه.
فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته سبحانه.(8/171)
وفقر العالم كله إلى الله عزَّ وجلَّ أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.
فالفقر المطلق ثابت للعباد من كل وجه، والغنى المطلق ثابت للرب من كل وجه.
والفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة، فالفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة لله، لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه عبداً مملوكاً مستعملاً فيما أمره به سيده.
فنفسه مملوكة، وأعماله مستحقة، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من أعماله، ويرى ما بيده من الأموال والأسباب كالوديعة، فهي أموال سيده ونعمه، وهو متصرف فيها بأمر سيده.
فالله هو المالك الحق لكل شيء، وما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه، أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإحسان، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله، فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله، ورهبة من عقابه، وتقرباً إليه وطلباً لمرضاته؟.
أم يكون البذل والإمساك منهم صادراً عن مراد النفس، وغلبة الهوى، وموجب الطبع؟.
فيعطي لهواه، ويمنع لهواه، فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك؛ فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس.
وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح، أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء.
فهذا يرى نفسه مالكاً خرج عن حد العبودية ونسي فقره.
ولو عرف نفسه حقاً لعلم أنه مملوك ممتحن، في صورة ملك متصرف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 14].
ووجود المال بيد الفقير لا يقدح في فقره، إنما يقدح في فقره رؤيته لملكيته، وإنما هو لسيده وهو كالخازن لسيده، الذي ينفذ أوامره في ماله، وله خزائن السموات والأرض.
وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة أو جائحة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد والجزع والهلع؟.
وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله وحده:(8/172)
إن شاء أبقاه.. وإن شاء أفناه.. وإن شاء زاده.. وإن شاء نقصه، فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه.. بل يرى تدبيره هو موجب الحكمة.
والفقر على ثلاث درجات:
الأولى: فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، فهو لا يضبط يده مع وجود المال شحاً، ولا يطلبها مع فقدها سؤالاً وحرصاً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً؛ لأن من اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحاً أو ذماً.
فهو إن حصلت له الدنيا مدحها.. وإن فاتته ذمها.. ومدحها أو ذمها علامة موضعها من القلب، والشيء إذا صغر أعرض القلب عنه مدحاً أو ذماً.
والقلوب تولد كما تولد الأبدان.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أباً للمؤمنين، وأزواجه أمهاتهم، فإن قلوبهم وأرواحهم ولدت به ولادة أخرى غير ولادة الأمهات، فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي، إلى نور العلم والإيمان، وفضاء المعرفة والتوحيد.
والقلوب في هذه الولادة ثلاثة:
قلب لم يولد ولم يأن له، بل هو جنين في بطن الشهوات والغي، والجهل والضلال.
وقلب قد ولد، وخرج إلى فضاء المعرفة والتوحيد، ونور العلم والإيمان، فقرت بالله عينه، وقرت عيون به وقلوب، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأن بالله وسكن إليه.
وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً.
تأبى عليه غلبات المعرفة والحب والشوق إلا تقرباً إلى ربه، وتأبى عليه غلبات الطبع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه، فهو بين هذا مرة، وهذا مرة.
الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل، وذلك يورث الخلاص من رؤية الأعمال، ويقطع شهود الأحوال.
فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأقوال الشريفة، والأعمال الصالحة.
وبفضله ورحمته وصل إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته.
والقلب إناء واحد، والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره.(8/173)
وإنما يمتلئ الإناء بأعلى أنواع الأشربة إذا صادفه خالياً، ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إناءه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى.
فهو سبحانه الأول في كل شيء.. والآخر في كل شيء.. الظاهر فوق كل شيء.. الباطن دون كل شيء.. فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضل الله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد.
فمنه سبحانه الإعداد.. ومنه الإمداد.. وفضله سابق على الوسائل.. والوسائل من مجرد فضله وجوده.
وعبوديته باسمه الآخر تقتضي كذلك عدم ركونه ووقوفه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية ويبقى الدائم الباقي بعدها.
فالتعلق بها تعلق بما يموت ويفنى، والتعلق بالآخر تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول.
فالأمر ابتدأ منه سبحانه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه ينتهي الأمر حيث تنتهي الأسباب، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه، فهو سبحانه أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وخالقه وبارئه فهو إلهه ومعبوده.
وعبوديته باسمه الظاهر أن يعلم أن ربه ليس فوقه شيء، له العلو المطلق على كل شيء بذاته، القاهر فوق عباده.
فالتعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود، ويجعل له رباً يقصده، ويلجأ إليه، ويتوكل عليه ويفر إليه.
وعبوديته باسمه الباطن أن يعلم أن ربه ليس دونه شيء، وأنه محيط بالعالم، وأنه العظيم الذي كل العوالم في قبضته ظاهرها وباطنها كبيرها وصغيرها فكما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه.(8/174)
الدرجة الثالثة: صحة الاضطرار، وهذه الدرجة فوق الدرجتين قبلها، فإن الفقر الأول فقر عن الأعراض الدنيوية، والثاني فقر عن رؤية المقامات والأحوال، والثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود كله في قبضة الحق عزَّ وجلَّ كالهباء المنثور في الهواء يتقلب بتقليبه إياه.
فالفقر الأعلى أن يشهد العبد اضطراره إلى الحي القيوم، ويشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إليه من جهة كونه رباً له، ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره.
فهذا هو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد.
قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك.
وهذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين إن حركه ربه بطاعة أو نعمة شكرها، وقال هذا من فضل ربي ومنه، فله الحمد.
وإن تحرك بمبادئ معصيته صرخ واستغاث بربه قائلاً: أعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
فإن تم تحريكه بمعصية التجأ إلى ربه التجاء أسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له ولا يفكه من أسره إلا سيده، أما هو فلا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده متى يفكه منه؟.
فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو سبحانه الذي يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولا يهدي لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [يونس: 107].
والغنى والفقر مطيتان يركبهما الناس إلى الآخرة.. والغنى له عبودية.. والفقر له عبودية.. وكما أن للغنى أوامر.. فكذلك للفقر أوامر.(8/175)
والغنى كالفقر أمر من أوامر الله يبتلى بهما العباد، والمسلم غني بربه فلا يخاف من الفقر، وكيف يخاف المسلم من الفقر ومولاه له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟.
وحقيقة الفقر: أن يصير العبد كله لله، لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه؛ لأنه إذا كان لنفسه فليس لله، وإذا لم يكن لنفسه فهو لله.
فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به.
ولفظ الفقر ورد في القرآن في ثلاثة مواضع:
أحدها: في قوله سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 273].
الثاني: في قوله سبحانه: (?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 60].
الثالث: في قوله سبحانه: (?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [فاطر: 15].
فالصنف الأول: خواص الفقراء.
والثاني: فقراء المسلمين عامهم وخاصهم.
والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم فقيرهم وغنيهم، ومؤمنهم وكافرهم.
والمراد بالفقر هنا شيء أخص من هذا كله، وهو تحقيق العبودية لله، والافتقار إلى الله تعالى في كل حال، والاستغناء به عما سواه.
وأما الفقير الصابر.. والغني الشاكر.. أيهما أفضل؟.
فإن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال، والتفضيل عند الله بالتقوى لا بالغنى والفقر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [الحجرات: 13].
والفقر والغنى ابتلاء من الله لعباده كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ ھ ھ ھ ھ ے ے? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [الفجر: 15-20].
فالإكرام ليس بالغنى، والإهانة ليست بالفقر، بل الإكرام أن يكرم الله عبده بطاعته والإيمان به، ومحبته ومعرفته، والإهانة أن يسلبه ذلك.(8/176)
والدنيا: ما سوى الله تعالى من المال والجاه، والصور والمراتب، وهي اسم لمدة بقاء هذا العالم.. أو اسم لما بين السماء والأرض، فعلى الأول تكون الدنيا زماناً، وعلى الثاني تكون مكاناً.
ولما كان لها تعلق بالقلب واللسان والجوارح كان حقيقة الفقر تعطيل هذه الثلاثة عن تعلقها بها، وسلبها منها، وتفريغها لطاعة الله، وتحريكها وتشغيلها بامتثال أوامر الله، وحبسها عن محارم الله.
وجميع ما يدب على وجه الأرض من آدمي وحيوان، بري أو بحري، وكل طير، وكل حشرة، وكل ذرة، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، وهم جميعاً فقراء إليه في إيجادهم وإمدادهم وبقائهم.
وهو سبحانه الذي يعلم مستقر هذه الدواب، والمكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها، وجميع حركاتها وسكناتها، وعوارض أحوالها، كل ذلك كتبه الله في اللوح المحفوظ، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وهذه الخلائق جميعاً قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه: (?? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها وصفاتها، ومكانها وزمانها، وقسم أرزاقها، ولتعمل بما أمرها الله ورسوله به من الإيمان بالله، وتوحيده وطاعته، وفعل ما أمرها الله به، واجتناب ما نهى الله عنه (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69، 70].
21- فقه الصبر
قال الله تعالى: (?? ? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [العصر: 1-3].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 200].
الإيمان نصفان، نصف صبر، ونصف شكر، ومدار سعادة الدنيا والآخرة عليهما.
فلله على كل عبد عبودية في حال العافية، وعبودية في حال البلاء، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة البلاء بالصبر.(8/177)
وساحة العافية أوسع للصبر من ساحة البلاء، لكن بعد نزول البلاء فليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» متفق عليه(1).
والصبر: هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن ما لا يحمد.
وحقيقة الصبر:
هو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به الإنسان من فعل ما لا يحسن فعله، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب، والثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وحدُّ الصبر: أن لا يعترض على التقدير، فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر.
والشكوى نوعان:
أحدهما: الشكوى إلى الله، فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ?) [يوسف: 86].
الثاني: شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذه لا تجامع الصبر؛ بل تضاده وتبطله، وفرق كبير بين شكوى الرب، والشكوى إليه.
والصبر والجزع ضدان كما قال سبحانه عن أهل النار: (? ? ? ? ? ? ژژ) [إبراهيم: 21].
والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام، والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب، ففسدت وأفسدت.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ في كل نفس قوتين:
قوة الإقدام.. وقوة الإحجام.
فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره.
فرحم الله عبداً جعل لنفسه خطاماً وزماماً، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1469)، واللفظ له، ومسلم برقم (1053).(8/178)
فالصبر عن محارم الله، وعلى طاعة الله، وعلى أقدار الله، أيسر من الصبر على عذاب الله وعقابه.
والصبر نوعان:
صبر محمود.. وصبر مذموم.
فالمذموم كالصبر على التعب والألم والشدائد للوصول إلى ما حرم الله من الفواحش، والكبائر، وسائر المحرمات.
والمحمود كالصبر على أنواع الطاعات، والصبر عن ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والصبر على أقدار الله.
وهذا النوع متعلقاته كثيرة، وله ارتباط بمقامات الدين من أولها إلى آخرها، وله مراتب وأسماء بحسب متعلقه:
فإن كان صبراً عن شهوة الفرج المحرمة سمي عفة، وضدها الفجور والزنى والعهر.
وإن كان صبراً عن شهوة البطن، أو تناول ما لا يجمل منه سمي عفة، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً، وإن كان على قدر من العيش يكفيه سمي قناعة، وإن كان صبراً عن إجابة داعي الغضب سمي حلماً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي العجلة سمي وقاراً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الفرار والهروب سمي شجاعة.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الانتقام سمي عفواً وصفحاً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الإمساك والبخل سمي جوداً.
فللصبر عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كله الصبر.
والصبر والتصبر والاصطبار أسماء تختلف معانيها بحسب حال العبد مع نفسه ومع غيره.
فإن حبس نفسه ومنعها من إجابة داعي ما لا يحسن إن كان خلقاً له وملكة سمي صبراً، وإن كان بتكلف وتجرع لمرارته سمي تصبراً، وإذا تكلفه العبد صار سجية له، ومن يتصبر يصبره الله.
وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر.
فالصبر حال الصابر في نفسه.. والمصابرة حاله في الصبر مع خصمه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 200].
وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر، فالتصبر مبدأ الاصطبار، كما أن التكسب مقدمة الاكتساب، فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطباراً.
وينقسم الصبر باعتبار محله إلى قسمين:(8/179)
بدني.. ونفسي.. وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري.
فهذه أربعة أقسام:
فالصبر البدني: إما اختياري كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختياراً كحمل الأشياء الثقيلة ونحوها.
وإما اضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض، والجراحات، والحر والبرد ونحو ذلك.
أما الصبر النفسي فهو إما اختياري كصبر النفس عما لا يحسن فعله شرعاً ولا عقلاً كالفواحش والرذائل ونحوها.
وإما اضطراري كصبر النفس عن محبوبها قهراً إذا حيل بينها وبينه.
وهذه الأقسام مختصة بنوع الإنسان دون الملائكة والبهائم.. أما الملائكة فلكمالها، وأما البهائم فلنقصانها، فإنها تشارك الإنسان في نوعين منها، وهما صبر البدن والنفس الاضطراريين، ويمتاز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين.
أما الجن فهم مكلفون بالصبر على الأوامر، والصبر عن النواهي كما كلفنا نحن بذلك.
لكن ما كان من لوازم النفس كالحب والبغض، والإيمان والكفر، والموالاة والمعاداة، فنحن وهم مستوون فيه.
وما كان من لوازم البدن كغسل الجنابة، وغسل الأعضاء في الوضوء، والاستنجاء وغسل الحيض، ونحو ذلك، فلا تجب مساواتهم لنا في تكلفه، وإن تعلق بهم ذلك على وجه يناسب خلقتهم وحياتهم.
وأما الملائكة فلم يبتلوا بهوى يحارب عقولهم، ولا بشهوة تزاحم عبادتهم، بل العبادة والطاعة لهم كالنفس لنا.
فلا يتصور في حقهم الصبر الذي حقيقته ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى، وإن كان لهم صبر يليق بهم، وهو ثباتهم وإقامتهم على ما خلقوا له من غير منازعة هوى أو شهوة أو طبع.
والمخلوقات ثلاثة أقسام:
فقد خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوات.. وخلق البهائم شهوات بلا عقول.. وخلق الإنسان وجعل له عقلاً وشهوة.
والإنسان إذا غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالبهائم.(8/180)
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان في ابتداء أمره ناقصاً، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب، ثم شهوة النكاح، ثم بعد ذلك يستعد لقوة الصبر.
وعند أول سن التمييز يلوح عليه إشراق نور الهداية، وينمو ذلك على التدريج إلى سن البلوغ، كما يبدو خيط الفجر ثم يتزايد ظهوره.
وكل هداية قاصرة غير مستقلة بإدراك مصالح الآخرة ومضارها، بل غايتها تعلقها ببعض مصالح الدنيا ومفاسدها.
فإذا طلعت عليه شمس النبوة والرسالة، وأشرق عليه نورها، رأى في ضوئها تفاصيل مصالح الدارين ومفاسدهما، فتلمح العواقب، ولبس لامة الحرب، وبدأت في قلبه الحرب بين داعي الطبع والهوى، وداعي العقل والهدى.
والمنصور من نصره الله.. والمخذول من خذله الله.. ولا تضع الحرب أوزارها حتى ينزل في إحدى المنزلتين، ويصير إلى ما خلق له في إحدى الدارين.
وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال:
الأول: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين على داعي الهوى، وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر، وأهل هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة، وهم الذين نالوا معية الله مع الصابرين، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وخصهم الله بهدايته دون غيرهم.
الثانية: أن تكون القوة والغلبة لداعي الهوى على داعي الهدى، فيستسلم اليائس للشيطان وجنده، فيقودونه حيث شاؤوا، فإما أن يصير من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف، وإما أن يصير الشيطان من جنده، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط، والمبتدع الداعي المتبوع، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلهم النار يوم القيامة: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 104-108].
وإنما صاروا إلى هذه الحال لما أفلسوا من الصبر والإيمان والتقوى.
وأصحاب هذه الحال أنواع شتى:(8/181)
فمنهم المحارب لله ورسوله، الساعي في إبطال ما جاء عن الله ورسوله، يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجاً.
ومنهم المعرض عن ما جاء به الرسول، المقبل على دنياه وشهواتها فقط.
ومنهم المنافق ذو الوجهين، الذي يأكل بالكفر والإسلام.
ومنهم الماجن المتلاعب، الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب.
ومنهم من يقول ليس الله محتاجاً إلى صلاتي وصيامي وعبادتي، وأنا لا أنجو بعملي، والله غفور رحيم.
ومنهم من يقول ترك المعاصي استهانة بعفو الله ومغفرته.
ومنهم من يقول ماذا تقع طاعتي في جنب ما قد عملت من الكبائر.
ومنهم من يرعى في وادي المعاصي، ويقول سوف أتوب.
إلى غير ذلك من أصناف الجاهلين المفترين، الذين صارت عقولهم في أيدي شهواتهم، فعقله مع الشيطان كالأسير في يد الكافر، يستعمله في رعي الخنازير، وعصر الخمر.
وهو بقهره عقله وتسليمه إلى أعدائه بمنزلة رجل قهر مسلماً، وباعه للكفار وسلمه إليهم، وجعله أسيراً عندهم.
فإنه لما أذل سلطان الله الذي أعزه به ورفع به قدره، وسلمه في يد أبغض أعدائه إليه وجعله أسيراً له، سلط الله عليه من كان حقه هو أن يتسلط عليه، فجعله تحت قهره وسلطانه، يسخره حيث شاء ويسخر منه، فصار بمنزلة من سلم نفسه إلى أعدى عدو له يسومه سوء العذاب، فلما ترك مقاومته واستسلم له سلط عليه عقوبة له كما قال سبحانه عن الشيطان: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 99، 100].
والله عزَّ وجلَّ لم يجعل له سلطاناً على العباد، وإنما هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جنده وحزبه، فصار سلطانه عليهم، بأن تمكن منهم وتلاعب بهم، مع ضعفه وكونه لا يملك سلطان الحجة، وإنما دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان.
الحالة الثالثة: أن تكون الحرب سجالاً ودولاً بين الجندين، فتارة له.. وتارة عليه.
وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.(8/182)
وهذه الأحوال الثلاث هي أحوال الناس في الصحة والمرض، فمن الناس من تقهر قوته داءه، فيكون السلطان للقوة.
ومنهم من يقهر داؤه قوته، فيكون السلطان للداء.
ومنهم الحرب بين دائه وقوته سجالاً، فهو متردد بين الصحة والمرض.
وتكون الأحوال يوم القيامة موازنة لهذه الأحوال الثلاث سواء بسواء.
فمن الناس من يدخل الجنة، ولا يدخل النار.
ومنهم من يدخل النار، ولا يدخل الجنة.
ومنهم من يدخل النار، فإذا تطهر من الذنوب دخل الجنة.
والصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام:
أحدها: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها.
الثاني: صبر عن المنهيات والمخالفات حتى لا يقع فيها.
الثالث: صبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها.
وهذا كله متعلق بطرفين:
طرف من جهة الرب سبحانه.. وطرف من جهة العبد.
فأما الذي من جهة الرب، فالله تعالى له على عبده حكمان:
حكم كوني قدري.. وحكم شرعي ديني.
فالكوني متعلق بخلقه، والشرعي متعلق بأمره، وهو سبحانه له الخلق والأمر.
وحكم الله الديني الشرعي الطلبي نوعان:
فالمطلوب إن كان محبوباً لله سبحانه فالمطلوب فعله سواء كان واجباً أو مستحباً، ولا يتم ذلك إلا بالصبر.
وإن كان المطلوب مبغوضاً له فالمطلوب تركه سواء كان محرماً أو مكروهاً، وذلك كذلك لا يتم إلا بالصبر.
فهذا حكم الله الديني الشرعي، فمرجع الدين كله إلى هذه الثلاث:
فعل المأمور.. وترك المحظور.. والصبر على المقدور.
وأما الذي من جهة العبد، فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفاً، ولا تسقط عنه هذه الثلاث حتى يسقط عنه التكليف، فكما لا تستوي السنبلة إلا على ساقها، فكذلك عبودية الأمر والنهي والقدر لا تقوم ولا تستوي إلا على ساق الصبر.
وأكمل أنواع الصبر الصبر المتعلق بالتكليف، وهو الأمر والنهي، فهو أفضل من الصبر على مجرد القدر.
فإن هذا الصبر يأتي به البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فلا بدَّ لكل أحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً.(8/183)
وأما الصبر على الأوامر والنواهي فصبر الرسل وأتباعهم، وأعظمهم اتباعاً أصبرهم في ذلك.
وكل صبر في محله وموضعه أفضل.
فالصبر عن الحرام في موضعه أفضل.. والصبر على الطاعة في محلها أفضل.. والطاعات ترفع الدرجات.. والمصائب تحط السيئات.
والصبر قسمان:
قسم مذموم.. وقسم محمود.
فالمذموم: الصبر عن الله وعن إرادته ومحبته وسير القلب إليه، وهذا يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية، وهذا كما أنه أقبح الصبر فهو أعظمه وأبلغه، فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذي لا حياة له بدونه البتة.
فالصبر عن الله جفاء، ولا جفاء أعظم ممن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه الذي لا مولى له سواه.
وأما الصبر المحمود فنوعان:
صبر بالله.. وصبر لله.
فالأول: كقوله سبحانه: (? ? ? ? ??) [النحل: 127].
والثاني: كقوله سبحانه: (? ? ? ? ??) [الطور: 48].
فيصبر مستعيناً بالله من أجل مرضاة الله.
وكل إنسان لا بدَّ أن يصبر على بعض ما يكره إما اختياراً وإما اضطراراً.
فالكريم يصبر اختياراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأن المقدر لا حيلة في دفعه، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله.
فإذا كان آخر الأمر الصبر، فما أحسن أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.
وأما اللئيم فإنه يصبر اضطراراً، فالكريم يصبر في طاعة الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان.
فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وتحصيل شهواتهم، وأقل الناس صبراً في طاعة ربهم.
فيصبر اللئيم على البذل في معصية الرحمن وطاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء.
ويصبر على تحمل المشاق في مرضاة الشيطان، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة الله.
والإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال.(8/184)
فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله.. ونهي يجب عليه اجتنابه.. وقدر يجري عليه.. ونعم يجب شكر المنعم عليها.. وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات.
وكل ما يلقاه العبد في هذه الدار لا يخلو من أمرين:
أحدهما: يوافق هواه ومراده.. والآخر يخالف هواه ومراده.
وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما.
أما النوع الموافق لغرضه كالصحة والسلامة والجاه والمال، وأنواع الملاذ المباحة، وهو أحوج شيء إلى الصبر فيها، حتى لا يركن إليها ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر، والفرح المذموم، الذي لا يحب الله أهله.
وحتى لا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، فاعتل وحرم الأكل والشرب والجماع.
وعليه أن يصبر على أداء حق الله فيها، ولا يضيعه فيسلبها، وأن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكِّن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام ولا بدّ.
والبلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون، وإنما كان الصبر على السراء شديداً؛ لأنه مقرون بالقدرة.
ولذا حذر الله عباده من فتنة المال والأزواج والأولاد بقوله سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [المنافقون: 9].
وقوله سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 14].
وليس المراد بالعداوة هنا عداوة البغضاء والمحادة، بل إنما هي عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد، وتعلم العلم، والصدقة، وغير ذلك من أمور الدين، وأعمال البر المختلفة.
وأما النوع الثاني المخالف للهوى فلا يخلو:
إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي.. أو لا يرتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره، ولكن لا اختيار له في إزالته بعد الدخول فيه.
فأما ما يرتبط باختياره وهو جميع أفعاله:(8/185)
فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية؛ لما في طبعها من الكسل وإيثار الراحة، والميل إلى الشهوات، ومخالطة أهل الغفلة والشح والبخل.
فلا يكاد العبد يفعلها مع هذه الأمور، وإن فعلها مع ذلك كان متكلفاً، فيحتاج العبد هاهنا إلى الصبر على الطاعات قبل الشروع فيها بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على إعطاء العبادة حقها.
ويصبر بعد الشروع فيها عن دواعي التقصير والتفريط فيها، وعلى حضور القلب بين يدي المعبود، وأن لا ينساه في أمره.
فليس الشأن في فعل المأمور فقط، بل الشأن كل الشأن أن لا ينسى الآمر حال الإتيان بأمره، بل يكون مستصحباً لذكره في أمره.
فلا يعطله حضوره مع الله بقلبه عن قيام جوارحه بعبوديته، ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية.. عن حضور قلبه بين يديه سبحانه.
وأما الصبر بعد الفراغ من العمل، فأن يصبر عن الإتيان بما يبطل أعماله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 264].
وكذلك يصبر عن رؤية الطاعة والعجب بها، والتكبر والتعظم بها، فهذا أضر عليه من كثير من المعاصي الظاهرة.
ويصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية.
فلا يظن العبد أن بساط الصبر يطوى بعد الفراغ من العمل.
وأما الصبر عن المعاصي الظاهرة والباطنة فأمره ظاهر، وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات.. ومفارقة الأعوان عليها.. وقطع العوائد.
فإذا انضافت الشهوات إلى العادات تظاهر جندان من جند الشيطان، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما مع ضعفه.
القسم الثاني: ما لا يدخل تحت اختيار العبد، وليس للعبد حيلة في دفعه كالمصائب التي لا صنع للعبد فيها كموت من يعز عليه، وسرقة ماله ونحو ذلك وهو نوعان:
ما لا صنع للآدمي فيه.. وما أصابه من جهة الآدمي.
فالأول للعبد فيه أربع مقامات:(8/186)
أحدها: مقام العجز والجزع، والشكوى والتسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة.
الثاني: مقام الصبر.
الثالث: مقام الرضا به، وهو أعلى من مقام الصبر.
الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد البلية نعمة، فيشكر المبتلى عليها.
وأما النوع الثاني، وهو ما أصابه من قبل الناس فله فيه ما سبق، ويضاف إليها أربعة أخر:
أحدها: مقام العفو والصفح.
الثاني: مقام سلامة القلب من إرادة التشفي والانتقام، وفراغه من ألم مطالعة الجناية في كل وقت.
الثالث: شهود القدر، وأنه وإن كان ظالماً بإيصال هذا الأذى إليك، فالذي قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم.
وأذى الناس مثل الحر والبرد لا حيلة في دفعه، فالكل جار بقدر الله وإن اختلفت طرقه وأسبابه.
الرابع: مقام الإحسان إلى المسيء، ومقابلة إساءته بإحسانك، وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه إلا الله.
القسم الثالث: ما يكون وروده باختياره، فإذا تمكن منه لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه كالتعرض لأسباب الأمراض والآلام التي لا حيلة في دفعها بعد مباشرة أسبابها كشرب المسكرات، وتناول المخدرات، وأكل السموم ونحو ذلك.
فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله، فلما فاته بقي فرضه الصبر عليه في آخره، وأن لا يطيع داعي نفسه وهواه.
والدواء النافع لهذا الداء وغيره الصبر والتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 186].
فإذا صبر لله تعالى، وندم على ما تعاطاه من السبب المحظور، أثيب على صبره؛ لأنه جهاد منه لنفسه، وهو عمل صالح يؤجر عليه.
وأما عقوبته على ما تولد منه فإنه يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه كما يعاقب السكران على سكره، وعلى ما جناه في حال سكره.(8/187)
والله تبارك وتعالى يعاقب على الأسباب المحرمة، وعلى ما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وعلى ما تولد منها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 25].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم(1).
ومشقة الصبر تكون بحسب قوة الداعي إلى الفعل، وسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر.
وإن فقدا معاً سهل الصبر عنه، وإن وجد أحدهما دون الآخر سهل الصبر من وجه، وصعب من وجه.
فمن لا داعي له مثلاً إلى القتل والسرقة والزنى، ولا هو سهل عليه، فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله عليه، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه، فصبره عنه أشق شيء عليه.
ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم.. وصبر الشاب عن الفاحشة.. وصبر الغني عن اللذات والشهوات عند الله بمكان.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).(8/188)
ولذلك استحق السبعة أن يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم ومشقته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ ا?، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي ا?، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه(1).
ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والفقير المختال أشد العقوبة؛ لسهولة الصبر عن هذه الأشياء المحرمة عليهم، لضعف دواعيها في حقهم، فتركهم الصبر عنها مع سهولته عليهم دليل على تمردهم على الله، وشدة عتوهم عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ (قال أبُو مُعَاوِيَةَ: وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ) وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» أخرجه مسلم(2).
ولهذا كان الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر، لشدة الداعي إليهما وسهولتهما.
فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالغيبة والنميمة، والكذب والمراء، والثناء على النفس، والطعن على من يبغضه، والثناء على من يحبه ونحو ذلك.
فتتفق قوة الداعي، وتيسر حركة اللسان، فيضعف الصبر.
ولهذا تجد الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ومع ذلك يطلق لسانه في الغيبة والنميمة، ويتفكه في أعراض الخلق.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423)، واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
(2) أخرجه مسلم برقم (107).(8/189)
وكثير من نجده يتورع عن الدقائق من الحرام، ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام لقوة الداعي إليهما وسهولتهما.
ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالصبر وعلق الفلاح به فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 200].
وأخبر سبحانه أن الإمامة في الدين تنال بالصبر واليقين كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
وبين سبحانه مضاعفة أجر الصابر على غيره بقوله: (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 10].
ووعد الله الصابرين بثلاث خصال كل واحدة خير من الدنيا وما فيها فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
وبين سبحانه أن المغفرة والأجر الكبير إنما تحصل بالصبر والعمل الصالح فأخبر سبحانه أن كل أحد خاسر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 11].
وجعل سبحانه الصبر سبب محبته ومعيته، ونصره وعونه، وحسن جزائه، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً.
فقال سبحانه: (? ? ??) [آل عمران: 146].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 46].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه(2).
والأمور المنافية للصبر:
الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه.
أما الشكوى إلى الله فهي محمودة مشروعة كما قال أيوب صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [الأنبياء: 83].
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2004)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1630).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4246)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3424).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641)، واللفظ له، ومسلم برقم (2573).(8/190)
وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة به فيما يقدر عليه، والتوصل إلى زوال ضرره، لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض للطبيب بما يؤلمه ويشكو منه، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه.
والأنين على قسمين:
أنين شكوى فيكره.. وأنين استراحة وتفريج فلا يكره.
وأما الشكوى فهي نوعان:
شكوى بلسان المقال.. وشكوى بلسان الحال، ولعلها أعظمها، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أنعم عليه ربه أن يظهر نعمة الله عليه، وأعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير، فهذا أمقت الخلق عند ربه.
ومما ينافي الصبر شق الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، وحلق الشعر، وضرب إحدى اليدين بالأخرى، والدعاء بالويل.
ولا ينافي الصبر والبكاء، والحزن عند المصيبة كما قال الله عن يعقوب صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ??) [يوسف: 84].
وَاشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأتَى رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِا? بنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ، فَقَالَ: «أقَدْ قَضَى؟» قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ ا?! فَبَكَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم .
فَلَمَّا رَأى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم ، بَكَوْا. فَقَالَ: «ألا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا (وَأشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) أوْ يَرْحَمُ». متفق عليه(1).
ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة، والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر، ويضاد الصبر الهلع، وهو الجزع عند حصول المصيبة، والمنع عند ورود النعمة كما قال سبحانه: (چچ چ چ ?? ? ? ? ?? ? ? ? ) [المعارج:19-21].
والصبر ألوان:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1304)، ومسلم برقم (924) واللفظ له.(8/191)
صبر على التكاليف والأوامر من عبادة ودعوة وجهاد.. وصبر على النعماء والبأساء.. وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم... وصبر على البلاء والفتن.
والمؤمنون يصبرون على كل ذلك ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجاً من أن يقول الناس جزعوا، ولا تجملاً ليقول الناس صبروا، ولا رجاء في نفع من وراء الصبر، ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع، وقد وعد الله هؤلاء بقوله: (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 10].
والصبر منصور أبداً، فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً، له العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة.
والصبر ثلاثة أنواع:
صبر على طاعة الله.. وصبر عن معصية الله.. وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فالأولان صبر على ما يتعلق بكسب الإنسان، والثالث صبر على مالا كسب للعبد فيه، فصبر يوسف صلى الله عليه وسلم عن مطاوعة امرأة العزيز على ما تريد منه أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه.
فهذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، وليس للعبد فيها حيلة غير الصبر.
وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضى، ومحاربة للنفس وشهواتها، لا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة.
فإنه كان شاباً عزباً غريباً مملوكاً، والمرأة جميلة، وذات منصب وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، ومع هذه الدواعي صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [يوسف: 24].
والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإنّ فعل الطاعة أحب إلى الله من ترك المعصية، وعدم الطاعة أبغض إليه وأكره من وجود المعصية.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالأول: الاستعانة بالله ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [النحل: 127].(8/192)
والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، أو طلب حمد الخلق ونحو ذلك، فإن الصبر عمل، والعمل لا بدَّ أن يكون خالصاً لله.
والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية، صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها حيث نزلت، قد جعل نفسه وقفاً على محاب ربه وأوامره.
وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصديقين، فالصبر من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد وهو الثبات مع الله، وتلاقي بلائه بالرحب والسعة، والثبات على أحكام الكتاب والسنة حتى يلقى ربه.
والصبر أكبر عون للعباد على جميع الأمور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 153].
والذي يعين على الصبر أمور أهمها:
الأول: معرفة العبد ما في الطاعات من زيادة الإيمان وصلاح القلوب.
الثاني: معرفة العبد ما في المحرمات والمعاصي من الضرر والرذائل، وما توجبه من العقوبات في الدنيا والآخرة.
الثالث: معرفة العبد ما في أقدار الله من البركة والحكمة والرحمة، وما لمن قام بالصبر عليها من الأجور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 10].
الرابع: معرفة العبد أن محبة الله معه كلما اتقى وصبر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 46].
ومن كان الله معه فكل شيء معه، فكيف لا يجاهد المسلم نفسه على الصبر وهذه أجوره وبركاته ومنافعه؟
فبالصبر يسهل على العبد القيام بالطاعات، وأداء حقوق الله، وأداء حقوق عباده، وترك ما تنهاه نفسه من المحرمات، وبذلك يهون عليه الصبر عن جميع الشهوات، وجميع الشدائد في الأقدار والأوامر.
والصبر على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الصبر عن المعصية بمطالعة الوعيد، إبقاء على الإيمان، وحذراً من الحرام، وأحسن منها الصبر عن المعصية حياءً.(8/193)
فالإبقاء على الإيمان يبعث على ترك المعصية؛ لأنها لا بدَّ أن تنقصه أو تذهب بهجته، أو تطفئ نوره، أو تضعف قوته.
وأما الحذر من الحرام فهو الصبر عن كثير من المباح حذراً من أن يسوقه إلى الحرام والشبهات.
والحياء يبعث عليه قوة المعرفة بالله، ومشاهدة معاني الأسماء والصفات.
وأحسن من ذلك أن يكون الباعث عليه وازع الحب، فيترك معصيته محبة له، وصاحب الحياء أحسن حالاً من أهل الخوف؛ لأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته، وحضور القلب معه، ولأن فيه من تعظيم الله وإجلاله سبحانه ما ليس في وازع الخوف.
فَمَنْ وازعه الخوف قلبه حاضر مع العقوبة، ومن وازعه الحياء قلبه حاضر مع الله، والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها، والمستحي مراع جانب ربه، وملاحظة عظمته، وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان.
الدرجة الثانية: الصبر على طاعة الله، بالمحافظة عليها دوماً، ورعايتها إخلاصاً، وتحسينها علماً وعملاً.
وفعل الطاعة أكبر من ترك المعصية، فيكون الصبر عليها آكد، وفوق الصبر عن ترك المعصية، فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة، والمنهي عنه لما كان يُضعف المأمور به ويُنقصه نهي عنه؛ حماية وصيانة لجانب الأمر.
والصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء:
دوام الطاعة.. والإخلاص فيه.. ووقوعها على مقتضى العلم.
والطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة.
فالعبد إن لم يحافظ عليها دوماً عطلها، وإن حافظ عليها دوماً عرض لها آفتان:
الأولى: ترك الإخلاص، وحفظها من هذه الآفة برعاية الإخلاص.
والثانية: أن لا تكون مطابقة للعلم، فحفظها من هذه الآفة بتجريد المتابعة. الدرجة الثالثة: الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج، وتهوين البلية بعد أيادي المنن، وبذكر سوالف النعم، فيعد العبد نعم الله عليه، وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر.(8/194)
وبذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي، وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال، وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج يتعلق بالمستقبل.
والصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على أقداره والصبر لله أكمل من الصبر بالله، والصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره.
فصبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومة قومهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسبباً عن فعله.
وكذلك صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف عليهما الصلاة والسلام.
ومراتب الصبر أربع:
الأولى: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي الصبر لله وبالله، فيكون العبد في صبره مبتغياً وجه الله، صابراً به، متبرئاً من حوله وقوته، فهذه أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها، وفي ذروتها الأنبياء.
الثانية: أن لا يكون فيه صبر لله، ولا صبر بالله، فهذا في أخس المراتب، وهو أردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان، وبكل حرمان.
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، فهو مستعين ومتوكل على حول الله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله فيما هو مراد الله الديني منه.
فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له، وإنما كانت عاقبته شر العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار، وأرباب الأحوال الشيطانية، فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله.
وهم من جنس الملوك والرؤساء الظلمة، فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر، والمؤمن والكافر.
الرابعة: من فيه صبر لله، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به، والتوكل عليه، والثقة به، والاعتماد عليه.
فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه، ونصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله.(8/195)
فهذا حال المؤمن الضعيف، وصابر بالله لا لله حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله حال المؤمن القوي، وهو أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وكل عبد لا يخلو قط من أن يكون في نعمة أو بلية.
فإن كان في نعمة ففرضها الشكر والصبر، أما الشكر فقيدها وثباتها، والكفيل بمزيدها.
وأما الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظها، فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلي.
وإن كان في بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً.
أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء، وعليه أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا.
والصبر من أجلّ مقامات الدين، وأخص الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، وذلك لا يقوم إلا على ساق الصبر.
والصبر على البلاء يكون بحبس النفس على المكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص في تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته، ويشهد العبد في تضاعيف البلاء لطف صنع الله به، وحسن اختياره له، وبره به، فيحصل له لذة بذلك.
وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهي أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التي خلعها عليه، ليدخل في أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله.
فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هي موافقة المحبوب في محابه، فيحب كل ما يحبه محبوبه، وإن كرهه من حيث الطبع البشري، كما يحب الدواء الكريه لما فيه من الشفاء.
وتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه فيه عن مراده هو منه، فإذا شهد مراد محبوبه أحبه، وإن كان كريهاً إليه.
وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى، وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة والسرور.
والصبر نوعان:
أحدهما: صبر على المقدور كالمصائب.(8/196)
الثاني: صبر على المشروع وهو نوعان:
صبر على الأوامر... وصبر عن النواهي.
فذاك صبر على الإرادة والفعل.. وهذا صبر عن الإرادة والفعل.
فأما النوع الأول فمشترك بين المؤمن والكافر، لا يثاب عليه بمجرده إن لم يقترن به إيمان واحتساب كما قال صلى الله عليه وسلم لابنته: «مُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» متفق عليه(1).
ومن قل يقينه قل صبره.. ومن قل صبره خف واستخف، ولعبت به الأهواء كما تلعب الريح بكل خفيف.
وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه.
فإبراهيم صلى الله عليه وسلم ابتلي بالنار، ومفارقة الأهل والأولاد والدار، فصبر ابتغاء وجه ربه، فأنجاه الله من النار، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.
ومن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة فليوطن نفسه على الصبر على البلاء، والصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، ومن أراد أن يقتدي في دينه فليتبع الأنبياء؛ لأنهم بالله أعرف وله أطوع.
وقد أمرنا الله باتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسوله باتباع ملة إبراهيم، وملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم البذل والتضحية بكل شيء من أجل التوحيد والإيمان وإعلاء كلمة الله.
فإبراهيم صلى الله عليه وسلم من أجل الدين بذل نفسه حين سلمها للنيران.. وبذل ماله حين سلمه للضيفان.. وضحى بولده حين بذله للقربان.. وأسكن وترك بواد غير ذي زرع طاعة للرحمن.
فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم فاجتهد في متابعة ولده الصبي.. كيف انقاد لحكم ربه، مع صغر سنه، فمد عنقه للذبح امتثالاً لأمر ربه.
وأنه لابتلاء عظيم، وبلاء مبين للوالد والولد، يحتاج إلى صبر كالجبال، إنه ابتلاء يهز القلوب، ويرجف له الفؤاد، ولكنه أمر الله، ولا بدَّ من امتثاله.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(2284)، ومسلم برقم (923)، واللفظ له.(8/197)
فمن يطيق أن يذبح ابنه؟ ومن يتحمل مباشرة الذبح؟ ولكن الله يريد صفاء إبراهيم، وهو خليل الرحمن، وقد تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، فأمره الله أن يذبح من زاحم حبه حب ربه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصافات: 102].
فلما قدَّم إبراهيم طاعة ربه وعزمه على ذبح إسماعيل، وزال ما في القلب من المزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه فلهذا قال: (? ? ? ?? پ پ پپ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹٹ ٹ ? ?? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ?? چ چ چ چ?) [الصافات: 103-111].
وإن كنت دون الرجل، فاتبع الموسوم بنقصان العقل والدين، وهي أم الذبيح إسماعيل، هاجر المملوكة امرأة إبراهيم.. وانظر كيف أطاعت ربها وصبرت، فتحملت المحنة في ولادتها، ثم صبرت حين تركها الخليل مع ولدها في مكة، حيث لا ماء ولا زاد ولا أنيس، ثم توجهت إلى ربها ليغيثها، فلما تربت على اليقين على الله، جعل الله خطواتها عبادة إلى يوم القيامة، وهي السعي بين الصفا والمروة.
كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 37].
ومن صفات الله تبارك وتعالى الصبر، وأطلق عليه الصبر أعرف الخلق به، وأعظمهم تنزيهاً له نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَيْسَ أحَدٌ، أوْ لَيْسَ شَيْءٌ أصْبَرَ عَلَى أذًىً سَمِعَهُ مِنَ الله، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» متفق عليه(1).
وصبر الله تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه منها:
أن صبره سبحانه عن قدرة تامة، ومنها أنه لا يخاف الفوت، ومنها أنه لا يلحق بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما.
والفرق بين الصبر والحلم، أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، والحلم في صفات الرب تعالى أوسع من الصبر.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6099) واللفظ له، ومسلم برقم (2804).(8/198)
والمخلوق يحلم عن جهل، ويعفو عن عجز، والرب تعالى يحلم مع كمال علمه، ويعفو مع تمام قدرته.
وحلمه وقدرته وعلمه من لوازم ذاته سبحانه، وأما صبره عزَّ وجلَّ فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه، وأنواع معاصيهم وفجورهم.
فلا يحمله ذلك على تعجيل العقوبة، بل يصبر على عبده، ويمهله ويستصلحه، ويرفق به، ويحلم عليه.
حتى إذا لم يبق فيه موضع للصنيعة، ولا يصلح على الإمهال والرفق والحلم، ولا ينيب إلى ربه، ولا يدخل عليه لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم، أخذه أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الإعذار إليه، وبذل النصيحة له، ودعائه إليه من كل باب.
وهذا كله من موجبات صفة حلمه.
ولو أن الناس أعطوا هذا الاسم حقه، لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق، كما أنه أحق باسم العليم والرحيم وسائر الأسماء من جميع الخلق.
والتفاوت الذي بين صبره سبحانه وبين صبر الخلق كالتفاوت الذي بين حياتهم وحياته، وعلمه وعلمهم، وكذا سائر صفاته وصبره سبحانه من أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك، وأكرم الأكرمين، ومَنْ إحسانه فوق كل إحسان، بالكفر والمعاصي، وغاية القبح، وأعظم الفجور، وأفحش الفواحش، ونسبته إلى مالا يليق به.
والقدح في كماله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله، مقابلتهم بالسب والشتم والأذى.
وتحريق أوليائه وقتلهم وإهانتهم أمر لا يصبر عليه إلا الصبور الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق إلى صبره سبحانه.
وماذا صدر عن العباد من الجهل والسفه؟
(ے ے ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [مريم: 88-95].
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [آل عمران: 181].(8/199)
(ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [المائدة: 72-74].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الجاثية: 24].
فبحلمه سبحانه صبر عن معاجلة أعدائه بالعقوبة، وكذلك خرور الجبال، وانشقاق الأرض، وتفطير السماء، يحبسها عن ذلك بصبره وحلمه.
وما يأتي به الكفار والمشركون والفجار في مقابلة العظمة والجلال والإكرام يقتضي البطش والهلاك، ولكن الله غفور حليم يمهلهم لعلهم يرجعون.
وهو سبحانه الذي خلق ما يصبر عليه، وما يرضى به.
فإذا أغضبته معاصي الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم، أرضاه تسبيح ملائكته وعباده المؤمنين، وطاعتهم له، وحمدهم له، فيعيذ رضاه من غضبه.
وكما جعل سبحانه في الأرض من يكفر به، ويجحد توحيده، ويكذب رسله، كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك، ومصدق بما كذبوا به، وبهذا تماسك العالم العلوي والعالم السفلي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 89].
والله تبارك وتعالى ذو العزة والجبروت، وذو الجلال والإكرام، وذو الملك والكبرياء والعظمة خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بما يصلحهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عما يضرهم ويشقيهم في الدنيا والآخرة، وقدر عليهم أقداره وأحكامه، وهم لا يستطيعون القيام بما أمرهم، والكف عما نهاهم، وتحمل ما قدر عليهم إلا بالصبر.
وما أمر الله عزَّ وجلَّ بأمر إلا أعان عليه، ونصب له أسباباً تمده وتعين عليه.
ولما كان الصبر مأموراً به، جعل سبحانه له أسباباً تعين عليه، وتوصل إليه، كما أنه ما قدر داءً إلا وقدر له دواءً، وضمن الشفاء باستعماله.
والصبر وإن كان شاقاً كريهاً على النفوس فتحصيله ممكن، وهو يتركب من مفردين:
العلم.. والعمل.. فمنهما تُركب جميع الأدوية التي تداوى بها القلوب والأبدان.(8/200)
فأما الجزء العلمي: فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال، وإدراك ما في المحظور من الشر والضرر والنقص والهلاك.
فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي أضاف إليهما العزيمة الصادقة، والهمة العالية، والنخوة والمروءة الإنسانية، وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء، فمتى فعل ذلك حصل له الصبر، وهانت عليه مشاقه، وحلت مرارته، وانقلب ألمه لذة.
والصبر: مصارعة باعث الدين والعقل لباعث الهوى والنفس.
وكل متصارعين أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له، وإضعاف الآخر.
فإذا قوي باعث شهوة الزنى مثلاً، وغلب بحيث لا يملك معها فرجه، أو يملكه ولكن لا يملك قلبه، وشغله ذلك، وبذل كل شيء من أجله.
فإذا عزم على التداوي ومقاومة هذا الداء، فعليه أن يضعفه أولاً بأمور:
أحدها: أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة، فيجدها من الأغذية المحركة للشهوة إما بنوعها، أو بكميتها، فيحسم هذه المادة بتقليلها، فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم، فإنه يضعف مجاري الشهوة ويكسر حدتها.
الثاني: أن يجتنب محرك الطلب وهو النظر، فداعي الإرادة والشهوة إنما يهيج بالنظر، والنظر يحرك القلب بالشهوة، والنظر سهم مسموم من سهام إبليس.
وإذا أطلق العبد نظرة، ونصب قلبه غرضاً، فيوشك أن يقتله بسهم من تلك السهام المسمومة.
الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوِّض عن الحرام، فإن كل ما يشتهيه الطبع في ما أباحه الله سبحانه غنية عنه، وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس.
فالأول: يشبه قطع العلف عن الدابة الجموح لإضعاف قوتها.
والثاني: يشبه تغييب الشعير عن البهيمة؛ لئلا تتحرك قوتها.
والثالث: يشبه إعطاؤها من الغذاء ما يميل إليه طبعها بحسب الحاجة لتبقى معه القوة.
الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر فإنه لو لم تكن جنة ولا نار، لكان فيه من المفاسد ما ينهي عن إجابة هذا الداعي، ولكن عين الهوى عمياء.(8/201)
الخامس: الفكرة في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه إليها، إن كانت معروفة بالإجابة له ولغيره.
فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب والحشرات.
ومن له أدنى مروءة ونخوة يأنف من هذا القبح الذي يغطي كل جمال وملاحة في الوجه والبدن.
فالزنى قبيح وخبيث، وقبحه وخبثه ينتشر على الزاني والزانية.
وإذا أراد الإنسان معرفة ذلك، فلينظر إلى القبح والخبث الذي يعلو وجه أحدهما في كبره، وكيف يقلب الله تلك المحاسن مقابح، حتى تعلو الوحشة والقبح وجهه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [الإسراء: 32].
وأما تقوية باعث الدين فإنه يكون بأمور:
أحدهما: إجلال الله تبارك وتعالى أن يُعصى وهو يرى ويسمع.
وأن يشهد محبته سبحانه، فيترك معصيته محبة له، فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الطاعة طاعة المحبين، وأفضل الترك ترك المحبين.
الثاني: مشهد النعمة والإحسان، فالكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه، وإنما يفعل هذا لئام الناس، فليمنعه مشهد إحسان الله إليه ونعمته عليه عن معصيته حياءً منه.
فلا يحسن أن تكون نعم الله تنزل عليه، ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه، فملك ينزل بهذا.. وملك يعرج بهذا.. فأقبح بها من مقابلة.
الثالث: مشهد الغضب والانتقام، فإن الرب جل جلاله إذا تمادى العبد في معصيته غضب، وإذا غضب جل جلاله لم يقم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف.
الرابع: أن يتذكر كم يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة، وما يحدث له بها من كل اسم مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً، وتزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعاً وعقلاً وعرفاً.
ويكفيه أنه فاته اسم الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة فيه خير من الدنيا وما فيها، فكيف يبيعه بشهوة تذهب لذتها، وتبقى تبعتها؟.(8/202)
قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» متفق عليه(1).
فينزع الإيمان عن الزاني كما ينزع القميص، فإن تاب صادقاً رد إليه الإيمان.
الخامس: مشهد القهر والظفر، فإن قهر الشهوة، وغلبة الشيطان، له حلاوة ومسرة عند من ذاق ذلك، وعاقبته أحمد عاقبة.
السادس: مشهد المعية وهو نوعان:
معية عامة.. ومعية خاصة.
فالمعية العامة: اطلاع الرب عليه، وكونه بعينه لا تخفى عليه حاله.
والخاصة كقوله سبحانه: (? ? ? ??) [الأنفال: 46].
فهذا المعية الخاصة خير له وأنفع في دنياه وآخرته ممن قضى شهوته ونال وطره على التمام.
فكيف يؤثر عليها لذة منغصة منكدة في يسير من العمر؟
السابع: مشهد العوض، وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله، ونهى نفسه عن هواها، وليوازنه بين العوض والمعوض، فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه.
الثامن: مشهد معاجلة الموت له، واخترام أجله، وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل، فيأخذه على غرة لاهياً بشهواته، فيحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة.
التاسع: مشهد البلاء والعافية، فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها.
فأهل البلاء هم أهل المعصية إن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الإيمان والطاعة وإن مرضت أبدانهم.
العاشر: أن يُعود العبد باعث الدين مصارعة داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر، فتقوى حينئذٍ همته، ومن ترك المجاهدة بالكلية ضعف فيه باعث الدين، وقوي فيه باعث الشهوة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2475) واللفظ له، ومسلم برقم (57).(8/203)
الحادي عشر: كف الباطل عن حديث النفس، وإذا مرت به الخواطر نفاها، وقطع العلائق التي تدعوه إلى موافقة الهوى.
وليس المراد، أن لا يكون له هوى، بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه، ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى، فإن ذلك يرفع عنه شر استعماله في معاصيه.
فكل شيء في الإنسان يستعمله لله فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان، وما لا يستعمله لله، استعمله لنفسه وهواه ولا بد.
فالعلم إن لم يكن لله كان للنفس والهوى، والعمل إن لم يكن له كان للرياء والنفاق.
والمال إن لم ينفق لله أنفق في طاعة الهوى والشيطان.
والقوة إن لم يستعملها لله استعملها في معصيته.
فمن عود نفسه العمل لله لم يكن أشق عليه من العمل لغيره.
ومن عود نفسه العمل لهواه لم يكن أشق عليه من الإخلاص والعمل لله، وهذا جارٍ في جميع أبواب الأعمال.
الثاني عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده إلى التفكر فيها، وهي آياته المتلوة، وآياته الكونية، فذلك يرفع عنه محادثة الشيطان ووسواسه.
الثالث عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها، وقرب انقضائها، فلا يرضى لنفسه أن يتزود منها لدار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعاً إلا ساقط الهمة، دنيء المروءة، ميت القلب، فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده، وتبين له عدم نفعه، فكيف إذا ترك تزود ما ينفعه على زاد يعذب به، ويناله بسببه غاية الألم.
الرابع عشر: تعرضه إلى من القلوب بين إصبعيه، وأزمة الأمور بيديه، فلعله أن يصادف أوقات النفحات، ولا يستوحش من ظاهر الحال.
فالله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله وصفاته، فإنه ما حَرَمه إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليحييه، وما أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل حال.(8/204)
الخامس عشر: أن يعلم العبد أن فيه جاذبين متضادين هو ممتحن بهما، جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى، وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين.
فكلما انقاد إلى الجاذب الأعلى صعد درجة، حتى ينتهي إلى حيث يليق به من المحل الأعلى.
وكلما انقاد إلى الجاذب الأسفل نزل درجة، حتى ينتهي إلى موضعه من سجين.
وإذا أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين روحه في هذا العالم، فإنها إذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذي كانت تجذبه إليه في الدنيا فهو أولى بها.
وكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله بالطبع.
فالنفوس العلوية تنجذب بذاتها وأعمالها إلى أعلى، والنفوس السافلة إلى أسفل.
السادس عشر: أن يطهر العبد قلبه ويفرغه من إرادات السوء وخواطره، ويبذر فيه بذر الذكر والفكر، والمحبة والإخلاص.
فعند ذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة، والأحوال الشريفة.
وفضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد، فلو زال ذلك المانع لسارع إليها الفضل من كل صوب.
السابع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذل معه، وأمن لا خوف فيه، وغنى لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه.
وامتحنه في هذه الدنيا بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء، والعز الذي يقارنه الذل، ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف، وبعده الخوف.
وكذلك الغنى واللذة، والفرح والسرور، الذي هنا مشوب بضده، فغلط أكثر الخلق في هذا فطلبوا النعيم والبقاء، والعز والملك، والجاه والشرف في غير محله ففاتهم في محله.
وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك، والذي ظفر به إنما هو متاع قليل زائل.
والله عزَّ وجلَّ أرسل رسله وأنزل كتبه بعبادة الله وحده، والدعوة إلى النعيم المقيم، والملك الكبير في الجنة.(8/205)
فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملوك فمن دونهم؛ لأن العبد إذا ملك شهوته وغضبه فانقادا معه لداعي الدين فهو الملك حقاً.
لأن صاحب هذا الملك حر، والملك المنقاد لشهواته وغضبه عبد شهوته وغضبه، فهو مسخر مملوك في زي مالك.
الثامن عشر: أن يتخلص من الشر بالبعد عنه، وعن أسبابه ومظانه ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظان الفتنة.
ولا يعتز بما في مظان الشر من بعض الخير، فإن الشيطان يخدعه بذلك، فإذا قرب منه صاده وألقاه في الشبكة.
والعبد في الدنيا لا يخلو من حالين:
الأولى: ما يوافق هواه من الصحة والمال، والجاه والملاذ.
والعبد في هذا محتاج إلى الصبر؛ لئلا يركن إليها، وينسى حق الله فيها.
الثانية: ما يخالف هواه، وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: الطاعات، فيحتاج العبد على الصبر عليها؛ لأن النفس بطبعها تنفر من العبودية، فمن العبادات ما تكرهه النفس بسبب الكسل كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسبب الشهوة كالصيام، ومنها ما يكره بسبب الخوف كالجهاد، ومنها ما يكره بسبب الكسل والبخل كالحج.
ويكون الصبر على الطاعة في ثلاثة أحوال:
حال قبل العبادة، بتصحيح النية والإخلاص، والصبر على شوائب الرياء، وحال في نفس العبادة، وهي أن لا يغفل عن الله تعالى أثناء العبادة.
والثالثة بعد الفراغ من العمل، فيصبر عن إفشائه، والتظاهر به؛ ليسلم من الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطله.
الثاني: الصبر عن المعاصي الصغائر والكبائر، فإن كان مما يتيسر فعله كمعاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء، كان الصبر عليه أثقل.
الثالث: ما لا يدخل تحت الاختيار كالمصائب، مثل موت الأحبة، والأمراض، وهلاك الأموال، وسائر أنواع البلاء.
فالصبر على ذلك من أعلى المقامات، ومنه الصبر على أذى الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 186].(8/206)
والله سبحانه قادر على أن يحيي الدين كله في العالم كله، ولكن الله جعل ذلك إلينا، لنقوم بالدعوة إلى الله، ونصبر على ذلك، فنحصل على أجر الهداية والدعوة والصبر.
والله قادر على أن يجعل الناس كلهم أغنياء، ولكن الله عزَّ وجلَّ بحكمته ورحمته جعل فينا الغني والفقير، ليحصل الغني على الأجر بالإنفاق، ويحصل الفقير على الأجر بالصبر، وكلاهما على خير.
والصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ومنتهى الصبر أن يكون العبد يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه.
وقد ذكر الله عزَّ وجلّ في كتابه الصبر الجميل.. والصفح الجميل.. والهجر الجميل..
فالصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه.. والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه.. والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.
(? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
22- فقه الشكر
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 7].
وقال الله تعالى: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 114].
الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، والاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، والثناء على المحسن بذكر إحسانه، ورؤية النعم والمنعم، واستفراغ الطاقة في الطاعة، وأن لا تعصي الله بنعمه.
والشكر والصبر في محل الاستواء، فالشكر وظيفة السراء، والصبر وظيفة الضراء.
والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح:
فالقلب للمعرفة والمحبة.. واللسان للثناء والحمد.. والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور.. وكفها عن معاصيه.
والشكر مبني على خمس قواعد وهي:
خضوع الشاكر للمشكور.. وحبه له.. واعترافه بنعمه.. وثناؤه عليه بها.. وأن يستعملها فيما يحب لا فيما يكره.
وأقوى الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة.
وأكمل الشكر: رؤية النعمة والمنعم، وكلما كان شهود النعمة أتم كان الشكر أكمل.(8/207)
وحقيقة الشكر: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً.. وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة.
والإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، وقد أمر الله بالشكر ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله.
والشاكرون قسمان:
فشكر العامة: على المطعم، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب ونحوها.
وشكر الخاصة: على ما سبق، وعلى التوحيد والإيمان والهداية.
وهذا أكمل، وأعلى، وأتم، وأشمل.
والشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، وما يُّحمد الرب تعالى عليه أتم مما يُشكر عليه، فإنه يُّحمد على أسمائه وصفاته، وأفعاله ونعمه، ويُشكر على نعمه.
وما يحمد به أخص مما يشكر به، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان.
وكل من الصبر والشكر داخل في حقيقة الآخر، لا يمكن وجوده إلا به، فإن الشكر هو العمل بطاعة الله، وترك معصيته، والصبر أصل ذلك، فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر.
وإذا كان الصبر مأموراً به فأداؤه هو الشكر.
وحقيقة الشكر إنما تلتئم من الصبر والإرادة والفعل.
وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر، ولكن اندرج شكره في صبره، فكان الحكم للصبر، كما اندرج صبر الشكور في شكره، فكان الحكم للشكر.
ومقامات الإيمان لا تعدم ولا تزول بالتنقل فيها، بل تندرج ويطوى الأدنى في الأعلى كما يندرج الإيمان في الإحسان، وكما يندرج الصبر في الرضا، ويندرج الرضا في التفويض، لا أن ذلك يزول والمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر، سواء كان محبوباً أو مكروهاً.
فالفقر مثلاً يتعلق به الصبر، وهو أخص به؛ لما فيه من الكراهة.
والغنى يتعلق به الشكر؛ لما فيه من النعمة، فمن غلب شهود نعمته في الفقر وتلذذ به عده نعمة يشكر عليها، ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق عده بليّة يصبر عليها، وعكسه الغنى.(8/208)
والله تبارك وتعالى ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب، وعد كل ذلك ابتلاء فقال: ( ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 35].
والله سبحانه خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار.
وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر، والسراء والضراء، والعافية والبلاء.
والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والنعمة بالفقر والمرض وفيض الدنيا وأسبابها، وأذى الخلق له، قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها.
فالرب تعالى يبتلي بنعمه وينعم بابتلائه، غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني عنهما طرفة عين.
والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الطعام والشراب أيهما أفضل؟ وكالسؤال عن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل؟
فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر، والمحرم لا يترك إلا بصبر وشكر.
وأما المقدور الذي يقدَّر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره.
والله عزَّ وجلَّ امتحن كل عبد بنفسه وهواه، وأوجب عليه جهادها في الله، فهو في كل وقت في مجاهدة نفسه حتى تأتي بالشكر المأمور به، وتصبر عن الهوى المنهي عنه، فلا ينفك العبد عنهما غنياً أو فقيراً، معافى أو مبتلى.
والله سبحانه لم يفضل أحداً بالفقر والغنى، كما لم يفضل أحداً بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].(8/209)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، «قَالَ: فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، (قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لَا) كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» أخرجه أحمد (1).
والناس من آدم، وآدم خلق من تراب، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والتقوى مبنية على أصلين:
الصبر.. والشكر.. وكل من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل، فأتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله هو الأفضل.
فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره، وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره.
والفقراء وإن كانوا يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فهذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة، وإن سبقوهم بالدخول إلى الجنة.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (23489)، انظر السلسله الصحيحة رقم (2700).(8/210)
فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل الجنة كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ ا? عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» أخرجه مسلم (1).
وقد جمع الله سبحانه لرسوله بين المقامين: الصبر والشكر على أتم الوجوه، فكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين.
فحصل له من الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، وحصل له من الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه.
فكان صلى الله عليه وسلم أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر، وربه عزَّ وجلَّ كمل له مراتب الكمال، فجعله في أعلى مراتب الأغنياء الشاكرين، وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين.
فصلوات الله وسلامه عليه عدد المخلوقات والذرات والأنفاس.
وقد جعل الله نبيه غنياً شاكراً بعد أن كان فقيراً صابراً كما قال له سبحانه: ( ژ ژ ڑڑ ک ک کک گ گ گگ) [الضحى: 6-8].
والشكر مبني على ثلاثة أركان:
الأول: معرفة النعمة وقدرها.
الثاني: الثناء على الله المنعم بها.
الثالث: استعمالها فيما يحب موليها ومعطيها وهو الله سبحانه.
فمن كملت له هذه الثلاثة فقد استكمل الشكر.
وبمشاهدة النعمة يتولد في القلب الحب والتعظيم للمنعم، ويخبت لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما ازداد العبد علماً ومعرفة بحقيقة النعمة ومقدارها ازداد طاعة ومحبة، وإنابة وإخباتاً، وشكراً وتوكلاً.
والشكر قيد النعم، فإن شُكرت قرّت، وإن كُفرت فرت، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 7].
وأعظم الشكر لله سبحانه هو توحيده، والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1827).(8/211)
والله تبارك وتعالى غني عن كل ما سواه، فلا يزداد ملكه شيئاً بشكر الناس له، ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم؛ لأنه الغني الحميد، والمنتفع بالشكر هو الإنسان نفسه، كما أنه المتضرر بالكفر كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [النمل: 40].
ولكنه سبحانه يحب أن يحمد ويشكر، ويكره أن يكفر به وبنعمته كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الزمر: 7].
والكفر بنعم الله مؤذن بزوالها عمن كفر بها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [النحل: 112].
والله حكيم في عطائه، وحكيم في منعه، وله الحمد على هذا وهذا، وهو الحكيم العليم.
ومن أسماء الله عزَّ وجلَّ الشاكر والشكور كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [النساء: 147].
وقال سبحانه: (? ? ??) [التغابن: 17].
وشكر الرب تعالى ليس كشكر المخلوق، بل له شأن آخر كشأن صبره سبحانه، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة.
فإنه يعطي العبد، ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء، فلا يستقله أن يشكره.
ويشكر الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
ويشكر عبده بأن يثني عليه في الملأ الأعلى، وبين ملائكته.
ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله، فإذا ترك شيئاً لله أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً، رده عليه أضعافاً مضاعفة، وهو سبحانه الذي وفقه للترك والبذل، وشكره على هذا وعلى هذا.
فسليمان صلى الله عليه وسلم لما عقر الخيل التي أشغلته عن ذكر ربه أعاضه عنها متن الريح.
ولما احتمل يوسف صلى الله عليه وسلم ضيق السجن شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
ولما بذل الرسل والمؤمنون أعراضهم في الله لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته.(8/212)
ولما ترك الصحابة رضي الله عنهم ديارهم وخرجوا منها في مرضاته أعاضهم عنها أن ملَّكهم الدنيا، وفتحها عليهم.
ومِنْ شكره سبحانه أن يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا بأن يخفف به عنه يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه.
ومن شكره سبحانه أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلباً قد جهده العطش حتى أكل الثرى، وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق الناس.
وهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه، والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه، وأعظم من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه، وشكره على قليله بالأضعاف المضاعفة.
فهو سبحانه المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه؟.
وشكره سبحانه يأبى تعذيب عباده بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 147].
ومن شكره سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان، ولا يضيع عليه هذا القدر.
ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاماً يرضيه بين الناس فيشكره وينوه بذكره، كما شكر لصاحب ليس مقامه، ودعوته إليه.
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلق إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها، واتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى كلها.
أحب الخلق إليه من اتصف بموجبها.. وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها.
ولهذا يبغض سبحانه الكفور والظالم، والجاهل والبخيل، والجبان واللئيم.
وهو سبحانه جميل يحب الجمال، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، عفو يحب العافين.
وكل ما عرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه أقل من قطرة في بحر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 18].(8/213)
والخلق لم يقصروا في شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها.
ثم إن عرف العباد نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه: الحمد لله، والشكر لله فقط، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهي طاعة الله وعبادته، ولله تعالى في كل موجود حكمة ونعمة فليشكر العبد ربه عليها.
والشكر على ثلاث درجات:
الأولى: الشكر على المحاب، فكل الخلق في نعم الله، وكل من أقر بالله رباً، وعلم تفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه، لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر، وهو الاستعانة بها على مرضاته.
الثانية: الشكر في المكاره، وهو أشد وأصعب من الشكر على المحاب، ولهذا كان فوقه في الدرجة، فالمسلم لا يحب المكروه، ولا يرضى بنزوله به، فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه، فكان شكره كظماً للغيظ الذي أصابه، وستراً للشكوى.
وهذا الشاكر قابل المكاره الذي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوسطهم بالصبر، وأقلهم بالرضا، قابلها هو بأعلى من ذلك كله، وهو الشكر والحمد.
الثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم، فهو مشغول بمراده منه عن غيره، وواقف مع مراد الملك منه، لا مع مجرد حظه من الملك، وعبادة النفس أن يقف الإنسان مع مراده من الله، لا مع مراد الله منه.
ودرجات الشكر وأنواعه كثيرة:
فحياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر.. ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر.. والمعرفة بعظيم حلم الله وستره شكر.. والمعرفة بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر.. والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر.
وحسن التواضع في النعم والتذلل فيها شكر.. وشكر أهل الجود والإحسان من الخلق شكر، فإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله.. وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر.(8/214)
وتلقي النعم بحسن القبول، واستعظام صغيرها شكر، واستعمال النعمة في طاعة الله شكر، والثناء على الله بها شكر.
والنعمة: هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، وكل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى.
والنعمة على ثلاثة أقسام:
أحدها: نعمة تفرد الله بإيجادها نحو أن خلق ورزق.
الثانية: نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة أنها وصلت من الله تعالى، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة.. والخالق لذلك المنعم.. والخالق لداعية الإنعام في قلب ذلك المنعم، إلا أنه لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد، كان ذلك العبد مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى، ولهذا قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [لقمان: 14].
فبدأ بنفسه تنبيهاً إلى أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله.
الثالثة: نعم وصلت إلينا بسبب طاعاتنا، وهي أيضاً من الله؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وفقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأزاح الأعذار عنا، وإلا لما وصلنا إلى شيء منها.
والمدح: يحصل للعاقل وغير العاقل كمدح الإنسان العاقل على حسن خلق، ومدح اللؤلؤ لجماله.
والحمد: لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام، والإحسان، سواء وصل إليك أو إلى غيرك.
والشكر: عبارة عن تعظيم المنعم وشكره على الإنعام الواصل إليك.
فالمدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر.
والله سبحانه هو الذي أنعم على البشر بالأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي أعطاهم إياها، وجعل ينميها فيهم شيئاً فشيئاً إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به، وذلك لأجل أن يشكروا الله باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، خاصة السمع والبصر والعقل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 78].(8/215)
فلله الحمد والشكر على ما أعطانا من كل خير.. وله الحمد على ما صرف عنا من الشر.. وله الحمد والشكر على ما أنعم به علينا وعلى غيرنا.. وله الحمد والشكر أن ابتدأنا بالنعم قبل أن نسأله.. وله الحمد والشكر على دوام النعم خاصة نعمة الإسلام التي لا يعدلها نعمة.
«اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» أخرجه مسلم (1).
«اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [وَمَنْ فِيهِنَّ]، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ» متفق عليه (2).
اللهم لك الحمد كله.. ومنك الفضل كله.. وإليك يرجع الأمر كله.. أوله وآخره.. علانيته وسره.. كبيره وصغيره.. لك الحمد لا أحصى ثناءً عليك.
أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد.
وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد.
وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد.
وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد.
وأنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد.
وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد.
وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد.
وأنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد.
وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (478).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).(8/216)
وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد.
23- فقه التواضع
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 63].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِِنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلا يَبْغِ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ» أخرجه مسلم (1).
التواضع: أن يخضع العبد للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله، ويتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والانقياد له، والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكه.
وبهذا يحصل للعبد خلق التواضع.
وحقيقة التواضع:
خضوع العبد لصوله الحق، وانقياده لها، وخفض الجناح، ولين الجانب.
والتواضع خلق جميل ينشأ من معرفة جلال الرب وعظمته، ومعرفة نعمه وإحسانه، ومعرفة نقص الإنسان، فيتولد التواضع من الإنسان الضعيف الناقص لربه ذي الجلال والإكرام.
والتواضع على ثلاث درجات:
الأولى: التواضع للدين، وهو الانقياد والتسليم والإذعان لكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يعارض شيئاً مما جاء به، ولا يتهم دليلاً من أدلة الدين، بحيث يظنه ناقص الدلالة أو غيره كان أولى منه.
ومن عرض له شيء من ذلك فليتهم نفسه، وليعلم أن الآفة منه لا من الدليل.
وإذا رأى العبد من أدلة الدين ما يشكل عليه فليعلم أنه لعظمته وشرفه لم يدرك معناه، وأن تحته كنزاً من كنوز العلم لم يؤت مفتاحه.
ويقدم نصوص الكتاب والسنة على آراء الرجال، ولا يجد إلى خلاف النص سبيلاً البتة لا بباطنه ولا بلسانه، ولا بفعله ولا بحاله.
الثانية: أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبداً من المسلمين أخاً، وأن لا ترد عن عدوك حقاً، وأن تقبل من المعتذر معاذيره.
فإذا كان الله رضي أخاك المسلم لنفسه عبداً، أفلا ترضى أنت به أخاً؟
فإن عدم رضاك به وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده هو عين الكبر.
وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته، وسيده راض بعبوديته؟
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2865).(8/217)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 18].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَلا أخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ. أَلا أخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ» متفق عليه (1).
وكذلك تقبل الحق ممن تحب وممن لا تحب، فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك، فلا تمنعك عداوته من قبول حقه، ولا من إيتائه إياه.
ومن أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كان أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله تعالى.
وعلامة الكريم أنه إذا رأى الخلل في عذره لا يوقفه عليه ولا يحاجه، بل يصفح عن المعتذر فوراً، ويقول: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدر لا بدَّ واقع ونحو ذلك.
الثالثة: أن تتواضع للحق سبحانه، وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره، لا على ما تراه من رأيك.
ولا يكون الباعث لك على عبادته داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له؛ بل يكون باعثه على العبودية لربه مجرد الأمر، ولا ترى لنفسك حقاً على الله لأجل عملك؛ بل تكون مع الله بالعبودية والفقر المحض، والذل والانكسار.
فمتى رأى لنفسه على ربه حقاً صارت معلولة، وخيف منها المقت، وخشي عليها الطرد والإبعاد.
ولا ينافي هذا ما أحقه الله وأوجبه على نفسه من إثابة عابديه واكرامهم، فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره، وجوده وإحسانه، لا باستحقاق العبيد، فلا يدخل أحد الجنة بعمله أبداً، ولا ينجيه من النار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يُدْخِلُ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَلا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلا أنَا، إِلا بِرَحْمَةٍ مِنَ ا?» أخرجه مسلم (2).
24- فقه الذل
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6071) واللفظ له، ومسلم برقم (2853).
(2) أخرجه مسلم برقم (2817).(8/218)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 206].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [غافر: 60].
للعبودية لوازم وأحكام وأسرار وكمالات لا تحصل إلا بها، ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم.
فالله تبارك وتعالى يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هي حقيقة العبودية.
والذل أنواع:
الأول: ذل المحبوب لمحبوبه، وهو أكملها وأعلاها.
الثاني: ذلك المملوك لمالكه.
الثالث: ذل الجاني بين يدي المنعم عليه، المحسن إليه، المالك له.
الرابع: ذل العاجز عن مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها، التي هي في يده وبأمره، وتحت هذا قسمان:
أحدهما: ذل له في أن يجلب له ما ينفعه.
الثاني: ذل له في أن يدفع عنه ما يضره على الدوام، ويدخل في هذا ذل المصائب كالفقر والمرض، وأنواع البلاء والمحن.
فهذه خمسة أنواع من الذل، إذا وفاها العبد حقها، وشهدها كما ينبغي، وعرف ما يراد به منه، وقام بين يدي ربه مستصحباً لها، شاهداً لذله من كل وجه، ولعزة ربه وعظمته وجلاله، كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره.
فالعبودية حقاً كمال الحب لله.. مع كمال التعظيم له.. مع كمال الذل له:
(? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 54].
25- فقه الخوف
قال الله تعالى: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [آل عمران: 175].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النازعات: 40-45].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ??) [الرحمن: 46].
الخوف: هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل، واضطراب القلب وحركته من تذكر الخوف.
وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب.
وإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها، وأزعج النفوس للآخرة.(8/219)
والناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق.
وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عزَّ وجلَّ، فإنك إذا خفته فررت إليه.
والخوف المحمود ما حال بين العبد وبين محارم الله عزَّ وجلَّ، وهو ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة، وله متعلقان.
نفس المكروه المحذور وقوعه.. والسبب والطريق المفضي إليه.
فإذا عرف الإنسان قدر الخوف، وتيقن إفضاء السبب إليه، حصل له الخوف.
الثانية: خوف المكر، فمن حصلت له اليقظة بلا غفلة، واستغرقت أنفاسه فيها استحلى ذلك.
فإنه ينبغي للعبد أن يخاف المكر، وأن يُسلب هذا اليقين والحضور، واليقظة والحلاوة.
فكم من مغبوط بحاله، انعكس عليه الحال، ورجع من أحسن الأعمال إلى أقبح الأعمال، واستبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة، وبالقرب بعداً.
الثالثة: هيبة الجلال لذي الجلال، فإن وحشة الخوف تكون مع الانقطاع والإساءة؟.
أما هيبة الجلال فإنها متعلقة بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وكلما كان العبد بربه أعرف، وإليه أقرب، كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم، وهي أعلى درجات الخوف.
وأكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة، وهو وقت تملق العبد ربه، وتضرعه بين يديه، وهي مخاطبة القلب للرب خطاب المحب لمحبوبه مع هيبة جلاله.
وأكمل الأحوال اعتدال الخوف والرجاء في القلب مع غلبة الحب لله.
فالخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة، والتي عليها مدار مقامات السالكين إلى الله وهي:
الخوف.. والرجاء.. والمحبة.
والخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يتخلف عنه.
وقد أثنى الله عزَّ وجلَّ على أقرب عباده إليه بالخوف منه فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الانبياء: 90].
وكلما كان العبد بالله أعرف كان له أخوف، ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به.
فأعرف الناس بالله أخشاهم لله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [فاطر: 28].(8/220)
ومن عرف الله جل جلاله اشتد حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له، وإجلاله له.
فخوف الله جلَّ جلاله من أجلِّ منازل الطريق إلى الله، فإن العبد له حالتان:
إما أن يكون مستقيماً.. أو مائلاً عن الاستقامة.
فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهذا الخوف ينشأ من ثلاثة أمور:
أحدها: معرفة العبد بالجناية وقبحها.
الثاني: تصديق الوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.
الثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.
فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب:
إما أن يكون عدم علم العبد بقبحه.. وإما عدم علمه بسوء عاقبته..
وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب على ذنوب أهل الإيمان.
فإذا علم العبد قبح الذنب، وعلم سوء مغبته، وخاف أن لا يفتح له باب التوبة، اشتد خوفه فابتعد عنه.
وهذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد.
وأما إن كان المسلم مستقيماً مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
وخوف العبد المسيء الهارب من الله خوف مقرون بوحشة ونفرة، فهو مشفق من عمله لعلمه بأنه صائر إلى العقوبة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 22].
وأما خوف المسيء الهارب إلى الله الفار إليه فهو خوف محشو بالحلاوة والسكينة والأنس، لا وحشة معه، وإنما يجد الوحشة من نفسه، فله نظران:
نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة.. ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفاً مقروناً بأنس وحلاوة وطمأنينة.(8/221)
ولهذا يزول الخوف وسائر الآلام والأحزان في الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چچ) [فصلت: 30-32].
والخوف متعلق بالذنب، ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، فهي سبب المخافة.
فإن قيل: ما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي سبب المخافة؟، وشدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
قيل: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله، والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد؛ لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه ما لا يجب على غيره كما قال سبحانه عن الملائكة: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ??) [النحل: 49].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أمَا والله إِنِّي لأخْشَاكُمْ لله وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (1).
وأيضاً فإن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه، ولولا خوف الإزاغة لما سأل المؤمنون ربهم بقولهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 8].
وكذلك الله عزَّ وجلَّ خالق العباد وأفعالهم الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلوب، ويجعل فيها التوبة والإنابة، وأضدادها، وكل عبد مفتقر في كل لحظة إلى هداية يجعلها الله في قلبه، وحركات يحركه بها في طاعته، وهذا إلى الله سبحانه فهو خلقه وقدره.
فمن هداه وصلاحه ونجاته بيد غيره من أحق بالخوف منه؟
ومن هنا كان خوف أولياء الله من فوات الإيمان.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063) واللفظ له، ومسلم برقم (1401).(8/222)
والعلماء هم الذين يخشون الله ويخافونه، والعلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بدَّ من العلم بأمور ثلاثة:
الأول: العلم بقدرة الله، فإن الملك مثلاً عالم باطلاع رعيته على سوء أفعاله، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها.
الثاني: العلم بكونه عالماً، فالسارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه.
الثالث: العلم بكونه حكيماً، فالعامل عند السلطان عالم بكونه قادراً على منعه، وعالم بفعله للقبائح، لكنه يعلم أنه قد رضي بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف.
فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، قادراً على جميع الكائنات، غير راض بالفواحش والمنكرات.
ولا حرج على العبد أن يخاف من المؤذيات طبعاً كالسباع والحيات ونحو ذلك، فيتحرز منها بالأسباب الواقية.
كما أنه لا حرج على المسلمين في الخوف من عدوهم حتى يعدوا له العدة المادية مع الاعتماد على الله، فنأخذ بالأسباب ولا نعتمد إلا على الله وحده.
والخوف الذي نهى الله عنه بقوله: (ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [آل عمران: 175]، هو الخوف من المخلوق على وجه يحمل صاحبه على ترك الواجب، أو فعل المحرم خوفاً منه، وهكذا الخوف من غير الله على وجه العبادة لغيره، واعتقاد أنه يعلم الغيب، أو يتصرف في الكون، أو ينفع أو يضر بغير مشيئة الله، كما يفعل المشركون مع آلهتهم.
وأسباب الخوف كثيرة:
فقد يكون الخوف بسبب جناية قارفها الخائف.
وقد يكون عن صفة في المخوف كمن وقع في مخالب سبع.
وقد يكون الخوف من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل، أو جوار حريق، فالماء من طبيعته الإغراق، والنار من طبيعتها الإحراق.
وكذلك الخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، وأنه لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع.
وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي.
وتارة يكون بهما جميعاً.(8/223)
فإذا كملت معرفة العبد بربه أورثت جلال الخوف، واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن، وعلى الجوارح، وعلى الصفات. وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره على الأعمال أن يمنع عن المحظورات والمحرمات والشبهات.
ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه، ولا وصول إلى ذلك في الآخرة إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تتم المعرفة إلا بالعمل ودوام الفكر، وانقطاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك ذلك إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف الذي يحرق كل شهوة.
فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، وفضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي، ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف.
وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة، وبه تحصل العفة والورع، والتقوى والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله.
وليس الخوف بكثرة الذنوب، بل بصفاء القلوب، وكمال المعرفة بالله، فما أخطر الجهل، وما أعظم الغفلة؟
فلا قرب الرحيل ينبهنا.. ولا كثرة الذنوب تزعجنا.. ولا رؤية الخائفين تخوفنا.. ولا خطر الخاتمة يزعجنا.. ولا عظمة الجبار وقوة بطشه تزجرنا.
ونحن نخاف من يوم القيامة؛ لأننا لا ندري هل يعاملنا الله بعدله، أم يعاملنا بفضله؟ فنسأل الله أن يعاملنا بفضله لا بعدله، ولا ندري هل تكون أعمالنا مقبولة أو مردودة؟.
ولا ندري بم تواجهنا ملائكة الله؟
فأهل الإيمان: (پ ? ? ? ? ? ??) [الانسان: 7].
والخائفون من الله درجات:(8/224)
فمنهم من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله تعالى.. والخوف من المناقشة.. والخوف من النار.. أو حرمان الجنة.. أو الحجاب عن الله سبحانه وتعالى.. ومنهم من يغلب على قلبه خوف الموت قبل التوبة.. ومنهم من يغلب عليه خوف الاستدراج بالنعم.. أو خوف الميل عن الاستقامة.. ومنهم من يغلب عليه خوف سوء الخاتمة.
وأعلى من هذا خوف السابقة.. ومنهم من يخاف سكرات الموت وشدته.. أو سؤال منكر ونكير.. أو عذاب القبر.
ومنهم من يخاف كل ذلك أو بعضه بحسب قوة المعرفة واليقين وضعفهما. فالخوف نعمة من الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى.
ومن ثمرات الخوف:
أنه يقمع الشهوات.. ويكدر اللذات.. فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة.. فتحترق الشهوات بالخوف.. وتتأدب الجوارح.. ويذل القلب ويستكين.. ويفارقه الكبر والحسد.. ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة.. وحفظ الأنفاس والأوقات، وقوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف.. وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى وأسمائه وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
والخوف من الله تعالى على مقامين:
أحدهما: الخوف من عذابه، وهذا خوف عامة الخلق، وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان أو قوة الغفلة.
الثاني: الخوف من الله تعالى، وهو خوف العلماء، فإن معرفة عظمة الله وجلاله وأسمائه وصفاته تقتضي الهيبة والخوف، فهم يخافون البعد والحجاب، ويخافون من العذاب.
ولولا أن الله لطف بعارفيه، وروَّح قلوبهم بالرجاء لاحترقت من نار الخوف، وأقرب الخلق إلى الله وأعلمهم به أشدهم له خشية كالملائكة، والأنبياء والعلماء، والأولياء، والعباد، ونحن أجدر بالخوف منهم؛ لكثرة معاصينا، وجهلنا بربنا.
وإنما أَمِنّا لغلبة الجهل علينا، وشدة غفلتنا.(8/225)
والصفات السيئة كالكبر، والعجب، والحسد، سباع وهوام مشحونة في باطن الإنسان، فمن قهرها وقتلها قبل الموت نجا، وإلا فليوطن نفسه على لدغها لصميم قلبه، وظاهر بشرته يوم القيامة.
والله تبارك وتعالى هو الذي بيده الحول كله، والخلق كله، والأمر كله، والقوة كلها، فالخوف والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويُخاف إنما هما لله، وبيد الله، فكيف يُخاف ويُرجى من لا حول له ولا قوة؟
بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان، ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فعلى قدر خوف العبد من غير الله يسلط عليه، وعلى قدر رجائه لغيره يكون الحرمان.
وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ولو اجتمعت لتكوينه الخليقة.
ومن خاف الله أمن من كل شيء، ومن خاف غير الله أخافه الله من كل شيء، وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله.
ووجل القلب يحصل للعبد بمعرفة عظمة الله وجلاله وكبريائه، ثم معرفة عظمة أسماء الله وصفاته، ثم معرفة عظمة كلام الله، ثم معرفة عظمة أوامر الله، ثم معرفة عظمة ثوابه وعقابه.
فإذا عرف العبد ذلك سارع لطاعة ربه وامتثال أوامره.
فسبحانه من إله ما أعظمه.. وما أعظم أسماءه وصفاته وأفعاله.. وما أعظم كلامه.. وما أعظم دينه وشرعه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 68].
وخوف الناس قسمان:
أحدهما: خوف عبادة وتذلل وتعظيم، وهذا لا يصلح إلا لله سبحانه، فمن خاف من الأصنام، أو الأموات، أو الأولياء، أو مخلوق مثل هذا الخوف فهو مشرك شركاً أكبر.
الثاني: الخوف الطبيعي والجبلي، فهذا إن حمل على ترك واجب، أو فعل محرم، فهو محرم، وإن استلزم شيئاً مباحاً فهو مباح.
والخشية نوع من الخوف لكنها أخص منه، والفرق بينهما:
أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي منه وحاله كقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 28].
والخوف قد يكون من الجاهل، وأيضاً الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف.(8/226)
وكلما قوي إيمان العبد زاد خوفه، وزال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم، والشيطان يكيد ابن آدم بذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [آل عمران: 175].
والله عزَّ وجلَّ هو المقرب والمبعد، فليحذر القريب من الإبعاد، والمتصل من الانفصال، يعلم من يصلح للقرب منه، ومن لا يصلح كما قال سبحانه:
(گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [البقرة: 235].
والله عزَّ وجلَّ غيور، لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته، واتصل قلبه بمحبته، والأنس به أن يكون له التفات إلى غيره البتة.
ومن غيرته سبحانه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده أن يلتفت إلى غيره.
فإذا أذاق عبده حلاوة محبته، والأنس به، ثم ساكن غيره، باعده من قربه، وقطعه من وصله، وأوحش سره، وألبسه رداء الذل والصغار والهوان.
فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب، وسلط عليه من يسومه سوء العذاب، وملئ من الهموم والغموم والأحزان، وصار محلاً للجيف والأقذار، وبدل بالأنس وحشة، وبالعز ذلاً، وبالقرب بعداً، كان هذا بعض جزائه.
فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات، وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات.
ومن عرف ربه، وذاق حلاوة قربه ومحبته، ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره، ثبط جوارحه عن طاعته، وعقل قلبه عن إرادته ومحبته، وأخره عن محل قربه، وولاه ما اختاره لنفسه.
وإذا أراد المرء أن يعرف ما حل به من بلاء الانفصال، والبعد وذل الحجاب فلينظر من استعبد قلبه.. واستخدم جوارحه.. وشغل سره؟
وينظر أين يبيت قلبه إذا أخذ مضجعه؟
وأين يطير قلبه إذا استيقظ من منامه؟
فذلك هو معبوده وإلهه، فإذا سمع النداء يوم القيامة: لينطلق كل واحد مع من كان يعبده، انطلق معه كائناً ما كان: (? ? ? ? ?) [الزمر: 15].
26- فقه الرجاء
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].(8/227)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
الرجاء: هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده.
والرجاء ضد اليأس؛ لأن الرجاء يبعث على العمل، واليأس يمنع من العمل، والرجاء محمود لأنه باعث، واليأس مذموم لأنه صارف عن العمل.
والخوف ليس ضد الرجاء، بل هو رفيق له، بل هو باعث آخر بطريق الرهبة، كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة.
فالرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال.
ومن آثار الرجاء: التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى.. والتنعم بمناجاته، والتلطف في التملق له.
والدواء يحتاج إليه أحد رجلين:
إما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله، وإما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وانقطع عن العمل.
وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال، فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال.
فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة، واقتحام المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموماً مهلكة في حقه، فمثل هذا المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف، والأسباب المهيجة له.
فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفاً ناضراً إلى مواقع العلل، معالجاً لكل علة بما يضادها ويزيلها.
والمطلوب هو العدل، وخير الأمور أوسطها.
فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط، لا بما يزيد في ميله عن الوسط.
وأسباب الرجاء تستعمل في حق الآيس، أو فيمن غلب عليه الخوف، والخوف والرجاء جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى، وذلك موجود في القرآن والسنة، ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حسب الحاجة والحالة استعمال الطبيب الحاذق، لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض.
وحال الرجاء يطلب بالاعتبار وتدبر القرآن، والآثار.
أما الاعتبار:(8/228)
فيتأمل العبد أصناف النعم التي أنعم الله بها على عباده، ويعرف لطائف نعم الله على عباده، وعجائب حكمه في خلق الإنسان، وما أعد له من الأرزاق في الدنيا والآخرة مما هو ضروري أو جمالي.
فمن أعطى عباده هذا كيف يرضى بسوقهم إلى الهلاك المؤبد؟
ولكن الناس يظلمون أنفسهم تارة باليأس.. وتارة بالتقصير.. وتارة بالاستهانة بأوامر الله.
بل إذا نظر الإنسان نظراً شافياً علم أن أكثر الخلق قد هيء له أسباب السعادة في الدنيا، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت؛ لأن أسباب النعم أغلب لا محالة، وإنما الذي يتمنى الموت نادر.
فإذا كان أغلب الخلق في الدنيا الغالب عليهم الخير والسلامة، فالغالب أن أمر الآخرة يكون كذلك إلا من مات كافراً أو مشركاً، أو منافقاً.
ومدبر الدنيا والآخرة واحد، وهو غفور رحيم كريم لطيف بعباده، فهذا إذا تدبره الإنسان قوَّى به أسباب الرجاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا وَأزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ، فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، أوْ أغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَة» أخرجه مسلم (1).
وكذلك النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا، ووجه الرحمة للعباد بها في الدنيا والآخرة.
وأما الآيات فكقوله سبحانه: ( ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 53].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ) [الضحى: 5].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2687).(8/229)
وقوله صلى الله عليه وسلم : «للهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» أخرجه مسلم (1).
والرجاء هو النظر إلى سعة رحمة الله، والاستشعار بجوده وفضله، والثقة بجوده وكرمه، وهو حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير إلى ربها ومرضاته.
والفرق بين الرجاء والتمني:
أن التمني يكون مع الكسل.. والرجاء يكون مع بذل الجهد، وحسن التوكل.
فعلامة صحة الرجاء حسن الطاعة.
والرجاء ثلاثة أنواع:
رجاء من عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه.
ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله وعفوه وإحسانه، وهذان محمودان.
والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا الغرور والتمني، والرجاء الكاذب.
والخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
وفي كلا الرجائين كمال:
رجاء المحسن ثواب إحسانه وطاعاته، لقوة أسباب الرجاء معه، ورجاء المذنب المسيء التائب مغفرة ربه وعفوه؛ لأن رجاءه مجرد من علة رؤية العمل، مقرون بذلة رؤية الذنب.
والرجاء من أجلِّ المنازل وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله عزَّ وجلَّ.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2747).(8/230)
وقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وغلبة رحمته غضبه.
ولولا الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح، ولولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا روح الرجاء وريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات، وعلى حسب محبة الله وقوتها يكون الرجاء والخوف، فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المطيع المحب لا يصحبه وحشة، بخلاف خوف المسيء.
ورجاء المطيع المحب لا يصحبه علة، بخلاف رجاء المذنب المسيء.
والرجاء ضروري ولازم لكل عبد، لو فارقه لحظة لتلف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله، ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد عن هذه الأمور أو بعضها.
والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، بل هو من أقوى الأسباب، فالراجي راغب وراهب، ومؤمل لفضل ربه، وحسن الظن به، متعلق الأمل، ببره وجوده، عابد له بأسمائه الحسنى كالبر والكريم، والجواد والوهاب، والمعطي والرزاق، والحليم والغفور.
والله سبحانه يحب من عبده أن يرجوه، ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 218].
وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك سبحانه في ملكه، فإن الراجي إنما يرجو تصرفه في ملكه بما هو أولى وأحب الأمرين إليه.
فإن الفضل والإحسان أحب إليه من العدل، والعفو أحب إليه من الانتقام، والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء، والترك أحب إليه من الاستيفاء، ورحمته سبقت غضبه.(8/231)
فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له، المرضي له، وإذا تعلق الراجي بمراده دون مراد سيده فهو إنما علقه بمراده المحبوب له، هارباً من مراده المكروه له، وعلى تقدير أن يكون محبوباً له إذا كان انتقاماً فالعفو والفضل أحب إليه منه، فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه.
وليس الدعاء والرجاء اعتراضاً على ما سبق به القدر، بل تعلقاً بما سبق به الحكم، فإنه إنما يرجو فضلاً وإحساناً ورحمة سبق بها القضاء والقدر، وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها للعبد.
أما فوائد الرجاء:
فالرجاء يبرد حرارة الخوف التي قد تصل بصاحبها إلى اليأس.
وفيه إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه بسؤاله.
وهو سبحانه يحب من عباده أن يرجوه ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الجواد، أجود من سئل، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 29،30].
والرجاء يحدو العبد في سيره إلى الله، ويطيب له المسير، فلولا الرجاء لما سار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء، وبالرجاء يزداد العبد حباً لله، فإنه كلما اشتد رجاؤه، وحصل له ما يرجوه ازداد حباً لله، وشكراً له، ورضى به وعنه.
وبالرجاء يزداد العبد من معرفة الله وأسمائه وصفاته، ومعانيها، والتعلق بها، والتعبد بها.
وفي الرجاء تكميل مراتب العبودية من الذل والانكسار، والتوكل والاستعانة والخوف والرجاء، والصبر والشكر، والرضا والإنابة.
ولهذا قدر الله على العبد الذنب وابتلاه به لتكميل مراتب العبودية له بالتوبة التي هي أحب شيء إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف.
ودرجات الرجاء ثلاث:
الأولى: رجاء يبعث العامل لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه، ويولد عنده اللذة حين الطاعة والعبادة.(8/232)
فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها، وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره، وكذا المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه كلما تأمل رضاه عنه، وقبوله سعيه، وقربه منه، تلذذ بتلك المساعي والأعمال.
وكذلك الطباع لها معلوم ورسوم تتقاضاها من العبد، ولا تسمح له بتركها إلا بعوض هو أحب إليها من رسومها.
فإذا قوي تعلق الرجاء بهذا العوض الأفضل الأشرف سمحت الطباع بترك تلك الرسوم، فإن النفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، أو حذراً من مخوف هو أعظم مفسدة لها من حصول مصلحتها بذلك المحبوب.
الثانية: رجاء يبعث النفس لترك مألوفاتها، والاستبدال بها مألوفات أخرى هي خير منها وأكمل.
فرجاء هؤلاء أن يبلغوا مقصودهم بصفاء الوقت، ولزوم الشرع، والوقوف عند حدوده.
الثالثة: رجاء أرباب القلوب، وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق، المبغض المنغص للعيش، المزهد في الخلق.
وهذا الرجاء أفضل أنواع على الرجاء وأعلاها، والاشتياق هو سفر القلب في طلب محبوبه، وعيشه منغص حتى يلقى محبوبه.
فهناك تقر عيناه، ويزول عن عيشه تنغيصه، ويزهد في الخلق وما يملكون؛ لأن صاحبه طالب للأنس بالله، والقرب منه، فهو أزهد شيء في الخلق، إلا من أعانه على هذا المطلوب منهم، وأوصله إليه، فهو أحب خلق الله إليه، ولا يأنس من الخلق بغيره، ولا يسكن إلى سواه.
فعليك بطلب هذا الرفيق جهدك، فإن لم تظفر به فاتخذ الله رفيقاً، ودع الناس كلهم جانباً.
وعلامة صحة الرجاء حسن الطاعة، ولزوم العبادة، والخوف والرجاء جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقام عال ومنزل محمود.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة لكل من أراد الله والدار الآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].(8/233)
والله رؤوف بالعباد، رحيم بهم، ومن رحمته أن خلقهم في أحسن تقويم، وهداهم إلى الإيمان، وأعانهم على الطاعة، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأسكنهم في أرضه، وأطعمهم من رزقه، وسقاهم من مائه، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ومظاهر رحمته يوم القيامة أعظم وأكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (1).
27- فقه المراقبة
قال الله تعالى: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [البقرة: 235].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [النساء: 1].
المراقبة: هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه على ظاهره وباطنه.
وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، مطلع على عمله كل وقت، وكل لحظة، وكل نفس، وكل طرفة عين.
ومن راقب الله عزَّ وجلّ َفي خواطره عصمه في حركات جوارحه.
وعلامة المراقبة:
إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله، والرجاء يحرك إلى الطاعة، والخوف يبعد عن المعاصي، والمراقبة تهديك إلى الطريق الحق.
والمراقبة على ثلاث درجات:
الأولى: مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام، بين تعظيم لربه يذهله عن تعظيم غيره، وعن الالتفات إليه، وامتلاء قلبه بذلك.
فالحضور مع الله يوجب له أنساً ومحبة، إن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجاً عن حدود العبودية ورعونة، ودنواً وقرباً من ربه يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه وعن غيره.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6000)، ومسلم برقم (2752) واللفظ له.(8/234)
وسرور باعث على الفرحة والتعظيم واللذة في ذلك القرب، فإن سرور القلب بالله، وفرحه به، وقرة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا البتة.
وهذا السرور يبعث على دوام السير إلى الله عزَّ وجلَّ، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته.
ومن لم يجد هذا السرور والطعم والحلاوة ولا شيئاً منه، فليتهم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان ولذته.
الدرجة الثانية: مراقبة العبد لمراقبة الله له، وهي توجب صيانة الباطن والظاهر، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن بحفظ الخواطر والإرادات الباطنة، التي منها رفض معارضة أمره وخبره ورفض كل محبة تزاحم محبته.. وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به، وتوجب الإعراض عن الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة.. والاعتراض على شرعه وأمره بالآراء والأقيسة المتضمنة تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، والاعتراض على حقائق الشرع والإيمان بالأذواق والكشوفات الباطلة، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه، فاغتالوا القلوب واقتطعوها عن طريق الله، فتولد من ذلك خراب العالم، وهدم كثير من قواعد الدين، والاعتراض على الدين بالسياسات الجائرة التي قدموها على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا بها ولها شرعه وعدله وحدوده.
والعاصم من كل ذلك التسليم المحض للوحي، وكذلك الإعراض عن الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره، وهذا اعتراض الجهال، وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم.
وكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله، إلا نفساً قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة، فتلك حظها التسليم والانقياد، والرضا كل الرضا.
الثالثة: شهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه، وأنه كان ولم يكن شيء غيره البتة.(8/235)
وكل ما سواه كائن بتكوينه له، وكل ما يظهر في الأبد هو عين ما كان معلوماً في الأزل، وإنما تجددت أوقات ظهوره.
ومراقبة الإخلاص في كل حال، ومراقبة مواقع رضا الرب ومساخطه في كل حركة، والفناء عما يسخطه بما يحب سبحانه، فانياً عن مراده من ربه مهما علا بمراد ربه منه.
ومن حسن المراقبة أن تكون قيماً على إيمانك حتى لا ينقص، وعلى جوارحك حتى لا تكل، فإذا وفيتها الحظوظ فاستوف منها الحقوق:
حق الله.. وحق رسوله.. وحق كتابه.. وحق دينه.. وحق الأهل.. وحق الأرحام.. وحق الجيران... وحق المؤمنين.
ومن حسن المراقبة إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك، وإذا كنت قائلاً باللسان فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكتاً أو مستخفياً فاذكر علم الله بك ونظره إليك، فهو الذي لا يخفى عليه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 61].
وحقيقة المراقبة ملاحظة الرقيب، وانصراف الهمم إليه، وهي حالة للقلب تثمرها معرفة الله، وتثمر تلك الحالة أعمالاً في القلب والجوارح.
أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب، واشتغاله به، والتفاته إليه، وملاحظته إياه، وانصرافه إليه.
وأما المعرفة التي ثمرتها هذه الحالة فهي العلم بأن الله مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أعظم من ذلك.
فإذا استولت هذه المعرفة على القلب استجرت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب، وصرفت همه إليه، فتولد من ذلك قوة الإيمان واليقين، والرغبة في الطاعات، وكراهية المعاصي والسيئات.
ولب المراقبة أن تكون أبداً كأنك ترى الله عزَّ وجلَّ، ومن راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه.
وهذا الدين بني على أصلين:
مراقبة الله في كل عمل.. وأن يكون العلم على ظاهرك قائماً.(8/236)
ولا يغرَّنك اجتماع الناس عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك.
وأفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات، فعليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء.
28- فقه المحاسبة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 18].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 281].
المحاسبة: هي التمييز بين ما للإنسان وما عليه.
فيأخذ ماله.. ويؤدي ما عليه.. لأنه مسافر سفر من لا يعود.
وينظر ما قدم لغد، هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أولا يصلح؟
وينظر هل يكفيه ما قدم من عمل فينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله؟
وينظر كذلك إلى ما قدم من العمل، هل يحبه الله ويرضاه، أم يبغضه ويسخطه؟.
ومن حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته في الدنيا والآخرة.
والناس متفاوتون في المحاسبة، وفي كيفية الحساب؟
والمحاسبة أن يخلو العبد بنفسه مثلاً ويقول:
اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وإن كل عبد ينشر له بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له خزانة منها فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيسره ذلك، ويفتح له خزانة أخرى مظلمة يفوح ريحها نتناً، ويغشاه ظلامها، وهي الساعة التي عصى الله فيها فيسوؤه ذلك، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا ما يسره، وهي الساعة التي نام عنها، أو غفل عنها، ويتحسر على خلوها.
وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته وأعماله وإهماله.
ثم يستأنف لنفسه وصية أخرى في أعضائه السبعة وهي:
العين.. والأذن.. واللسان.. واليد.. والرجل.. والبطن.. والفرج.
فيشغل ويحلي كل عضو بما خلق له من الطاعات، ويحفظه من المعاصي.
ثم يواصل ترغيبها في العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، فرضها ونفلها، بالاستكثار منها، وحسن أدائها، والمواظبة عليها حتى تتعود النفس على ذلك.(8/237)
وعلى الإنسان أن يراقب نفسه قبل العمل، وأثناء العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو الرياء، أو المحرك له هو الله تعالى، فإن كان الله أمضاه وهذا هو الإخلاص، وإن كان لغيره تركه.
وقد خلق الله تبارك وتعالى النفس أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرنا الله بتزكيتها وفطامها لتكون مطمئنة عابدة لربها.
ومن محاسبة النفس وعظها وتذكيرها بما ينفعها، وزجرها عما يضرها كأن يقول لها:
يا نفس.. أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة، ولا يتوقف على سن دون سن، وكل ما هو آت قريب، فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب؟
يا نفس.. أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار، فكيف يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير، وربما اختطف في يومه أو غده؟.
يا نفس.. إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كنت تعلمين أنه يراك فما أشد جهلك، وما أقل حياءك.
يا نفس.. إن كان المانع لك من لزوم الاستقامة حب الشهوات فاطلبي الشهوات الباقية الصافية من الكدر.
يا نفس.. ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول أم ألم النار في الدركات؟
يا نفس.. جوار رب العالمين لا يعدله جوار، فاعملي في أيام قصار لأيام طوال، واخرجي من الدنيا خروج الأحرار، قبل أن يكون خروج اضطرار.
واعلمي أن من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر.
وكل فساد في الدنيا إنما يحصل حينما لا يتوقع الفرد أو المجتمع حساباً، أما إذا توقع المجتمع حساباً فهنا ينتظم الأمر، وتصلح أحوال الأمة.
والمحاسب في المجتمع:
إما الحاكم الذي نصبه الله ليقيم شرعه في الأمة.
أو المجتمع الذي يحاسب صاحب الجريمة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
أو النفس التي تحاسب صاحبها وتلومه وتؤنبه، أو الاعتقاد أنه محكوم أمام عيني خبير لا تخفى عليه خافية، لا يستطيع أن يستتر عنه أحد، وأنه يراقبني وسوف يحاسبني على ما عملت.(8/238)
فمن لا يرجو حساباً.. ولا يتوقع سؤالاً في الدنيا والآخرة، فإنه يفسد ويهمل العمل للآخرة كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھھ ے ے? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [النبأ: 21-28].
والمحاسبة لها ثلاثة أركان:
أحدها: أن تقايس بين نعم الله عليك وبين جنايتك، وما من الله وما منك، فيظهر لك حينئذ التفاوت، وتعلم أن ليس إلا عفوه ورحمته، أو الهلاك والعطب.
وبذلك يعلم العبد أن كل نعمة من الله فضل، وكل نقمة منه عدل، وأن النفس منبع كل شر، وأساس كل نقص، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبداً، ولولا هداه ما اهتدت.
ثم تقايس بين الحسنات والسيئات، فتعلم أيهما أكثر وأرجح قدراً أو صفة بالعلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، ويبصر به مراتب الأعمال أفضلها وأدناها، ومقبولها ومردودها، وبإساءة الظن بالنفس؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال المراقبة والتفتيش، ويُلَبَّس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالاً، ويميز بين النعمة والفتنة:
فيفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف، ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج، فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه.
وكذلك على العبد أن يميز بين منَّة الله عليه، وبين حجة من الله عليه.
فكل قول، أو عمل، أو مال، أو علم، أو فراغ، أو جهد، أو ثناء اقترن به رضا الله وطاعته، واشتغال بما يحبه ويرضاه، فهو منَّة من الله، وإلا فهو حجة من الله عليك.
الثاني: أن يميز العبد بين ما للحق عليه من وجوب العبادة، وفعل الطاعات، واجتناب المعاصي، وبين ماله وما عليه، فعليه حق، وله حق، ولا بدَّ من إعطاء كل ذي حقه حقه.
الثالث: أن يعرف الإنسان أن كل طاعة رضيها الله منه فهي عليه.(8/239)
فجهل الإنسان بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته، وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنى وشرب الخمر ونحوهما.
وأرباب العزائم وأهل البصائر أشد ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات، بشهودهم تقصيرهم فيها، وعدم القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه.
وأنه لولا الله لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيده، فالنفس مأوى كل عيب وشر، وعملها عرضة لكل آفة ونقص، ولكن الله يعفو ويضاعف ويرحم، ويجزي على العمل القليل الأجر الكثير، وهو الجواد الكريم.
والتاجر يحسب كل يوم كم كسب؟ وكم خسر؟ وكم استهلك؟
وذلك ليضمن بقاء ماله ونمو تجارته.
وهكذا كل مؤمن ينبغي أن يحاسب نفسه، فإن كانت طاعاته أكثر من معاصيه فعليه أن يحمد الله، ويستمر في الطاعة، ويزيدها وينوعها ويحسنها، لتكون مقبولة موفورة.
وإن كانت معاصيه أكثر من طاعاته فعليه فوراً المبادرة إلى التوبة، فهو عرضة للهلاك والعطب.
وإن كانت معاصيه وطاعاته سواء فهذا جمود، والمؤمن مأمور بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات، والمنافسة فيها، وترغيب الناس فيها.
والمؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عزَّ وجلَّ، يعلم أنه مؤاخذ ومحاسب على سمعه وبصره، وعلى لسانه وجوارحه.
وحياة المسلم كلها علم وعمل، وعبادة ودعوة، وجهاد وإحسان، فيجب عليه أن يحاسب نفسه أول النهار وآخره.
ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفي الربح، وفي الخسران، ليتبين له الزيادة من الخسران.
فرأس المال في الدين الفرائض.. وربحه النوافل والفضائل.. وخسرانه المعاصي والسيئات.
وينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على المعاصي في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمى بكل معصية يفعلها حجراً في داره؛ لأمتلأت داره في مدة يسيرة.(8/240)
ولو كان للمعاصي رائحة كريهة ما أطاق أحد الجلوس في بيته، ولكن الإنسان يتباهى بذكر الطاعات، ويتساهل في حفظ نفسه من المعاصي.
والكل معدود ومحسوب ومعروض على العبد، أحصاه الله في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: (? ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گ گگ) [الزلزلة: 7،8].
وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون فكره الأغلب فيما يتعلق بدينه، فينظر في أربعة أمور:
الطاعات.. والمعاصي.. والصفات المنجيات.. والصفات المهلكات.
فيحرص على الطاعات.. ويجتنب المعاصي.. ويعرض ذلك على نفسه كل يوم.
فمن المهلكات ينظر في عشرة، فإن سلم منها سلم من غيرها وهي:
الكبر.. والعجب.. والبخل.. والرياء.. والحسد.. وشدة الغضب.. وشره الطعام.. وشره الوقاع.. وحب المال.. وحب الجاه.
ومن المنجيات ينظر في عشرة وهي:
الندم على الذنوب.. والشكر على النعماء.. والصبر على البلاء.. والرضا بالقضاء.. والزهد في الدنيا.. واعتدال الخوف والرجاء.. والإخلاص في الأعمال.. وحب الله تعالى.. وحسن الخلق مع الخلق.. والخشوع لله.
فيتخلص من المهلكات واحدة بعد واحدة، ويبادر إلى المنجيات واحدة بعد واحدة، وذلك لا يتم إلا بتوفيق الله وعونه.
وعلى المسلم إن كان عليه مظالم أن يردها قبل أن يموت، فإن غرماءه يحيطون به يوم القيامة، فهذا يقول ظلمني، وهذا يقول استهزأ بي، وهذا يقول أساء جواري، وهذا يقول سرقني.
فيؤخذ من حسناته، وتعطى لكل واحد بقدر مظلمته، فإن فنيت حسناته، أُخذ من سيئاتهم وطرحت عليه، نسأل الله السلامة والعافية.
29- فقه المشاهدة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [ق: 37].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 10،11].(8/241)
كلام الله تبارك وتعالى لا ينتفع به إلا من كان له قلب حي واع، وأصغى بسمعه كله نحو المتكلم، وأحضر قلبه وذهنه عند المكلِّم له وهو الشهيد، كالمبصر لا يدرك حقيقة المرئي إلا إذا كانت له قوة مبصرة، وحدق بها نحو المرئي، ولم يكن قلبه مشغولاً بغير ذلك.
والمشاهدة: قوة اليقين، ومزيد العلم، وارتفاع الحجب بين القلب وبين الرب.
فيرى العبد حقيقة أسماء الله وصفاته، وأفعاله وكماله، وجماله وجلاله، وأنه ليس كمثله شيء في كماله، وكثرة أوصافه ونعوته وأسمائه.
وكل من كان بصفات الله أعرف، ولها أثبت، كان أكمل شهوداً، وكل من كان بها أعرف، كان بالله أعلم، وله أعبد.
ولا سبيل للبشر إلى شهود الذات الإلهية في هذه الدنيا البتة، وإنما إليهم شهود المخلوقات والصفات والأفعال.
وأما ذات الرب جل جلاله فلا يراها أحد في الآخرة إلا المؤمنون كما قال سبحانه: (پ ? ?? ? ? ??) [القيامة: 22،23].
وأما الكفار فلا يرون الله في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ) [المطففين: 15].
والمعاينة: هي الرؤية بالعين، ورؤية الله في هذه الدار ممتنعة.
والمعاينة ثلاث درجات:
إحداها: معاينة الأبصار، وهي الرؤية بالعين، برؤية الشيء عياناً ومشاهدة بانطباع صورة المرئي في القوة الباصرة.
الثانية: معاينة عين القلب، وهي معرفة عين الشيء على نعته، وقد جعل سبحانه القلب يبصر ويعمي كما تبصر العين وتعمى كما قال سبحانه:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
الثالثة: معاينة عين الروح، وهي التي تعاين الحق عياناً محضاً برؤية الحق من الباطل، وقوة اليقين.
وأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم بقلبه شاهد من الدنيا وحقارتها، وفنائها، وخسة شركائها، ويرى أهلها صرعى حولها، أضحكتهم قليلاً، وأبكتهم كثيراً، وعذبتهم بأنواع العذاب.
فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل عنها، وسافر في طلب الدار الآخرة.(8/242)
فيرى الآخرة ودوامها فأهلها لا يرتحلون منها، ولا يظعنون عنها، فهي دار القرار، ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها، وبعد قعرها، وشدة حرها، وصراخ أهلها، فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سود الوجوه، زرق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم.
ويراهم يسبحون في النار على وجوههم، يأكلون فيها الزقوم، ويشربون الحميم، ويفترشون النار، قطعت لهم ثياب من نار: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 36].
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي، واتباع الشهوات، ولبس ثياب الخوف والحذر، وهانت عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه.
وبحسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات، وتذوب من قلبه تلك الفضلات والمواد المهلكة، فيجد القلب لذة العافية وسرورها.
فيقوم بقلبه بعد ذلك شاهد من الجنة، وما أعد الله لأهلها فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فضلاً عما وصفه الله لعباده من النعيم المقيم، المشتمل على المطاعم والمشارب، والملابس والقصور، والبهجة والسرور.
فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها، تربتها المسك، وحصباؤها الدر والياقوت، وبناؤها من الذهب والفضة، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب من المسك، وأبرد من الثلج.
ويرى الحور العين التي غلب نورهن ضوء الشمس، والحور العين اللاتي كأمثال اللؤلؤ المكنون، وأمثال الياقوت والمرجان.
ويرى الولدان المخلدون الذين كاللؤلؤ المنثور، وهم يخدمون أولياء الله في الجنة، ويرى أهل الجنة يأكلون من ألوان الفواكه في الجنة، فاكهة لذيذة دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، يأكلون لحم طير مما يشتهون، ويشربون من عسل مصفى، وماء غير آسن، ولبن لم يتغير طعمه، وخمر لذة للشاربين، ويراهم على الأرائك متكئين، على سرر متقابلين، وفي جنة يحبرون، وفيها من كل ما يشتهون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 71].(8/243)
فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد، والنظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه، والفوز برضوانه.
فإذا انضم هذا الشاهد على الشواهد التي قبله، فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابها، وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد، ويغيب به العبد عنها كلها، وهو شاهد جلال الرب وجماله وكماله، وعزه وسلطانه، وقيوميته وعلوه.
فإذا شاهده العبد شاهد بقلبه قيوماً قاهراً فوق عباده، مستوياً على عرشه، متفرداً بتدبير مملكته، آمراً ناهياً، يرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضي ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويحب ويبغض، ويحيي ويميت.
يعطي من سأل.. ويرحم المسترحمين.. ويغفر للمذنبين.. ويجيب الداعين.
أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء.. وأقوى من كل شيء.. وأعز من كل أحد.. وأحكم من كل أحد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 82].
فلو جمعت قوة الخلائق كلهم، ثم جمعت تلك القوى في واحد منهم، ثم كانوا كلهم على تلك القوة، ثم نسبت تلك القوى إلى قوة الجبار سبحانه لكانت أقل من قوة البعوضة بالنسبة لقوة الأسد.
ولو قدر جمال الخلق كلهم، وجعل في واحد منهم، ثم كانوا كلهم بذلك الجمال، ثم نسب إلى جمال الرب تعالى، لكان دون سراج ضعيف بالنسبة إلى عين الشمس.
ولو كان علم الأولين والآخرين على رجل منهم، ثم كان كل الخلق على تلك الصفة، ثم نسب إلى علم الرب تعالى، لكان ذلك بالنسبة إلى علم الرب كنقرة عصفور في البحر.
وهكذا سائر أسمائه وصفاته كسمعه وبصره، وسائر نعوت كماله، فإنه يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل سبحانه.
سواء عنده السر والعلانية.. والغيب والشهادة.. يرى دبيب النملة السوداء.. على الصخرة الصماء.. في الليلة الظلماء.
يضع سبحانه السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، ويقبض سماواته بيده اليمنى، ويقبض الأرضين بيده الأخرى.(8/244)
ولو أن الخلق كلهم من السماوات والأرض، والجبال والأشجار، والملائكة والروح، والإنس والجن، وسائر الخلق كلهم قاموا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله جل جلاله، والله بكل شيء محيط، وكل نور في العالم من نوره.
«حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (1).
فسبحان من بيده الملك، وهو على كل شيء قدير.
وسبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة.
فإذا قام بالعبد هذا الشاهد، اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تعدم، بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد، وتندرج فيه الشواهد كلها.
ومن هذا شاهده وسلوكه فله سلوك وسير خاص، ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أو معرفة مجملة.
وصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه، وحركته وسكونه، له شأن، وللناس شأن.
وكل ما يقوم بقلوب عابديه ومحبيه سبحانه هو من هذا الشاهد، وهو الباعث لهم على العبادة والمحبة، والخشية والإنابة، وتفاوتهم فيه لا يحصر.
وأعظم الناس حظاً في ذلك معترف بأنه لا يحصي ثناء عليه سبحانه، وأنه فوق ما يثني عليه المثنون، وفوق ما يحمده الحامدون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 67].
وكل قلب متلوث بالخبائث والأخلاق الرديئة، والصفات الذميمة، متعلق بالمرادات السافلة، حرام عليه أن يقوم به هذا الشاهد.
ومَنْ منَّ الله عليه فلا تزال شواهد الصفات قائمة بقلبه.
إن قام بقلبه شاهد الربوبية والقيومية رأى أن الأمر كله لله، ليس لأحد معه من الأمر شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 2].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [يونس: 107].
وإن قام بقلبه شاهد من الإلهية رأى في ذلك الشاهد الأمر والنهي، والأنبياء والكتب، والشرائع، والمحبة والرضا، والثواب والعقاب.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (179).(8/245)
ورأى الأمر نازلاً ممن هو مستو على عرشه، وأعمال العباد صاعدة إليه، ومعروضة عليه.
يجزي على الإحسان إحساناً، ويضاعف الأجور والحسنات، ويكسو وجوه أوليائه نضرة وسروراً، وكل ما لم يكن على وفق أمره وشرعه من الأقوال والأعمال يجعله هباءً منثوراً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الفرقان: 23].
وإن قام بقلبه شاهد من الرحمة رأى الوجود كله قائماً بهذه الصفة، قد وسع من هي صفته كل شيء رحمة وعلماً، وبلغت رحمته إلى حيث بلغ علمه.
فاستوى جل جلاله على عرشه بأوسع صفاته وهي الرحمة، لتسع كل شيء كما وسع عرشه كل شيء كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑڑ) [طه: 5].
وإن قام بقلبه شاهد العزة والكبرياء والعظمة والجبروت، فله شأن آخر، فيرى ربه مستوياً على عرشه، عزيزاً في ملكه لا يضام، له الكبرياء في السماوات والأرض، الذي تفرد بالعظمة والجبروت: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 23].
وهكذا يرى بقلبه شواهد جميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، فيطمئن قلبه، ويزيد إيمانه، ويقوى يقينه، فيسهل عليه امتثال أوامر الله، ويقبل على طاعة مولاه.
وإن قام بقلبه شاهد الخلق والأمر في هذا الكون الكبير، رأى الخلاق العليم خالق كل شيء، وبيده ملك كل شيء، فالعرش شيء، والكرسي شيء، والجنة شيء، والنار شيء، والله خالق كل شيء، وبيده أمر كل شيء.
والسماوات شيء، والملائكة شيء، والشمس شيء، والقمر شيء، والنجوم شيء، والله خالق كل شيء، وهو رب كل شيء.
والسحب شيء، والهواء شيء، والرياح شيء، والعواصف شيء، والله خالق كل شيء.
والأرض شيء، والجبال شيء، والبحار شيء، والنبات شيء، والمعادن شيء، والله خالق كل شيء.
والإنس شيء، والجن شيء، والحيوانات شيء، والطيور شيء، والأسماك شيء، والذرات شيء، والأنفاس شيء، والله خالق كل شيء.
والحياة شيء، والموت شيء، والصحة شيء، والمرض شيء، والغنى شيء، والفقر شيء، والأمن شيء، والخوف شيء، والله خالق كل شيء.(8/246)
والأبيض شيء، والأسود شيء، والماء شيء، والحجر شيء، والفرح شيء، والحزن شيء، والله خالق كل شيء.
والقائم على كل شيء، وعلى كل نفس، وعلى كل ذرة.
(ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الزمر: 62-64].
لا يوجد شيء، ولا يحيا شيء، ولا يموت شيء، ولا يزيد شيء، ولا ينقص شيء، ولا يرتفع شيء، ولا ينخفض شيء إلا بأمره وإذنه، وتقديره وتدبيره سبحانه.
يرى كل شيء.. ويسمع كل شيء.. ويعلم كل شيء.. محيط بكل شيء.. رقيب على كل شيء.. قادر على كل شيء.. بصير بكل شيء.. لا يعزب عنه شيء.. ولا يخفى عليه شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102،103].
فسبحان العزيز الجبار.. العليم الخبير.. الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض.. ويعلم ما في البر والبحر.
يعلم مكاييل البحار.. وعدد ذرات الرمال.. وعدد ورق الأشجار.. وعدد الملائكة والإنس والجان.. وعدد الكلمات والأنفاس.. وعدد الأقوال والأفعال.. وعدد الحركات والسكنات(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].
ألا ما أعظم قدرة الملك العزيز الجبار، وما أوسع ملكه، وما أعظم خلقه.
إن الإنسان الذي ينظر في ملكوت السماوات والأرض، وما فيهما من المخلوقات ليأخذه العجب من عظمتها وجمالها، وكمالها وكثرتها، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها ومدبرها؟
إننا لو نظرنا وتدبرنا في خلق واحد من أضعف المخلوقات وأصغرها، وقد ملأ الله به الكون كله، وهو عالم الذرات، الذي أعطى الله كل ذرة منه:
أمر الإيجاد.. وأمر البقاء.. وأمر النفع والضر.. وأمر الحركة والسكون.. وأمر الصعود والهبوط.
فكم عدد الذرات التي خلقها الله في العالم؟.
وكم عدد الأوامر التي تتعلق بتدبيرها؟(8/247)
إن ذرات غرفة واحدة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القصر، وذرات القصر لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات المدينة، وذرات المدينة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الدولة، وذرات الدولة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القارة، وذرات القارة الواحدة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات القارات السبع.
وذرات الأرض كلها لا تساوي شيئاً بالنسبة للذرات الموجودة في الجو بين السماء والأرض.
وذرات الجو والأرض لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات السماوات السبع.
وذرات السماوات السبع والأرضين السبع لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الجنة والنار.
وذرات العالم العلوي والعالم السفلي، وذرات الدنيا والآخرة لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات الكرسي.
وذرات الكرسي لا تساوي شيئاً بالنسبة لذرات العرش، فسبحان الله الذي خلق هذه الذرات، وأحصى أعدادها، وعلم مكانها، وكل هذه الذرات لا تساوي شيئاً بالنسبة لما في خزائن الله من الذرات: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجر: 21].
وكل ذرة من هذه الذرات التي لا يحصيها إلا الذي خلقها لها أمر من الله بالإيجاد، وأمر بالبقاء، وأمر بالتحريك والتسكين، ولا يخفى على الله منها ذرة في الأرض ولا في السماء.
سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [سبأ: 3].
ولا يند من هذه الذرات شيء، بل جميعها في ملك الله، وفي قبضة الله كما قال لقمان لابنه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 16].
فهذا الكون كله ما نبصره وما لا نبصره، كله ملك رب العالمين.
أرأيت أعظم من هذا الملك، وأوسع من هذا العلم؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 59].
فهذه عظمة العزيز الجبار وقدرته في خلق واحد من مخلوقاته وهي الذرات التي أكثر الناس غافل عنها.(8/248)
فكيف بعظمة خلق الكائنات الأخرى كالعرش والكرسي.. والسماوات والأرض.. والجبال والبحار.. والشمس والقمر.. والكواكب والنجوم.. والجماد والنبات..
والإنسان والحيوان؟ وكيف بعظمة الخلاق العليم الذي خلقها؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 11].
هو سبحانه الذي له الخلق كله، والأمر كله، ظاهره وباطنه، كبيره وصغيره، وأوله وآخره.
يحيي ويميت.. ويخلق ويرزق.. ويعطي ويمنع.. ويعز ويذل.. ويعافي ويسقم.. ويرفع ويضع.. بيده وحده النفع والضر.. والخلق والأمر.. والتصريف والتدبير.. والتحريك والتسكين.. والأمن والخوف.. واليسر والعسر.. والإكرام والإهانة.
وله ملك السماوات والأرض وما فيهن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 120].
خلق سبحانه الدنيا والآخرة، والجنة والنار، والنعيم والعذاب، والثواب والعقاب، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، فأين من يشاهد؟ وأين من يرى؟ وأين من يبصر؟ وأين من يعلم؟
فسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ماذا بيد الله؟ وماذا بأيدينا؟
وماذا علمنا؟ وماذا جهلنا؟
وماذا قدمنا؟ وماذا أخرنا؟
(ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الانفطار: 6-8].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الحشر: 18-20].
وهكذا يرى بقلبه شواهد جميع الصفات، فيزيد إيمانه، وتنقاد جوارحه لطاعة ربه، ويلهج لسانه بذكره وحمده.
30- فقه الرعاية
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 171].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 34].
الرعاية: مراعاة العلم، وحفظه بالعمل، ومراعاة العمل بالإخلاص والإحسان، وحفظه من المفسدات، ومراعاة الحال بموافقة الشرع.(8/249)
ومن التزم لله شيئاً لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه كمن شرع في طاعة مستحبة بإتمامها، فالتزامها بالشروع كالتزامها بالنذر.
فكما يجب عليه ما التزمه بالنذر وفاءً، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماماً.
وقد ذم الله سبحانه من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها كما قال سبحانه عن النصارى: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [الحديد: 27].
فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده، وأذن بها، وحث عليها، وأمر بها سبحانه؟
والرعاية التي ينبغي للمسلم الالتزام بها ثلاث درجات:
الأولى: رعاية الأعمال، وتكون بأدائها على الوجه المشروع في حدودها وصفاتها وأوقاتها، واستصغارها في عينه واستقلالها، وأن ما يليق بعظمة الله وجلاله وحقوق عبوديته أمر آخر قصر عنه العبد، وأنه لم يعرف حقه، وأنه لا يرضى لربه بعمله الناقص ولا بشيء منه، فيكثر من الاستغفار.
فمن شهد واجب ربه سبحانه، وشهد مقدار عمله، وشهد عيب نفسه، لم يجد بداً من استغفار ربه منه، واحتقاره إياه، واستصغاره.
ويوفي الأعمال حقها من غير أن يلتفت إليها ويعددها ويذكرها، وذلك مخافة العجب والمنة بها، فيسقط من عين الله، ويحبط عمله.
وعليه أن يجريها على مجرى العلم المأخوذ من مشكاة النبوة، مع الإخلاص لله، وإرادة وجهه، وطلب مرضاته.
الدرجة الثانية: رعاية الأحوال، بأن يتهم نفسه في اجتهاده أنه راءى الناس، فلا يطغى بعمله، ولا يسكن إليه، ولا يعتد به، ويتهم يقينه، وأنه لم يحصل له اليقين على الوجه الذي ينبغي، وما حصل له منه لم يكن به ولا منه، ولا استحقه بعوض، وإنما هو فضل الله وعطاؤه.
فهو يذم نفسه في عدم حصوله، ولا يحمدها عند حصوله، بل يحمد الله الذي وفقه وأعانه قائلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 43].
الثالثة: رعاية الأوقات، بأن يقف مع كل خطوة، ومع كل حركة، ظاهرة وباطنة؛ ليصححها نية وقصداً، وإخلاصاً ومتابعة.(8/250)
فيقف قبل كل خطوة حتى يصحح الخطوة.
والعباد مسئولون عن الدين أداءً وإحساناً، وإتماماً ورعاية، فعليهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه.. والوفاء بالعهد الذي عاهدوا الخلق عليه.. وهم مسئولون عن كل ذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 34].
فمن وفى فله الثواب الجزيل.. ومن نقض العهد فعليه الإثم العظيم:
(ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 25].
فبأي وجه يلقى الله من جعل أوقاته للشهوات، وحركاته لجمع حطام الدنيا، وقصر في حق ربه، وفي حق دينه، وفي حق رسوله، وفي حق البشرية قاطبة؟
وبأي حجة يلقى الله من قصَّر في عبادة الله، والدعوة إليه، وتعليم شرعه؟
إن الكل مسئول عما قدم وأخر، ويحاسب على ما عمل: ( ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ?? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الأعراف: 6-9].
إن المؤمن حقاً من سكب عصارة عمره وروحه في طاعة ربه.
تارة يعبد ربه.. وتارة يدعو إليه.. وتارة يتعلم أو يعلم شرعه.
فأين من يصدع بالحق، ومن يحمل رايات الهدى بين الورى؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الذاريات: 50].
31- فقه الذوق
قال الله تعالى: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 185].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِا? رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» أخرجه مسلم (1).
الذوق: مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر.
ولا يختص ذلك بالفم بل بجميع الحواس.
فالإيمان له طعم، والقلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب، وذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق الجسم حرارة الأشياء أو برودتها.
فللإيمان طعم وحلاوة، يذوق طعمه القلب ويجد حلاوته.
والذوق على ثلاث درجات:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (34).(8/251)
الأولى: ذوق التصديق، فالمؤمن إذا ذاق طعم الوعد من الله على إيمانه وتصديقه وطاعته ثبت على حكم الوعد واستقام.
وذوق طعم الإيمان بوعد الله يمنع الذائق أن يحبسه شيء عند الجد في الطلب، والسير إلى ربه.
والذوق أمر باطن، والوجد كذلك، والعمل دليل عليه، ومصدق له، كما أن الريب والنفاق أمر باطن، والعمل دليل عليه ومصدق له.
فالأعمال ثمرات العلوم والعقائد، واليقين يثمر الجهاد، ومقامات الإحسان كلها.
ولا يقطع العبد أمل ولا طمع في دنيا عن سيره إلى ربه.
فمن ذاق حلاوة الإيمان بمعرفة الله، والقرب منه، والأنس به، لم يكن له أمل في غيره، وإن تعلق أمله بسواه فهو لإعانته على مرضاته ومحابه، فهو يؤمله لأجله، لا يؤمله معه.
والذي يقطع هذا الأمل قوة رغبته في المطلب الأعلى، الذي ليس شيء أعلى منه، ومعرفة خسة الدنيا وسرعة زوالها، فإن نعيم الدنيا بحذافيرها جنب نعيم الآخرة أقل من ذرة بجنب جبال الدنيا، ويسير من رضوانه سبحانه-ولا يقال له يسير- أكبر من الجنات وما فيها، فلا تعوق العبد أمنية عن سيره إلى ربه.
الثانية: ذوق العبد طعم الأنس بالله، والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العبد من نعيم الجنة.
فإذا ذاق العبد طعم الأنس بالله جد في إرادته وطاعته، والأنس به، فلا يتعلق به شاغل، ولا يشغله عن سيره إلى الله؛ لشدة طلبه الباعث عليه أنسه، الذي قد ذاق طعمه، وتلذذ بحلاوته لدوام ذكره، وصدق محبته، وإحسان عمله.
وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب من ربه، ولا يفسده عارض، والعارض ما سوى الله، وإرادة السوي وإن علا تحجب عن الله، وبقدر إرادتك لغيره تحجب عنه.
الثالثة: ذوق صاحب البعد طعم القرب.
فالبعد: أنس القلب بغير الله تعالى، والالتفات إلى ما سواه.
والقرب: تجريد التعلق به وحده، والانقطاع عما سواه.(8/252)
وذوق صاحب الهمة طعم مناجاة الله، والأنس به، ومحبته، والقرب منه، حتى كأنه يخاطبه ويعتذر إليه، ويتملقه تارة، ويثني عليه تارة، حتى يبقى القلب ناطقاً، وإن كان اللسان ساكتاً و (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الحديد: 21].
32- فقه الصفاء
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 186].
معرفة العبد لأسماء الله وصفاته، وجلاله وجماله، وبره وإحسانه، ولطفه ورحمته، يوجب له قربه من ربه سبحانه، وقربه منه يوجب له الأنس به، والمحبة له، والهيبة منه.
والأنس ثمرة المحبة والطاعة، فكل عبد مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش.
والقلوب المشرقة بنور الأنس بالله تستحلي الذكر، وتستأنس به، طلباً للاستئناس بالمذكور، وتتغذى بسماع القرآن كما تتغذى وتتلذذ الأجسام بالطعام والشراب.
فإذا كان العبد محباً صادقاً، طالباً لله، عاملاً على مرضاته، كان غذاؤه بسماع القرآن، ولذته بتلاوته، والتفكر في معانيه ومواعظه، والعمل بأحكامه، والتأدب بآدابه.
وهذا الغذاء له لذة روحانية يصل نعيمها إلى القلوب والأرواح، وإن كان منحرفاً فاسد الحال مغروراً مخدوعاً كان غذاؤه بالسماع الشيطاني الذي هو قرآن الشيطان، المشتمل على الفحش والفجور ونحو ذلك من محاب النفوس ولذاتها، وحظوظها، وأصحابه أبعد الخلق من الله عزَّ وجلَّ.
وما أحسن القلوب الصافية الخالية من كدر الشرك والنفاق والبدعة والمعصية، المملوءة بنور العلم والإيمان والطاعات: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [البقرة: 138].
والصفاء: اسم للبراءة من الكدر.
وهو على ثلاث درجات:
الأولى: صفاء علم يهذب لسلوك الطريق، وهو العلم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية.(8/253)
وحقيقة العبودية: التأدب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.. وتحكيمه باطناً وظاهراً.. والاقتداء به في سائر الأحوال والأقوال والأفعال.. وصفاء علم يهدي صاحبه إلى الغاية المقصودة بالاجتهاد والتشمير.
فأكثر الناس سالك بجده واجتهاده غير منتبه إلى المقصود.
وصفاء علم يصحح همة القاصد، ومتى صحت الهمة علت وارتفعت.
وأعلى الهمم:
همة اتصلت بالحق سبحانه طلباً وقصداً، وأوصلت الخلق إليه دعوة ونصحاً، وشمرت للعمل بدينه وحفظه، والجهاد في سبيله.
وهمم العباد متفاوتة:
فهمة متعلقة بمن فوق العرش.. وهمة حائمة حول الحش.. وبينهما من الهمم ما لا يعلمه إلا الله.. وقيمة كل امرئ بقدر ما يطلبه.
الثانية: صفاء الحال، فالحال ثمرة العلم، ولا يصفو حال إلا بصفاء العلم المثمر له، وعلى حسب شوب العلم يكون شوب الحال.
وإذا صفا الحال شاهد العبد آثار الحقائق وهي حلاوة مناجاة الله، فمتى صفا قلبه من الشوائب ذاق حلاوة الإيمان، وحلاوة المناجاة، ونسي به ما سوى الله، واشتغل بالحق عن الخلق.
الثالثة: صفاء اتصال بربه، فمن تمكن الإيمان من قلبه، وصفا له علمه وحاله، اندرج عمله جميعه في مرضاة ربه، ورآه في جنب حق ربه أقل من خردلة بالنسبة لجبال الدنيا.
فسقطت رؤيته من قلبه لقلته وصغره، فلا يطلب المجازاة عليه.
ويدرك بعين البصيرة صحة الخبر، وصدق المخبر، فيقوى القلب، ويصير الغيب كالشهادة، كأنه يرى ربه جل جلاله فوق سماواته على عرشه، مطلعاً على عباده، يسمع كلامهم.. ويرى مكانهم.. ويبصر أعمالهم.
ويشاهد ربه وهو يرضى ويغضب، ويعطي ويمنع، ويشاهد عظمة ربه وجلاله، وجماله وكماله، وعزته وكبريائه.
فيأنس بربه ومالكه.. ويتلذذ بعبادته.. ويفرح بطاعته وامتثال أوامره.. ويرى أوامره أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 58].
33- فقه السر(8/254)
قال الله تعالى: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [هود: 31].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 28].
أصحاب السر هم الأخفياء والأتقياء الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ اللهَ يُّحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ» أخرجه مسلم (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم : «رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى ا? لأبَرَّهُ» أخرجه مسلم (2).
وهؤلاء الأخفياء ثلاث طبقات:
الأولى: طائفة علت هممهم فلم تقف دون الله، ولم تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه.
ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية.
فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، وعلو همة المرء عنوان فلاحه وسعادته.
ومن علامات هؤلاء خلوص قصدهم من كل إرادة تزاحم مراد الرب تعالى، بل يصير القصد مجرداً لمراده الديني الأمري، خالصاً من الشوائب التي تعوقه عن مقصوده.
وأن يكون العمل على سواء السبيل، الدرب النبوي المحمدي، لا على الجواد الوضعية، والأهواء الشيطانية.
وهؤلاء أخفياء سبقوا الناس في السير إلى الله، ولم ينقطعوا بشيء سوى الله عنه.
فكل ما قطع عن الله لم يقفوا معه، وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه، وكان وقوفهم معه.
ولم يُنسبوا إلى اسم يشتهرون به بين الناس، ولم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيُعرفون به دون غيره من الأعمال، فإن هذا آفة العبودية، وهي عبودية مقيدة.
وأما العبودية المطلقة فلا يُعرف صاحبها باسم معين، فهو يقوم بها على اختلاف أنواعها، فله في كل عبودية نصيب.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2965).
(2) أخرجه مسلم برقم (2622).(8/255)
وهؤلاء لخفائهم على الناس، وصدق زهدهم وإخلاصهم لم يُعرفوا بينهم حتى يشار إليهم بالأصابع، وهؤلاء هم الذخائر والجواهر.
فإنهم لما كانوا مستورين عن الناس بأحوالهم، غير مشار إليهم، ولا متميزين برسم وشكل عن الناس، ولا منتسبين إلى طريق، أو مذهب، أو شيخ، أو زي، كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة.
وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات، فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها كما سبق، وهذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله وهم لا يشعرون.
والعجب أن أهلها هم المعروفون بالجد والطلب والإرادة والسير إلى الله، وهم إلا القليل المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود.
الطبقة الثانية: اختاروا السر وأرادوه، صيانة لأحوالهم، وحفظاً لأعمالهم، فمقاماتهم عالية لا ترمقها العيون، يشيرون إلى ما يعرفه المخاطب، ويخفون ما مكنهم فيه الحق سبحانه من أحوال المحبة، وآثار المعرفة.
فهم مع الناس بظواهرهم، لكنهم يسترون عنهم أشرف أحوالهم، وأحسن أعمالهم فيحسبونهم مثلهم.
يشيرون إلى أنهم جهال وهم العارفون بالله حقاً.. وأنهم مسيئون وهم المحسنون، وذلك لكمال معرفتهم بالله، وما يجب له من الوقار والتعظيم، والإخلاص، وحسن العمل.
يظهرون ما يجوز إظهاره ولا نقص عليهم فيه ولا ذم من الله ورسوله عليه، ليكتم به الإنسان حاله وعمله.
فيظهرون ما لا يُّحمدون عليه، ويسرون ما يحمدهم الله عليه، كما إذا أظهر الغنى وكتم الفقر والفاقة، وأظهر الصحة وكتم المرض، وأظهر النعمة وكتم البلية.
فهذا كله من كنوز الشر، وله في القلب تأثير عجيب يعرفه من ذاقه، فهؤلاء يغارون على أحوالهم وأعمالهم فيسترونها عن الناس، ويغار الله عليهم فيسترهم عن الخلق.
يتحلون بآداب تصونهم عن سوء الظن بهم، وتصونهم عن دناءة الأخلاق والأعمال، فلهم لين مع الناس وتبسط إليهم، فهم أحلى من كل حلو، وأزين من كل زين، يأنسون بالله وبالخلق، ويأنسون بهم.(8/256)
وهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفاً، فتراهم أحلى الناس وألطفهم وأظرفهم وأحسنهم عشرة.
قد زالت عنه ثقالة النفس، وكدرة الطبع، فأحبه الناس وأحبهم، والناس ينفرون من كثيف الطبع، ولو بلغ الدين ما بلغ، وليس الثقلاء بخواص الأولياء، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك.
الطبقة الثالثة: طائفة أسرهم الحق عن أنفسهم، وشغلهم به عن أنفسهم، فأنساهم بذكره ذكر نفوسهم، وفرغهم لذكره وعبادته.
وهؤلاء ضد الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، قد أظهر الله لهم من معرفة جماله وجلاله لائحاً أذهلهم عن إدراك ما هم فيه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 18].
فهم أشبه الخلق بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإن الخلق ثلاثة أصناف:
خلق خلقه الله غافلاً عن نفسه، مستغرقاً في عبادة ربه، وهم الملائكة.
وخلق خلقه الله مستغرقاً في تكميل شهواته، غافلاً عن غيره، وهم البهائم.
وخلق خلقه الله له نفس تريد تكميل شهواتها، وله روح تريد تكميل أوامر ربها.
والإنسان بين هذه، وهذه، فإن غلبت النفس جرته إلى عالم البهائم.. وإن غلبت الروح رفعته إلى عالم الملائكة.. والحرب سجال.. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
34- فقه القبض
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 52].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 60،61].
القبض نوعان:
قبض في الأحوال.. وقبض في الحقائق.
فالقبض في الأحوال: أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح.
وهو قسمان:
أحدهما: ما يعرف سببه مثل تذكر ذنب، أو تفريط في عمل، أو بعد أو جفوة ونحو ذلك.
الثاني: ما لا يعرف سببه، بل يهجم على القلب هجوماً لا يقدر على التخلص منه، وضده البسط.
فالقبض والبسط حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما، ولهما تعلق بالخوف والرجاء، فالرجاء يبسط إلى الطاعة، والخوف يقبض عن المعصية.(8/257)