موسوعة فقه القلوب (1)
الباب الأول
فقه أسماء الله وصفاته
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذه موسوعة من أروع الموسوعات الإسلامية التي تتحدث عن فقه القلوب ، تأليف -محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري –عفا الله عنا وعنه –
وقد بذل صاحبها جهدا كبيرا حتى جمعها من هنا وهناك ، وقد قسمها إلى خمسة عشر بابا وهي :
الباب الأول: فقه أسماء الله وصفاته.
الباب الثاني: فقه الخلق والأمر.
الباب الثالث: فقه الفكر والاعتبار.
الباب الرابع: فقه الإيمان.
الباب الخامس: فقه التوحيد.
الباب السادس: فقه القلوب.
الباب السابع: فقه العلم والعمل.
الباب الثامن: فقه قوة الأعمال الصالحة.
الباب التاسع: فقه العبودية.
الباب العاشر: فقه النبوة والرسالة.
الباب الحادي عشر: فقه الأخلاق.
الباب الثاني عشر: فقه الشريعة.
الباب الثالث عشر: فقه الطاعات والمعاصي.
الباب الرابع عشر: فقه أعداء الإنسان.
الباب الخامس عشر: فقه الدنيا والآخرة.
==============
وتحت كل باب مباحث عديدة ، وعمدة الكتاب هو القرآن والسنة بالدرجة الأولى ، فجزاه الله عنا خير الجزاء ، وجعله في صحيفة أعماله .
================
وهذا الكتاب موجود في مكتبة صيد الفوائد :
http://saaid.net/book/search.php?do=title&u=%DD%DE%E5+%C7%E1%DE%E1%E6%C8
وقد وضع فيها بتاريخ 25/3 /1428 هـ
وهو موجود على ملف ورد واحد يبلغ عدد صفحاته حوالي (3817)
بينما الفهرس ينتهي بالصفحة (3653 )
أي أنه لا يوجد تطابق بين الفهرس وصفحات الكتاب .
ومن الصعب جدا البحث فيه داخل هذا الملف لأن الفهرس عاديٌّ وغير مطابق للصفحات
=================(1/1)
وقد قمت بفهرسة الكتاب فهرسة إلكترونية كاملة ، وذلك لسهولة الرجوع لأبحاثه
وقد قسمت الكتاب إلى خمسة عشر جزءا ، حسب الأبواب التي قسمها المؤلف
وقمت ببعض التنسيق ، ليظهر بحلة أفضل ، وحاولت وضعه في المكتبة الشاملة ، إلا أن الآيات كلها لم يتعرف عليها البرنامج، لأنها مكتوبة بالرسم العثماني ، فمن كان عنده علم بذلك ، فيتكرم بوضعه في الشاملة 2 ، بشكل تظهر فيه الآيات القرآنية، ثم يضعه هنا إذا أمكن ليستفيد الناس من هذا الكنز العظيم
============
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه ، وناقله ، وقارئه ، وناشره ، والدال عليه في الدنيا والآخرة .
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } [الحج/77، 78]
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 9 رجب 1428 هـ الموافق ل 23/7/2007 م
المقدمة
إن الحمد ? نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 102].
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [النساء: 1].(1/2)
(? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته.. ولا يمكن لأحد أن يعبد الله على الوجه الصحيح الذي يرضيه إلَّا بعد معرفة ربه عزَّ وجلَّ.. ومعرفة أسمائه وصفاته.. ومعرفة دينه وشرعه.. ومعرفة ثوابه وعقابه.
إن التوحيد والإيمان، والعبادة والطاعة، أعظم حقوق الله على عباده، فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق جميعاً، ليؤدوه لربهم جميعاً.
وكما أن أعضاء الإنسان لا تتحرك إلا بوجود روحه، فكذلك هذا الكون وما فيه لا يتحرك إلا بأمر الله سبحانه، فهو خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده أمر كل شيء، وفي قبضته كل شيء.
وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله، ومعرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله، وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله ومعرفته، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه، ولا تمكن محبته المحبة الكاملة إلا بعد معرفته والإعراض عن كل محبوب سواه.
وكل من أحب الله أنِسَ به، ومن أحب غير الله عُذب به.
وحاجات القلوب في الدنيا إلى التوحيد والإيمان أعظم من حاجة الأبدان للطعام والشراب، بل لا نسبة بينهما.
وكل نقص خارجي في العمل سببه نقص الإيمان داخل القلب، لذلك فالذي لا يسلم نفسه لله داخل الصلاة، لا يستطيع أن يسلمها لله خارج الصلاة.
والقلب إذا زاد نوره ينيب إلى الله، ويحب الطاعات، ويكره المعاصي، وبالإيمان بالله، وامتثال أوامره في كل حال يزداد نور القلب، وبالكفر والمعاصي يزيد ظلام القلب، فيحب المعاصي، ويكره الطاعات.(1/3)
والذوق يولد الشوق، فمن ذاق طعم الإيمان اشتاق إلى تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، وتلذذ بعبادة الله، وظهرت شعب الإيمان في حياته، وتعلقت روحه بحياة الملأ الأعلى، فأحبه الله، وأحبه من في السماء، وجعل الله له القبول في الارض.
إن فقه القلوب هو الأصل الذي يقوم عليه فقه الجوارح، وفقه الجوارح بالنسبة لفقه القلوب كالذرة بالنسبة للجبل، وإن كان كلاهما مهماً، وكل واحد يكمل الآخر، فلا قبول لأي عمل إلا باجتماعهما.
إلا أن فقه القلوب وهو التوحيد والإيمان وشعبه لم يجمع في كتاب شامل مستقل، بينما فقه الجوارح امتلأت به بطون الكتب ولله الحمد، فتعلم أكثر الناس الأحكام، ولكنهم قعدوا عن الأعمال بسبب ضعف الإيمان في القلوب، فكثر الجدل والخلاف، وقل العمل والإخلاص، وضعف اليقين.
وسبب ذلك الجهل بفقه القلوب من التوحيد والإيمان.. والعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.. وعظمة خزائنه.. والعلم بوعده ووعيده.. وثوابه وعقابه.
وهذه الموسوعة محاولة لسد هذا النقص، ورفع لذلك الجهل، وتكميل لذلك الفقه.
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم تعلم الإيمان.. ثم تعلم الفضائل.. ثم تعلم الأحكام.. ثم العمل على وجه الإخلاص لله، والمتابعة لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويرافق ذلك دعوة الناس إلى الله.. وتعليم المسلمين الإيمان والأحكام.. والتحلي بأحسن الأخلاق.. وكثرة التوبة والاستغفار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة، والقلب متوجه إلى الله، كانت هذه الأعمال سبباً لدخول الجنة، وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة، والقلب متوجه إلى غير الله، كانت هذه الإعمال سبباً لدخول النار.
وامتثال أوامر الله ورسوله في الظاهر فيها المشقة، ولكن هذه المشقة مثل القطرة، والراحة المخفية وراءها مثل البحر.(1/4)
واتباع الشهوات، وترك أوامر الله ورسوله، في الظاهر فيها الراحة، ولكن هذه الراحة مثل القطرة، والعذاب والمشقة المخفية وراءها كالبحر.
ونور العلم، ونور الهداية، لا يحصلان إلا بالمجاهدة، أما المعلومات فيحصل عليها الإنسان بأي طريقة.
ونور الإيمان كالكشاف يميز به المسلم بين الدنيا والآخرة.. وبين ما ينفع وما يضر.. وبين ما يحبه الله ويبغضه.. وحسب قوة النور تكون قوة الأعمال.. وحسن الأخلاق.. وتنوع الأعمال.. والشوق والرغبة في كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق.
وقلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء، فمن أقبل على الله أحبه الله، وأقبل بقلوب عباده إليه، ومن أعرض عنه أبغضه، وأعرض بقلوبهم عنه.
وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه، وأحسن صفاته الإيمان والأعمال الصالحة، وشر صفاته الكفر والأعمال السيئة.
والعلم غذاء العقول.. والذكر غذاء القلوب.. والعمل الصالح ثمرتهما.. والعلم بدون الجهد يورث الجدل.. والعلم مع الجهد يورث العمل والوجل في القلب.
والله عزَّ وجلَّ خلقنا لعبادته، وتكميل الإيمان، والأعمال، والأخلاق، والسنن، والواجبات، ولم يخلقنا لتكميل الأموال والشهوات والأشياء.
وقد بين الله في القرآن أن أي أمة اعتمدت على الأسباب بدون الإيمان، أذلّها الله ودمرها كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
ومن أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والإحسان والتقوى والتوبة والأعمال الصالحة، أكمل الله له محبوباته في الآخرة من دخول الجنة، والفوز برضى الله ورؤيته، وظفر هناك في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ولا يمكن لأحد أن يعبر الصراط إلى الجنة إلا إذا اتصف بثلاث صفات وهي:
أن يرضى بالله ربّاً.. وبالإسلام ديناً.. وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.(1/5)
وشريعة الله للبشر إنما هي جزء من تشريعه للكون، فالأوامر الكونية والشرعية للخلائق كلها بيد الله وحده لا شريك له، ومخالفة الأوامر الشرعية زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا.
والدنيا كالظل للإنسان لا يمكن أن يدركه المرء ولو مشى الدهر كله، وقد فرغ الله من رزق كل مخلوق وقسمه:
كمية ونوعية.. ومكاناً وزماناً.. لا زيادة ولا نقصاً.
فنطمئن ونأخذه بالوجه الشرعي، ولا نطلبه بمعصية الله.
والدنيا دار الحاجات، والجنة دار الشهوات، فنأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، ونقوم بأداء أوامر الله حسب الطاقة، والله سبحانه يكمل شهواتنا يوم القيامة في الجنة دار كمال النعيم.
وفكر النبي صلى الله عليه وسلم مطلق في هداية البشرية، وفكر أكثر المسلمين اليوم محدود في الأكل والشرب، والمسكن والمركب، والملبس والمنكح.
ونحن نتفكر في أحوال البيت ونصلح أحواله، ولا نتفكر في أحوال العالم، وكيف يأتي الدين الكامل في حياتهم..؟
وسوق الدنيا عمارته بالأموال والأشياء، والبيع والشراء، وسوق الدين عمارته بالإيمان والأعمال الصالحة التي ثمرتها السعادة في الدنيا والآخرة.
وأخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله ودينه بشهوات نفسه، وأخسر منه من اشتغل عن ربه ونفسه بالناس ذماً وظلماً، وتجريحاً واحتقاراً.
وإذا أكرمك الله بنعمة فاستعملها في طاعة الله قبل أن تفارقها أو تفارقك، وإذا وضع الإنسان جهده وماله تحت شجرة الطاعة كبرت وزادت، وإذا وضع جهده وماله تحت شجرة المعصية كبرت وزادت، فهل يستويان مثلاً؟.
وإذا زاد الإيمان.. قويت الأعمال.. ثم صلحت الأحوال.. وإذا نقص الإيمان.. ضعفت الأعمال.. ثم ساءت الأحوال.
وإذا قامت الأعمال في المساجد اختفت الجرائم من الأسواق، وسبب كثرة الجرائم أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في أبغض البقاع إلى الله وهي الأسواق التي يركز الشيطان فيها رايته.(1/6)
والمطلوب من كل مسلم استعمال جميع الصلاحيات والطاقات التي أعطاه الله لنشر الهداية والدعوة إلى الله، حتى يعبد الله وحده لا شريك له.
والواجب على الأمة أن تتعلم حياة النبي صلى الله عليه وسلم كاملة لتستقيم على أوامر الله، وتتعلم جهد النبي صلى الله عليه وسلم لتقيم العالم على الاستقامة على دين الله عزَّ وجلَّ.
وبسبب ضعف الإيمان، وترك الدعوة إلى الله، صارت الأمة تخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش الله جل جلاله.. وتقدم جهد الدنيا على جهد الدين.. ومحبوبات النفس على محبوبات الرب.. وتؤثر الشهوات على فعل الأوامر، وتطيع المخلوق وتعصي الخالق.
وحين كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله، كانت كل يوم تنزل الهداية، ويظهر
الحق، ويزهق الباطل، وينتشر التوحيد، وينحسر الشرك.
والله عزَّ وجلَّ أعطانا الاستعداد الكامل للقيام بالدعوة والعبادة، وأكثر المسلمين اليوم ترك الدعوة إلى الله، لأنه صار قانعاً بالعمل الصالح، فالعابد ميدانه نفسه.. والداعي ميدانه كل الناس.. وكلاهما على خير.. لكن القطرة لا تقارن بالبحر، وكلاهما لازم.
فالعبادة واجب الأمة، والدعوة وظيفة الأمة.
ورحمة الله لنا مشروطة برحمة جميع من في الأرض، وكيف نكون رحمة للعالمين وقد تركنا الكفار والمشركين والعصاة تائهين ضالين، منحدرين في أودية الكفر والفسق والفساد؟.
ومن العجيب أننا نقطع صلاة الفريضة لإنقاذ نفس من الهلاك، وهذا واجب، ونترك ما هو أعظم منه، وهو ترك ملايين البشر يغرقون في أودية الكفر والفسوق والعصيان، ويذهبون إلى النار بعد موتهم.
إن من الخسارة الفادحة أن ينفق المسلم أوقاته وأمواله، وفكره ونشاطه، في سبيل الدنيا الفانية، غافلاً عن إصلاح نفسه، وإصلاح غيره، والعمل بما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة.
والمسلم إذا لم يسلك طريق الأنبياء والمرسلين، لم يبق له إلا حياة البهائم والطواغيت والشياطين.(1/7)
ومن المؤسف حقاً أننا نقف ضد مرتكب الجريمة في شأن المخلوق، ولا نقف ضد مرتكب جريمة الكفر والشرك في شأن أحكم الحاكمين، فهلا ندعوه إلى الله، ونعلمه الدين، ليرضى عنه رب العالمين، ويكرمه بالجنة دار المتقين.
إن جميع مشاكل العالم البشري تعود إلى عدم طاعة الله ورسوله..
ولحل جميع هذه المشاكل يجب علينا تحكيم القرآن والسنة، وأخذ العلاج منهما: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الفتح: 17].
إن الآيات الكونية.. والآيات القرآنية.. والسيرة النبوية.. وقصص الأنبياء والرسل وأتباعهم.. من أقوى مصادر القوة الإيمانية.. وتحريك العاطفة الدينية لدى الإنسان.
ولا تزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتشعل بها مجامر القلوب، وتنير بها المظلم من الصدور التي انطفأ نورها وخمد في مهب الرياح والعواصف المادية.
وإذا أقفرت قلوب الأمة من الإيمان بالله، وانقطعت عن مصدره، عاشت في الظلمات، وأصبحت جثة هامدة، تلعب بها الأمم ولا تبالي، لأنها فقدت روحها ومكانتها، وانقطعت عن مصدر عزها ومجدها.
فصارت لا تقدم ولا تؤخر.. ولا تأمر ولا تنهى.. وترمى في أحضانها مزابل الأمم وقاذوراتها.. ولشدة سكرها تطير به فرحاً.. وتعتز بتملكه.. وتفخر بالتظاهر به.. وتربي أجيالها عليه.. وتبذل كل شيء في سبيل الدعوة إليه.. وتسقي فلذات أكبادها السم رطباً ويابساً، ظاهراً وباطناً، مع أن فيه حتفها وهلاكها، وفساد أحوالها، وغضب ربها ومولاها.
إن طوفان الكفر.. وطوفان الشرك.. وطوفان البدع.. وطوفان المعاصي.. وطوفان اللهو واللعب.. وطوفان المال والشهوات.. قد عمّ مشارق الأرض ومغاربها.. وضرب بجرانه بين العامة والخاصة.. وأهل الحاضرة والبادية.. ونُزع لباس الإسلام، وأُجهز على روحه في كثير من أنحاء الأرض.
وخاض كثير من المسلمين في مستنقعات العفن والرذيلة، وتمرغوا في وحل الفسق والفجور والفواحش بلا خوف ولا حياء ولا خجل.(1/8)
وأحسب أن أكثر الأرض قد فسد، وتلوث بالدم المسفوح، والجيف القذرة، والملاهي العفنة، وراجت البدع المحدثة، وفتحت أسواق اللهو واللعب والمعاصي والفجور في كثير من ديار المسلمين، ووفرت لها الأموال والطاقات، حتى ملأت البر والبحر، والسهل والجبل، وسقط ما لا يحصى من المسلمين قتلى وجرحى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فوا أسفاه.. على ضياع الأوقات، وبعثرة العمر، وبعثرة الفكر، وبعثرة الجهد في الشهوات والمخازي، والقبائح والكبائر والفواحش، واتباع الشياطين.
واحسرتاه.. لقد ظلت هذه الأمة تعاني من الجروح الدامية ما تعاني، وكلما التأم جرح انفجر جرح آخر.
فهل يكفي أن تسكب العَبرات على مثل هذا الواقع الأليم؟.
فمتى تؤوب هذه الأمة المسكينة إلى ربها؟.
وماذا يبقى للأمة إذا تجردت من لباس الدين والأخلاق والحياء؟.
واليوم نظرة عابرة إلى العالم الإنساني كافية لإلقاء الرعب في القلوب لو كانت هناك قلوب، فقد أسفر الصبح عن جيل راكع لشهواته لا لربه إلا ما رحم ربك، وكسرت أوامر الدين في كثير من البلاد.
فهل يُترك الناس بلا واعظ ولا مذكر، يتردون في بحار الظلمات، ويسقطون في أودية الغي والفساد والشهوات، وينحدرون في آبار الضلال والظلام والهلاك، ويعيشون كالحيوانات والشياطين؟.
وهل لهذا الوباء الذي عمّ وطمّ من سبب؟.
وإذا عرفنا سببه فهل من علاج لهذا الجرح الذي انفجر؟.. وهذا الوباء الذي انتشر؟.. وهذا القصر الذي انهدم؟.. وهذه القلعة التي تصدعت؟.. وهذه السفينة التي أوشكت على الغرق..؟.
أما لهذا الجرح من طبيب..؟.
أما لهذا القصر من مالك..؟.
أما لهذا البيت من حراس..؟.
ألا يستحي البشر من كفران النعم؟.. ألا يخافون من بطش الجبار..؟.
أما لهم في سوق الدين من أرباح..؟.
أنسوا أن الله خلقهم وكرمهم، وهداهم واشتراهم..؟.
فما بالهم جفوا باب سيدهم ومالكهم، وتعلقوا بأذيال عدوهم..؟.(1/9)
إن الأنبياء والرسل وأتباعهم لما عرفوا الحق آمنوا به، وعملوا بأحكامه، وتخلقوا بأخلاقه، وهانت عليهم أنفسهم وأموالهم وأولادهم وشهواتهم وديارهم في سبيل دعوة الناس إلى ما أمرهم الله به، من الدين العظيم، والحق المبين، والصراط المستقيم.
إن البشرية كافة كما يحتاجون إلى الهواء والماء والطعام كل آن، ولا يستثنى من ذلك أحد، ولا تستقيم لهم حياة إلا بذلك، فكذلك الناس كلهم أشد حاجة إلى الدين الحق الذي يبين علاقة المخلوقات بخالقها، وينظم علاقة المخلوق بالمخلوق، ويوفر لهم السعادة في الدنيا والآخرة، إذا حققوا مراد الله من خلقه بالإيمان به وعبادته وطاعته، واتبعوا كتابه الذي أنزله عليهم، ورسوله الذي أرسله إليهم، واستقاموا على دينه:
في الإيمان.. والعبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.
ولما عرف الأنبياء والرسل وأتباعهم قيمة الدين الحق، وأدركوا حاجتهم الماسة إليه، وحاجة البشرية إليه، هان عليهم كل شيء من أجله، واستطابوا المرارات والمكاره من أجله، وتسابقوا في سبيل الدعوة إليه، ونشر سننه وأحكامه، وسيطر ذلك على قلوبهم وعقولهم، واستغرق ذلك جل أوقاتهم.
فصدرت عنهم عجائب الإيمان بالغيب.. وأحسن العبادات والمعاملات.. وأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق.. وحب الله ورسوله.. ورحمة المؤمنين.. والشدة على الكافرين.. وإيثار الإيمان والأعمال على الأموال والأشياء.. وإيثار الآخرة على الدنيا.. وتقديم أوامر الله على شهوات النفس.. وإيثار الآجل على العاجل، والهداية على الضلالة.. والحرص على دعوة الناس.. وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
واستهانوا بزخارف الدنيا وحطامها حين اشتاقت نفوسهم إلى لقاء الله، وقصور الجنة، وعلو الهمة.
فنشروا الإسلام في ربوع الأرض، وانتشروا في مشارق الأرض ومغاربها مبلغين لدين ربهم، متخلقين بأخلاقه وسننه.(1/10)
وبذلوا من أجل نشر الإيمان والهداية في العالم كل ما يملكون، حتى ألقى الإسلام بجرانه في الأرض، وأقبلت القلوب إلى ربها مؤمنة منقادة طائعة.
وهبت رياح الإيمان عاصفة قوية طيبة مباركة في قلوب الناس، وقامت دولة التوحيد والإيمان والأعمال والأخلاق في نفوس البشر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وحققت الأمة بذلك مراد ربها منها بالإيمان به وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له، والدعوة إليه، وتعليم دينه وشرعه، واستقاموا على ذلك حتى رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [التوبة: 100].
ثم أتى على المسلمين حين من الدهر ضعف فيه إيمانهم، وقل فيه علمهم، ونقصت فيه أعمالهم، فأقبلوا على الدنيا، وزهدوا في الدين، فقصر بعضهم في العبادات، وظلم في المعاملات، وأساء في المعاشرات، وزهد في سنن الدين وآدابه وأخلاقه، وتخلق بأخلاق البهائم والشياطين.
وانصرف بعضهم عن الاستفادة من أحكام الكتاب والسنة إلى أخبار الزهاد التي شغلت مجالس الوعظ والإرشاد، وامتلأت بها الكتب والأوراق.
ثم انحدروا إلى القاع حين أقبل بعضهم على دراسة علوم الدنيا، وعلوم وآداب الأمم الكافرة الأخرى، وهجروا علوم القرآن والسنة، فضلوا عن طريق الحق والهدى، وساروا في دروب الغي والهوى.
ثم جرفهم سيل الشهوات، واستعبدهم حب المال، وشغلهم ذلك عن امتثال أوامر الله، والعمل بشرعه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله.
وسار كثير من المسلمين خلف اليهود والنصارى، يتكلمون بلسانهم، ويقلدونهم في حياتهم، ويقتدون بفساقهم، ويتخلقون بأخلاقهم، ويشدون الرحال إلى ديارهم، ويتعلمون علومهم، ثم يرجعون بأخلاقهم وصفاتهم وطريقة حياتهم.. ويضعونها في صحن الإسلام، ويزرعونها في بستان الإيمان، لتكون قدوة للأنام، فتعلق الناس بها، وتسابق الأبناء والبنات إلى التخلق بها.
فهل يكفي أن تذرف الدموع السخية على هذا السقوط المشين..؟.(1/11)
يا حسرة على العباد.. كم لعب الشيطان بعقولهم وأوقاتهم وأموالهم؟.
وا أسفاه.. إلى متى يزحف الورى إلى الوراء، إلى جهنم وهم لا يشعرون؟.
من يصدع بالحق، ومن يحمل رايات الهدى إلى الورى؟.
إن المؤمن حقاً من سكب عصارة عمره وروحه في طاعة ربه، وعبادته، والدعوة إليه، وتعليم شرعه لعباده.
إن مخالفة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم فيها منفعة ومصلحة لنا نحن المسلمين، حتى فيما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضراً بآخرتنا، أو بما هو أهم من أمور ديننا.
ماذا يفيد الأمة علم كالبحار في السعة، وكالجبال في العظمة، والقلوب منه فارغة، والجوارح منه خالية، وأثره في الحياة مفقود؟.
ماذا ينفع البشرية من علوم كالجبال، وأعمال كالذر، وسبب ذلك:
التفقه لغير الدين.. والتعلم لغير العمل.. وأكل الدنيا بالدين.. والتجمل بالعلم أمام الناس.. وفقد الإخلاص.
إن العلم الإلهي أعز شيء في الحياة، اصطفى الله له رسله، وعلمهم إياه، وأمرهم بتعليمه الناس، ليعبدوا الله وحده على بصيرة، فلا يؤخذ عليه أجر، ولا يكون حرفة يؤكل به حطام الدنيا، ويباع في الأسواق الرخيصة، وتقتل به الأوقات الثمينة، ويقدم للناس جسماً بلا روح، وإناءً بلا ماء، وألفاظاً بلا معنى.
فمتى يشد العبد ركائبه إلى الرحمن وقد أفسد الأعداء عليه نيته وأعماله وأوقاته؟.
إنما الدنيا سوق واحد خرج الناس منها بما يضرهم أو ينفعهم، وخير المكاسب الطاعات، وشر المكاسب المعاصي، والناس في ذلك راتعون.
والله عزَّ وجلَّ أرسل إلى الأمم السابقة أنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة، فكان منهم المؤمن والكافر.
ثم إنه سبحانه بعث نبيه المصطفى المختار من جميع ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن.
فختم به الرسل.. ونسخ بملته جميع الملل.. وأرسله إلى خير الأمم.. وهي هذه الأمة.. بأحسن الشرائع وهي الإسلام.. وأنزل عليه أحسن الكتب.. بأحسن اللغات وهي العربية.(1/12)
وخصه سبحانه بهذا الدين الكامل.. والنعمة التامة.. واصطفاه على جميع الأنبياء والرسل.. فهو سيد الأولين والآخرين.. واتخذه خليلاً ورسولاً.. فلا نبي بعده.. ولا شريعة بعد شريعته إلى يوم القيامة.
ولما كانت الدنيا ليست بدار قرار، ولكنها دار ابتلاء واختبار، ومجاز إلى دار الخلود، وتبين أنه لا فائدة في الدنيا إلا بالإيمان بالله، والعلم بما أمر الله ورسوله به، والعمل به، وتعليمه الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ودعوة الخلق إليه، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
لذا فكل ما يتنافس فيه الناس من أمور الدنيا، وملاحقة الشهوات، واتباع الأهواء، وعبادة المال، كله غرور وباطل، يعرِّض العبد للعقوبة والألم، ويملأ قلبه بالوحشة والحسرة في الدنيا والآخرة.
وأكثر ما يطالعه الناس سوى القرآن والسنة، وكلام سلف الأمة، من المكتوب والمسموع والمرئي، أكثره لغو وغثاء، وشغل للأوقات بما لايفيد، وليس فيه إلا تضييع الزمان، وتشتيت الأذهان، وجلب العداوة بين الإخوان، ومزاحمة كلام الرحمن، وسنة سيد الأنام، وعمارة الدنيا، والزهد في أعمال الآخرة، ونقل عوام المسلمين من اليقين والرغبة في العمل الصالح، إلى الشك والحيرة والنفرة والسأم والملل، والعكوف على اللهو والشهوات، وإضاعة أوامر الله.
لذا كان أفضل ما تُنفق فيه الأنفاس، وتشتغل به الأمة، وتصرف له الأفكار والأوقات، هو طاعة الله ورسوله، وإحياء سنن الحق في كل مكان، وإماتة طوالع الفجور والبدع:
ببيان ما يرجو به المرء العاقل هدى الخلق.. وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل.. وإخراجهم بإذن الله من الظلمات إلى النور.. ببيان الحق الذي أمر الله به.. وهداية الناس إلى الصراط المستقيم كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].(1/13)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شيئاً، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئاً» أخرجه مسلم(1).
ومن وفقه الله تبارك وتعالى لبيان ما تضاعف فيه الأجور، ويهتدي بسببه الجاهل والمغرور، ويستنير بنوره العاقل الرزين، فقد عرضه الكريم لخير كثير، وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم.
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، ولا يتأخر عن المنافسة في أرباحه إلا جاهل بالسلع وقيمتها.
يا نائماً على فراش التقصير متى تفيق من هذا المرض؟.
يا حسرة على العباد.. كم يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب، واللذات والشهوات؟.
يا حسرة على المفرطين.. كم آتاهم الله من آية بينة فلم يستجيبوا؟.
ما أكثر الغافلين عن ذكر الله.. وما أكثر المعرضين عن شرعه.. وما أكثر المخالفين لأمره.. وما أكثر من يستعملون نعمه في معصيته.. وما أكثر الراكعين لشهواتهم.. الساجدين لأهوائهم.. المتعرضين لسخط ربهم.
ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزاً عنيفاً حتى لا يتردى في أودية الهلاك والخسران لفعلنا، ولو كنا نملك أن نفتح العيون المغمضة جفونها عن طريق الحق حتى لا تسقط في الحفر لفعلنا.
ولكن القلوب بيد الله.. يقلبها كيف يشاء.. وهو العالم وحده بمن يصلح للكرامة.. ومن يصلح للإهانة.. وحسبنا الدعوة والإشارة، والتصريح بالمودة والمحبة، والتلويح بالنصيحة، مع حسن الأدب، وخالص الدعاء بالهداية، والله بكل شيء عليم، يختص برحمته من يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).(1/14)
إن من البلاء العظيم أن ينثر الأعداء في ساحة المسلمين علوماً مسمومة.. وأفكاراً متباينة.. علوم كلها غث هزيل.. عسر الهضم.. يأكل الوقت.. ويميت القلب.. ويورث الشك والحيرة والجدل، ويدعو إلى الفسوق والعصيان.
فهي بين علوم لا خير فيها.. وبين علوم لا ثقة بها.. وبين ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئاً.. وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها.. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها مع قلة نفعها.. فهي كلحم جمل غث على رأس جبل وعر.. لا سهل فيرتقى.. ولا سمين فينتقى.
وقد نظرت بفضل الله في كثير من أمهات كتب الدين المعروفة النسب، فوجدتها عظيمة النفع جداً، ولكنها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا تظفر بكل المقصود منه، والمتوسط منها مبعثر الفوائد، عديم الترتيب، ناقص الأبواب.
وأكثر الكتب التي نبتت في الساحة عدا كتب السلف الأخيار، والمتقين الأبرار، جلها كحاطب ليل، يجمع الغث والسمين، والصحيح والسقيم.. والمليح والقبيح.. بعضها تمحض للخير.. وأكثرها تمحض للشر واللهو والباطل.. وغيرها مما شاع وذاع.. وملأ الأسماع والأبصار.
منها ما يهتم بالغرائب وشواذ المسائل.. ومنها ما يهتم بوجوه التفسير.. ومنها ما يهتم بسرد الأقوال في كل مسألة.. ومنها ما يهتم بالنحو والصرف.. ومنها ما يعنى باللغة والأدب.. ومنها ما يعنى بالتاريخ والسير والقصص.. ومنها ما يهتم بالمنطق والقواعد.. ومنها ما يهتم بأحوال الرجال والجرح والتعديل.. إلخ.
وهذا كله وإن كان في بعضه منافع وزيادة معلومات، إلا أن المقصود الأعلى، ومقاصد الشريعة العظمى من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله.. ومعرفة دينه وشرعه.. ومعرفة وعده ووعيده.. وثوابه وعقابه.. وعبادته وطاعته.. وتعليم المسلمين أحكام دينهم.. ودعوة الخلق إلى الله.. كل هذا فوق ذلك بكثير، وأولى منه، بل هو أجل مقصود وما بينهما كما بين السماء والأرض.
والمملوك ليس له أن يتصرف بنفسه ووقته إلا بإذن مالكه.(1/15)
والمؤسف أن كثيراً ممن يدعي العلم والفقه محترف أكول، هزيل في معرفة الأصول والفروع، يسير في تقريرها وهو راجل، يقول ما لا يفعل، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، تسبق أقواله أفعاله، لأنه مصاب بداء الجهل والعصبية.
وقل من ركب متن الفقه فصار فارساً، وما أكثر ما حملت بطون الكتب من الغث والسمين، والذهب والطين، وملأت الساحة بالجيد والرديء، والحسن والقبيح، والطيب والخبيث.
والناس يغرفون من هذا وهذا، وتظهر صفاتهم بموجب هذا وذاك، وتأتيهم النعم والمصائب بحسب هذا وذاك.
وما أكثر المصنفات التي تصدع الرؤوس، وتفسد العقول، لا تزيد في الإيمان، ولا تبعث لطاعة الرحمن، فهي لا تساوي الورق الذي كتبت عليه، لأنها سيل من الأقوال والحكايات والشبهات التي تدع المسلم تائهاً حيراناً، تولد الغفلة والخصومة والتناحر، ولا تحرك القلوب والجوارح للطاعة والعبادة.
هذا لون من العلم مكروه مرفوض يورث العلل والأسقام، وكثير من الناس راتع فيه، يجني منه كل فتنة وشر وسم، فيضر نفسه، ويضل أمته.
فأما علم أصول الدين.. ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله.. ومعرفة عظمته وجلاله.. ومعرفة آلائه ونعمه.. ومعرفة وعده ووعيده.. ومعرفة قضائه وقدره.. ومعرفة دينه وشرعه.. ومعرفة اليوم الآخر، وما فيه من البعث والحشر.. والحساب والجزاء.. والجنة والنار.. ومعرفة قصص أنبياء الله ورسله، ونحو ذلك مما سماه الله في كتابه فقهاً وحكمة.. وعلماً وضياءً.. ونوراً وهدى.. ورحمة وشفاء ورشداً.. فقد أصبح بين أكثر الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً.. وجفاه أكثر الخلق إلا من رحم الله.. ومن عرفه عرفه معرفة مجملة لا توقظ القلوب الغافلة.. ولا تحرك الجوارح الساكنة.
ولما كان هذا ثلماً في الدين، ونقصاً في اليقين، تولد بسبب الجهل به ضعف الإيمان، ثم ضعف العمل بالدين، ثم ضعف الدعوة إلى الله، ثم فشو الشر، ثم ركوب مطايا الباطل، ثم نزول المصائب، وتوالي الكوارث.(1/16)
لذا رأيت سده بما استطعت جمعه وتأليفه، وترتيبه وتهذيبه، ليكون منار هدى، وخزانة مملوءة بما لذ وطاب من غذاء القلوب والأرواح، وسلسيبلاً يزيل العطش والظمأ، وحادياً يحرك القلوب والجوارح، ويشوقها للعبادة، ويبعثها للطاعة، ويدفعها للتوبة من المعاصي.
وهذا باب عظيم من العبودية، لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه وحلاوته ولذته، بكى على أيامه الأول.
وأحسن ما ركبه الله في العقول والقلوب والفطر حسن التوحيد والإيمان بالله، وأحسن ما ركبه على الجوارح حسن الأخلاق والعمل الصالح.
والناس في الدنيا والدين، والعلم والعمل، مستقل ومستكثر ومحروم.
وأحسن ما تجمل به الخلق في الدنيا الإيمان والإحسان والتقوى، والعلم النافع، والعمل الصالح.
وقد فاضت من كثير من أئمة العلم والدين في مختلف العصور علوم نافعة، وكلمات جامعة، ومسائل فريدة، وقواعد محكمة، وأصول نافعة مباركة، إلا أنها منثورة في بطون الكتب، مفرقة في الصحف، مغمورة بعيدة عن متناول من يريد الانتفاع بها عند الحاجة إليها، وهي غذاء لازم لكل إنسان، لا يتم نعيمه وسروره وشفاؤه إلا بمجموعها.
وقد يسّر الله لنا بمنّه وكرمه التقاط هذه الثمار اليانعة.. وجمع هذه الجواهر النفيسة.. وجلب هذه الحلي الثمينة.. من خزائن العلماء الربانيين.. وأهل التقوى والصلاح.. الذين قالوا وفعلوا.. ووصفوا واتصفوا.. وجاهدوا وصبروا.
علماء أبرار يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه.. كل منهم يستنير بالكتاب والسنة.. ويعمل بالحق ويدعو إليه.. ليرى الناس الدين سهلاً ميسراً.. نقياً صافياً.. لم تكدره آراء أهل البدع والأهواء.. ولم تحرفه أيدي أهل السوء والنفاق.
علماء أتقياء لكل منهم مواعظ وكلمات جامعة نافعة، قطفنا من أزهارهم، وجمعنا من ثمارهم، واقتبسنا من أنوارهم، وزينا الكتاب بما اصطاده الذهن من جواهر كلامهم، وما وعاه القلب من ألفاظهم، فعليهم رحمة الله وبركاته ما تعاقب الليل والنهار.(1/17)
وقد حرصنا على التقاط جواهر الفقه الأكبر المنثورة، واستخراج القول الأهدى سبيلاً، والأقوم قيلاً، بدلاً من عرض الأقوال التي يُغشى بها العوام، وتفتن الخاص والعام، ويضل بها ضعفة العقول والأفهام.
إلى جانب ما في سردها وعرضها من الإطالة، وإضاعة الزمان، وإتعاب الفكر واليد واللسان، وفتح باب المراء والجدل، وتذكية أوار الفرقة والخلاف، وتسويق الآراء الشاذة التي مزقت الأمة، وجمعت بين التخليط والتخبيط، وركوب دابة العصبية والهوى.
ولتمام الفائدة، وحصول المقصود، فقد جمعنا جواهر كل موضوع في مكان واحد، وألّفنا بينها في عقد واحد، حتى استوت مستقيمة تؤدي وظيفتها في خدمة الدين والعلم، تستلذ بها العقول، وتطمئن بها القلوب، وتعمل بها الجوارح.
وقد مزجنا كلامنا بكلام خيارنا من سلفنا الصالح، من علمائنا وعبادنا وزهادنا، وأهل التقوى والصلاح، حسب ما يقتضيه المقام، من تفصيل مجمل، أو اختصار مطول، أو تقديم أو تأخير أو تهذيب، أو استدلال أو تعليل.
وجهدنا بالنسبة لعلومهم كالوعاء الذي يحمل المجوهرات والحلي والنفائس، ويهديها إلى الناس على مدى الدهور والأزمان.
والعلم بحر لا ساحل له، والله يعلم أنني من أعجز الخلق عن ركوبه، والسير بأمان في دروبه، خاصة العلم الإلهي الذي بعث الله به رسله، وأمرنا بتعلمه وتعليمه والعمل به.
ولكن الله برحمته بعث الهمة لجمع ما بين يديك، وهيأ الوقت لتحصيله، وشرح الصدر لطلبه، وحرك اليد لتحريره، ونشط العقل والفكر لجمعه وحسن عرضه.
فله الحمد على ما قضى وقدر.. وله الحمد على ما خلق وأمر.. وله الحمد على ما يسر وأعان.. وله الحمد على ما يسر لمن كتب.. وساق من قرأ.. ووهب الأجر لهذا وهذا.. والله واسع عليم.. شكور حليم.
يقبل التوبة من عباده.. ويرضى بالقليل من العمل.. وينعم بالثواب الجزيل من الأجر.(1/18)
أحمد ربي كثيراً على عظيم جوده وكرمه، ورحمته وإحسانه، إذ وفقني لإيثار ما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الرب على ما تحبه النفس، وهداني لعبادته وطاعته، وساقني بأمره وكرمه ورحمته إلى ما تسرح في رياضه، وتتجول بين أزهاره وثماره، وتشرب من عذب مائه صافياً نقياً من الأكدار.
فله الحمد كثيراً، كما ينعم كثيراً، ويعطي كثيراً، ويرحم كثيرًا.
ولما جمعته وهذبته وحررته، جعلت أفكر باسمه، وبماذا أدعوه إذ وضعته أمه، فهداني من وفقني لرسمه بوسمه بـ (موسوعة فقه القلوب).
أسأله تبارك وتعالى أن يجعله مباركاً خالصاً لوجهه، مطابقاً لاسمه.
وقد جمعت فيه بفضل الله أقوال سلف الأمة في أصول الدين، ومقاصد الشريعة العظمى، ليستبين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والرشد من الغي، والخير من الشر.
وقد توجت مسائله بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وزينتها بالبراهين العقلية، وبينتها بالأمثلة الحسية.
ولم نذكر في هذه الموسوعة من الأحاديث إلا ما ثبتت صحته ونسبته إلى النبي (، وأعرضنا عن كل حديث ضعيف، أو موضوع، أو باطل، أو منكر، أو شاذ، ولا أصل له، ليبقى الذهب خالصاً، والمشرب صافياً، والبناء متيناً، والسلعة ثمينة.
فجاء الكتاب بفضل الله محكم الفصول، محذوف الفضول، مقوياً للإيمان، محركاً للأعمال، مرغباً في أحسن الأخلاق، يطلق العقول من عقال الجهل والشك، ويطلق الجوارح لتعمل في ميادين الأعمال الصالحة.
وقد يسر الله لي ولك هذا المختصر اليسير، منطوياً على العلم الغزير، وقد اجتهدت في جمعه وتيسير عرضه، فاجتهد وفقك الله في مطالعته وحفظه، والعمل بما فيه بعد فهمه، فلا خير في علم بلا عمل.
وأحسب أن هذا المجموع المختار هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، لمن يريد الله والدار الآخرة، لما فيه من الآيات والأحاديث، وخلاصة أقوال العلماء الربانيين من سلفنا الأخيار.(1/19)
وهذا الكتاب محض فضل الله عزَّ وجلَّ، فهو سبحانه وحده الذي بعث الهمة لكتابته، ووفق وأعان على إخراجه، ويسر وصوله إلى الناس.
يستهدي بإذن الله بسببه من ضل الطريق.. ويطمئن به الحائر التائه عن الصراط المستقيم.. يرتع في رياضه.. ويقطف من أزهاره وثماره.. فيعيش بين الخلق مسروراً.. ولربه عارفاً عابداً شكوراً.
وقد أمضيت أكثر من ربع قرن، وأتبعت الليل بالنهار، والوقت بعد الوقت، في جمع وتحصيل وتحرير ما بين يديك، وآثرت ذلك على جميع اللذات التي تميل إليها النفوس، وقيدت نفسي من أجله عن كثير من المناسبات، وجمعته واعتصرته من أكثر من ألف مرجع، وأطلت فيه فكري، وأتعبت نفسي، لينفع الله به من يشاء من عباده ممن يصل إليه.
وقد بوبت أبوابه.. وفصلت مسائله.. وبسطت مجمله.. وحققت مشكله.. وعزوت آياته.. وخرجت أحاديثه.. وسلمته لكل مسلم. ليأخذ منه ما يحب وما يريد.. عفواً صفواً من غير كدر.. وأهديته إليه هنيئاً مريئاً.. ولعله أفضل له من كنوز المال إذا تدبره.. ويسره الله تعالى لاستعماله والانتفاع به.
وأنا راجٍ بعد ذلك كله من الله سبحانه عفوه ورحمته، وعظيم الأجر، لمحبتي لله، ورغبتي في نفع عباده، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، وتقويم ما اعوج من حياتهم، والله عليم بذات الصدور، وهو الموفق والمعين إنه نِعم المولى ونِعم النصير.
ولعلك تسعد وأنت تقلب هذه الموسوعة بما يسرك من علوم نافعة.. تم عرضها بألفاظ عذبة جميلة.. وجمل محكمة رصينة.. تحمل أفضل غذاء للقلوب.. وأحسن معانٍ للعقول.. تقبل بك إلى طاعة الرحمن.. وترغبك في الجنة والرضوان.. في جو مليح.. يسرك جماله.. ويبهرك برهانه.(1/20)
بعيداً عن كل ما تكرهه النفس، أو يجفل منه العقل، أو ينفر منه الطبع، من كلام هزيل، أو عرض سقيم، أو حشو ممل، أو نقص مخل، أو كلام له روائح كريهة، يؤلم القلوب والجوارح، ويمزق الأسر والقبائل، ويتركها إما أنعاماً لاهية، أو سباعاً جارحة، أو وحوشاً متناطحة، ليست من أهل الدنيا ولا من أهل الآخرة.
وما بين يديك ذرة من جبل، وقطرة من بحر، تطلعك على عظمة الله جل جلاله، وعظمة ملكه، وعظيم إحسانه، وتكشف لك عظمة هذا الدين وجماله وكماله، ولعل في ولادته سعادة كاتبه وقارئه، ومستمعه وناشره: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 97].
ولولا أن الله بعث الهمة لجمعه، ويسر تأليفه وتحريره، ما تجولت في حقوله، ولا تمتعت برياضه، فاحمد الله أن جعلك من عباده المؤمنين، واغتنم علماً سطره لك علماء الأمة الأخيار، ما ركضت رجلك لتحصيله، ولا بسطت يدك لتحريره، ولا سهرت عينك في تدوينه، ولا اعتل بدنك في طلبه، ولا تعب عقلك في جمعه وترتيبه وتحريره.
وما أكثر غوامض المسائل التي تحتاج إلى التحرير والتقرير والنشر.
مسائل كالجبال في العظمة.. وكالبحار في الظلمة.. وكالذر في الدقة.. كشف الله لك بهذه الموسوعة عن سرها.. فأشرقت بنورها.. وفاح عليك عبيرها وأريجها.
فصار الجو صحواً.. والماء صفواً.. والمر حلواً.. والظلام نوراً.. والشك يقيناً.
قد لاح النور من خلاله.. وفاح المسك من أركانه.
فيا لها من نعمة ما أعظمها من الرب الكريم وحده، وهنيئاً لمن اغتنمها فتعلمها، وعمل بها، وعلمها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
أسأله سبحانه أن ينفعني به، وينفع به الخاصة والعامة، وسائر المسلمين في أنحاء الأرض، وأن يجعله قرة للعيون، وبهجة للناظرين، ومسرة للطالبين.
وقد منَّ الله علينا وعليك، فيسر لنا جمعه وتأليفه.. ويسر لك تملكه ومطالعته.. فدونك خمسة عشر قصراً.. لا من قصور الدنيا الفانية، بل من قصور الدين النافعة الباقية.(1/21)
ولكل قصر باب.. وفي كل قصر غرف واسعة.. مملوءة بما لذ وطاب من الأغذية النافعة.. والأدوية الشافية بإذن الله للعقل والقلب والجوارح.
علوم تبعث الهمة والرغبة في النفس.. وتسكب الإيمان والطمأنينة في القلب.. وتحرك الجوارح للطاعة والعبادة.. وتثمر للعبد تعظيم الله ومحبته.. وحمده وشكره.. ودوام ذكره.. وحسن عبادته.. ورحمة الخلق.. والإحسان إليهم.
تم عرضها وتقديمها في عبارة موجزة.. جلية المعنى.. سهلة الفهم.. يزكو بها العقل.. ويطمئن بها القلب.. وينشرح لها الصدر.
وهي أغلى من الدر والياقوت، ساقها الله إلينا من علماء أتقياء بررة، بذلوا من أجل إعلاء كلمة الله كل ما يملكون، فصار لكلامهم نور، وسُرَّ الخلق وانتفعوا بما يقولون.
علماء ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي الناس أطايب الثمار.
وهذه نعمة.. وتلك نعمة.. وبينهما من المنافع والفضل كما بين السماء والأرض.
ونظراً لكثرة الجمع والتأليف.. والتشذيب والتهذيب.. والتقديم والتأخير.. والبسط والاختصار.. والتقريب والتفهيم.. فقد تم نظم الفوائد والفرائد والمسائل.. لتكون عقداً من الجواهر في كل باب.. مما يتعذر معه نسبة كل قول إلى قائله، ويعسر نسبة كل مكتوب إلى كاتبه، لكثرة المسائل وتنوعها، وتداخلها وتكرارها، وبسطها واختصارها.
وقد تكون من ذلك بفضل الله خمسة عشر عقداً من الجواهر النفيسة، والحلى الثمينة.. وهي هديتنا إليك.. وها هي بين يديك:
الباب الأول: فقه أسماء الله وصفاته.
الباب الثاني: فقه الخلق والأمر.
الباب الثالث: فقه الفكر والاعتبار.
الباب الرابع: فقه الإيمان.
الباب الخامس: فقه التوحيد.
الباب السادس: فقه القلوب.
الباب السابع: فقه العلم والعمل.
الباب الثامن: فقه قوة الأعمال الصالحة.
الباب التاسع: فقه العبودية.
الباب العاشر: فقه النبوة والرسالة.
الباب الحادي عشر: فقه الأخلاق.
الباب الثاني عشر: فقه الشريعة.
الباب الثالث عشر: فقه الطاعات والمعاصي.(1/22)
الباب الرابع عشر: فقه أعداء الإنسان.
الباب الخامس عشر: فقه الدنيا والآخرة.
وليس جمع ما بين يديك بالسهل اليسير، ولكن الله أعان عليه، فقد جمعناه بعون الله من بقاع شتى، واعتصرناه من فواكه شتى، واستخلصناه من بحار شتى.. ونحتناه من صخور شتى.
ووفرت له أوقات.. وانبعثت له همم.. وتحركت له طاقات.. حتى كمل بناؤه.. وصار ماثلاً بين عينيك.
ولولا توفيق الله وعونه ما تحركت له همة، ولا خطته اليد، أما وقد وصل إليك بفضل الله، فلا يكون حظك منه الإعجاب بأسلوبه وعرضه، والإعراض عن قلبه ولبه.
فهو لعموم المسلمين.. لكنك المخاطب به.. وأنت المقصود منه.. وما كتب لأحد سواك، فأكرم الضيف الذي حل بك، وأكرم نزله بأداء حقه بما فيه، ونشره ونفع المسلمين به، رفع الله درجاتك في الجنان، وزينك بالتقوى والإيمان، ونفع بك المسلمين في كل مكان.
وإنك سترى في الباب الواحد أحياناً من الأفكار والمسائل ما ترى أنه لو كان مفرقاً لكان أحسن، ليسهل فهمه وحفظه والعمل به، ولكنها طريقة القرآن في السور والآيات، أحكام مختلفة، وسنن متنوعة، جمعها الله في سورة واحدة، أو آية واحدة، لنفس واحدة، وهذا كما أنه موجود في العقليات فهو موجود في الحسيات كذلك.
فإنك ترى بلا تكلف أنه يجمع لك ألوان الطعام في صحن واحد، وتقدم لك ألوان الفواكه في سلة واحدة، فتقبل ذلك النفس وتتلذذ به، ويتغذى بذلك البدن، ويولد فيه كامل الطاقة البدنية.
وكذلك العلوم والمعارف يستقبلها العقل، ويتلذذ بها على اختلاف أنواعها، ثم يحولها إلى القلب، ثم يدفعها القلب طاقة علمية وعملية إلى الجوارح، فجمع العلوم في الذهن كجمع ألوان الطعام في البطن، كلاهما شهي يولد الطاقة بحسب طيبه ونفعه.
هذا يولد الطاقة البدنية.. وذلك يولد الطاقة العلمية والعملية.(1/23)
وقد لا يظهر لك المعنى أحياناً لأول وهلة، وقد تفهم منه خلاف المراد فيما يظهر، وقد تحملك قوة العاطفة وشدة الغيرة على الدين، على نبذ الكتاب كله، والشماتة بصاحبه، وتحذير الناس من مقولته.
وقد يستخفك الشيطان، ويركض بك إلى النار وأنت لا تدري، فيدفعك لتحمل الآيات والأحاديث على ما لا تحتمله، وتستدل بها في غير موضعها، اتباعاً لهواك، وانتصاراً لرأيك، فتثور منك عجاجة من القول لها غبار ودخان.
ولو صبرت قليلاً حتى تتم القراءة لزال اللبس، وبان لك الصواب، فما لا يظهر بنور الكوكب يظهر بنور القمر، وما لايظهر بنور القمر يظهر بضياء الشمس، وما قد يخفى على الإنسان في البداية قد يظهر له في النهاية، وإذا تجولت في المدينة عرفتها، وعرفت ما فيها من الطرق والسلع، ووصلت إلى ما تريد بأقصر طريق، لكن مع الصبر الجميل.
وهكذا إذا أتم القارئ قراءة الكتاب أو المقال انكشف له ما التبس عليه، وهذه سنة كونية وشرعية، فإياك والعجلة فإنها تعقب الحسرة والندم: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 114].
والخطأ والزلل، والضعف والتقصير، والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، والكمال في كل شيء لله الواحد القهار.
وقد هاجت حين إعداد هذه الموسوعة رياح عاصفة شديدة من الأعمال والصوارف والطوارق، وأدركني التعب والسأم والملل لطول الطريق، وبعد المسافة، وكثرة المزالق، فضعفت العزيمة، وزادت الحسرة والألم، فيا لها من مصيبة وقعت في وسط هذا البحر الأعظم، أصابت مسكيناً لا يحسن الترحال بين جزائر هذا البحر الكبير، وليس معه نفقة تبلغه إلى مقصوده، فيا ليته عند أهله، وما اقتحم ما اقتحم.
فما أحوج هذا المسكين إلى رحمة ربه وعونه وتوفيقه، وما أحوجه إلى أن يستغفر ربه من ذنوبه وعيوبه، ويتوب إليه من زلاته وعثراته.
وما أجدره بشكر ربه على نعمه وآلائه وإحسانه، لعله يقبل فيعان، ويواصل السير، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، ويسلم البضاعة إلى أصحابها.(1/24)
هذا وإن الإخلاص عزيز.. وتحقيقه في كل عمل أعز.. خاصة فيما يجلب الشهرة للعبد من رئاسة أو مال أو علم، فهذه مطايا يبتلى بها الناس، وأهلها أول من تسعر بهم النار إن فقدوا الإخلاص الذي هو روح الأعمال.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في كل قول وعمل.
ولولا أنه لا بد لكل شيء من مسمى.. ولكل مجموع من جامع.. ولكل مرسوم من راسم.. لتكمل الفائدة بالمقروء والمسموع.. وتتم النصيحة في الزلل والخطأ.. ويحصل الاتصال بين الكاتب والقارئ.. ويتحقق التعاون على البر والتقوى.. لولا ذلك لما قلدناه وأشعرناه بما يدل الناس علينا.. ويجعلهم ينسبون تأليفه وجمعه إلينا.
فذلك كله محض فضل الله تبارك وتعالى، ولسنا علم الله له بأهل ولا كفؤ، ولكن الله كريم يجود بالخير على المقصرين، ويثيب على ذلك بالثواب المضاعف الجزيل، ولولا ذلك لما تجشمناه حتى صار مولوداً.
نسأله عزَّ وجلَّ أن يقبله، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به عموم الخلق في شتى الأقطار والديار، وأن يعفو عنا ما وقع فيه من زلل وخطأ ونقص غير مقصود، سببه الجهل والقصور البشري الذي طبع الله عليه كل إنسان.
ونسأله سبحانه أن يمحو زللنا بعفوه.. ويتجاوز عن سيئاتنا بمغفرته، وأن يعاملنا بإحسانه لا بعدله، إنه جواد كريم.
ووددت أني خليت بين المطي وحاديها.. وتركت القوس وباريها.. وما تجهمت ما لست له بأهل.. وما ليس لي فيه ناقة ولا جمل.. ولكني رأيت سوق الباطل رائجة، وساحة الحق راكدة، فألقيت حسب استطاعتي بذرة طيبة.. في أرض زاكية.. لعلها تؤتي أكلها كل حين.. حتى يبعث الله من يزرع البساتين.. ويفجر الأنهار في العالمين.
ولولا واجب النصيحة، وأداء للأمانة، وخوفاً من كتمان العلم عن طالبيه والراغبين فيه، لما تجشمنا لك ما بين يديك، ولسعينا في كسب الأجور من أبواب أخرى، سهلة المرتقى، سهلة الأداء، ولا يلحقها تبعات.(1/25)
وما نرجوه بأداء الأمانة النجاة والسلامة: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 159، 160].
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرقينا وإياكم من العلم إلى العمل، ومن الوصف إلى الاتصاف، وأن يزينّا بزينة الإيمان، ويرزقنا عالي الجنان.
وما أودع بفضل الله في هذه الموسوعة من الجواهر والنفائس، فللقارئ غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وله ثمرته ومنفعته، ولصاحبه كدره ومشقته، مع تعرضه لطعن الطاعنين، وسهام الراشقين، وأستعذر إلى الله من الزلل والخطأ، ثم إلى عباده المؤمنين، والله المستعان، وعليه التكلان.
وكل ما نرجوه بهذا العمل أن يعرف الناس ربهم.. ويعرفوا حقه.. ويعبدوه حق عبادته.. ويطيعوا الله ورسوله.. ويسيروا على هداه.. ليفوزوا برضاه، ويدخلوا الجنة.
نسأل الله الملك الوهاب أن ينفع به عموم الناس في سائر الأقطار، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
ولا ندعي أن هذا الكتاب نور يبدد كل الظلمات.. ولا بستان فيه من كل الثمرات.. فهو وإن كان فيه بعض ذلك.. إلا أنه يبقى جهد مخلوق ضعيف ظلوم جهول، يسر الله له وضع أساسه، حتى يأتي من يكمله إلى شرفاته.
ولولا فضل الله ورحمته ما ظهر لك نوره، وإن كانت بين يديك سطوره، ولكن نسأله سبحانه أن يجعله قبساً من نور، وشجرة مباركة تثمر على مر الدهور، وشمساً تضيء على مر العصور، ونهراً يشرب منه كل عطشان في كل زمان ومكان، ومعولاً يتصدع به جدار الباطل، وتتهدم به حصون الشهوات والشبهات والشكوك.
فيزداد المؤمن الموحد إيماناً، فيعظم ربه كثيراً، ويذكره كثيراً، ويحمده كثيراً.
ويحصل للكافر الإيمان بعد الكفر، واليقين بعد الشك، والهدى بعد الضلال.
ويقبل العاصي على ربه فرحاً مسروراً، وعلى معاصيه نادماً، وإلى طاعة ربه مسارعاً.
وفي الختام أحمد ربي وأشكره على جزيل نعمه، وأستغفره من كل زلل وخطأ وقع في بعض المسائل المسطورة من غير قصد، إنه هو الغفور الرحيم.(1/26)
وأعوذ بالله العلي العظيم من شر كل حاسد يريد أن يطفئ نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
ونعوذ بالله من شر كل جاهل غشوم.. ومن شر كل حاسد إذا حسد.. ومن شر النفاثات في العقد.. ومن شر كل ما خلق.. ومن شر ساكن البلد.. ومن شر كل والد وما ولد.
ونعوذ به سبحانه أن نقول زوراً، أو نغشى فجوراً، أو نقول على الله بلا علم، أو ندعو إلى غير الحق، أو نقول ما لا نفعل.
ونعوذ بالله ممن جعل الملامة بضاعته، والعذل نصيحته، فهو دائماً يبدي في الملامة ويعيد، ويكرر العذل فلا يفيد ولا يستفيد.
وعياذاً بك اللهم من كل شيطان في جثمان إنسان، ومن كل عدو في صورة ناصح، ومن كل لئيم في صورة كريم، ومن كل سبع ضارٍ في صورة إنسان بار.
فالله سبحانه قد ركب في النفس الإنسانية قوىً مختلفة:
فمنها قوة العدل الذي يزين لها الإنصاف، ويحبب إليها موافقة الحق.
ومنها قوة الغضب والشهوة اللذان يزينان لها الجور والظلم، ويعميانها عن طريق الرشد.
ومنها قوة الفهم الذي يليح لها الحق من قريب، وينير لها ما في الظلمات، فترى الحق واضحاً جلياً.
ومنها جهل يطمس عليها الطريق، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتقلب، ويهجم بها على الطرق المجانبة للحق والهدى.
ومنها قوة التمييز الذي به تفهم الخطاب، وتعرف به الأشياء على ما هي عليه.
ومنها قوة العقل الذي يعين النفس المميزة على نصرة العدل، وإيثار الحق، وكراهية الباطل، ورفض ما قاد إليه الجهل والشهوة، والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية.
وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
ومن عثر على شيء مما طغى به القلم، أو زلت به القدم، فليبادر إلى النصيحة.. ويدرأ بالحسنة السيئة.. ويعفو ويصفح عن عثرات الضعاف.. ويحضر بقلبه أن الإنسان مهما كان هو محل الخطأ والنسيان، والضعف والنقصان.. وأن الحسنات يذهبن السيئات.. والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.(1/27)
واحذر من الشيطان أن ينقلك من روضة الدعاء والنصيحة إلى بحر العداوة، وسكين الغيبة والنميمة، وسوء الظن، فتلدغ لدغ العقرب، وتلسع لسع الحية، وتنهش نهش الأسد.
وتقذف بهذه السموم في مقال مقروء، أو بيان متلو، يوهمك الشيطان أنك ناصح، ويركبك وأنت لا تدري، ويسوقك إلى جهنم بعصا الكبر والخديعة، لتقول على لله بلا علم، وتذم الخلق بما ليس فيهم، فتزيد آثامك، ويأخذ الناس حسناتك، وتقدم على الله مفلساً نادماً.
وكل ما نرجوه ونسعى إليه.. أن يرضى الله عنا وعن جميع الخلق.. وأن يستعملنا فيما يحبه ويرضاه.. وأن يرزقنا جميعاً الاستقامة على عبادته وطاعته والعمل بشرعه.. وأن يدخل الناس في دين الله أفواجاً.. ويعرفوا ربهم.. ويتعلموا أحكام دينهم.. ويعبدوا ربهم مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.. وأن يرزقنا بعد ذلك الجنة.. في مقعد صدق عند مليك مقتدر: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 88].
هذا وإني ذاكر وشاكر لكل مخلص وناصح من المؤمنين والمؤمنات، وراغب إليهم أن يستفيدوا من هذا الروض المبارك، الذي وفقنا الله لجمعه من أقوال علماء سلف الأمة عليهم رحمة الله، جمعنا فيه ما تفرق في غيره من فقه القلوب، من التوحيد والإيمان، والأعمال والأخلاق، وفقه الدنيا والآخرة.
فخرج الكتاب بفضل الله وعونه مملوءاً بالخيرات.. محبباً للطاعات.. دافعاً للشبهات.. مرغباً في الصالحات.. متوجاً بالآيات القرآنية.. مزيناً بالأحاديث النبوية.
يستريح المسلم في ظلاله، ويأكل من ثماره، ويقدم على مولاه بما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأعمال والأخلاق.
وما بي أن أثني على الكتاب، فليس لي حق في ذلك، ولكنه الترغيب والتشويق حتى يركض الفارس في الميدان، ويسارع لطاعة ربه الرحمن، ثم يحكم بما ظهر له وبان، ويستقيم على ما يحبه ربه ويرضاه مع السابقين الأبرار.
وذلك ما نتمناه ونحبه لكل إنسان من بني آدم في مشارق الأرض ومغاربها، على مر الأيام والدهور.(1/28)
فالحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.. والحمد لله على كل حال.. والحمد لله الذي يسر الجمع والتأليف.. وبعث الهمة لذلك.. وشرح الصدر للبدء والختام.
وقد جاء الكتاب بفضل الله وحده جامعاً نافعاً، لكل قوم منه نصيب، ولكل وارد منه مشرب، فإن عدم منك حمداً وشكراً، فلا يعدم منك مغفرة وعذراً، فكلنا مطبوع على الخطأ، وخير الخطائين التوابون.
وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، وكلنا ظلوم جهول، ولله يعفو عنا وعنكم، والله سبحانه وحده الذي استأثر بالكمال والجمال، واختص بالحمد والثناء، وهو يقول الحق ويهدي السبيل، وهو عالم السر والخفيات، ودافع الشر والبليات.
نحمده جل وعلا على آلائه وإنعامه وإحسانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السموات والأرض وما بينهما، حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه.
ونستغفره عزَّ وجلَّ من كل ما زلت به القدم، أو طغى به القلم.. ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا.. ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه ثم خالطه غيره.. ونستغفره من كل وعد وعدناه من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به.
ونستغفره سبحانه من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته.. ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف أمام الناس.
ونرجوه بعد الاستغفار من ذلك كله أن يغفر لنا ولوالدينا، وأزواجنا وذرياتنا، ولمن طالع كتابنا هذا أو سمعه أو نشره، ولكل مسلم ومسلمة، وأن يتجاوز عن سيئاتنا جميعاً، إنه جواد كريم.
كما نرجوه سبحانه أن لا يعاملنا بما نستحقه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا وأعمالنا طرفة عين، وأن يتفضل علينا بما هو أهله من جوده وكرمه ورحمته، إنه شكور حليم غفور رحيم.(1/29)
اللهم كما بعثت الهمة لتأليفه وجمعه.. ووفقتنا لعرضه ونشره.. فأسألك اللهم بأسمائك الحسنى.. وصفاتك العليا.. وبكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وأن تتقبل هذا العمل، وتكتب له الأثر في القلوب، وتشرح له الصدور.
وأن تحرك بما فيه من خير ألسنة العباد بذكرك وشكرك، وتعليم شرعك، والدعوة إلى دينك، وتملأ قلوبهم بتعظيمك وتكبيرك وحمدك، وتزين جوارحهم بعبادتك وطاعتك، وفعل كل ما يرضيك.
فأنت أحق مَن عُبد.. وأحق من شكر.. وأرحم من ملك.. وأجود من سئل.. فلك الحمد في الأولى والآخرة.. ولك الشكر على عظيم نعمك، وجزيل عطائك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على هديهم إلى يوم الدين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
المملكة العربية السعودية: بريدة
0555144300- 0504953332
الباب الأول
فقه أسماء الله وصفاته
1- فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 19].
وقال الله تعالى: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 98، 99].
العلم بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم وأجلها وأعظمها على الإطلاق.
والعلم بالله تبارك وتعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما عرف من أسمائه وصفاته على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام، وعلى ما يأمر به من السنن والآداب، لأنه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته.
فأفعاله كلها دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة.
والإيمان بالله أحد أركان الإيمان، بل هو أفضلها وأصلها، وأعظمها، وليس الإيمان مجرد قول باللسان من غير معرفة بالرب وأسمائه وصفاته.(1/30)
بل حقيقة الإيمان: أن يعرف العبد الرب الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة آلائه وإحسانه، حتى يبلغ درجة اليقين، وكلما ازداد معرفة بربه زاد إيمانه، وكلما نقص نقص إيمانه.
والله عزَّ وجلَّ خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه ويوحدوه، وهذه هي الغاية المطلوبة منهم، فالاشتغال بذلك اشتغال بما خلق له العبد، وتركه إهمال لما خلق له.
ولا يليق بالعبد الذي لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه، أن يكون جاهلاً بربه، معرضاً عن معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.
إن معرفة الله تبارك وتعالى تدعو إلى محبته وتعظيمه، وخوفه ورجائه، وخشيته، وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد.
ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، وفقه معانيها.
والاشتغال بهذا العلم، وبذل الجهد لفهمه، والبحث التام عنه، اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أعظم وأشرف المواهب.
فينبغي للعبد أن يعرف أن ربه هو الواحد الأحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله: ( ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11]
وأنه سبحانه الرب... وكل ما سواه مربوب
وهو الملك... وكل ما سواه مملوك
وهو الخالق... وكل ما سواه مخلوق
وهو القوي... وكل ما سواه ضعيف
وهو العزيز... وكل ما سواه ذليل
وهو الغني... وكل ما سواه فقير
وهو الرزاق... وكل ما سواه مرزوق
فله سبحانه الاسماء الحسنى، والصفات العلى، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعالة: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 23].
وله جل جلاله صفات الكمال.. وصفات الجلال.. وصفات الجمال (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 24].
وهذه المعرفة هي غذاء القلوب، وبها تزكو النفوس، وتطمئن القلوب، وتنشط لطاعة الله بذكره ومحبته وعبادته، وتعظيمه وتكبيره، وحمده وشكره.
2- فقه عظمة الرب(1/31)
قال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
الله تبارك وتعالى هو العظيم في ذاته، العظيم في أسمائه، العظيم في صفاته، العظيم في خلقه وأمره، العظيم في دينه وشرعه، العظيم في ملكه وسلطانه.
وهو سبحانه العظيم الذي خلق المخلوقات، وأوجد الموجودات، وصور الكائنات، وخلق الأرض السموات.
وهو سبحانه القدير الذي قدر الأقدار في السموات والأرض، وكل شيء عنده بمقدار: (ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الرعد: 9].
وهو سبحانه القوي الذي خضعت الأعناق لعظمته، وخشعت الأصوات لهيبته، وذل الأقوياء لقوته، وقهر الخلائق بقدرته.
وهو سبحانه الملك المتفرد بالخلق والإيجاد، والتصريف والتدبير، كل يوم هو في شأن، يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويرفع ويخفض، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
وهو سبحانه الغني الذي يرزق الخلائق، ويهب الأولاد، ويقسم الأرزاق، ويرسل الرياح، وينزل المياه، ويجيب المضطر، ويكشف السوء، ويطعم الخلق، ويدبر الأمر.
يفعل ذلك كله متى شاء.. وفي أي وقت شاء.. وبأي قدر شاء.
وهو سبحانه الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، الجبار الذي قهر الجبابرة بجبروته، وعلاهم بعظمته، القاهر فوق عباده، القاهر لهم على ما أراد، الفعال لما يشاء.
وهو سبحانه القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، ولا يغلبه شيء، ولا يعزب عنه شيء، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، المحيط بكل شيء، العالم بكل شيء، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.(1/32)
حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه: ( ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].
له الخلق والأمر، وأمره بين الكاف والنون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
والله تبارك وتعالى له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو الغني الذي له خزائن السموات والأرض، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
مالك الملك، يعز من يشاء، ويذل من يشاء: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 26، 27].
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، لا إله غيره ولا رب سواه، مالك كل شيء، ورب كل شيء.
له وحده ربوبية الخلق والإيجاد والتدبير: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].
وله وحده ربوبية التعليم والإرشاد: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [العلق: 1-5].
وله وحده ربوبية التمليك والإمداد: (? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 29].
وله وحده ربوبية التسخير: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 20].
وله وحده ربوبية التكريم والاستخلاف: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 165].
فما أعظم هذا الرب العظيم الكريم الرحيم الذي هذا فعله.. وهذا خلقه.. وهذا فضله.. وما أكرمه.. وما أرحمه بعباده.
وهذا عطاؤه في الدنيا لمن أطاعه وعصاه، ومن آمن به ومن كفر به، فكيف يكون عطاؤه وإكرامه في الآخرة لأهل طاعته؟.
(? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
وكيف يكون عذابه وجزاؤه في الآخرة لمن عصاه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 14].(1/33)
وهو سبحانه العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، والعظمة والكبرياء من خصائص الرب عزَّ وجلَّ، والكبرياء أعلى من العظمة، ولهذا جعلها سبحانه بمنزلة الرداء، كما جعل العظَمة بمنزلة الإزار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ» أخرجه مسلم(1).
والله جل جلاله عظيم لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 103].
وحين جاء موسى صلى الله عليه وسلم لميقات ربه، تشوفت روحه واشتاقت نفسه لرؤية ربه، فطلب من ربه أن ينظر إليه، فأعلمه الله أنه لا يطيق أن يراه، وأمره أن ينظر إلى الجبل الذي هو أمكن وأثبت وأكبر من الإنسان، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً.
ومن رهبة الموقف خرّ موسى صعقاً، فغُشي عليه، وغاب عن وعيه كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 143].
سبحانك تنزهت وتعاليت أن تُرى بالأبصار وتُدرك، تبت إليك من تجاوز المدى في سؤالك، وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك، وبما أنزلته من كلمات.
والله سبحانه هو الخلاق العليم، الذي خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، وخلق الليل والنهار، وخلق البر والبحر، وخلق السهول والجبال، وخلق الإنس والجن، وخلق الروح والملائكة، وخلق الجبال والرياح: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].
والله عزَّ وجلَّ خالق كل شيء، خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش، وهو مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه، ويسمع كلامهم، ويعلم أحوالهم، ويدبر أمورهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 7].
فهذه المعية العامة لعموم الخلق.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2620).(1/34)
أما المعية الخاصة فهي لعباده المؤمنين، وتكون بالنصرة لهم، والتأييد والمعونة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل:128].
وهو سبحانه العلي العظيم، الذي علوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل عُلُوَّه، وكلاهما حق، فمعيته لعموم العباد بالعلم والإحاطة، ومعيته للمؤمنين معية القرب التي تتضمن الموالاة والنصر، والحفظ والإعانة.
والله جل جلاله هو مالك الملك وحده، ومالك الكون بلا شريك، يُملِّك من شاء من ملكه تمليك العارية، يستردها مالكها ممن يشاء، عندما يشاء، فليس لأحد مُلكية أصيلة يتصرف فيها على هواه، إنما هي ملكية معارة له، خاضعة لشروط المملِّك الأول وتعليماته، فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً حسناً موافقاً لأمر الله أسعده الله في الدنيا والآخرة.
وإن تصرف في الملك تصرفاً سيئاً مخالفاً لأمر الله وقع هذا التصرف باطلاً، يحاسب ويعاقب عليه ممن ملّكه إياه.
والله وحده هو الذي يدبر أمر الكون كله، وأمر البشر كلهم، في كل مكان، وفي كل زمان: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 26، 27].
والله سبحانه بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، فالخسوف والكسوف، والبراكين والزلازل، والرياح والعواصف، وسائر القوى الكونية كلها بيد الله وحده، وليس في أيدي البشر منها شيء، وكل ما يبنيه الناس على ظهر الأرض تذهب به رجفة من رجفاتها، أو إعصار من أعاصيرها بأمر الله الواحد القهار.
إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبه الله من القوة، عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم، ولكن هذا الكون الهائل زمامه بيد خالقه، وقواه من إمداده، وهذه القوى تسير وفق أمره سبحانه، ويقف الإنسان أمام قوى الكون الهائلة مكتوف اليدين حسيراً، ليس له إلا أن يتذكر خالق هذه القوى، ويتطلع إلى عونه في مواجهتها.(1/35)
وحين ينسى الإنسان هذا، ويغتر وينخدع بما قسم الله له من العلم والقدرة على تسخير بعض قوى الكون، فإنه يصبح مخلوقاً مسيخاً مقطوعاً عن العلم الحقيقي، ويخلد إلى الأرض، بينما العالم المؤمن كله راكع لربه الجليل.
إن جميع قوى الكون الهائلة تلجئ الإنسان الجاءً إلى موقف العجز والتسليم للخالق العظيم.
إن الله مالك الملك، استخلف هذا الإنسان في هذه الأرض، ووهبه من القوة والقدرة والعلم ما يشاء، والله كالئه وحاميه، والله رازقه ومعطيه، ولو تخلت عنه يد الله لحظة لسحقته أقل القوى المسخرة له، ولأكله الذباب، وما هو أصغر من الذباب، ولكنه بإذن الله مكلوء محفوظ مكرم من بارئه وفاطره.
والله تبارك وتعالى هو العظيم وحده، والعظيم هو الموصوف بكل صفة كمال، ولا يستحق ذلك إلا الله وحده.
ومن عظمته سبحانه أن السموات السبع والأرضين السبع في يد الرحمن أصغر من الخردلة، فهو سبحانه العظيم الذي يستحق من عباده أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، وذلك لا يكون إلا بعد معرفته بأسمائه وصفاته.
ومن تعظيمه سبحانه أن يُتقى حق تقاته، فيُطاع ولا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
ومن تعظيمه سبحانه تعظيم كل ما شرعه من زمان ومكان وأقوال وأعمال: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 32].
ومن تعظيمه سبحانه ألا يعترض على شيء مما خلقه وشرعه، ولا على شيء مما قضاه وقدره، ولا على شئ مما أحله وحرمه.
ومن تعظيمه سبحانه توقير رسله، والعمل بما جاءوا به.
ومن تعظيمه سبحانه تعظيم حرماته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 30].
ومن تعظيم الله معرفة عظمته وجلاله، وجبروته وكبريائه، وآلائه وإحسانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
ومن تعظيمه سبحانه عبادته وحده لا شريك له: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].
والذي يُّحمد ويُمدح ويعظّم في الدنيا لأحد وجوه أربعة:(1/36)
إما لكونه كاملاً في ذاته وأسمائه وصفاته، منزهاً عن النقائص والآفات.. وإما لكونه محسناً إليك.. وإما لكونك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل.. وإما لأنك خائف من قهره وقوته وكمال سطوته.
فهذه الجهات الموجبة للتعظيم بين البشر.
والله وحده هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته، وهو المحسن إلى جميع خلقه، وهو الذي يرجى دوام إحسانه، وهو القاهر فوق عباده، القاهر لجميع مخلوقاته.
فحقه سبحانه أن يُعبد وحده لا شريك له، وأن يُطاع أمره، وأن تُطاع رسله، وأن يُعمل بشرعه، وأن يُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 71].
وإذا أردت أن تقف على معرفة شيء من مبادئ عظمة الله وجلاله وكبريائه، فانظر في آياته ومخلوقاته في السماء والأرض، فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق سبحانه، واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام وعالم الأرواح، وعالم الغيب، وعالم الشهادة، وما تبصره، وما لا تبصره، وما خلقه الله في الدنيا، وما خلقه الله في الآخرة.
وذلك بأن تبدأ من نفسك فتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة، والظاهرة والباطنة، وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية التي وهبك الله سبحانه.
ثم استحضر في عقلك جميع ما في هذا العالم من أنواع المعادن والتراب، والنبات والحيوان، والإنس والجان.
ثم ضم إليه ما خلق الله سبحانه من البحار والجبال، والمفاوز والتلال، وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء.
ثم ترقَّ منها إلى بحر الهواء وما فيه من الطيور السابحات كما تسبح الأسماك في بحر الماء، غادية ورائحة، صاعدة وهابطة.
ثم ترقَّ منها إلى السماء الدنيا، وانظر إلى عظمتها وجمالها واتساعها، وكيف زينها الله عزَّ وجلَّ بالنجوم والكواكب المنثورة التي لا تحصى، فهل ترى فيها من فطور: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [ق: 6].
ثم ترقَّ من سماء إلى سماء لترى عظمة صنع الله الذي أتقن كل شيء.(1/37)
ثم ترقَّ بعقلك وفكرك حتى تصل إلى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، وما يطوف به من الملائكة، واللوح والقلم، والجنة والنار، والعرش والكرسي ترى مَلكاً لا أعظم منه، ومُلكاً لا أعظم منه، وخلقاً لا أعظم منه.
ثم انتقل من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح، واستحضر في عقلك جميع الأرواح العلوية والسفلية، البشرية وغير البشرية.
ثم استحضر جميع الأرواح المتعلقة بالوحي والنبات والجبال والبحار والمياه والأرحام والأقوال والأفعال.
ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا، وملائكة جميع السموات السبع، تجد ما في السموات السبع موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد لربه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 19، 20].
ثم استحضر جميع الملائكة الذين يطوفون بالبيت المعمور فوق السماء السابعة، ولكثرتهم من طاف به منهم لا يعود إليه.
ثم استحضر ملائكة الجنة، وخزنة النار، وكثرتهم وعظمة خلقهم.
ثم استحضر جميع الملائكة المقربين، والحافين حول العرش، وجميع حملة العرش، وانظر إلى عظمتهم، وعظمة العرش الذي يحملون، وعظمة التسبيح والتقديس الذي به يتلذذون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
والعرش أعظم المخلوقات وأعلاها وأوسعها، وما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة، والعرش لا يقدر قدره أحد، ولا يعرف عظمته إلا الذي خلقه، والله بعظمته وجلاله وكبريائه مستوٍ على العرش بأعظم الصفات وأوسعها وهي صفة الرحمة كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ) [طه: 5].(1/38)
وإذا عرفنا أن عظمة العرش في مقابل عظمة الله كالذرة بالنسبة للجبل، علمنا أن خالق هذا الكون، وفاطر هذا العالم، هو الله العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، الغني الذي لا أغنى منه، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
فأعظم الطاعات معرفة الله سبحانه، وعبادته وحده لا شريك له، وحسن الظن به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 19].
وأعظم المعاصي الجهل بالله عزَّ وجلَّ، وسوء الظن به، فالمسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، فأي ضلال وجهل وسوء فوق هذا؟.
ولهذا توعد الله سبحانه هؤلاء بما لم يتوعد به غيرهم: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الفتح: 6].
وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لقومه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [الصافات: 85-87].
أي فما ظنكم بربكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟.
وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟.
وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبادة غيره؟.
فلو ظننتم به ما هو أهله سبحانه من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، لما عبدتم معه غيره.
ولو علمتم أن الله قائم بالقسط على خلقه وحده، وأنه المتفرد بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور كلها فلا يخفى عليه خافية من خلقه، لما عبدتم معه غيره.
ولو علمتم أن الله وحده هو الكافي لعباده فلا يحتاج إلى معين، وهو الرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، لما توكلتم إلا عليه، ولما عبدتم معه غيره.
إن الملوك والرؤساء والأمراء لعجزهم وجهلهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، وإلى من يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يستعطفهم ويسترحمهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم.(1/39)
أما القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه ينقص بحق ربوبيته وألوهيته وتوحيده وكماله، وظن به ظن السوء.
إن الله تبارك وتعالى وحده هو الرب العظيم، الذي يستحق لذاته كمال التعظيم والإجلال، وكمال التأله والخضوع، وهذا خالص حقه سبحانه.
فمن أقبح الظلم أن يُعطى حقه لغيره، أو يُشرك معه فيه غيره، لا سيما إذا كان الذي جُعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الروم: 28].
فما قدر الله حق قدره من جهل عظمته وقدرته وكبرياءه، وأشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه.
وما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
وما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره ممن لا يقدر على خلق شيء، ولا خلق أضعف شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحج: 73، 74].
وما قدر الله حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل عليهم كتاباً، بل نسبه إلى ما لا يليق به، ولا يحسن به، من إهمال خلقه، وإضاعتهم وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الأنعام: 91].
ولا قدر الله حق قدره من جعل له صاحبةً وولداً، أو جعله سبحانه يحل في مخلوقاته، أو نسبه إلى الفقر، وهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض.
ولم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين من أجله المشاق بأفضل كرامته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الروم: 27].(1/40)
ولم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، وهان عليه نهيه فارتكبه، وهان عليه حقه فضيعه، وهان عليه ذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه فلم يذكره، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق عنده أهم من طاعته، يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو في قبضته، وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل جوارحه وقلبه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [نوح: 13- 16].
وما قدر الله حق قدره من يستحي من الناس، ولا يستحيي من الله، فيسكن في أرضه، ويأكل من رزقه، ويبارزه بالمعاصي ليلاً ونهاراً.
ولا قدر الله حق قدره من يخشى الناس ولا يخشى الله، فيخاف من العاجز الذليل، ولا يبالي بالقوي العزيز الذي له ملك السموات والأرض.
ولا قدر الله حق قدره من يعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، ويعامل الله بأهون ما عنده، إن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد والإتقان، وإن قام في حق ربه قام قياماً لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يعطيه مخلوقاً مثله.
فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟
وهل قدر الله حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه، من الإجلال والتعظيم، والطاعة والمحبة، والخضوع والذل، والرجاء والخوف؟.
فلو جعل لله من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك، لكان ذلك جرأةً وتوثباً على محض حقه، واستهانةً به، وتشريكاً بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه.
فكيف إذا أشرك بينه وبين أبغض الخلق إليه، وأهونهم عليه، وأمقتهم عنده، وهو الشيطان الذي حذرنا الله منه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [يس: 60، 61].
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الغني عما سواه.
وسبحان الذي له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير.
وسبحان من بيده الإيجاد والإنشاء، والإماتة والإحياء، والإعادة والإبداء، وكل يوم هو في شأن.(1/41)
وسبحان العظيم الذي خلق العظمة والقوة في جميع المخلوقات، فكل عظمة وقوة في المخلوقات كالعرش والكرسي والسموات والأرض، والجبال والبحار، والإنسان والحيوان، وكافة المخلوقات فمن عظمته وقوته سبحانه.
وعظمة جميع الكائنات بالنسبة لعظمته كالذرة بالنسبة للجبل وخزائنة مملوءة بكل شيء لا تنقص مع كثرة الإنفاق.
فهو سبحانه العلي العظيم الذي لا عظيم سواه، ولا منتهى لعظمته وجلاله وكبريائه الذي «يُمْسِكُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أنَا الْمَلِكُ» متفق عليه (1).
وهو سبحانه العظيم.. الذي خلق كل عظيم.. المالك لكل عظيم.. وخزائنه مملوءة بكل عظيم: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
واذا عرف الإنسان أن ربه العظيم بيده كل شيء أحبه وعظمه.. وتوكل عليه.. وخافه ورجاه.. وأقبل على طاعته.. واجتنب معاصيه.. وتلذذ بعبادته: (ک ک ک ک گ گ گ گ) [يونس: 3].
3- فقه قدرة الرب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة:120].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [البقرة: 148].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [الملك: 1].
الله جل جلاله هو الخالق الذي خلق المخلوقات، المصور الذي صور الكائنات، القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، العالم بكل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12]
وهوسبحانه القادر الذي خلق جميع المخلوقات، القدير الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، المقتدر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
__________
(1) متفق عليه أخرجه البخاري برقم (4811) ومسلم برقم (2786) واللفظ له.(1/42)
وكل ما نراه في الكون من آثار قدرته: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [ق: 6- 8].
وهو سبحانه القادر على كل شيء، الحكيم في خلقه وأمره، الذي يفعل ما يشاء بقدرته وهو الصمد.
كبر بعض المخلوقات كالعرش والكرسي، والسموات والأرض.
وصغر بعضها كالذرة والبعوضة، والنملة والنطفة.
وجعل لكل من الصغير والكبير حكمة، وفي كل منهما آية وعبرة.
وكثّر سبحانه بعض المخلوقات كالتراب والنبات والذرات، وقلّل بعضها كالذهب والفضة، والمعادن.
وجعل سبحانه لكل من الكثير والقليل حكمة، وفي كل واحد منهما آية وعِبرة.
وقوّى سبحانه بعض المخلوقات كجبريل الذي خلق الله له ستمائة جناح، جناح منها يسد الأفق، وأَضعف بعض المخلوقات كالإنسان والبعوض.
وله سبحانه في خلق القوي والضعيف حكمة، وفي كل منهما آية وعبرة.
وهو سبحانه القادر الذي رفع بعض المخلوقات كالعرش والكرسي والسموات والجبال والأشجار، ووضع بعضها كالأرض وما فيها وما عليها، والبحار والأنهار.
وهو سبحانه القادر الذي جمع بعض المخلوقات كالجبال والبحار، وفرق بعضها كالنجوم والرمال، والثمار والأوراق.
وهو سبحانه العليم القدير الذي أظهر بعض مخلوقاته وأخفى بعضها.. فأظهر الدنيا وأخفى الآخرة.. وأظهر الأبدان وأخفى الأرواح.. وأظهر الأجساد وأخفى العقول.. وأظهر قيمة الأشياء وأخفى قيمة الأعمال.. وأظهر المخلوقات وحجب نفسه عن خلقه.
فسبحان الخلاق العليم الذي فاوت بين مخلوقاته، فخلق الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والثقيل والخفيف، وأحيا بعضها وأمات بعضها، وخلق المخلوقات وفرقها في ملكه في السماء والأرض.
ففي البر خلائق لا تحصى، وفي الجو خلائق لا تحصى، وفي البحر خلائق لا تحصى، وفي السماء خلائق لا تحصى.(1/43)
وفاوت القدير العليم بين صفاتها فمنها ثابت لا يتحرك، ومنها متحرك لا يسكن، ومنها حار وبارد، وأبيض وأسود، وناطق وصامت، ورطب ويابس، وعذب وملح، ولين وخشن، وسائل وجامد.
وأحياء لا تعيش إلا في البحار ولو خرجت لماتت، وأحياء لا تعيش إلا في البر ولو أدخلت البحر لماتت، وملائكة يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 11].
وهو سبحانه الخلاق العليم الذي خلق الرياح الشديدة، والصواعق المهلكة، والزلازل المدمرة، والبراكين المفزعة، والخسوف التي تبلع الأشجار والبيوت والبشر، يصيب بها من يشاء، ويصرفها عمن يشاء، من مؤمن وكافر، ومحسن وظالم: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [العنكبوت: 40].
وخلق سبحانه الجنة وما فيها من النعيم لأهل طاعته، وخلق النار وما فيها من العذاب لأهل معصيته، وخلد هؤلاء وهؤلاء.
والله سبحانه على كل شيء قدير، وقدرته مطلقة.
أحياناً يفعل بالأسباب كما جعل الماء سبباً للحياة، والوطء سبباً للإنجاب.. وأحياناً يظهر قدرته سبحانه بضد الأسباب كما جعل سبحانه النار برداً وسلاماً على إبراهيم.. وأحياناً يظهر قدرته بدون الأسباب كما خلق السموات والأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
فسبحانه ما أعظمه من إله، وما أعظم قدرته، وما أكرمه، وما أحلمه.
فيا أيها الإنسان: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الأعلى: 1-5].
إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، الخلق خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، وهو الفعال لما يريد.
خلق الماء والنار، وجعل وظيفة الماء الإرواء والإحياء والإغراق، وجعل وظيفة النار الإنارة والإنضاج والإحراق.(1/44)
وإذا اجتهد الإنسان على الإيمان، وقام بالأعمال الصالحة، وجاء عنده كمال الإيمان والتقوى، فالله يسخر له المخلوقات، ويغير أحوالها بقدرته، فيجعل النافع ضاراً بقدرته، كما جعل الماء الذي هو سبب الحياة سبباً لهلاك فرعون وقومه، وسبباً لنجاة موسى وقومه، في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد.
وكما جعل الماء سبباً لنجاة نوح ومن آمن معه، وسبباً لهلاك قوم نوح في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد.
وهو سبحانه قادر على جعل الضار نافعاً كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وكما ربى موسى صلى الله عليه وسلم في قصر عدوه فرعون.
والله عزَّ وجلَّ خلقنا وخلق الدنيا، واستخلفنا فيها لينظر كيف نستخدمها؟.
هل نستخدامها حسب أوامر الله؟.. أم نستخدمها على حسب هوى النفس والشيطان.
فاستخدامها حسب أمر الله عزَّ وجلَّ يأتي بعده الابتلاء، ثم السعادة في الدنيا والآخرة واستخدامها حسب مراد النفس والشيطان يأتي بعده الشقاء في الدنيا والآخرة. كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 123- 124].
والله جل جلاله هو القوي العزيز، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، يقدم من يشاء، ويؤخر من يشاء، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، ويكرم من يشاء، ويهين من يشاء، ويفعل ما يشاء، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
يعز سبحانه بأسباب الذلة كما أعز موسى صلى الله عليه وسلم وأذل فرعون، وكما أعز محمداً صلى الله عليه وسلم وأذل قريشاً.
ويذل سبحانه بأسباب العزة كما أذل فرعون مع ملكه، وأذل قارون مع ماله.
ويرحم سبحانه بأسباب العذاب كما أنجى الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النار.
ويعذب بأسباب الرحمة كما دمّر عاداً بالريح العقيم، وأغرق قوم نوح بالماء.(1/45)
وينجي سبحانه بأسباب الهلاك كما أنجى الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النار، وأنجى يونس صلى الله عليه وسلم في بطن الحوت.
ويهلك سبحانه بأسباب النجاة كما أهلك فرعون وقومه في طريق البحر اليابس الآمن حين تبعوا موسى صلى الله عليه وسلم .
ويحفظ سبحانه بأسباب الهلاك كما أنجى موسى من الغرق حين ألقي في البحر في التابوت، وحين رباه في بيت عدوه فرعون.
ويهلك سبحانه بأسباب الحفظ كما أهلك قوم ثمود في بيوتهم بالصيحة.
والله تبارك وتعالى له قدرة... وله سنة:
فبقدرته سبحانه خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، وخلق الجنة والنار، وخلق الدنيا والآخرة.
خلق الدنيا للابتلاء والزوال والعمل، وخلق الآخرة للبقاء والأبد، وخلق الجنة للنعيم، وخلق النار للعذاب.
وسنن الله نوعان:
سنن كونية.. وسنن شرعية.
فسنة الله الكونية أن يخرج بأمره سبحانه النور من الشمس، ويخرج الثمر من الشجر، ويخرج الولد من الرحم، والماء من السحب، والكلام من اللسان، والحليب من البقر، والعسل من النحل وهكذا، فهو سبحانه الخالق وما سواه مخلوق، وقدرته مخفية وراء الأسباب: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].
وسنة الله الشرعية أن من آمن وعمل صالحاً أدخله الله الجنة، ومن كفر أدخله الله النار، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن أطاع الله ورسوله سعد في الدنيا والآخرة، ومن عصى الله ورسوله شقي في الدنيا والآخرة.
والله عزَّ وجلَّ خلق الكون بقدرته، ونظمه وسيره بسننه الكونية والشرعية، فتعودنا على السنن الجارية، وغفلنا عن قدرة الله المطلقة، وقدرته سبحانه فوق سنته، ومن قدرته سبحانه يستفيد المؤمنون خاصة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 96].(1/46)
وكل ما خلقه الله في هذا الكون من كبير وصغير، وناطق وصامت، وكل متحرك وساكن، وكل معلوم ومجهول، وكل حاضر وغائب، خلقه الله بقدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد وظيفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [القمر: 49]
وفوق هذا التقدير قدرة الله المطلقة، التي يفعل بها ما يشاء في ملكه، والتي تفعل أعظم الأحداث بأيسر أمر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ) [القمر: 50].
فهي كلمة واحدة من الله يتم بها كل أمر، الصغير والكبير على حد سواء، واحدة تنشئ هذا الوجود العظيم، وواحدة تبدل وتغير فيه، وواحدة تذهب به كما يشاء الله، وواحدة ترده إلى الموت، وواحدة تبعثه في صورة من الصور، وواحدة تبعث الخلائق جميعاً، وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 28].
وسنة الله جارية أن الإنسان إذا تأثر بالشيء جعل الله هذا الشيء فوق رأسه، وسلطه عليه وأذله به، وإذا تأثر بخالق الشيء سبحانه ولم يتأثر بالشيء، فإن الله يسخر هذا الشيء للمسلم كما سخر النار لإبراهيم، والبحر لموسى، والماء لنوح، والريح لهود، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكثير من الناس تأثر بقوة المخلوق، ولم يتأثر بقوة الله، وذلك لضعف الإيمان واليقين، فحُرم من الاستفادة من خزائن الله، ومن قدرة الله.
والله جل جلاله عنده قوة المخلوقات كالرياح والعواصف، والصواعق والزلازل، والمياه والجبال، والخسوف والبراكين، والناس عندهم قوة المصنوعات كالصواريخ والمدافع والقنابل، وقوة المخلوقات أعظم من قوة المصنوعات، فكيف بقوة الله التي لا يقف لها شيء، ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء: (چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الحج: 40].(1/47)
والله قوي عزيز، يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويغير ما يشاء، يأتي بالفرج بعد الضيق.. وباليسر بعد العسر.. وبالأمن بعد الخوف.. وبالبسط بعد القبض.. وبالعافية بعد المرض.. وبالليل بعد النهار.. وبالحر بعد البرد.. وبالغنى بعد الفقر.. كل يوم هو في شأن: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 5].
وفي غزوة بدر من السنة الثانية للهجرة أراد الله عزَّ وجلَّ أن يظهر قدرته للمؤمنين، ويعلمهم كيف يستفيدون من قدرته بواسطة الإيمان والأعمال الصالحة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، والتقوا بكفار قريش وصناديدهم في بدر، ووقف القليل أمام الكثير، وأولياء الرحمن أمام أولياء الشيطان، وأهل الحق أمام أهل الباطل، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم بربه، وعرض عليه حاله، وحال أصحابه، وحال أعدائه، فأجاب دعاءه، وأمدهم بالملائكة، وكان يكفيهم لهزيمة الكفار ملك واحد كجبريل الذي له ستمائة جناح، جناح منها يسد الافق، والذي رفع قرى قوم لوط إلى السماء ثم قلبها عليهم، ولكن لشدة فرح الله باجتماع المؤمنين لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، أمدهم بألف من الملائكة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الأنفال: 9].
ثم أمدهم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة آلاف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [آل عمران: 123-125].
ثم بين الله للمؤمنين أن هذا المدد العظيم من الملائكة بشرى للمؤمنين لتطمئن قلوبهم، مذكراً لهم أن النصر حقاً من الله وحده كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 126].
وهكذا أظهر الله قدرته، ونصر أولياءه، والذي نصر المؤمنين هناك تكفل بنصر المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ے ے ?) [الروم: 47].
فمتى يستفيد المسلمون من قدره الله، ومن سنة الله في نصر أوليائه؟.(1/48)
والله قوي عزيز، وكل قوة في العالم من قوته، وكل عز في العالم من عزته: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [يونس: 65].
وهو سبحانه الملك الذي له ملك السموات والأرض، فالسموات وما فيها له، والأرض ومن فيها له، وكل رزق في العالم من رزقه، وكل علم في العالم من علمه، وكل رحمة في العالم من رحمته، وكل شيء بيده، وكل شيء لا يخرج إلا من خزائنه كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
وخزائن الله واسعة مملوءة بكل ما تحتاجه الخلائق إلى يوم القيامة، وكل ما تمتع به البشرية من الأموال والأرزاق والنعم لا يساوي ذرة مما في خزائن الله: (? ? ? ? ? ? ? ) [المنافقون: 7].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:
«قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً.(1/49)
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم(1).
فيا من كلَّما زاد عمره زاد إثمه، ويا من كلما كثرت أوزاره قل استغفاره، ويا من لا يروعه ما يراه ويسمعه متى تفيق؟ ومتى تقف بباب مولاك العزيز الغفور الرحيم؟.
إن قوة الناس لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة المخلوقات التي خلقها الله كالسموات والارض والجبال، وقوة المخلوقات كلها لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله، وقوة الناس وقوة المخلوقات كلها بيد الله وفي قبضة الله، يعز بها من يشاء، ويذل بها من يشاء، ويهلك بها من يشاء، والله بكل شيء عليم.
وبسبب ضعف الإيمان واليقين أصابتنا ثلاث آفات:
الأولى: أننا تأثرنا من قوة المخلوق، فأصبحنا نخافه ونرجوه، فأذلنا الله به.
الثانية: أننا كل يوم نطرق باب المخلوق مع أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً.
الثالثة: أننا أعرضنا عن الخالق القادر المالك لكل شيء، فلا نرجوه ولا نخافه، ولا نقف ببابه، ولا نستقيم على أوامره.
فكيف نستفيد من قدرته، وكيف نستفيد من خزائنه وهذه أحوالنا؟.
إن ذلك لا يُنال إلا بكمال الإيمان والتقوى.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).(1/50)
وبسبب ضعف الإيمان، وقلة التقوى، أصبحنا نخاف من المخلوق العاجز الضعيف المملوك، وعرفنا قوة المخلوق، وجهلنا قدرة الخالق العظيم، وقوة الواحد القهار، وعظمة الملك الجبار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحج: 74].
إن الناس عندهم قوة المصنوعات، والله عنده قوة المخلوقات، وقوة المخلوقات التي خلقها الله أقوى وأشد من قوة المصنوعات التي صنعها البشر، وهذه وتلك لا تفعل شيئاً إلا بإذن الله.
فهذا الهواء اللطيف الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، جعله الله بقدرته قوة مدمرة عاتية، وريحاً شديدةً عقيماً، أرسلها الله وسلطها على قوم عاد لما كفروا بالله، وكذبوا رسوله، فدمرت كل شيء بأمر ربها: (? ? ? ? ? ں ں ?) ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الذاريات: 41، 42].
لقد دمرت أعداء الله، وحفظت أولياءه، وذلك في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد.
إن هذه قوة مخلوق واحد، فكيف بقوة جميع المخلوقات التي يملكها الله العزيز الجبار..؟.
وكيف بقوة الله التي لا يقف لها شيء، ولو اجتمعت لها الخلائق كلها..؟.
(? ? ? ? ? ?) [هود: 66].
وكذلك الماء الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، حينما يأمره الله أن يغرق الأرض ومن فيها، من ذا يرده؟، ومن ذا ينجو منه..؟.
إن قوم نوح لما كفروا بالله سبحانه، وكذبوا نوحاً، ماذا فعل الله بهم؟ (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 64].
وجمع الله ماء السماء وماء الأرض لنصرة رسوله نوحاً حين دعاه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [القمر: 10-14].
وإذا فتح الله هذه المياه، وفجر تلك العيون، فمن ذا يردها؟ ومن ذا يقاومها؟ ومن ذا ينجو منها؟.
إن الله جل جلاله بقدرته أنجى المؤمنين، وأهلك الكافرين، بماء واحد، وأمر واحد، ومكان واحد، ووقت واحد.
وفرعون وقومه لما كفروا بالله جل جلاله، وكذبوا موسى، ماذا فعل الله بهم؟.(1/51)
لقد أخرجهم الله من جنات وعيون، وساقهم حتى أدخلهم في طريق في قعر البحر، فتحه الله لموسى ( ومن معه من المؤمنين، فدخلوا معه وخرجوا، ثم تبعهم فرعون ومن معه فأطبقه الله عليهم، فهلكوا جميعاً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک) [الشعراء: 61-68].
فأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، بماء واحد، وأمر واحد: ( ? ? ? ? ? ?) [هود: 66].
ولما جاوز الله ببني إسرائيل البحر أصابهم العطش، فدعا موسى ربه، فماذا فعل الله لسقي هذا الجيش العظيم، في تلك الصحراء الملتهبة؟.
لقد فجر القوي القدير المياه العذبة من تلك الحجر القاسية إكراماً ونصرةً لموسى ومن آمن معه كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [البقرة: 60].
آيتان خلاف العقل والمألوف:
الأولى: اضرب البحر يخرج الحجر اليابس.. والثانية: اضرب الحجر يخرج الماء السائل.. فسبحان القدير الذي يفعل ما يشاء.
وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية من إناء، فجهش الناس من شدة العطش، فماذا فعل الله لإرواء رسوله والمؤمنين معه؟.
عن جابر - رضي الله عنه - قال: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأ، فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقال: «مَا لَكُمْ» قالوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأ وَلا نَشْرَبُ إِلا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أصَابِعِهِ كَأمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قال: «لَوْ كُنَّا مِائَةَ ألْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3576)، واللفظ له، ومسلم برقم (1856).(1/52)
فمتى نستفيد من قدرة الله؟... ومتى نستفيد من خزائن الله؟.
والنار خلقها الله تذكرةً ومتاعاً للمقوين، وإذا اشتعلت وأرسلت عليها الرياح فمن ذا يطفئها؟ ومن ذا يقف لها؟ ومن ينجو منها؟
وقد أرسل الله النار على أصحاب الأيكة لما كفروا بالله، وكذبوا شعيباً، فأحرقتهم مع أموالهم التي اكتسبوها بالحرام كما قال سبحانه: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الشعراء: 189].
فأحرق الله الكافرين، وأنجى المؤمنين، بنار واحدة، وأمر واحد: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الشعراء: 190، 191].
وأشعل الكفار ناراً عظيمة لإحراق خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فماذا فعل الله بها؟: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 68-70].
لقد توجه إبراهيم صلى الله عليه وسلم بكليته إلى ربه، ولم يلتفت إلى أحد سواه، فأمر الله النار مباشرة، وغَّير حالها بقدرته من الضرر إلى النفع، ومن الهلاك إلى النجاة، وبقيت بقدرة الله تشتعل ولا تحرق، وانقلبت فوراً من الحرارة إلى البرودة مع السلامة.
وماذا يملك البشر المهازيل من القوة.
إن خلق السموات والأرض أكبر وأقوى منهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 57].
وخَلْق الملائكة أقوى وأعظم من السموات والأرض.
خَلْق جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وحملة العرش، أعظم من السموات والأرض وأقوى.
جبريل خلقه الله له ستمائة جناح، جناح منها يسد الأفق، وبطرف جناحه رفع خمس قرى من قرى قوم لوط إلى السماء ثم قلبها، فهذه قوة ريشه من جناحه، فكيف لو استخدم كل جناحه؟.. وكيف تكون قوته لو استخدم أجنحته الستمائة؟.. وكيف تكون قوته لو استخدم جميع بدنه؟.. وإذا كانت هذه قوته فكم تكون قوة خالقه الكبير المتعال..؟.
وميكائيل بأمر الله يكيل المياه والأرزاق للخلائق التي لا يعلم عددها وأنواعها وأماكنها وأعمارها إلا الله العليم الخبير.. وإذا كانت هذه قدرته فكم تكون قدرة خالقه العزيز الجبار..؟.(1/53)
وإسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق من في السموات والأرض، وبنفخة أخرى منه يحيا كل شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الزمر: 68].
فهذه قوة نفخته، فكم تكون قوة بدنه؟، وكم تكون قوة خالقه الكبير المتعال؟.
وكذلك الله عزَّ وجلَّ أعطانا الإسلام أقوى من الملائكة، فحينما نقوم به، ونعمل بأحكامه، يكون الله سبحانه معنا، يعزنا وينصرنا على أعدائنا، وإذا كان الله معنا فمن ذا يهزمنا؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 128].
وجميع الأنبياء والصحابة لما أطاعوا الله، وامتثلوا أوامره، ونصروا دينه، نصرهم الله عزَّ وجلَّ، وخذل أعداءهم.
ولما عظَّموا الله، وصغَّروا ما سواه، رفع الله مكانتهم، وأعزهم بين العالمين: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الحج: 40، 41].
والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، يحاسب الخلق كلهم يوم القيامة في لحظة واحدة، كما يرزقهم كلهم في الدنيا في لحظة واحدة، لا يشغله رزق أحد عن رزق الآخر، لأن الطاقة والقدرة تشكل إذا كانت محدودة، أما قدرة الله فهي مطلقة، والله قدير لا يعجزه شيء، ولا يشغله شأن عن شأن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 51].
وهؤلاء البشر المنتشرون على وجه الأرض مع الكائنات الأخرى.
من خلقهم..؟ من أنشأهم..؟، من يطعمهم..؟، من يدبرهم..؟، من يقلب أفئدتهم وأبصارهم..؟، من يقلب ليلهم ونهارهم..؟.
أما لهذا الخلق من خالق..؟، أما لهذا الخالق من أوامر..؟، أما لهذه الكائنات من مدبر..؟، أما لهذه الصور من مصور..؟، أما لهذه الأحياء من محيي..؟.
بلى: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
وهذه الحياة في النباتات والحيوانات من بثها في هذا الموات؟.(1/54)
وهذا الماء الهاطل من السماء، من خلقه وجمعه في السحاب، ثم سيَّره في جو السماء، ثم صبّه على الأرض صباً، فأنبت به الزروع والأشجار، وسقى به الناس والأنعام، وملأ به الأودية والأنهار؟: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الفرقان: 48-50].
وهذا الماء العذب، من أسكنه في الأرض؟، ومن فجره من الأرض، وجعله عيوناً متدفقةً تسقي النبات والإنسان والحيوان؟: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?)? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [المؤمنون: 18، 19].
ألا ما أعظم الخالق.. وما أعظم ما خلق من المخلوقات العجيبة.
وهذا البرعم الصاعد.. وهذا الحب المتراكب.. وهذا النجم الثاقب، وهذا الكوكب الساطع.. وهذا الصبح البازغ.. وهذا الليل السادل.. وهذا البحر المسجور.. وهذه الرياح العاصفة.. وهذه البهائم السائمة.. وهذه الطيور الطائرة.. وهذه الأسماك السابحة.. وهذه السماء المرفوعة.. وهذه الأرض الممدودة.
هذا كله من وراءه..؟، ومن خلقه..؟، ومن يكلؤه..؟ وماذا وراءه من أسرار ومن أخبار..؟، وماذا فيه من العجائب والمنافع والعبر..؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 11].
وهذه الأمم المختلفة من خلقها؟، وهذه القرون من أنشأها؟، وهذه الأقوام من أهلكها؟وهذه الصغار من كبرها؟، وهذه الاشجار من أنبتها؟.
أمم تذهب.. وأمم تجيء.. وأمم تهلك.. وأمم تستخلف.
من ذا يستخلفها؟.. ومن ذا يهلكها؟.. وإلى أين تذهب..؟.
(? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الأنعام: 38].
إن الله وحده هو الخالق، هو القادر، هو المالك، هو الرازق، هو العليم بالغيوب والأسرار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 24].
وفي كل لحظة تنفلق بأمر الله الحبة الساكنة عن نبتة نامية.. وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة.. وتنفلق البيضة الساكنة عن طير يتحرك ويأكل ويشرب.(1/55)
وفي كل لحظة يتكون بأمر الله من النطفة الهامدة جثة متحركة، ذات سمع وبصر وعقل، في كل قرية، وفي كل مكان، وفي كل زمان.
وفي كل لحظة تتحول الصحاري القاحلة إلى رياض مزهرة مثمرة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [الأنعام: 95].
وفي كل لحظة تهب رياح.. وفي كل وقت تحمل الرياح سحاباً.. وفي كل فترة ينزل من السماء ماء. وفي كل لحظة يخرج من الأرض نباتٌ.. وفي كل آن يطلع من الأشجار ثمارٌ.. وفي كل لحظة يخرج من بطون الأمهات أولادٌ.
وفي كل لحظة يموت أحياء.. ويولد أحياء.. وكل إليه راجعون: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [المؤمنون: 79، 80].
فسبحان من خلق البشرية كلها من نفس واحدة، وجعل لها مستقراً ومستودعاً، فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى، ثم تأخذ الحياة بتقدير العزيز العليم في النمو والانتشار، فإذا أجناس وألوان، وذكور وإناث، وشعوب وقبائل، ونماذج وصور لا تحصى: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأنعام: 98].
فسبحان من خلق هذه الخلائق، وأوجد الأعداد المناسبة من الذكور والإناث في عالم الإنسان، لكي تبقى الحياة والأحياء على وجه الأرض في توازن دائم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 49، 50].
إن مبدع هذه المخلوقات العظيمة، وخالق هذه الكائنات العجيبة، هو الرب الملك القادر، الذي يستحق أن يُعبد وحده، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يتلقى منه وحده منهج الحياة كله، وأن لا يكون لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، فذلك كله لله وحده لا شريك له.
وكل هذه المخلوقات، وكل هذه الكائنات تجري وفق سنة كونية أودعها الله في هذا الكون، يصاحبها قدر الله المصاحب لكل مخلوق.(1/56)
وكلما حدث حدث وفق سنة الله، وكلما تمت حركة وفق قدر الله، انتفض هذا القلب، يرى قدر الله ينفذ، ويرى الخالق يخلق، ويرى الملِك يدبر في ملكه، ويرى الكريم يجود بفضله على خلقه آناء الليل وآناء النهار.
فيسبح بحمد ربه، ويكبره ويعظمه، ويذكره ويراقبه في كل لحظة، وفي كل حركة، ويشارك المخلوقات في أداء هذه العبادة لربه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الجمعة: 1].
ألا ما أعظم ربنا.. وما أعظم قدرته.. وما أعظم خلقه.. وما أسعد من أطاعه..؟.
فهل من ذاكر؟، وهل من شاكر؟، وهل من منيب؟، وهل من مستجيب؟.
وهل بقي بعد ذلك مجال لغير السمع والطاعة لله والرسول؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 24].
فما أحسن الاستجابة لله والرسول، وما أجدر العاقل بذلك، وإن التولي عن الرسول وما جاء به من الدين بعد هذا كله ليبدو مستنكراً قبيحاً، لا يقدم عليه إنسان له قلب يتدبر، وعقل يتفكر: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الأنفال: 20].
وهل يليق بالإنسان أن يعيش كالبهائم والأنعام والدواب؟، بل شر من الدواب، وأضل من البهائم، يُدعى فلا يستجيب، ويُؤمر فلا يطيع: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [الأنفال: 22].
والله تبارك وتعالى هو الرزاق الذي تكفل بأرزاق الخلائق كلها، الناطق والصامت.. والذاكر والغافل.. والسائل والساكت.. والمطيع والعاصي.
يرزق سبحانه جميع المخلوقات المبثوثة على وجه الأرض، والساكنة في باطن الأرض، والطائرة في جو السماء، والسابحة في قعر البحر، يعلم سبحانه أعدادها، وأصنافها، وحاجاتها، ويسوق لها أرزاقها في كل حين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
فسبحان الحي القيوم الذي خلق هذه الخلائق، وقسم أرزاقها، مع تباعد ديارها، واختلاف حاجاتها، ألا إنه بكل شيء بصير.(1/57)
والأرزاق التي خلقها الله، والأرزاق التي يخلقها في كل حين ليس لها حد، ولا يحصيها أحد، وما يدركه البشر ويرونه ويعلمونه من رزق الله لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمونه، ومقدار ما يعلمون لا يساوي قطرة من بحر بالنسبة لما في خزائن الله المملوءة بأصناف الأرزاق.
ولا يزال البشر يهتدون كل يوم إلى رزق من أرزاق الله التي بثها في هذا الكون العظيم.
فمن سطح الأرض أرزاق لا تحصر.. ومن جوفها أرزاق لا تعد.. ومن سطح الماء أرزاق.. ومن أعماق البحر أرزاق.. ومن أشعة الشمس أرزاق.. ومن ضوء القمر أرزاق.. ومن الجبال أرزاق.. ومن الرياح أرزاق.
وفي السماء أرزاق لا يعلمها إلا الله: (? ? ? ? ? ? ? ) [المنافقون: 7].
وهذه الخلائق في البر والبحر إنما تصرف لها أرزاقها، وتعطى من خزائن الله، وهي لا تنقص مع الأخذ المستمر على مر الدهور والأزمان، بل جميع ما في الدنيا والآخرة من الأرزاق لا يساوي ذرة بالنسبة لما في خزائن الله من الأرزاق.
قال الله تعالى: (ے ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 54].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.(1/58)
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْر» أخرجه مسلم(1).
وكل ما في الكون من مخلوقات وأشياء وأحوال فخزائنها عند الله عزَّ وجلَّ: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
فسبحان العليم القدير الذي خلق الخلائق، وقسم أرزاقها، وعلم آجالها، وقهرها بجبروته، وصرفها بقدرته، وملكها بسلطانه.
ألا ما أجهل الإنسانَ بعظمة ربه، وما أقل شكره لنعمه.
فمتى يصحو ويفيق ويستجيب؟، والله شكور حليم غفور رحيم فمتى نتوب
اليه؟: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 53].
والله جل جلاله هو الملك الذي له الخلق والأمر في الكون كله: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
فالله وحده هو الذي يدبر الأمر في السموات والأرض.
فالسماء لها أوامر.. والأرض لها أوامر.. والبحار لها أوامر.. والجبال لها أوامر.. والرياح لها أوامر.. والشمس لها أوامر.. والقمر له أوامر.. والنبات له أوامر.. والحيوان له أوامر.. والإنسان له أوامر.. وكل شيء خلقه الله في هذا الكون له أوامر.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).(1/59)
وكل سامع مطيع مقهور مستجيب لأوامر الله الكونية، أما أمر الله الشرعي فهو موجه إلى الإنس والجن، وقد منحهم الله الاختيار في قبوله أو رده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 31].
وكفار مكة الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون خلقه لهذه المخلوقات العظام، أو ينكرون تدبيره لهذه الكائنات الكبار كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 61].
ولكن انحراف الفطرة بسبب قلة المذكر كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله.
إن الرهبة والترقب، والخوف والطمع، والضراعة والارتجاف، والهيبة والخشية، كل ذلك يلم بالإنسان كلما نظر في ملكوت هذا الكون العظيم، وما يجري فيه من التدبير والتصريف، وهو يرى كل يوم وكل لحظة آثار قدرة الله في إحيـ، اء الأرض بعد موتها، وفي رؤية البرق، وإنشاء السحاب، وتسبيح الرعد، وصوت الصواعق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 12-13].
فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟.
أما يستحي العبد بعد علمه بهذا من معصية مولاه الذي رزقه وكساه، وأنعم عليه وهداه؟.
إن الذي يملك الخلق والإيجاد، والتدبير والتصريف هو الله وحده، فهو الرب الحق، الذي أنزل الحق، والحق واحد لا يتعدد، ومن تجاوزه وقع في الباطل.
ألا ما أعجب الإنسان كيف ينصرف عن ربه وهداه مع أن دلائله قائمة في الكون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 32].
والله جل جلاله هو الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الروم: 19].
إنها عملية دائبة لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان في هذا الكون، على سطح الأرض، وفي أجواء الفضاء، وفي أعماق البحار.(1/60)
ففي كل لحظة يتم هذا التحول، وفي كل لحظة يخرج الله حياً من ميت، وميتاً من حي.
وفي كل لحظة يخرج الله برعماً ساكناً من جوف حبة أو نواة، يفلقها ويخرج إلى ميدان الحياة مع الأحياء.
وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة، تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام، وفي هذا الهشيم والحطام ترقد الحبوب الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات مستقبلاً.
وفي كل لحظة تدب الحياة بأمر الله في جنين إنسان أو حيوان أو طائر، وفي كل لحظة تخرج أجيال بقدرة الله في مشارق الأرض ومغاربها، وتموت أجيال كذلك.. فسبحان الحي الذي يملك الموت والحياة.. فيحيي ويميت من شاء من خلقه.. أمم وخلائق تستقبل الحياة.. وأمثالها تودع الحياة.
والله على كل شيء قدير أخرج من التراب الساكن الميت، الإنسان الحي المتحرك كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الروم: 20].
وهو سبحانه الذي خلق البشرية من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وخلق كلاً منهما على نحو يجعله موافقاً للآخر، وأودع نفوسهم العواطف والمشاعر، وجعل في تلك الصلة سكناً للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، وطمأنينة للرجل والمرأة على السواء: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [الروم: 21].
وهو سبحانه القدير الذي خلق السموات والأرض، هذا الخلق الهائل العظيم الدقيق، وخلق هذه المخلوقات العظيمة في جو السماء من الأفلاك، والمدارات، والنجوم، والكواكب، والمجرات، مع الضخامة الهائلة، والتناسق العجيب فيما بينها، وخلق ما بينها من المسافات والأبعاد التي تحفظها من التصادم والخلل، هذا من ناحية أحجامها وسيرها.
وأما أسرار هذه الخلائق الهائلة، وعجائبها وطبائعها، وما يستكن فيها، وما يظهر عليها، فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان، وحتى الآن لم يعرف عنه البشر إلا القليل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ [نوح: 15، 16].(1/61)
وفي الأرض آيات وكائنات وعجائب لا يحيط بها إلا الله، من سهول وجبال، وتراب ومياه، ونبات وحيوان، وجواهر ومعادن خلقها الله بقدرته، مختلفة الأحجام والألوان، والطبائع والمنافع.
فهذه قدرته سبحانه في خلق سماء واحدة، وأرض واحدة، فكيف بخلق السموات السبع وما فيهن، وكيف بخلق الأرضين السبع وما فيهن؟: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الروم: 22].
ومع آية خلق السموات والأرض العجيبة اختلاف الألسنة والألوان بين البشر مع اتحاد الأصل والنشأة وصفة الخلق.
فكم لسان في العالم.. وكم لغة في العالم.. وكم لهجة في العالم.. وكم ألوان البشر في العالم.. وكم صورة وشكل لكل بشر في العالم.
فقلما يشتبه رجلان أو امرأتان في العالم.
فسبحان الخالق البارئ المصور الذي فاوت بينهم في الأشكال والألوان والأحجام واللغات والأصوات والأسماع والأبصار والعقول.
وهو سبحانه الذي خلق الليل والنهار، وسخرهما للإنسان، فجعل حاجة العباد إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار، وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام، مثلهم مثل جميع الأحياء التي تعيش على ظهر هذه الأرض بنسب متفاوتة، وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 23].
وهو سبحانه الحي القيوم، قيوم السموات والأرض، وقيام السموات والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بأمره سبحانه، وكل من في السموات والأرض خاضعون لله، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 25].
وهو سبحانه الذي له المثل الأعلى في السموات والأرض، فهو وحده الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا يشاركه في ذلك أحد، وليس كمثله شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الروم: 27].(1/62)
يا حسرة على المفرطين كم آتاهم الله من آية بينة فلم يستجيبوا..؟
واعجباً لهؤلاء أما لهم في الآخرة من نصيب..؟
يا غافلاً ما يفيق، يا حاملاً ما لا يطيق، ألا تستحي؟..، ألا تفيق..؟.
وا أسفاه على ضياع الأوقات.. وبعثرة العمر.. وبعثرة الفكر.. وبعثرة الجهد.. أحياناً في الشهوات.. وأحياناً في اللهو.. وأحياناً في اللعب.. وأحياناً في التكاثر.. وأحياناً في المحرمات.. وأحياناً في الكبائر الموبقات.
أي بضاعة يفخر بها مثل هؤلاء الحمقى أمام الله وخلقة يوم القيامة..؟.
وأي أرباح يجني أمثال هؤلاء؟.. وأي سوق يعمرهؤلاء الحمقى..؟.
أيظن الغافل الأحمق أن الحياة لعب ولهو، لا سؤال ولا حساب..؟.
إنه يملأ صحائفه بمخازٍ وقبائحَ يسودّ لها وجهه يوم يلقى ربه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 115].
إن نظرة إلى السموات والأرض وما فيهما من الآيات والعجائب، ونظرة إلى هذه الأجرام والكواكب والنجوم التي لا تحصى وهي منتثرة في ذلك الفضاء الهائل الذي لا تعلم له حدود، وكلها قائمة في مواضعها، تدور في أفلاكها، محافظةً على مداراتها تسبح بحمد ربها، وتؤدي وظيفتها، وكلها لا تختل ولا تبطئ ولا تسرع، بل تسير حسب أمر ربها، جاريةً في الفضاء ما يمسكها إلا الله.
ونظرة في عالم الجماد وأنواعه.. وفي عالم الحيوان وأشكاله.. وفي عالم الإنسان وعجائبه.. وفي عالم النبات وأنواعه وثماره.
إن نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية، والقوة الإلهية القاهرة القادرة على خلق هذه المخلوقات، وحفظها وإمساكها وحفظ توازنها: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].(1/63)
إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله، ومن شر في الأرض وفساد، ومن ظلم في الأرض وطغيان، إن هذا كله لفظيع شنيع، ولو يؤاخذ الله الناس به عاجلاً لتجاوزهم إلى كل حي على ظهر هذه الأرض، ولأصبح الكون غير صالح للحياة، ولكن الله حليم لا يعجل على الناس، فيؤخرهم إلى أجل مسمى، ليبلغوا آجالهم المقدرة، ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعاً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [فاطر: 45].
وهذا كله يكشف عن حلم الله ورحمته، إلى جانب قوته وقدرته ورقابته.
وإمهال الناس في الدنيا عن حلم ورحمة، لا يؤثر في دقة الحساب، وعدل الجزاء في النهاية، فإذا جاء أجلهم وانتهى وقت العمل والكسب، وحان وقت الحساب والجزاء، فإن الله لا يظلمهم شيءاً، وهو كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم، ولا تفوت منهم ولا عليهم كبيرة ولا صغيرة: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الأنعام: 160].
إن في خلق الشمس آية.. وفي نورها آية.. وفي حركتها آية.. وفي اشتعالها آية.
إن هذه الكتلة الهائلة الملتهبة، والتي يخرج منها هذا النور العظيم، وهذه الحرارة الموزونة، وبهذا النور وبهذه الحرارة تجري بأمر الله في مسارات مختلفة في فضاء هذا الكون العظيم، وهي مأمورة مدبرة، سامعة مطيعة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 38].
إن ذلك كله يدل بلا شك على كمال قدرة الله الذي يصرف هذا الوجود عن قوة وعلم وحكمة.
إن رؤية الآيات الكونية، وتدبر الآيات القرآنية، كفيل بتحريك القلوب، واستجاشة الشعور، لتعظيم بارئ الوجود وعبادته وطاعته.
فسبحان من خلق هذا الكون، ومن يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويقهرها على ما يريد، ويخرج منها المنافع على مدى الدهور والأزمان.
فلكل نجم أو كوكب فلك يدور فيه لا يتجاوزه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة مقدرة، والكل يسير بأمر الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 40].(1/64)
إن حركة هذه الأجرام الهائلة في الفضاء أشبه بحركة السفن في البحار الواسعة، وهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطة سابحة في ذلك الفضاء الواسع، الذي خلقه الواسع العليم.
فسبحان من أمسك هذه وهذه.. وسيّر هذه وهذه.
وما أعظم من خلق هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة، ونثرها وسيّرها في ذلك الفضاء الفسيح.
والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، يخلق ما يشاء، ويستوي عنده خلق الكبير والصغير، ولا يختلف عنده في التكوين شيء عن شيء، سواء كان هذا المخلوق سماءً أو أرضاً، أو ذرة أو جبلاً، أو قطرة أو بحراً، أو بعوضة أو فيلاً، أو نملة أو جملاً.
خلق هذا وذاك عند الله سواء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 82].
فليس هناك أمام قدرة الله صعب ولا سهل، ولا قريب ولا بعيد، ولا صغير ولا كبير، فتوجه الإرادة لخلق شيء كافٍ لوجوده كائناً ما كان: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 83].
إن آيات الله الدالة على عظمته، وعلى قدرته، وعلى عظمة خلقه، موجودة منذ بداية الخلق، وجميعها تنبئ بعظمة الخالق جل جلاله، وتجذب الإنسان للانقياد لربه، والتسليم له، والتسبيح بحمده.
ثم يعطي الله سبحانه عطاءً متجدداً بعد ذلك لكل جيل غير الجيل الذي قبله، وذلك ليعلم الناس أن الله سبحانه قائم على ملكه، لا يتخلى عنه لحظة واحدة، وأن له عطاءً متجدداً كل يوم، بل كل ساعة، بل كل لحظة، حتى لا يحس البشر أن الله سبحانه خلق هذا الكون العظيم، ثم تركه بعد ذلك يعمل بالأسباب وحدها.
بل لا بد مع السنن الكونية التي خلقها الله، وسير بها هذا الكون، وجعلها تعمل بأمره، لا بد مع ذلك من ظهور قدرة الله التي تكشف وتعطي وتمنح، وتذكر الناس بأن الله ينصر الضعيف على القوي، والمظلوم على الظالم، حتى لا يستشري الفساد في الأرض، وحتى لا يتعلق الناس بالأسباب من دون الله.(1/65)
فلله سنة، وله قدرة، وهذه القدرة لا تظهر إلا حين لا تكون فئة من المؤمنين تجاهد في سبيل الحق.
فإن كانت هذه الفئة موجودة، فإن الله يبارك في عملها، وينصرها حسب سنته في نصر أوليائه بالأسباب المعلومة من الإيمان والتقوى والإعداد حسب الاستطاعة.
أما إذا لم تكن هذه الفئة موجودة، فإن يد القدرة تأخذه أخذاً مباشراً، لتنزع ظالماً من قوته وسلطان ظلمه، أو تزيح جباراً في الأرض، فتنزعه من أسباب جبروته، أو تهلك عدواً ظالماً طاغياً، وتريح الناس من شره وطغيانه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [العنكبوت: 40].
ذلك أن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا، وخلق لها السنن والأسباب لتعمل بها بأمر الله وإذنه، فإذا حدث شيء عن طريق الأسباب كأن انتصر قوي على ضعيف، أو تمكن ظالم من مظلوم، أو ساد ذو جاه أو ذو قوة، أو ذو مال، فهذا باب السببية الذي تسير عليه الحياة في عمومها، والذي نشترك فيه جميعاً.
فالإنسان مثلاً لكي يحصل على المال يجب أن يعمل، فإذا عمل وأخذ الأجرة، فهذا شيء عادي لا يثير العجب.
ولكن الله أحياناً يوقف باب الأسباب، ويعطله فلا يعمل، ويفتح للإنسان باباً آخر، ليرى منه قدرة ربه، ويحس بعظمته، ويعلم أن قدرة الله فوق الأسباب.
فحين تقف أمام قوي تقول كل الأسباب أنه سينتصر عليك، ثم تجده ينهزم أمامك وينهار فهذه قدرة الله.
وحين يراد بك سوء، وتتحكم أسبابه، ثم يكشفه الله ويدفعه عنك بلا جهد منك، فهذه قدرة الله جاءت تذكرك بالله.
وحينما تكون في عسرة من الرزق، ثم يفتح الله لك باباً من الرزق من حيث لا تدري ولا تعلم، ويأتيك الرزق من حيث لا تتوقعه، فتهتف قائلاً: الله أكبر، إنها قدرة الله: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 2، 3].
وظهور قدرة الله ليست وقفاً على أحد دون أحد، بل هي تظهر في حياة الناس كلهم.(1/66)
فكلنا رأى ظهور قدرة الله في فترة من فترات حياته.
رآها في شفاء مريض يئس الأطباء من علاجه.. أو رزق جاء فجأة ليذهب حالة عسر لبائس معدم.. أو قصم جبار أيس الناس من مواجهته.
ولكن لماذا يرينا الله ذلك في الدنيا؟
إن الله يفعل ذلك حتى لا ييأس المؤمن أبداً، فإذا توقفت الأسباب عن العطاء، فإن الله سبحانه وتعالى يفتح باباً من أبواب رحمته، ومن هنا فإن المؤمن عندما تصل به الأسباب إلى طريق مسدود، فإن الله معه يراقبه، فإن توجه إليه وسأله فرج كربته، وقضى حاجته، فليرفع كفيه إلى السماء ويقول: يا رب، ويعلم أن الطريق الذي سدته الأسباب يفتحه الله بقدرته التي تملك الأسباب، والله يفعل ما يشاء بالأسباب، وبدون الأسباب، وبضد الأسباب.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن أمثلة كثيرة من هذا ظهرت فيها كمال قدرة الله سبحانه، وذلك حتى نمضي في الحياة بلا يأس.
فقال عن أيوب صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الأنبياء: 83، 84].
وقال عن يونس صلى الله عليه وسلم : (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الأنبياء: 87، 88].
وقال عن زكريا صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 89، 90].
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم وضع زوجته هاجر وابنه إسماعيل عند بيت الله بمكة بواد غير ذي زرع وقال: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 37].(1/67)
ثم تركها وابنها، فارتاعت المرأة حيث تركها وحدها في مكان قفر لا ماء ولا زرع ولا إنسان، فنادته مراراً فلم يجبها، فَقالتْ: «يَا إِبْرَاهِيمُ، أيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقالتْ لَهُ ذلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقالتْ لَهُ: آللهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذَا؟ قال: نَعَمْ، قالتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ». أخرجه البخاري(1).
وهناك كان طريق الأسباب معطلاً، حيث لا ماء ولا نبات ولا إنسان، فهاجر وابنها حسب الأسباب الظاهرة هالكان لا محالة، ولكن هاجر أخذت بالأسباب، فانطلقت تسعى بين الصفا والمروة، تصعد على هذا التل، ثم تصعد على ذلك التل، عسى أن ترى إنساناً أو طيراً أو قافلة أو سبباً من أسباب الحياة تتمسك به، وتستفيد منه هي وابنها، وقطعت المسافة سبع مرات بين الصفا والمروة ولم تجد شيءاً، ولم تر أحداً.
فنال منها التعب، فجلست بجوار وليدها عند البيت، فإذا الملك يضرب بجناحه الأرض، فظهر الماء بأمر الله، وانفجر بئر زمزم بالماء، فجعلت تحوطه وشربت هي وابنها، ودَّبت الحياة في ذلك المكان، فبعد بذل الأسباب الممكنة ظهرت قدرة الله في الوقت الذي تعطلت فيه الأسباب.
وموسى صلى الله عليه وسلم خافت أمه أن يذبحه فرعون ورجاله، وكان من الممكن أن تخفيه في دار أو مغارة، أو تسافر به سراً من مصر، وكانت هذه هي طريقة النجاة المعروفة بين الناس.
ولكن الله القدير أراد أن يجعل من قصة موسى صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى يدل على كمال قدرته سبحانه، بأن ينجيه بأسباب الهلاك لا بأسباب النجاة، ليعلم الناس أن الله على كل شيء قدير، يظهر قدرته سبحانه بالأسباب، وبدون الأسباب، وبضد الأسباب.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3364).(1/68)
فأوحى سبحانه إلى أم موسى أن تضعه في الصندوق، وتلقيه في الماء، ليكون هذا هو السبيل لنجاته وحفظ حياته، وسيراه الناس جميعاً، فالواقف على شاطئ البحر يتطلع للظفر به، فكأنما هذا إعلان لا إخفاء، ومع ذلك جعل الله هذا الإعلام هو عين الإخفاء، وهو وإن سلم من أكل الطير أو الغرق في النهر فسيأخذه لا شخص يحفظه ويربيه، بل سيأخذه عدو لله وعدو له، ولكن الله أراد نجاته وحفظه على يد من يريد هلاكه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 7].
ألا ما أعظم قدرة الله، لقد أخذه فرعون، ورباه في قصره على يد امرأته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [طه: 37-39].
ثم أرسل الله موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون وملئه، فلم يؤمنوا بما جاء به، فأهلكهم الله وأغرقهم في البحر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الذاريات: 38-40].
وهكذا أظهر الله قدرته في مواقف كثيرة في حياة موسى مع فرعون، ومع بني إسرائيل، وأظهر قدرته بضد الأسباب.
والله عزَّ وجلَّ يعرض لنا هذه الأحوال التي جرت للأنبياء، وأظهر الله فيها قدرته في حفظهم ونصرتهم، تثبيتاً للمؤمنين على الإيمان، وليستفيدوا هم كذلك من قدرة الله بالايمان والتقوى كما استفاد الأنبياء والرسل.
وليس معنى هذا ألا نأخذ بالأسباب المشروعة، ولا نعمل منتظرين ظهور قدرة الله، بل إن ظهور قدرة الله لا تتم إلا إذا استنفذ الإنسان الأسباب أولاً، فإذا فرغ الإنسان من فعل الأسباب المأمور بها ولم تعطه شيئاً، رفع يديه إلى السماء، ولهذا يقول الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النمل: 62].
والمضطر هنا هو الذي يستنفذ أسباب الدنيا، ولا يجد أمامه مخرجاً، وهذا هو الذي تنفتح لدعائه أبواب السماء.(1/69)
والله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده، ليعلم من يتوجه إليه عند المصائب، وليعلم صدق العبد، وقوة إيمانه، وقوة صبره، وهذه الاختبارات الإيمانية هي الأساس، ليزيل الله الضيق، ويذهب الهم، ويفرج الكرب، ويظهر قدرته لعباده.
فحين لا يقف للباطل والطغيان أحد، يظهر الله قدرته في تدميره بما شاء، حتى لا يعم الفساد في الأرض، فحين جاء أبرهة بعدد ضخم من الجنود والأفيال ليهدم الكعبة، وخرج سكان مكة إلى الجبال تاركين البيت الحرام، لأنهم لا يستطيعون أن يقفوا أمام أبرهة وأفياله وجنوده وجيشه الجرار، وهنا تخلى أهل مكة عن قضية حق، وهي حماية بيت الله الحرام ممن يريد أن يهدمه، فماذا فعل الملك الجبار جل جلاله؟
هنا أراد الله سبحانه أن يريهم أن أبرهة الجبار الذي يخشونه، والجيش الجرار الذي يهابونه، هو عند الله لا يساوي شيئاً، ويعلمهم أن صاحب الحق الضعيف يجب أن لايخاف من الباطل القوي.
ولهذا جاء الله جل جلاله بالطير الصغير الضعيف ليقول للبشر أن أضعف مخلوقاتي سيهزم هذا الجيش الجبار ويمحقه، ويقوم بنصرة الحق إذا تركتموه كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [الفيل: 1-5].
وانطلقت الطير بأمر الله تحمل حجارة صغيرة من سجيل قضت على الفيلة الجبارة، والجيش الجبار في زمن قصير، وحطمت الجيش تماماً، وظهرت قدرة الله في حفظ بيته من الجبابرة المعتدين.
ألا ما أعظم قوة الله، وما أعظم قدرته، وما أعظم خلقه وأمره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحج: 74].(1/70)
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا مُحَمَّدُ! أوْ يَا أبَا الْقَاسِمِ! إِنَّ اللهَ تعالى يُمْسِكُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ ا? تَعَجُّباً مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقاً لَهُ، ثُمَّ قَرَأ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67]» متفق عليه(1).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال صلى الله عليه وسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة» متفق عليه(2).
فسبحان الذي خلق السموات السبع، ورفعها وأمسكها.. وأوحى في كل سماء أمرها، وأسكنها ملائكته، ومن شاء من أنبيائه ورسله، وأذن لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء إلى بيت المقدس، والعروج إلى السماء، ورؤية الملكوت الأعلى، السموات السبع وما فيها، والجنة والنار، والبيت المعمور، والملائكة والرسل والأنبياء وغير ذلك من الأيات الكبرى.
فسبحان من هذا خلقه.. وهذه قدرته.. وهذه عظمة ملكه وسلطانه.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الإسراء: 1].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4811)، ومسلم برقم (2786) واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6520) واللفظ له، ومسلم برقم (2792).(1/71)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أتِيتُ بِالْبُرَاقِ (وَهُوَ دَابَّةٌ أبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) قال، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قال، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ.
قال: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ.
فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ - عليه السلام - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ - عليه السلام - اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ- عليه السلام - فَقِيلَ: مَنْ أنْتَ؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، فَقِيلَ: مَنْ أنْتَ؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى ابْنِ زَكَرِيَّا صَلَوَاتُ ا? عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أنْتَ؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم . قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم ، إِذَا هُوَ قَدْ أعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.(1/72)
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قال: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا.
فَإِذَا أنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: (? ? ??) [مريم: 57].
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا. فَإِذَا أنَا بِهَارُونَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أنَا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ إلى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ. قال: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قال: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم ، مُسْنِداً ظَهْرَهُ إلى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.
ثُمَّ ذَهَبَ بِي إلى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ، قال، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أمْرِ ا? مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ ا? يَسْتَطِيعُ أنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا.(1/73)
فَأوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
فَنَزَلْتُ إلى مُوسَى صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاةً، قال: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ، فَاسْألْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ.
قال، فَرَجَعْتُ إلى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْساً.
فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْساً، قال: إِنَّ أمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْألْهُ التَّخْفِيفَ.
قال: فَلَمْ أزَلْ أرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتعالى وَبَيْنَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم حَتَّى قال: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شيئاً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
قال: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إلى مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْألْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ» متفق عليه(1).
4- فقه رحمة الرب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 56].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [النساء: 83].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7517)، ومسلم برقم (162) واللفظ له.(1/74)
الله تبارك وتعالى هو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، ورحمة الله تتجلى على الخلائق عامة، وعلى الإنسان خاصة:
تتجلى ابتداءً في وجود البشر أنفسهم، وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي تكريم الإنسان على كثير من العالمين.
وتتجلى في تسخير ما في هذا الكون العظيم من النعم والطاقات، والقوى والأرزاق، والماء والهواء وغير ذلك مما يتقلب فيه الإنسان كل لحظة: (کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [الإسراء: 70].
وتتجلى رحمة الله في تعليم الإنسان ما لم يعلم مما يحتاجه في حياته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 78].
وتتجلى كذلك في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى كلما نسي أو ضل، وأخذه بالحلم كلما لج في الضلالة والجهالة.
وتتجلى كذلك في مجازاته العبد على السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومحو السيئة بالحسنة: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الأنعام: 160].
وتتجلى في تجاوز الله عن سيئات العباد إذا عملوها بجهالة ثم تابوا، وبكتابة الرحمة على نفسه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الأنعام: 54].
والله جل جلاله هو الرحمن الرحيم، وقد وسعت رحمته كل شيء، واستوى على أعظم المخلوقات وأوسعها وهو العرش، بأوسع الصفات وهي صفة الرحمة فقال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ) [طه: 5].
وقد أنزل الله في القرآن سورة كاملة باسمه الرحمن ومطلعها: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الرحمن: 1-4].
وهي معرض لآلاء الرحمن، ومخلوقاته العظيمة، ومظاهر رحمته التي تبلغ كل عقل.. وكل سمع.. وكل بصر.. وتملأ فضاء السموات والأرض.
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان، تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته، وتعليمه البيان.(1/75)
فهذا القرآن العظيم نعمة كبرى، بل هو النعمة الكبرى على البشرية كلها، تتجلى فيه رحمة الرحمن بالإنسان، وآلاء الله ومخلوقاته، وهو منهج الله للبشرية، الذي يصلهم بربهم، وينظم أحوالهم ومعيشتهم وفق أمر ربهم، ويفتح عقولهم وحواسهم ومشاعرهم على هذا الكون العظيم الجميل، ومبدعه الذي شمل خلقه برحمته الواسعة.
القرآن العظيم الذي يقر في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض، وأنهم كرام على الله، وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال، ويشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا بالإيمان بالله، ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان، فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان، وبدونه يسقط في أقل من رتبة الحيوان.
ثم يذكر سبحانه خلق الإنسان، وتكريمه بالصفة الإنسانية الكبرى البيان النطقي والخطي والإشاري، الذي امتاز به الانسان على غيره.
ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله ونعمه، ومظاهر رحمته، الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة، والميزان الموضوع، والأرض وما فيها من مظاهر رحمته، وخلق الجن والإنس، ثم يعرض نعمة المشرقين والمغربين، والبحرين وعدم امتزاجهما، وعجائب ما يخرج منهما، وما يجري فيهما وعليهما من الجواري.
فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار، والمخلوقات العظام، عرض سبحانه مشهد فنائها جميعاً بأمره وقدرته.
ثم عرض سبحانه مشهد البقاء المطلق لله ذي الجلال والإكرام كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الرحمن: 26، 27].
وفي ظل الفناء المطلق للخلائق، والبقاء المطلق لله، يجيء التهديد المروع للإنس والجن: (? ? ? ? ?) [الرحمن: 31].
والله جل جلاله غفور رحيم، يفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو سبحانه الرحيم الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها، وقبلها منه.(1/76)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [المائدة: 39].
ومن رحمته سبحانه أنه ملأ سماواته من ملائكته، يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في التسبيح بحمده سبحانه، وفي الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة لهم عند ربهم ليدخلهم الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? [غافر: 7-9].
فما أعظم هذه العناية من الرب جل جلاله بعباده المؤمنين.
وما أجمل هذا الإحسان من المولى الكريم.
وما أعظم هذه الرحمة من الرحمن الرحيم.
وما أجملَ هذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد، وحسن التلطف بهم.
ألا ما أعظمَ رحمة الله بعباده، فمع خلقهم، وتأمين أقواتهم، وقسمة أرزاقهم، خلق سبحانه ملائكة يدعون لهم، ويستغفرون لهم، ويشفعون لهم عند ربهم، ومع هذا كله أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعَّرف إليهم بأسمائه وصفاته، وآلائه وانعامه، ليدعوه بها، ويسألوه بموجبها.
ومع هذا كله ينزل سبحانه كل ليلة إلى سماء الدنيا، اكراما للمؤمنين، واحتفاءً بهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يََنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه(1).
والله عزَّ وجلَّ إنما يرسل رسله رحمة بالعباد، فهو الغني عنهم، وعن إيمانهم به، وعبادتهم له، وإذا أحسنوا وآمنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758)(1/77)
والناس باقون برحمة الله ومشيئته، وأمرهم كلهم بيده سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 133].
إن معرفة العبد برحمة الله الشاملة لعباده يسكب في القلب الطمأنينة إلى ربه، لا في حال السراء والنعماء فحسب، بل وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار، فهو يستيقن أن رحمة الله وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع، وكل تصرف.
ويعلم أن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته، فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها، إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله، ويرفضون رحمته، ويبعدون عنها.
والطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، والرجاء والأمل، والهدوء والراحة، فهو في كنف ربٍ رحيم ودود.
وهو سبحانه المالك لكل شيء، لا ينازعه منازع، ولكنه فضلاً منه ومنَّة كتب على نفس الرحمة، وأخبر عباده بما كتبه على نفسه من الرحمة، وهذا من كمال عنايته بعباده، فإن إخبارهم بهذه الحقيقة تفضل آخر.
ورحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائهم أحياناً بالضراء والبأساء، فهو سبحانه يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته بعد الخلوص والتجرد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء، وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا من حيّ عن بيِّنة.
وقد أرسل الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، فهو أرحم الناس بالخلق، كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ) [الأنبياء: 107].
فهو صلى الله عليه وسلم رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة، فنالوا بها سعادة الدنيا والآخرة.
والكفار ردوها، فلهم الشقاء في الدنيا والآخرة، ورفع الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم العذاب العام عن أهل الأرض.(1/78)
وبهذه الرحمة انتشر الدين، وقبله الناس، وأحبوه، وجاهدوا في سبيله كما قال سبحانه: (پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [آل عمران: 159].
ورحمة الله وسعت كل شيء، وشملت كل أحد، المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، فهو سبحانه الرحيم الذي شمل الخلق كلهم برحمته، فسخر لهم ما في السموات وما في الأرض، فالشمس والقمر، والبر والبحر، والماء والتراب، والنبات والحيوان، والهواء، كل ذلك خلقه الله، وسخر منافعه للناس.
وهذه النعم يستفيد منها المؤمن والكافر على حد سواء، وهي مسخرة للإنسان ولا خيار لها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 20].
فهذه رحمة الرحمن تشمل الخلق كلهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن الله عزَّ وجلَّ يطرد من رحمته من لم يؤمن به، ولم يشكر نعمه من الكفار والعصاة، ولا تشمل رحمته في الآخرة إلا عباده المؤمنين.
ففي الدنيا كثرت متعلقات الرحمة، وفي الآخرة قلَّت متعلقات الرحمة، وإن كانت صفة الرحمة ثابتة لم تتغير ولم تتبدل، ولو أن الكفار والعصاة أطاعوا ربهم لوسعتهم رحمة الله في الآخرة، ولكنهم حرموا أنفسهم منها بكفرهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 23].
ومن رحمة الله بعباده أنه كلما زاد عددهم كشف لهم من العلم ما يمكنهم من سهولة الحياة، وزيادة الإنتاج، وسهولة الحصول عليه كما هو حاصل في كل زمان ومكان: (ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
ورحمة الله لعباده، ودخولهم الجنة، ليست على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم يقوموا بها كما يجب لعظمته وجلال سلطانه.
فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيباً لحقه، وهو سبحانه غير ظالم لهم فيه، فإن أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم وأعمالهم.(1/79)
فإذا عذبهم الله عزَّ وجلَّ على ترك شكرهم، وترك أداء حقه الذي يجب عليهم، لم يكن ظالماً لهم، فإن المقدور للعبد من الطاعات لا يأتي به كله، بل لابد من فتور وإعراض، وغفلة وتوان، وتقصير وتفريط.
وكذلك قيام المرء بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم لله، وبذل مقدوره كله في تحسين العمل، وتكميله ظاهراً وباطناً، فالتقصير لازم في حال الترك، وفي حال الفعل، وهذا هو السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار.
ولو أتى العبد بكل ما يقدر عليه من الطاعات ظاهراً وباطناً، فالذي ينبغي لربه فوق ذلك، وأضعاف أضعافه، فإن عجز عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء، فإذا حرم جزاء ما لم يأت به مما يجب لربه لم يكن الرب ظالماً له.
فإذا عطاه ربه الثواب، كان مجرد صدقة منه وفضل ورحمة، لا عوضاً عن عمله، والعبد مملوك لا يستحق شيئاً على سيده، فإن أعطاه شيئاً فهو إحسان منه وفضل.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ ا? صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ ا?؟ قَالَ: «لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ» متفق عليه(1).
والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى الإنسان وإن كرهتها نفسه وشقت عليه، فهذه الرحمة حقاً، فأرحم الناس بك من أخذ بك إلى ما يصلحك وإن كرهت ذلك نفسك.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) واللفظ له، ومسلم برقم (2816).(1/80)
فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويمنعه شهواته التي تضره، ومتى أهمل ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه سبحانه أعلم بمصلحته.
فابتلاؤه له وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته، من كمال رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم أنه محسن إليه بابتلائه وامتحانه.
فما أصاب العبد فهو من تمام رحمة الله به، لا من بخله عليه، كيف وهو سبحانه الجواد الكريم، الذي له الجود كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها، بل جود جميع الخلق كلهم من جوده عزَّ وجلَّ.
فمن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه سبحانه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلاً منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم، وهو العليم الخبير.
ومن رحمته سبحانه بهم أن نغَّص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا بها، كي يرغبوا في النعيم المقيم في دار جواره.
فساقهم العليم الخبير إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155-157].
ومن رحمته سبحانه بعباده أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، من الشرك والمعاصي والتقصير، كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 30].
وتمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، ولذا أمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم وهم أولو الهدى والرحمة، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين، وطريق الضالين وهم ضد المهتدين.(1/81)
فاللهم: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 6، 7].
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان أن خلقه في أحسن تقويم.. وأكرمه بالدين.. وزوده بالسمع والبصر والعقل.. ولم يكله في الاهتداء إلى عقله وحده.. ولا على الفطرة وحدها.. ولا على كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى، وموجبات الإيمان.
بل اقتضت رحمة العزيز الرحيم ألا يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال إلا بعد الرسالة والبيان، ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة، الذي قرره الله له، وأكرمه به، ثم ترك له ما وراء ذلك: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 203].
ومن رحمة الله سبحانه أنه أقام الدلائل الكونية في هذا الكون، والتي تدل على عظمة الخالق ووحدانيته، وقدرته وتدبيره، وملأ الفطرة بالأشواق إلى ربها، والاتصال ببارئها، والإذعان له، ووهبه السمع الذي يدرك به المسموعات، والبصر الذي يدرك به المرئيات، ووهبه العقل الذي يحصي به الشواهد، ولكن الله الكريم الرحمن مع هذا كله رحم العباد، وأعفى الناس من حجية الكون، وحجية العقل، وحجية الفطرة، ما لم يرسل إليهم الرسل، الذين يُعرِّفون الناس بربهم، وما ينبغي له، وليزنوا حياتهم بالحق الذي جاءوا به، وحينئذ إما أن يؤمنوا فينالوا الثواب، أو تسقط حجتهم ويستحقوا العقاب.
ومن رحمة الله بالبشرية وبره بهم أن تفضل عليهم بإرسال الرسل تترى، وهم يكذبون ويعاندون، ويشردون وينأون، ولكن الله حليم غفور، لا يؤاخذ الإنسان بأخطائه وخطاياه، ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه، ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل، فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر ويدرج للعقاب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 15].(1/82)
فلا يمكن لعقل واحد أن يهتدي لمثل ما جاءت به الرسل، بل لا يمكن ذلك لعقول البشرية كلها، وكيف يهتدي العقل، ويستغني عن ربه، ويستغني عن هدايته ورسله ودينه وهو مخلوق محتاج إلى الهدى؟.
وقد علم الله أن العقل لا يُغني ما لم يتقوم بمنهج الله، ولذا لم يكتب عليه عقاباً إلا بعد الرسالة والبيان ثم الإعراض.
إن رحمة الله واسعة، وسعت كل شيء، وهي تتمثل في مظاهر كثيرة لا يحصيها العبد، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها، سواء في ذات نفسه وتكوينه وتكريمه بما أكرمه الله به.. أو بما سخر الله له من حوله ومن فوقه ومن تحته.. أو فيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 18].
ورحمة الله تبارك وتعالى تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح، ويجدها من يفتح الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان.
يجدها في نفسه، وفيما حوله، وحيثما كان، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان.
ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة السعادة والرضوان.
وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 2].
ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها عنه، لا ضيق مع رحمة الله ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في شعيب الهلاك.
ولا سعة في إمساكها عن الإنسان، ولو تقلب في أعطاف النعيم، ورفل في مراتع الرخاء بين الأنهار والقصور، وذوات الخدور.
فمن داخل النفس برحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والطمأنينة والرضى، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والنكد، والتعب والنصب.
هذا الباب وحده يفتح، وتغلق جميع الأبواب، فلا عليك فهو السرور والرخاء، والفرج واليسر.(1/83)
وهذا الباب وحده يغلق، وتفتح جميع أبواب الدنيا والنعيم، فما هو بنافع، ولا عليك فهو الكرب والضيق، والشدة والقلق.
الصحة والقوة، والجاه والسلطان، والمال والولد، كلها تكون مصادر قلق وتعب ونكد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والطمأنينة.
يهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم، ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب.
ويعطي الله الجاه والسلطان مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة للأجر.
ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على قوتهما، مصدر بغي وطغيان، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما، لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار.
ويبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رغد في الدنيا، وزاد إلى الآخرة، ويمسك عنه رحمته فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وإذا هو هم في جمعه، وهم في حفظه، وهم لفراقه.
ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة الحياة الدنيا، ومصدر فرح، ومضاعفة للأجر، ويمسك عنها رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد، وعنت وشقاء، وسهر بالليل، وتعب بالنهار.
فالمال والبنون مع الرحمة زينة وسعادة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 46].
والمال والبنون بدون رحمة الله شقاء ونكد: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة:55].
إن العمر الطويل، والعلم الغزير، والمال الوفير، والمقام الطيب، كل ذلك يتبدل ويتغير من حال إلى حال مع الإمساك ومع الإرسال.
ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله، فرحمته واسعة، وهي تضمك وتغمرك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة.
إن رحمة الله لا تعز على طالبها في أي مكان، وفي أي زمان، وعلى أي حال.(1/84)
وجدها إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النار.. ووجدها نوح ( في لجة البحر.. ووجدها يوسف ( في الجب، كما وجدها في السجن، كما وجدها في الملك.. ووجدها يونس ( في بطن الحوت.. ووجدها موسى ( في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة، ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون.. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف، حين افتقدوها في القصور والدور.
ووجدها محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، وفي طريق الهجرة، وفي بدر، وفي فتح مكة، وفي جميع أحواله صلى الله عليه وسلم .
ووجدها ويجدها كل من آوى إليها، يائساً من كل ما سواها، منقطعاً عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله وحده دون جميع الأبواب، وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، فهو الذي يملكها وحده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 2].
فلا رجاء في أحد من الخلق، ولا خوف من أحد من الخلق، فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله جل جلاله.
إن هذا اليقين لو استقر في قلب الإنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص، والقوى والقيم، ولو تضافر عليها الإنس والجن، فهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها، وهو العزيز الحكيم.
وقد أنشأ الله بهذا القرآن العظيم تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام، الفئة التي صُنعت على عين الله، تحمل رحمة الله وشريعته، لتكون قدوة للبشرية إلى يوم القيامة، اولئك هم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [الفتح: 29]
وهي قدر من قدر الله سلطه على من يشاء في الأرض، فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو وإثبات.
وما يزال هذا القرآن بين يدي الناس قادراً لو حكموه أن ينشئ أفراداً وفئات تمحو وتثبت في الأرض بإذن الله ما يشاء الله.
تمحو الظلم والبغي والباطل، وتثبت الحق والعدل والسلام.(1/85)
والله سبحانه هو الرحمن الرحيم، ورحمته لنا تزيد بمقدار رحمتنا لخلقه، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ » متفق عليه(1).
والرحمة المضافة إلى الله نوعان:
الأولى: إضافة مفعول إلى فاعله كما قال الله سبحانه في الحديث عن الجنة: «إِنَّمَا أنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي» متفق عليه(2).
فهذه رحمة مخلوقة، مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق، وسماها رحمة، لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة، وخص بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرحماء، ومنه تسمية المطر رحمة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة» متفق عليه(3).
الثانية: إضافة صفة إلى موصوف، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» أخرجه النسائي في الكبرى والحاكم(4).
فالرحمة هنا صفة لله يستغاث بها، ولا يستغاث بمخلوق.
ألا ما أعظم رحمة الله بهذه الأمة، حيث أنزل عليهم أحسن كتبه، وأرسل إليهم أفضل رسله، وشرع لهم أفضل شرائع دينه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [يونس: 57].
فالهدى هو العلم بالحق والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به من المؤمنين، وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، وتم الفرح والسرور.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7376) واللفظ له، ومسلم برقم (2319).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4850)، ومسلم برقم (2846)، واللفظ له.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6469)، واللفظ له ومسلم برقم (2752).
(4) صحيح: أخرجه النسائي برقم (10405) وأخرجه الحاكم برقم (2000).
انظر صحيح الترغيب رقم (654) وانظر السلسلة الصحيحة رقم (227).(1/86)
ولذلك أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالفرح بالقرآن الذي هو أعظم نعمة ومنة، والفرح بالإيمان وعبادة الله التي يحصل بها الأنس والطمأنينة، واللذة والسكينة كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [يونس: 58].
والله سبحانه خير من غفر، وأرحم من ملك، وأكرم من أعطى، فاللهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 155].
وعذاب الله إنما يحل بمن تعرض لأسبابه، أما رحمة الله فقد وسعت كل شيء في العالم العلوي والعالم السفلي، فلا مخلوق إلا وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست إلا للمؤمنين خاصة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 156].
ومن رحمته المكرورة كل يوم وليلة على مدى الدهر أن جعل لعباده النهار ليبتغوا من فضله، وينتشروا في ضيائه لطلب أرزاقهم ومعايشهم، وجعل لهم الليل ليسكنوا فيه، وتستريح أنفسهم وأبدانهم فيه من تعب التصرف في النهار، فهذا كله من فضله ورحمته بعباده: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [القصص: 73].
اللهم: (? ? ? چ چ چ چ ? ?) [المؤمنون: 109].
اللهم: (? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
سبحانك ما أعظمك، سبحانك ما أكرمك، سبحانك ما أرحمك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 163].
والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه يوم القيامة من الفضل والإحسان، والعفو والصفح، والتجاوز والغفران، ما لا تعبّر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار، ولا يخطر على القلوب.
ويتطلع إلى رحمته في ذلك اليوم جميع الخلق لما يشاهدونه، فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة، فهو الذي رحمته وسعت كل شيء، وغلبت رحمته غضبه، وعم كرمه كل حي، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
فقل ما شئت عن رحمة الله، فإنها فوق ما تقول، فهو الرحمن الرحيم.
وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك.
قال الله تعالى: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الفرقان: 26].(1/87)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ خَلَقَ، يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالأرْضَ، مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ» أخرجه مسلم(1).
فسبحان العزيز الرحيم، الذي رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته.
وكما لا تخلو سنة من مطر ينزل رحمة بالعباد، كذلك قلما تخلو سنة وشهر ويوم عن نفحة من نفحات الله يرحم بها من يشاء من عباده.
وكما يقوي انتظار نزول الغيث في أوقات الربيع عند ظهور السحب، يقوى كذلك انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة، وعند اجتماع الهم، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وشهر رمضان، وآخر الليل.. وعند الشدة والاضطرار، ونحو ذلك.
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، ولا تخزنا يوم العرض عليك، وراحم ضعفنا وذلنا وانكسارنا بين يديك، أنت ربنا، وأنت أرحم الراحمين.
5- فقه علم الرب
قال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [الحشر: 22].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 78].
وقال الله تعالى: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [البقرة: 235].
الله تبارك وتعالى هو العليم بكل شيء، الذي يعلم بكل شيء في السموات والأرض، وفي الدنيا والآخرة، وفي الظاهر والباطن: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 16].
وهوسبحانه العالم بكل شيء في السموات والأرض من الأشياء والأشخاص، والنيات والأعمال، والخواطر والحركات: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الحج: 70].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2753).(1/88)
وهو سبحانه العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم مثاقيل الجبال.. ومكاييل البحار.. وعدد قطر الأمطار.. وعدد ذرات الرمال.. وعدد ورق الأشجار.. وما أظلم عليه الليل.. وما أشرق عليه النهار.
لا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره.. ولا بحر ما في قعره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 29].
وهو سبحانه اللطيف الخبير الذي يعلم القليل والكثير، ويعلم الصغير والكبير، ويعلم القريب والبعيد، ويعلم الباطن والظاهر: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 16].
فسبحان اللطيف الخبير، المطلع على البواطن والأسرار، الذي يعلم خفايا القفار والبحار والجبال والظلام.
والله جل جلاله علام الغيوب، وعلمه محيط بكل شيء، لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في الليل ولا في النهار.
يعلم ما في البر والبحر، وما في جوف الأرض، وما في طباق الجو، من حي وميت، ورطب ويابس، يعلم ذلك ويراه، في الليل أو النهار، في النور أو الظلام: (? ں ں ? ? ? ?) [السجدة: 6].
وهو سبحانه الذي يعلم أستار الغيوب المختومة في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ويعلم مجاهل البر الواسعة، وغيابات البحر العميقة، ويعلم عدد الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، وكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض، وكل رطب ويابس في هذا الكون العظيم، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط بكل شئ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 59].
فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الذي يعلم الغيوب كلها، ويعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار، والزروع والثمار، والحصى والرمال، والأنفاس والكلمات والذرات.
وسبحان الذي يعلم ما في البحار من النبات والمعادن والحيوان والذرات.(1/89)
ألا ما أعظم الرب سبحانه، وما أوسع علمه الذي يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، فسبحانه من إله لا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء.
والله سبحانه هو العليم بكل شيء، ولا يخفى عليه من أحوال خلقه شيء، فهو الذي خلق البشر، وخلق قلوبهم، وخلق نفوسهم، وهو الذي يعلم مداخلها ومكامنها التي أودعها إياها، ويعلم الجهر وما يخفى.
فماذا نخفي؟.. وماذا نعلن؟: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [إبراهيم: 38].
إن السر والجهر كله مكشوف لعلم الله سواء، وهو سبحانه يعلم ما هو أخفى من السر، وهو عليم بذات الصدور، فهو الذي خلق ما في الصدور كما خلق الصدور، ألا يعلم سبحانه من خلق وهو الذي خلق؟
وهو سبحانه اللطيف الخبير، الذي يصل علمه إلى الدقيق والصغير، والخفي والمستور، فيعلم النيات والإرادات، والأقوال والأفعال، والسرائر والغيوب: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الملك: 13، 14].
والله جل جلاله محيط بكل شيء، أحاط علمه بالبشر وحركاتهم، فهم في قبضته، لا ينامون إلا بإذنه، ولا يقومون إلا بإذنه، ولا تتحرك جوارحهم بفعل أو ترك إلا بإذنه، ولا يعملون من عمل إلا وعند الله علم بما كسبت نفوسهم من خير أو شر، وهم مراقبون في حركاتهم وسكناتهم، لا يند عن علم الله منهم شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الأنعام: 60].
وهو سبحانه القاهر فوق عباده، العليم بأحوالهم، الرقيب عليهم، وهم جميعاً تحت سيطرته وقهره وعلمه، فكل حركة من حركاتهم بقدر، وكل نفس من أنفاسهم بقدر، وعليهم ملائكة يحصون على كل إنسان ما يفعله من خير أو شر في الدنيا، ثم إذا جاء أجلهم توفتهم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح، فلا يزيدون ساعة مما قدر الله ولا ينقصون، ثم يردون إلى ربهم ليحكم فيهم بحسب أعمالهم: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأنعام: 61، 62].(1/90)
والله عليم بكل شيء، فلا يفلت شيء عن علم الله في الأرض ولا في السماء، ولا يمكن ستر النوايا عليه، ولا إخفاء الكيد عنه، ولا يمكن التفلت من الجزاء الدقيق، ولا التهرب من العلم اللطيف، فكل شيء معلوم لعلام الغيوب: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 5].
والله سبحانه عليم بأحوال الخلائق كلها، يعلم المؤمنين والكافرين والمنافقين، ويعلم خبايا نفوسهم، وما تنطوي عليه صدورهم، وما يصدر عن جوارحهم.
ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول الكفر والنفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء.
فالله لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم، ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الأنعام: 160].
والله بكل شيء عليم، يعلم الجهر وما يخفى، ويعلم كل شيء علماً مطلقاً كاملاً شاملاً، والناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه، فهو سبحانه العالم الذي علم عباده ما فيه مصالحهم في الدنيا والآخرة، وأحاط بكل شيء علماً، والعباد لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو الذي يعلم أقوالهم وأفعالهم، ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
وهو سبحانه الرحمن الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، تارة بلسانه، وتارة بقلمه، وتارة بإشارته: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الرحمن: 1-4].
وهو سبحانه العليم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، علمه أشياء، وزوى عنه أشياء، ونسبة ما يعلمه الإنسان، بل ما تعلمه البشرية كلها إلى ما لا تعلمه كنسبة الذرة إلى الجبل، والقطرة إلى البحر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 85].
وهو سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [العلق: 4، 5].(1/91)
وإذا كان العبد يعلم أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير فليتق الله ربه، وليحذر من معصيته حتى لا يتعرض لعقوبته: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [البقرة: 235].
وهو سبحانه عالم الأسرار والخفيات: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الأنعام: 3].
فمن يستطيع من البشر أن يتخفى من الله بسر أو نية أو حركة. إن القلب الذي يخفي فيه الإنسان النية من خلق الله، وهو سبحانه يعلم دروبه وخفاياه وما فيه، والنية التي يخفيها الإنسان هي كذلك من خلقه، وهو يعلمها، ويعلم أين تكون، والبدن الذي يتحرك بالأفعال هو من خلق الله، يحركه بما شاء، في أي وقت شاء، ويعلم النيات والأفعال والأقوال قبل وقوعها.
فماذا يستر الناس؟، وماذا يخفون؟، وأين يستخفون؟: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 7].
إن القرآن يسكب هذه الحقائق العظيمة في قلب المؤمن، لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكاً صحيحاً للأمور، ويملأ قلبه بالتعظيم والإجلال للكبير المتعال، ويبعث فيه اليقظة والتقوى لأداء الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض، وذلك لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه وما يكمن فيه من سر ونية هو من خلق الله، الذي يعلمه الله، وعندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة، والهاجس الدفين، كما يتقي الحركة المنظورة، والصوت الجهير، وهو يتعامل مع الله الذي يعلم السر والجهر، والغيب والشهادة، وما في الصدور وما في القلوب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 18].
والله سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم كل شيء: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 2].
فهو سبحانه الذي يعلم ما يقع في كل لحظة من الحركات والسكنات، والأحجام والأشكال، والأقوال والأفعال، والمخلوقات والأشياء.(1/92)
إن أهل الأرض كلهم لو وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع من أمر الله وخلقه في لحظة واحدة، لأعجزهم تتبعه، فضلاً عن إحصائه، لكن الله علام الغيوب يعلمه، فهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكم من شيء في هذه اللحظة يلج في الأرض من مطر وبذر وحيوان؟.
وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها من نبات وحيوان، ومعدن وغاز؟.
وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء من الملائكة والأرزاق، والأقدار والأسرار، والأوامر والأمطار والرحمات؟.
وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها من الملائكة والأرواح والأعمال وغيرها؟
كم من شيء يلج في الأرض؟، وكم من حبة تختبئ في بطن هذه الأرض؟، وكم من دودة، ومن حشرة، ومن هامة، ومن زاحفة تلج في طول الأرض كلها؟.
وكم من قطرة ماء، ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء، تندس في أحشاء هذه الأرض الفسيحة؟.
إن الله وحده هو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي يعلمه، وهو الذي دبره، وهو الذي يقوم عليه: (? ں ں ? ? ? ?) [السجدة: 6].
وكم يخرج من الأرض.. كم من نبتة تنبثق.. وكم من نبع يفور.. وكم من بركان يتفجر.. وكم من غاز يتصاعد..، وكم من مستور ينكشف.. وكم من حيوانات وحشرات تخرج من بيتها المستور؟.
وكم وكم يخرج منها مما يرى ومما لا يرى من المخلوقات؟.
إن الله يعلم ذلك كله، وهو الذي أعطاه أمر الوجود فوجد، وأمر البقاء فبقي، وأمر الحركة فتحرك، وأمر السكون فسكن وأعطاه أمر الحياة فحيا، وأعطاه أمر النفع والضر فنفع أو ضر.
فسبحان الخلاق العليم، وسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء.
هذا بالنسبة للأرض، أما السماء فكم مما ينزل من السماء.. كم من نقطة مطر... وكم من شهاب ثاقب.. وكم من شعاع محرق.. وكم من شعاع منير.. وكم من قضاء نافذ.. وكم من قدر مقدور؟.(1/93)
وكم من رحمة تنزل؟.. وكم من رزق ينزل؟.. وكم من أمر ينزل؟.. كم من أمر ينزل بالإحياء والإماتة.. والهداية والضلالة.. والعزة والذلة.. والعافية والمرض.. والسعادة والشقاوة؟.
وكم وكم مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله وحده؟ الذي أحاط بكل شيء علماً.
إن الله يعلم جميع ذلك، ونحن لا نعلمه.
يا حسرة على العباد، ماذا علموا وماذا جهلوا من عظمة الرب، وقدرته، وجلاله وجماله، ودينه وشرعه؟: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الأنعام: 91].
وكم مما يعرج في السماء؟.
كم من نفس صاعد من نبات وحيوان وإنسان؟.
وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مخفية لم يسمعها إلا الله في علاه؟.
وكم من شكوى رفعت لا يعلمها إلا الله عزَّ وجلَّ؟.
وكم من دعاء لا يحصيه ولا يجيب صاحبه إلا الله؟.
وكم من روح من أرواح الخلائق متوفاة؟.
وكم من مَلك يعرج بأمر الله؟.
وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟.
وكم من روح تفتح لها أبواب السماء؟.
وكم من روح تصعد ثم تطرح؟.
وكم من قطرة بخار صاعدة من بحر؟.
وكم من ذرة غاز صاعدة من جسم؟.
إن الله وحده هو الذي يعلم ذلك كله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 29].
إن هذا حديث عظيم يهز الجبال الرواسي، فأين العقول التي تفقه؟.. وأين القلوب التي تخشع؟.. وأين العيون التي تدمع رغبة ورهبة وخوفاً، وإجلالاً وتعظيماً، وتسبيحاً وتكبيراً لمولاها العزيز العليم؟.
ماذا مع البشر من العلم؟.. وأين يذهبون؟.
وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة، ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟.
أما إدراك جميع ما يجري في كل هذا الكون في كل اللحظات فأمر يفوق الخيال والتصور، ولا يدركه ولا يعلمه ولا يحيط به إلا العليم الخبير الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وأحصى كل شيء عدداً.(1/94)
فسبحان عالم الغيب والشهادة، المطلع على الضمائر والسرائر، المحيط بكل مضمر وظاهر، في كل زمان، وفي كل مكان.
الذي لا يغيب عن علمه، ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما في كل قلب من النوايا والخواطر والإرادات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 61].
إن الشعور بعلم الله وعظمته ورقابته على هذا النحو شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً.
فشعور هذا المخلوق الضعيف، وهو مشغول بشأن من شؤونه، وإحساسه أن الله معه، شاهد أمره، حاضر شأنه، بكل عظمته سبحانه، وبكل قوته، وبكل هيبته وجبروته، الله خالق هذا الكون العظيم، ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان، الله مع هذا المخلوق الإنساني، الذرة التائه في الفضاء، لولا عناية الله تمسك به وترعاه، إنه شعور رهيب يرجف له الفؤاد، ويدفع المسلم إلى الحياء من ربه، وحسن الطاعة والانقياد له، لئلا يناله غضب الجبار وعقوبته. وهو كذلك شعور مؤنس مطمئن أن هذا الإنسان ليس مهملاً ولا متروكاً بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.
إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن مع ذلك شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة التامة لكل ما في الكون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 61].
إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي يعلم ما فيه من المخلوقات التي لا يحصيها إلا هو.
فهذه الدواب التي تدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان، وزاحفة وهامة، وطيور وحشرات، في البر والبحر والجو، ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة، وتكمن في باطنها، أو تطير في جوها، أو تختفي في مساربها ودروبها، ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحصيها إلا الله وحده، إلا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو الذي يعلم أين تستقر؟ وأين تكمن؟، ومن أين تجيء؟، ومن أين تذهب؟، ومن أين تأكل؟.(1/95)
وكل منها مقيد في علم الله حياً، ومقيد في علم الله ميتاً، ولا يعزب عنه منها شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 6].
إن فؤاد الإنسان يرجف، وكيانه يهتز، حين يرى عظمة العلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات في هذا الكون العظيم، وحين يحاول تصور ذلك بخياله الإنساني فلا يطيق، ويزيد على مجرد العلم بها تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الكبير من المخلوقات الهائلة، والذي يعجز عن تصوره الخيال البشري، كمية ونوعية.. ومكاناً وزماناً.. وإيصاله لكل مخلوق.
وقد أوجب الله سبحانه على نفسه، وتكرم على خلقه مختاراً أن يرزق جميع هذه المخلوقات الكثيرة الهائلة التي تدب على وجه هذه الأرض.
فأودع الله عزَّ وجلَّ هذه الأرض، ودحاها بالأرزاق، وأودع فيها القدرة على تلبية حاجات هذه الكائنات جميعاً، وأودع هذه الكائنات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض، ساذجاً خامة كالمعادن، أو منتجاً بالزرع، أو مصنوعاً، أو مركباً إلى غير ذلك من الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده وحفظه.
فسبحان العليم القدير: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [الأعلى: 2، 3].
وعلمُ الله عزَّ وجلَّ واسع شامل، لا يند عنه شيء، فالله سبحانه يعلم الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الظلام، والحب المدفون في التراب، والدواب التي تدب في قعر البحار.
ويعلم سبحانه كل مستخف بالليل، وكل سارب بالنهار، وكل هامس، وكل جاهر، وكل أولئك مكشوف لعلم الله: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الرعد: 8-10].
والله سبحانه عليم بأحوال الرجال والنساء، وأحوال الذكور والإناث، قادر على خلقهم متى شاء، وفي أي مكان شاء، وبأي عدد شاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 11].(1/96)
فالله سبحانه هو العليم الذي يعلم ما تحمل كل أنثى من إناث الإنسان والحيوان، والطير والأسماك، والزواحف والحشرات، والأشجار والنباتات، وما سواها مما نعلمه ومما لا نعلمه، وكلها تحمل وتضع بأمر الله.
وعلم الله شامل واقع على كل حمل، وعلى كل وضع، في جميع هذا الكون المترامي الأطراف.
وكذلك الله وحده يعلم جميع الأحياء والأموات في هذا الكون، من شجر ونبات، وطير وحيوان، وإنس وجان، وما سواه على اختلاف الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والأماكن والأزمنة.
وهذه المخلوقات التي لا يمكن حصرها، ولا يعلمها إلا خالقها، منها ما يعمر فيطول عمره، ومنها ما ينقص من عمره فيقصر، وفق علم مقدور، متعلق بكل جزء من كل فرد، يعمر أو ينقص من عمره، كل ذلك في كتاب من علم الله الشامل الدقيق، وذلك كله لا يكلف جهداً ولا عسراً، وهو على الله يسير.
والتعمير يكون بطول الأجل، وعدد الأعوام، كما يكون بالبركة في العمر، والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقاً مثمراً، وكذلك يكون نقص العمر في عدد السنين، أو نزع البركة من العمر، وإنفاقه في اللهو والعبث، والكسل والفراغ، وكل ذلك في كتاب.
والجماعات كالآحاد، والأمم كالأفراد، كل منها يعمر أو ينقص من عمره.
والأشياء كالأحياء، كلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم.
فما أعظم خالق هذا الكون، وما أعظم قدرته، وما أوسع علمه.
إن تصور هذا الكون، وما فيه من المخلوقات العظيمة، يوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد، وأسلوب جديد.
وإن القلب الذي يبصر يد الله وعينه وعلمه على كل شيء بمثل هذه الدقة والرقابة، ليصعب عليه أن ينسى أو يغفل أو يضل، وهو حيثما تلفت واتجه، رأى الخالق والمخلوق، والمصور والصور، ووجد علم الله محيطاً بكل شيء، ورحمته وسعت كل شيء.(1/97)
إن تصور معية الله لكل أحد، وفي كل حالة، أمر جليل رهيب، إنها حالة تهز القلوب، لا يثبت لها قلب، ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز خوفاً، وحياءً، وأنساً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 7].
إن مجرد معية الله لكل إنسان ومراقبته ظاهره وباطنه أمر هائل، فكيف إذا كان يتبع ذلك حساب وعقاب؟، وكيف إذا كان ما يُسرُّه المتناجون ويخفونه سيعرض على الأشهاد يوم القيامة؟.
إن الله جل جلاله هو الذي خلق البشر كلهم، وعلمهم من العلم ما لم يكونوا يعلمون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 78].
إن جميع ما أعطى الله البشرية من العلم، لو جمع كله لفرد، ثم كانت البشرية كلها على علم ذلك الفرد، لكان ذلك كله بالنسبة للعلم الإلهي أصغر من الخردلة بالنسبة للجبل، ولا ينقص ذلك العلم من علم الله إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
وكما لا يستطيع البشر أن يخرجوا من الأرض التي أقلتهم، ولا من السماء التي أظلتهم، فكذلك لا يستطيعون الخروج من علم الله الذي أحاط بكل شيء علماً في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وفي الدنيا، وفي الآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
والله سبحانه عالم الغيب والشهادة، وعالم الغيب أكبر من عالم الشهادة وأوسع منه، ونسبته إليه أصغر من الذرة بالنسبة للجبل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 34].
إن الله تبارك وتعالى قد جعل علم الساعة غيباً لا يعلمه سواه، ليبقى الناس على حذر دائم، وتوقع دائم، ومحاولة دائمة.
وهو سبحانه الذي خلق الغيث، وينزله على خلقه وفق حكمته بالقدر الذي يريد، في المكان الذي يريد، على المخلوقات التي يريد، في الوقت الذي يريد، وعلم الله بالغيث شامل لتكوينه وتوزيعه وقدره على مدى الدهر.(1/98)
وهو سبحانه الذي يعلم ما في الأرحام وحده، ماذا في الأرحام في كل لحظة؟.. وماذا فيها في كل طور؟.. وماذا فيها من النطف والأجنة؟.
وماذا في الأرحام من غيض وفيض..؟ ومن حمل حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم؟.
فالله وحده هو الذي يعلم نوع هذا الحمل، ذكراً أم أنثى، ناقصاً أم تاماً.
وهو سبحانه وحده الذي يعلم موعد خلق الانسان، وموعد نفخ الروح فيه، وموعد نزوله، ولونه وحجمه، كل ذلك لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له.
وهو سبحانه الذي يعلم ماذا تكسب كل نفس من خير أو شر، وطاعة أو معصية، وحلال أو حرام.
وهو سبحانه وحده الذي يعلم متى يموت الإنسان، وأين يموت؟.
إن النفس إذا عرفت عظمة الله، ومقدار علم الله، تطامنت من كبريائها، وخشعت لله عزَّ وجلَّ، وسلمت لأمره.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع.
سبحان العليم القدير الذي يعلم عدد النجوم، وعدد قطر الغيوم، ويعلم عدد الملائكة، وعدد كلامهم وتسبيحهم وتقديسهم.
ويعلم كل ذرة في الكون، وكل طائر في الجو، ويعلم كل قائم وقاعد، وكل راكع وساجد، وكل متحرك وساكن، وكل ذاكر وغافل، وكل ناطق وصامت.
ويعلم كل صالح ومفسد، وكل مقبل ومدبر، وكل صحيح ومريض، وكل غني وفقيروكل مسافر ومقيم.
ويعلم كل عالٍ وسافل، وكل ضاحك وباك، وكل مسرور ومحزون، وكل خائف وآمن، وكل مؤمن ومنافق: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الحج: 70].
6- فقه جمال الرب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [ق: 6].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ» أخرجه مسلم(1).
الله تبارك وتعالى هو الجميل الذي له الجمال المطلق في كل شيء.
وجماله سبحانه على أربع مراتب:
جمال الذات.. وجمال الأسماء.. وجمال الصفات.. وجمال الأفعال.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (91).(1/99)
فأسماء الله عزَّ وجلَّ كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة.
أما جمال الرب تبارك وتعالى في ذاته، وما هو عليه من الحسن والجمال والكمال فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره.
ومن أعز أنواع المعرفة، معرفة الرب سبحانه بالجمال، وكل العباد عرفه سبحانه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله عزَّ وجلَّ.
ولو أن الخلق كلهم كانوا على أجملهم صورة، ثم كانوا كلهم على جمال تلك الصورة، ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه، لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس في رابعة النهار.
فهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه، الرحيم الذي لا أرحم منه، الكريم الذي لا أكرم منه.
ويكفي في جماله سبحانه أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعه وخلقه وجماله، فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال، وهذا الحسن، وهذه الزينة؟.
كم يكون جماله سبحانه، وهو الذي خلق الجمال كله في الكون كله؟.
فسبحان: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [السجدة: 7].
وهو سبحانه نور السموات والأرض، ولنور وجهه أشرقت الظلمات، ويوم القيامة تشرق الأرض بنوره: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ) [النور: 35].
وحجابه النور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ » أخرجه مسلم(1).
وكلامه نور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 8].
ودينه نور كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [البقرة: 257].
ويكفي في جماله سبحانه أن له العزة جميعاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 10].
وله القوة جميعاً كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [البقرة: 165].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (179).(1/100)
ويكفي في جماله سبحانه أن له الفضل كله، وله الجود كله، وله الإحسان كله، وله النعمة كلها، وله الملك كله، وله الخلق كله، وله الأمر كله.
وهو سبحانه الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، الكريم المنان، الكبير المتعال، العزيز الجبار، العليم الحكيم.
حجب سبحانه الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال.
فالعبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئاً من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات.
ومن هنا نعلم أن الله تبارك وتعالى له الحمد كله، وله الحب كله، وأن أحداً من خلقه لا يحصي ثناءً عليه، بل هو سبحانه كما أثنى على نفسه، فهو سبحانه الذي يستحق أن يعبد لذاته، وأن يحب لذاته، وأن يشكر لذاته، وأن يحمد لذاته: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 24].
وهو سبحانه يحب نفسه، ويحمد نفسه، ويثني على نفسه، ويمجد نفسه.
فحمده لنفسه وثناؤه على نفسه، وتمجيده لنفسه كقوله سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 2-4].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 1].
وحبه تبارك وتعالى لنفسه، وحمده لنفسه، وتوحيده لنفسه، هو في الحقيقة الحمد والثناء والتوحيد الكامل الذي يليق به سبحانه.
وهو سبحانه كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه.
وهو سبحانه كما يحب ذاته، يحب صفاته وأفعاله، فكل أفعاله حسن محبوب، وإن كان في مفعولاته ما يبغضه ويكرهه، فليس في أفعاله ما يكرهه ويسخطه، فأفعاله وصفاته كلها حسنى.
وليس في الوجود ما يحب لذاته، ويحمد لذاته إلا الله عزَّ وجلَّ.
وكل ما يحب سواه، فإن كان المحبوب لأجله، وتابع لمحبته، فمحبته صحيحة، وإلا فهي باطلة، ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان.(1/101)
وهذه حقيقة العبودية، وحقيقة الإلهية، فإن الإله الحق هو الذي يُّحب لذاته، ويُّحمد لذاته، ويُعبد لذاته، وصرف ذلك لغيره جهل: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الزمر: 64].
فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه وإنعامه، وبره ورحمته، وحلمه وعفوه، ومغفرته وإكرامه؟.
فعلى العبد أن ينظر في الآيات الكونية، والمخلوقات الربانية، والآيات القرآنية ليعلم أنه لا إله إلا الله، فيحبه ويحمده لذاته وكماله: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [يونس: 101].
وهذا النظر، وهذا التفكر، وهذا التدبر، هو الذي يتغذى به القلب، وينشرح به الصدر، ويزداد به الإيمان، فيقبل على الطاعات بلذة ورغبة، وخشوع وخضوع، لما يرى من عظمة الخالق، وعظمة مخلوقاته، وآلائه وإحسانه، وجلاله وجماله، وحسن خلقه وتدبيره.
وعلى العبد كذلك أن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا الله وحده، فيحبه لإحسانه وإنعامه، ويحمده على ذلك: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [غافر: 61].
وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء، فليس كمحبته شيء، وليس كمحبته محبة، والمحبة له، مع كمال الذل له، مع كمال التعظيم له، هي العبودية التي خلق الله الخلق لأجلها، ولا يصلح ذلك إلا لله سبحانه.
وحمده سبحانه يتضمن أصلين:
الأول: الإخبار بمحامده وصفات كماله.
الثاني: المحبة له عليها.
فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامداً، ومن أحبه من غير إخبار بمحاسنه لم يكن حامداً له، حتى يجمع الأمرين.
والله سبحانه يحمد نفسه بنفسه كما قال سبحانه: (ں ? ? ? ?) [فاطر: 1].
ويحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، فهو الحامد لنفسه بهذا.. وبهذا، فإن حمد الخلق له بمشيءته وإذنه، وخلقه وتكوينه.(1/102)
فإنه سبحانه هو الذي جعل الحامد حامداً، والمسلم مسلماً، والمصلي مصلياً، والتائب تائباً، وجعل من خلقه من يدعو إليه كما قال سبحانه عن آل إبراهيم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 73].
وكذا جعل سبحانه من خلقه من يدعو إلى النار كما قال سبحانه عن فرعون وجنوده: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [القصص: 41].
وهو المحمود على هذا وهذا، وله الحكمة البالغة في جميع ذلك.
فهو سبحانه ذو الفضل والإحسان، منه ابتدأت النعم، وإليه انتهت، فابتدأت بحمده، وانتهت إلى حمده، فهو سبحانه الرحيم الذي ألهم عبده التوبة، وفرح بها، وأعانه عليها، وهي من فضله وجوده.
وهو سبحانه الذي ألهم عبده الطاعة، وأعانه عليها، ثم أثابه عليها، وهي من فضله وجوده.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 17].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الله أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أضَلَّهُ فِي أرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه(1).
وهو سبحانه الغني عن كل ما سواه بكل وجه، وما سواه فقير إليه بكل وجه، والعبد مفتقر إلى ربه في جميع أحواله.
والله تبارك وتعالى جميل يحب الجمال، خلق السماء وزينها بالنجوم، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق الأرض وزينها بما على ظهرها من النبات والمياه والجبال والسهول والوديان.
والله عزَّ وجلَّ يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذي يحبه الله، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن، فيحب سبحانه أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة، والجمال الباطن بالشكر عليها.
ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباساً وزينة تجمل ظواهرهم، ولباس التقوى الذي يجمل بواطنهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 26].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309) واللفظ له، ومسلم برقم (2747).(1/103)
وكذلك جمَّل سبحانه أهل الجنة بأكمل جمال وأحسنه فقال في وصفهم: (? ? ? ? ? ? ? ژ) [الإنسان: 11، 12].
فجمَّل وجوههم بالنضرة، وقلوبهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير والحلى، وقصورهم بالذهب والفضة، وجعل خدمهم كاللؤلؤ المنثور.
وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال، والهيئة واللباس، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال، والهيئات والثياب، فهو سبحانه الجميل الذي يحب الجمال وأهله، ويبغض القبيح وأهله.
والجمال ثلاثة أنواع:
منه ما يحمد.. ومنه ما يذم.. ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم.
فالمحمود منه: ما كان لله، وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، وكان صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، كل ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، وغيظ عدوه.
والمذموم منه: ما كان للدنيا والرياسة والشهرة والفخر والخيلاء، والتوسل إلى الشهوات المحرمة، وأن يكون هو غاية العبد، وأقصى مطلبه، فإن أكثر النفوس ليس لها همة في سوى ذلك.
وأما ما لا يحمد ولا يذم: فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ» أخرجه مسلم(1).
فهذا الحديث مشتمل على أصلين عظيمين:
أوله معرفة.. وآخره سلوك.
فيعرف العبد ربه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويعبده بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق واللباس.
فالله عزَّ وجلَّ يحب من عبده أن يجمِّل لسانه بالصدق، ويجمِّل قلبه بالإيمان والتوحيد، والإخلاص والمحبة، والإنابة والتوكل، والخوف والخشية.
ويجمِّل جوارحه بالطاعات، ويجمِّل بدنه بإظهار نعمة الله عليه في لباسه، وتطهيره من الأنجاس والأحداث.
فيعرف ربه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (91).(1/104)
إن هذا الوجود الذي خلقه الله جميل، وجماله من جمال خالقه الجميل، الذي يملك الجمال كله، جمل الدنيا بما شاء، وجمل الآخرة بما شاء.
وهذا الجمال الذي خلقه الله في هذا الكون يتكرر كل يوم بل كل لحظة، ونراه في السماء ونجومها وكواكبها، وفي الأرض ونباتها وأشجارها، وما يدب عليها من إنسان وطير وحيوان.
قال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [الصافات: 6].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الكهف: 7].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [غافر: 64].
إن عنصر الجمال مقصود قصداً في هذا الوجود، فكما يدل الخلق على الخالق، كذلك يدل الجمال على جمال الرب سبحانه، وإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء يصل إلى حد الجمال، وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل خلق، وفي كل عضو.
فسبحان الخلاق العليم: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [السجدة: 7].
فهل يستيقظ القلب ليتملى ويتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الدين العظيم، وفي هذا الكون العظيم؟، ومن ثم يصل إلى واهب الحسن والجمال في هذه المخلوقات، فيؤمن به، ويعرف جلاله وجماله، ويدين له بالعبودية والطاعة: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [ق: 6-8].
اللهم كما خلقتنا في أحسن تقويم، زين قلوبنا بالإيمان، واشرح صدورنا لليقين، وجمل جوارحنا بالطاعات، وارزقنا أحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، يا ذا الجلال والإكرام.
7- فقه أسماء الله الحسنى
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 180].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [طه: 8].
وقال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الإسراء: 110].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 24].(1/105)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ » متفق عليه(1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي» أخرجه أحمد(2).
الله تبارك وتعالى هو الرب العظيم، الملك الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، فله سبحانه كل اسم حسن، وهو كل اسم دال على صفة كمال عظيمة، فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها، فهو الرحيم، الذي له رحمة عظيمة وسعت لكل شيء.
وهو العليم، الذي أحاط علمه بكل شئ، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وهو القدير، الذي له القدرة المطلقة، فلا يعجزه شيء.
وأسماء الله وصفاته كثيرة، لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله وحده لا شريك له.
فله سبحانه الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى.
ومن حسنها أنها كلها أسماء دالة على المدح، فليس فيها اسم لا يدل على المدح والحمد.
ومن حسنها أنها ليست أعلاماً محضة، وإنما هي أسماء وأوصاف دالة على الكمال والجمال والجلال.
ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة، وأن له سبحانه من كل صفة أكملها وأعمها وأجلها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2736) واللفظ له، ومسلم برقم (2677).
(2) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4318)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (199).(1/106)
ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها، لأنها وسيلة مقربة إليه سبحانه، يحبها، ويحب من يحبها، ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث ويتفكر في معانيها، ويتعبد له بها.
فسبحان الرب العظيم، المألوه المعبود، الله الذي لا إله إلا هو، العظيم في ملكه، الرحيم بعباده، الذي عم خلقه بإحسانه الشامل، وتدبيره العام، وحفظه التام، ورحمته الواسعة.
والله عزَّ وجلَّ جميع أسمائه حسنى يحب أن يُدعى بها.. وله رسل يحب أن يطاعوا.. وله كتاب يحب أن يحكَّم، ويمتثل ما فيه من أوامر.. وله دين يحب أن ينفذ في خلقه.. وله نعم كثيرة يحب أن يُشكر عليها.. وله خلقٌ اصطفاهم على غيرهم يحب أن يعبدوه وحده، بما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
وهذا بيان وشرح موجز لأسماء الله الحسنى التي سمى الله بها نفسه في القرآن الكريم، وسماه بها أعلم الخلق به رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية:
الله... جل جلاله
من أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الله، والإله.
قال الله تعالى: (? ? ? پ پ پ پ ?) [آل عمران: 2].
وقال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [الحشر: 22].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الزخرف: 84].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [طه: 8].
الله تبارك وتعالى هو الإله الحق، واسم (الله) عزَّ وجلَّ دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العلا، مستلزم لجميع الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال.
ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 180].
وقال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].(1/107)
فالله سبحانه هو الإله الحق، الذي يجب أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له وحده لا شريك له، لكمال ذاته، وكمال أسمائه، وكمال صفاته، وكمال أفعاله، وعظيم نعمه، وجميل إحسانه.
فهو سبحانه الإله الحق، ودينه هو الحق، وعبادته هي الحق، وكل ما سوى الله باطل، وعبادته باطلة، لأن كل ما سوى الله مخلوق ناقص مدبر، عبد مملوك فقير من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئاً من أنواع العبادة.
والله عزَّ وجلَّ هو المألوه المعبود، المستحق لإفراده بالعبادة، لما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال.
والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإله، الذي اشتق منه اسم (الله).
واسم (الله) دال على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً، وخشوعاً وخضوعاً، وتفزع إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد.
وذلك مستلزم لجميع صفات كماله سبحانه وتعالى.
فصفات الجلال والجمال أخص باسم (الله).
وصفات الخلق والفعل، والقدرة والقوة، ونفوذ المشيءة، والتفرد بالنفع والضر، والعطاء والمنع، وتدبير أمر الخلائق أخص باسم (الرب).
وصفات الإحسان والإنعام، والجود والبر، واللطف والحنان، والمنة والرأفة أخص باسم (الرحمن).
واسم (الله) ما أطلق على غير الله وحده، فلا يوجد أحد اسمه الله سوى الله وحده: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [مريم: 65].
وقال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [الإسراء: 110].
فهذان الاسمان (الله، والرحمن) أعظم الأسماء، واسم الله أعظم من اسم الرحمن، لأن الله قدَّمه في الذكر، ولأن اسم (الله) يدل على كمال الرحمة، وكمال القهر والغلبة، وكمال العظمة والعزة، واسم (الرحمن) يدل على كمال الرحمة، ولا يدل على كمال القهر والغلبة، والعظمة والعزة، فثبت أن اسم الله تعالى أعظم.(1/108)
والله عزَّ وجلَّ هو المستحق للعبادة، لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وكل موجود فإنما حصل بإيجاد الله له، وما حصل للعباد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله، فغاية الإنعام من الله، والعبادة غاية التعظيم، وغاية التعظيم لا تليق إلا بمن صدرت عنه غاية الإنعام، وهو الله عزَّ وجلَّ، فثبت أن المستحق للعبادة ليس إلا الله تعالى.
والله سبحانه هو الإله الحق الذي سكنت إليه العقول، واطمأنت بذكره القلوب، والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته، فهو الإله الحق الكامل لذاته، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته، وإذا كان الكامل محبوباً لذاته، وثبت أن الله كامل لذاته، وجب كونه محبوباً لذاته، مستحقاً للعبادة وحده دون سواه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 28].
فيا سعادة من وصل إلى ساحل بحر معرفته، ورأى عظمة ذاته وأسمائه وصفاته، وأبصر جماله وجلاله وكماله، وشاهد آلاءه وإحسانه وأفعاله.
فمجَّده بلسانه، وعظَّمه في قلبه، وشكره بجوارحه، وتلذَّذ بعبادته وطاعته.
والله سبحانه هو النور، وحجابه النور، احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره.
عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال:
«نُورٌ أنَّى أرَاهُ » أخرجه مسلم(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزَّ وجلَّ: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (178).
(2) أخرجه مسلم برقم (179).(1/109)
والله سبحانه هو المألوه المعبود المحبوب، والعباد مولهون مولعون بالتضرع إليه في جميع الأحوال، فالإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية، فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى، فيتوجه إليه، فإذا تخلص من ذلك البلاء، وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء، أشرك مع الله غيره، ونسب ذلك الخلاص إلى الأسباب وهذا متناقض، لأن الله تعالى هو الذي يفرج الكربات وقت البلاء، وينعم على العباد في وقت الرخاء، فجيب الرجوع إليه في جميع الأحوال، والفزع إليه عند الضرورات، وعند الراحات، وعند الشدائد.
والله عزَّ وجلَّ هو المحسن إلى عباده في جميع الأحوال، والمحسن محبوب مرجوع إليه وحده في كل الأوقات: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 21، 22].
والله سبحانه هو المؤمن، الذي أمن خلقه من أن يظلمهم، والذي خلق الأمن، ومنَّ به على من شاء من عباده، والذي تفزع إليه الخلائق عند النوائب، المجير لكل الخلائق من كل المضار، المنعم بصنوف النعم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 53].
وهو سبحانه المتفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، ومغفرة السيئات، وكشف الكربات، وستر الزلات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [يونس: 107].
فتبارك الله رب العالمين.. وتبارك الله أحسن الخالقين.. والحمد لله رب العالمين.
الرحمن
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرحمن.. والرحيم.
قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ) [طه: 5].
وقال الله تعالى: ( ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 163].
الله تبارك وتعالى هو الرحمن الرحيم، ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، ذو الرحمة الشاملة الواسعة لجميع الخلائق.(1/110)
وهو سبحانه الرحمن الرحيم، المستحق أن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه، لأنه الرحمن الرحيم، المتصف بالرحمة العظيمة التي وسعت كل شيء، ولا يماثلها رحمة أحد.
والعالم العلوي والعالم السفلي كله قد امتلأ برحمة الله التي وسعت كل شيء، ووصلت ما وصل إليه خلقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
فبرحمته سبحانه خلق المخلوقات.. وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات.. وبرحمته حصل لها كل نعمة.. وبرحمته اندفع عنها كل نقمة.. وبرحمته عرَّف نفسه بأسمائه وصفاته وآلائه.. وبرحمته بين لعباده ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم بإرسال الرسل.. وإنزال الكتب.. وشرع الشرائع.
فمن آثار رحمته وجود جميع النعم، واندفاع جميع النقم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 18].
والرحمن: اسم دال على الصفة القائمة به سبحانه.
والرحيم: اسم دال على تعلقها بالمرحوم.
فهو الرحمن الرحيم الذي يرحم خلقه برحمته كما قال سبحانه: ( ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
والرحمن من أسماء الله التي لا يسمى بها غيره كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الإسراء: 110].
فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره، وهو الله.
وأما الرحيم فإن الله تعالى وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 128].
فمن أسماء الله الحسنى ما يسمى به غيره كالعلي والرحيم ونحوهما، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك.
والرحمة صفة كمال وجمال للرب سبحانه، فوصف نفسه بالرحمة، وتسمى بالرحمن الرحيم.
وظهور رحمته سبحانه في الوجود كظهور أثر صفة الربوبية والملك والقدرة، فإن ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهد برحمة ربانية تامة وسعت كل شيء.(1/111)
فالمخلوقات كلها شاهدة لله سبحانه بالربوبية التامة، وما في العالم العلوي والسفلي من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهد بملكه سبحانه، وما في الوجود من آثار رحمته العامة، والخاصة بالمؤمنين، مما لا يمكن عدٌّه ولا إحصاؤه، ولا جحده ولا إنكاره، كله شاهد برحمته العامة الشاملة التي وسعت كل شيء.
بل آثار رحمته في الكون أظهر من نور الشمس:
فبرحمته سبحانه أرسل إلى عباده الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وعلمهم من الجهالة، وهداهم من الضلالة.
وبرحمته عزَّ وجلَّ عرفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما علمنا به أنه ربنا ومولانا، وأنه العزيز الكريم الرحيم العفو الغفور.
وبرحمته سبحانه علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا إلى مصالح ديننا ودنيانا.
وبرحمته جل جلاله خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً، وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات.
وبرحمته عزَّ وجلَّ أنشأ السحاب، وسيره في البلاد، وسقى به العباد، وأنزل الغيث، فأنبت به الزروع والأشجار، وأخرج الفواكه والأقوات والمراعي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 57].
وبرحمته عزَّ وجلَّ وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6469)، ومسلم برقم (2752)، واللفظ له.(1/112)
وبرحمته سبحانه سخَّر لنا ما في السموات وما في الأرض.
فسخَّر لنا الشمس والقمر، والرياح والمياه، والخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل، والدر والنسل والأكل، وسخر الأرض للإنبات من كل زوج بهيج: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 20].
وبرحمته تبارك وتعالى خلق الجنة، وخلق سكانها، وخلق أعمالهم.
فبرحمته سبحانه خُلقت، وبرحمته عُمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، وبرحمته طاب عيشهم فيها.
ومن رحمة الرحمن الرحيم أنه يعيذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، ومن نفسه بنفسه.
ومن رحمته سبحانه أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام النسل، مع حصول المتعة.
ومن رحمته سبحانه أنْ أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وفسدت معيشتهم.
ومن تمام رحمته عزَّ وجلَّ أن جعل في عباده الغني والفقير، والعزيز والذليل، والقادر والعاجز، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [فاطر:15].
وأوسع المخلوقات عرشه سبحانه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي هو أوسع المخلوقات، بصفة الرحمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ) [طه: 5].
ولما استوى على عرشه بهذا الاسم، كتب مقتضاه على نفسه كتاباً فهوعنده وضعه على عرشه، أن رحمته سبقت غضبه، فكان هذا الكتاب كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة لهم، والتجاوز والإمهال، والحلم والأناة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمَّا قَضَى الله الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7453) واللفظ له، ومسلم برقم (2751).(1/113)
فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر.
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة، متعلقاً باسم الرحمن فقال: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الرحمن: 1-4].
وجعل سبحانه معاني السورة كلها مرتبطة بهذا الاسم، وختمها بقوله: (? ? ژ ژ ڑ) [الرحمن: 78].
فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة.. إذ مجيء البركة كلها منه.. وبه وضعت البركة في كل مبارك.. فكل ما ذكر عليه بورك فيه.. وكل ما أخلي عنه نزعت منه البركة.
ورحمة الله عزَّ وجلَّ وسعت كل شيء في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ووسعت البر والفاجر، والمسلم والكافر، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى آناء الليل وآناء النهار، ولكن للمؤمنين الرحمة الخاصة بهم، فلهم الرحمة المطلقة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 156].
والكافر لا رحمة له في الآخرة، أما في الدنيا فرحمةالله عامة لجميع الخلائق.
والله رؤوف رحيم، أرحم بعباده من الأم بولدها.
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أخَذَتْهُ، فَألْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «أتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟». قُلْنَا: لا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: «لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5999) واللفظ له، ومسلم برقم (2754).(1/114)
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن رحمة الله تنال عباده الرحماء فقال: «إنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» متفق عليه(1).
وكلما كان الإنسان أقرب إلى ربه تعالى كانت رحمة الله تعالى أولى به.
وكلما كان العبد طائعاً لله ورسوله، منتهياً عما نهى الله ورسوله عنه، كان استحقاقه للرحمة أعظم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 132].
وسمى الله عزَّ وجلَّ كتابه بالرحمة فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 89].
وسمى الله سبحانه الجنة بالرحمة، وهي أعظم رحمة خلقها الله لعباده الصالحين فقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) عمران: 107].
وأرسل الله عزَّ وجلَّ رسوله بالرحمة فقال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ) [الأنبياء: 107].
وإذا وصل العبد ما بينه وبين الرحمن بالعبادة والطاعة.. ووصل ما بينه وبين الخلق بالرحمة والإحسان.. تم له أمر دينه ودنياه وأخراه.. ونال مراده من مولاه.
وإن قطع ما بينه وبين الرحمن، وما بينه وبين الأرحام، فسد عليه أمر دينه ودنياه وأخراه.. وحرم رضا مولاه.
وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نشر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن فعمر به البلاد، وأحيا به العباد، وإذا أُراد بهم سوءاً أمسك عنهم ذلك الأثر، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن.
ومن تأمل هذا الكون العظيم بعين البصيرة، رآه ممتلئاً بهذه الرحمة الواحدة، التي ملأت طباق ما بين السماء والأرض كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوة سبقت رحمتي غضبي، فالمسبوق لا بدَّ لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة.
فهو سبحانه أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، يضع كل شئ في موضعه.
الملك
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الملك، والمالك، والمليك.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 116].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1284)، واللفظ له، ومسلم برقم (923).(1/115)
وقال الله تعالى: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [آل عمران:26].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القمر: 54، 55].
الله تبارك وتعالى هو الملك الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، والملك هو النافذ الأمر في ملكه، والملك أعم من المالك، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه.
والله جل جلاله هو الملك الذي يملك كل شيء، وهو مالك المالكين كلهم، وما يملكون كله، وإنما استفادوا التملك والتصرف في أملاكهم من جهته سبحانه، فهو الذي خلقهم وملَّكهم ما هم فيه.
فهو سبحانه ملك الملوك، ومالك الملك، ومالك الممالك، له الملك كله في الدنيا والآخرة، وله ملك السموات والأرض، وما فيهن من الملائكة والملوك والممالك والمماليك.
وسائر المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه:
من شمس وقمر، وليل ونهار، وكواكب ونجوم، وملائكة وأرواح، وإنس وجن، وطير وحيوان، وجماد ونبات، وبحار وأنهار، وسحب ومياه، وتراب وجبال، وهواء ورياح، وغير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه، أو الوقوف على آحاده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 120].
والله جل جلاله هو الواحد القهار، المالك لجميع المخلوقات قاطبة، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، ملكه كبير عظيم واسع، وقدرته في ملكه تامة مطلقة، فلا يعجزه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 2].
وهو سبحانه الملك الحق، الحي القيوم، القادر الذي لا يثقل عليه، ولا يعجزه حفظ هذا الملك العظيم، الواسع الكبير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
والله تبارك وتعالى هو الغني الذي يملك كل شيء، وبيده كل شيء، وله كل شيء، وهو المالك لخزائن السموات والأرض، ينفق كيف يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: (? ? ? ? ? ? ? ) [المنافقون: 7].(1/116)
والله جل جلاله هو الملك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء، وكل يوم هو في شأن، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويخفض آخرين، ويفعل ما يشاء: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 26، 27].
والله عزَّ وجلَّ مالك يوم الدين، والملك في ذلك اليوم العظيم لله الواحد القهار، لا ينازعه فيه أحد من ملوك الدنيا وجبابرتها: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الفرقان: 26].
فيحكم الملك الحق في ذلك اليوم بالحكم الذي لا يجور، ولا يظلم أحداً مثقال ذرة، ويجازي المحسن بإحسانه، ويجازي المسئ بإساءته.
عَنْ عبدا? - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأحْبَارِ إِلَى رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ: أنَّ الله يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ أنَا الْمَلِكُ.
فَضَحِكَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر:67]» متفق عليه(1).
والله سبحانه من كمال ملكه كمال رحمته، وكمال قدرته كما قال سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 2-4].
ومن الرحمة للخلق أن الله سبحانه مالك يوم الدين وحده، وله الملك يوم القيامة وحده، لأنه الذي يحاسب بالعدل والإحسان، ويعفو ويسامح، ويغفر ويستر، ولا يظلم ولا يجور: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 17].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4811) واللفظ له، ومسلم برقم (2786).(1/117)
والله تبارك وتعالى هو الملك الحق، وله الملك في السموات والأرض، وله الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة، والعزة والقوة: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
وصفة الملك تستلزم سائر صفات الكمال:
فالملك الحقيقي التام يستلزم الحياة المطلقة.. والقدرة التامة.. والعلم الشامل.. والإرادة النافذة.. ويستلزم السمع والبصر.. والكمال والفعل.. وغير ذلك من صفات الكمال والجلال والجمال.
فالله سبحانه هو الملك القوي القادر القاهر، الذي يدبر الأمر، ويصرف الأحوال، ويقلب الليل والنهار، ويفعل ما يشاء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ملك عظيم قادر حكيم:
يأمر وينهى.. ويثيب ويعاقب.. ويعطي ويمنع.. ويعز ويذل.. ويكرم ويهين.. وينعم وينتقم.. ويخفض ويرفع.. ويحيي ويميت.. ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته.. ويحكم عباده بأمره وشرعه، ويتقدم إليهم بأمره ونهيه، ويعمهم بفضله ورحمته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفتح: 14].
فسبحانه لا إله غيره، ولا رب سواه.
له الحمد على ملكه العظيم، وله الحمد على فضله الكبير، وله الحمد على رحمته الواسعة، وله الحمد على آلائه ونعمه السابغة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 1].
وكمال ملكه سبحانه لا بد أن يكون مقروناً بكمال حمده، وعموم حمده يستلزم ألا يكون في خلقه وأمره مالا حكمة فيه، وهو سبحانه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأحسن الخالقين.
فلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وإذا كان المُلك المطلق إنما هو لله وحده لا شريك له، فالطاعة المطلقة إنما هي له وحده لا شريك له، لأن ما سواه من ملوك الأرض وغيرهم إنما هم عبيد له، وتحت أمره وقهره، فلا بد من تقديم طاعة الملك الحق على طاعة من سواه، وتقديم حكمه على حكم غيره، ولا طاعة لأحد إلا في حدود طاعته، أما في معصيته فلا سمع ولا طاعة لأحد كائناً من كان.(1/118)
وقد يسمى بعض المخلوقين ملكاً إذا اتسع ملكه، إلاأن الذي يستحق هذا الاسم على وجه الكمال هو الله جل جلاله، لأنه مالك الملك، وليس ذلك لأحد غيره سبحانه.
والمخلوقات كلها مملوكة لله، محتاجة إليه، لا تملك من السموات والأرض شيئاً، ولا مثقال ذرة، ولا تنفع أحداً ولا تضره إلا بإذن الله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 76].
ومن الناس من يطغى، ويظن أنه المالك الحقيقي، وينسى أنه مستخلف فقط فيما آتاه الله من ملك ومال، وجاه وسلطان، فيتكبر ويتجبر، ويظلم الناس بغير حق، ويفسد في الأرض كما قال فرعون لقومه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف:51].
وقال لقومه: ( ? چ چ چ) [النازعات: 24].
فلما جنى هذه الجناية العظمى، ودعا قومه إلى هذه الضلالة الكبرى، واستجابوا له عاقبهم الله وأغرقهم جميعاً: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الزخرف: 54-56].
وإهلاك الله عزَّ وجلَّ لفرعون وقومه عبرة لكل ظالم متكبر من ملوك الأرض، تفرعن على الناس فيما آتاه الله من ملك، وظن أنه مخلد، ونسي أن ملكه زائل، وأن إقامته في ملكه مؤقتة، وإن ربك لبالمرصاد لكل طاغية.
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وتبارك: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [البروج: 9].
والله تبارك وتعالى هو الملك الحق، والملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي، ويتصرف في خلقه وأمره كما يشاء، فمن ظن أن الله عزَّ وجلَّ خلق خلقه عبثاً لم يأمرهم ولم ينههم، فقد طعن في ملكه، ولم يقدره حق قدره: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الأنعام: 91].
فكل من جحد شرع الله، وأمره ونهيه، وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة، فقد طعن في ملك الله، ولم يقدره حق قدره.(1/119)
وكونه تعالى إله الخلق يقتضي كمال ذاته وأسمائه وصفاته، ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها، فكما أن ذاته الحق، فقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، ولقاؤه حق، والجنة حق، والنار حق، وأفعاله كلها حق، فمن أنكر شيئاً من ذلك فما وصف الله بأنه الحق.
وكيف يظن أحد بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثاً، وأن يتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 115-116].
وهو سبحانه الملك الذي خلق الممالك كلها، المتصرف فيها كيف يشاء وحده، تصرف ملك قاهر عادل رحيم تام الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض.
وتصرفه سبحانه في ملكه دائر بين العدل والإحسان، والحكمة والمصلحة، والرحمة والمغفرة، لا يخرج تصرفه عن ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
والله تبارك وتعالى هو الملك الذي له ملك كل شيء، وله ملك السموات والأرض، وله وحده الملكية الشاملة المطلقة في هذا الكون، والناس ليس لهم ملكيةً ابتداءً لشيء، إنما لهم استخلاف من الملك الواحد الذي يملك كل شيء، ويستخلف من يشاء، وعليهم أن يخضعوا في خلافتهم لشروط المالك الذي استخلفهم، فإن خالفوا فإن الله سيسألهم ويحاسبهم ويعاقبهم.
فالله أعطى آل إبراهيم الملك والنبوة والكتاب، وآتى فرعون الملك والسيادة، وابتلى هذا.. وابتلى ذاك، فخسر هذا.. وفاز ذاك كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 54-55].
فسبحان الملك الذي بيده ملكوت كل شيء، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وله ملك السموات والأرض وما بينهما، وله العزة والكبرياء، وله القهر والسيطرة المطلقة على هذا الكون العظيم، سيطرة الملكية والاستعلاء، وسيطرة التصريف والتدبير، وسيطرة التبديل والتغيير.(1/120)
باقٍ لا يفنى، قوي لا يغلب، عدل لا يظلم، جبار لا يقهر، قادر لا يعجزه شيء، غني لا يحتاج إلى شيء.
واحد لا شريك له في ملكه وخلقه وتدبيره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 1، 2].
سبحانه وتعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً.. قدر حجمه وشكله.. وقدر وظيفته وعمله.. وقدر مكانه وزمانه.. وقدر بقاءه وفناءه.
فله الحمد على ملكه العظيم.. وله الشكر على عطائه الجزيل.
«اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ.
اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلا أنْتَ، أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ» متفق عليه(1).
القدوس
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القدوس.
قال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الجمعة: 1].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).(1/121)
الله تبارك وتعالى هو الملك القدوس، الطاهر من العيوب، المنزه عن الأولاد والأنداد والنقائص، الموصوف بصفات الكمال، التي وصف بها نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلا.
وهو سبحانه الملك القدوس، الممدوح بالفضائل والمحاسن، المنزه عن النقائص في ذاته وأسمائه وصفاته، وأفعاله وأقواله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [النساء: 87].
وأفعاله عزَّ وجلَّ منزهة عن الخطأ والنسيان، وعن الآفات والعيوب كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 115].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر هذا الاسم في ركوعه وسجوده.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ » أخرجه مسلم(1).
فسبحان المك القدوس، ذو الفضائل والمحاسن، المنزه عن النقائص والعيوب.
السلام
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السلام.
قال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ، فَإِذَا قَعَدَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ ا? وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ ا? الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ، فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْألَةِ مَا شَاءَ» متفق عليه(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (487).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (831)، ومسلم برقم (402) واللفظ له.(1/122)
الله تبارك وتعالى هو السلام، الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل نقص، لكماله في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وهو سبحانه أحق بهذا الاسم من كل ما سواه، لأنه السالم من كل آفة وعيب، ونقص وذم، وله الكمال المطلق من كل الوجوه، وكماله سبحانه من لوازم ذاته:
فالسلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له، وسلب جميع النقائص عنه.
والسلام يتضمن سلامة ذاته من كل نقص وعيب، وسلامة أسمائه من كل ذم، وسلامة صفاته من مشابهة صفات المخلوقين، وسلامة أفعاله من العبث والظلم، وخلاف الحكمة.
فالله جل جلاله هو الحي الذي سلمت حياته من الموت والسنة والنوم والتغير.
وهو القادر الذي سلمت قدرته من اللغوب والتعب، والإعياء والعجز.
وهو العليم الذي سلم علمه من النقص، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، أو يغيب عنه قدر ذرة.
وهو سبحانه السلام الذي سلم الخلق من ظلمه فلا يضلم أحداً.
وهو سبحانه السلام الذي خلق الجنة دار السلام من الموت والمرض وسائر الآفات كما قال سبحانه عن المؤمنين: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 127].
وهو سبحانه السلام الذي يسلم على عباده في الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [الأحزاب: 44].
وهو سبحانه السلام، المسلم على أنبيائه ورسله، لإيمانهم وإحسانهم، وطاعتهم له، وتحملهم في سبيله أعظم الشدائد، فيؤمنهم فلا يخافون ولا يفزعون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الصافات: 79].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [النمل: 59].
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإفشاء هذا الاسم، وأخبر أن ذلك سبب للمحبة، ودخول الجنة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (54).(1/123)
والله سبحانه هو السلام، فكل سلام ورحمة منه وله، وهو مالكها ومعطيها، فالسلام منه بدأ، وإليه يعود، فالسلام اسمه ووصفه وفعله، والتلفظ به ذكر له فـ «اللَّهُمَّ! أنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ » أخرجه مسلم(1).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 180-182].
المؤمن
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المؤمن.
قال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
الله تبارك وتعالى هو المؤمن الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال والجلال والجمال، المصدق لنفسه ولرسله فيما بلغوه عنه، الذي أمن خلقه من أن يظلمهم.
وهو سبحانه المؤمن الذي خلق الأمن، ومن به على من شاء من عباده، والذي يهب الأمن لعباده المؤمنين يوم القيامة، ويأمن عذابه من لا يستحقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الأنعام: 82].
وهو سبحانه المؤمن الذي وهب عباده الأمن من الفزع الأكبر، وأمَّنهم بخلق الطمأنينة في قلوبهم، وأخبرهم أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [النمل: 89-90].
وهو سبحانه المؤمن، المصدق لرسله بإظهار المعجزات، وللمؤمنين بما وعدهم به من الثواب يوم القيامة.
اللهم آمنَّا في أوطاننا.. وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.. وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الأخره.. وارحم ذل مقامنا يوم العرض عليك.
المهيمن
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المهيمن.
قال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
الله تبارك وتعالى هو المهيمن، الشاهد على خلقه بأعمالهم، الرقيب عليهم، العالم بجميع المعلومات، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (592).(1/124)
وهو سبحانه المهيمن العالي على كل مخلوق، فهو العلي على جميع خلقه، وهو المؤمن المهيمن على كل مؤمن.. والكريم المهيمن على كل كريم.. القوي المهيمن على كل قوي.. الحكيم المهيمن على كل حكيم.. العليم المهيمن على كل عليم.. الجبار المهيمن على كل جبار.. الكبير المهيمن على كل كبير.. وهكذا في بقية الأسماء.
وهو سبحانه الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول أو فعل، لا يغيب عنه من أفعالهم شيء، وله الكمال في هذا، فلا يضل ولا ينسى ولا يغفل: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 255].
وهو جل جلاله المهيمن الذي أنزل القرآن على خاتم رسله وأفضلهم، وجعله مهيمناً على ما قبله من الكتب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ) [المائدة: 48].
فالقرآن الكريم مصدق لكتب الله السابقة، ومهيمن عليها.
وعلو القرآن على سائر كتب الله وإن كان الكل كلام الله بأمور:
بما زاد عليها من السور كسورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والسبع المثاني.. وجعله الله قرآناً عربياً بيناً.. وجعل نظمه وأسلوبه معجزاً.. يصدق من جاء به.. ويصدق ما قبله من الكتب والرسل.. وفيه تبيان كل شيء.. وتفصيل كل شيء كما قال الله عنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [الزخرف: 1-4].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 89].
العزيز
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العزيز.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحج: 74].
وقال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [الصف: 1].(1/125)
الله تبارك وتعالى هو العزيز، القاهر الذي لا يغلب ولا يقهر، المنيع الذي لا يرام جنابه، فلا ينال جنابه لعزته وعظمته، وجبروته وكبريائه، العزيز الذي لا مثل له ولا نظير، الغالب الذي لا يعجزه شيء، القوي القاهر الذي لا يقف له شيء: (? ? ? چ چ چ چ ?) [ص: 66].
وهو سبحانه العزيز الذي له العزة كلها:
عزة القوة.. وعزة الغلبة.. وعزة الامتناع.. فامتنع سبحانه أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع المخلوقات، ودانت له الخليقة كلها، وخضعت لعظمته وذلت لجبروته: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [يونس: 65].
والله جل جلاله هو العزيز، وله العزة جميعاً، فنواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم، وهو القاهر لهم على ما أراد.
فمن أراد العز في الدنيا والآخرة فليطلبه من رب العزة تبارك وتعالى، مالك الدنيا والآخرة، وذلك يحصل بكمال الإيمان والتقوى، ولزوم طاعة الله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 10].
ومع عظم الطاعة وحسنها وكمالها ودوامها تزداد العزة، فأعزُّ الناس هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم من المؤمنين المتبعين لهم، فعزة كل أحد بقدر علو رتبته في الدين، وكلما كانت هذه الصفة فيه أكمل، كان وجدان مثله أقل، وكان أشد عزة، وأكمل رفعة، ولهذا قال سبحانه: (گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 8].
ومن أسباب العزة العفو والتواضع.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم(1).
ومن طلب العزة عند غير الله تعالى، وبغير طاعته ضل وذل، وأخطأ سبيل العزة وطريقها، وضل مع الضالين والمنافقين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 139].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2588).(1/126)
والله سبحانه هو العزيز الذي لا يضام، المعز الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو رب العزة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصافات: 180-182].
وقد وصف الله عزَّ وجلَّ كتابه بالعزيز كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [فصلت: 41-42].
أعزه الله لأنه كلامه، فكلامه عزيز محكم، لا يتطرق إليه الباطل، فلا يستطيع أحد تغييره ولا تبديله، ولا إلحاق ما ليس منه فيه.
والله عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير، ودفع الشر عن عبده إذا سأله، وتوكل عليه، وأحسن الظن به: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [الشعراء: 217-220].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. وانصر عبادك المؤمنين.. وأخذل أعداءك أعداء الدين.. ياقوي يا عزيز. أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني.
الجبار
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الجبار.
قال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «تَكُونُ الأرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأ أحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلاً لأهْلِ الْجَنَّةِ» متفق عليه(1).
الله تبارك وتعالى هو الجبار، العالي على خلقه، القاهر خلقه على ما أراد من أمر ونهي، الذي جبر الخلق على ما يريد، والذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب الرزق والمعاش في الدنيا والآخرة.
وهو سبحانه الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه من خلقه.
وهو جل جلاله الجبار الذي له العلو على خلقه:
علو الذات.. وعلو القدر.. وعلو الصفات.. وعلو القهر والجبروت.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6520) واللفظ له، ومسلم برقم (2792).(1/127)
جبر خلقه على ما أراد أن يكونوا عليه من خلق.. ولا يمتنع عليه شيء منهم أبداً، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
وهو سبحانه الذي جبر خلقه على ما شاء من أمر ونهي، فشرع لهم من الدين ما ارتضاه هو كما قال سبحانه: ( چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 3].
فشرع للعباد ما شاء من الشرائع، وأمرهم باتباعها، ونهاهم عن العدول عنها، فمن آمن فله الجنة، ومن عصى فله النار، ولم يجبر أحداً من خلقه على إيمان أو كفر، بل جعل لهم المشيءة في ذلك، وهم مع ذلك لا يخرجون عن مشيءته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التكوير: 27-29].
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة.
إن الجبروت لله وحده، فهو الذي قهر الجبابرة بجبروته، وعلاهم بعظمته ومجده، الجبار الذي لا يجري عليه حكم حاكم، ولا يتوجه عليه أمر آمر.
فهو سبحانه آمر غير مأمور، قاهر غيرمقهور، وما سواه من المخلوقات فهو مقهور مملوك، ضعيف عاجز، فقير فان، ومن هذه صفته من المخلوقات كيف يليق به التكبر والتجبر وهذه حاله؟.
والله عزَّ وجلَّ مدح نفسه بأنه العزيز الجبار، وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ) [غافر: 35].
والجبارون والمتكبرون يحشرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس وقد توعد الله العزيز الجبار كل متكبر، وكل جبار بالعذاب الأليم يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 15-17].(1/128)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لا يَدْخُلُنِي إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ. قَالَ الله تَبَارَكَ وَتعالى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابٌ أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قط، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، وَلا يَظْلِمُ الله عزَّ وجلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَداً، وأَمَّا الْجَنَّةُ: فَإِنَّ الله عزَّ وجلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقا» متفق عليه(1).
الكبير
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكبير.. والمتكبر.
قال الله تعالى: (ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الرعد: 9].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [لقمان: 30].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 23].
الله تبارك وتعالى هو الكبير المتعال، العظيم الذي كل شيء دونه، ولا شيء أعظم منه، الذي كبر وعظم، فكل شيء دون جلاله صغير وحقير، الموصوف بالجلال وكبر الشأن.
وهو سبحانه الكبير الذي له الملك والعظمة والسلطان، وله الكبرياء في السموات والأرض، وله الحمد على ربوبيته لسائر الخلائق، حيث خلقهم ورباهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، وله الكبرياء والجلال، والعظمة والمجد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4850) واللفظ له، ومسلم برقم (2846).(1/129)
والله جل جلاله هو المتكبر الذي تكبر عن ظلم عباده، وتكبر عن كل سوء وشر، والذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله، وتكبر وتعالى عن صفات الخلق، فلا شيء مثله، العزيز الجبار المتكبر: (? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الشورى: 11].
فالله عزَّ وجلَّ أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته، وأكبر من أن نحيط به علماً، هو الكبير وحده، وكل ما سواه صغير.
وهو عزَّ وجلَّ الكبير العظيم، أكبر من أن نعرف كيفية ذاته، وكيفية صفاته، ومن أراد أن يعرف عظمة ربه وكبرياءه، وصفات جلاله، وصفات جماله، فلينظر إلى الآيات الكونية في العالم العلوي والسفلي، والآيات القرآنية التي لا تكاد تخلو آية منها من اسم لله، أو صفة من صفاته، أو فعل من أفعاله، أو أمر من أوامره، وعليه كذلك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، الذي هو أعلم الخلق بربه، وعليه أنزل الكتاب العزيز.
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة.
وهو سبحانه العزيز الجبار المتكبر، والتكبر لا يليق إلا به سبحانه، فهو خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، ولا يعجزه شيء، وهو القاهر لكل شيء، العالم بكل شيء، المحيط بكل شيء، الغني الذي خزائنه مملوءة بكل شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102، 103].
وصفة السيد التكبر والترفع، وأما العبد فصفته التذلل والخشوع والخضوع، والعبودية والطاعة.
وقد توعد الله الكبير المتعال جميع المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة جزاء استكبارهم عن الحق، واستكبارهم على العباد كما قال سبحانه عن المستكبرين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 20].
واستكبارهم هذا هو رفضهم عبادة ربهم، وعدم الانقياد لله ولأوامره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [غافر: 60].
والكبر والكبرياء في حق الله عظيم، فلا يليق إلا به، والكبر والاستكبار في حق المخلوق قبيح يجلب على صاحبه الذلة والهوان والهلاك.(1/130)
وإذا عرف الإنسان أن ربه هو الكبير وحده.. وأن كل ما سواه صغير.. فلماذا لا يطيعه، ويأخذ منهج حياته منه؟.
فالكبر كان هو السبب في هلاك إبليس، ولعنة الله له، وطرده من رحمة الله، لما استكبر عن أمر ربه، وأبى أن يسجد لآدم كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [البقرة: 34].
ولا يكاد يخلو طاغية في الأرض من هذا المرض العضال، بل لا يكاد يخلو منه إنسان، فمقل ومستكثر، ومنهم من يبديه، ومنهم من يخفيه، والله عليم بذات الصدور.
والله تبارك وتعالى هو الكبير في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، الذي من عظمته وكبريائه أن الأرض قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه.
ومن كبريائه أن كرسيه وسع السموات والأرض، ومن عظمته وكبريائه أن نواصي الخلق كلهم بيده، فلا يتصرفون إلا بمشيءته، ولا يتحركون ويسكنون إلا بإذنه.
ومن كبريائه جل جلاله أن العبادات الصادرة من أهل السموات والأرض كلها المقصود منها تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان التكبير شعار العبادات الكبار كالصلاة، والأذان، والحج.
والله سبحانه العزيز الجبار المتكبر، الذي له الكمال والثناء، وله الحمد والمجد من جميع الوجوه، المنزه عن كل آفة ونقص، له الملك كله، الغني عن كل ما سواه، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات في الأرض والسماء، فله الحمد والشكر، وله العزة والمجد: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 111].
فعلينا تعظيم الله وإجلاله وتكبيره، بالإخبار بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وبالثناء عليه بهما، وبتحميده بأفعاله المقدسة.
وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده لا شريك له. وإخلاص الدين كله له، وبتعظيم شعائره ودينه، وأوامره وكلامه، وتوقير رسله بطاعتهم والاقتداء بهم.
الخالق
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الخالق.. والخلاق.
قال الله تعالى: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].(1/131)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 24].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 81].
الله تبارك وتعالى هو الخالق الذي خلق المخلوقات كلها، وأوجدها على غير مثال سابق، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 117].
خلق العرش والكرسي.. وخلق السموات والأرض.. وخلق الجماد والنبات.. وخلق الإنسان والحيوان.. والروح والجان.. والملائكة الكرام.. وخلق السهول والجبال.. وخلق البحار والأنهار.. وخلق الليل والنهار.. وخلق الشمس والقمر.. وخلق الكواكب والنجوم.. وخلق الجنة والنار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 11].
والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق العليم، خلق جميع المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي، وجعل لكل نوع قدراً:
فمنها الصغير والكبير، ومنها الطويل والقصير، ومنها القوي والضعيف، ومنها السائل والجامد، ومنها النافع والضار، ومنها الساكن والمتحرك، ومنها الناطق والصامت، ومنها الذكر والأنثى، ومنها الثابت والنامي، ومنها العذب والمالح: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ) [القمر: 49-50].
والله جل جلاله خلق هذا الكون العظيم، وكل يوم بل كل لحظة يخلق ما يشاء، كيف شاء، بأي قدر شاء، في أي وقت شاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 68].
وخلق الله عزَّ وجلَّ عظيم محكم، فلا يستطيع مخلوق أن يخلق مثله، فضلاً عن أن يخلق أحسن منه: (? ? ? ? ?) [المؤمنون: 14].
والله وحده هو الخلاق العليم، وهو خالق كل شيء، والخلق كلهم لو اجتمعوا ما استطاعوا أن يخلقا ذباباً، بل لو سلبهم الذباب شيئاً ما استطاعوا رده كما قال سبحانه: (پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحج: 73، 74].(1/132)
وهو سبحانه الخالق الذي لا يعجزه شيء، الذي بدأ الخلق، وهو قادر على إعادته، فله وحده القدرة الكاملة، وله العزة الكاملة، وله الحكمة الواسعة، فعزته أوجد بها المخلوقات، وأظهر المأمورات، وحكمته أتقن بها ما صنعه، وأحسن فيها ما شرعه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الروم: 27].
وهو سبحانه خالق كل شيء، وقاهر كل شيء.
فالمخلوقات التي خلقها الله عزَّ وجلَّ، كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره، ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه، حتى ينتهي القهر لجميع المخلوقات لله الواحد القهار: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الرعد: 16].
والله جل جلاله هو الذي خلق المخلوقات كلها، وتفرد بالملك، ودبر الممالك والخلائق، وأجرى عليهم أحكامه الكونية، وأحكامه الدينية: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
والله عزَّ وجلَّ هو الخالق الذي له القدرة المطلقة، فخلق جميع الخلق على كثرتهم، ويبعثهم بعد موتهم بعد تفرقهم في لمحة واحدة، كخلقه نفساً واحدة، فسبحان القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 28].
ألا ما أعظم قدرة الخلاق العليم، وما أجهل البشر بعظمة ربهم وقدرته وقوته وعظمة مخلوقاته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 17].
فهذا الرب العظيم هو الذي يستحق العبادة وحده دون سواه، لأنه الذي خلقنا، وخلق الذين من قبلنا، وخلق كل شيء، وأنعم علينا بالنعم الظاهرة والباطنة، وأمرنا بعبادته كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة21-22].
فهل يليق بالإنسان أن يعبد مع ربه أحداً من خلقه، ويتخذ انداداً يعبدهم من دون الله، ويحبهم كما يحبه، وهم مخلوقون مثله، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض؟(1/133)
فمن أعجب العجب، وأسفه السفه أن يعلم الإنسان أن الله ليس له شريك في الخلق والرزق والتدبير، ولا في العبادة، ثم يشرك به غيره، ويعبد معه آلهة أخرى، لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً.
(ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الأعراف: 191-192].
فسبحان الخلاق لكل مخلوق.. العليم بكل شيء.. الذي لا يخفى عليه شيء.. فاعبده واصطبر لعبادته: (? ? ? ? ? ?) [الحجر: 86].
وإذا كان الله هو الكبير.. وهو الخلاق.. وكل ما سواه مخلوق صغير.. فهل يليق بالعاقل أن يعبد المخلوق من دون الخالق.. ويدعو الصغير من دون الكبير..؟.
البارئ
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البارئ.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 24].
وقال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [البقرة: 54].
الله تبارك وتعالى هو الخالق البارئ، الذي برأ الخلق فأوجدهم، وخلقهم بقدرته، وفضل بعض الخلق على بعض، وأبدع الماء والتراب، والهواء والنار لا من شيء، ثم خلق الإنسان من تراب، وجعل من الماء كل شيء حي.
وهو سبحانه الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت، والتناقض، سليماً من التباين والاعوجاج.
فخلقه سبحانه كله مستو مستقيم، محكم متقن، دال على كمال قدرة خالقه وعظمته: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [الملك: 3].
وهو سبحانه الخالق البارئ الذي خلق المخلوقات كلها، وأحسن خلقها، فصارت في أحسن خلق، وأكمل صورة، وأبهج شكل.
خلقهم عزَّ وجلَّ خلقاً مستوياً ليس فيه اختلاف ولا تنافر، ولا نقص ولا عيب ولا خلل، أبرياء من ذلك كله.
فسبحان الخالق البارئ: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [السجدة: 7].
المصور
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المصور.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 24].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [آل عمران: 6].(1/134)
الله تبارك وتعالى هو الخالق البارئ المصور، الذي خلق الخلق، وصورهم على صور مختلفة، وهيئات متباينة، من الطول والقصر، والحسن والجمال، والذكورة والأنوثة، والشكل واللون، كل واحد ميزه ربه بصورة خاصة يتميز بها عن غيره من المخلوقات، فلكل مخلوق طبعة خاصة، وصورة مستقلة.
وهو سبحانه المصور، الذي إذا أراد شيئاً قال له كن، فيكون على الصورة التي يختار، والصفة التي يريد، وصوَّر خلقه على الأشكال والهيئات التي توافق تقديره وعلمه، ورحمته وحكمته، والتي تتناسب مع مصالح الخلق ومنافعهم.
فسبحان الخالق البارئ المصور، الذي خلق المخلوقات، وصور الكائنات، وأحسن كل شيء خلقه.
وسبحان الملك الذي له الملك كله، فلا يخرج مخلوق عن ملكه، وله الحمد كله.
حمد على ما له من صفات الكمال والجلال والجمال، وحمد على ما أوجده من الأشياء، وأحسن خلقها، وحمد على ما شرعه من الأحكام، وأسداه من النعم العظام.
وسبحان الخالق البارئ المصور، الذي خلق السموات والأرض وما فيهما، فأحسن خلقهما، وخلق الإنسان في أحسن صورة، وأكمل هيئة، وأحسن تقويم: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [التغابن: 3].
الغفور
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الغفور.. والغافر.. والغفار.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 49].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [غافر: 3].
وقال الله تعالى: (? ? ? چ چ چ چ ?) [ص: 66].
الله تبارك وتعالى هو الغفار، الذي يستر ذنوب عباده، ويغطيهم بستره، السَّتّار لمساوئ عباده، المسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته، فلا يكشف أمر العبد لخلقه، ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم.
وهو سبحانه الغافر الذي يستر على المذنب ذنبه، ولا يؤاخذه فيشهره ويفضحه.
وهو سبحانه الغفور، الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، العفو الذي يزيد عفوه على مؤاخذته.(1/135)
وهو سبحانه العفو الغفور، الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، وكل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، كما هو مضطر إلى خلقه وإعانته.
وقد وعد الله سبحانه بالمغفرة لمن أتى بأسبابها كما قال سبحانه: (گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [طه: 82].
والله عزَّ وجلَّ هو الغفور الرحيم، يغفر الذنوب والخطايا والسيئات، صغيرها وكبيرها مهما بلغت، كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 53].
ومهما عظمت ذنوب الإنسان، فإن مغفرة الله ورحمته أعظم من ذنوبه التي ارتكبها: (? ہ ہ ہ ہ ) [النجم: 32].
بل من فضله وجوده وإحسانه أن تكرم بتبديل سيئات المذنبين إلى حسنات كما قال سبحانه في حق المذنبين التائبين: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 70].
ولا يجوز للمسلم أن يسرف في الخطايا والمعاصي والفواحش فيقترفها بحجة أن الله غفور رحيم، فالمغفرة إنما تكون للتائبين الأوابين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 25].
واتصاف الله تبارك وتعالى بأنه غفار للذنوب والسيئات فضل من الله، ورحمة عظيمة للعباد، لأنه غني عن العالمين، لا ينتفع بالمغفرة لهم، لأنه سبحانه لايضره كفرهم أصلاً، ولا يغفر لهم خوفاً منهم أيضاً، لأنه قوي عزيز، قد قهر كل شيء وغلبه: (? ? ? ? ?) [فاطر: 28].
والله عزَّ وجلَّ لا يزال خيره وبره وإحسانه نازلاً إلى العباد، ولا يزال عفوه عن جرائمهم مستمراً، ومع ذلك فهم يبارزونه بالشر والمعاصي، فمن تاب قبِل الله توبته وغفر له، ومن أصر على الذنوب وأبى التوبة والاستغفار، والالتجاء إلى العزيز الغفار، فإن الله يعاقبه بجرمه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الرعد: 6].(1/136)
والله تبارك وتعالى واسع المغفرة، يغفر الذنوب جميعاً، لأنه غفور رحيم، غفور حليم، غفور شكور، عفو غفور، عزيز غفور، غفور ودود، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 129].
فسبحان العزيز الغفور.. ما أكرمه.. وما أرحمه.. وما أحلمه على من عصاه.
وكل إنسان إما أن يكون ظالما لنفسه.. أو ظالما لغيره.. أو لهما معاً.
فمن لم يغفر الله له ويرحمه فهو من الخاسرين كما قال الله عن آدم وزوجه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف:23].
والله عزَّ وجلَّ غفور رحيم يحب من عباده أن يسألوه مغفرة ذنوبهم، ويطلبون منه كل ما ينفعهم، ويصلح أحوالهم:
فاللهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 147].
«اللَّهُمَّ!إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثيراً وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»متفق عليه(1).
والله عفو غفور، ومن عفوه ومغفرته أنه سبحانه فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهم إليه، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم مهما كانت.
ومن عفوه ومغفرته، أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا، ثم لقيه لا يشرك به شيئاً، أتاه بقرابها مغفرة.
فسبحان واسع المغفرة، الذي يجود على جميع العباد بالمغفرة والرحمة، ويكفر عنهم سيئاتهم، ويقيل عثراتهم، ويضاعف حسناتهم.
فليتق العبد ربه، ويعلم أن الله يعلم باطنه وظاهره، وأقواله وأفعاله، وسره وعلانيته كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [البقرة: 235].
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الحشر: 10].
القاهر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القاهر، والقهار.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 18].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705) واللفظ له.(1/137)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 65].
الله تبارك وتعالى هو القاهر فوق عباده، الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل مخلوق، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه، واستسلمت واستكانت بين يديه، وخضعت لقهره وحكمه وسلطانه.
والله جل جلاله هو القاهر فوق عباده، يًصرِّف ملكه على اختياره، ويدبر الأمر على ما تقدم في علمه، ويصرف الأحوال على ما سبق في مشيءته.
قهر جميع الخلائق على ما أراد، فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بمشيءته، فليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدبرون مقهورون بأمره.
وإذا كان سبحانه هو القاهر لغيره، وغيره مقهور، كان هو المستحق للعبادة دون سواه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 39].
وهو سبحانه القهار الذي قهر المخلوقات كلها في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، والذي قهر وغلب عباده أجمعين، وقهر الخلائق جميعاً على ما أراد.
وهو سبحانه القهار الذي قهر الخلق كلهم بالموت، وقهر الجبابرة من عتاة الخلق بالعقوبة، وقهر كل جبار بعز سلطانه، فدمره وأهلكه، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقارون.
وهو سبحانه الذي قهر الخلائق كلها بالأمراض والمصائب والنكبات التي لا يستطيعون ردها عن أنفسهم، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن ملكه، ولا يخرج عن تدبيره، ولا يخرج عن تقديره: (? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 4].
وهو سبحانه الواحد القهار، المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وما سواه من المخلوقات التي يعبدها الكفار، فإنما هي عاجزة مخلوقة مقهورة، لا تملك أن ترد الضر عن نفسها، فكيف تنفع غيرها، وكيف تقهر غيرها وهي مقهورة، فكيف تعبد وهذه حالها؟.(1/138)
والله عزَّ وجلَّ خلق المخلوقات، وجعل فوق كل مخلوق مخلوقاً آخر يقهره، ثم جعل فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه، حتى ينتهي القهر لله الواحد القهار، الذي قهر جميع الخلائق، وله الخلق والأمر، والتصريف والتدبير: ( ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الرعد: 16].
فالرياح العاصفة من مخلوقات الله المدمرة، ولكن الله قهرها بالجبال الراسية تردها، وتفرقها، وتكسر حدتها.. والجبال من مخلوقات الله العظيمة، ولكن الله قهرها وسلط عليها الحديد يقطعها ويكسرها.. والحديد من مخلوقات الله العجيبة، لكن الله قهره بالنار تذيبه.. والنار عظيمة الشأن، ولكن الله سلط عليها الماء يطفئها.. والمياه آية من آيات الله الكبرى، ولكن الله سلط عليها الرياح تصرفها وتقلبها.
والنبات آية من آيات الله، قهره الله بالإنسان والحيوان يأكله ويقطعه.. وقهر الإنسان والحيوان بالمرض يقعده ويؤلمه.. وقهر سبحانه جميع الكائنات الحية بالموت الذي يهلكها.
فكل مخلوق له قاهر أعلى منه يقهره، حتى ينتهي القهر الكامل الشامل لله الواحد القهار، الذي قهر جميع الخلائق على ما أراد.
فسبحان الواحد القهار، العزيز الجبار: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [البروج: 9].
الوهاب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوهاب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 8].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [ص: 9].
الله تبارك وتعالى هو الوهاب، المعطي لمن يشاء من خلقه ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة، المتفضل بالعطايا والنعم، الذي يجود بالعطاء، ولا ينقص ما في خزائنه.
وهو سبحانه الوهاب، كثير المواهب والعطايا، يعطي العباد من غير استحقاق عليه، ولا طلب للثواب من أحد، يصيب بعطاياه ومواهبه مواقعها، ويقسمها على ما تقتضيه حكمته.(1/139)
وهو سبحانه الملك الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، وخزائنه مملوءة بكل شيء، وهو سبحانه الوهاب وحده، يهب ما يشاء، لمن يشاء، في أي وقت شاء، لأنه مالك الملك، وخزائن السموات والأرض له: (? ? ? ? ? ? ? ) [المنافقون: 7].
وهو سبحانه الكريم الوهاب، الذي ينفق كيف يشاء، لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، وهو الذي بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي على جميع العباد، يده ملأى سحاء الليل والنهار، وخيره على العباد في جميع الأوقات مدرار.
يفرج كرباً.. ويزيل غماً.. ويغني فقيراً.. ويفك أسيراً.. ويجبر كسيراً.. ويجيب سائلاً.. ويعطي فقيراً عائلاً.. ويجيب المضطر.. ويستجيب لمن دعاه.. وينعم على من سأله ومن لم يسأله.. ويعافي من طلب العافية.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [المائدة: 64].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ » متفق عليه(1).
وهو سبحانه الملك الوهاب، أما العباد فإنهم ملك لله سبحانه، فكل من وهب من العباد شيئاً من عرض الدنيا لصاحبه فهو واهب.
ولا يستحق أن يسمى وهاباً إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا، فكثرت نوائله وعطاياه وهباته ودامت، والخلق إنما يملكون أن يهبوا مالاً أو نوالاً في حال دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم، ولا ولداً لعقيم، ولا هدىً لضال، ولا عافية لمريض، ولا رزقاً لمخلوق، ولا أمناً لخائف، ولكن الله الملك الوهَّاب يملك كل ذلك: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
والله جواد كريم اختص من شاء من عباده بالنبوة والرسالة كما قال سبحانه عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم : (گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 27].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684) واللفظ له، ومسلم برقم (993).(1/140)
ووهب الملك والسلطان من شاء من عباده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 247].
وقد سأل سليمان صلى الله عليه وسلم ربه أن يهبه ملكاً فاستجاب له، ووهب له ملكاً عظيماً: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 35].
وهكذا المؤمن يقدم شكواه، ويطلب حاجته من ربه العزيز الوهَّاب.
قال زكريا صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 89، 90].
وكل ما وصل إلى العباد من أي وجه وصل، وعلى أي حال، وبأي قدر كان، فهو من الله المنفرد بالهبات، الوهاب على الإطلاق بجزيل العطايا، وجميع الأرزاق، لجميع الخلائق، في جميع الأوقات.
علَّم سبحانه عباده كيف يسألونه الإنعام والإحسان على وجه لا يكون فيه مكر ولا استدراج، فأعطاهم ما ينفعهم، ويصلح أحوالهم، ومنعهم ما يضرهم.
والكفار لما سألوه أعطاهم، ومكنهم مما فيه ضررهم وهلاكهم وشقاؤهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 55].
وكل ما وهب الله العباد، فهو عطية ومنحة منه سبحانه، وله سلبها وإبقاؤها متى شاء، وهي إما إ كراماً، أو عقوبة، أو ابتلاء.
قال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 44].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 35].
فسبحان العزيز الوهاب، الذي وسع الخلق جوده ورحمته، وتتابعت مواهبه، وتوالت مننه وعوائده، ذو البذل الشامل، والعطاء الدائم، بغير تكلف ولا عرض ولا عوض.
وسبحان الكريم الوهاب، الذي تدر الهبات منه سبحانه على عباده في دنياهم وأخراهم دون انقطاع ولا نفاد، بل في نماء وازدياد على مر الدهور والآباد: (ے ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 54].
وسبحان الكريم الذي خيره وفضله يرتع فيه البر والفاجر، والمطيع والعاصي، وسبحان الذي كل النعم التي ينعم بها العباد منه، وإليه يجأرون في دفع المكاره.(1/141)
وتبارك الذي لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.
وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده.
اللهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 8].
(? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الفرقان: 74].
الرزاق
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرزاق.. والرازق.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الجمعة: 11].
الله تبارك وتعالى هو الرزاق، الذي خلق الأرزاق، وأعطى الخلائق أرزاقها، وأوصلها إليهم، وتكفل بأقوات المخلوقات كلها، والذي وسع الخلق كلهم برزقه ورحمته، فلم يخص بذلك مؤمناً دون كافر، ولا ولياً دون عدو، بل يسوق رزقه عزَّ وجلَّ إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى الجلد القوي ذي المرة السوي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [الإسراء: 20].
وهو سبحانه الرزاق، المتكفل بأرزاق الخلائق في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، الرزاق لكل مخلوق رزقاً بعد رزق، المكثر منه، الموسع له، المتفرد بالرزق حده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 3].
وقد تكفل الله بأرزاق الخلائق جميعاً كما قال سبحانه: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [العنكبوت: 60].
وهو سبحانه الرازق، الذي رزق جميع خلقه بلا كلفة ولا ثقل ولا مشقة، وخزائن الله مملوءة بكل شيء يحتاجه الخلق.
وهو سبحانه خالق الأرزاق ومالكها ومعطيها، يصرفها ويقسمها على الخلائق حسب علمه وحكمته كيف يشاء.
ورِزق الله لعباده نوعان:
الأول: رزق عام، ينتفع به البَرُّ والفاجر، ويشمل الإنسان والحيوان والجان، وهو رزق الأبدان، وقد قسم الله وتكفل برزق كل واحد من هؤلاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 6].(1/142)
فلتطمئن هذه النفوس إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها وصفاتها وأسرارها، ورزقها يطلبها كأجلها أينما كانت.
الثاني: رزق رزقه الله من يشاء من عباده، على يد أنبيائه ورسله، وهو الإيمان والتوحيد، الذي يرزقه الله من يستحقه ويشكره، والله واسع الفضل، كثير الإحسان، يؤتيه من أتى بأسبابه.
وهو سبحانه العليم بمن يصلح للإحسان فيعطيه، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [آل عمران: 73، 74].
وفضل الله عظيم، وفضله لا يصفه الواصفون، ولا يخطر بقلب بشر، بل وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فعم بفضله وإحسانه وعلمه ورحمته جميع الخلائق.
وخزائن الله عزَّ وجلَّ مملوءة بكل شيء، ويعطي منها جميع الخلائق ولا تنقص إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، بل لو سأله جميع الخلائق فأعطاهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً.(1/143)
قال الله تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم(1).
والله حكيم عليم، أرزاق العباد كلهم بيده، يجعل من يشاء غنياً، ويجعل من يشاء فقيراً، وله في ذلك حكمة بالغة، وهو سبحانه الخبير بمن يستحق الغنى، ومن يستحق الفقر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 30].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).(1/144)
ومن الناس من لا تصلح حاله إلا بالغنى، فإن أصابه الفقر فسدت حاله، ومن الناس من لا تصلح حاله إلا بالفقر، فإن أصابه الغنى فسدت حاله، ولا يعلم ذلك إلا الله: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 27].
وكثرة الرزق في الدنيا كقلة الرزق لا تدل على محبة الله تعالى للعبد ورضاه عنه، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا من يحب: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 35-37].
والإيمان والتقوى سبب عظيم للحصول على الأرزاق والبركات.
والكفر والفجور سبب عظيم لنقص الأرزاق، ومحق البركات، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 96].
والأرزاق تزيد بالشكر، وتنقص بالمعاصي، وعدم الشكر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 7].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 41].
وأعظم رزق يرزقه الله عباده، وأحسنه وأكمله، وأفضله وأكرمه، وأعلاه وأدومه، الذي لا ينقطع ولا يزول، هو الجنة، وذلك الرزق خاص بالمؤمنين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 11].
والرزاق على الإطلاق هو الله وحده، وغيره إن رزق وأعطى فإنما يرزق من رزق الرزاق الذي أعطاه، فارزق أيها العبد مما رزقك الله، يأتك الخلف من الله.
وإذا أعوزك الرزق فلا تطلبه بكثرة الحرص، فلن يزيدك في الرزق المقدر إلا ما قسمه الله لك، فاطلب منه أعلاه وأجله، وأصفاه وأحله.(1/145)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجة(1).
فسبحان من هذا ملكه، وهذا رزقه، وهذه قدرته، وهذا عطاؤه، وله الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا.. وزدنا ولا تنقصنا.. وأكرمنا ولا تهنا وآثرنا ولا تؤثر علينا: (? ? ٹ ٹ ٹ) [المائدة: 114].
الفتاح
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الفتاح.. والفاتح.
قال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [سبأ: 26].
وقال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الأعراف: 89].
الله تبارك وتعالى هو الفتاح، الذي يحكم ويقضي بين عباده بالحق والعدل، الفتاح العليم بالقضاء بين خلقه، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل، والمصلح من المفسد.
وهو سبحانه الفتاح، الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة والعلم لعباده، ويفتح المنغلق عليهم من أمورهم وأسبابهم، وييسر المتعسر عليهم، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم ليبصروا الحق والهدى.
وهو سبحانه الفتاح الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة، ويفتح بينهم بالحق والعدل.
قال نوح صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 117، 118].
وقد استجاب الله سبحانه لرسله ولدعائهم، ففتح بينهم وبين أقوامهم بالحق والنصر، فأنجى الله رسله وأتباعهم، وأهلك أعداءهم، هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة فالله كذلك الفتاح، الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، فيثيب الطائع، ويعاقب العاصي، كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [سبأ: 26].
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607).(1/146)
وقد سمى الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة لعظمته وهوله بيوم الفتح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 28، 29].
والله جل جلاله بيده مفاتيح كل شيء، فهو الفتاح الذي يفتح ما استغلق من المحسوسات والمعقولات، فيغني فقيراً، ويفرج عن مكروب، ويزيل الهموم بالسرور، والجهل بالعلم، والضلالة بالهدى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 2].
والفتوح كلها بيد الله، فالفتح والنصر بيد الله وحده، يفتح على من يشاء، ويخذل من يشاء، فعلى العباد أن يطلبوا الفتح والنصر منه لا من غيره، ويعملوا بطاعته لينالوا مرضاته، ويسعدوا بفتحه ونصره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الفتح: 1-3].
والله جل جلاله له ملك السموات والأرض، وبيده مفاتيح السموات والأرض، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة.
والخلق كلهم مفتقرون إلى الرب سبحانه، وليس بيد أحد منهم من الأمر شيء، يبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، حتى يكون بقدر حاجته لا يزيد عنها، فهو الذي يعلم أحوال عباده وما يصلحهم، فيعطي كلاً منهم ما يليق بحكمته، وتقتضيه مشيءته: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 12].
فسبحانه ما أكرمه.. وما أرحمه بعباده.. وما أعظم عنايته بخلقه.
إن الله لو فتح المطر على الناس، فمن ذا الذي يحبسه عنهم لئلا يغرقوا كما حصل لقوم نوح؟.
ولو حبس الله عن عباده القطر والنبات لما استطاعوا أن يفتحوا ما أغلقه الله سبحانه.
فالله سبحانه هو الذي فتق السحاب بالغيث، وفتق الأرض بالنبات، وفلق الحبة عن الشجرة، وفتح العين بالبصر، والأذن بالسمع، واللسان بالكلام.
ولو حبس الله عن الخلق نور الشمس فمن ذا الذي يفتحه؟.
ولو حبس الله عنهم الهواء الذي يتنفسون منه فمن ذا الذي يفتحه ويرسله؟:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 2].(1/147)
ومما يفتحه الله على من يشاء من عباده العلم والحكمة والفقه في الدين، وذلك الفتح بحسب التقوى والصلاح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 282].
والله عزَّ وجلَّ قد يفتح أنواع النعيم والخيرات على الناس استدراجاً وعقوبة لهم، إذا تركوا ما أمرهم الله به، ووقعوا فيما نهاهم عنه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [الأنعام: 44، 45].
اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، وافتح لنا من بركات السماء والأرض: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الأعراف: 89].
ومفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 59].
ومفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله حده، وقد عدها الله في قوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 34].
العليم
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العليم.. والعالم.. والعلام.
قال الله تعالى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الزخرف: 84].
وقال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [الحشر: 22].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 78].
الله تبارك وتعالى هو العليم، الذي يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، أحاط علمه بالعالم العلوي والعالم السفلي، يعلم وحده الظواهر والبواطن، ويعلم الجهر وما يخفى.
وهو سبحانه العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق، والعالم بالغيوب دون جميع خلقه، العليم من غير تعليم بجميع ما في الكون، عالم الغيب والشهادة فلا يخفى عليه شيء: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الرعد: 8-10].(1/148)
وهو سبحانه العالم بما كان وما يكون قبل كونه، لم يزل عالماً، ولا يزال عالماً بما كان وما يكون وما سيكون، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، العليم الذي له وحده العلم التام الكامل الشامل الواسع كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 98].
وهو سبحانه العالم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء مهما كان، وفي أي مكان، العليم بكل شيء من المخلوقات والأفعال، والحركات والسكنات والأحوال.
فالله وحده العليم الذي يعلم مثاقيل الجبال.. ومكاييل البحار.. وعدد ورق الأشجار.. وعدد قطر الأمطار.. وعدد ذرات الرمال.. ويعلم مقادير الحبوب والثمار.. وما أظلم عليه الليل.. وما أشرق عليه النهار.. لا تواري منه سماءٌ سماءً..، ولا أرضٌ أرضاً. ولا جبل ما في وعره.. ولا بحر ما في قعره: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 59].
وهو سبحانه العليم بكل شيء، المحيط بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء، الذي يعلم عدد أهل السماء.. وعدد أهل الأرض.. ويعلم عدد الملائكة والروح.. وعدد الإنس والجن.. وعدد الطير والحيوان.. ويعلم عدد ذرات التراب.. وعدد النبات والأشجار.. وعدد الحبوب والثمار.. وعدد الحروف والكلمات.
وهو سبحانه الذي يعلم عدد المؤمنين.. وعدد الكافرين.. ويعلم من يطيعه ومن يعصيه.. ويعلم المؤمن من المنافق.. والبر من الفاجر.. والصادق من الكاذب.
وهو سبحانه الذي يعلم أهل الجنة من أهل النار.. ويعلم المفسد من المصلح.. ويعلم من يستحق الهدي فيهديه.. ومن يستحق الضلالة فيضله.. ويعلم من يستحق الإكرام فيكرمه بطاعته وجنته.. ومن يستحق الإهانة فيهينه، ويعلم الظاهر والباطن: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 13، 14].(1/149)
وهو سبحانه العليم الذي يعلم كل شيء علماً مطلقاً شاملاً كاملاً، يعلم الظاهر والباطن، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم، وهو عليم بذات الصدور، أحصى كل شيء عدداً، وأحاط بكل شيء علماً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 110].
والخلق لا يحيطون علماً بالخالق جل جلاله، فلا يعلمون شيئاً عن ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا ما أطلعهم الله عليه عن طريق رسله، وكتبه المنزلة.
ولا أحد من الخلق يعلم شيئاً من العلم إلا بتعليم الله لهم، ولهذا قالت الملائكة: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [البقرة: 32].
وقال عزَّ وجلَّ لنبيه صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 113].
وعلمُ الله تبارك وتعالى كامل لا يعتريه نقص أبداً، مطلق لا يحده شيء، واسع شامل لكل شيء، محيط بجميع المخلوقات في الأرض والسماء، لايعزب عنه مثقال ذرة: (? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
وهو سبحانه بكل خلق عليم، لا يشغله علم عن علم، كما لا يشغله سمع عن سمع، وأنى للبشر مثل هذه الصفات، فهم يولدون جهلة لا يعلمون شيئاً، ثم يتعلمون شيئاً فشيئاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 78].
وجميع المعلومات التي علمها الله بني آدم لو أعطيت لشخص، ثم كان البشر كلهم على مثل علم ذلك الشخص، لكان هذا العلم كله كالذرة بالنسبة للعلم الإلهي الواسع الشامل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 85].
فالخلق لا يعلمون شيئاً إلا ما أذن الله لهم أن يعلموه، وهو وحده سبحانه الذي له الكمال المطلق، والعلم المطلق، وقد وهب الله سبحانه المعرفة للإنسان منذ أراد إسناد الخلافة إليه في الأرض، وعلمه الأسماء كلها، ووعده بأن يريه آياته في الآفاق والأنفس، وكل ما يلزم له في خلافة الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 53].(1/150)
والله حكيم عليم، فبقدر ما أذن الله للإنسان في شيء من العلم، وكشفه له، وأطلعه عليه، بقدر ما زوى عنه أبواباً من العلم، وأسراراً أخرى، لا حاجة له بها في خلافة الأرض.
فزوى عنه سر الحياة.. وسر الموت.. وسر الروح.. وسر العقل.. وسر الساعة.. وسر اللحظة القادمة.. وسر الخلق.. وكل ذلك غيب لا سبيل إليه.. والستر المسدل دونه كثيف.. لا يستطيع الإنسان رفعه أو كشفه.. فلا يعلمه إلا الله الذي أحاط بكل شيء علماً.. وعنده علم كل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 34].
والله سبحانه له مع الخلق العظيم، والهيمنة التامة، له العلم الشامل اللطيف، المحيط بكل شيء، فهو الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 4].
ففي كل لحظة يلج في الأرض بأمر الله ومشيئته ما لا عداد له ولا حصر من شتى أنواع الأحياء والحبوب والأشياء، ولا يعلم ذلك كله إلا الله وحده.
وفي كل لحظة يخرج من الأرض ما لا عداد له ولا حصر، من خلائق لا يعلمها إلا الله وحده من النباتات والأشجار والحيوان والمعادن والمياه والغاز.
وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والشهب والملائكة والأقدار والأسرار والأوامر وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله وحده.
وفي كل لحظة يعرج فيها من المنظور والمستور، والملائكة والأرواح وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله وحده.
والله سبحانه محيط بكل شيء، عليم بكل أحد، فهو مع كل أحد، مطلع على ما يعمل الخلق، بصير بالعباد، لا يخفى عليه شيء من أمرهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 7].
إن هذه حقيقة مؤنسة من جانب.. مذهلة مرهبة من جانب آخر.(1/151)
مذهلة بروعة جلال الرب، مؤنسة بظلال القربى، وهي كفيلة حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره، وتدعه مشغولاً بها عن كل أعراض الأرض وزينتها، كما تدعه في حذر دائم، وخشية دائمة، مع الحياء والتحرج من كل دنس، ومن كل جهالة، ومن كل غفلة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 54].
فمتى تؤوب هذه الأنفس الشاردة إلى ربها؟.. ومتى تفر إليه؟.. ومتى تستحي منه؟.. ومتى توقره وتعظمه؟.
إنها تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها، الذي يعلم ما بين أيديها وما خلفها، ويعلم سرها وجهرها، ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت، مما لا تعلمه هي ولا تدريه.
فما أجدر الإنسان الذي يقف عرياناً بكل ما في سريرته أمام الملك الديان، ويتقلب في نعمه ليله ونهاره، ويبارزه بالمعاصي في أرضه بلا حياء ولا خوف، ما أجدره أن يتوب إلى ربه الذي خلقه وصوره، وأكرمه ونعمه، وما أحراه أن يستسلم لمن يعرف ظاهره وباطنه، وسره وعلانيته: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 16].
والله سبحانه أعلم بما في نفوس العالمين، وأعلم بمن ضل عن سبيله، وأعلم بمن اهتدى، وأعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بما يكتمه الناس، وأعلم بمن في السموات والأرض، وأعلم بمن هو أهدى سبيلاً، وأعلم بأقوال العباد وأفعالهم، وأعلم بأنفاسهم وكلامهم، علام الغيوب، العليم بذات الصدور.
وهو سبحانه السميع العليم، الشاكر العليم، العليم الحكيم، العزيز العليم، العليم الحليم، العليم القدير، العليم الخبير.
فسبحانه ما أعظم ذاته، وما أعظم أسماءه، وما أعظم صفاته، وما أوسع علمه.
يعلم ما كان وما يكون وما سيكون.. ويعلم ما كان قبل أن يكون.. وكل علم علمه الخلق فمن أثار علمه.. وكل رحمة في المخلوقات فمن آثار رحمته.. وكل حكمة في الكون فمن آثار حكمته.(1/152)
فما أسفه وأجهل الذين لا يعرفون ربهم، ويظنون أن الله لا يعلم أحوالهم وسرهم ونجواهم، ومن ثم يبارزونه بالمعاصي (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبه 78].
وكل شيء من الأقوال والأعمال معلوم للرب... مكتوب في صحائف العبد... وكل حسنة لها مقابل من الثواب.. وكل سيئة لها مقابل من العقاب... وكل ذلك مكتوب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها.
فما أخطر الجهل بالله ودينه والغفلة عنه.
وما أعظم الحسرة والندامة، والخزي والفضيحة، حين تعرض أعمال العبد السيئة على ربه، ويرى الانسان نفسه وهو يزاول تلك الأعمال التي يسود لها وجهه، وينخلع لها قلبه يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الزلزلة: 6-8]
اللهم يا عليم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع.. ومن قلب لا يخشع.. ومن دعاء لا يسمع.. ومن نفس لا تشبع.
السميع
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السميع.
قال الله تعالى: (پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 127].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 1].
الله تبارك وتعالى هو السميع لأقوال عباده، وما ينطق به خلقه من قول، يسمع السر والنجوى، سواء عنده الجهر والخفوت، والنطق والسكوت: (? ? ? ? ? ?) [الأعلى: 7].
وهو سبحانه السميع، الذي له السمع الكامل الشامل المطلق، يسمع جميع الأصوات على اختلاف الألسن واللغات والحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، وسمعه عزَّ وجلَّ ليس كسمع أحد من خلقه، لأن سمع الله مستغرق لجميع المسموعات، لا يعزب عن سمعه مسموع وإن دق وخفي، وكثر وتداخل: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].
وهو سبحانه السميع لدعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم، على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، يعلم سبحانه ما في قلب القائل قبل أن يقول، ويعجز القائل عن التعبير عن مراده، فيعلم الله ما في قلبه فيعطيه سؤله: پ (پ پ پ ? ?) [الملك: 13].(1/153)
والله جل جلاله سميع بصير، سميع عليم، سميع قريب، لأنه محيط بالمخلوقات كلها، لا يفوته شيء منها، ولا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات والأرض، وجميع الخلائق تحت سمعه وبصره وعلمه، يسمع أقوالهم، ويرى أعمالهم، وهو السميع الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة.
أحصى أقوال العباد وأفعالهم، من الطاعات والمعاصي، والحسنات والسيئات، ثم يجازيهم على ذلك في الآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 115].
والله سبحانه هو السميع الذي يسمع كل شيء وإن دق وخفي، يسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، السميع الذي يسمع من يدعوه ويناجيه، فيجيب الدعاء، ويكشف السوء، ويقبل الطاعة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].
وقد دعا يوسف ( ربه أن يصرف عنه كيد النسوة: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [يوسف: 34].
وإذا كان الله عزَّ وجلَّ يسمع ما أسررنا وما أعلنا، فما أجدر العاقل أن يذكر الله بقلبه ولسانه، ويكثر من تلاوة كتابه، ويقوم بما يحبه الله من الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحمد الله وشكره على نعمه وإحسانه.
ويحذر ما يبغضه الله من الغيبة والنميمة، والكذب وقول الزور، فالكل مسموع، والكل محفوظ، والكل مسؤول عنه.
وكل علم في العالم فواهبه العلماء العليم سبحانه، فهو الذي خلق الانسان وعلمه
وكل سميع في العالم فواهبه السمع هو السميع الذي خلق الانسان، وشق سمعه وبصرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الانسان: 2].
والله سميع وسمعه سبحانه صفة ذاتية له، وسمع الله كامل مطلق، وهكذا سائر أسمائه وصفاته.
أما سمع المخلوق فهو ناقص محدود تصيبة الآفات والامراض.
ولو أعطى الله واحدا من البشر مثل سمع جميع البشر، ثم جعلت المخلوقات كلها على قوة ذلك السمع، لكان ذلك بالنسبة لسمع الله كالذرة بالنسبة للجبل بل أقل.(1/154)
فسبحان سامع الأصوات كلها في آن واحد، لا يشغله سمع عن سمع، على اختلاف اللغات والأصوات والأشخاص والأماكن والازمان.
البصير
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البصير.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 11، 12].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 18].
الله تبارك وتعالى هو البصير، الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، يبصر ما تحت الأرضين السبع، كما يبصر ما فوق السموات السبع، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وهو سبحانه العالم البصير بخفيات الأمور، وبالمستور والمنظور، الخبير بعباده، وبأحوالهم وأفعالهم، العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، الذي يعلم المؤمن من الكافر، والبر من الفاجر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 163].
والله بصير بأحوال العباد، وما يصلحهم، خبير بما في نفوسهم، يعطيهم ما ينفعهم، ويرزقهم ما يصلحهم ويكفيهم: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 27].
وهو سبحانه البصير الذي لا يخفى عليه شيء من ملكه في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [آل عمران: 5، 6].
والله عزَّ وجلَّ بصير بكل شيء، القريب والبعيد، والكبير والصغير، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من الأشياء والأقوال والأفعال، والحركات والسكنات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 61].
والله جل جلاله هو الخلاق العليم، خلق لعباده السمع والأبصار والأفئدة، وجعلها أمانة لديهم، فمن استعملها في طاعته أثابه الله، ومن استعملها في معصيته عاقبه عليها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 36].(1/155)
وهو سبحانه البصير، الذي لا تدركه الأبصار، لعظمته وجلاله وكماله، والأبصار وإن كانت تراه يوم القيامة إلا أنها لا تدركه، ولا تحيط به لعظمته وكبريائه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102، 103].
فحقيق بالعبد الذي خلقة الله في أحسن تقويم، وأكرمه بالسمع والبصر والعقل، وأرسل اليه رسوله بالدين الكامل، أن يعبد الله بدينه الذي شرعه، ليسعد في دنياه وآخرته.
وأن يعرف كذلك أن ربه يراه، وأنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته.
فالعاقل من استعمل قلبه ولسانه بذكر الله.. واستعمل جوارحه في طاعة الله... وكفها عن معصية الله.
إن المؤمن حقاً إذا علم أن ربه مطلع عليه، استحى أن يراه على معصية، أو فيما لا يحب، ومن علم أنه يراه كذلك أحسن عمله وعبادته، وأخلص فيها لربه وخشع، وعبد الله بأحسن ما يستطيع، وتجمل له، وناجاه كأنه يراه.
فالاحسان أعلى مراتب الدين وهو «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (1).
الحكيم
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحكيم.. والحاكم.. والحكم.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 1].
وقال الله تعالى: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [يونس: 109].
وقال الله تعالى: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الأنعام: 114].
الله تبارك وتعالى هو الحكيم، الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، الحكيم في أقواله وأفعاله، الذي يضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله وعلمه.
وهو سبحانه أحكم الحاكمين الذي لا يجور، ولا يظلم أحداً.
وهو سبحانه الحكم الذي لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه، الذي سلم له الحكم، ورد إليه فيه الأمر، المحمود على حكمه بين العباد في الدنيا والآخرة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجة البخاري برقم(50) ومسلم برقم (9).(1/156)
الذي له الحكم القدري على الكائنات كلها، الذي أثره جميع ما خلق وذرأ وبرأ في العالم العلوي والسفلي.
وله الحكم الديني الشرعي، الذي أثره جميع الشرائع، والأوامر والنواهي الموجهة إلى الإنس والجن.
وله الحكم الجزائي في الآخرة، الذي أثره الثواب والعقاب للعباد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 70].
والله عزَّ وجلَّ هو الحكيم العليم، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، والذي يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد، وتحريم ما أراد، وإيجاب ما شاء، ومنع ما شاء، حكمه في الخلق نافذ، فليس لأحد أن يرده أو يبطله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 41].
وكلام الله عزَّ وجلَّ حكيم ومحكم، فهو كلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [هود: 1].
والقرآن الكريم كتاب الله عزَّ وجلَّ، الكتاب الذي ليس بعده كتاب، وصفه الله سبحانه بالقرآن العظيم، والقرآن الكريم، والقرآن المجيد، والكتاب العزيز، والقرآن الحكيم، لأنه الكتاب الذي أنزله الله ليكون تشريعاً عاماً كاملاً للمجتمعات والأفراد والحكام إلى يوم القيامة: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [فصلت: 41، 42].
فالقرآن كلام الله.. وهو كتاب عظيم جامع لأوصاف الكمال.. منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء.. حكيم في أسلوبه.. حكيم في هدايته ورحمته.. وحكيم في بيانه وتفسيره.. وحكيم في تشريعه وأحكامه.. وحكيم في وعده ووعيده.. وحكيم في كل ما اشتمل عليه.
أنزله الحكيم في خلقه وأمره، الذي يضع كل شيء في موضعه، الحميد على ماله من صفات الكمال ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والإنصاف. فلهذا كان كتابه مشتملاً على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 89].(1/157)
وذلك يقتضي تحكيم كتاب الله جل جلاله في جميع شئون الحياة، لأن ما شرعه الله في كتابه من الأحكام والمعاملات، والآداب والأخلاق، والحدود والشرائع في منتهى الحكمة والعدل، لأنه تشريع الحكيم العليم الخبير، الذي لا يدخل حكمه نقص ولا خلل ولا زلل، وقضاء من لا يخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة.
فكيف يعرض الناس عنه إلى غيره؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 50].
ويجب على الحكام أن يحكموا بين الناس بما أنزل الله، ولايتعدوا حكم الله الذي شرعه لهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 26].
والله عز وجل حكيم عليم، يؤتي الحكمة من يشاء من عباده، والحكمة هي إصابة الحق في الأقوال والأفعال، وهي من أعظم النعم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 269].
وقد امتن الله على من شاء من عباده من الأنبياء والمتقين فآتاهم الحكمة كما قال سبحانه ممتناً على محمد صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 113].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 12].
وخَلقُ الله عزَّ وجلَّ كلُّهُّ محكم متقن لا خلل فيه ولا قصور.
والله تبارك وتعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة وهي عبادته تبارك وتعالى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
وهو سبحانه الحاكم في خلقه وحده؟
قضاءً وقدراً.. خلقاً وتدبيراً.. وهو سبحانه الحاكم فيهم بأمره ونهيه.. وثوابه وعقابه.
فهو الحاكم وحده: (? ? ? ? ? ?) [الكهف: 26].
والله تبارك وتعالى أحكم الحاكمين كما قال سبحانه: (? ? ? ?چ) [التين: 8]
وحكمه سبحانه يتضمن نصره رسوله على من كذبه... وحكمه بين العباد في الدنيا بشرعه وأمره... وحكمه بينهم في الاخرة بثوابه وعقابه.(1/158)
وأحكم الحاكمين لا يليق به تعطيل هذه الأحكام بعدما ظهرت حكمته في خلق الانسان في أحسن تقويم، حتى بلغ أكمل الاحوال... فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المحسن باحسانه، والمسيء بإساءته؟.
اللطيف
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: اللطيف.
قال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الشورى: 19].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 14].
الله تبارك وتعالى هو اللطيف، الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن، الذي لا تخفى عليه خافية، ووصل علمه إلى كل خفي.
وهو سبحانه اللطيف، البر بعباده، الذي يلطف ويرفق بهم من حيث لا يعلمون، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، والذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب بأسباب لا تخطر على باله، حتى أنه يذيقه المكاره ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الشورى: 19].
وهو سبحانه العالم بكل شيء، الذي لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصغر وخفي، حتى الخردلة التي لا وزن لها لا تخفى عليه، لأنه اللطيف الخبير كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 16].
وإذا علم العبد أن ربه متصف بكمال العلم بكل صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وراقب ربه في حركاته وسكناته، فإن العبد مكشوف بين يدي اللطيف الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 13، 14].
والله عزَّ وجلَّ هو اللطيف بعباده، كثير اللطف بهم، بالغ الرأفة بهم، لا يفوته من أعمالهم شيء، ولا يظلمهم مثقال ذرة، بل يزيد أجور الصالحين من فضله وكرمه، ويعفو عن ذنوب المذنبين بلطفه وعفوه، ويعذب بالذنوب من يشاء من عباده بعدله، وهو بعباده خبير بصير.(1/159)
ومن لطفه بعباده أنه يسوق إليهم أرزاقهم وما يحتاجونه في معاشهم، ومن لطفه عزَّ وجلَّ خلق الجنين في بطن الأم في ظلمات ثلاث، وحفظه فيها، وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل، ثم إلهامه بعد الانفصال تناول الحليب من الثدي بالفم، ثم تأخير خلق الأسنان إلى وقت الحاجة إليها بعد الفطام.
ومن لطفه سبحانه فلق البيضة عن الفرخ، وإلهامه التقاط الحب في الحال.
فسبحان اللطيف الذي لطف أن يُدرك بالكيفية، اللطيف الخبير بأحوال الخلائق، اللطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم، اللطيف بهم في أرزاقهم، حيث جعل رزق العبد من الطيبات، وقدر جميع رزقه لم يدفعه اليه مرة واحدة فيبذره: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 103].
وسبحان اللطيف بمن لجأ إليه من عباده فيقبله ويقبل عليه، الذي يعطي الجزيل، ويقبل القليل، الذي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، ولا يخيب من رجاه.
فهو سبحانه اللطيف على الكمال، وكل لطف في العباد إنما هو من عند ربهم، وهو اللطيف الذي يعلم الأشياء الدقيقة، ويوصل الرحمة إلى العباد بالطرق الخفية التي لا تخطر بالبال.
فما يبتلي الله به عباده من المصائب.. وما يأمرهم به من المكاره.. وما ينهاهم عنه من الشهوات.. هي طرق يوصلهم بها إلى سعادتهم في العاجل والآجل، كما ابتلى يوسف صلى الله عليه وسلم بالسجن فصبر فأعطاه الملك.. وابتلى ابراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح إسماعيل فصبر وأطاع.. فجعل ذريته هم الباقين.. وجعل منهم أئمة يهدون ويدعون إلى الخير إلى يوم القيامة.
الخبير
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الخبير.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 1].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [التحريم: 3].(1/160)
الله تبارك وتعالى هو العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء، ولا تعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري شيء في الملك والملكوت إلا ويعلمه، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن إلا بعلمه، ولا يضطرب نفس ولا يطمئن إلا ويكون عنده خبره، ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 73].
والله عزَّ وجلَّ بكل شيء عليم، خبير بما كان وما يكون وما سيكون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 34].
وهو سبحانه العليم بسرائر العباد، وضمائر قلوبهم، الخبير بأمورهم، الذي لا يخفى عليه منهم شيء، الخبير بكل ما يعملونه من الطاعات والمعاصي، والحسنات والسيئات، الخبير بنيات العباد وأقوالهم وأفعالهم، وما يجول في صدورهم من خير وشر: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 18].
والله عزَّ وجلَّ خلق البشر كلهم من آدم وحواء.. وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء.. وفرَّقهم في الأرض.. وأرسل إليهم الرسل.. وأنزل عليهم الكتب.. ودعاهم إلى الإيمان.. وجعل أكرمهم عند الله أتقاهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الحجرات 13].
فالله عليم خبير بمن يتقية ظاهراً وباطناً ممن يتقيه ظاهراً لا باطناً فيجازي كلاً بما يستحق.
الحليم
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحليم.
قال الله تعالى: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [البقرة: 235].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
الله تبارك وتعالى هو الغني الحليم، الذي يدر على خلقه صنوف النعم الظاهرة والباطنة مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، ويحلم عن مقابلة العصاة بمعاصيهم، يستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم، ولكنه غفور حليم، فله الحمد على حلمه وإحسانه.(1/161)
وهو سبحانه العزيز الحليم، ذو الصفح والأناة، الذي لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم، الحليم على من أشرك به وكفر من خلقه في تركه تعجيل عذابه، لعله يتوب إلي ربه.
وهو سبحانه الحكيم الحليم، الذي يضع الأمور مواضعها، ولا يؤخرها عن وقتها، ولا يعجلها قبل أوانها.
وهو سبحانه الحليم الغفور، الذي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم ويؤخر، وينظر ويؤجل، ولا يعجل عليهم لعلهم يتوبون، ويستر آخرين ويغفر، ويفرح أشد الفرح بتوبة التائبين.
وحِلم الله عزَّ وجلَّ على عباده، وتركه معاجلتهم بالعقوبة، من صفات كماله، فحلمه ليس لعجزه عنهم، وإنما هو صفح وعفو عنهم، أو إمهال لهم مع القدرة، فإن الله قوي لا يعجزه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 44].
وحلم المولى الكريم ليس عن عدم علمه بما يعمل العباد، بل هو العليم الحليم، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 51].
وحلم الله عزَّ وجلَّ عن خلقه ليس لحاجته إليهم، بل هو سبحانه يحلم عنهم ويصفح ويغفر مع استغنائه عنهم، وشدة حاجتهم اليه.
وحلم الله جل جلاله من صفات كماله، فحلمه على عباده عظيم يتجلى في صبره على خلقه مع كثرة معاصيهم، فهو الغني الكريم الحليم الذي لا يحبس إنعامه وأفضاله وإحسانه عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكنه كريم يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه، كما يبقي البر التقي.
وقد يقيه بل وقاه الآفات والبلايا وهو غافل لا يذكره، فضلاً عن أن يدعوه ويشكره، كما يقيها الناسك الذي يؤمن به، ويسأله ويعبده.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ أحَدٌ، أوْ لَيْسَ شَيْءٌ أصْبَرَ عَلَى أذًى سَمِعَهُ مِنَ ا?، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6099) واللفظ له، ومسلم برقم (2804).(1/162)
وذنوب العباد عظيمة كبيرة كثيرة، ولو عجل الله عقوبة العصاة أولاً بأول، ما بقي على ظهر الأرض أحد، ولكن الله حليم رحيم، يؤخر عقوبة هؤلاء الظلمة إلى وقتهم الذي وقت لهم: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 61].
وتأخير العذاب عن العصاة إنما هو رحمة لهم وبهم، لعلهم يتوبون، ولكن الناس يغترون بالإمهال، وحلم الله عنهم، حتى يأخذهم سبحانه بعدله وقوته، عندما يأتي أجلهم الذي سمى لهم.
ألا ما أحلم الله.. وما أجهل البشر بأسماء الله وصفاته.. وما أكثر معاصيهم.
إن الله يريد للناس الرحمة والإمهال، ولكن الأجلاف والجهال منهم يرفضون تلك الرحمة وذلك الإمهال، حتى يسألون الله أن يعجل لهم العذاب والنقمة، كما قال سبحانه عن كفار مكة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 32].
وتأخير العذاب عن الكفار والفجار إنما هو في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، بل يجزون بأعمالهم، ويعاقبون على ذنوبهم، إلا أنه يُرفع العذاب عمن شاء الله من عصاة المؤمنين.
والله غفور حليم، ولولا حلمه عن الجناة، ومغفرته للعصاة، لما استقرت السموات والأرض، لما يحصل من شدة الكفر وعظيم الجرائم من بعض العباد كما قالت النصارى: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 88-91].
السموات والأرض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد من الكفر والفسوق والعصيان، فيمسكهما الله بحلمه ومغفرته، فحلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والأرض، وبحلمه سبحانه صبر عن معاجلة أعدائه بالعقوبة كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].(1/163)
إن الله حليم غفور، ولو شاء لعاجل العصاة والكفار بالعقوبة، ولأمر السماء فحصبتهم، وأذن للأرض فابتلعتهم، ولكنه سبحانه حليم يمسك بقدرته وحلمه وصبره تفطير السموات، وانشقاق الأرض، وزوال الجبال، ويحبسها عن ذلك بحلمه، فإن ما يأتي به الكفار والمشركون والفجار والعصاة في مقابلة عظمة الله وجلاله، وإكرامه وإحسانه يقتضي ذلك.
ولكن الله جعل في مقابلة هذه الأسباب أسباباً يحبها ويرضاها، ويفرح بها أتم فرح وأكمله من الإيمان والتقوى، والتوبة والاستغفار، تقابل تلك الأسباب التي هي سبب زوال العالم وخرابه.
فدافعت تلك الأسباب وقاومتها، وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه، وغلبتها له، ورحمته سبحانه سبقت غضبه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» متفق عليه(1).
وهو سبحانه الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، وهو الذي حرك الأنفس والأبدان، وأعطاها قوى التأثير، وهو الذي أوجدها وأعدها، وأمرها وسلطها على من شاء، وهو الذي يمسكها إذا شاء، ويحول بينها وبين قواها إذا شاء.
وهو سبحانه الحليم الذي خلق ما يصبر عليه، وما يرضى به، فإذا أغضبته معاصي الخلق وكفرهم، وشركهم وظلمهم، أرضاه تسبيح ملائكته الذين يملؤون السموات، وتسبيح عباده المؤمنين به، وحمدهم إياه، وطاعتهم له، وانكسارهم وذلهم بين يديه في الأرض.
ومن عرف أن ربه حليم على من عصاه، فعليه أن يحلم هو على من خالف أمره، ويرفع الانتقام عمن أساء إليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 43].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7404)، ومسلم برقم (2751)، واللفظ له.(1/164)
فسبحان ذي الجلال والكبرياء، الذي تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة، وصغرت لكبريائه السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، وافتقر إليه العالم العلوي والعالم السفلي، وخشعت له الأصوات، ولهجت بذكره وحمده المخلوقات: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
العظيم
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العظيم.
قال الله تعالى: (? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الشورى: 3، 4].
وقال الله تعالى: (ے ? ? ? ?) [الحاقة: 52].
الله تبارك وتعالى هو العظيم في ذاته.. العظيم في أسمائه.. العظيم في صفاته.. العظيم في أفعاله.. العظيم في ملكه وسلطانه.. العظيم في خلقه وأمره.. العظيم في دينه وشرعه.. ذو العظمة والجلال والكبرياء.. الذي يعظمه خلقه ويهابونه.
وهو سبحانه الإله العظيم، الإله الحق الذي يجب أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة له وحده لا شريك له، لكمال صفاته، وعظيم نعمه، الحي القيوم المالك لكل شيء، الخالق لكل شيء، الرازق لكل مخلوق، الذي يعلم الظواهر والبواطن، والغيب والشهادة.
العظيم الذي لا أعظم منه، العلي بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته، العظيم الذي قهر جبروت الجبابرة، وصغرت في جانب عظمته وجلاله أنوف الملوك القاهرة: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة:255].
وهو سبحانه العظيم الذي خلق الخلائق كلها، ودبر الأوامر كلها: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].(1/165)
وهو سبحانه وحده العظيم الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولا يمكن الامتناع عليه على الإطلاق، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي لا يُطاع إلا بعمله، ولا يُعصى إلا بإذنه، ولا يمكن أن يعصى كرهاً، أو يخالف أمره قهراً، المحيط بكل شيء، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، الذي جاوز قدره وعظمته حدود العقول والتصورات.
فما أسفه من عصاه.. وما أجهل من لا يخشاه.. وما أضل من أشرك معه غيره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
فعلى من عرف حق عظمة الله أن يقدره حق قدره، ولا يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله، وعليه أن يعظم ربه حق تعظيمه، بوصفه بما يليق به من صفات الكمال والجلال والجمال.
والإكثار من ذكره في كل وقت وحين، والبدء باسمه في جميع الأمور، والتوكل عليه على مر الدهور، والإكثار من حمده والثناء عليه، وطاعة أنبيائه ورسله، وتحكيم كتابه وشرعه وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتوقير رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
ومن تعظيمه سبحانه تعظيم شعائر دينه كالصلاة والصيام، والزكاة والحج ونحوها: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 32].
ومن تعظيمه سبحانه اجتناب نواهيه ومحارمه التي حرمها في كتابه، أو حرمها رسوله صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 30].
ومن أعظم ما حرمه الله الشرك بأنواعه والفواحش، والإثم والبغي بغير الحق، والقول على الله بلا علم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 33].
ومقابل هذا أن يعمل المسلم بأوامر الله التي أمره بها، والتي من أعظمها توحيده، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].(1/166)
وهو سبحانه العظيم، وكتابه أعظم الكتب، وكلامه أعظم الكلام، فلو كانت جميع أشجار الأرض أقلاماً، وجميع البحار مداداً، لفنيت البحار والأقلام، وكلمات الرب لا تفنى ولا تنفد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان:27].
وهو سبحانه العظيم القدير الذي لا يعجزه شيء، خلقُ السماء والأرض، وخلقُ الناس جميعاً، وبعثهم جميعاً، كخلق نفس واحدة وبعثها، كل ذلك عنده سواء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 28].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَقْبِضُ الله الأرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ؟» متفق عليه(1).
فسبحانه من إله ما أعظمه، ومن جواد ما أكرمه.
«سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» أخرجه أبوداود والنسائي(2).
«سُبْحَانَ ا? وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» أخرجه مسلم(3).
«لا إِلَهَ إِلا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» متفق عليه(4).
الشكور
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الشكور.. والشاكر.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 17].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 147].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم(7382) واللفظ له، ومسلم برقم (2787)
(2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (873)، صحيح سنن أبي داود رقم (776).
وأخرجه النسائي برقم (1049)، صحيح سنن النسائي رقم (1004).
(3) أخرجه مسلم برقم (2726).
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6346)، ومسلم برقم (2730).(1/167)
الله تبارك وتعالى هو الشكور، الذي يشكر اليسير من الطاعة، ويثب عليه الكثير من الثواب، ويعطي الجزيل من النعم، ويرضى باليسير من الشكر، والذي يقبل اليسير الذي لا ينفعه من الطاعة، ويبذل العظيم الذي ينتفع به كل من سواه ممن أطاعه.
وهو سبحانه الشاكر، الذي يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويرحم من استرحمه.
فهو الغفور الرحيم، الشكور الحليم، الذي يفعل ذلك بعباده الشاكرين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 30].
ومن عظيم شكره سبحانه لعباده وفضله عليهم، أنه يضاعف لهم الأعمال الصالحة أضعافاً كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 245].
أما السيئات فإنها تكتب كما هي ولا تضاعف، وتمحى بالتوبة والاستغفار.
وجميع النعم التي يتنعم بها الخلق من رزق وعافية، وأمن وسرور، وأهل ومال وولد، هي من رب العالمين وحده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 53، 54].
وواجب العباد أن يشكروا الله على كل نعمة.. فهو سبحانه المحمود على نعمه التي لا يحصيها أحد.. وهو المحمود على خلقه وأمره.. وعلى قضائه وقدره.. وعلى آلائه ونعمائه.. وعلى دينه وشرعه.
أما الكافر فإنما سمي كافراً، لأنه يغطي نعمة الله التي أسبغها عليه، ويجحدها ولا يقر بها كما قال سبحانه عن الكفار: (? ? ? ? ? ? ? [النحل: 72].
وقد أكثر الله عزَّ وجلَّ من تعداد نعمه على عباده، فلم يترك لجاحد مجالاً أن ينكر نعم الله عليه، بل لو أراد الإنسان أن يحصي ما في جسده من نعم الله وأفضاله لعجز، فكيف لو أراد أن يحصي نعم الله سبحانه على الناس في حياتهم على هذه الأرض، وكيف لو أراد أن يحصي نعم الله في السموات والأرض، ونعم الله في الدنيا والآخرة، إن ذلك لا يمكن تصوره، فضلاً عن عده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 18].(1/168)
وأكثر الناس عن شكر هذه النعم غافلون، وهم في نعم الله غارقون: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [غافر: 61].
وأعظم الشكر لله على نعمه هو توحيده، والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والثناء عليه، واستعمالها في طاعته، لأنه سبحانه هو الذي خلق وأوجد من العدم، ورزق الإنسان وسائر المخلوقات، ولم يشاركه في ذلك أحد، فلا يستحق العبادة معه أحد.
ولكن أكثر الناس غرهم الشيطان، فأعرضوا عن ذلك، وجعلوا لله أنداداً، ونسبوا لها الضر والنفع، والتصرف في الأرزاق، ودفع الأمراض، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 17].
وهو سبحانه الشاكر، المادح لمن يعطيه، والمثني عليه، والمثيب له بطاعته فضلاً عن نعمته.
وقد مدح الله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ) [الفتح: 29].
ومن شكره سبحانه لعباده أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويخفف به عنه العذاب يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان، وهو من أبغض خلقه إليه.
ومن شكره سبحانه لعباده أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان أو خير، ولا يضيع عليه هذا القدر.
ومن شكره لعباده أنه لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء.
ومن شكره لعباده سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاماً يرضيه بين الناس فيشكره له، وينوه بذكره، ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين.
فسبحانه من غفور شكور، يغفر الكثير من الزلل، ويشكر القليل من العمل.
وأحب خلق الله إليه من اتصف بموجب صفاته، وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها، ولهذا يبغض الله الكفور والظلوم، واللئيم والبخيل ويحب الكريم المحسن، التقي الرحيم، الشكور الغفور.(1/169)
والله سبحانه شكور يشكر لعباده حسن الأداء، أفلا يشكرون له حسن العطاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 7].
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، وجزيل عطائك، وتتابع إحسانك.
اللهم لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعده.
العلي
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العلي.. والأعلى.. والمتعال.
قال الله تعالى: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 62].
وقال الله تعالى: (ں ? ? ? ?) [الأعلى: 1].
وقال الله تعالى: (ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الرعد: 9].
الله تبارك وتعالى هو العلي الأعلى، الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه:
له علو الذات.. وعلو الصفات.. وعلو القدر.. وعلو القهر.
فهو سبحانه ذو العلو والارتفاع على خلقه.. وهو العلي عن النظير والمثيل.
وهو سبحانه العلي العالي على كل شيء، القاهر لكل شيء، العلي الذي استوى على أعلى المخلوقات وأعظمها وأوسعها وهو العرش، ذو العظمة والكبرياء، وذو الجلال والجمال، الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، العزيزالحكيم الذي: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الشورى: 4].
وهو سبحانه الكبير المتعال، فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وهو سبحانه العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، العلي الذي لا أعلى منه، فالله جل جلاله عال على كل شيء، وفوق كل شيء، وقاهر لكل شيء، عال على عرشه فوق السموات كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ) [طه: 5].
والله عزَّ وجلَّ هو العلي الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص، وعلا فوق كل شيء، رفيع الدرجات، المستحق لأعظم درجات التعظيم والمدح والثناء: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الروم: 27].
وهو سبحانه العلي الأعلى الذي ينزل متى شاء؟، في أي وقت شاء؟، كيف شاء؟.(1/170)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَه» متفق عليه(1).
وينزِّل ما يشاء، على من شاء، في أي وقت شاء: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [النحل: 2].
وأنزل الكتب على أنبيائه ورسله كما قال سبحانه: (? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 2-4].
وهو سبحانه الأعلى.. ووجهه الأعلى.. وكلامه الأعلى.. وسمعه الأعلى.. وبصره الأعلى.. وعلمه الأعلى.. وخلقه الأعلى.. ودينه الأعلى.. وحكمه الأعلى..
وسائر صفاته عليا.. وله المثل الأعلى، وهو أحق به من كل ما سواه، ويستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان، فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، وليس ذلك إلا لله عزَّ وجلَّ فـ: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [الأعلى: 1-3].
فسبحان من له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وله المثل الأعلى في كل شيء.. في الخلق والأمر.. وفي الجلال والجمال.. والعلو والكمال.. والعظمة والكبرياء.. والتصريف والتدبير.. والسموات والأرض: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الروم 26- 27]
الحفيظ
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحفيظ.. والحافظ.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ?) [سبأ: 21].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ں) [الحجر: 9].
الله تبارك وتعالى هو الحفيظ، الذي حفظ ما خلقه، وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه من الوقوع في الذنوب والمهلكات، ولطف بهم في الحركات والسكنات، وأحصى على العباد أعمالهم وجزاءها.
وهو سبحانه الحافظ الذي يعلم كل شيء، ولا يغيب عنه شيء.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758).(1/171)
وهو سبحانه الحافظ الذي يحفظ عباده من المهالك والمعاطب، ويقيهم مصارع السوء، ويحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، الذي يعلم نياتهم وما تكن صدورهم، ولا تغيب عنه غائبة، ولا تخفى عليه خافية.
وهو سبحانه الحافظ لكل شيء، الحافظ للسموات السبع وما فيهن، والأرضين السبع وما فيهن، الذي يحفظ السماء أن تقع على الأرض ويمسكها بقدرته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا، ويحفظ ذلك كله بلا مشقة ولا كلفة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 255].
والله عزَّ وجلَّ هو الحافظ وحده لا شريك له، فهو الذي خلق هذا الكون العظيم، وهو الذي تكفل بحفظه: (گ گ گ گ ? ? ?) [هود: 57].
والمحفوظ هو ما حفظه الله سبحانه، وشاء له أن يُّحفظ ويبقى، وما شاء الله له أن يضيع ويهلك، فإنه ضائع هالك لا محالة.
وقد تكفل الله بحفظ السموات والأرض وما فيهما، والعرش والكرسي، والجنة والنار، والقرآن، وبيته الحرام، فهي باقية وغيرها بحفظ الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 32].
فالله عزَّ وجلَّ هو الذي أنزل القران، وحفظه حال إنزاله، وبعد إنزاله.
ففي حال إنزاله حفظه من استراق الشياطين... وبعد إنزاله حفظه في قلب رسول الله (.. ثم حفظه في قلوب المؤمنين من أمته.. وحفظ حملته المؤمنين من أعدائهم.. فلا يسلط عليهم عدواً يجتاحهم... وحفظ سبحانه ألفاظ القران من التغيير والزيادة والنقص... وحفظ معانيه من التبديل.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ں) [الحجر: 9]
والله تبارك وتعالى هو الحفيظ، الذي يحفظ الإنسان من الشرور والآفات والمهالك، ويحفظه من عقابه وعذابه وسخطه إن هو حفظ حدود الله، واجتنب محارمه وما يغضبه.(1/172)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِا?، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُْمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي(1).
ومن أعظم ما يجب على المسلم حفظه هو الدين، ومن أعظم ما يجب عليه حفظه من حقوق الله هو التوحيد، بأن يعبد الله وحده لا شريك له: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 36].
فمن آمن بالله وعبده بما شرعه رسوله، وحفظ ذلك في الدنيا، حفظه الله تعالى من عذاب يوم القيامة وسلمه منه، وأدخله الجنة، وأجاره من النار، وإن عذب بسبب ذنوبه فهو محفوظ بتوحيده من الخلود في النار مع الكفار، الذين ضيعوا هذا الحق العظيم.
ومن أعظم ما أمر الله بحفظه من الواجبات الصلاة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ) [البقرة: 238].
فمن حافظ على الصلاة، وحفظ أركانها وشروطها، حفظه الله من عذابه ونقمته، وأدخله الجنة.
ومما أمر الله بحفظه السمع والبصر والفؤاد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 36].
والمؤمن مأمور بحفظ دينه أجمع، فلا يجوز له أن يترك منه شيئاً لتعارضه مع هواه ومصلحته.
وكلما كان العبد لحفظ دين الله أكمل، كان حفظ الله له أكمل وأتم وأدوم، ومن حفظ حدود الله وراعى حقوقه، تولى الله حفظه في أمور دينه ودنياه وأخراه، وما حفظه الله لا يضيع ولو أجمعت المخلوقات كلها على إضاعته وإتلافه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 64].
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669).
وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).(1/173)
فاحفظ سمعك فلا تسمع به إلا ما يرضيه، واحفظ بصرك فلا تنظر به إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك وعقلك من أن يتعلق بهما ما يغضبه ويسخطه، أو ينشغلا بغيره، واحفظ جميع جوارحك فلا تتحرك إلا بما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه(1).
والله عزَّ وجلَّ هو الحافظ الذي يحفظ أعمال العباد، فلا يضيع منها شيء، ولا يخفى عليه شيء، صغيراً كان أم كبيراً، ثم يوافيهم به يوم القيامة إن خيراً فخير، وإن شراً فشر: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [القمر: 52، 53].
وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم(2).
وقد وكل الله بحفظ جميع أعمال العباد حفظةً كراماً من الملائكة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الانفطار: 10-12].
وحفظ الله سبحانه لخلقه نوعان:
الأول: حفظ عام لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيها، ويحفظ أبدانها، وإلهامها تدبير شئونها، والسعي فيما يصلحها، كل حسب خلقته، فهو سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 50].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675) واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (2577).(1/174)
الثاني: حفظ خاص لأوليائه، وذلك حفظ زائد على ما تقدم، بحفظهم عما يضر إيمانهم، وحفظهم مما يزلزل يقينهم من الفتن والشبهات والشهوات، فيعافيهم منها، ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم، ويدفع كيدهم عنهم.
وأعظم الحفظ حفظ القلوب، وحراسة الدين عن الكفر والنفاق والفتن والأهواء والبدع.
فسبحان الملك العظيم، الحفيظ الذي خلق هذا الملك العظيم، وتكفل بحفظه، وأنزل القران العظيم، وتكفل بحفظه.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين... واحفظنا بالإسلام قاعدين.. واحفظنا بالإسلام راقدين.. ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.
الرقيب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرقيب.
قال الله تعالى: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 117].
وقال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [النساء: 1].
الله تبارك وتعالى هو الرقيب المطلع على ما أكنته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الحافظ الذي لا يغفل ولا يغيب عما يحفظه، الذي حفظ جميع المخلوقات وأجراها على أحسن نظام، وأكمل تدبير.
وهو سبحانه الرقيب الذي يراعي أحوال المرقوب، الحافظ له جملة وتفصيلاً، المحصي لجميع أحواله، العليم به الحافظ له، الذي لا يغفل عما خلق فيلحقه نقص أو يدخله خلل من قبل غفلته عنه.
والله عزَّ وجلَّ هو الرقيب على عباده، الذي يراقب أقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، وما يجول في قلوبهم وخواطرهم كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [البقرة: 235].
وهو سبحانه وحده الرقيب على كل المخلوقات، في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، الرقيب على الأشياء كلها، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، الرقيب على المبصرات كلها ببصره، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، الرقيب على المسموعات كلها بسمعه، المدرك لكل حركة وصوت وكلام في كل آن، وفي كل مكان.(1/175)
وهو سبحانه الرقيب على كل ما في هذا الكون العظيم، يستوي عنده الصغير والكبير، والظاهر والباطن، والقريب والبعيد، والكليات والجزئيات، والأسرار والخفيات، في الأرض والسموات.
وإذا علم المسلم عظمة رقابة الله المطلقة، راقب الله في تصرفاته وعباداته، ومعاملاته، وسائر أحواله، وفي ذلك صلاح دنياه وآخرته، وبلوغه أعلى درجات الإيمان وهو الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
والمراقبة: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق على ظاهره وباطنه، وحضور القلب بين يدي الله تعالى، وعدم الانشغال عنه، سواء في العبادة أو خارجها، وامتلاء القلب بعظمة الله جل جلاله ومحبته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 4].
وهذا القرب وهذا الدنو من الله تعالى يبث في القلب سروراً عظيماً، وأنساً وفرحاً، وهذا الأنس والسرور يبعث العبد على دوام السير إلى الله عزَّ وجلَّ، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، والتلذذ بعبادته وطاعته.
ومن لم يجد هذا السرور، ولا شيئاً منه، فليتَّهِم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة، من لم يذقها فليرجع وليقتبس نوراً يجد به حلاوة الإيمان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأنْ يُّحِبَّ الْمَرْءَ لا يُّحِبُّهُ إلا لِلَّهِ، وَأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ» متفق عليه(1).
والمراقبة من أجلِّ أعمال القلوب، فمتى علم العبد أنه مكشوف أمام الله، وأن حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنه عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل فعل أو قول يسخطه الله، وعبد الله بمقام الإحسان.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (16)، واللفظ له، ومسلم برقم (43).(1/176)
ومن راقب الله في سره وجهره، واتقاه في أمره ونهيه، أوصله ذلك بإذن الله إلى مرضاة ربه، والفوز بالجنة.
وصاحب المراقبة يدع المعاصي استحياءً من ربه وهيبةً له أكثر مما يدعها خوفاً من عقوبته.
ألا ما أجهل الإنسان بربه حين يكفر به ويعصيه، ولا يكفيه ذلك حتى يزجر من يؤمن به ويطيعه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العلق: 9-14].
وإن الإنسان ليرجف ويضطرب فؤاده حين يشعر أن سلطان الأرض يراقبه بجواسيسه وعيونه، مع أن سلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا حركة الإنسان الظاهرة، وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره، أو إذا أغلق فمه. أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه ترقبه أينما حل وأينما سار في كل وقت.
وأما رقابة الله فهي مسلطة على الأقوال والأعمال، والضمائر والأسرار.
وخالق الإنسان أدرى بتركيبه وسره، فالعبد مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العظيم، العليم بمنشئه وحاله ومصيره، وهو سبحانه أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد الذي يجري فيه الدم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 16].
فسبحان الله.. ما أعظم هذه القبضة المالكة، والرقابة الشديدة المباشرة لجميع ما في هذا الكون من خالقه.
وإذا علم الإنسان ذلك، فهو كاف له أن يعيش في حذر دائم، وخشية دائمة، ويقظة لا تغفل عن المحاسبة، تدفعه إلى حسن العمل ودوامه.
وقد أحكم الله عزَّ وجلَّ الرقابة على هذا الإنسان.. فهو يعيش ويتحرك وينام.. ويأكل ويشرب.. ويتحدث ويصمت.. ويقطع الرحلة كلها بين يدي ملكين موكلين به عن اليمين والشمال.. يتلقيان منه كل حركة.. وكل كلمة.. ويسجلانها فور وقوعها.. لتكون في سجل حساب هذا الإنسان: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 17، 18].
المقيت
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المقيت.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 85].(1/177)
الله تبارك وتعالى هو المقيت، الذي خلق الأقوات كلها، وأوصل إلى كل مخلوق ما يقتات به، وأوصل إلى الكائنات أرزاقها، وصرَّفها بين هذه المخلوقات العظيمة كيف شاء بحمده وحكمته، وعلمه ورحمته.
وهو سبحانه القائم على جميع المخلوقات بالتدبير والتصريف، الوهاب الرزاق، الذي يعطي كل إنسان وطير وحيوان قوته على ممر الأوقات.
فهو سبحانه الذي يمد هذه الخلائق في كل وقت بما جعله قواماً لها، فإذا أراد موت شيء منها، حبس عنه ما جعله مادة لبقائه من القوت، فيهلك بإذنه.
والله عزَّ وجلَّ هو الغني الكريم، المعطي الخلق أقواتهم، الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والناطق والصامت، والذاكر والغافل: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود:6].
وقد قدر الله سبحانه جميع الأرزاق والآجال والأعمال لجميع الخلائق.. وقدر أقوات أهل الأرض.. وما يصلح لمعايشهم من النبات والشجر والحبوب والمنافع والتجارة.
وجعل في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى من المنافع والمكاسب والثمار.. ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد.. فيحصل بسبب ذلك من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يعلمه إلا الله العليم الحكيم.
قال الله تعالى عن الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 10].
والله عزَّ وجلَّ خالق الأقوات كلها.. جعل سبحانه لكل مخلوق من المخلوقات قوتاً يناسبه:
فالأبدان قوتها المأكول والمشروب.. والأرواح قوتها العلوم الإلهية والذكر.. والملائكة قوتها التسبيح والتقديس لله.
فسبحان العليم الخبير.. المقيت لعباده.. الحافظ لهم.. الشاهد لأحوالهم.
وسبحان الغني الكريم، الرقيب الشهيد، الذي خلق الخلائق، وتكفل بأرزاقهم من كانوا، وحيثما كانوا؟
علمه سبحانه محيط بكل شيء.. ورحمته وسعت كل شيء.. وخزائنه مملوءة بكل شيء.. وهو المقيت بكل شئ.
قال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].(1/178)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَدُ ا? مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه(1).
الشهيد
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الشهيد.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 98].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفتح: 28].
الله تبارك وتعالى هو الشهيد، المطلع على جميع المخلوقات، الذي يسمع جميع الأصوات خفيّها وجليّها، ويبصر جميع الموجودات صغيرها وكبيرها، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه، فهو الشهيد على أفعالهم، الحفيظ لأقوالهم، العليم بسرائرهم، وما تكن صدورهم وما يعلنون، الذي أحاط علمه بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء.
وهو سبحانه الشهيد القريب من خلقه، الذي يراهم جميعاً في آن واحد، ويسمع ما يتناجون به، ويرى ما يخوضون فيه، ويعلم ما يجول في خواطرهم، وما تهجس به ضمائرهم، لا يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه أو يفعلونه أو يكتمونه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 61].
وهو سبحانه الشهيد، العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي علم جميع أفعال العباد، وأحصاها قبل فعلها وبعد فعلها، لأنه علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 6].
والله عزَّ وجلَّ عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء وإن دق وصغر كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [آل عمران: 5].
والله جلَّ جلاله لا يحتاج إلى الشهود على العباد، لأنه على كل شيء شهيد.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684) واللفظ له، ومسلم برقم (992).(1/179)
قد شهد سبحانه لنفسه بأعظم شهادة في كتابه فقال: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 18].
فسبحان الملك الرقيب الشهيد، الذي لا يعزب عنه شيء من مخلوقاته، ظاهرها وباطنها، كبيرها وصغيرها.
يرى مكانها.. ويسمع تسبيحها.. ويعلم أحوالها.
(گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
وسبحان الشهيد الذي يرى الكون كله وهو مستو على عرشه، يرى الهباءة الطائرة.. والجبال الشاهقة.. ويرى الحيوانات، والنباتات، والذرات في قعر البحر الأسود.
ويرى سبحانه كل ذرة، وكل نبتة، وكل شجرة في العالم، في ظلمة الليل الأسود.
ويرى سبحانه أهل الطاعات وهم يطيعونه.. ويرى أهل المعاصي وهم يعصونه.. ويرى ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.
فسبحان: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [البروج:9].
واذا علم العبد أن الله هو الذي خلقه وصوره، وأسكنه في ملكه، وعافاه وأنعم عليه.
وعلم كذلك أن ربه يراه، ويسمع كلامه، ويعلم سره وعلانيته، هو أقرب إليه من نفسه.
إذا شهد هذا.. وهذا.. استحى من ربه أن يعصيه، وخاف من عقوبته، وأقبل على طاعته، لما يراه من عظمته، وجزيل إنعامه، وحسن إكرامه.
الحاسب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحاسب.. والحسيب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [الأنبياء: 47].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 86].
الله تبارك وتعالى هو الحاسب، الحافظ لأعمال خلقه كلها، المحاسب لهم عليها، المجازي عباده بحسب حكمته وعلمه، بدقيق أعمالهم وجليلها.
وهو سبحانه الحسيب، المكافئ لعباده، المحاسب لهم.
وهو سبحانه الحسيب الكافي لعباده، الذي لا غنى لهم عنه أبداً، فهو خالقهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة، فالله وحده حسب كل أحد وكافيه.(1/180)
والله عزَّ وجلَّ هو الحاسب، الذي أحصى كل شيء عدداً، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فهو الذي أحصى جميع أقوال العباد وأفعالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، فهي محصاة لا يضيع منها شيء، ولا يزاد عليها شيء.
فيجازي بها العباد يوم القيامة عدلاً وفضلاً، بلا ظلم ولا بخس ولا نقص: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الزلزلة: 6-8].
وحساب الخلائق كلها سهل لا مشقة فيه على الخالق، بل هو يسير عليه، فكما أن خلقهم وبعثهم كنفس واحدة، فكذلك رزقهم وحسابهم كنفس واحدة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 28].
والله جلَّ جلاله سريع الحساب، بل هو أسرع الحاسبين، فإذا رجع العباد إليه يوم القيامة حاسبهم في أسرع وقت كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأنعام: 62].
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، خلق الخلق كلهم، وأحصى أعدادهم، وأحصى أعمالهم وأقوالهم، وقدر آجالهم وأرزاقهم.
فعلى العبد أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه ربه، ويزن أعماله قبل أن توزن، وإنما يفزع إلى ذلك أرباب القلوب، المحسون بأوجاع الذنوب، العالمون يقيناً بمحاسبة علام الغيوب، وإحصائه الطاعات والذنوب، فإن مما يهون الحساب غداً، محاسبة النفس قبل حضور الأجل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 18].
والله عزَّ وجلَّ إذا جمع عباده يوم القيامه.. حكم بينهم بالحق والعدل.. فوضع لهم الموازين العادلة التي بين فيها مثاقيل الذر.. يوزن بها العامل وعمله.. وتوزن بها الحسنات والسيئات.. فلا تظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئاً.. ولو كان مثقال حبة من خردل من خير أو شر.. فالله يظهره ويحضره ليجازي به صاحبه.
ولن يفلت أحد من الموت، كما أنه لن يفلت أحد من الحساب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25-26].(1/181)
واذا كان الله قد أبقى الإنسان في بطن أمه شهوراً ليكمل خلقه، وأبقاه في الدنيا سنيناً ليكمل عمله، فهو بعد هذا.. وهذا راجع إليه بعد الموت، فيحاسبه ثم يثيبه أو يعاقبه حسب عمله يوم القيامة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الحج: 56-57].
الكريم
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكريم.. والأكرم.
قال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?) [الانفطار: 6-8].
وقال الله تعالى: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [العلق: 3-5].
الله تبارك وتعالى هو الكريم، الذي عم بعطائه وإحسانه المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، يعطي لا لعوض، مًنَّ سبحانه على عباده بوافر النعم.
فهو باسم الكريم أحق من كل كريم، فهو سبحانه ما زال كريماً ولا يزال، عمّ عطاؤه الخلائق كلها.
وهو سبحانه أكرم الأكرمين، لا يوازيه كريم، ولا يعادله نظير، يعطي ويثني، ويعفو ويصفح، ولا يضيع من توسل إليه، ولا يترك من التجأ إليه، ولا يهين من أقبل عليه.
إذا قدر عفى، وإذا وعد وفى، كريم يعطي بلا عقاب ولا عتاب كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [الإسراء: 70].
وهو سبحانه الكريم، الكثير الخير دائمه، الكريم الذي يعطي ولا تنقضي خزائنه، وله خزائن السموات والأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ) [المنافقون: 7].
وهو سبحانه دائم الخير والإحسان، فكل شيء ينقطع إلا الله وإحسانه، فإنه دائم متصل في الدنيا والآخرة، وخزائن كل شيء عند الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
وهو سبحانه الكريم الذي يسهل خيره، ويقرب تناول ما عنده، فليس بينه وبين العبد حجاب، وهو قريب لمن دعاه، إذا تقرب منه العبد تقرب الله إليه أكثر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].(1/182)
وهو سبحانه الكريم الذي له قدر عظيم، فالكل له خلق وملك، وكرم كل كريم من كرمه، وهو الكريم الذي لا أكرم منه، العزيز الذي لا أعز منه.
وهو سبحانه الكريم، المنزه عن النقائص والآفات، لأنه تقدس عن النقائص والآفات وحده على الإطلاق والتمام من كل وجه.
وهو سبحانه الكريم الذي إذا وعد وفى، ولا يبالي كم أعطى؟، ولمن أعطى؟، لعموم قدرته، وعظيم ملكه، وكمال غناه، فلا يحول بينه وبين ما يريد مانع: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 44].
وهو سبحانه الكريم الذي يكرم من شاء، ويهين من شاء، فمن أكرمه الله فهو الكريم، ومن أهانه الله فهو المهين كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 18].
وهو سبحانه الكريم الذي يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه داعياً أن يردهما صفراً خائبتين.
والله عزَّ وجلَّ هو الكريم الذي عمَّ الجميع بعطائه وفضله، وبكرمه أمهل المكذب له، ووالى عليه نعمه.
ومن كرمه أمهل إبليس وأنظره، وتركه وما اختار لنفسه، ولم يعجله ولا عاجله، كل ذلك كرم منه وفضل.
وهو سبحانه الكريم الذي تفضل على العلماء بأن علمهم من علمه، وأنار قلوبهم من نوره.
وتفضل على الأغنياء بأن رزقهم من رزقه، وأعان وحبب إلى من شاء منهم لصرفه فيما يرضيه.
وهو سبحانه الكريم الذي تفضل على المؤمنين، فحبب إليهم الإيمان، وأعانهم على الأعمال الصالحة، وأثابهم عليها.
وهو سبحانه الكريم الذي خلق الناس، وعافاهم، وأطعمهم، وكساهم، وهدى من شاء منهم للإيمان.
وهو سبحانه الكريم الذي عمَّ الخلق برحمته، وشملهم بكرمه، ودعاهم إلى ما يسعدهم في دنياهم وأخراهم.
وهو سبحانه الكريم الذي يغفر الذنوب، ويعفو عن السيئات، ويبدل السيئات بالحسنات كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 53].
وهو الكريم الذي يضاعف الحسنات إلى أضعاف كثيرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 245].(1/183)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» متفق عليه(1).
وأعظم أسباب الكرامة عند الله هي تقواه، ولهذا كان الرسل أكرم الخلق، لكمال طاعتهم، وكمال عبوديتهم لربهم، فمن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ربه: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الحجرات: 13].
وقد سمى الله كتابه كريماً بقوله سبحانه: (? ? ? ?) [الواقعة: 77].
فهو قرآن كريم فيه الهدى والبيان، والعلم والحكمة، والفضائل والبشائر، والسنن والآداب: (? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 30].
ألا ما أعظم الكريم المنان، وما أعظم فضله وجوده وإحسانه.
فسبحان الكريم المنان، كثير الكرم والاحسان، واسع الجود والعطاء، الذي من كرمه خلق المخلوقات، وهيأ لها السكن والمأوى والرزق والمعاش.
ومن كرمه خلق الإنسان وكرَّمه... وعلمه القرآن.. وعلمه الحكمة.. وعلمه البيان.. وأرسل إليه الرسل.... وأنزل عليه الكتب.. ليسعده في دنياه وأخراه
وإذا علم المسلم أن الكريم هو الله، فعليه أن يتوجه إليه ويعبده بكمال الإيمان والتقوى.. وإكرام كتابه باتباع ما جاء فيه.. وإكرام أنبيائه ورسله باتباعهم وحسن الاقتداء بهم.. وإكرام أوامره وشعائره بحسن أدائها.. وإكرام نعمه بوضعها في مواضعها، وشكر الله عليها.. وإكرام نفسه بكمال الإيمان والتقوى.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6491)، ومسلم برقم (131) واللفظ له.(1/184)
اللهم أعطنا ولا تحرمنا.. وزدنا ولا تنقصنا.. وأكرمنا ولا تهنا.. أنت مولانا.. فنعم المولى ونعم النصير.
الواسع
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الواسع.
قال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [البقرة: 115].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [آل عمران: 73].
الله تبارك وتعالى هو الواسع الكريم، الذي وسع خلقه كلهم بالكفاية والإحسان، الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، الرزاق الذي وسع رزقه جميع خلقه، واسع الفضل والإحسان والإنعام.
وهو سبحانه الواسع العليم، الذي وسع علمه كل شيء، وأحاط بكل شيء علماً، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 98].
وهو سبحانه واسع الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، العليم بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه، وفضله الذي يعطيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
وهو سبحانه واسع المغفرة، فيغفر لكل من تاب وأناب، مهما بلغت ذنوبه وخطاياه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النجم: 32].
فسبحان واسع العلم.. واسع الرحمة.. واسع المغفرة.. واسع الفضل.. واسع العطاء. الذي خلقه كلهم يتقلبون فيما لا يحصى من النعم.. فهو الذي يعطي ويمنع.. ويخفض ويرفع.. ويعز ويذل.. ويهدي ويضل.. بعلمه الذي وسع كل شيء.. وقدرته التي قهرت كل شيء.. ورحمته التي وسعت كل شيء.. وحكمته التي بلغت كل شيء.
وسبحان واسع العظمة والملك والسلطان الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
المجيد
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المجيد.
قال الله تعالى: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [هود: 73].
وقال الله تعالى: (ے ے ? ? ? ? ? ?) [البروج: 14، 15].(1/185)
الله تبارك وتعالى هو المجيد، الكبير العظيم، ذو المجد والكبرياء، والعظمة والجلال، الذي هو أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، الشريف في ذاته، الذي له المجد كله، لكثرة أسمائه وصفاته، وسعتها وعظمتها، وكمال أفعاله، وكثرة خيره ودوامه.
وهو سبحانه المجيد، الذي له التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد امتلأت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله، والخضوع له والتذلل لكبريائه، الذي تمجد بفعاله، ومجده خلقه لعظمته وجلاله وكبريائه.
وهو سبحانه الحميد المجيد في جميع أقواله وأفعاله، الجميل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، الذي لا يمكن إحصاء نعمه، ولا الإحاطة بجميع أسمائه وصفاته.
وهو سبحانه الكريم المجيد الذي عطاؤه واسع، وفضله سابغ، قد شمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والإنسان والحيوان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [الإسراء: 20].
وقد سمى الله عزَّ وجلَّ كتابه بالمجيد كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [ق: 1].
ومن مجد القرآن وشرفه وعظمته أنه لا يمكن للجن والإنس أن يأتوا بمثله، بل بسورة منه، بل بآية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 88].
الرب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 164].
وقال الله تعالى: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
الله تبارك وتعالى هو الرب، المالك الذي له الخلق والأمر، السيد الذي لا شبيه له ولا مثيل في سؤدده، رب الأرباب، ومالك الملك، وخالق الخلق، الذي يدبر الأمر في السماء والأرض.
وهو سبحانه الرب الذي يربي الخلائق بأصناف النعم، المصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، المنعم الذي تفضل على عباده وخلقه بوافرالنعم، المربي لأنبيائه وأوليائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].(1/186)
وهو جل جلاله الرب المربي لخلقه، المدبر لهم، القائم بأمورهم، المصلح لأحوالهم، الجابر لهم، قيوم الدنيا والآخرة، كل شيء خلقه، وكل مخلوق عبده وهو ربه، لا يصلح إلا بتدبيره، ولا يقوم إلا بأمره، ولا يبقى إلا بإذنه.
وهو سبحانه الذي خلق العباد، وهو الذي يرعاهم ويربيهم في أطوارهم المختلفة، فهو الذي خلق النطفة، ثم يجعلها علقة، ثم يجعلها مضغة، ثم يجعل المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يخلق الروح في البدن، ويجعله خلقاً آخر، وهو صغير ضعيف، فلا يزال سبحانه ينميه حتى يجعله آدمياً سوياً، ذكراً أو أنثى.
وهكذا كل شيء خلقه الله، فهو القائم عليه، والمبلغ إياه الحد الذي قدره له: (? ? ? ? ?) [المؤمنون: 14].
والله سبحانه هو الرب الكريم، الذي يربي خلقه بالنعم المادية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجاثيه: 36].
ويربي سبحانه عباده بالنعم الروحية التي تزكي قلوبهم وجوارحهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجمعة: 2].
فلله الحمد والشكر على هذه.. وهذه، وهو المستحق للحمد وحده دون سواه كما قال سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [الفاتحة: 2-4].
والله جلَّ جلاله هو الرب الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، المحيط بكل شيء، القاهر لكل شيء، رب كل شيء ومليكه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السموات والأرض عبد له، وفي قبضته، وتحت قهره: (ک ک ک ک گ گ گ گ) [يونس: 3].
فاجتمع العباد من الإنس والجن لله بصفة الربوبية، فهو الذي خلقهم، وهو الذي يربيهم، وافترقوا بصفة الإلهية، فألَّهه وحده السعداء، وأقروا بأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه الرب الذي لا تنبغي العبادة والطاعة إلا له، وكفر به وأشرك الأشقياء.(1/187)
وهنا صار الناس فريقين.. موحدين في الجنة.. ومشركين في النار كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 35، 36].
فالدين والشرع، والأمر والنهي، مظهره وقيامه من صفة الإله سبحانه.
والخلق والإيجاد، والتدبير والتصريف، مظهره وقيامه من صفة الرب.
والجزاء بالثواب والعقاب، والجنة والنار، مظهره وقيامه من صفة الملك.
فأمر الله عباده بإلهيته.. وخلقهم ورزقهم، وأعانهم ووفقهم، وهداهم وأضلهم بربوبيته.. وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله.. وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما الرحمة فهي السبب الذي بين الله وبين عباده.
فالتأليه منهم له.. والربوبية منه لهم.. والرحمة سبب واصل بين الله وبين عباده.. بها أرسل إليهم رسله.. وأنزل عليهم كتبه.. وبها هداهم.. وبها أسكنهم دار ثوابه.. وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم.
فبينهم وبينه سبب العبودية.. وبينه وبينهم سبب الرحمة.. وسع سبحانه كل شيء بربوبيته ورحمته كما قال سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 2-4].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
ومن عرف ذلك لم يطلب غير الله رباً وإلهاً.
ومن رضي بالله رباً فقد ذاق طعم الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِا? رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم(1).
ومن رضي أمراً سهل عليه ما يترتب عليه، ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، وكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان، سهلت عليه طاعة الله تعالى ولذت له.
والعالم الرباني هو الذي يحقق علم الربوبية.. فيعرف الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.. ويعرف وعده ووعيده.. وآلاءه وإحسانه.. ثم يعرف أحكامه وشرعه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (34).(1/188)
يعمل بذلك.. ويعلِّمه.. ويدعو إليه.. ويربي الناس على مقدار ما يحتملونه.. فيبذل لخواصهم جوهره ومكنونه.. ويبذل لعوامهم ما ينالون به فضل الله ويدركونه.
وقد دعا الأنبياء والصالحون الله بهذا الاسم العظيم.
فقال آدم صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأعراف: 23].
وقال نوح صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [نوح: 28].
وقال إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: (پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 127].
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة.. وفي الآخرة حسنة.. وقنا عذاب النار.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [آل عمران: 53]
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 147].
(? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
الودود
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الودود.
قال الله تعالى: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 90].
وقال الله تعالى: (ے ے ? ? ? ? ? ?) [البروج: 14-15].
الله تبارك وتعالى هو الودود، الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم وهم يحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه وداً ومحبة وإنابة.
وهو سبحانه الودود، الذي يحب ويود من أناب إليه، وذو المغفرة لمن تاب إليه، الواد لأهل طاعته، الراضي عنهم بأعمالهم الصالحة، المحسن إليهم لأجلها، المادح لهم بها، المثيب لهم عليها.
وهو سبحانه الودود، الذي يحب من أطاعه، ويبغض من عصاه، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المؤمنين والمتقين، ويحب الصابرين والصادقين، ويحب المحسنين والمتوكلين.
ويبغض ويكره الكافرين والمشركين، والمستكبرين والمفسدين، والظالمين والفاسقين، والمسرفين والخائنين، والكاذبين والمنافقين.
وهو سبحانه الودود بكثرة إحسانه، الذي يوده عباده ويحبونه، المستحق لأن يُود فيعبد ويحمد، لكماله وجماله وجلاله، وعظيم إحسانه.(1/189)
فعلى المسلم أن يفعل ما يحبه الله ويرضاه.. ويجتنب ما يبغضه ويسخطه.. وأن يتودد إلى ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه.. كما تودد إليه ربه بإدرار نعمه وفضله.. وأن يحبه كما أحبه.. ويحسن إلى خلقه كما أحسن الله إليه.
ومن حب العبد لله رضاه بما قدره وقضاه، وحب القرآن والعمل به، وحب الرسول وطاعته، والعمل بسنته، وحب ما جاء به.
وحب الله ورسوله يقوى بقوة العلم الشرعي، وكمال المعرفة بالله وآلائه، وكلما كان العبد عالماً بدين الله وأحكامه وشرعه عاملاً به، كان حبه لله أقوى من غيره من الجاهلين، وإن كانت محبة الله موجودة في الفطر، ولكنها تقوى بالذكر والعلم الشرعي، وتضعف بالجهل والغفلة، والشبهات والشهوات.
والإنسان قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وقد يرحم من لا يحب.
والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه ويحبه، فإنه يحب التوابين، ويفرح بهم أشد الفرح، فهو المتودد إلى عباده بنعمه، الذي يود من تاب إليه، وأقبل عليه.
والله سبحانه رؤوف بالعباد، يحب لهم ويدعوهم إلى كل ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، لأنه الرحيم الودود.
ومن أعظم نعم الله على عباده أن عرفهم الدين الحق، وبين لهم الحق من الباطل، والحلال من الحرام: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 26].
والله لطيف بعباده في جميع أحوالهم، وفيما شرعه لهم من الأحكام السهلة الميسرة، يتودد إليهم بنعمه المتوالية، وقبول توبتهم إذا تابوا، ويفرح بذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [النساء: 27].
ومن رحمة الرحيم الودود، وإحسانه الشامل.. علمه بضعف الإنسان من جميع الوجوه.. ضعف بدنه.. وضعف إيمانه.. وضعف صبره.. وضعف إرادته.. وضعف عزيمته.. وضعف تصوره.
فلعلمه سبحانه بهذا ورحمته خفف عن الإنسان ما يضعف عنه، وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [النساء: 28].
الحق
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحق.(1/190)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 32].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 116].
الله تبارك وتعالى هو الملك الحق، الموجود حقيقة، الذي لا يسع أحدٌ إنكاره ولا جحوده، فلا ريب ولا شك في وجوده.
وهو سبحانه حق في ذاته.. وحق في أسمائه وصفاته.. وحق في أقواله وأفعاله، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به.. فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفاً.. ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً.
فهو سبحانه الحق، وكل ما يعبد من دونه باطل وعبادته باطلة: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 62].
والله عزَّ وجلَّ هو الحق.. وقوله حق.. وفعله حق.. ولقاؤه حق.. ورسله حق.. وكتبه حق.. ودينه حق.. وعبادته وحده لا شريك له هي الحق.. وحكمة الحق.. وكل شيء ينسب إليه فهو حق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ.. » متفق عليه(1).
وهو سبحانه الإله الحق، والرب الحق، الذي خلق السموات والأرض وما فيهن، وخلق أرزاق الخلائق، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والذي يدبر الأمر في العالم العلوي والسفلي حي قيوم لا تأخذه سِنة ولا نوم.
فهذا هو الإله الحق العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، الخالق لكل شيء، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، ذو العظمة والجلال والكبرياء.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7442) واللفظ له، ومسلم برقم (769).(1/191)
ألا يستحق هذا الإله الحق أن يعبد ويطاع ويشكر؟
ألا ما أجهل وأضل من انصرف عن عبادة الله إلى عبادة غيره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 32].
والله تبارك وتعالى هو الحق، الذي أنزل الكتاب بالحق، وأنزل العدل، وجعله حكما فيما تختلف فيه الامم، وفيما تختلف فيه آراء الناس، وأقام شرائعه على العدل في الحكم، وجعله الميزان الذي توزن به القيم والحقوق، وتوزن به الأعمال والتصرفات كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 17].
والله سبحانه هو الحق الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق، المشتمل على العدل والإحسان والرحمة، ليظهره على الدين كله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفتح: 28].
وما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله، من حيث هو دين، فهو الدين القوي بذاته، الكامل بشرائعه، المحفوظ من التحريف والتبديل، الموافق للقلوب والجوارح، المزكي للعقل والروح، الذي يزحف بذاته وحسنه إلى القلوب والبلاد والعباد كل يوم وكل لحظة.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
المبين
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المبين.
قال الله تعالى: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 25].
الله تبارك وتعالى هو الحق المبين، البين أمره في الوحدانية، فهو الواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الجلال والجمال والكمال، الواحد لا شريك له: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].
وهو سبحانه المبين لعباده سبيل الرشاد، الذي أوضح لهم الأعمال الموجبة لثوابه، والأعمال الموجبة لعقابه، والمبين لهم ما يأتونه وما يذرونه، وما يحبه وما يكرهه، وما يرضيه وما يسخطه من الأقوال والأعمال والأشياء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 26].(1/192)
وهو سبحانه الحق المبين، الذي بين بمنه وكرمه سبيل المؤمنين، ورغب الناس في سلوكها، وبين سبيل المجرمين، وحذر الناس منها، وأرسل بذلك الرسل، وأنزل الكتب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 89].
وقد سمى الله عزَّ وجلَّ كتابه بالمبين فقال سبحانه: ( چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [المائدة: 15، 16].
وسمى رسوله صلى الله عليه وسلم بالمبين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الحجر: 89].
والله تبارك وتعالى هو الحق المبين.. الذي بين في القرآن والسنة كل ما تحتاجه البشرية من البداية إلى النهاية من أحكام العبادات والمعاملات.. وأحكام المعاد والبعث والنشور.. وأحكام الحساب والجزاء والعقاب.. ووصف الجنة وأهلها.. ووصف النار وأهلها.. حتى استقر أهل الجنة في النعيم.. وأهل النار في الجحيم: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [آل عمران: 138].
فسبحان الملك الحق المبين الذي بيَّن لعباده كل شيء:
فبين لعباده أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، ليدعوه بها، ويسألونه بموجبها.
وبين لهم صفات جلاله ليعظموه ويكبروه.
وبين لهم صفات جماله ليحمدوه ويشكروه.
وبين لهم طريق العبودية المستقيم، الذي يحببهم إليه، ويوصلهم إليه فقال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الأنعام: 153].
وبين للخلق ما لهم بعد القدوم عليه، من نعيم دائم في الجنة، لمن آمن به وعمل بشرعه، ومن عذاب دائم في النار، لمن كفر به وأعرض عن شرعه فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [الروم: 14-18].
وجمع الله سبحانه العلوم الإلهية، وبين الأحكام الشرعية، وفصل أحكام الثواب والعقاب، في الدنيا والآخرة، في كتاب عظيم، فيه تبيان كل شيء، وأمرنا باتباعه لتحصل لنا رحمته فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [الأنعام: 155].
الوكيل
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوكيل.(1/193)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 132].
وقال الله تعالى: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].
الله تبارك وتعالى هو الوكيل، الذي جميع المخلوقات تحت وكالته وتدبيره وتصريفه، الذي توكل ببيان دينه، وحفظه، وحفظ كتابه، وحفظ المؤمنين، وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم ودولتهم.
وهو سبحانه الوكيل، الكفيل بأرزاق الخلائق كلها، القائم بكل ما يصلحهم، المتكفل بإيصال أرزاق الخلق إليهم، وله وحده الخلق والأمر، يدبر أمر الخلائق، ويقسم الأرزاق، ويصرف الأحوال، ويفعل ما يشاء.
فكل ما نحتاجه، وكل ما لا بد لنا منه، فالله سبحانه هو الوكيل والكفيل المتوكل بإيصاله إلينا، إما بنفسه فيخلق الشبع والري كما يخلق لنا الهداية في القلوب، أو يوصله إلينا بواسطة سبب، ملك أو غيره يوكل بالعبد، فيوصل إليه حقه الذي قسمه الله له.
فهو سبحانه الوكيل المطلق، الذي الأمور كلها موكولة إليه، وهو قادر على القيام بها، وفي بإتمامها.
وهو سبحانه وحده الوكيل الذي تفرد بحفظ الخلق، وكفايتهم، والقيام عليهم، وأمرهم جميعاً بيده، فلا يكون أمر إلا بإذنه.
وقد أمر الله سبحانه بالتوكل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 23].
والتوكل على الله نوعان:
أحدهما: توكل العبد على الله في جلب المنافع الدنيوية، ودفع المصائب الدنيوية.
الثاني: التوكل على الله في حصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان واليقين، والجهاد والدعوة، والعمل الصالح.
فبين النوعين من الفضل مما لايحصيه إلا الله.
فمتى توكل العبد على ربه في النوع الثاني حق توكله، كفاه النوع الأول تمام الكفاية.
ومن توكل عليه في الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة التوكل عليه فيما يحبه الله ويرضاه.
فأعظم التوكل عليه سبحانه التوكل في الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، فهذا توكل الأنبياء وخاصة أتباعهم.(1/194)
وهو سبحانه الكافي لمن توكل عليه، وفوض أمره إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 3].
وأخبر سبحانه عن محبته لمن توكل عليه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [آل عمران: 159].
ووعد الله المتوكلين عليه بالأجر العظيم فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الشورى: 36].
وإذا علم العبد أن وكيله غني كريم، وفيّ قادر، فليسأله وحده، ويعرض عما سواه كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [هود: 123].
اللهم: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الممتحنة: 4].
الكفيل
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكفيل.
قال الله تعالى: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [النحل: 91].
الله تبارك وتعالى هو الكفيل، القائم بأمر الخلائق كلهم، المتكفل بزرقهم، وإيصاله إليهم، ورعاية مصالحهم.
فهو سبحانه الذي خلق الأرزاق والمرزوقين، وخلق الحاجات والمحتاجين، فليس في وسع أحد أن يرزق نفسه، وإنما الرزاق وحده هو الله الذي تكفل برزق كل حي، من الإنس والجن، والحيوان والطير كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
وقد توكل الله عزَّ وجلَّ وتكفل بأرزاق العباد كلهم، المؤمن والكافر، والبشر والبهائم، ومن مات منهم جوعاً أو عطشاً، فالله سبحانه لم يقبض أحداً حتى استوفى رزقه الذي قسم له، وتكفل الله بإيصاله إليه، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها وخطاها.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المنافقون: 11].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه(1).
القوي
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (2607).(1/195)
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القوي.
قال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الشورى: 19].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 21].
الله تبارك وتعالى هو القوي، الذي لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه راد، الذي ينفذ أمره وقضاؤه، الكامل القدرة فلا يعجزه شيء، التام القوة فلا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم.
وهو سبحانه القوي العزيز، الذي له العزة كلها، القاهر الغلاب الذي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، الذي قهر جميع المخلوقات، ودانت له الخلائق، وخضعت له جميع الكائنات، وامتنع أن يناله أحد من المخلوقات.
وهو سبحانه القوي، الذي لا يستنصره أحد إلا غلب، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة قوتهم إن لم يعنهم بقوته.
والله عزَّ وجلَّ هو القوي الجبار، القوي القهار، الذي له القوة جميعاً وحده لا شريك له، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره.
يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، السموات والأرض بيده أصغر من الخردلة.
وهو سبحانه القوي، الذي له القدرة التامة، الذي خلق العرش والكرسي، وخلق الملائكةالعِظام، والذي خلق السموات السبع الشداد، وخلق الأرضين السبع، وخلق الجبال الراسيات، والنجوم الزاهرات، والكواكب النيرات، والحيوان والنبات، والإنس والجان.
وهو سبحانه القوي القاهر الجبار، الذي قهر الجبابرة، وأذل كل متكبر جبار، القوي العزيز الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [النجم: 50-55].
أهلك الله القوي الجبار قوم عاد حين كذبوا الرسل، وكفروا بالله واستكبروا في الأرض، واغتروا بقوة أبدانهم، وضخامة أجسادهم، وعظيم بطشهم في البلاد والعباد كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 15].(1/196)
فأرسل الله عليهم عقوبة لهم الهواء الذي يألفونه، ولا يستغنون عنه لحظة، ريحاً عظيمة عقيمة، لها صوت مزعج كالرعد القاصف، ما تذر شيئاً أتت عليه إلا جعلته كالرميم، ودمرهم ذو القوة والجبروت: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [الأحقاف: 25].
وهو سبحانه القوي العزيز الذي أهلك ثموداً لما كذبوا صالحاً، وكفروا بالله، أهلكهم بصوت واحد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 17، 18].
وهو سبحانه القوي الذي أغرق قوم نوح لما كذبوا نوحاً، وكفروا بالله كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [الفرقان: 37-39].
وقد أهلك الله القوي العزيز الجبار جميع الأمم التي كذبت الرسل، وكفرت بالله، والذين أفسدوا في أرض الله، واستكبروا فيها بغير الحق، وجحدوا ما أنعم الله عليهم به من الملك والجاه، والمال والولد، والصحة والأمن، واستعملوا تلك النعم في معصية الله: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 22].
وكان عذاب الله للأمم التي كذبت الرسل مختلفاً بحسب جرمهم، أظهر الله بذلك العذاب وتلك العقوبات قدرته، وقوته، وشدة بطشه بمن عصاه.
وكانت تلك العقوبات تارة بالماء.. وتارة بالريح.. وتارة بالصيحة.. وتارة بالخسف.. وتارة بالنار.. وتارة بالحصب بالحجارة.. وذلك كما حصل لقوم لوط.. وقوم شعيب.. وعاد وثمود.. وقارون وفرعون وهامان: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [العنكبوت: 40].
ألا ما أعظم قوة الله.. وما أشد قوة بطشه بمن عصاه، وكذب رسله.(1/197)
إن الله قوي عزيز.. وكل قوة في هذا الكون من الله.. وكل قوة في الجبال والبحار.. وكل قوة في الحديد والنار.. وكل قوة في الملائكة والروح.. وكل قوة في الإنس والجن والحيوان.. وكل قوة في السموات والأرض.. والنجوم والكواكب.. كل قوة في هذه المخلوقات العظيمة خلقها الله.. وأودعها في هذه المخلوقات.. وجميع قوة هذه المخلوقات لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله عزَّ وجلَّ.
بل قوة جميع تلك المخلوقات لو اجتمعت لواحد منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإن قوة أولئك كلهم لا تساوي شيئاً بالنسبة لقوة الملك القوي العزيز الجبار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحج: 74].
فسبحان القوي العزيز، ذو القوة المتين، القوي الذي رفع السماء بغير عمد، وأمسكها أن تقع على الأرض، القوي في بطشه، الذي إذا بطش بشيء أهلكه، الجبار الذي قهر المخلوقات كلها بقوته، العزيز في ملكه، الذي ذلت وخضعت له المخلوقات كلها، في العالم العلوي وفي العالم السفلي، والذي قهر المخلوقات كلها على ما أراد: (? ? ? ? ? ?) [هود: 66].
وسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي تفرد بالقوة والعزة، وله الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
المتين
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المتين.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
الله تبارك وتعالى هو القوي المتين، الشديد القوي الذي لا تنقطع قوته، ولا تلحقه في أفعاله مشقة، ولا يمسه لغوب.
القوي الذي له القوة التامة، وله القدرة المطلقة، الذي أوجد بقوته وقدرته الأجرام العظيمة العلوية والسفلية، الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.(1/198)
وهو سبحانه القوي المتين، الذي يتصرف في ملكوت السموات والأرض كيف شاء، وبقوته وقدرته يتصرف بالظواهر والبواطن، الذي نفذت مشيءته في جميع البريات، لا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 83].
وهو سبحانه القوي المتين، شديد القوة، فلا يقف لقوته أحد، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
أهلك سبحانه الأمم التي كذبت الرسل، وعاقبهم بأشد العقوبات كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم فرعون: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 22].
ومن قدرته وقوته سبحانه أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في القفار ولجج البحار: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 9].
اللهم يا قوي.. يا متين.. انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
الولي
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الولي.. والمولى.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [البقرة: 257].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج:78].
الله تبارك وتعالى هو الولي الذي يتولى عباده المؤمنين بعونه وتوفيقه، ويتولاهم بالعناية والحفاظة، ويحفظهم من أن يستفزهم أعداؤهم عن دينهم، أو يصدوهم عن اتباع نبيهم.
وهو سبحانه الولي الذي يتولى نصر أوليائه وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ويتولى يوم القيامة ثوابهم وجزاءهم.
وهو سبحانه مالك الملك، ومالك التدبير في مخلوقاته، ولي الذين آمنوا، ينصرهم على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض، ويجيب دعاءهم، الذي يعتزون به بين أقوامهم، ويتوكلون عليه في جميع أمورهم: ( ? پ پ پ پ ? ?) [النساء: 45].
وهو سبحانه ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة، ولي من آمن به، وعدو من كفر به، ينصر أولياءه، ويخذل أعداءه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 11].(1/199)
وهو سبحانه ولي المؤمنين بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم، وتوليه سائر مصالحهم: (? ? ? ? ?) [الحج: 78].
والله عزَّ وجلَّ مولى الخلق أجمعين، فهو سيدهم وربهم، وخالقهم ومالكهم، وحاكمهم ومعبودهم، خلقهم ثم أمرهم بالإيمان والعمل الصالح.
فهو سبحانه الذي تولى عباده بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير والتصريف، ثم تولاهم بأمره الشرعي، فأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء يوم القيامة، فيثيبهم على الطاعات، ويعاقبهم على السيئات كما قال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأنعام: 62].
والله عزَّ وجلَّ هو المحب لأوليائه من الأنبياء وأتباعهم كما قال سبحانه: (چچ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 127].
وهو سبحانه الذي تولى المؤمنين ولطف بهم، وأعانهم على طاعته، ويسر لهم كل سبب يوصل إلى محبته، وإنما تولاهم بسبب أعمالهم الصالحة التي قصدوا بها رضا مولاهم.
ومن أعرض عن مولاه واتبع هواه، فإن الله يسلط عليه الشيطان فيتولاه، ويفسد عليه دينه ودنياه، عقوبة له على معصية مولاه كما قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [البقرة: 257].
وأولياء الله عزَّ وجلَّ هم محبوه وناصروا دينه، فلهم السعادة في الدنيا والآخرة، والبشرى بما يسرهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 62-64].
ألا ما أعظم الخالق.. وما أكرم الولي الحميد.. وما أشد بطشه بالمجرمين.
فهل يليق بالعاقل أن يتوجه إلى غيره، ويتخذ ولياً غير الخالق الرازق، الغني الحميد؟: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 14، 15].
الحميد
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحميد.
قال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [فاطر: 15].(1/200)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 28].
الله تبارك وتعالى هو الغني الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أعلاها، وأفعاله عزَّ وجلَّ كلها دائرة بين العدل والإحسان.. وصفاته دائرة بين الجلال والجمال.
فهو سبحانه الحميد الذي يستحق أن يحمد، لأنه بدأ فأوجد، وخلق ورزق، الذي يعفو ويصفح، ويغفر ويتوب، وينعم ويحسن، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وهو سبحانه الحميد، الذي حمد نفسه، وأثنى على ذاته، وعلَّم خلقه كيف يحمدونه فقال سبحانه: (پ پ پ پ ?) [الفاتحة: 2].
وهو سبحانه المحمود الذي يستحق الحمد، المحمود على جميع أقواله وأفعاله.. وعلى دينه وشرعه.. وعلى قضائه وقدره.
وهو سبحانه الولي الحميد، الغني الحميد، المحمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله، المحمود بكل لسان، وعلى كل حال، الذي استحق الحمد بفعاله.
وهو سبحانه الحكيم الحميد، الذي يُّحمد على السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، فهو الحكيم الذي لا يجري في أفعاله الخطأ والنسيان، ولا يعترضه الخطأ، الحميد المستحق للحمد على الإطلاق، الذي له جميع المحامد بأسرها، وله الحمد على كل حال، وفي كل زمان، وفي كل مكان.
وهو سبحانه الولي الحميد، الذي والى بين منحه ونعمه، وتابع بين آلائه ومننه، وأنعم على الخلائق بنعم لا تعد ولا تحصى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 18].
فله الحمد على كماله.. وله الحمد على جماله.. وله الحمد على جلاله.. وله الحمد على آلائه وإحسانه.
وله الحمد كثيراً، كما ينعم كثيراً، ويعطي كثيراً، ويعفو كثيراً، حمداً يوافي نعمه، ويكافي مزيده.(1/201)
وله الحمد على العطاء.. وله الحمد على منع البلاء.. وله الحمد حيث أنعم علي َّ وعلى غيري.. وله الحمد على ما أعطاني من الخير.. وله الحمد على ما صرف عني من الشر.. وله الحمد حيث لم يقطع عني رزقه مع كثرة ما أعصيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجاثية: 36].
وهو سبحانه الحميد الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً، وإن لم يحمده غيره فهو حميد في نفسه.
والحمد كله لله رب العالمين، وحمده سبحانه نوعان:
حمد على إحسانه إلى عباده في الدنيا والآخرة.
وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وصفات جماله وجلاله، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، وهو أحق من كل محمود بالحمد.
فالله عزَّ وجلَّ هو المحمود على ما خلقه.. وما أمر به، ونهى عنه.. وهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم.. وعلى إيمانهم وكفرهم.. وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار.. والملائكة والشياطين.. وعلى خلق الرسل وأعدائهم.. وهو المحمود على عدله في أعدائه.. كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه.
وهو سبحانه الحميد، الذي كل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، وشاهدة بمجده: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
وهو سبحانه الملك الذي له الملك، وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد، وقد آتى من الحمد ما شاء من عباده، وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه سبحانه، فحمده أيضاً داخل في حمده، فما من محمود يحمد على شيء إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية.
فهو سبحانه المحمود على كل حال، وعلى كل شيء، أكمل حمد وأعظمه.
والملك والحمد في حق الله متلازمان، فكل ما شمله ملكه شمله حمده، وكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته.(1/202)
ولهذا يحمد الله عزَّ وجلَّ نفسه عند خلقه وأمره، فهو المحمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر، وحمد ثناء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 1].
وقال عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 1].
والحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح، وأفضل ما يثني به العبد على ربه ومولاه العليم الخبير.
قال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? [الفرقان: 58].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ ا? وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ «أوْ تَمْلأ» مَا بَيْنَ السموات وَالأَرْضِ» أخرجه مسلم(1).
والله سبحانه محمود بذاته ولو لم يقم بحمده أحد من البشر، وهو المحمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده، ومحمود من شتى الخلائق، ولو شذ البشر عن حمده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 38].
وهو سبحانه الحميد، الذي له الكمال المطلق، والإحسان كله منه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب، وهو جل جلاله أهل أن يُّحمد، وأن يُعبد، وأن يُطاع، وأهل أن يُّحب لذاته وأسمائه وصفاته، وأفعاله وإحسانه.
فلله عزَّ وجلَّ الحمد على مجده.. وله الحمد على عظمته وكبريائه.. وله الحمد على عزته وقدرته.. وله الحمد على غناه.. وجميل إحسانه.. وله الحمد على توليه المؤمنين بنصرته ورعايته لهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 70].
فسبحان العزيز الحميد، الذي له القدرة التامة، والمشيءة النافذة، والعلم المحيط، والسمع الذي وسع الأصوات كلها، والبصر الذي أحاط بجميع المبصرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات.
وسبحان الملك الذي له الملك الأعلى الذي لا يخرج عنه ذرة من الذرات، وله الغنى التام المطلق من جميع الجهات، وله العزة الغالبة القاهرة لجميع المخلوقات.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (223).(1/203)
وسبحان الحكيم الذي له الحكمة البالغة المشهودة آثارها في جميع الكائنات، وله الكلمات التامات النافذات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات.
ومن أعظم نعم الله علينا، وما استوجب حمده علينا، أن جعلنا عبيداً له خاصة، ولم يجعلنا عبيداً لإله باطل من حجر أوخشب، لا يسمع أصواتنا، ولا يبصر أفعالنا، ولا يعلم أحوالنا، ولا يملك لعابديه ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى.
فهذا حمد الرب بأسمائه وصفاته: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجاثية: 36].
وأما حمده سبحانه على النعم والآلاء، فإن آلاء الله ونعمه مشهودة للخلق كلهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه بهم.
اتخذ لعباده داراً وملأها من جميع الخيرات، وأرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، وفتح لهم أبواب الهداية، ويسر لهم كيفية الوصول إليها، وأماتهم على ذلك.
وذلك كله يستوجب حمده وشكره على آلائه وإحسانه وإنعامه، فلله الحمد كله على ما أنعم به من غذاء الأبدان، وله الحمد على ما تفضل به من غذاء القلوب والأرواح، وله الحمد على ما أعطى، وعلى ما منع، وعلى ما قدم وأخر، وعلى ما قضى وقدر، وعلى ما شرع وأمر.
وكمال حمده سبحانه يوجب ألا يُنسب إليه شر ولا سوء ولا نقص، لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
والعبد إذا فعل الشر والسوء المنهي عنهما، فقد فعل الشر والسوء بإذن الله، ولله في ذلك حكمة بالغة يحمد عليها، وإن كان وقوعه من العبد عيباً وشراً، وهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء في موضعه.(1/204)
فسبحان الحكيم الحميد الذي له الحمد في الأولى والآخرة: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السموات وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» أخرجه مسلم (1).
الحي
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحي.
قال الله تعالى: (? ? ? پ پ پ پ ?) [آل عمران: 2].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 65].
الله تبارك وتعالى هو الحي القيوم، الدائم الباقي، الذي لا يجوز عليه الموت، ولا الزوال ولا الفناء، الحي الذي لا يموت ولا يبيد، الذي لم يزل موجوداً، وبالحياة موصوفاً.
وهو سبحانه الحي في ذاته، الذي لا يموت أبداً، لم تحدث له الحياة بعد الموت، ولا يعترضه الموت بعد الحياة.
وهو سبحانه الحي الباقي الدائم الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكل شيء هالك إلا وجهه، فلا أحد يستحق أن يؤلَّه ويعبد ويحب إلا الله الحي الباقي، الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإذا كان ما سواه هالكاً فعبادة الهالك الباطل باطلة: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [القصص: 88].
وإذا كان ما سوى الله باطلاً هالكاً، والله هو الحي الباقي، الذي لا إله إلا هو، وله الحكم في الدنيا والآخرة، وإليه مرجع الخلائق كلهم، فيجازيهم بأعمالهم، تعين على العاقل أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويحذر من سخطه وعقابه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 58].
والله عزَّ وجلَّ هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، يدبر الأمر في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، وينصر ويخذل: ( ? ? ? ? ? ?) [الرحمن: 29].
وهو سبحانه الحي: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 2].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (478).(1/205)
وفي كل لحظة يخلق الحي القيوم ما لا يحصى من الأحياء من نبات وحيوان وإنسان، ويتكفل بتدبيرهم، ويسوق إليهم أرزاقهم، وبيده بقاؤهم وفناؤهم، وفي كل لحظة يموت بأمر الله ما لا يحصى من الأحياء.
والموت كالحياة سر لا يعلمه إلا الله، ولا يملك أحد أن يحدثه، لأن أحداً غير واهب الحياة لا يستطيع سلبها فسبحان الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 2].
القيوم
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القيوم.. والقائم.
قال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 111].
وقال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 18].
الله تبارك وتعالى هو الحي القيوم، القائم الدائم الذي لا يزول، القائم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره، القائم على كل شيء بالرعاية له، القائم بتدبير الخلائق، المتولي جميع ما يجري في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وما يجري في الدنيا والآخرة، القائم بنفسه، القيوم لأهل السموات والأرض، القائم بقسمة أرزاقهم، وتصريف أحوالهم، وحشرهم وحسابهم.
وهو سبحانه القيوم بنفسه، لا يحتاج في قيامه ودوامه إلى أحد، ولا قيام للخلائق كلها من كبير وصغير، وقوي وضعيف، إلا بإقامة الحي القيوم لهم، فجميع المخلوقات الله سبحانه القائم عليها، لأنها ليست قائمة بنفسها، بل هي محتاجة للحي القيوم الذي يخلقها ويحييها ويحفظها ويرزقها.
ومن عرف ربه بذلك توكل عليه، وانقطع قلبه عن الخلق إليه.
وهو سبحانه القيوم الذي قام بنفسه، فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام به غيره، فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد، والإمداد، والبقاء: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [فاطر: 15].(1/206)
والله جل جلاله هو الحي القيوم، الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه.
مالك السموات والأرض، الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. العالم بكل شيء، الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه.
السميع لأصوات وأقوال وحركات الخلائق، الذي لكمال سمعه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
البصير بكل شيء، الذي لكمال بصره لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
وهو سبحانه القائم على هذا الكون العظيم بكلياته وجزئياته في كل وقت، في السموات والأرض، في الدنيا والآخرة، القائم على كل نفس، يعلم أحوالها، ويسمع أقوالها، ويبصر أفعالها.
فهل يليق بالعاقل أن يجعل لربه الحي القيوم شريكاً في الخلق والتدبير والعبودية..؟.
فماذا بعد الحق إلا الضلال؟.. وماذا بعد النور إلا الظلام..؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 33].
اللهم اهدنا فيمن هديت.. وعافنا فيمن عافيت.. وتولنا فيمن توليت.. وقنا برحمتك واصرف عنا شر ما قضيت.
الواحد
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الواحد.. والأحد.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 163].
وقال الله تعالى: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الرعد: 16].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ?) [الإخلاص: 1].
الله تبارك وتعالى هو الواحد، الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر، الأحد الذي لا شبيه له ولا نظير.
وهو سبحانه الإله الواحد الأحد، الذي لا إله إلا هو وحده، لا شريك له في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله: ( ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].(1/207)
والله عزَّ وجلَّ هو الواحد الأحد، الذي توحد بجميع الكمالات، وأحسن الأسماء، وأعلى الصفات، الذي له وحده صفات الكمال والجلال، والجمال والكبرياء: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [طه: 8].
والله جل جلاله هو الواحد الأحد، الذي يجب أن تصرف العبادة له وحده لا شريك له، فهي خالص حقه سبحانه، وهو المعبود بحق، وغيره يعبد بباطل، فالعبادة خالص حقه، فلا يجوز صرفها لغيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 162، 163].
وهو سبحانه الواحد الأحد، الذي لا شبيه له في ذاته وأسمائه وصفاته، وليس له من يشاركه في ذرة من ذرات ملكه العظيم، أو يخلفه في تدبير خلقه.
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في تجديد التوحيد والإيمان، لما في ذلك من دفع المسلم للخير والعمل الصالح، وذلك بالإكثار من ذكر الله عزَّ وجلَّ في كل الأوقات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ أفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ ا? وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6403)، ومسلم برقم (2691) واللفظ له.(1/208)
فما أجهل وما أضل من يعبد غير الله مما لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر، ويترك عبادة الله الذي تفرد بالخلق والإيجاد، والرزق والإمداد، والتصريف والتدبير، والبسط والقبض، والخفض والرفع، والنفع والضر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 76].
حقا.. إن من عُرض عليه الحق فرده، عوقب بفساد قلبه وعقله، ورأيه وحياته، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 17].
فلينتظر العقوبة في الدنيا والآخرة كل كافر مشرك بالله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 34].
الصّمد
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الصمد.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ) [الإخلاص: 1، 2].
الله تبارك وتعالى هو الصمد.. السيد المطاع الذي لا يُقضى دونه أمر.. السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج.. الذي لا أحد فوقه.. السيد الذي يُصمد إليه في الأمور.. ويُقصد في الحوائج والنوازل.. السيد العظيم الدائم الباقي الذي لا يفنى.. الذي يلجأ إليه وحده عند الشدائد والحاجات.
وهو سبحانه الصمد الذي تقدس وتنزه عن صفات الخلق، الذي: (پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ?) [الإخلاص: 3، 4].
وهو سبحانه الصمد العظيم، القادر على كل شيء، وليس في الوجود صمد سواه، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد.
وهو سبحانه الصمد الذي قد كمل في سؤدده.. العظيم الذي قد كمل في عظمته.. الحليم الذي قد كمل في حلمه.. الغني الذي قد كمل في غناه.. الجبار الذي قد كمل في جبروته.. العالم الذي قد كمل في علمه.. الحكيم الذي قد كمل في حكمته.. الصمد الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد.
له سبحانه الأسماء الحسنى، والصفات العلا كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [طه: 8].
والله عزَّ وجلَّ هو الصمد الباقي الدائم الذي لا يفنى ولا يزول، الأول بلا ابتداء، الدائم بلا انتهاء كما قال سبحانه عن نفسه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 3].(1/209)
والأحد والصمد اسمان من أسماء الله عزَّ وجلَّ، يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال.
فالأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، والصمد يشعر بجميع صفات الكمال، لأنه الذي كمل في سؤدده.
والله سبحانه هو المستحق أن يكون هو الصمد دون سواه؛ لأن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، وليس أحد يصمد إليه كل شيء، ولا يصمد هو إلى كل شيء، إلا الله تبارك وتعالى.
وقد اشتملت سورة الإخلاص على اسمين من أسماء الله الحسنى (الأحد والصمد) وهما يتضمنان جميع صفات الكمال، ولم يوجدا في غيرها من السور ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن.
فيجب على العبد أن يعلم أن الله هو الأحد الصمد وحده لا شريك له، فلا يقصد بعبادته غيره، ولا يلجأ في حوائجه إلا إليه.
فواعجباً من غفلة العباد عمن لا يغفل عن برهم والإحسان إليهم، كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 14].
وواعجباً من إعراضهم عن ربهم، وتعلقهم بعبادة ما سواه، كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الزمر: 64].
فواحسرتاه.. ماذا تفعل الشياطين ببني آدم، حتى اجتالتهم عن دينهم، وزينت لهم سوء أعمالهم: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [البينة: 5].
القادر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القادر.. والقدير.. والمقتدر.
قال الله تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 65].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [المعارج: 40، 41].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [الملك: 1].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القمر: 54-55].
الله تبارك وتعالى هو القادر، الذي له القدرة التامة الشاملة الكاملة، الذي لا يعجزه شيء، ولا يفوته مطلوب، القادر على ما يشاء، وعلى ما يريد، لا يعترضه عجز ولا فتور، ولاجهل ونسيان.(1/210)
وهو سبحانه القدير التام القدرة، وبقدرته أوجد الكائنات، وخلق المخلوقات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
وهو سبحانه المقتدر التام القدرة، الذي لا يمتنع عليه شيء، القادر على كل شيء، المظهر قدرته بفعل كل شيء، فلا يعجزه شيء على الإطلاق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 44].
والله جل جلاله هو الخالق، القادر على خلق كل شيء، خلق العرش والكرسي، وخلق السموات والأرض، وخلق الكواكب والنجوم، وخلق الشمس والقمر، وخلق الملائكة والروح.
وخلق سبحانه التراب والجبال، وخلق البحار والرياح، وخلق الماء والنار، وخلق النبات والحيوان، وخلق الإنس والجان، وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وهذه المخلوقات العظيمة وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، ولا يمكن لأحد أن يعدها أو يحصيها أو يحيط بها، كلها دالة على كمال قدرة الله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
فسبحان العظيم كامل العظمة، القوي كامل القوة، القادر كامل القدرة الذي خلق السموات والأرض، وخلق الدنيا والآخرة، وهو على كل شيء قدير.
وكل ما خلقه الله فهو إ حسان إلى عباده، ولهذا كان الله مستحقاً للحمد على كل حال، وكل المخلوقات التي خلقها الله عزَّ وجلَّ هي من آلائه، والآلاء هي النعم.
والنعم كلها من آياته الدالة على ذاته المقدسة ووحدانيته وكمال علمه وقدرته، وفيها منافع لعباده غير الاستدلال كما في خلق الشمس والقمر، والليل والنهار، والنبات والحيوان، فإن هذه كلها من آياته، وفيها نعم عظيمة على عباده غير الاستدلال.
فهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلائل على عظمة البارئ وقدرته كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الفرقان: 62].
وكل عبد يدعوه إلى عبادة الله داعيان:(1/211)
داعي الشكر.. وداعي العلم.
فإنه يشهد نعم الله التي لا تحصى مبذولة لكل مخلوق، وذلك داع إلى شكرها، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، والله تعالى هو المنعم المحسن، الذي كل ما بالعباد من نعمة فمنه وحده لا شريك له.
ويشهد كذلك كمال قدرة الله وعظمته، وجلاله وكبريائه.
فينشأ من هذا التعظيم لله، ومن ذاك الشكر له، ومحبته، والذل له.
وهذه هي العبودية التي أرادها الله من عباده، وخلقهم من أجلها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الذاريات: 56].
فوا عجباً كيف يعصى من هذا خلقه، وهذا إحسانه، وهذه قدرته؟.
وكيف لا يشكر وهذا فضله وإنعامه وإحسانه لعموم عباده؟.
وكيف لا يعبد ويطاع، وهو الكبير الذي بيده الملك، وله الكمال والجلال والجمال، وله الكبرياء في السموات والأرض؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
الأول
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الأول.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد:3].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ! أنْتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأغْنِنَا مِنَ الْفَقْر» أخرجه مسلم(1).
الله تبارك وتعالى هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، السابق للمخلوقات كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية إذ كان موجوداً ولا شيء قبله ولا معه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ» أخرجه البخاري(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2713).
(2) أخرجه البخاري برقم (3191).(1/212)
والله عزَّ وجلَّ هو الأول، وكل نعمة في الكون فهو الذي ابتدأها، فبفضله ورحمته خلق الإنسان وهداه، ووفقه وأعانه، وبفضله ورحمته وصل إلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته.
فهو سبحانه الأول في ذلك كله، كما أنه الأول في كل شيء.
وعبوديته سبحانه باسمه الأول، تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب، والوقوف معها، والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه عزَّ وجلَّ هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد.
فمنه سبحانه الإيجاد، والإعداد، والإمداد، والهداية، وفضله سابق على الوسائل والأسباب، والوسائل من مجرد فضله وجوده، لم تكن بوسائل أخرى.
فهو سبحانه الأول قبل كل شيء، له المنة والفضل، وله العزة والكبرياء، وهو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، لا إله غيره، ولا رب سواه.
فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، ووجه قلوبنا إليه سبحانه دون سواه، وعصمنا من عبادة العبيد، وحفظنا من السجود للأصنام والأوثان.
والحمد لله الذي أسبغ علينا وافر النعم، ونسأله أن يتم علينا نعماً هو ابتدأها، وكانت أوليتها منه بلا سبب منا، فله الحمد كثيراً كما ينعم كثيراً.
وسبحان الرحيم، الذي من أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن شكره وترك لأجله أعطاه فوق المزيد.
فتوكل عليه وحده، وعامله وحده واقصر حبك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 10-12].
الآخر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الآخر.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 3].
الله تبارك وتعالى هو الآخر، الذي لا انتهاء لوجوده، الباقي بعد فناء الخلق. وليس معنى الآخر ما له الانتهاء، كما ليس معنى الأول ما له الابتداء.
فهو جل جلاله الأول والآخر، وليس لكونه ووجوده أول ولا آخر.(1/213)
وهو سبحانه الأول والآخر، وإليه يرجع الأمر كله، فهو سبحانه أول كل شيء وآخره، وله الأمر من قبل ومن بعد، وكما أنه رب كل شيء وفاعله، وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح إلا بعبادته.
فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها ومحبتها.
فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ.
وعبادة الله عزَّ وجلَّ باسمه الآخر تقتضي عدم ركون العبد إلى الأسباب، والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي، ويبقى الدائم الباقي بعدها.
فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق بالمولى الكريم حقيق أن لا يشقى ولا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به.
فهو سبحانه الأول الذي كان قبل الأسباب والمخلوقات كلها، وهو الآخر الذي يبقى بعد الأسباب والمخلوقات كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الرحمن: 26، 27].
وهو سبحانه الآخر، الذي تنتهي إليه الأمور، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكمة، والرحمة والقدرة، وسائر صفات الكمال: (? ? ? ? ?) [النجم: 42].
الظاهر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الظاهر.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 3].
الله تبارك وتعالى هو الظاهر على كل شيء، العالي فوق كل شيء، الظاهر القادر الذي ظهر فوق كل شيء.
وهو سبحانه الظاهر الذي ظهر بالدلائل الدالة عليه، وأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته في الظاهر.
وهو سبحانه الظاهر القوي، الذي ظهر وغلب وقهر جميع المخلوقات في العالم العلوي وفي العالم السفلي.(1/214)
وهو سبحانه الظاهر القادر، الذي ظهر فوق كل شيء، فلا يعلوه سبحانه شيء من مخلوقاته أبداً، فمع نزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، لا يزال فوق العرش، لا يكون عزَّ وجلَّ تحت المخلوقات أبداً، ولا تكون المخلوقات والسموات محيطة به أبداً.
فهو العلي الأعلى، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، المحيط بكل شيء، العلي في دنوه، القريب في علوه.
فهو سبحانه ينزل ويجيء ويأتي، ولكن ينزل نزولاً لا يماثل نزول المخلوقين، نزولاً يختص به وحده لا شريك له، فليس كمثله شيء في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الشورى: 11].
وعبودية الله عزَّ وجلَّ باسمه الظاهر تقتضي علم العبد بعلوه المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قاهر فوق عباده، يسمع ويرى، ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض.
فإذا علم العبد ذلك توجه إليه وأقبل عليه، وأعرض عمن سواه، واجتمع قلبه عليه، وصار له رباً يقصده، ومعبوداً يصمد إليه في حوائجه.
فإذا استقر ذلك في قلبه، وعرف ربه باسمه الظاهر، استقامت له عبوديته، وصار له موئلاً يلجأ إليه، وملاذاً يفر إليه.
فيا سعادة من آثر رضاه وحده، وتوكل عليه وحده، واستغنى به عمن سواه، فأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزكِّ له باطنك فإنه عنده ظاهر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 3].
الباطن
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الباطن.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 3].
الله تبارك وتعالى هو الباطن، المحتجب عن أبصار الخلق، الذي لا يراه أحد في الدنيا، ولا تدركه الأبصار في الآخرة، ولا تحيط به سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 103].
فالمؤمنون في الآخرة وإن كانوا يرونه سبحانه إلا أنهم لا يدركونه ولا يحيطون به، لكمال عظمته وجلال كبريائه.(1/215)
فالخالق جل جلاله ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة، له العزة والعظمة، وله الجلال والكبرياء، وهو أعظم وأجل وأكبر من أن يحيط به أحد من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هو المحيط بكل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
أما الكفار فلا يرون الرب مطلقاً لا في الدنيا ولا في الآخرة عقوبة لهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [المطففين: 15، 16].
وهو سبحانه العليم ببواطن الأمور وظواهرها، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره.
يعلم السر وأخفى، ويستوي عنده من هو مستخف في قعر بيته في ظلام الليل، ومن هو سائر في طريقه في بياض النهار، يستوي عنده في العلم به هذا.. وهذا: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الرعد: 10].
وعبادة الله عزَّ وجلَّ باسمه الباطن تستوجب معرفة العبد بإحاطة الرب جل جلاله بالعالم العلوي والسفلي، ومعرفته بعظمته وكبريائه، وأن الخلائق كلها في قبضته، وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده أصغر من الخردلة في يد الإنسان، وأنه اللطيف الذي يعلم السر وأخفى.
الباطن الذي ليس دونه شيء، وهو أقرب إلى كل شيء من نفسه، وله قرب خاص من عابديه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَا أيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلا غَائِباً، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتعالى جَدُّه» متفق عليه(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ» أخرجه مسلم(2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2992) واللفظ له، ومسلم برقم (2704).
(2) أخرجه مسلم برقم (482).(1/216)
وهذا القرب من لوازم المحبة.. فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر.. فتستولي محبة المحبوب على قلب العبد.. ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده.. فيرى الإله أقرب إليه من كل شيء مع كونه ظاهراً ليس فوقه شيء.
فسبحان الذي يعلم السر وأخفى، وملأ قلوب من شاء بالإيمان والتقوى.
البر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البر.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطور: 26-28].
الله تبارك وتعالى هو البر، اللطيف بعباده، الذي عم ببره جميع خلقه، فلم يبخل عليهم برزقه وإحسانه.
وهو سبحانه البر الرحيم بعباده، العطوف عليهم، المحسن إليهم، البر بالمحسن في مضاعفة الثواب له، والبر بالمسيء في الصفح والتجاوز عنه.
وهو سبحانه البر الرحيم الكريم، الذي عمّ جميع خلقه بعطائه، المحسن إليهم، المصلح لأحوالهم في الدنيا والدين.
أما في الدنيا فبما قسم لهم من الأرزاق، وأعطاهم من الصحة والقوة، والمال والأولاد، والجاه والرياسة، ونحو ذلك من النعم التي لا يمكن إحصاؤها.
ويشترك في هذا المؤمن والكافر، والبر والفاجر.
وأما في الدين فبما منَّ الله به على المؤمنين من التوفيق للإيمان والطاعات، ثم إعطاؤهم الثواب الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة.
وهو سبحانه الذي هدى ووفق وأعان أولاً، وأثاب وأعطى آخراً.
فمنه الإيجاد.. ومنه الإعداد.. ومنه الإمداد.. ومنه الهداية.
فله الحمد في الأولى والآخرة.
وهو سبحانه البر الرفيق بعباده، الذي يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فلا يكلفهم ما لا يطيقون، ويعفو عن كثير من سيئاتهم، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها، ولا يجزيهم بالسيئة إلا واحدة.
الذي طلب من العباد القليل من العمل، وأعطى لهم الجزيل من الأجر، وهو الغني عن العباد وما يعملون.(1/217)
وهو سبحانه البر الرحيم، الذي يمهل المسيء من عباده، ويعطيه المهلة بعد المهلة للتوبة، مع قدرته على المعاجلة بالعقوبة: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 58].
والله جل جلاله هو البر، الذي يحب البر، ويأمر به، ويحب من يتخلق به من عباده الأبرار.
والبر اسم جامع للخيرات كلها، ولا ينال العبد بر الله تعالى إلا باتباع ما يفضي إلى بره ومرضاته ورحمته، وذلك بالاستقامة على عبادته وطاعته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 92].
وهو سبحانه البر الذي أنعم على عموم عباده بعطائه، لأنه لا رازق غيره، وجميع الأرزاق ملكه.
فأعطى الكفار من النعم التي يتمتعون بها قليلاً في الدنيا، ويعذبون عليها طويلاً في الآخرة، وهذه أعلى حالة تكون للكافر في الدنيا.
فلا يغترُالمؤمن بهذا المتاع الذي ليس له ثبوت ولا بقاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 196، 197].
أما المؤمنون بالله المتقون له، فلهم مع عز الدنيا ونعيمها، جنات في الآخرة تجري من تحتها الأنهار، نزلاً لعباده الأبرار، وهم الذين برت قلوبهم، فبرت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البر الرحيم من بره أجراً عظيماً، وعطاءً جسيماً، وفوزاً دائماً، وما يحصل لهم في الدنيا من الشدة والعناء، فهو بالنسبة إلى النعيم المقيم في الآخرة نزر يسير، ومنحة في صورة محنة، والله حكيم عليم.
فلله ماذا ينتظر هؤلاء الأبرار من النعيم والبهجة والسرور؟:
(ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [آل عمران: 198].
وكتاب هؤلاء الأبرار في أعلى الأمكنة وأوسعها وأفسحها، وهم في أعلى الجنة، وكتابهم يشهده المقربون من الملائكة الكرام، والأنبياء والأبرار: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [المطففين: 18-21].(1/218)
فما أكرم هذا الرب العظيم، الذي أنعم على عباده في الجنة بأعلى أنواع النعيم، نعيم القلب، ونعيم الروح، ونعيم البدن، ولقاهم نضرةً وسروراً، وبهجةً وحبوراً: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المطففين: 22-26].
اللهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 193].
التواب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: التواب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 37].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 104].
الله تبارك وتعالى هو التواب، الذي يتوب على من يشاء من عباده، ويقبل توبته، الذي كلما تكررت توبة العبد تكررمنه القبول، المعيد إلى عبده فضله ورحمته إذا هو رجع إلى طاعته، وندم على معصيته، الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفق من أحب منهم إلى ما يرضيه عنه.
وهو سبحانه التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين، التارك مجازاته بعد توبته بما سلف من ذنبه.
وهو عزَّ وجلَّ التواب الرحيم، الذي يسر أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى، بما يظهر لهم من آياته، ويسوق إليهم من تنبيهاته، وما يطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته، حتى إذا اطلعوا وعرفوا غوائل الذنوب، استشعروا الخوف بتخويفه، فرجعوا إلى التوبة، فرجع إليهم فضل الله التواب بالقبول.
فالعبد تائب، والله تواب، وإذا تاب الله على العبد وفقه للتوبة، فتاب العبد، ثم قبل الله توبته، وغفر ذنبه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 37].
وهو سبحانه التواب، الذي من رأفته ورحمته أن مَنَّ على من شاء من عباده بالتوبة، وحببها لهم، وقبلها منهم، وثبتهم عليها، وأثابهم عليها، وتاب عليهم قبل أن يتوبوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 118].(1/219)
وهو سبحانه التواب، الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، وسمى الله نفسه تواباً، لأنه خالق التوبة في قلوب عباده، الذي يسر لهم أسبابها، والراجع بهم من الطريق الذي يكره إلى الطريق الذي يرضى.
ولما كانت المعاصي متكررة من العباد، جاء بصيغة المبالغة (توّاب) ليقابل الخطايا الكثيرة، والذنوب العظيمة، بالتوبة الواسعة الدائمة.
ووصف تبارك وتعالى نفسه بالتواب مبالغة، لكثرة من يتوب عليه من العباد في مشارق الأرض ومغاربها، ولتكرره ذلك في الشخص الواحد، وتنوع الذنوب واختلافها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 10].
وهو سبحانه التواب، الذي تفرد بقبول توبة التائبين من عباده، لا يشركه في ذلك أحد من خلقه، ولا يغفر الذنوب والخطايا إلا هو، وليس لأحد غير الله قدرة على خلق التوبة في قلب أحد من الناس.
وليس لأحد كذلك أن يقبل توبة من أسرف على نفسه، ولا أن يعفو عنه ذنوبه وآثامه، سوى الرب التواب وحده.
وقد كفر إليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وجعلوا لمن أذنب من العباد أن يأتي الحبر أو الراهب فيعترف أمامه بالذنب، ويعطيه شيءاً من المال فيحط عنه ذنوبه.
وهذا من ضلالاتهم الكثيرة التي أضلوا بها الناس، وأكلوا بها أموال الناس بالباطل دهوراً طويلة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [التوبة: 34].
فما أعظم افتراء هؤلاء على ربهم، وما أشد ضلالهم عن الصراط المستقيم.
فلله كم لعب الشيطان بعقول هؤلاء فكذبوا؟، وبعقول أولئك فقبلوا؟، وكيف سفّه عقل الإنسان إلى هذه الدرجة؟.
وكيف أضل هؤلاء وهؤلاء بمكره وكيده؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 63].
ألا إن التوبة بيد الله وحده، ومغفرة الذنوب بيد الله وحده، فهو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.(1/220)
فكم تاب على التائبين؟ وكم غفر من ذنوب المستغفرين؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 135].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إنَّك أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه(1).
وهو سبحانه التواب الرحيم، الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة فلا يتوب عليه.
وهو سبحانه التواب الحكيم، الذي لا يعاجل أهل المعاصي بالعقوبة، بل يمهلهم ليتوبوا إليه، ويرجعوا عن معاصيهم إليه، الحكيم الذي لا يفضح أهل الذنوب ابتداءً، بل يسترهم ليكون ذلك عوناً لهم على توبتهم، ولولا فضل الله ورحمته وحكمته لعاجل من عصاه بالعقوبة، وفضح أهل الذنوب بذنوبهم، ولكنه المولى الكريم، التواب الرحيم، ستر أهل الذنوب والمعاصي فضلاً منه ورحمة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 10].
فسبحانه من تواب ما أكرمه.. ومن كريم ما أجوده.. ومن عظيم ما أرحمه.
والتوبة واجبة على كل عبد من جميع الذنوب، وهي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزم على ترك العود إليه، وتدارك ما فاته من الأعمال بالإعادة، ورد المظالم والحقوق لأهلها، وأفضل الناس أحسنهم قياماً بها، وتكرارها والإكثار منها، فإذا تخلى العبد عنها صار ظالماً لنفسه، فالناس رجلان، تائب وظالم لا ثالث لهما: (? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 11].
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالتوبة، وعلق بها الفلاح فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 31].
والتوبة لا يستغني عنها أحد من الخلق، لأنها ليست نقصاً، بل هي من الكمال الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705).(1/221)
فالله عزَّ وجلَّ يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه، ليحصل له بذلك تكميل العبودية والتضرع، والخشوع لله، والإنابة إليه، فلا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله، ويزول عنه ما يكره إلا بها، والله يحب التوابين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 222].
وقد أخبر الله عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار:
فقال آدم صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [الأعراف: 23].
وقال نوح صلى الله عليه وسلم : (? چ چ چ چ ? ? ?) [هود: 47].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم(1).
ومحمد ( أكمل الخلق، وأكرمهم على الله، والمقدم على الخلق كلهم في جميع أنواع الطاعات، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم:
«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» أخرجه أبو داود والترمذي(2).
فهو أفضل المحبين لله، وأفضل المتوكلين على الله، وأفضل العابدين له، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره، ولهذا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبهذه العبودية التامة نال الشفاعة الكبرى في الخلق يوم القيامة.
فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، الذين هم أعرف الخلق بربهم، وأكملهم عبادة له، خاصة سيدهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم .
فما أجهل الإنسان بربه.. وما أظلمه لنفسه.. وما أشد إعراضه عن مولاه.. مع تواتر إحسان ربه إليه على مدى الأنفاس.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2702).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1516) صحيح سنن أبي داود رقم (1342).
وأخرجه الترمذي برقم (3434) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2731).(1/222)
فسبحان التواب الرحيم، ذي الجود والإحسان، وذي العفو والصفح، الذي يخلق ويعبد غيره، ويرزق ويشكر سواه، الذي يتحبب إلى عباده بالنعم وهو الغني عنهم، ويتبغضون إليه بالمعاصي وهم أفقر شيء إليه.
فسبحانه ما أعظمه.. وسبحانه ما أكرمه.. وسبحانه ما أحلمه.
من تاب إليه تاب عليه، ومن تقرب إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من بعيد، ومن تصرف بحوله ألان له الحديد.
يشكر سبحانه وتعالى اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، رحمته سبقت غضبه، وحلمه سبق مؤاخذته، وعفوه سبق عقوبته، يحب توبة عبده، ويفرح بها أشد الفرح، ويدعوه إليها، ويعينه عليها، ويثيبه عليها: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [المائدة: 74].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ إِذَا اسْتَيْقَظَ عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ أضَلَّهُ بِأرْضِ فَلاةٍ» متفق عليه(1).
وهذه فرحة إحسان وبر ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده، منتفع بها، وكذلك موالاته لعبده إحساناً إليه، ومحبة له، وبراً به، لا يتكثر به من قلة، ولا يتعزز به من ذلة، ولا ينتصر به من غلبة، ولا يستعين به في أمر، بل له سبحانه الملك وله الحمد، وله الخلق والأمر: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 111].
فاللهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 147].
العفو
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: العفو.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [النساء: 149].
وقال الله تعالى: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [الحج: 60].
الله تبارك وتعالى هو العفو الذي له العفو الشامل، الذي وسع عفوه الورى، ووسع ما يصدر عن عباده من الذنوب، لا سيما إذا أتوا بما يوجب العفو عنهم من الاستغفار والتوبة والإيمان والأعمال الصالحة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له.(1/223)
فهو سبحانه العفو: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الشورى: 25].
وهو سبحانه العفو الغفور، الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، وكل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، الواضع عن عباده تبعة خطاياهم وآثامهم، فلا يستوفيها منهم إذا تابوا وأنابوا.
والله عزَّ وجلَّ عفو كريم يحب العفو، ويحب من عباده أن يسعوا في فعل الأسباب التي ينالون بها عفوه، من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه.
ومن كمال عفوه سبحانه أنه مهما أسرف العبد على نفسه، ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع جرمه كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 53].
وهو سبحانه الحليم، الذي لولا كمال عفوه، وسعة حلمه، ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب ولا نفس تطرف: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [النحل: 61].
والله عزَّ وجلَّ هو العفو الغفور، الذي كما أنه يحب العفو ويعفو ويغفر لعباده، فقد حثهم على العفو والصفح عن العباد، وقبول الأعذار من سائر الناس، والجزاء من جنس العمل، فمن عفا لله عفا الله عنه، ومن أحسن لله أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة، ومن غفر غفر الله له كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [النور: 22].
وهو سبحانه العفو القدير، الذي لم يزل ولا يزال ينعم على جميع الخلق، ويعفو عن المذنبين والمجرمين، مع قدرته على عقابهم والانتقام منهم.
فسبحان المولى الكريم الذي يعفو عن زلات العباد، وذنوبهم العظيمة، ويسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام، الصادر عن قدرته، وقد تكفل الله بأجر من عفا عن غيره من الناس، فيعطيه أجراً عظيماً، ويجزيه ثواباً جزيلاً: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 40].(1/224)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم(1).
وهو سبحانه العفو، الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور، ولكنه أبلغ منه، فإن الغفران ينبي عن الستر، والعفو ينبي عن المحو، والمحو أبلغ من الستر: ( گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 14].
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.
الرؤوف
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرؤوف.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [البقرة: 207].
الله تبارك وتعالى هو الرؤوف الرحيم، ذو الرأفة والرحمة، والرأفة شدة الرحمة وأبلغها وأرقها، فهو العاطف برأفته على عباده، ورأفته عامة لجميع الخلق في الدنيا، خاصة بالمؤمنين في الآخرة.
فهو سبحانه الرؤوف بعباده، المتساهل على عباده، الميسر أحوالهم، القاضي حاجاتهم، الذي يقبل منهم القليل من العمل، ويعطيهم الجزيل من الأجر كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں) [الأنعام: 160].
ومن رأفته سبحانه أن لا يضيع لعباده طاعة أطاعوه بها، فلا يثيبهم عليها: ک (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 143].
وهو سبحانه الرؤوف الرحيم، الذي حذرنا نفسه، وخوفنا من عقوبته، ونهانا عن معصيته، لنستعد للقائه، ونجتنب سخطه، ونعمل بما يرضيه.
ومن أجل ذلك أرسل الله رسله، وأنزل كتبه التي تبين شرعه، ليخرج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 9].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2588).(1/225)
ومن رأفته سبحانه أن سخر لعباده ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليهم نعمه الوافرة السابغة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 20].
ومن رأفته سبحانه بعباده، أنه يقبل توبة التائبين، ولا يرد عن بابه العاصين المنيبين مهما كثرت سيئاتهم، فوفقهم للتوبة: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 117].
والأنبياء والرسل أرأف الناس بالخلق، خاصة سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن، والذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكمن إثماً، وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله عزَّ وجلَّ.
فما أحسن خَلقه وخُلُقه، وما أرحمه وأرأفه بأمته، وما أحسن الاقتداء به، وما أكرم الباري الذي أرسله رحمة لأمته: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 128].
الغني
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الغني.
قال الله تعالى: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [فاطر: 15].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 133].
الله تبارك وتعالى هو الغني، الذي استغنى عن الخلق كلهم بقدرته وعز سلطانه، الكامل سبحانه بما له وعنده، فلا يحتاج معه إلى غيره، الذي لا حاجة له إلى أحد أصلاً، والخلق كلهم فقراء إليه، وإلى فضله وإحسانه.
وهو سبحانه الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه، لكماله سبحانه، وكمال أسمائه وصفاته، فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه.
والله عزَّ وجلَّ هو الغني، الذي له خزائن السموات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة، وعنده خزائن كل شيء، وله كل شيء، وبيده كل شيء: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].(1/226)
وهو سبحانه الغني، المغني جميع الخلائق غنىً عاماً، فكما أنه لا خالق غيره، فلا رازق غيره، فالله وحده هو الذي يرزق الخلق، وهو الذي أنعم عليهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 18].
وهو سبحانه الغني الذي أغنى جميع الخلق غنىً مطلقاً، المغني لخواص خلقه بما أفاض على قلوبهم من الإيمان، ومعرفة جلاله وجماله وآلائه.
وهو سبحانه الغني بذاته، والعبد فقير لذاته، وهو محتاج إلى ربه، لا غنى له عنه ولو طرفة عين، وحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلة أوجبت تلك الحاجة، كما أن غنى الرب سبحانه لذاته، لا لأمر أوجب غناه، والفقير بذاته محتاج على الدوام إلى الغني بذاته كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [فاطر: 15].
وفقر العالم كله إلى الله سبحانه وتعالى أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير إلى ربه في إيجاده.. وفي بقائه.. وفي حياته.. وفي إمداده.. وفي تدبيره.
فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته، ويستحيل أن يكون العبد إلا فقيراً، كما يستحيل أن يكون الرب إلا غنياً، فإن غناه من لوازم ذاته سبحانه وتعالى.
وفقر العباد إلى ربهم نوعان:
الأول: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى خالقها، فهي مفتقرة إلى ربها في خلقها وبقائها وحفظها ونفعها وضرها ورزقها وتدبيرها.
الثاني: فقر إلى ألوهيته سبحانه، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، ولبه دوام الافتقار إلى الله في كل حال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 6].
والله عزَّ وجلَّ غني عن عباده، ومع ذلك فهو محسن إليهم، رحيم بهم مع كثرة معاصيهم، وهذا من كمال غناه وكرمه ورحمته، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، بل رحمة منه وإحساناً إليه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].(1/227)
ومن قصد إلى الله تعالى، ثم رجع عند حوائجه إلى غير الله، ابتلاه الله سبحانه بالحاجة إلى الخلق، ثم ينزع الرحمة من قلوبهم عليه.
ومن شهد كل افتقاره إلى الله عزَّ وجلَّ، ورجع إليه بحسن العرفان أغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، وأعطاه من حيث لا يرتقب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 2، 3].
الهادي
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الهادي.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 54].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 31].
الله تبارك وتعالى هو الهادي، الذي هدى خلقه إلى معرفته، وهدى عباده إلى صراطه المستقيم، الذي منَّ بهداه على من أراد من عباده، فخصه بهدايته، وأكرمه بنور التوحيد والإيمان واليقين.
وهو سبحانه الهادي الذي بهدايته اهتدى أهل ولايته، الدال على سبيل النجاة، المبين لها، لئلا يزيغ العبد ويضل، فيقع فيما يرديه ويهلكه.
وهو سبحانه الهادي الذي يهدي عباده إلى جميع المنافع، ويرشدهم إلى دفع المضار، ويعلمهم ما لا يعلمون.
وهو سبحانه الهادي لعباده.. المبين لهم طريق الحق والإيمان.. بما أرسل من الرسل.. وما أنزل من الكتب.. وما نصب من الدلائل في السموات والأرض.
والله عزَّ وجلَّ هو الهادي، الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحكيم العليم بمن يصلح للهدى ومن لا يصلح، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً.
فجميع العباد يتقلبون في مشيءته بين فضله وعدله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 178].
فالله تبارك وتعالى هو الهادي إلى كل خير في الدنيا والآخرة.
والهداية تنقسم إلى مرتبتين:
الأولى: هداية التوفيق والإلهام، وهذه بيد الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 56].(1/228)
الثانية: هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وهي التي أكرم الله بها الرسل وأتباعهم كما قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الشورى: 52، 53].
فمن هداه الله عزَّ وجلَّ للإيمان فبفضله وله الحمد كما قال سبحانه عن أهل الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 43].
ومن أضله الله فبعداً له، فقد أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، ومكنه من أسباب الهداية بما أكرمه به من السمع والبصر والعقل، ولكنه لا يصلح للهداية، فلم يقبل الهدى، فكذب وتولى كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الزمر: 3].
وزاغ وانصرف كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصف: 5].
واختار الضلال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 17].
والله حكيم عليم يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو بعباده خبير بمن يصلح للكرامة، ومن يصلح للإهانة، وهو على كل شيء قدير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 93].
وهو سبحانه الهادي الذي جعل كتبه المنزلة هداية للناس كما قال سبحانه عن القرآن الكريم: (? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 9].
وهو سبحانه الذي أرسل رسله لهداية الناس إلى الحق كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [الصف: 9].
وجعل بيته العتيق مباركاً وهدىً للعالمين إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [آل عمران: 96].
والهداية أكبر نعمة ينعم بها الهادي سبحانه على عبده، وكل نعمة دونها فهي ناقصة زائلة، وبقدر هداية العبد تكون سعادته في الدنيا والآخرة.
والأنبياء والرسل، وهم أكمل الناس هدايةً وإيماناً، يسألون الله تعالى أن يهديهم إلى كمال الإيمان والتقوى، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم : (پ پ پ پ ? ? ?) [القصص: 22].(1/229)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» أخرجه مسلم(1).
وأمرت هذه الأمة أن تسأل ربها تبارك وتعالى الهداية في كل ركعة من صلاتها في قوله سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 6، 7].
وهو سبحانه الهادي الذي يهدي إلى الحق، ويهدي إليه من أناب، ويهدي من يريد، ويهدي من يشاء، وهدى الله هو الهدى: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [الزمر: 23].
والله عزَّ وجلَّ هو الهادي، الذي خلق جميع المخلوقات، وهداها إلى جلب مصالحها، ودفع مضارها كما قال سبحانه: (ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ) [الأعلى: 1-3].
فهو سبحانه الهادي الذي هدى كل مخلوق إلى ما لا بد منه في قضاء حاجاته، فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله.. وهدى الفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه.. وهدى النحل إلى بناء بيوتها بما يناسب حالها.. وهدى النبات أن يشق في الأرض عروقاً.. وفوق الأرض أغصاناً وأوراقاً.. وأزهاراً وثماراً.
وهدى الشمس والقمر والنجوم للسير والإنارة.. وهدى الملائكة للطاعة والتسبيح.. وهدى الحيوانات والطيور إلى مصالحها ومنافعها.. وهدي الإنسان إلى ما يسعده في دنياه وأخراه.
فسبحان الخلاق العليم: (? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 50].
النور
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: النور.
قال الله تعالى: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 35].
وقال الله تعالى: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 69].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (770).(1/230)
الله تبارك وتعالى هو النور الذي نوَّر قلوب العارفين بمعرفته، والإيمان به، ونور أفئدتهم بهدايته، وهو الذي أنار السموات والأرض، فهو النور، وحجابه النور، وكلامه نور.
عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أنَّى أرَاهُ» أخرجه مسلم(1).
وهو سبحانه النور، الذي يهتدي بنوره من في السموات ومن في الأرض، الذي بنوره يبصر ذو العماية، وبهدايته يرشد ذو الغواية، نور السموات والأرض من نور وجهه.
وهو سبحانه النور، الذي تشرق الأرض بنوره يوم القيامة، وليس من نور في السموات والأرض إلا وهو خلق من خلق الله.
فهو سبحانه النور، وهو خالق النور في السموات والأرض والشمس والقمر والكواكب وغيرها.
فكل مخلوق في الكون من خلقه.. وكل رزق في الكون من رزقه.. وكل علم في الكون من علمه.. وكل رحمة في الكون من رحمته.. وكل نور في الكون من نوره.
وقد سمى الله عزَّ وجلَّ كتابه نوراً فقال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التغابن: 8].
وسمى رسوله صلى الله عليه وسلم نوراً فقال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 15].
وسمى الهداية للإيمان نوراً فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الأنعام: 122].
فسبحان النور الذي خلق النور، وهدى إلى النور، واحتجب عن خلقه بالنور.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إليه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِه» أخرجه مسلم(2).
البديع
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: البديع.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (178).
(2) أخرجه مسلم برقم (179).(1/231)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 117].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 101].
الله تبارك وتعالى هو البديع.. الذي لا مثل له ولا شبيه.. الأول قبل كل شيء.. الذي بدع الخلق وبدأه وفطره على غير مثال سابق.. المنفرد بخلق السموات والأرض وما فيهن.
وهو سبحانه البديع الذي أوجد المخلوقات كلها على غير مثال سابق، فهو خالق كل شيء ومبدعه في غاية ما يكون من الحسن والجمال والخلق البديع، الذي لم يسبقه إلى إنشاء مثله أحد.
وهو سبحانه بديع السموات والأرض، وكل ما فيهما الله خالقه وموجده ومبدعه، وهو مالكه وقاهره، وهو عبد له خاضع له، وهو الغني عن خلقه جميعاً، وهم جميعاً مفتقرون إليه.
فهل يليق بجلال الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو الغني عن جميع الخلائق، أن يتخذ ولداً كما قاله إليهود والنصارى والمشركون؟.
(? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 116، 117].
فسبحان الغني الذي خلق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، ولا يعجزه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 117].
الفاطر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الفاطر.
قال الله تعالى: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 14].
وقال الله تعالى: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 1].
الله تبارك وتعالى هو الفاطر، الذي ابتدأ خلق المخلوقات كلها، وفطر السموات والأرض وسائر الخلق على ما أراد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعظم ربه بهذا الاسم، ويدعوه به امتثالاً لأمر ربه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 46].(1/232)
وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته في الليل بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم» أخرجه مسلم(1).
وأحياناً بهذا الدعاء: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السموات وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أخرجه مسلم(2).
وهو سبحانه الذي فطر عباده على التوحيد والإيمان، ووضع في عقولهم حسن الدين، واستقباح غيره.
فجميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق، وإيثار الحق، والعمل بالحق وهذا حقيقة الفطرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 30].
ولكن الشياطين، وسلطان الشهوات، تحوم على قلوب بني آدم لتضلهم وتصرفهم عما يسعدهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 59-60].
وقال الله تعالى عن الشيطان: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأعراف: 16، 17 ].
وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» أخرجه مسلم (3).
المحيط
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المحيط.
قال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [النساء: 126].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (770).
(2) أخرجه مسلم برقم (771).
(3) أخرجه مسلم برقم (2865).(1/233)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 54].
الله تبارك وتعالى هو المحيط، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحاطت قدرته بجميع خلقه في العالم العلوي، وفي العالم السفلي.
وهو سبحانه المحيط بالأشياء كلها، وهي تحت قدرته، فلا يمكن لشيء منها الخروج عن إرادته فيه، ولا يمتنع عليه منها شيء، ولا يقدر أحد من الخلق على الفرار منه، لكمال علمه وقدرته، وانتفاء الغفلة والعجز عنه، وشمول إحاطته بخلقه.
وهو سبحانه الملك الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن.
فالجميع ملكه وعبيده، وهو المالك المنفرد بتدبيرهم، الذي أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته في جميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات، ودانت له جميع المخلوقات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
القريب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القريب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [سبأ: 50].
الله تبارك وتعالى هو القريب، الذي يسمع دعاء عباده، ويجيب دعوة الداعي منهم، القريب من كل متكلم، الذي يسمع كل ما ينطق به، ويعلم ما في قلبه قبل أن ينطق به لسانه، وهو أقرب إلى كل إنسان من نفسه.
وهو سبحانه القريب اللطيف، الذي يرى ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.
وقرب الله عزَّ وجلَّ نوعان:
الأول: قرب عام من كل أحد بعلمه ومراقبته، ومشاهدته له، وإحاطته به، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 16].
الثاني: قرب خاص من عابديه وسائليه ومحبيه، ومن آثاره لطفه بعبده، وعنايته به، وتوفيقه له، وإجابة دعوته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].(1/234)
وهو سبحانه القريب المجيب إجابة عامة للداعين من كانوا، وأينما كانوا، وعلى أي حال كانوا، كما وعدهم بذلك.
وهو سبحانه القريب المجيب لمن أخلص له العبادة، ورغب إليه في التوبة، المجيب إجابة خاصة لمن آمن به وانقاد لشرعه.
وهو سبحانه المجيب للمضطرين، ومن انقطع رجاؤهم من المخلوقين، وقوي تعلقهم به طمعاً ورجاءً وخوفاً.
والله عزَّ وجلَّ مستو على عرشه، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا إكراماً لأهل طاعته كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه(1).
وهو سبحانه مع العباد، يعلم أحوالهم، ويسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ولا يخفى عليه شيء منهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 4].
وهو سبحانه مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ! أنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ، اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ، فِي الْمَالِ وَالأهْلِ». وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» أخرجه مسلم(2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758).
(2) أخرجه مسلم برقم (1342).(1/235)
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال لهم: «يَا أيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ » متفق عليه(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَمَنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شيئاً، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» متفق عليه(2).
المستعان
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المستعان.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [يوسف: 18].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 112].
الله تبارك وتعالى هو المستعان، الغني عن الظهير والمعين، والشريك والوزير، فلا يحتاج إلى أحد.
وهو سبحانه المستعان.. الذي لا يطلب العون من أحد.. بل كل عبد يطلب منه العون على فعل الطاعات.. واجتناب المحرمات.. وجلب المنافع.. ودفع المضار.
وهو سبحانه الغني المستعان، والخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه.
وهو الملك القادر على كل شيء، الذي ليس له شريك في الملك، ولا في الخلق، ولا في الأمر، ولا في الأسماء، ولا في الصفات.
وهو سبحانه الحي القيوم المستعان، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل الخلائق كلها بحاجة إلى الاستعانة به، بل لا قيام ولا حياة ولا وجود لهم إلا به، وبقدرته وقوته وإعانته وحده لا شريك له.
والاستعانة بالله تقوم على أصلين:
الثقة بالله.. والاعتماد عليه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2992) واللفظ له، ومسلم برقم (2704).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2687) واللفظ له.(1/236)
فقد يثق الإنسان بغيره، ولا يعتمد عليه في أموره، لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به، لحاجته إليه.
والله وحده هو الذي بيده كل شيء، والمستعان في كل شيء، والعبد ليس بيده شيء، وهو محتاج إلى عون ربه في كل شيء كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [هود: 123].
والمستعان هو الله عزَّ وجلَّ.
فأهل الطاعة يستعينون به على فعل الطاعات، وترك المعاصي، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ٹ) [الفاتحة: 5].
والاستعانة: طلب العون من الله على الطاعة.
أما أهل المعاصي، فحين ترك العاصي سؤال العون من الله على طاعته، أعانه على معصيته، فتوجه إليها بعونه عليها، وحرمه سبحانه العون على الطاعة، فلم يتوجه إليها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الصف: 5].
فالعباد كلهم مصرفون في طاعاتهم ومعاصيهم بقدرة الله وعونه.. إما بجنود الملائكة الهادية.. أو بجنود الشياطين المضلة.. فلا طاعة ولا معصية إلا بعون الله، وهو فعله على الإطلاق في الخير والشر، فلا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وعونه.
لا إله، إلا هو وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير.
اللهم أعنَّا على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك.
المجيب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المجيب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 61].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النمل: 62].
الله تبارك وتعالى هو القريب ممن دعاه، دعاء مسألة أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤاله، وقبول عبادته، ويثيبه عليها أجل الثواب وأعظمه.
وهذا قرب خاص من عابديه المؤمنين به، وهو يقتضي لطفه بأوليائه، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن باسمه القريب اسمه المجيب.(1/237)
فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع منه مانع من إجابة الدعاء كأكل الحرام وضعف اليقين ونحوهما، فإن الله قد وعده بالإجابة، خاصة إذا جاء بأسباب الإجابة، وهي الاستجابة لله تعالى، والإيمان به الموجب للاستجابة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].
فالله سميع قريب مجيب، يسمع دعاء الخلق، ويجيب دعاءهم.
وهل يجيب المضطر الذي أقلقته الكروب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟.
وهل يكشف السوء والشر والبلاء إلا الله وحده؟.
فسبحان العزيز الكريم الذي يجعل عباده خلفاء الأرض، ويمكنهم منها، ويمدهم بالأرزاق، ويوصل إليهم النعم، ويجيب دعاءهم، ويقضي حاجاتهم، ويجعلهم خلفاء من قبلهم، ثم يميتهم ويأتي بقوم بعدهم.
أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟
هيهات.. سبحان الله وتعالى عما يشركون.
الناصر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الناصر.. والنصير.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 150].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 78].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 31].
الله تبارك وتعالى هو الناصر، الذي ينصر رسله وأنبياءه وأتباعهم على أعدائهم، ويثبت أقدامهم عند لقاء عدوهم، ويلقي الرعب في قلوب أعدائهم.
وهو سبحانه النصير، الذي ينصر أولياءه، الذي لا يخذل وليه، ولا يسلمه لأعدائه.
وهو عزَّ وجلَّ الناصر والنصير لعباده المؤمنين، الذي ينصر من يشاء، في أي وقت شاء، والنصر منه وحده، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [آل عمران: 160].
فهو سبحانه الناصر لأهل الإيمان، فلو اجتمع عليهم أهل الأرض جميعاً وما عندهم من العُدد والعَدد نصر الله المؤمنين عليهم، لأن الله لا غالب له، فهو الذي قهر الخلائق وأخذ بنواصيهم، وإذا أراد أن يخذل أحداً خذله ولو أعانه جميع الخلق.(1/238)
فعلى المؤمن حقاً الاستنصار بالله، والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، والتوكل على الله وحده، الذي يملك النصر وحده.
وقد نصر الله أنبياءه ورسله والمؤمنين في مواطن كثيرة، وخذل أعداءهم، وأعز الله المؤمنين، وخذل الكافرين.
وقد تكفل الله سبحانه بنصر أوليائه على أعدائه في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [غافر: 51، 52].
وقد أوجب الله سبحانه على نفسه نصر المؤمنين على أعدائهم كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الروم: 47].
أما نصرة المؤمنين لربهم، فتكون بعبادته، والقيام بحقوقه، ورعاية عهوده، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والعمل بشرعه، والدعوة إليه، فإذا تم هذا جاء نصر الله لعباده المؤمنين كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الحج: 40، 41].
فهذه علامات من يستحق النصر، والتمكين، والاستخلاف.
وحقيقة النصر: المعونة بطريق التولي والمحبة، خص الله به الملائكة والرسل والمؤمنين لا غير.
والمعونة على الشر لا تسمى نصراً.. ولذلك لا يقال للكافر إذا ظفر بالمؤمن أنه منصور عليه.. بل يقال هو مسلط عليه عقوبة له.. أو تربية له كما قال سبحانه عن الكفار: (? ? ? ? ?) [النساء: 90].
والله عزَّ وجلَّ قادر على نصرة دينه، فهو الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وهو القوي القادر على كل شيء، ولكنه ابتلى ويبتلي عباده بذلك التسليط، ليظهر من ينصر دينه وشرعه ممن يتولى عن نصرته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [محمد: 4].(1/239)
وقد بين الله لعباده أنه لا ناصر لهم دونه، ولا معين لهم سواه، وذلك لتتوجه قلوبهم له، وأكفهم بالضراعة إليه، فهو الملك البر الرحيم، الذي يملك الخلائق كلها، ويتصرف فيها كيف يشاء ويجري عليهم أحكامه القدرية والشرعية والجزائية، وهو مولى المؤمنين وناصرهم، فليتوجهوا إليه وحده في جميع حوائجهم، فهو نعم المولى ونعم النصير: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 107].
اللهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 286].
اللهم يا قوي يا عزيز.. يا خير الناصرين.. انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر من نصر الدين.. واخذل من خذل الدين من الطغاة والمفسدين.
الوارث
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوارث.
قال الله تعالى: (گ ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 23].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 58].
الله تبارك وتعالى هو الوارث الباقي بعد فناء الخلق، الذي يسترد أملاكهم وأموالهم بعد موتهم، وجميع الأشياء والأموال الله مالكها، وهو الذي يتصرف فيها، يورثها من يشاء، ويستخلف فيها من يريد: ( ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 128].
وهو سبحانه وارث الأرض ومن عليها، وهو وارث الخلق أجمعين، لأنه الباقي بعدهم، وهم الفانون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [مريم: 40].
وهو سبحانه الوارث الباقي بعد فناء الخلائق، الحي الذي لا يموت، الدائم الذي لا ينقطع، الباقي الذي لا يزول، وله ميراث السموات والأرض، وإذا مات جميع الخلق، وزال عنهم ملكهم، كان الله تعالى هو الباقي الحق، المالك لكل مالك وما يملك، وعاد الملك لله الواحد القهار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 180].(1/240)
وقد وعد الله عباده المتقين أن يورثهم الجنة، التي فيها من الرحمة والإحسان، والحسن والجمال ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهي دار إقامة لا ظعن فيها.
فما أوسع تلك الجنة، وما أحلى ثمارها، وما أجمل قصورها، وما أحسن حورها، وما أعذب أنهارها، وما أطيب طعامها، وما أهنأ عيشها، وما أدوم نعيمها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [مريم: 63].
الغالب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الغالب.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 21].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 21].
الله تبارك وتعالى هو الغالب، البالغ مراده من خلقه، الذي لا يُغلب ولا يُقهر، لكمال قدرته وعظمته، الغالب على أمره، الذي يفعل ما يشاء، الذي لا يغلبه شيء، ولا يرد حكمه راد، وأمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب.
وهو سبحانه الغالب القاهر القادر أبداً، الذي لا يملك أحد أن يرد ما قضى، أو يمنع ما أمضى، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
وهو سبحانه الغالب على الإطلاق، فمن آمن به وتمسك بدينه وتوكل عليه فهو الغالب ولو أن جميع من في الأرض له طالب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 21].
الكافي
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الكافي.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الزمر: 36].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [البقرة: 137].
الله تبارك وتعالى هو الكافي عباده جميع ما يحتاجون إليه، الذي يكفي عباده المهم، ويدفع عنهم الملم، المطلع على كل شيء، الذي لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات والأرض: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک) [النساء: 171].
وهو سبحانه الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ) [الأحزاب: 25].(1/241)
وهو سبحانه الكافي عباده، لأنه هو رازقهم وحافظهم ومصلحهم، الذي يكتفي بمعونته عن غيره، ويستغني به عمن سواه، فهو الكافي عباده كل ما يحتاجون إليه، فيجب ألا تكون العبادة إلا له، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرجاء إلا له، ولا الخوف إلا منه، ولا المحبة إلا له.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك.. وبطاعتك عن معصيتك.. وبفضلك عمن سواك.
اللهم اكفنا شر الأشرار.. وكيد الفجار.. وشر طوارق الليل والنهار.
ذو الجلال والإكرام
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو الجلال والإكرام.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الرحمن: 26، 27].
وقال الله تعالى: (? ? ژ ژ ڑ) [الرحمن: 78].
الله تبارك وتعالى ذو الجلال والإكرام، المستحق لأن يهاب لعظمة سلطانه، ويثنى عليه بما يليق بعلو شأنه.
وهو سبحانه ذو الجلال والإكرام، الذي يستحق أن يُجل ويُكرم ويُعظم، فلا يجحد ولا يكفر ولا يعصى، الذي له الإكرام كله من جميع خلقه، الذي لا جلال ولا كمال إلا وهو له، ولا كرامة ولا إكرام ولا مكرمة إلا وهي صادرة منه سبحانه.
فهو سبحانه ذو الجلال والعظمة والكبرياء، وذو الرحمة والجود والإحسان، المكرم لأولياءه الذين يجلونه ويعظمونه ويحبونه.
وإكرام الله للعبد يكون معجلاً في الدنيا.. ومؤجلاً في الآخرة.. ويكون عموماً في الخليقة.. وخصوصاً لأوليائه المتقين كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ?) [الإسراء: 70].
فقد أكرم الله جميع بني آدم بوجوه الإكرام:
فكرمهم بالعلم والعقل.. والسمع والبصر.. وإرسال الرسل.. وإنزال الكتب.. وجعل منهم الأولياء والأتقياء.. وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.. وحملهم في البر والبحر بما سخر لهم.. ورزقهم من الطيبات.. والنعم السابغات.. وفضلهم بما خصهم به من المناقب التي ليست لغيرهم من المخلوقات، وهذا من كرمه عليهم.. وإحسانه إليهم في الدنيا وفي الآخرة.
فأي إكرام فوق هذا؟.. وأي عناية بالإنسان أكثر من هذا؟.(1/242)
(ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 243].
أفيليق بمن هذه عظمته، وهذا جلاله، وهذا ملكه، وهذا إكرامه أن يكفر به، ويعصى أمره، ويجحد فضله، ويعبد غيره؟.
أفلا يقوم الناس بشكر من أولى النعم، ودفع النقم، وتعظيم من له الكبرياء في السموات والأرض؟.
ألا ما أجهل الإنسان الذي يشتغل بالنعم عن عبادة المنعم، بل ربما استعان بها على معصية ربه، وربما حارب بها دينه وأولياءه: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 34].
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الدعاء بهذين الاسمين، وكان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ثم قال: «اللَّهُمَّ! أنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ » أخرجه مسلم(1).
ذو العرش
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو العرش.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 15].
وقال الله تعالى: (ے ے ? ? ? ? ? ?) [البروج: 14: 15].
الله تبارك وتعالى هو الخالق العظيم، الذي خلق المخلوقات كلها، ذو العرش المجيد، وقد أضاف العرش إلى نفسه كما تضاف إليه الأشياء العظيمة الشريفة.
وهذا يدل على عظمة العرش، وقربه منه سبحانه، واختصاصه به، وسعته وحسنه، وبهاء منظره.
فالعرش أوسع المخلوقات كلها، وأعظمها وأكبرها وأحسنها، وأجمعه لصفات الحسن والجمال والعظمة، ولا يقدر قدر عظمته وحسنه وبهاء منظره إلا الله سبحانه.
وقد وصف الله العرش بأنه عظيم، وكريم، ومجيد، ومجده وكرمه وعظمته مستفاد من مجد خالقه وكرمه وعظمته سبحانه.
وإذا كانت هذه صفات العرش المخلوق.
فكم تكون عظمة الخالق الذي خلقه؟.. والرحمن الذي استوى عليه؟.. والكبير الذي السموات والأرض في يده أصغر من الخردلة؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67]
ذو المعارج
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو المعارج.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المعارج: 1-3].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (592).(1/243)
الله تبارك وتعالى ذو المعارج، ذو العلو والدرجات، ذو الفواضل والنعم.
وهو سبحانه الرب العظيم، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ذو المعارج، الذي تعرج إليه الملائكة والروح، وتصعد إليه الأقوال والأعمال الصالحة الطيبة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المعارج: 1-4].
فالملائكة تعرج إليه بما دبرها من الأوامر والأعمال، وتعرج إليه الأرواح كلها برها وفاجرها، وهذا عند الوفاة.
فأما الأبرار فتعرج أرواحهم إلى الله، فتحيي ربها، وتسلم عليه، وتحظى بقربه، ويحصل لها منه الثناء والإكرام.
وأما أرواح الفجار فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها، فتعاد إلى الأرض.
فسبحان الملك العظيم الجبار، الذي استوى على العرش، وله ملك السموات والأرض، والذي يعرج إليه ما لا يحصيه إلا الله من الملائكة، والأرواح، والأقوال، والأعمال، على مر الدهور والأزمان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» متفق عليه(1).
ألا ما أعظم قدرة الله.. وما أعظم جلاله وكبرياءه.. وما أوسع رحمته وعلمه وملكه.
وبؤساً لأقوام جهلوا عظمته فعصوه، ولم يقدروه حق قدره، فاستهانوا بأوامره، واستعملوا نعمه في معصيته.
وسبحان الحليم الذي أمهلهم، وآذوه فصبر عليهم، وعصوه وهو يعافيهم ويرزقهم.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (555) واللفظ له، ومسلم برقم (632).(1/244)
وسبحان العظيم في ملكه.. القوي في سلطانه.. الكريم في إحسانه.. الذي أحاط بكل شئ علماً.. وأحصى كل شئ عدداً.. ولا تخفى عليه ذرة في الأرض ولا في السماء.
ذو الطول
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو الطول.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ) [غافر: 3].
الله تبارك وتعالى ذو الطول والفضل والإنعام على خلقه، الكثير الخير، الذي له خزائن السموات والأرض، الذي يملك خزائن كل شيء كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
وهو سبحانه الكريم، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يستطيعون أن يحصوها، فضلاً عن أن يشكروها.
ولكن الله عفو كريم، ينعم بالجزيل من الأرزاق، ويعفو عن الكثير من السيئات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 18].
أياديه بالإنعام والإحسان إلى عباده مبسوطة.. يعطي من يطيعه ومن يعصيه.. وينعم بجزيل النعم.. ويدفع شر النقم.. نعمه لا تحصى.. وبره لا ينسى.. ذو الطول والإنعام.. والبر والإحسان.
فسبحانه من إله ما أعظمه.. وسبحانه من رب ما أكرمه.. فجميع النعم والعطايا، وأصناف البر والإحسان، منه وحده لا شريك له: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 34].
ذو الفضل
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: ذو الفضل.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 105].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 243].
الله تبارك وتعالى هو الغني، الذي له ما في السموات وما في الأرض، ذو الفضل العظيم، والإحسان العميم، أعطى خلقه من النعم ما لا يلزمه، وتفضل عليهم بما لا يجب عليه، لأنه جواد كريم.
فسبحانه من رؤوف رحيم كريم، تفضل على جميع خلقه بنعمه، وتفضل على المؤمنين بدار كرامته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النمل: 73].(1/245)
وهو سبحانه ذو الطول والفضل والإحسان، يعطي من يشاء ما يشاء، في أي مكان شاء، وفي أي زمان شاء، لا يمنعه مانع من إيصال فضله ونعمته إلى من يشاء من خلقه.
والله عزَّ وجلَّ هو الغني الذي لا يحتاج إلى شيء، فهو الغني بذاته، وكل مخلوق فقير إليه بذاته.
وكل ما في السموات والأرض، وجميع ما في خزائن الله، الله غني عنه، لا يحتاج منه شيئاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 68].
والفضل كله بيد الله جل جلاله، يعطي منه من يشاء فضلاً، ويمنع من يشاء عدلاً: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [آل عمران: 73، 74].
وفضل الله عزَّ وجلَّ عظيم واسع، وخزائن السموات والأرض مملوءة من فضله، وهو المتفضل على عباده بأنواع النعم من غير سؤال منهم، ولا استحقاق لها، بل كل ماأعطى الله العباد من نعم الدين والدنيا، فهو فضل من الله وكرم وبر وإحسان، وحتى الكافر يتقلب في نعم الله في الدنيا، والله ذو فضل على العالمين كلهم: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 34].
ومن فضل الله على عباده المؤمنين هدايتهم للإيمان والتقوى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الجمعة: 4].
ومن فضله على عباده أنه ينجيهم من أعدائهم وكيدهم ومكرهم إذا توكلوا عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 173، 174].
ومن فضله سبحانه على عباده تثبيته لهم على هذا الدين، وعصمتهم من الزيغ والخذلان واتباع الشيطان: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [النساء: 83].
ومن فضله على عباده إعطاؤهم فوق ما يستحقون من ثواب، زيادة من الكريم وفضلاً: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 173].
ومن فضله على عباده ترك معاجلة الكفار والمنافقين والعصاة بالعقوبة في الدنيا، وإمهالهم لعلهم يتوبون كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [النور: 14].(1/246)
هذا أظهر ما ورد في القرآن من أسماء الله عزَّ وجلَّ وأما ما ورد في السنة فهو:
الرفيق
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الرفيق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُّحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» متفق عليه(1).
الله تبارك وتعالى هو الرفيق، الكثير الرفق، وهو اللين والتسهيل، الذي يسهل الأمور، وييسر أسباب الخير كلها لعباده.
وهو سبحانه الرفيق الحليم الذي لا يعجل بعقوبة العصاة، ليتوب من سبقت له العناية، ويزاد إثماً من سبقت له الشقاوة.
والله سبحانه رفيق، ليس بعجول، وإنما يعجل من يخاف الموت أو الفوات، فأما من كانت الأشياء في قبضته وملكه فليس من شأنه العجلة.
والرفق هو التأني في الأمور والتدرج فيها.
فالله عزَّ وجلَّ رفيق في أفعاله، حيث خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيءاً فشيءاً، وهو قادر على خلقها كلها دفعة واحدة، في لحظة واحدة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
وهو سبحانه رفيق حكيم في أمره ونهيه.. فلا يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة.. بل يتدرج معهم في الأحكام من حال إلى حال.. حتى تألفها نفوسهم.. ثم تشمر لها جوارحهم: ( ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
فينبغي للمسلم أن يكون رفيقاً في أموره كلها، وفي جميع أحواله، غير عجل فيها، فإن العجلة من الشيطان، ومن يحرم الرفق يحرم الخير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ» أخرجه مسلم(2).
الشافي
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الشافي.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ?) [الشعراء: 80].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6927)، ومسلم برقم (2593) واللفظ له.
(2) أخرجه مسلم برقم (2594).(1/247)
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضاً، أو أُتي به إليه قال صلى الله عليه وسلم : «أَذْهِبِ الْباسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وأَنْتَ الشَّافيِ لَا شفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَماً» متفق عليه(1).
الله تبارك وتعالى هو الشافي لكل آفة وعاهة، وكل مرض بدني أو نفسي.
والشفاء: رفع ما يؤذي أو يؤلم البدن والقلب.
وهو سبحانه الشافي وحده، وهو الذي جعل الشفاء في الأدوية المستعملة، وهو الذي خلق الداء والدواء والشفاء.
وهو سبحانه الشافي الكافي، الذي يشفي الأبدان من أمراضها، ويشفي الصدور والقلوب من الشبه والشكوك، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يدعى بهذا الاسم سواه.
والأدوية لا تنفع بذاتها، بل بما قدره الله تعالى فيها من الشفاء.
والتداوي لا ينافي التوكل، فإن الله عزَّ وجلَّ جعل الدواء سبباً للشفاء، كما لا ينافي دفع الجوع بالأكل، والعطش بالشرب، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.
وقد أنزل الله عزَّ وجلَّ القرآن العظيم شفاء لعباده المؤمنين، يُستشفى به من الجهل والضلالة، ويبصر به من العمى، فهو هدى ورحمة لهم، لأنهم يعملون بما فيه، فيسعدهم في الدنيا، ويدخلهم بذلك الجنة، وينجيهم من النار، ولا يزيد الكافرين إلا خساراً، لأنهم لا يعملون به كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الإسراء: 82].
وأما شفاء الأبدان، فإن الله عزَّ وجلَّ هو الشافي، الذي أنزل الداء والدواء، علمه من علمه، وجهله من جهله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا أَنْزَلَ الله دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» أخرجه البخاري(2).
فسبحان الذي خلق وهدى.. وأطعم وأسقى.. وابتلى وشفا.. وأمات وأحيا.. وتجاوز وعفا.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5675)، ومسلم برقم (2191) واللفظ له.
(2) أخرجه البخاري، برقم (5678).(1/248)
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 77-82].
الطيب
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الطيب.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [المؤمنون: 51]» أخرجه مسلم(1).
الله تبارك وتعالى هو الطيب، المنزه عن النقائص والعيوب، الطيب الذي هدى عباده المؤمنين إلى أفضل القول، وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله أو إحسان إلى عباد الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [الحج: 24].
والله سبحانه هو الطيب، فلا ينبغي التقرب إليه إلا بكل طيب من النيات والأقوال والأعمال والأخلاق والأموال، فهو سبحانه طيب لا يقبل إلا الطيب من كل شيء.
ومن طاب قلبه بمعرفة الله ومحبته وخشيته، وطاب لسانه بذكره، وطابت جوارحه بطاعته، أسعده الله في الدنيا، وأدخله الجنة في الآخرة، لأنها الدار الطيبة، التي لا يليق بها إلا الطيبون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 73].
وقد وعد الله المؤمنين والمؤمنات بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة فقال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 97].
السبوح
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السبوح.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ » أخرجه مسلم(2).
الله تبارك وتعالى هو السبوح، المنزه عن كل عيب ونقص وسوء، المبرأ من النقائص، المنزه عن الشريك، وكل ما لا يليق بجلاله.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1015).
(2) أخرجه مسلم برقم (487).(1/249)
والله جل جلاله هو القدوس، الذي له الكمال المطلق في كل أسمائه وصفاته وأفعاله، الذي لا شريك له ولا مثيل: (? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الشورى: 11].
وهو سبحانه القدوس، الذي يقدسه ويسبحه كل من في العالم العلوي، وكل من في العالم السفلي، في جميع الأوقات، بمختلف اللغات، وأنواع الأصوات كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
فالله تبارك وتعالى هو الرب العظيم، الذي من عظمته الباهرة، وقدرته القاهرة، أن جميع الأرض يوم القيامة في قبضته، والسموات مطويات بيمينه. فلا عظمه حق عظمته من سوى به غيره، ولا أظلم منه.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
الجميل
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الجميل.
عَنْ عَبْدِ ا? بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُّحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَاً، قال: إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم(1).
الله تبارك وتعالى هو الجميل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، الذي كل جمال في العالم فمن جماله.
وهو سبحانه الجميل كامل الجمال، المجمل من شاء من خلقه، الجميل المحسن إلى عباده، واهب الجمال والحسن والإحسان لمن شاء.
وهو سبحانه جميل الأفعال بعباده، يكلف باليسير من العمل، ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل، ويشكر عليه.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان في أجمل صورة، وأحسن تقويم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [التين: 4].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (91).(1/250)
وقد خلق الله البشر متفاوتين في الحسن والجمال، فأعطى الله سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم حظاً وافراً من الجمال، فهو أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وأحسنهم وجهاً، وجهه كأنه القمر.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً، سماحةً ولطفاً، وحلماً وكرماً، ورحمة وشفقة، وصلةً وبراً، وعزة وشجاعة، وعفواً وصفحاً وحياءً وتواضعاً.
فسبحان من جمع لرسوله صلى الله عليه وسلم جمال الخَلق والخُلُق، وأثنى عليه بقوله سبحانه: (? ? ? ں ں) [القلم: 4].
والله سبحانه جميل يحب الجمال والتجمل في غير إسراف ولا مخيلة، ولا بطر ولا كبر.
فسبحان الجميل الذي كل جمال في الوجود فهو من آثار صنعه:
جميل الذات.. جميل الأسماء.. جميل الصفات.. جميل الأفعال.
فلا يستطيع البشر النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدار، فإذا رآه المؤمنون في الجنة أنستهم رؤيته ما هم فيه من النعيم، فلا يلتفتون حينئذ إلى شيء سواه: (پ ? ? ? ? ? ? ?) [القيامة: 22، 23].
وسبحان الجميل الذي اتصف بالجمال، وخلق الجمال، وجمل به المخلوقات في العالم العلوي والسفلي، وفي الدنيا والآخرة، وفي الظاهر والباطن، فكل جمال في الكائنات فمن آثار اسمه الجميل.
جمل السماء بالنجوم.. وجمل الأرض بالنبات.. وجمل الملائكة بالطاعات.. وجمل القلوب بالإيمان.. وجمل الجوارح بالأعمال الصالحة.. وجمل الدنيا بالدين.. وجمل الآخرة بالجنة التي فيها أعلى أنواع النعيم والجمال (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 17-19 ].
وجمل الجنة برؤية وجهه الكريم الذي إليه منتهى الكمال والجمال والجلال.
الوِتر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الوِتر.(1/251)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ اللهَ، وِتْرٌ يُّحِبُّ الْوِتْر» متفق عليه(1).
الله تبارك وتعالى هو الوتر، الفرد الذي لا شريك له ولا نظير، الأول الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، فلا ينبغي لشيء من الموجودات أن يضم إليه، فيعد معه، أو يعبد معه، بل هو وحده الإله الواحد الأحد الصمد، الوتر الفرد الذي لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإخلاص: 1-4].
والله عزَّ وجلَّ هو الوتر، الذي يحب الوتر، ويأمر به في كثير من الأقوال والأعمال والطاعات التي شرعها، كما في الأذكار والصلوات الخمس، ووتر الليل، والطهارة وغير ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُّحِبُّ الْوِتْرَ » أخرجه الترمذي وأبو داود(2).
والخلق كله شفع ووتر، وقد أقسم الله به في قوله سبحانه: (? ? ? ?? پ پ پ) [الفجر: 1-3].
المنان
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المنان.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 17].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6410)، ومسلم برقم (2677) واللفظ له.
(2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (453)، صحيح سنن الترمذي رقم (374).
وأخرجه أبو داود برقم (1416) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (1256).(1/252)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم جَالِساً يَعْنِي وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السموات وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِْكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِصْحَابِهِ تَدْرُونَ بِمَا دَعَا قَالُوا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» أخرجه أبو داود والنسائي(1).
الله تبارك وتعالى هو المنان، كثير العطاء، عظيم المواهب، الذي أعطانا الحياة والعقل، والسمع والبصر، والمال والولد، وصور الخلق فأحسن الصور، وأنعم فأجزل العطايا.
وهو سبحانه المنّان، الذي منَّ على عباده بأنواع الإحسان والإنعام، المعطي ابتداء، ولله المنّة على عباده، ولا منّة لأحد منهم عليه، وهو المنّان الذي يبدأ بالنّوال قبل السؤال.
وهو سبحانه المنّان، الذي منَّ على رسله بالرسالة والهداية والنصر كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الصافات: 114-120].
وهو سبحانه المنّان الذي من على البشر بالهداية إلى الإيمان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجرات: 17].
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1495)، صحيح سنن أبي داود رقم (1326).
وأخرجه النسائي برقم (1300)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (1233).(1/253)
وقد ذم الله عزَّ وجلَّ المنّان من الناس، واختص بالمنّ لنفسه، لأن المنَّ من العباد تكدير وتعيير، ومن الله إفضال وتذكير، وهو سبحانه المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط، والامتنان استعباد وإذلال لمن يمن عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله الغني عن جميع الخلائق.
والمعطي قد تولى الله ثوابه، ورد عليه أضعاف ما أعطى، فبقي عوض ما أعطى عند الله، فأي حق بقي له عند الآخذ، فإذا امتنّ عليه فقد ظلمه، ومن هنا بطلت صدقته بالمن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 264].
فهو سبحانه المانّ بفضله، وأهل سمواته وأهل أرضه كلهم وأعمالهم في محض مننه، ولو أتى العباد بكل طاعة، وكانت أنفاسهم كلها طاعات، لكانوا في محض مننه وفضله، وكانت له المنّة عليهم، وكلما عظمت طاعة العبد كانت منّة الله عليه أعظم، فهو المانّ بفضله، ومن أنكر مَنَّه فقد أنكر إحسانه وإنعامه على عباده: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 34].
الحيي
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الحيي.
عن يعلى بن أمية - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز بلا إزار، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُّحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِر» أخرجه أبو داود والنسائي(1).
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4012)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (3387).
وأخرجه النسائي برقم (406)، صحيح سنن النسائي رقم (393).(1/254)
وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إليه أَنْ يَرُدَّهُمَا صِِفْراً»أخرجه أبو داود والترمذي(1).
الله تبارك وتعالى هو الحيي كثير الحياء، وحياؤه عزَّ وجلَّ على ما يليق بجلاله، ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم، بل حياؤه عزَّ وجلَّ هو ترك ما لا يتناسب مع سعة رحمته، وكمال جوده وكرمه، وعظيم عفوه وحلمه.
فالعبد يجاهر بالمعصية، مع أنه أفقر شيء إلى الله، وأضعفه لديه، ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الله عزَّ وجلَّ مع كمال غناه، وتمام مقدرته عليه، يستحي من هتك ستره وفضيحته، فيستر العبد بما يهيئه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر له.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأى فِي نَفْسِهِ أنَّهُ هَلَكَ، قال: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأنَا أغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ» متفق عليه(2).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فعلى المسلم أن يستحي من خالقه أعظم الحياء، فهو يتقلب في نعمه وإحسانه آناء الليل والنهار، ولا يستغني عنه طرفة عين، وهو سبحانه يرانا في جميع أحوالنا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (1488) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (1320).
وأخرجه الترمذي برقم (3556)، صحيح سنن الترمذي رقم (2819).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2441) واللفظ له، ومسلم برقم (2768).(1/255)
ومن علم أن الله السميع البصير مطلع عليه استحى أن يراه على معصية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 61].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رَسُولَ ا? صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم : «دَعْهُ فَإنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ» متفق عليه(1).
فسبحان العليم الخبير، الذي اتصف بالحياة، وخلق الحياء، ومنَّ به على من شاء من خلقه.
فكل حياء في الملائكة والجن والإنس فمن خزائنه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
الستير
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الستير.. والساتر.
عَنْ يَعْلَى بن أمية - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ ا? رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُّحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» أخرجه أبو داود النسائي(2).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » أخرجه مسلم(3).
الله تبارك وتعالى هو الستير، الذي يستر على عباده كثيراً، ولا يفضحهم في المشاهد، حيي ستير، يحب الحياء والستر، ويستر على عباده الكثير من العيوب والقبائح والفضائح.
وقد رغب الله عزَّ وجلَّ في الستر، وحذر من المجاهرة والمفاخرة بالمعصية.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (24) واللفظ له، ومسلم برقم (36).
(2) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4012)، صحيح سنن أبي داود رقم (3387).
وأخرجه النسائي برقم (406) صحيح سنن النسائي رقم (393).
(3) أخرجه مسلم برقم (2590).(1/256)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « َمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة» أخرجه مسلم(3).
وقال صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ ا? عَنْهُ» متفق عليه(1).
وإذا وقع المسلم في معصية أو تقصير فليستر على نفسه، ويتوب إلى ربه فإن الله يغفرها له، لأنه الغفور الذي يغفر الذنوب، الساتر الذي يستر العيوب، الكريم الذي يبدل السيئات بالحسنات.
الديان
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: الديان.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا قُلْتُ: يَا رَسُولَ ا?! النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعاً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ؟ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ! الأمْرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ»متفق عليه(2).
الله تبارك وتعالى هو الديان، المحاسب والمجازي للعباد، والحاكم بينهم يوم المعاد كما قال سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفاتحة: 2-4].
وهو سبحانه الديان وحده يوم القيامة، الذي يجازي كلاً بعمله، ويقتص للمظلوم من الظالم، ومن السيد لعبده، ومن القوي للضعيف.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6069) واللفظ له، ومسلم برقم (2990).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6527)، ومسلم برقم (2859)، واللفظ له.(1/257)
وهو سبحانه الديان الذي يحكم بين العباد بالعدل، وإذا حكم الله يوم القيامة فلا ظلم ولا جور، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [آل عمران: 30].
وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم(1).
المحسن
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المحسن.
قال الله تعالى عن يوسف صلى الله عليه وسلم : (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 100].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 77].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسانَ عَلَى كُلَِ شَيْءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأحْسنُوا القِتْلَةَ، وَإذَا ذَبّحْتُم فّأحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيِحدَ أحَدكُُم شَفْرَتَهُ، فَليُرِحْ ذَبيحَتَهُ» أخرجه مسلم(2).
الله تبارك وتعالى هو المحسن، الذي غمر الخلق جميعاً بإحسانه وإنعامه، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
وهو سبحانه المحسن الكريم الذي لا يخلو موجود من إحسانه طرفة عين:
فهو المحسن إلى كل مخلوق بنعمة الإيجاد.. ونعمة الإمداد.. وللمؤمن مع ذلك بنعمة الهداية.. ولا خفاء بإحسان الله تعالى إلى خلقه.. ومنته عليهم بما غمرهم من الإحسان والإنعام، والفضل والجود.
وهو سبحانه المحسن إلى الخلق كلهم بصنوف النعم، ولو غفل عن ذلك الغافلون، وجحد فضله الجاحدون، وأعرض عن شكره الكافرون، فلا قيام للخلق ولا بقاء لهم إلا به سبحانه، وبجوده وإنعامه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 243].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
(2) أخرجه مسلم برقم (1955).(1/258)
ومن إحسان الله عزَّ وجلَّ وجوده وفضله على الإنسان أن أخرجه من عدم، وصوره في أحسن صورة، وهي صورة آدم، وهي أحسن صور العالم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [غافر: 64].
ومن إحسانه على الإنسان أن جعله عاقلاً لا معتوهاً ولا سفيهاً.. حتى يمتاز عن البهائم.. وهداه للإسلام.. وهذا أعظم أنواع الإحسان والإنعام.. وجعله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. وعلمه كتابه.. وأحسن إليه بإعانته على العمل بما علم.. ووفقه لنشر ما علم بين عباده.. ليكون نور بلاده.. ويستضاء بسراجه.
وهو سبحانه المحسن الذي أحسن إلى الإنسان، وأنعم عليه بكمال الصورة، واعتدال الخلقة، وفصاحة اللسان، وحسن السمع والبصر، وسلامة البدن من نقص أو خلل، حتى يبقى صحيحاً سليماً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 78].
وهو سبحانه المحسن الذي أنعم على الإنسان بانتظام الحال، واتساع المال، حتى لا يحتاج إلى أحد من الخلق في اكتساب الرزق، ويحتاج إليه غيره، وهذه وتلك نعمة يجب شكرها، إذ ليس كل أحد يعطاها.
ومن نعم الله على الإنسان ما أنعم عليه بالعصبة والعشيرة، والأصحاب والأتباع، الذين تآلفت قلوبهم على محبته وتقديره، وقاموا جنة بينه وبين أعدائه، فعاش في أمن بين جميع الخلائق، يُنظر إليه بعين الإجلال والوقار، وتقضى حوائجه حيثما كان.
ومن إحسانه إليه ما رزقه الله من الزوجة والأولاد، حتى يكون من ذريته في أمة محمد صلى الله عليه وسلم عدد وافر، وكلهم موحد لربه، ولآلائه ذاكر وشاكر.
يشتد بهم في الدنيا أزره، ويحبط بهم في الآخرة وزره بدعائهم له، وتزيد حسناته بفعلهم القرب عنه.
ومنها ما أنعم الله به عليه من صحة الجسم، وفراغ البال، ونعم الله على العباد لا تحصى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 18].(1/259)
والله عزَّ وجلَّ يحب من خلقه التعبد بمعاني أسمائه وصفاته، فهو تواب يحب التوابين، ومحسن يحب المحسنين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [البقرة: 195].
فعلى المسلم أن يحسن كما أحسن الله إليه بتلك النعم، فيعبد الله عبادة تامة كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فهو يراه، وعليه أن يحسن إلى العباد بإيصال جميع أنواع الخير لهم، وقد وعده الله بالثواب على ذلك بقوله: (ھ ھ ھ ے ے ? ?) [التوبة: 120].
السيد
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: السيد.
عن عبدالله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: «السَّيِّدُ الله» أخرجه أحمد وأبو داود(1).
الله تبارك وتعالى هو السيد، الذي كمل في سؤدده، المحتاج إليه على الإطلاق، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا.
وهو سبحانه السيد، الذي تحق له السيادة، فالسموات والأرض، والملائكة والروح، والإنس والجن، والنبات والحيوان، كل هؤلاء خلق للبارئ عزَّ وجلَّ، ليس بهم غنية عنه في بدء أمرهم وهو الوجود، ولا في الإبقاء بعد الإيجاد، ولا في العوارض العارضة أثناء البقاء.
فهذه المخلوقات كلها مخلوقة بأمره.. باقية بأمره.
تزيد بأمره.. وتنقص بأمره.. وتحيا بأمره.. وتموت بأمره.. وتتحرك بأمره وتسكن بأمره.. وترزق بأمره.. وتنفع بأمره.. وتضر بأمره: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة.
ومن هذه صفاته، وهذا فعله، وهذه قدرته، كان حقاً له جل ثناؤه أن يكون سيداً، وكان حقاً على العباد أن يدعوه بهذا الاسم، فالسؤدد حقيقة لله عزَّ وجلَّ، والخلق كلهم عبيد له، وهو مالكهم وربهم ومولاهم: (? ? ? ??) [الحج: 78].
المقدم والمؤخر
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: المقدم والمؤخر.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16316).
وأخرجه أبو داود برقم (4806) وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (4021).(1/260)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » متفق عليه(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلا أنْتَ» متفق عليه(2).
الله تبارك وتعالى هو المقدم، الذي ينزل الأشياء منازلها، فيقدم ما شاء منها، ويؤخر ما شاء.
قدم المقادير قبل أن يخلق الخلائق، وقدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده، ورفع الخلق بعضهم فوق بعض درجات، وقدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم، وثبطهم عنها بحكمته.
وأخر سبحانه الشيء عن حين توقعه، لعلمه بما في عواقبه من الحكمة، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم، وهو الحكيم العليم.
وهو سبحانه المقدم الذي يقدم الأشياء، ويضعها في مواضعها، فمن استحق التقديم قدمه، وهو المؤخر الذي يؤخر الأشياء، فيضعها في مواضعها، يقدم من شاء من خلقه إلى رحمته بتوفيقه، ويؤخر من يشاء عن ذلك لخذلانه.
وهو سبحانه المقدم المعطي لعوالي الرتب والمنازل، المؤخر الدافع عن عوالي الرتب والمنازل، العالم بمن يصلح لهذا.. ومن يصلح لهذا.
والله جل جلاله هو المقدم لبعض الأشياء على بعض، إما تقديماً في الخلق كتقديم بعض المخلوقات على بعض في الوجود، وكتقديم الأسباب على مسبباتها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6398) واللفظ له، ومسلم برقم (2719).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).(1/261)
وإما تقديماً في الشرع، كتفضيل أهل الإيمان على سائر البشر، وتفضيل بعض النبيين على بعض، وتفضيل بعض العباد على بعض، وتفضيل بعض العبادات على بعض، كتقديم الفرض على النافلة، وحق الله على حق غيره.
وهو سبحانه المؤخر بعض الأشياء عن بعض، إما بالزمان، وإما بالشرع، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم.
فهو سبحانه المقدم من شاء، المؤخر من شاء، وهو على كل شيء قدير، وإذا علم العبد ذلك، فعليه أن يقدم ما قدمه الله، ويؤخر ما أخره الله.
ومن أراد أن يقدمه الله على غيره، فليسابق إلى طاعته، والعمل بمرضاته، والتقرب إليه بما استطاع من محبوباته كالتقوى والإحسان والصبر.
ومن تأخر عن ذلك أخره الله، فإنه المتأخر عن درجات الخير والثواب، المؤخر في الآلام والعذاب.
قال الله تعالى: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الحديد: 21].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ» أخرجه مسلم(1).
القابض والباسط
ومن أسمائه الحسنى عزَّ وجلَّ: القابض والباسط.
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ?) [البقرة: 245].
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: غلا السعر على عهد رسول الله فقالوا: يا رسول الله لو سعرت، فقال: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» أخرجه أبو داود والترمذي(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (438).
(2) صحيح: أخرجه أبو د اود برقم (3451)، صحيح سنن أبي داود رقم (2945).
وأخرجه الترمذي برقم (1314)، صحيح سنن الترمذي رقم (1059).(1/262)
الله تبارك وتعالى هو القابض الباسط، الذي يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء، يقبض ويبسط على حسب ما يراه ويعلمه من المصلحة لعباده، يبسطه بجوده، ويقبضه بعدله، وهو الحكيم العليم.
وهو سبحانه القابض، الذي يطوي بره ومعروفه عمن يريد، الباسط الذي ينشر فضله على من يشاء من عباده، يرزق ويوسع، ويجود ويتفضل، يفعل ذلك بعباده بحسب علمه وحكمته: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 27].
والقابض والباسط من الأسماء الكريمة المتقابلة، لا يفرد أحدهما عن قرينه، ولا يثنى على الله بواحد منها إلا مقروناً بمقابله، لأن تمام القدرة والكمال المطلق لله عزَّ وجلَّ لا يحصل إلا بمجموعها، ومثلها المقدم والمؤخر، والمعطي والمانع ونحوهما.
والله عزَّ وجلَّ هو القابض الباسط، الذي بيده كل شيء، فينبغي لمن امتن الله عليه ببسطة في المال أو العلم، أو الجسم أو الجاه، أن يتفضل على عباد الله تعالى كما تفضل الله عليه وأحسن، فإن هذا من شكر النعم.
ومن ضيق الله عليه في شيء من ذلك، فليلجأ إلى الله القابض الباسط، الذي يملك كل شيء، ويملك ما يتمنى ويريد، وأن يعلم أن ذلك بعدله سبحانه، وهو لا يظلم أحداً.
وهو سبحانه العليم الحكيم، القابض الباسط، الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقبضه عمن يشاء، والتصرف كله بيده، والأمور كلها راجعة إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه بل يوفره: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 245].
هذا ما تيسر جمعه من أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة.
اللهم كما يسرت جمعها في هذا الكتاب فارزقنا حفظها، والعمل بها، وحسن الدعاء بها كما قلت سبحانك: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 180].(1/263)
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمّ، وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ ا?، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا» أخرجه أحمد(1).
ولسهولة حفظ أسماء الله الحسنى، والدعاء بها، والعمل بموجبها، نوردها مجملة مرتبة كما سبق وهي:
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (3712)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (199).(1/264)
الله.. الإله.. الرحمن.. الرحيم.. الملك.. المالك.. المليك.. القدوس.. السلام.. المؤمن.. المهيمن.. العزيز.. الجبار.. الكبير.. المتكبر.. الخالق.. الخلاق.. البارئ.. المصور.. الغفور.. الغافر.. الغفار.. القاهر.. القهار.. الوهاب.. الرازق.. الرزاق.. الفتاح.. الفاتح.. العليم.. العالم.. العلام.. السميع.. البصير.. الحكيم.. الحاكم.. الحكم.. اللطيف.. الخبير.. الحليم.. العظيم.. الشكور.. الشاكر.. العلي.. الأعلى.. المتعال.. الحفيظ.. الحافظ.. الرقيب.. المقيت.. الشهيد.. الحاسب.. الحسيب.. الكريم.. الأكرم.. الواسع.. المجيد.. الرب.. الودود.. الحق.. المبين.. الوكيل.. الكفيل.. القوي.. المتين.. الولي.. المولى.. الحميد.. الحي.. القيوم.. القائم.. الواحد.. الأحد.. الصمد.. القادر.. القدير.. المقتدر.. الأول.. الآخر.. الظاهر.. الباطن.. البر.. التواب.. العفو.. الرؤوف.. الغني.. الهادي.. النور.. البديع.. الفاطر.. المحيط.. القريب.. المستعان.. المجيب.. الناصر.. النصير.. الوارث.. الغالب.. الكافي.. ذو الجلال والإكرام.. ذو العرش.. ذو المعارج.. ذو الطول.. ذوالفضل.....
وفي السنة:
الرفيق.. الشافي.. الطيب.. السبوح.. الجميل.. الوتر.. المنان.. الحيي.. الستير.. الساتر.. الديان.. المحسن.. السيد.. المقدم.. المؤخر.. القابض.. الباسط.. المعطي.. المانع.
8- فقه صفات الله وأفعاله
قال الله تعالى: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى، وقد مرت بنا، وله جميع الصفات العلا، فله سبحانه صفات الكمال.. وصفات الجلال.. وصفات الجمال.(1/265)
فهو سبحانه الحليم الذي لا أحد أصبر منه، فإنه يعافي العباد ويرزقهم، وهم يعصونه ويخالفون أمره، ويدّعون له الصاحبة والولد، فيؤخر عقوبتهم التي قدر لها وقتاً، وحدّ لها أجلاً محدوداً سبق به علمه.
ومن علم عظمة الله وما له من العزة والجلال، والجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة، وعلم كمال قدرته على ما يشاء، علم أنه لا أصبر من الله على إذاية من آذاه، وافترى عليه، وأشرك به.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا أحَدَ أصْبَرُ عَلَى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ ا? عزَّ وجلَّ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُم» متفق عليه(1).
وهو سبحانه الحكيم الذي يقضي بالحق، ويقضي به بين العباد يوم القيامة، الذي يحكم في خلقه بما شاء، ويفعل ما يريد.
وهو سبحانه الرحمن الذي كتب على نفسه الرحمة، وكتب في الذكر كل شيء، وكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
وهو سبحانه كاشف العذاب، وكاشف الضر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 17].
وهو سبحانه المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويستجيب للداعي إذا دعاه.
وهو سبحانه الذي ينادي من شاء من عباده، كما نادى الله موسى في الواد المقدس طوى: (? ? ں ں ? ? ? ? ?) [الشعراء: 10].
وهو سبحانه الذي يدعو إلى دار السلام، ويدعو عباده لما يحييهم من الهدى، ويدعوهم ليخرجوا من قبورهم إلى يوم البعث.
وهو سبحانه الكريم الذي يغيث عباده، فمن استغاثه من المؤمنين استجاب له، وقضى حاجته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الأنفال: 9].
وهو سبحانه الحفيظ، الذي يقي السيئات، ويقي المؤمنين من الشرور وعذاب النار كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الإنسان: 11، 12].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6099)، ومسلم برقم (2804) واللفظ له.(1/266)
وهو سبحانه الذي يصلي على عباده المؤمنين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 43].
وهو سبحانه الحفي، المبالغ في البر والألطاف والإكرام والإفضال كما وصفه إبراهيم صلى الله عليه وسلم بقوله: (? ? ? ? ?) [مريم: 47].
وهو سبحانه الكريم.. الذي يبارك فيما شاء من الكلام والعباد والبلاد والأزمان والأشياء.. فكل خير من عنده.. وكل بركة من فضله سبحانه.. فجعل القرآن مباركاً.. وأنزل من السماء ماء مباركاً.. وبارك أرض الشام.. وبارك على أنبيائه ورسله كإبراهيم وإسحق.. وعيسى ويحيى وغيرهم.. وجعل بيته الحرام مباركاً.
وهو سبحانه فالق الإصباح، الذي شقه بعد ظلمة الليل سبحانه.
وهو سبحانه فالق الحب والنوى، الذي يشق الحب والنوى، فيخرج منه ورقاً وشجراً وثمراً.
وهو سبحانه الذي يخرج الحي من الميت، وبخرج الميت من الحي، من النبات والحيوان والإنسان.
وهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماءً، فأخرج به نبات كل شيء، وأخرج الأطفال من بطون الأمهات، ويخرج الناس من القبور يوم القيامة: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 55].
وهو سبحانه الذي أخرج كل شيء من الأقوال والأعمال والأشياء من العدم إلى الوجود وأخرج الكلام من اللسان، وأخرج المعاني من الألفاظ، وأخرج الثمار من الأشجار، وأخرج النور من الشمس والقمر والنجوم.
وهو سبحانه القوي القادر، الذي خلق السموات والأرض فكانتا رتقاً، ففتق السماء إلى سبع سموات جل جلاله، وفتق الأرض إلى سبع أرضين، وشق السماء بالمطر، وشق الأرض بالنبات، وجعل من الماء كل شيء حيّ: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأنبياء: 30].
وهو سبحانه الذي أنزل الماء من السماء إلى الأرض، فأنبت به الزروع والأشجار والثمار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 5].
وهو سبحانه الملك، الذي يملك النفع والضر، فكل نفع وضرر في الدنيا والآخرة بيده، والخلق لا يملكون من ذلك شيءاً إلا ما شاء الله لهم.(1/267)
فكل شيء في قبضته سبحانه، وهو كائن بحكم تدبيره ومشيئته، وكل أثر في الأسباب خلقه رب الأسباب، خلق كل شيء فقدره تقديراً.
استودع سبحانه الأدوية والأغذية المنافع والمضار، واستودع الألم في الضرب وجميع المؤلمات، واستودع الشبع والري في ذوات المطعومات والمشروبات، وبيده سبحانه ملكوت كل شيء، فلا يصدر نفع أو ضر منها إلا عن إرادته وحكمته وخلقه.
فكل نفع يدر على العبد في الدنيا فهو من الله تعالى، وكل عبد صدر منه منفعة فهو مسخر من الله تعالى بها، وكذلك الضر، فالدنيا مقسمة بين نفع وضر، والآخرة كذلك، فالجنة نفع صاف، والنار ضر خالص.
وهو سبحانه الكريم الحكيم، الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يملك المنع والعطاء وحده، وليس منعه بخلاً منه، ولكن منعه حكمة، وعطاؤه جود ورحمة، يعطي من هو أهل للعطاء، ويمنع من هو أهل للحرمان، وهو الحكيم العليم بعباده: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 2].
فحق على من علم أن الله هو المعطي والمانع وحده، أن يقطع من قلبه من الخلق المطامع، وأن يقف مع الله بقلب راض قانع، فإن أغناه صرف في طاعته غناه، وإن منعه علم أنه لم يمنعه من بخل ولا عدم، بل ليكون منعه معقباً له ما هو أشرف من الغنى.
وإن أعطاه أحد من الخلق رزقاً، فليرد ذلك إلى الواحد المعطي الحق، وإن منعه أحد من الناس فلا يرى المانع إلا الله، فيرى الله وحده بيده كل شيء، وما سواه ليس بيده شيء، وكل موجود مع القدرة الإلهية كالظل لا حكم له في الفعل، فلا إله إلا الله، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وهو سبحانه العزيز، الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، فأعز أولياءه وأظهرهم على أعدائهم، وأحلهم دار الكرامة في الجنة، وأذل أهل الكفر في الدنيا بأن ضربهم بالرق والشقاء، والجزية والصغار، وفي الآخرة بالعقوبة والخلود في النار.(1/268)
وهو سبحانه رفيع الدرجات، الذي يرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، الذي يخفض القسط ويرفعه، ويرفع قدر من شاء، ويضع قدر من شاء، الذي يرفع بالقرآن أقواماً، ويضع به آخرين، يرفع من شاء بإنعامه كما رفع الحق وحزبه، ويخفض من شاء بانتقامه كما خفض الباطل وحزبه.
وهو سبحانه الحي الذي يحيي ويميت، يحيي سبحانه النطفة الميتة فتخرج منها النسمة الحية، ويحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها، ويحيي الأرض بعد موتها بإنزال الغيث، وإنبات النبات، وهو الذي يميت الأحياء، ويوهن بالموت قوة الأصحاء: (? ? ? ? ? ہ ہ) [ق: 43].
وهو سبحانه القادر على كل شيء، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، الذي بدأ خلق الخلق، والذي يعيدهم بعد الحياة إلى الممات، ثم يعيدهم بعد الموت إلى الحياة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الروم: 27].
فسبحان الذي يبدئ ويعيد من الخلائق في كل لحظة ما لا يحصيه إلا هو، وهو على كل شيء قدير.
والله جل جلاله الكفيل، الذي وفى لعباده بما ضمن لهم من الأرزاق، ويوفي عباده أجورهم وثوابهم يوم القيامة: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 25].
وهو سبحانه العدل الذي يقول الحق، وفعله حق، والذي يأمر بالعدل والإحسان، ويحكم بالعدل والإحسان.
فلو عذب الخلق أجمعين لكان ذلك عدلاً منه، ولو نعم الجميع في جنانه لكان ذلك فضلاً منه، وإذ فرقهم فريقين، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فتلك حكمة بالغة.
فعذابه للجميع عدل، ورحمته للجميع فضل، وتفريقه حكمة بالغة: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [النحل: 90].
فكل عدل وعادل وعدالة فمنه سبحانه، وكل حكم ليس منه فهو جور وظلم، وباطل وبهتان.
وعلى المسلم إذا عرف ذلك أن يستسلم لقضائه، وأن يعدل في أقواله وأفعاله، لينال بذلك ثوابه وإحسانه.
وهو سبحانه الصادق في أقواله وأفعاله، ووعده ووعيده كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ) [النساء: 122].(1/269)
فعلى المسلم أن يعلم أنه لا أحد أصدق من الله، وأن كل صادق، وكل صدق فمن عنده، ثم يجب عليه الصدق في جميع أقواله وأفعاله لتحصل له النجاة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ ا? صِدِّيقًا » متفق عليه(1).
والله عزَّ وجلَّ هو الحكيم العليم، الذي يضع ا لأمور مواضعها، ويرشد الخلق ويدلهم على المصالح والمنافع، والذي أرشد الخلق إلى طريق الحق، وإلى المصالح التي ينتظم بها وجودهم.
فأرشد سبحانه الملائكة والأنبياء والمؤمنين إلى معرفته بما وهبهم من اليقين.. وأرشد جميع الخلق إلى طلب قوام بنيتهم.. فأرشد الصغار من الأطفال والبهائم وهداهم إلى المنافع كالتقام الثدي.. ومص الضرع.. وأرشد العنكبوت إلى بناء البيت المشبك.. وأرشد النحل إلى بناء البيت المسدس.. وأرشد الفرخ ليفقأ البيضة عند اكتمال خلقه.. وأرشد الجنين للخروج من بطن أمه.. وأرشد المطر للانصباب.. والأرض للإنبات.. والماء للإرواء.. والنار للإحراق.. وأرشد الأذن للاستماع.. والعين للإبصار.. واللسان للكلام.. والرجل للمشي.. واليد للبطش والأخذ والدفع.
فكل موجود في الأرض والسماء جار على منهج السداد، ومنه سبحانه جاء الرشاد، وأعظم الرشاد إرشاد عباده المؤمنين إلى الدين القيم: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الأنبياء: 51].
وإنما يحصل الرشد للعبد إذا آمن بالله واستقام على دينه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 186].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094)، ومسلم برقم (2607) واللفظ له.(1/270)
وهو سبحانه الكريم الرحيم، الذي بعث الرسل إلى الأمم بالدين، وهو الذي يبعث الأرواح والأجساد بعد الموت ليوم النشور، وهو الذي يبعث من في القبور، والذي بعث رسله للهداية، وبعث عباده إلى الطاعة، وأرسل الشياطين للغواية، وابتلى هؤلاء بهؤلاء.
وهو سبحانه الجامع للفضائل كلها، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلا، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وهو سبحانه الجامع حقاً بين المتفرقات والمتباينات، كما جمع بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، في أمزجة الحيوانات، وهي متنافرات متعاندات، فهو سبحانه الجامع بكل اعتبار.
فسبحان القادر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، جمع بين الماء والأرض فجاء النبات، وجمع بين الذكر والأنثى فجاء الأولاد: (? ? ? ? ? ?) [هود: 107].
وهو سبحانه الجامع الذي يجمع قلوب عباده على الحق، ويجمع الناس يوم القيامة للحساب، ويجمع الرسل ويسألهم عما كلفهم به، ويجمع المؤمنين في الجنة، ويجمع الكفار والمنافقين في النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 9].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 140].
وهو سبحانه سريع الحساب، وسريع العقاب، وشديد العقاب.
يعاقب الكافرين لكفرهم، والعصاة لعصيانهم، فيعاجل من شاء بعقوبته في الدنيا، ويؤخر عقوبة من شاء إلى الآخرة، ويعفو عمن يشاء: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 165].
وعقاب الله تعالى للخلق: ما يكون من جزاء على فعل المذموم.
ففي الدنيا يعاقب الله من شاء بالصواعق المحرقة، والزلازل المدمرة، والرياح المهلكة، والمياه المغرقة، والفتن المهلكة، وغير ذلك مما شاء الله أن يعاقب به.
وهذا العقاب مهما حل بكافر كان نقمة كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الزخرف: 55].
ومهما حل العقاب بعصاة المؤمنين كان رحمة لهم، وكفارة لذنوبهم، وطهارة لقلوبهم إن تابوا وأنابوا.(1/271)
وما أصاب من هذه المحن الأنبياء والأولياء والصالحين المطهرين من الأوزار، فليس ذلك بعقاب، إذ العقاب على جناية، ومن حماه الله من الكفر والفسوق والعصيان، وحبب إليه الإيمان والأعمال الصالحة، فهو مهما امتحنه بمحنة من الضراء والبأساء، أو أصابه بما أصابه من البلاء، فذلك إكرام من الله، يزيده به تطهراً وتنويراً، ويقربه منه، ويرفع به درجاته.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ ا? صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ ا?، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً؟ قَالَ: «أجَلْ، إِنِّي أوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ». قُلْتُ: ذَلِكَ بأنَّ لَكَ أجْرَيْنِ؟ قَالَ: «أجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذًىً، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَ» متفق عليه (1).
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : من هم أشد الناس بلاء يا رسول الله؟فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». أخرجه الترمذي وابن ماجه(2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5648)، واللفظ له، ومسلم برقم (2571).
(2) حسن: صحيح، أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956)
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).(1/272)
وأما العقاب في الآخرة فيكون عند قبض الروح، وفي القبر، وفي الموقف، وفي روعات الموقف والحساب والصراط، وغير ذلك من الشدائد، وعقاب بعض الخلق أشد من بعض بحسب أعمالهم، وغلظ كفرهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 145].
ويعذب الله عصاة الموحدين في النار، ثم يخرجون منها إلى الجنة، ويخلد فيها الكفار والمنافقون.
وهو سبحانه المنتقم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الدخان: 16].
والانتقام: إنزال البلاء بأهل العتو والإجرام، والله عزيز ذو انتقام، ينتقم من كل ظالم وكافر، ومن كل مجرم وفاسق في الدنيا والآخرة.
وقد انتقم الله جلَّ جلاله من كل من كفر وأشرك وكذب وعاند رسله من الأمم السابقة: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الروم: 47].
وهو سبحانه شديد البطش كما قال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ) [البروج:12].
والبطش: الأخذ بسرعة مع عنف، والله جل جلاله هو الجبار ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي يبطش إذا شاء متى شاء بكل ظالم وكافر وطاغوت: (? ? ? ? ? ? ?) [الدخان: 16].
وهو سبحانه العزيز الجبار، أخذه مؤلم، وعقابه موجع: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [هود: 102].
وجميع المخلوقات في ملكه وقبضته، لا يعزب عنه منها شيء: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [هود: 56].
وهو سبحانه الحكيم العليم، الذي يبتلى عباده بما يطهر قلوبهم، ويزكي نفوسهم، ويبلوهم بالشر والخير فتنة، ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 2، 3].
وهو سبحانه الذي يفتن ويبتلي عباده بما شاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 155-157].
وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ فتنة أحد فلا راد لقضائه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 41].(1/273)
فعلى المسلم أن يعلم أن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويبتلي من يشاء، ويفتن من يشاء بما شاء، وهو الحكيم العليم.
وكل أمة افتتنت بشيء من الفتن:
فأمم افتتنوا عن عبادة الله بعبادة الأصنام فعبدوها.. وقوم بالشمس فألهّوها.. وقوم بنبي كان منهم وهم إليهود عبدوا عزيراً.. وقالوا هو ابن الله.. والنصارى قالوا عيسى هو الإله.. وقال بعضهم هو ابن الله.. وقال بعضهم ثالث ثلاثة.
وجعل الله فتنة هذه الأمة بالأموال والنساء، والنساء أعظم فتنة للرجال، فالأموال والنساء شاغل عن الله، وعن ذكر الله، وعن طاعة الله، وعن إبلاغ دين الله.
وقد غلب على أكثر الناس حب المال، وكدر عليهم عبودية الكبير المتعال.
وهو سبحانه القابض الباسط المسعر، فالغلاء والرخص بتقدير الله وتدبيره، وهو مقلبه ورافعه وخافضه، وذلك من أعظم البلاء والامتحان.
والله سبحانه هو الملك، الذي يفعل ما يشاء، ويؤتي ملكه من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [آل عمران: 26].
والله عزَّ وجلَّ هو الحي، الذي يحيي ويميت، ويرزق من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، ويختم على قلوب من يشاء، ويطبع على قلوب من يشاء.
وهو سبحانه القوي العزيز، الذي ختم على قلوب الكفار، ولعن الكافرين والمنافقين والظالمين والكاذبين، والكاتمين لما أنزل الله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [النساء: 52].
وهو سبحانه الذي لعن الشيطان، وغضب على إليهود والنصارى، ولعنهم بظلمهم وسوء أفعالهم.
وهو سبحانه الرحيم الذي يحب المؤمنين والمتقين والمحسنين ويبغض الكفار والفجار والأشرار.
وهو سبحانه الكريم الذي يجود بالعطاء، ويكرم المؤمنين، ويكفر السيئات، ويغفر الذنوب، ويعفو عمن ظلم.(1/274)
وهو سبحانه الذي يمكر بمن مكر بأوليائه، ويستهزئ بمن استهزأ بهم، ويكيد من كادهم، ويخدع من خادعهم، كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [النساء: 142].
وهو سبحانه الذي يختص برحمته من يشاء، ويبين للعباد ما ينفعهم، ويمحص الذين آمنوا، ويمحق الكافرين، ويجزي الشاكرين، ويثيب المؤمنين في الدنيا والآخرة.
وهو سبحانه الملك الذي ينصر من يشاء، ويسلط من يشاء على من يشاء، ويظهر ما يشاء بما شاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 83].
وهو سبحانه الذي أنبأ رسله، وأرسلهم إلى عباده، وأنبأ الخلق بما ينفعهم وما يضرهم في كتابه، وينبئهم بما عملوا يوم القيامة.
وهو سبحانه العليم الحكيم الذي يكرم أولياءه، ويطبع على قلوب الكافرين والجبارين والمتكبرين: ( ? ? ? ? ? ژ ژ) [غافر: 35].
وهو سبحانه الذي كتب الإيمان في قلوب المؤمنين، وطبع على قلوب الكافرين.
وهو سبحانه الذي يعصم من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، ويقدم من يشاء، ويؤخر من يشاء.
وهو سبحانه الذي يحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، الذي أحل الطيبات، وحرم الخبائث، وأحل البيع، وحرم الربا، ويميز الخبيث من الطيب، ويعلم المفسد من المصلح، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.
وهو سبحانه الملك القاهر ما شاء بما شاء، الذي يأذن لمن يشاء أن يفعل ما يشاء: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الأنعام: 112].
وهو سبحانه الذي يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، ويُبقي ما يشاء، ويهلك ما يشاء، ويخلق مايشاء، ويصطفي ما يشاء، ويختار ما يشاء، ويزكي من يشاء، ويبدل سيئات من يشاء، ويغير الأحوال كلها متى شاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 39].
وهو سبحانه الذي يطعم ولا يطعم، الذي يخوف عباده بما شاء لعلهم يتوبون، وينجي من يشاء في ظلمات البر والبحر.
وهو سبحانه الذي يتوفى الأنفس: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 42].(1/275)
وهو سبحانه الذي سخر لعباده كل ما ينفعهم ويصلحهم في حياتهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 20].
وهو سبحانه الذي يسيّر الخلائق في البر والبحر، ويسير الكواكب في السماء، وينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، وينزل الوحي إلى أهل الأرض، وينزل الماء من السماء إلى الأرض.
وهو سبحانه الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ويجيء يوم القيامة لفصل القضاء: (? ? ? ? ? ?) [الفجر: 22].
وهو سبحانه الذي أنبت الزروع والأشجار، وأخرج منها الثمرات وأنبت أصل البشر من الأرض كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [نوح: 17-18].
وهو سبحانه الكريم الذي أنعم على الناس بالدين، وما جعل عليهم في الدين من حرج، فلم يكلفهم بما لا يطيقون، أو يطالبهم بما لا يستطيعون: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الطلاق: 7].
وهو سبحانه العزيز الكريم الذي أعد الجنة للمؤمنين، وأعد النار للكافرين، ويسر هؤلاء للجنة، وخذل أولئك فصاروا إلى النار.
وهو سبحانه الذي ينظر إلى القلوب، ويمتحنها بما شاء، وينزل السكينة في قلوب المؤمنين، ويقذف الرعب في قلوب الكافرين.
وهو سبحانه الذي أحصى كل شيء عدداً من الأقوال والأعمال، والأشياء والأموال، والذرات والقطرات، والحركات والسكنات، والأنفاس والأرواح.
فسبحان الخالق العظيم، القادر الحكيم، العزيز العليم، الذي يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وجميع أسماء الله عزَّ وجلَّ دالة على أوصاف كماله، وهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء، وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى.
فهو سبحانه الملك الذي يملك كل شيء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
وهو سبحانه العزيز، الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء.
وهو سبحانه البارئ الذي برأ الخلق وأوجدهم بقدرته.(1/276)
وهو الرزاق الذي يرزق من يشاء، الغفار الذي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، العفو الذي يعفو عمن يشاء من عباده.
وهو سبحانه الفتاح الذي يحكم بين عباده بالحق والعدل، ويفتح لهم أبواب الرحمة والرزق.
وهو سبحانه العليم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض وما بينهما.
وهو سبحانه الرب الذي يربي عباده، ويقوم بأمرهم في الدنيا والآخرة.
وهو سبحانه الشكور الذي يضاعف الحسنات، ويمحو السيئات، الذي يشكر اليسير من الطاعة، ويعطي عليه الثواب الجزيل.
وهو سبحانه الخبير الذي يعلم أحوال الخلائق كلها في السماء والأرض، وفي كل مكان وزمان.
وهو سبحانه الحفيظ الذي حفظ ما خلقه، وحفظ أعمال العباد كلها.
وهو سبحانه الرقيب الذي يراقب خلقه في جميع أحوالهم في العالم العلوي، والعالم السفلي.
وهو سبحانه السميع الذي يسمع جميع أصوات الخلائق، ولا يشغله سمع عن سمع.
وهو سبحانه البصير الذي يبصر كل شيء، العليم بحاجات العباد وما في صدورهم.
وهو سبحانه الشهيد المطلع على جميع الأشياء، ظاهرها وباطنها، صغيرها وكبيرها.
وهو سبحانه الغني الذي يرزق العباد كلهم، ويغنيهم من فضله.
وهو سبحانه التواب، الذي يتوب على من شاء من عباده.
وهو سبحانه المحيط، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
وهو سبحانه الهادي، الذي يهدي من يشاء، الذي هدى سائر الخلائق إلى مصالحهم.
وهو سبحانه الفاطر، الذي فطر السموات والأرض، وفطر الناس على التوحيد.
وهو سبحانه الغالب الذي قهر كل مخلوق، ولا يملك أحد أن يرد ما قضى.
وهو سبحانه الناصر، الذي ينصر رسله وأولياءه على أعدائهم.
وهو سبحانه المستعان، الذي يعين عباده، ولا يطلب العون من أحد.
وهو سبحانه الشافي، الذي يشفي من كل آفة وعاهة ومرض.
وهو سبحانه المحسن الذي يحسن إلى عباده بصنوف النعم على الدوام.
وهكذا في بقية الأسماء.
والقرآن كله بيان لأسماء الله وصفاته وأفعاله، وخزائنه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، وثوابه وعقابه.(1/277)
وهذه بعض الآيات المبينة لأسماء الله وصفاته وأفعاله، والدالة على كمال قدرته وعظمته، وعلى جماله، وجلاله، وكماله، وكبريائه، ورحمته وإحسانه، وآلائه وإنعامه.
وذلك ليعرف العباد ربهم.. ويعلموا عظيم قدرته.. وجميل إحسانه فيقدروه حق قدره.. ويعبدوه حق عبادته.. ويشكروه ويحمدوه.. ويستعملوا جوارحهم في طاعته.. وألسنتهم بذكره والثناء عليه.
فالواجب على كل مسلم أن يعرف معبوده الحق، ويعرف أوامره التي يتقرب بها إليه، ويعرف ما له بعد القدوم عليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 19].
فوا أسفاه.. ماذا يعلم الخلق من أسماء الله وصفاته وأفعاله وماذا يجهلون؟. وماذا يعرفون من دينه وسننه وأحكامه وماذا يجهلون؟.
وما الموجود في حياتنا من الدين، وما الذي فقدناه؟.
ألا يستحي العباد من الرب، الذي يرزقهم ويعافيهم وهم يعصونه؟.
ألا يخافون من القادر الذي لا يعجزه شيء وهم يبارزونه بالمعاصي؟: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [المائدة: 74].
إن حقه تبارك وتعالى أن يطاع فلا يعصى.. ويذكر فلا ينسى.. ويشكر فلا يكفر.. ويعبد وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله.
فهو سبحانه الخالق الذي خلق كل شيء، وكما أنه المتفرد بالخلق وحده، فكذلك هو المستحق للعبادة وحده دون سواه كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 21، 22].
والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 29].
وهو سبحانه الذي خلق البشر: (? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 1].
والله عزَّ وجلَّ هو الذي: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 10].
وهو سبحانه الخالق المصور: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [السجدة: 7].
وهو سبحانه السميع البصير بأحوال عباده: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الأنعام: 60].(1/278)
والله جل جلاله: (? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ) [الأنعام: 95].
والله سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 96].
وهو سبحانه الذي خلق البشرية كلها من نفس واحدة: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الأنعام: 98].
وهو سبحانه الذي جعل النجوم هداية للعباد: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 97].
وهو سبحانه الذي أنزل الماء من السماء فأخرج به من كل الثمرات: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 99].
والله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 5].
والله سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [يونس: 67].
والله عزَّ وجلَّ هو الذي رزق عباده الأزواج والأولاد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 72].
وهو سبحانه الذي خلقنا ثم أخرجنا من بطون الأمهات بعد أن أحسن خلقنا وأكمله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 78].
والله سبحانه هو الذي خلق الأرض وبسطها ومدها كيف شاء: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 3].
وهو سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الرعد: 2].
وهو سبحانه الذي أنعم على عباده بالدور والقصور وغيرها من النعم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 80، 81].
وهو سبحانه الذي يدبر الكون بما يصلح أحوال العباد: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 47].
وهو الكريم الذي سخر الليل والنهار لعباده، فلا يجتمعان ولا يرتفعان أبداً: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الفرقان: 62].
وهو الخلاق العليم القدير الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الروم: 54].(1/279)
وهو سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 80].
وهو: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [غافر: 64].
وهو: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک) [غافر: 79-81].
وهو سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 11، 12].
وهو سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الملك: 2].
وهو سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 3، 4].
والله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الملك: 23].
والله عزَّ وجلَّ هو: (? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 1].
والله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 2].
وهو سبحانه العليم بكل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الأنعام: 3].
والله جل جلاله هو الذي: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 4-7].
والله سبحانه هو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 33].
والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق جميع الدواب التي تدب على وجه الأرض من الماء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النور: 45].
وهو سبحانه الذي خلق جميع البشر من الماء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 54].
وهو سبحانه الذي: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 10، 11].
والله سبحانه هو: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 36].
وهو سبحانه العليم القدير الذي خلق كل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
وهو سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [الأعلى: 2-4].(1/280)
وهو سبحانه الذي خلقنا ورزقنا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 40].
وهو سبحانه الذي خلق البشر، وبثهم في أقطار الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 79].
وهو سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [المؤمنون: 80].
وهو سبحانه الملك الذي: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 12].
وهو سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 1].
وهو سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 28].
والله عزَّ وجلَّ: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [آل عمران: 6].
وهو سبحانه مالك الملك: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 13].
وهو سبحانه العليم، الذي لا يخفى عليه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 59].
والله جل جلاله قادر على كل شئ: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 65].
وهو سبحانه الذي استخلف الناس في الأرض، وسخر لهم ما فيها، وابتلاهم لينظر كيف يعملون: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 165].
وهو سبحانه الذي يحيي الأرض بعد موتها، ويخرج الموتى من قبورهم، ثم يجازيهم بأعمالهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 57].
والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق العليم، الذي خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [يونس: 3].
والله عزَّ وجلَّ: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [يونس: 67].
وهو سبحانه الهادي الكريم الذي يدعو عباده إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 25].
والله عزَّ وجلَّ عالم الغيب والشهادة، وجميع مقاليد الأمور بيده: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [هود: 123].
والله جل جلاله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 12].(1/281)
وهو سبحانه القوي ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الذي يسبح له ما في السموات وما في الأرض: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 13].
وهو سبحانه الذي جعل البروج في السماء وزينها للناظرين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ) [الحجر: 16-18].
وهو سبحانه الذي خلق الأرض وأرساها بالجبال، وأنبت فيها من كل شيء: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الحجر: 19-20].
وهو سبحانه الذي عنده خزائن كل شيء، ويتصرف في كل شيء: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
والله سبحانه هو الذي خلق الماء وأنزله: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [النحل: 10-11].
والله عزَّ وجلَّ هو الذي سخر لعباده ما في السموات وما في الأرض: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 20].
وسخر لنا ما في السماء: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [النحل: 12].
وسخر لنا ما في الأرض: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 13].
وهو سبحانه الذي سخر البحر، وجعل فيه من النعم والمنافع ما لا يحصيه إلا هو، وما لا يعلمه إلا هو: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 14].
وهو سبحانه الذي انفرد بإعطاء العباد ما يحبون، وصرف عنهم ما يكرهون، أفلا يعبدونه ويطيعونه ويتقونه ويشكرونه؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 52، 53].
وهو القدير الحكيم العليم الذي جعل الليل والنهار آيتين: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 12].
وهو سبحانه الذي يعلم جميع ما يفعله العباد، وحفظ ذلك كله في كتاب: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?) [الإسراء: 13، 14].(1/282)
وهو سبحانه القادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء من الكائنات، ولا يفلت من عذابه أحد من الجبابرة والطغاة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 16].
وهو سبحانه الباقي، وما سواه فان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الرحمن: 26، 27].
والله عزَّ وجلَّ هو العظيم الحليم الذي: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
وهو سبحانه العظيم الكريم الرحيم، المستحق للعبادة وحده دون سواه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ) [الأنبياء: 19، 20].
والله جل جلاله هو القادر على كل شيء، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، والسموات والأرض في يده أصغر من الخردلة: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الأنبياء: 104].
وهو سبحانه الذي يخلق ما يشاء، ويختار ما يشاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 68].
والله سبحانه هو الذي له الحمد في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 70].
والله عزَّ وجلَّ هو العليم بما في صدور العالمين: (? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 69].
وهو جلَّ جلاله الذي: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [السجدة: 5، 6].
وهو سبحانه الذي: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 2].
وهو سبحانه خالق كل شيء، العليم بكل شيء، خلق آدم من تراب، وجعل نسله من ماء مهين، وعلم أحوال العباد قبل خلقهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 11].
وهو سبحانه القادر الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک) [فاطر: 13].
وهو سبحانه القوي الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].(1/283)
وهو سبحانه الذي خلق السموات والأرض بالحق ليعرف، وليأمرالعباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 4، 5].
والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق كل شيء، خلق البشرية كلها من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وأنزل رزقها، وأوصله إليها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 6].
وهو سبحانه التواب الذي يتوب على من يشاء من عباده: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الشورى: 25].
وهو سبحانه الكريم الرؤوف الرحيم، الذي ينزل الغيث فيحيي به البلاد، ويسقي به العباد: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 28].
والله سبحانه هو: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 10].
وهو سبحانه خالق كل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 12-14].
وهو سبحانه الحكيم العليم الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لتستعد لطاعة الله، وامتثال أوامره، ويزيد إيمانهم ويقينهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الفتح: 4].
والله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفتح: 28].
وهو سبحانه القوي الذي يأخذ المجرمين بالعذاب: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [هود: 102].
وهو سبحانه الذي يؤخر عذاب من شاء بحكمته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 42].
وهو سبحانه الذي يأتي بالخلائق كلهم يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [البقرة: 148].
وهو سبحانه الذي يفضل من يشاء، ويكلم من يشاء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 253].
وهو سبحانه الذي يختم على قلوب الكفار المعاندين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [البقرة: 7].
وهو سبحانه الذي يستهزئ بمن استهزأ بأوليائه من المنافقين والكافرين: (? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 15].(1/284)
وهو سبحانه الذي يمكر بمن مكر بأوليائه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [الأنفال: 30].
وهو سبحانه الذي يخادع من خادعه من المنافقين، الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فيتركهم يسعون لما فيه هلاكهم: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [النساء: 142].
وهو سبحانه الذي يكيد بمن كاد أولياءه كما قال سبحانه: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [الطارق: 15-17].
وهو سبحانه الذي يرضى عن عباده المؤمنين: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [الفتح: 18].
وهو سبحانه الذي يرضى على من أطاعه، ويسخط على من عصاه كما قال سبحانه: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 162، 163].
وهو سبحانه الذي يضحك كما يليق بجلاله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ»، فَقَالُوا: كَيْفَ؟ يَا رَسُولَ ا?! قال: «يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ ا? عزَّ وجلَّ فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْلِمُ، فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ا? عزَّ وجلَّ فَيُسْتَشْهَد» متفق عليه(1).
وهو سبحانه الذي يعجب كما يليق بجلاله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَجِبَ اللهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلاسِلِ» أخرجه البخاري(2).
فسبحان الملك العظيم.. رب السموات والأرضين.. الكامل في ذاته.. الكامل في أسمائه.. الكامل في صفاته.. اختص وحده بالأسماء الحسنى والصفات العلى: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].
9- فقه أحكام الأسماء والصفات
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 19].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 180].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2826)، ومسلم برقم (1890) واللفظ له.
(2) أخرجه البخاري برقم (3010).(1/285)
الإيمان بأسماء الله وصفاته أحد أركان الإيمان بالله، بل هو أعظمها، وتوحيد الله بها أحد أقسام التوحيد، ولا يمكن لأحد أن يعبد الله على الوجه الأكمل، حتى يكون على علم بأسماء الله وصفاته، ليعبد ربه على بصيرة، ويدعوه بأسمائه الحسنى التي أمره أن يدعوه بها:
إما دعاء مسألة، بأن يقدم بين يدي مطلوبه من أسماء الله ما يناسب حاله كأن يقول: يا رزاق ارزقني، أو يا رحمن ارحمني ونحوهما.
وإما دعاء عبادة، بأن تعبد الله سبحانه بمقتضى أسمائه، فتقوم بالتوبة إليه، لأنه هو التواب، وتتعبد له بجوارحك، لأنه البصير، وتذكره بلسانك، لأنه السميع، وتخشاه في السر، لأنه اللطيف الخبير، وهكذا في بقية الأسماء.
وأسماء الله عزَّ وجلَّ كلها حسنى، وهي بالغة في الحسن غايته، وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
فالحي من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والسمع والبصر والقوة والقدرة وغيرها من صفات الكمال.
والعليم من أسماء الله سبحانه، متضمن للعلم الكامل، الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان، العلم الواسع الشامل، المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً، سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال خلقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 59].
وقال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [التغابن: 4].
وأسماء الله عزَّ وجلَّ أعلام وأوصاف.. فهي أعلام باعتبار دلالتها على مسمى واحد وهو الله عزَّ وجلَّ.. وهي أوصاف باعتبار ما دلت عليه من الصفات المختلفة الجامعة لصفات الكمال والجلال والجمال.
فهي بالاعتبار الأول مترادفة، لدلالتها على مسمى واحد وهو الله.
وهي بالاعتبار الثاني متباينة، لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص.(1/286)
فالعليم والقدير والرحيم والسميع والبصير والعزيز والحكيم، كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه، لكن معنى العليم غير معنى القدير، ومعنى السميع غير معنى البصير، وهكذا.
ومثل هذا أسماء كتاب الله، واسماء رسله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء الجنة، وأسماء النار، فلكل عدة أسماء باعتبار الصفات، ومسماها واحد باعتبار الذات.
وأسماء الله عزَّ وجلَّ توقيفية، فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء، ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى، وقول على الله بلا علم، وذلك من أعظم الذنوب، فيجب الحذر منه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? [الإٍسراء: 36].
وأسماء الله جل جلاله غير محصورة بعدد.. لا يعلمها إلا الله.. منها ما سمى الله به نفسه.. وأنزله في كتابه.. أو علمه أحداً من خلقه.. ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده.
وأسماء الله تبارك وتعالى إن دلت على وصف متعد تضمنت ثلاثة أمور:
الأول: ثبوت ذلك الاسم لله سبحانه.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله سبحانه.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.
فالسميع مثلاً، يتضمن إثبات السميع اسماً لله عزَّ وجلَّ.
وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع جميع الأصوات، ويسمع السر والنجوى كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المجادلة: 1].
أما إن دل الاسم على وصف غير متعد فيتضمن أمرين:
الأول: ثبوت ذلك الاسم لله تعالى.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها الاسم لله تعالى.
فالحي مثلاً، يتضمن إثبات الحي اسماً لله عزَّ وجلَّ، ويتضمن إثبات الحياة صفة له، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 65].(1/287)
وكما أنه سبحانه مختص بالعبادة وحده، فكذلك هو مختص بالأسماء الحسنى وحده، فلا يجوز الإلحاد في أسماء الله تعالى، وهو الميل بها عما يجب فيها.
والإلحاد بجميع أنواعه محرم، لأن الله تعالى هدد الملحدين بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 180].
والصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صفات كمال مطلق كالقوة والعزة ونحوهما، فهذه ثابتة لله وحده.
الثاني: صفات كمال مقيد كالخداع والمكر والكيد، وهذه لا يوصف الله بها إلا بقيد، فنقول الله يمكر بالماكرين، ويستهزئ بالمنافقين، ويخادع من خادعه، ويكيد لمن كاد أولياءه.
الثالث: صفات نقص مطلق كالعجز والخيانة ونحوهما، فهذه لا يوصف الله بها، لأنها نقص على الإطلاق.
وصفات الله تبارك وتعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة، والعزة، والقدرة، والعلم، والسمع، والبصر، والرحمة، والعظمة وغيرها من صفات الكمال والجلال والجمال.
وإذا كانت الصفة نقصاً لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى كالموت والجهل، والنسيان والعجز، والعمى والصمم ونحوها.
كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الفرقان: 58].
وقوله سبحانه: (پ پ ? ? ? ?) [طه: 52].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 44].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَا أيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلا غَائِباً، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتعالى جَدُّه» متفق عليه(1).
وقد نزه الله نفسه عما يصفه به الجاهلون من النقائص فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصافات: 180-182].
وإذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصاً في حال، فلها حكمان:
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2992) واللفظ له، ومسلم برقم (2704).(1/288)
فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصاً، وذلك كالكيد والمكر، والاستهزاء والخداع ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابل من يعاملون الفاعل بمثلها، وتكون نقصاً ومذمومة في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها.
فالمكر كقوله: (? ? ? ں ں ? ? ?) [الأنفال: 30].
والكيد كقوله: (گ گ گ ? ? ? ?) [الطارق: 15، 16].
والاستهزاء كقوله عن المنافقين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 14، 15].
والخداع كقوله: (چ چ چ چ) [النساء: 142].
وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، فالعليم متضمن للعلم، والعزيز متضمن للعزة، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله سبحانه لا منتهى لها، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 27].
ومن صفات الله التي يوصف بها ولا يسمى بها المجيء والإتيان، والنزول والكلام، والأخذ والإمساك، والبطش والإرادة، وغير ذلك من الصفات التي لا تحصى.
فالمجيء كقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الفجر: 22].
والإتيان كقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 210].
والنزول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ! وَمَنْ يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه(1).
والكلام كقوله سبحانه: (? چ چ چ چ) [النساء: 164].
والأخذ كقوله: (? ? ? ?) [آل عمران: 11].
والإمساك كقوله: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الحج: 65].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758) واللفظ له.(1/289)
والبطش كقوله: (? ? ہ ہ ہ) [البروج: 12].
والإرادة كقوله: (? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 185].
فنصف الله بما وصف به نفسه من غير تكييف ولا نسميه به، فلا نقول من أسمائه الجائي والآتي والنازل وهكذا البقية، وإن كنا نخبر بذلك عنه، ونصفه به على ما يليق بجلاله.
وصفات الله تبارك وتعالى تنقسم إلى قسمين:
صفات ثبوتية.. وصفات سلبية.
فالصفات الثبوتية: هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة والعلم، والقدرة والرحمة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا كل ليلة، والمجيء لفصل القضاء، والعين والوجه واليدين ونحو ذلك.
فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به، لأن الله أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وهو أصدق قيلاً، فيجب قبول ما جاء عن الله بلا تردد، وكذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عزَّ وجلَّ يجب قبوله، فهو أعلم الناس بربه، وأصدقهم خبراً، وأنصحهم إرادة.
والصفات السلبية: هي ما نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم، والعجز والتعب، والجهل والنسيان، والغفلة والظلم، ونحو ذلك من صفات النقص التي يجب نفيها عن الله عزَّ وجلَّ، وإثبات ضدها على الوجه الأكمل.
وكل ما نفاه الله عن نفسه، فالمراد به إثبات كمال ضده، كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الفرقان: 58].
فنفي الموت عنه سبحانه يتضمن كمال حياته، ونفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ?) [الكهف: 49].
والصفات الثبوتية لله جلَّ جلاله صفات مدح وكمال، وكذا الصفات السلبية، لكن الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية التي لم تذكر غالباً إلا لبيان عموم كماله سبحانه كما قال عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].(1/290)
أودفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بأمر معين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [ق:38].
وصفات الله عزَّ وجلَّ من الأمور الغيبية التي يجب على العبد أن يؤمن بها على ما جاءت، إذ لا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته، لأن ذلك غير ممكن، وإذا كان نعيم الجنة، أو الروح كلاهما موصوف بصفات معلومة المعنى، ولا تعلم حقيقتهما، فكيف بالخالق جل جلاله.
وصفات الله تبارك وتعالى نوعان:
صفات ذاتية.. وصفات فعلية.
فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال الله متصفاً بها، وهي ملازمة للذات لا تنفك عنها أبداً، وهي نوعان: معنوية.. وخبرية.
فالمعنوية كالحياة والعلم، والقدرة والحكمة، والعزة والغنى، وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
والخبرية مثل الوجه واليدين والعينين والقدمين، وما أشبه ذلك.
فهذه الصفات الذاتية، المعنوية والخبرية كلها ملازمة للذات لا تنفك عنها.
أما الصفات الفعلية، فهي الصفات المتعلقة بمشيءته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وهي نوعان:
صفات لها سبب معلوم مثل الرضا والسخط، والحب والكره، ونحو ذلك، فالله عزَّ وجلَّ إذا وجد سبب المرض رضي كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [الزمر: 7].
وإذا وجد سبب السخط من أحد سخط الله عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 28].(1/291)
وصفات ليس لها سبب معلوم كالنزول إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه(1).
ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتبارين كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية، لأن الكلام يتعلق بمشيءته، يتكلم متى شاء، بما شاء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
وكل صفة تعلقت بمشيءته فإنها تابعة لحكمته، سواء أدركنا الحكمة أو جهلناها، لكننا نعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ لا يشاء شيءاً إلا وهو موافق للحكمة كما يشير إليه قوله سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 30].
وأسماء الله عزَّ وجلَّ وصفاته توقيفية لا مجال للعقل فيها، فلا نثبت لله تعالى من الأسماء والصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، فنثبت لله من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله، إثباتاً يليق بجلاله بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل.
فأسماء الله وصفاته لا يماثلها شيء من أسماء المخلوقين وصفاتهم، وكما لا نعلم كيفية ذاته عزَّ وجلَّ، فكذلك لا نعلم كيفية أسمائه وصفاته: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].
ولا علم لأحد بكيفية صفات الله عزَّ وجلَّ، لأنه عزَّ وجلَّ أخبرنا بها، ولم يخبرنا عن كيفيتها.
فيجب الكف عن التكييف تقديراً بالجنان، أو كلاماً باللسان، أو تحريراً بالبنان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإخلاص: 1-4].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).(1/292)
والله عزَّ وجلَّ هو الملك الذي له ملك السموات والأرض، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلا، وأسماؤه وصفاته لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها.
وأسماء الله وصفاته وأفعاله مطلقة في الكمال والحسن، لا تتناهى ولا تنقطع بآخر، ولا تحد بأول، كعلمه ورحمته وقدرته وسائر صفاته.
فسبحان الملك الحق، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
وكيفية الشيء لا تدرك إلا بمشاهدته.. أو مشاهدة نظيره.. أو خبر الصادق عنه.
فالله أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، وأخبرنا أنه ينزل إلى السماء الدنيا، ولم يخبرنا كيف ينزل، وأخبرنا أنه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، ولم يخبرنا كيف يجيء، وأسماء الله وصفاته ثابتة ومعلومة، ولها كيفية، ولكننا لا نعلم كيفيتها، فما من موجود إلا وله كيفية، وكما لا نعلم ذاته سبحانه، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته.
فيجب الحذر من القول على الله بلا علم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 36].
وما يجري صفةً أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام:
أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولنا: ذات وموجود وشيء.
الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية كالعليم والقدير والسميع.
الثالث: ما يرجع إلى أفعاله سبحانه نحو الخالق والرازق.
الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتاً كالقدوس والسلام.
الخامس: الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة نحو المجيد، والعظيم والصمد والرب، فهذه الأسماء تدل على من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال.
السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين أو الوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، أو العزيز الحكيم، أو العفو الغفور ونحو ذلك.(1/293)
فالغنى صفة كمال، والحمد صفة كمال، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله سبحانه ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وهكذا في باقي الأسماء.
ولا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيداً، أن يشتق له منه اسم مطلق كما ورد في القرآن لفظ (يضل ويمكر وفتنا) ونحوها.
فهذه أفعال مخصوصة لا يجوز أن يطلق منها أسماء على الرب كالمضل والماكر والفاتن، فأسماء الله توقيفية وصفاته كذلك.
أما الاسم إذا أطلق عليه كالسميع والبصير، فيجوز أن يشتق منه المصدر كالسمع والبصر، والفعل نحو سمع، ويسمع.
وأفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم.
فالرب سبحانه وتعالى فعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن فعاله، فاشتقت الأسماء للمخلوق بعد أن كمل بالفعل.
أما الرب فهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته، ولم يزل كاملاً، فحصلت أفعاله عن كماله، لأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته.
فأفعاله كلها صادرة عن كماله، كمل سبحانه ففعل كل شيء، والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به.
وما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم، فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العلا.
وأسماء الله عزَّ وجلَّ منها ما يطلق عليه مفرداً، أومقترناً بغيره، وهو غالب الأسماء كالعزيز والحكيم، والسميع والبصير، والعفو والغفور، فتقول مثلاً سبحان العزيز، أو سبحان العزيز الحكيم.
ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقروناً بمقابله كالمعطي المانع، والنافع الضار، والمعز المذل ونحوها.
فهذه أسماء مزدوجة يجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد، لأنه يراد بها المتفرد بالربوبية، وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاءً ومنعاً، نفعاً وضراً، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجئ مفردة، ولم تطلق عليه إلا مقترنة.(1/294)
وقد تجلى الله تبارك وتعالى في كتابه لعباده بأسمائه الحسنى وصفاته العلا:
فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة، والجلال والجبروت، فتخضع الأعناق، وتنكسر كبرياء النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء.
وتارة يتجلى سبحانه بصفات الجمال والكمال، وهو جمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، الدال على كمال الذات، فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من ذلك، فيصبح فؤاده فارغاً إلا من محبة الله، وتصير المحبة له طبعاً لا تكلفاً.
وإذا تجلى سبحانه بصفات البر والرحمة، واللطف والإحسان، انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وانشرح صدره، وقوي طمعه، وكلما قوي الرجاء جد في العمل، وتلذذ به، وأكثر منه.
وإذا تجلى عزَّ وجلَّ بصفات السمع والبصر، انبعثت من العبد قوة الحياء، فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في نفسه ما يمقته عليه ربه.
فتبقى أقواله وأفعاله، وحركاته وخواطره، موزونة بميزان الشرع، غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.
وإذا تجلى جل جلاله بصفات العدل والانتقام، والغضب والسخط، والعقوبة والتدمير، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت أو ضعفت قواها، من الشهوة والغضب، واللهو واللعب، والحرص على المحرمات، وأخذت حظها من الخوف والخشية والحذر.
وإذا تجلى سبحانه بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع ا لمصائب عنهم، ونصره لأوليائه، وحمايته لهم، انبعثت من الصدر قوة التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، والرضى به، والتسليم له.
وإذا تجلى الجبار بصفات العز والكبرياء، ذلت النفس لعظمته، وانكسرت لعزته، وخضعت لكبريائه، وخشع القلب له، وانقادت الجوارح لطاعته، فتعلوه السكينة والوقار والطمأنينة، ويذهب طيشه وحدته.
والله حكيم عليم، يتعرف إلى العباد بصفات الربوبية تارة، وبصفات الإلهية تارة.(1/295)
فيوجب للعبد شهود صفات الإلهية محبة الله، والأنس والفرح به، والشوق إلى لقائه، والمنافسة في قربه، والسرور بخدمته، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه.
ويوجب له شهود صفات الربوبية تعظيم الرب، وحسن التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع له، والانكسار له.
وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في قضائه وقدره.. ونعمته في بلائه.. وعطاءه في منعه.. وعدله في انتقامه.. وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه.. وبره ولطفه.. وإحسانه ورحمته في قيوميته.. ويشهد حكمته في تدبيره.. ونعمته في أمره ونهيه.. وعزه في رضاه وغضبه.. وحلمه في إمهاله.
فما أعظم الخالق الذي خلق المخلوقات، الحكيم الذي يدبر الكون حسب مشيءته، العظيم الذي خلق هذا الكون العظيم، وله ما في السموات وما في الأرض، وهو العزيز الحكيم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
وإذا تأملت القرآن وتدبرته أشهدك ملكاً قيوماً، علياً عظيماً، قوياً عزيزاً، له العزة والكبرياء، وله الجبروت والملكوت، فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر الخلائق كلها في العالم العلوي، وفي العالم السفلي:
يأمر وينهى.. ويقضي ويحكم.. ويرسل الرسل.. وينزل الكتب.. ويرضى ويغضب.. ويثيب ويعاقب.. ويعز ويذل.. ويخفض ويرفع.. ويعطي ويمنع.. ويرى ويسمع.. فعال لما يريد.. موصوف بكل كمال.. لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه.. ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.. ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.. بيده الملك وهو على كل شيء قدير:(1/296)
يخلق ويرزق.. ويحيي ويميت.. ويكرم ويهين.. الخلق والأمر له.. والكون كله له.. والأمور كلها بيده.. ومصدرها منه.. ومردها إليه.. يثني على نفسه.. ويمجد نفسه.. ويحمد نفسه.. ويثني على عباده.. ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم.. ويرغبهم فيه.. ويحذرهم مما فيه هلاكهم.. ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته.. ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.. ويذكرهم بنعمه.. ويحذرهم من نقمه.. ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه.. وما أعده من العقوبة إن عصوه.. ويخبرهم بما فعله بأوليائه وأعدائه، وعاقبة هؤلاء وهؤلاء.
وإذا شهدت القلوب ملكاً هذا شأنه، وهذه عظمته، وهذه آلاؤه ونعمه، وهذا إحسانه، وهذا جماله، فكيف لا تحبه، ولا تنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه؟.
وكيف لا تلهج بذكره، ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وقد خلق الله الإنسان في ظاهره وباطنه في أحسن تقويم، وجعله كالمرآة العاكسة لتجليات الأسماء الحسنى، فهو مرآة لها.
ويظهر ذلك كما يلي:
أولاً: كما أن الظلام سبب لرؤية النور، فكذلك الإنسان يعرف بجهله وضعفه، وعجزه وفقره، وحاجته وقصوره، يعرف بذلك قدرة القدير وقوته، وعلمه وغناه، ورحمته سبحانه.
ثانياً: أن ما وهب الله الإنسان من العلم والقدرة، والسمع والبصر، والملك والحكمة، وغيرها من الصفات الجزئية، يعرف منها الصفات المطلقة الكلية لله سبحانه، ويعلم أن لهذا الكون العظيم ملكاً عظيماً، يعلم ما فيه، ويدبره، ويسمع كل صوت فيه، ويبصر كل صغيرة فيه.
ثالثاً: وكذلك الإنسان مرآة عاكسة للأسماء الحسنى، من حيث ظهور نقوشها الظاهرة عليه، فيعرف من كونه مخلوقاً اسم الخالق، ويظهر من حسن تقويمه اسم الرحمن الرحيم، ومن حيث تربيته اسم اللطيف الكريم. وهكذا في بقية الأسماء.(1/297)
والله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فصفاته سبحانه كاملة، وصفاتنا ناقصة، وهو منزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فعلمه سبحانه ليس كعلم المخلوق، لأن علم المخلوق كله نقص، نقص في ابتدائه، لأنه مسبوق بجهل، ونقص في غايته، لأنه يلحقه النسيان، ونقص في شموله، لأنه قاصر لا يعلم كل شيء، وهكذا في بقية الصفات الذاتية.
وهو سبحانه منزه أن تكون صفاته الفعلية كصفات المخلوقين كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء لفصل القضاء، والرضى والغضب وغيرها.
فتشبيه الخالق بالمخلوق نقص، لأن تسوية الكامل بالناقص تجعله ناقصاً، والله منزه عن ذلك: ( ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 11].
وإذا أظهر الله صفات الجلال كالجبار والقهار مع عبد أو أَمَة، فذلك لتربيته، فالله أرحم بنا من أنفسنا.
وإذا أظهر المولى الكريم صفات الجمال كالكريم والرحيم واللطيف على عبد أو أَمة فذلك لتربيته كذلك.
والإيمان بأسماء الله وصفاته ليس له حد ولا نهاية، فلو أعطي الرجل أعمار المخلوقات كلها من الجن والإنس والملائكة، والسموات والأرض ومن فيهن، وصرف ذلك في معرفة الله وأسمائه وصفاته والإيمان به، لانتهت تلك الأعمار، وما انتهى بحر الإيمان بالله وأسمائه وصفاته.
وإذا كانت الأشجار والبحار تفنى وتنتهي ولما تحيط بكلمات الله، وهي صفة واحدة من صفاته، فكيف ببقية الصفات الأخرى؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 27].
والله جل جلاله له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فالسلام من أسماء الله الحسنى، فهو السلام الحق بكل اعتبار، فهو سبحانه سلام في ذاته من كل عيب ونقص.
وسلام في صفاته من كل عيب ونقص.
وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص، وشر وظلم.(1/298)
فهو السلام من الصاحب والولد، وهو السلام من النظير والكفء والسمي والمماثل والشريك.
وكل صفة من صفاته سلام مما يضاد كمالها.
فحياته سبحانه سلام من السنة والنوم والموت.
وقيوميته سلام من التعب واللغوب.
وقدرته سلام من العجز والتعب.
وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان له.
وغناه سلام من الحاجة إلى غيره، فكل ما سواه محتاج إليه، وهو غني عن كل ما سواه.
وملكه سلام من منازع فيه، أو مشارك له، أو معاون له.
وحلمه وعفوه، ومغفرته وصفحه سلام من أن يكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه.
وعذابه وانتقامه وبطشه سلام من أن يكون ظلماً أو تشفياً، أو غلظة أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله ورحمته.
وقضاؤه وقدره سبحانه سلام من العبث والجور والظلم.
ودينه وشرعه سلام من العبث والنقص، والجور والظلم.
وهكذا في باقي الأسماء والصفات.
والسلام لله وصفاً وملكاً.. فهو السلام في ذاته.. وبيده السلام.. يسلم من شاء.. ويهلك من يشاء.
والحمد لله وصفاً وملكاً.. فهو المحمود في ذاته.. وهو الذي يجعل من يشاء محموداً.. ومن يشاء مذموماً.
والعزة لله وصفاً وملكاً.. فهو العزيز في ذاته.. وهو الرب الذي يعز من يشاء من عباده.. ويذل من يشاء.
والرحمة كلها له سبحانه وصفاً وملكاً.. فهو الرحيم في ذاته.. وهو الذي يرحم من يشاء.. ويعذب من يشاء.
والبركة كلها لله وصفاً وملكاً.. فهو المتبارك في ذاته.. وهو الذي يبارك فيمن يشاء من خلقه.. وينزع البركة ممن يشاء من خلقه.
والبركة نوعان:
الأولى: بركة هي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها بارك، تارة يتعدى بنفسه، وتارة بعلى، وتارة بفي، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل كذلك، فكان مباركاً بجعله تعالى كما قال سبحانه عن المسيح: (گ گ گ گ ?) [مريم: 31].
وقال عن كتابه: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [ص: 29].(1/299)
الثانية: بركة تضاف إليه سبحانه كإضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عزَّ وجلَّ، فهو سبحانه المبارك، وعبده ورسوله المبارك.
وأما صفته (تبارك) فمختصة به تعالى كما أخبر بها عن نفسه بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 1].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?) [الملك: 1].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الفرقان: 61].
فالبركة كلها لله تعالى، والبركة منه، فهو المبارك جل جلاله، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا هو الذي جعل كتابه مباركاً، ورسوله مباركاً، وبيته مباركاً، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها مباركة، فليلة القدر مباركة، والمسجد الأقصى مبارك، وأرض الشام مباركة.
ومعنى تبارك تعاظم، الدال على العظمة، كتعالى الدال على العلو، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها، فمنه تأتي البركات كلها، وباسمه يتبارك كل شيء، وبيده الخير والرحمة والإحسان: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
ويجب على المسلم الإيمان بكل ما أخبر الله ورسوله به من أسماء الله وصفاته، سواء عرفنا معناه أم لم نعرفه، وهي صفات حقيقية لا تشبه صفات المخلوقين، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته كذلك لا تشبه صفات المخلوقين، فالله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله.
فعلى المسلم أن يثبت لله من الأسماء والصفات، ما أثبته الله ورسوله، وينفي عنه ما نفاه الله ورسوله.
وفي الأحكام يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلق الله لكل شيء، المتضمن كمال قدرته، وعموم مشيءته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، وأمره في التصريف والتدبير لهذا الكون العظيم.
فيثبت العبد جميع أسماء الله وصفاته إثباتاً يتبعه اليقين على الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وعدم الالتفات إلى ما سواه.(1/300)
فالإنسان إذا شفي بالدواء، قال: شفاني الدواء، وإذا شفي بدون الدواء، قال شفاني الله، وهذا ليس بصحيح، فالشافي في الحالين واحد لا شريك له وهو الله.
ولكن الله عزَّ وجلَّ ابتلاءً وامتحاناً للعباد: تارة يشفي بالأسباب.. وتارة بدون الأسباب.. وتارة بضد الأسباب.. إظهاراً لقدرته.. أو إنفاذاً لسنته.. فالله له قدرة، وله سنة هي الأسباب.. والأسباب مخلوقة مدبرة من القادر الذي لا يعجزه شيء.
والأسباب يبتلى بها المؤمن، ويطمئن بها الكافر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [يونس: 7، 8].
ولا بد من النفي في أسماء الله وصفاته، فنثبت لله الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وننفي ذلك عما سواه.
فالله سبحانه قوي وغيره ضعيف.. والله قوته كاملة فلا يعجزه شيء وغيره قوته ناقصة.. والله قوته مطلقة وغيره قوته محدودة.. والله قوته أبدية لا تزول وغيره قوته حادثة تزول.
والله غني وغيره فقير مهما ملك.. والله غناه كامل وغيره غناه ناقص.. والله غناه مطلق وغيره غناه محدود.. والله غناه أبدي لا يزول وغيره غناه يزول.. وهكذا في بقية الأسماء والصفات.
وبهذا النفي والإثبات يقوى الإيمان، ويزيد اليقين على الله وأسمائه وصفاته، والتوكل عليه وحده، والتوجه إليه وحده، ويضعف اليقين على المخلوق العاجز المقهور.
والله تبارك وتعالى واحد لا شريك له، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله.
والله سبحانه موصوف في القرآن بالنفي والإثبات، إثبات ما يليق به من الأسماء والصفات، ونفي ما لا يليق به سبحانه، ووصفه بالإثبات أكثر.
فالإثبات: كإخباره بأنه سبحانه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء محيط، وأنه سميع بصير، وأنه رؤوف رحيم، ونحو ذلك.
والنفي: كإخباره سبحانه بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعزب عنه شيء، ولا يعجزه شيء، وليس كمثله شيء، وأنه لا تدركه الأبصار، وأنه لا يمسه لغوب ونحو ذلك.(1/301)
وصفات الله أوسع من أسمائه، وأفعاله أوسع من صفاته، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالاً لم يتسمّ منها باسم الفاعل كأراد وشاء وأحدث، ولم يسم نفسه بالمريد والشائي والمحدث، كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، وقد أخطأ من اشتق له من كل فعل اسماً له، فسماه الماكر والمخادع والفاتن والكائد.
وكل اسم منقسم إلى كامل وناقص لا يدخل اسمه في أسمائه الحسنى كالشائي والمريد والمتكلم، فهو وإن كانت له الإرادة والمشيءة والكلام، لكنه لا يسمى بالمريد ولا بالمتكلم ولا بالشائي، لانقسام تلك الأسماء.
والخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق عزَّ وجلَّ، والمخلوق مفعوله.
وأفعال الله عزَّ وجلَّ نوعان: متعد.. ولازم.
فالفعل المتعدي: كالخلق والرزق والإعطاء.
واللازم: مثل الاستواء والنزول والمجيء.
كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [السجدة: 4].
فذكر سبحانه الفعلين المتعدي واللازم وهما الخلق والاستواء، وكلاهما حاصل بمشيءته وقدرته، وهو متصف به.
والمضاف إلى الله نوعان:
أحدها: صفات لا تقوم بنفسها كالعلم والقدرة، والسمع والبصر، والكلام، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها كقولنا: قدرة الله، كلام الله.
الثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه كالبيت والناقة، والعبد والرسول ونحوها، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكنها إضافة تقتضي التخصيص والتشريف كقولنا: رسول الله، بيت الله، ناقة الله.
وأسماء الله عزَّ وجلَّ كلها حسنى، وهي لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما يوجب دخول الجنة منها فقال: «إِنَّ ? تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إِلا وَاحِداً، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7392)، ومسلم برقم (2677).(1/302)
ومعنى إحصاء أسماء الله، هو الإحاطة بها لفظاً، وفهمها معنىً، والتعبد لله بمقتضاها.
ولا يتم الإيمان بأسماء الله إلا بثلاثة أمور:
الإيمان بالاسم اسماً لله.. والإيمان بما تضمنه من صفة.. والإيمان بما تضمنه من أثر وحكم.
فالعليم مثلاً من أسماء الله، فنؤمن بالعليم اسماً لله، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المترتب على ذلك، وهو أنه يعلم كل شيء.
ومن أسماء الله عزَّ وجلَّ ما يختص به وحده مثل الله، الرحمن، رب العالمين ونحوها.
ومنها ما لا يختص به وحده فيسمى به هو، ويسمى به غيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 2].
وقال سبحانه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 128].
وأسماء الله عزَّ وجلَّ ثلاثة أقسام:
الأول: ما سمى الله به نفسه، وأنزله في كتابه، فتعرف به إلى عباده.
الثاني: ما سمى الله به نفسه، وأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه.
الثالث: ما استأثر الله به وانفرد بعلمه من أسمائه وصفاته، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شيءاً لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي» متفق عليه(1).
والله تبارك وتعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحديد: 3].
فهو سبحانه الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه.
أحاطت أوليته وآخريته بالزمان كله، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بالمكان كله، فهو سبحانه محيط بكل ظاهر وباطن، كما أنه محيط بالأوائل والأواخر.
وأسماء الله الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها.
فاسم (السميع والبصير) يقتضي مسموعاً ومبصراً.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194) واللفظ له.(1/303)
واسم (الرزاق والرحمن) يقتضي مرزوقاً ومرحوماً.
واسم (التواب والغفور) يقتضي وجود عاص يتوب عليه، ومسيء يغفر له، وهكذا في بقية الأسماء.
ولا بدَّ من ظهور أثر الأسماء في العالم:
فإذا فرضنا أن الحيوان بجملته معدوماً، فمن يرزق الرازق سبحانه؟
وإذا كانت المعصية والخطيئة منتفية من العالم، فلمن يغفر الغفور؟ وعمن يعفو العفو؟ وعلى من يتوب التواب؟.
وإذا فرضنا الفاقات كلها قد سدت، والعبيد أغنياء معافون، فأين السؤال والتضرع؟، وأين الإجابة وشهود الفضل والمنة؟
والله عزَّ وجلَّ أجود الأجودين.. وأكرم الأكرمين.. وأرحم الراحمين.. سبقت رحمته غضبه.. وكتب على نفسه الرحمة.. يحب الإحسان والجود، والعطاء والبر.
فالفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده، ويوسعهم فضلاً، ويغمرهم إحساناً وجوداً، ويتم عليهم نعمته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، فهو سبحانه الجواد لذاته، وجود كل جواد من جوده.
ومحبته سبحانه للجود والإعطاء والإحسان فوق ما يدور ببال الخلق.. وفرحه سبحانه بعطائه وجوده أشد من فرح الآخذ بما يعطاه.. ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وسروره وابتهاجه.
والله تبارك وتعالى جميل في ذاته، وجميل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو جل جلاله الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، وجوده العالي من لوازم ذاته.
والعفو أحب إليه من الانتقام.. والرحمة أحب إليه من العقوبة.. والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع.
خلق الإنسان ومن عليه بالنعم، وفضله على غيره، وأنزل إليه كتبه، وأرسل إليه رسله، واعتنى به ولم يهمله، فهو يتقلب في نعمه في جميع أحواله.(1/304)
فإذا تعرض العبد لغضب ربه، وارتكب مساخطه وما يكرهه، وأبعد منه، ووالى عدوه وتحيز إليه، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه، فقد استدعى من الجواد الكريم الرحيم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإسخاطه وإغضابه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه.
وبينما هو كذلك آبق شارد عن سيده ومولاه، منهمك في موافقة عدوه، إذ عرضت له فكرة، فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وإن لم يقدم عليه بنفسه، قدم به عليه على أسوإِ الأحوال.
ففر إلى سيده من بلد عدوه، ووقف ببابه خاشعاً متضرعاً يتملق سيده، ويسترحمه ويستعطفه، ويعتذر إليه، فعلم سيده ما في قلبه فرضي عنه ورحمه، وأبدله بالعقوبة عفواً، وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلماً، وبالبطش رحمة.
فلا تسأل عن فرح ربه به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعاً واختياراً، ففتح له طريق البر والإحسان والجود، والتي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [النساء: 27، 28].
والإيمان بأسماء الله وصفاته معناه فهمها، والاعتراف بها، والتعبد لله بها، والعمل بمقتضاها، وهذا توحيد الأنبياء والمرسلين:
فأوصاف العظمة والكبرياء والمجد والجلال تملأ القلب هيبة لله وتعظيماً له.
وأوصاف العزة والقدرة والجبروت تجعل القلوب تخضع وتذل وتنكسر بين يدي ربها.
ومعرفة أوصاف البر والرحمة، والجود والكرم تملأ القلب رغبةً وطمعاً في فضل الله وإحسانه وجوده.
ومعرفة أوصاف العلم والإحاطة توجب للعبد مراقبة الله في حركاته وسكناته، والحذر من معصيته، والحياء منه.
ومعرفة مجموع هذه الصفات تملأ القلب محبة لله، وشوقاً إليه، وتعظيماً له، والتعبد والتقرب إلى الله بالأقوال والأفعال.
وصفات الكمال ترجع إلى ثلاث صفات:
العلم.. والقدرة.. والغنى.(1/305)
وهذه الثلاث لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فهو الذي أحاط بكل شيء علماً.. وهو على كل شيء قدير.. وهوالغني عن العالمين.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 50].
وينال الناس من هذه الثلاث بقدر ما يعطيهم الله منها، والله سبحانه أعلم بمن يصلح لهذا أو ذاك أو ذلك، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو بعباده خبير بصير، حكيم يضع كل شئ في موضعه اللائق به.
ومفعولات الرب المتنوعة دالة على إرادة الفاعل وقدرته، وعلمه وحكمته.
وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى.
وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته سبحانه.
وما فيها من البطش والانتقام والعقوبة دال على غضبه.
وما فيها من التقريب والإكرام والعناية دال على محبته.
وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دال على بغضه ومقته.
وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف، ثم سوقه إلى تمامه ونهايته، ثم موته، ثم حياته مرة أخرى دال على وقوع المعاد.
وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صحة النبوات.
وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة، دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها.
فمفعولاته ومخلوقاته سبحانه من أدل شيء على صفاته، وصدق ما أخبرت به رسله عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 53].
والله تبارك وتعالى لكمال عظمته وكبريائه، وإحاطته بما سواه، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه واسع عليم، يُرى في الآخرة ولا يحاط به إدراكاً، فالمخلوق لا يحيط بالخالق وإن كان يراه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102، 103].
فسبحان الحي الذي ليس كمثله شيء في حياته.
وسبحان القوي الذي ليس كمثله شيء في قوته.(1/306)
«سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» أخرجه أبو داود والنسائي(1).
ومخلوقات الله عزَّ وجلَّ دالة على ذاته وأسمائه وصفاته.. وأسماؤه وصفاته دالة على ما يفعله ويأمر به.. وما لا يفعله ولا يأمر به.
فاسمه القوي يدل على أنه على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء.
واسمه الغني يدل على كمال غناه، وأنه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.
واسمه الحميد يدل على أنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر.
واسمه الحكيم يدل على أنه لم يخلق شيئاً عبثاً.
واسمه الملك يدل على ما يستلزم حقيقة الملك من قدرته، وحسن تدبيره وعطائه ومنعه، وثوابه وعقابه، وبث رسله في أقطار مملكته، وإعلام عبيده بأوامره ومراسيمه، واستوائه على سرير مملكته، الذي هو عرشه المجيد.
فسبحانه من ملك ما أعظمه.. ومن كريم ما أجوده.. ومن لطيف ما أرحمه.
وله الحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله.. وعلى قضائه وقدره.. وعلى خلقه وأمره.. وعلى دينه وشرعه.. وعلى آلائه ونعمه.. وعلى ثوابه وعقابه.. وعلى عدله وإحسانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
10- فقه التعبد بأسماء الله وصفاته
قال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [البقرة: 195].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 66].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النور: 22].
الله عزَّ وجلَّ له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، أنزل القرآن تبياناً لكل شيء، فله الملك كله، وله الحمد كله، وله العزة كلها، وهو الغفور الرحيم، يُطاع فيشكر، ويُعصى فيغفر، ويتوب على من استغفر، ويرحم إذا استرحم.
ولا يصلح لولاية الرحمن من لم يتأدب بآداب القرآن، ولم يتعبد بصفات الرحمن حسب الإمكان.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (873)، صحيح سنن أبي داود رقم (776).
وأخرجه النسائي برقم (1049)، صحيح سنن النسائي رقم (1004).(1/307)
فالله سبحانه محسن أمر بالإحسان، رحمان أمر بالرحمة، عفو أمر بالعفو، غفور أمر بالمغفرة، جبار أمر بالجبر، حليم أمر بالحلم، عليم أمر بالعلم، شكور أمر بالشكر، سلام أمر بالسلام.. وهكذا في باقي الأسماء والصفات.
فمن تعبد بصفاته صلح لولايته ورضوانه، وفاز بدار كرامته.
فبالأبصار نرى آياته ومخلوقاته، وآلاءه ونعمه.
وبالبصائر تشاهد القلوب ذاته وأسماءه وصفاته وإحسانه، فتعامله بما يليق بجلاله وجماله وإحسانه، ثم تأمر الجوارح بأن تعامله بما يليق بعظمته وكماله وعبوديته.
فالقلوب بحضرته تعظمه.. والجوارح على أبواب القلوب توقره وتطيعه وتعبده.. والله يعلم ويسمع ويرى.
فلا يصلح أحد منهم لموالاته إلا أن يتعبد بآدابه، ويتصف بصفاته، تذللاً بعبادته، ومحبةً لطاعته، وتجملاً بصفاته.
وأفضل العباد في ذلك أكرمهم عليه، وأقربهم إليه، وأحبهم إليه.
وصفات الله عزَّ وجلَّ نوعان:
صفات ذاتية كالحياة والعلم ونحوهما.
وصفات فعلية كالخلق والرزق ونحوهما.
والصفات الذاتية نوعان:
أحدهما: ما لا يمكن التعبد به، وهما الحياة والقدرة، إذ لا يمكن اكتسابهما، لكن يجب حفظهما، وحفظ سائر منافع البدن وأعضائه، لنستعمل ذلك في طاعة الله ورضوانه.
وثمرة معرفتهما: التوكل على الله سبحانه، والالتجاء إليه، وإجلاله ومهابته، ورجاء إنعامه، وخوف انتقامه.
الثاني: ما يمكن التعبد به من سائر صفات الذات، فنتعبد بها على حسب الإمكان وهي:
1- العلم: فالله بكل شيء عليم.
والتعبد به: بأن تعرف ذات الله وأسماءه وصفاته، وأحكامه وأيامه، وحلاله وحرامه، وما يقربك إليه، وما يجعلك محبوباً لديه.
وثمرة العلم بذلك: الخوف من مولاك، وحياؤك منه في أقوالك وأفعالك وسائر أحوالك، فإنه بكل شيء عليم.
2- الإرادة: فالله مريد لكل شيء.(1/308)
والتعبد بها: يكون بأن نتعبد بكل إرادة حثنا الشرع عليها، وندب إليها كإرادة الطاعات كلها، والعبادات بأسرها، وإخلاص العمل، وإرادة التقرب به، خوفاً من عقاب الله، أو رجاء لثوابه، أو حياء منه، أو محبة له، أو مهابة له.
وثمرة معرفة ذلك: الخوف والوجل الموجبان لاجتناب الزلل، وإصلاح العمل.
3- السمع: فالله سميع عليم لا يخفى عليه شيء.
والتعبد به: يكون بأن نسمع كل ما فرض الله علينا سماعه أو ندب إليه كسماع كتابه وسنة رسوله، والعمل بموجبه.
وثمرة معرفة سمع الله: خوفك وحياؤك ومهابتك أن يسمع منك ما زجرك عنه من الأقوال، واجتناب كل قول لا يجلب نفعاً، ولا يدفع ضراً.
4- البصر: فالله بصير لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والتعبد به: يكون بالنظر في ملكوت السموات والأرض، والنظر للآيات الكونية، وعجائب المخلوقات نظر تدبر وتفكر، والنظر للآيات القرآنية والشرعية، وما فيها من الأحكام والعبر والسنن، والعمل بموجب ذلك.
وثمرة معرفة بصره: خوفك منه، وحياؤك ومهابتك أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك.
5- الكلام: فالله سبحانه يتكلم بما شاء في أي وقت شاء.
والتعبد به: يكون بذكره وشكره، وتلاوة كتابه، وتعليم دينه وشرعه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إليه.
وثمرة معرفة كلام الله: معرفة ذاته وأسمائه وصفاته، ومعرفة أمره ونهيه، وما يحبه وما يكرهه.
وأسماء الله وصفاته نوعان:
أحدهما: ما لا يمكن التعبد به، لاختصاصه به سبحانه كالخالق والبارئ، والمصور والإله ونحو ذلك.
الثاني: ما يمكن التعبد به حسب الإمكان، والناس فيه رتب ودرجات.
وينبغي للعبد أن يقابل كل صفة من صفات الرب بأفضل ما يلائمها من المعاملات، فيقابل جلاله بأفضل المهابات، إذ لا جلال كجلاله، ويقابل جماله بأفضل المحبات إذ لا جمال كجماله.(1/309)
فإذا تعبدت بالإحسان، فأحسن إلى كل من تقدر على الإحسان إليه، بكل إحسان تقدر عليه، فإن قربك إلى مولاك على حسب ما تتعبد به من صفاته.
فالملك: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، والمُلك تصرف عام مقيد بالعدل والإحسان، في كل عطاء وحرمان، ونصر وخذلان، وخفض ورفع.
والتعبد به لمن بلي به:
يكون بتنفيذ أوامر الله عزَّ وجلَّ.. برفع من يستحق الرفع.. وخفض من يستحق الخفض.. وإكرام من يستحق الإكرام.. وإهانة من يستحق الإهانة.. وقهر من يستحق القهر.. وجبر من يستحق الجبر.. وإغاثة المكروب.. ونصر المظلوم.. وإطعام الجوعان.. وكسوة العريان.. وإعانة المحتاج.
فمن فعل ذلك ابتغاء وجه الله أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وكان من أهل البر والإحسان.
والقدوس: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو الطاهر من كل عيب ونقص.
والتعبد به: يكون بالتطهر من كل دنس وحرام، ومن كل مكروه ومشتبه، ومن كل فضل مباح شاغل عن الله سبحانه.
والسلام: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، إن أُخذ من السلامة من الآفات فلا تعبد به، لعدم إمكان ذلك، وإن أُخذ من تسليمه على عباده، فعليك بإفشاء السلام، وإن أُخذ من الذي سلم عباده من ظلمه، فالتعبد به يكون بأن يسلم الناس من ظلمك وغشك، وضررك وشرك، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
والمؤمن: من أسماء الله تبارك وتعالى.
والتعبد به: يكون بأن تظهر من برك وخيرك ما يأمن الناس به من شرك وضيرك، وأن تسعى لعباد الله في كل أمن.
والمهيمن: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: يكون بأن تقوم بالشهادة في كل ما نفع وضر، وساء وسر.
والجبار: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: إن أخذ من الجبر والإصلاح.
فالتعبد به أن تعامل عباده بكل خير وإصلاح تقدر عليه أو تصل إليه.
والمتكبر: من أسماء الله جل جلاله.
والتعبد به: إن أُخذ من تكبره على النقائص والآفات فهو كالقدوس، فتكبر عن كل خلق دنيء، ومظهر بذيء.(1/310)
والرؤوف الرحيم: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد بهما: يكون برحمة كل من قدرت على رحمته، بأنواع ما تقدر عليه من الرأفة والرحمة، حتى تنتهي رحمتك إلى الذر والذباب والبهائم، ففي كل كبد رطبة أجر.
والغفار: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: بستر عيوب الناس، وغفر ذنوبهم، والصفح عنهم.
والحليم: من أسماء الله تبارك وتعالى.
والتعبد به: أن تحلم عن كل من آذاك أو ظلمك وسبك وشتمك، فإن مولاك صبور حليم، بر كريم، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
والتعبد بالصبر: أن تصبر على أذية المؤذين، وإساءة المسيئين، فإن الله يحب الصابرين، فكن منهم لتفوز بثواب الصابرين.
والعفو: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: بأن تعفو عن كل من جنى عليك، أو أساء إليك، فإن الله يحب العافين عن الناس فكن منهم.
والمحسن: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: أن تحسن إلى الخلق بما تستطيع، كما أحسن الله إليك بكل خير.
والتعبد بصفة الإنعام: أن تنعم على الخلق كما أنعم الله عليك.
وعليك بالبر الجزيل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، والهجر الجميل، ونحو ذلك من صفات الملك الجليل.
فصل من قطعك.. وأعط من حرمك.. واعف عمن ظلمك.. واصبر على من شتمك.. وأحسن إلى من أساء إليك.
والقيوم: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: بإحسان تدبير من اعتمد بعد الله عليك، أو فوض الله أمره إليك، بإحسان رعايته، والقيام بمصالحه، وقضاء حوائجه.
والقهار: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي يقهر عباده على تنفيذ مراده.
والتعبد به: بأن تقهر نفسك عن كل شر، وتقهر عدوك عن الظلم، وتقهر نفسك عن كل قاطع يقطعك عن طاعة مولاك، وإصلاح أُخراك.
وثمرة معرفته: الخوف الشامل، والوجل الكامل.
والتعبد بصفة الانتقام لمن ابتلي بشيء من الولايات، بالانتقام من الجناة والبغاة بالحدود والتعزيرات، والعقوبات المشروعات.(1/311)
والتعبد بصفة العدل: أن يعدل فيما حكم به، مسوياً في حكمه بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، وأن ينصف في وصله وقطعه، وبذله ومنعه.
والتعبد بصفة الفتح: أن يعدل في جميع أحواله، ويبذل ما يقدر عليه من الأرزاق في رضا الخلاق.
والتعبد بصفة اللطف: يكون بخوفك ومهابتك وحيائك ممن لا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه شيء.
والتعبد بصفة الرفق: يكون بالرفق بكل من أمرت بالتعامل معه من إنسان وحيوان، والرفق بنفسك أن تضل أو تزل أو تهلك، والرفق في كل عمل تؤديه.
والتعبد بصفة الشكر: يكون بطاعة الله، وشكره على نعمه، وشكر كل من أحسن إليك في جلب خير، أو دفع شر.
والغني: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: يكون بأن تغني كل محتاج بما تقدر عليه من علم ومال وغيرهما، فتذكر الغافل، وتعلم الجاهل، وتطعم الجائع، وتواسي المحتاج، وتحلم على السفيه.
والحفيظ: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: يكون بحفظ ما أمرت به من الطاعات والأمانات والعهود.
والمقيت: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: بإقاتة كل محتاج تقدر على نفعه من قريب أو بعيد، أو قادر أو عاجز، مقدماً الأقرب فالأقرب، فكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
والحكيم: من أسماء الله سبحانه.
إن أُخذ من الحكمة فثمرة معرفته المهابة والإجلال.
والتعبد به: بمعرفة حكم الكتاب والسنة.
وإن أخذ من الإحكام والإتقان، فثمرة معرفته إجلال من عمت الأشياء حكمته.
والتعبد به: بإتقان أحوالك وأقوالك وأفعالك فيما يصلحك في عاجلك وآجلك.
والودود: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: بوداد مولاك، ومودة رسله، والصالحين من عباده.
والقوي: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
وثمرة معرفة قوة الله: مهابته وإجلاله، والاعتماد عليه.
والتعبد به: بأن تكون قوياً في دينك، قوياً شديداً على أعداء الدين، ملياً بطاعة مولاك، قوياً في تنفيذ أوامره.
والتواب: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.(1/312)
والتعبد به: بأن تحث المسيء على التوبة، وتقبل عذر من أساء إليك، وندم على جرأته عليك.
والولي: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
وثمرة معرفته: الاعتماد على تدبيره، والرضا بتقديره.
والتعبد بذلك لمن بلي بولاية: أن يجهد لمن تولي عليه، وينصح له بجلب ما يقدر عليه من المصالح، ودفع ما يقدر عليه من ا لمفاسد.
والبر: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
وثمرة معرفته: رجاء أنواع بره وإحسانه.
والتعبد به: بأن تبر كل من تقدر على بره، بأحب أموالك إليك، وأنفسها لديك، وتخالق الناس بخلق حسن.
والتعبد بصفة الضر والنفع: يكون بنفع كل من أمرت بنفعه، وضر كل من أمرت بضره بحد أو قتل أو غيره من إنسان وحيوان، وصالح وطالح، وناطق وصامت.
والتعبد بصفة القبض والبسط: تكون بأن تبسط برك ومعروفك على كل محتاج، حتى على الدواب والكلاب والذر، ففي كل كبد رطبة أجر.
وتقبض عن كل أحد ليس له أهلٌ، من مال وولاية، وعلم وحكمة، فالسفيه يتلف الأموال، والأخرق يفسد النظام.
والوهاب: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: يكون بكثرة الهبات والصلات، مقدماً الأقرب فالأقرب، والأنفع فالأنفع، والصدقة على القريب صدقة وصلة.
والكريم: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: يكون بأن تجود بكل ما تقدر عليه من مال وجاه، وعلم وحكمة، وبر وإحسان، وتتكرم بذلك على خلق الله، ولا ترجو به إلا ثواب الله ورضاه.
والمجيب: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: يكون بإجابة مولاك فيما دعاك إليه من قرباته، وبإجابة كل داع إلى ما يرضي مولاك من طاعة وعبادة.
والمجيد: من أسماء الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي كمل شرفه، وتم كماله وجلاله، في ذاته وأسمائه وصفاته.
وثمرة معرفته: المهابة والإجلال لذي الجلال والإكرام.
والتعبد به: يكون بما يمكن التعبد به مما سبق ذكره، فإنه شامل لجميع الصفات.
والحق: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.(1/313)
والتعبد به: يكون بمتابعة الحق، وأن تكون من أهل الحق بكل حال، وأن تدعو للحق ما بقيت.
والهادي: من أسماء الله عزَّ وجلَّ.
والتعبد به: أن تكون هادياً إلى صراط الله المستقيم، وداعياً إلى الله، وإلى دينه وشرعه.
وهكذا في باقي الأسماء والصفات.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
تقديم ... 2
المقدمة ... 4
الباب الأول ... 29
فقه أسماء الله وصفاته ... 30
1- فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته ... 30
2- فقه عظمة الرب ... 32
3- فقه قدرة الرب ... 43
آيتان خلاف العقل والمألوف: ... 52
4- فقه رحمة الرب ... 72
5- فقه علم الرب ... 86
6- فقه جمال الرب ... 98
7- فقه أسماء الله الحسنى ... 105
الله... جل جلاله ... 107
الرحمن ... 111
الملك ... 117
القدوس ... 123
السلام ... 124
المؤمن ... 126
المهيمن ... 127
العزيز ... 129
الجبار ... 131
الكبير ... 133
الخالق ... 136
البارئ ... 139
المصور ... 140
الغفور ... 141
القاهر ... 144
الوهاب ... 146
الرزاق ... 149
الفتاح ... 153
العليم ... 156
السميع ... 161
البصير ... 163
الحكيم ... 165
اللطيف ... 168
الخبير ... 170
الحليم ... 171
العظيم ... 175
الشكور ... 178
العلي ... 181
الحفيظ ... 183
الرقيب ... 187
المقيت ... 190
الشهيد ... 192
الحاسب ... 194
الكريم ... 196
الواسع ... 200
المجيد ... 201
الرب ... 202
الودود ... 205
الحق ... 207
المبين ... 209
الوكيل ... 211
الكفيل ... 213
القوي ... 214
المتين ... 217
الولي ... 218
الحميد ... 220
الحي ... 224
القيوم ... 226
الواحد ... 228
الصّمد ... 230
القادر ... 232
الأول ... 234
الآخر ... 236
الظاهر ... 237
الباطن ... 239
البر ... 241
التواب ... 244
العفو ... 249
الرؤوف ... 251
الغني ... 253
الهادي ... 255
النور ... 258
البديع ... 260
الفاطر ... 261
المحيط ... 263
القريب ... 264
المستعان ... 266(1/314)
المجيب ... 268
الناصر ... 269
الوارث ... 272
الغالب ... 273
الكافي ... 274
ذو الجلال والإكرام ... 275
ذو العرش ... 277
ذو المعارج ... 278
ذو الطول ... 280
ذو الفضل ... 281
الرفيق ... 283
الشافي ... 284
الطيب ... 286
السبوح ... 287
الجميل ... 288
الوِتر ... 290
المنان ... 291
الحيي ... 293
الستير ... 295
الديان ... 296
المحسن ... 297
السيد ... 299
المقدم والمؤخر ... 300
القابض والباسط ... 302
8- فقه صفات الله وأفعاله ... 305
9- فقه أحكام الأسماء والصفات ... 329
10- فقه التعبد بأسماء الله وصفاته ... 351(1/315)
موسوعة فقه القلوب (2)
الباب الثاني
فقه الخلق والأمر
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثاني
فقه الخلق والأمر
1- فقه الخلق والأمر
قال الله تعالى: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
وقال الله تعالى: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].
وقال الله تعالى: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [السجدة: 5-7].
الله تبارك وتعالى هو الخالق، الذي خلق المخلوقات، وصور الكائنات، وأوجد الموجودات كلها، في العالم العلوي، وفي العالم السفلي.
وهو سبحانه الكامل في ذاته، الكامل في أسمائه وصفاته، ولا يكون عن الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا الفعل المحكم، والصنع المتقن.
وهو سبحانه الخالق الذي خلق كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه وأتقنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النمل: 88].
وهو سبحانه الذي خلق عباده حنفاء على الفطرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ» متفق عليه(1).
وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: «.. خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا » أخرجه مسلم(2).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1385)، واللفظ له، ومسلم برقم (2658).
(2) أخرجه مسلم برقم (2865).(2/1)
فخلق الله عزَّ وجلَّ العباد حنفاء، ولكن الشياطين أخرجوهم عن سنن الحنيفية، وأفسدوا فطرهم وقلوبهم بالشرك والمعاصي، فأرسل الله الأنبياء بسنن الهدى رحمةً بالبشر.
وبالأضداد والأغيار يخرج من شاء الله من المخلوقات عن سنن الإتقان والحكمة، ولولا ذلك لكانت في مرتبتها كالمولود يولد على الفطرة.
فالماء خلقه الله طاهراً مطهراً، ولكن بمخالطته أضداده من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه، وخرج عن الخلقة التي خلقه الله عليها، فكانت تلك النجاسات والأقذار بمعنى أبوي الطفل اللذان يفسدان فطرته.
وكما أن الماء إذا فسد بمخالطته النجاسات والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك الآدمي إذا فسد بالأغيار لم يصلح لمجاورة الرب ودخول الجنة.
والأغذية والفواكه الطيبة إذا خالطت باطن الحيوان خرجت عن حالتها التي خلقت عليها، واكتسبت بهذه المخالطة والمجاورة خبثاً وفساداً لم يكن فيها، لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها.
ولما أنزل الله الماء طاهراً نافعاً فمازج الأرض، وسالت به أوديتها، أوجد الله سبحانه بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواعاً من الثمار والفواكه، والزروع والعنب، والنخيل والزيتون، وسائر الأغذية والأقوات، وأوجد مع ذلك المر والحنظل والشوك وغير ذلك، فاللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة.
والله عزَّ وجلَّ يصرف ما أخرجه من هذا الماء بحكمته، ويقلبه ويحيل بعضه إلى بعض، وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى.
ألا ما أعظم الله، وما أعظم قدرته، وما أعظم آياته ومخلوقاته.
ففي خلق السماء آيات وعبر: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [آل عمران: 190].
وفي خلق الأرض آيات وعبر: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 4].(2/2)
فالله عزَّ وجلَّ يقلب الليل والنهار، ويقلب ما فيهما، ويقلب أحوال العالم من حر وبرد، ونور وظلام، ورطب ويابس، وحركة وسكون، يفعل ذلك كله كما يشاء، ويسلك بذلك مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده، ويظهر ملكه وحكمته وعزته وقدرته: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
والقرآن الكريم عمدته وأصله ومقصوده تحقيق العبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له، ومن أجل ذلك بين الله في القرآن أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، وأفعاله، وأنواع خلقه، وأنواع حمده، والثناء عليه.
وأظهر كمال قدرته، وعظمته، وعزته وقدرته، وأنواع صنعه.
وتقدم إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله وأنبيائه.
فأخبر عن الكافرين والمكذبين، وذكر ما أجابوا به رسلهم، وما قابلوا به رسالات ربهم، ووصف كفرهم وعنادهم، وكيف كذبوا على الله، وكذبوا رسله، وردوا أمره، فدمرهم الله بألوان العذاب.
فكان ذلك دليلاً على عظمة الرب، وكمال قدرته، وقهره لأعدائه، ونصره لأوليائه.
وكان موقع هذا من خلقه موقع تعظيمه وإجلاله، وتسبيحه تعالى وتنزيهه، وحمده والثناء عليه بما يليق بجلاله.
ومن تمام حمده، تسبيحه وتنزيهه عما وصفه به أعداؤه، والجاهلون به مما لا يليق به من الصاحبة والولد، والفقر والتعب، والشرك، ونفي صفات الكمال عنه، وغير ذلك مما نزه عنه نفسه، وسبح به نفسه.
وكان في ذلك ظهور حمده بخلقه، وتنوع أسبابه، وكثرة شواهده، وسعة طرق الثناء عليه به، وتقرير عظمته، ومعرفته في قلوب عباده.
فسبحان العليم الخبير، الحكيم في خلقه وأمره، فلولا معرفة الأسباب التي يسبح وينزه ويتعالى عنها، وخلق من يضيفها إليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه، وعن ماذا ينزهونه.(2/3)
فلما رأوا في خلقه من قد نسب إليه ما لا يليق به.. ونسبه إلى ما لا يليق به.. وجحد من كماله ما هو أولى به.. سبحوه حينئذ تسبيح مجل له.. معظم له.. منزه له عن أمر قد نسبه إليه أعداؤه.. والجاهلون بأسمائه وصفاته.
فنفي الألوهية عما سوى الله، من تمام التوحيد وكماله وظهور أعلامه.
وتكذيب أعداء الرسل لهم، وردهم ما جاؤوهم به، كان من الأسباب الموجبة لظهور صدق الرسل، ودحض حجج أهل الباطل، وتقرير طرق الرسالة، وإيضاح أدلتها، فإن الباطل كلما ظهر فساده وبطلانه، أسفر وجه الحق، واستنارت معالمه، ووضحت سبله، وسهل اتباعه.
وكسر الباطل ودحض حججه من أدلة الحق وبراهينه.
فتأمل حكمة العزيز العليم، كيف اقتضى الحق وجود الباطل؟.
وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل؟.
وكيف كان كفر أعداء الرسل بهم، وتكذيبهم لهم، من تمام صدق الرسل، وثبوت رسالات الله، وقيام حججه على العباد؟.
فلو أن ملكاً له عبد قد توحد في العالم بالشجاعة والبسالة، والناس بين مصدق ومكذب، لأنه لم يقابل الشجعان، ولو بارز الأقران، وقابل الشجعان لظهر أمره، فلما سمع به شجعان العالم وأبطالهم قصدوه وأتوه من كل قطر.
فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة، فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته، وقال: دونكم إياه، وشأنكم به.
فتسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه، إنما هو لإعلاء شأنه، وإظهار شجاعته في العالم، وتخويف أعدائه به، وقضاء الملك أو طاره به.
وكما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته، فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته، وظهور عجزهم وخزيهم، وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه.
فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته، وعدل بها عنهم، كان ذلك مقتضى حكمة الملك، وحسن تصرفه في ملكه، وأنه لو استعملهم في تلك المهمات، لتشوش أمر المملكة، وحصل الخلل والفساد، والله أعلم بالشاكرين.(2/4)
فخلق الأسباب المضادة للحق، وإظهارها في مقابلة الحق، من أبين دلائله وشواهده.
والله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض، وسائر المخلوقات، من أجل أن يعرف، ومن أجل أن تعرف أسماؤه وصفاته، وتعرف عظمة قدرته، وسعة علمه، ويعرف جلاله وكبرياؤه، وتعرف آلاؤه وإحسانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
فسيد السموات السماء التي فوقها العرش، وسيد الأرضين الأرض التي نحن عليها.
وفي كل سماء، وفي كل أرض:
خلق من خلقه سبحانه.. وأمر من أمره.. وقضاء من قضائه.
في كل مكان.. وفي كل زمان.. وفي كل حال.. ولكل مخلوق.
ألا ما أجهل الخلق بربهم.. وما أجهلهم بالسلعة وثمنها.
واحسرتاه، إلى متى يتلبط الإنسان في الوحل كالدود لاهياً معرضاً عن ربه؟.
ومتى يشد العبد ركائبه إلى الرحمن، وإلى جنة الرضوان؟.
وأين السامع والمجيب قبل الرحيل إلى دار الخلود؟.
(گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الحديد: 21].
والله عزَّ وجلَّ هو الخلاق العليم، والخلق كله فلق:
والله عزَّ وجلَّ فالق الإصباح.. فلق الظلام فظهر الصبح.. وفلق الحب والنوى فظهر منه أنواع الزروع والأشجار.. وفلق الأرض فظهر منها أنواع النبات.. وفلق الجبال فظهر منها أنواع العيون.. وفلق السحاب عن المطر.. وفلق الأرحام عن الأجنة.. وفلق ظلام الباطل بالحق.. كما فلق ظلام الليل بالإصباح.. فهو حقاً رب العالمين.. ورب الفلق.. وله وحده الخلق والأمر.
وللكون أوامر من الرب.. وللإنسان أوامر من الرب.
2- فقه أوامر الله الكونية والشرعية
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [البينة: 5].
وقال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [النحل: 90].(2/5)
الله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، الذي خلق جميع المخلوقات في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وجميع مخلوقاته أثر من آثار خلقه وقدرته، وهو القادر على كل شيء، فلا يستعصي عليه شيء أراد خلقه، أعطى جميع المخلوقات الوجود والشكل، والوظائف والأوامر.
وهو سبحانه الملك، المالك لكل شيء، الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له، وعبيد مسخرون مدبرون بأمره.
يتصرف فيهم سبحانه بأوامره القدرية.. وأوامره الشرعية.. وأوامره الجزائية: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 83].
والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق المخلوقات كلها، وهذه المخلوقات كلها تحتاج إلى أوامر.
والذي ينزل من الله عزَّ وجلَّ من الأوامر نوعان:
أوامر كونية.. وأوامر شرعية.
وأوامر الله الكونية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أمر الإيجاد، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالإيجاد والخلق والتكوين.
وبسببه أوجد الله الكون وما فيه من المخلوقات كالعرش والكرسي، والسماء والأرض، والملائكة والروح، والشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والجماد والنبات، والإنسان والحيوان، وغير ذلك من المخلوقات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].
الثاني: أمر البقاء، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء.
وبسببه تبقى الكائنات كلها بأمر الله، ولولا أمر الله بالبقاء لزالت جميع الكائنات كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 25].
الثالث: أمر الحركة والسكون، والحياة والموت، والنفع والضر... إلخ، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات، فجميع المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ) [يونس: 22].(2/6)
وقال الله تعالى: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 26-27].
وجميع المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بأمره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الأعراف: 188].
والإحياء والإماتة بيد الله، فلا يحصل منها شيء إلا بأمره: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [غافر: 68].
وهذه الأوامر الإلهية لا بد من وقوعها كما أراد الله، فالله لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، سبحانه هو الواحد القهار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس:82].
وأما الأوامر الشرعية فهي الدين: وهو موجه من الله إلى الثقلين: الإنس والجن، ويتم ذلك بواسطة الأنبياء والرسل.
والأوامر الشرعية خمسة أقسام هي:
الإيمان.. العبادات.. المعاملات.. المعاشرات.. الأخلاق.
ومن الناس من يقبله فيسعد في الدنيا والآخرة، ومنهم من لا يقبله فيشقى في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 38، 39].
وهذا الدين محفوظ إلى يوم القيامة بحفظ الله، وللحصول على أعلى مراتبه لا بد من المجاهدة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [العنكبوت: 69].
وأوامر الله الشرعية نوعان:
الأول: أوامر محبوبة للنفس، كالأمر بالأكل من الطيبات، ونكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وصيد البر والبحر ونحو ذلك.
الثاني: أوامر مكروهة للنفس الأمارة بالسوء، وهي نوعان:
أوامر خفيفة، كالأدعية والأذكار، والصلوات وتلاوة القرآن، والسنن والآداب ونحوها.
أوامر ثقيلة، كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.(2/7)
والإيمان يزيد بامتثال الأوامر الخفيفة والثقيلة معاً، والقيام بالأعمال الانفرادية والاجتماعية معاً، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوباً، وصار الثقيل خفيفاً، وتحقق مراد الله من العبد بالدعوة والعبادةلربه، واطمأن بذلك قلبه، وتحركت بذلك جوارحه.
ومقصود الإيمان عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب عبادة ما سواه.
ويتم ذلك بتغيير اليقين من المخلوق إلى الخالق الذي بيده كل شيء.. وتغيير العواطف من المخلوق إلى الخالق.. وتغيير الفكر من الدنيا إلى الآخرة.. ومن الأموال والأشياء إلى الإيمان والأعمال الصالحة.. وتغيير العمل من الدنيا إلى الدين، ومن المعاصي إلى الطاعات.. ومن محبوبات النفس إلى محبوبات الرب.
فالأوامر الشرعية أنزلها الله إلى الثقلين: الإنس والجن، وهي الدين، وهذه الأوامر تنزل من ذات الله إلى العباد، والأعمال تصدر من ذات النفس.
فإذا تطابقت الأعمال البشرية مع الأوامر الإلهية سعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
وإذا خالفت أعمال العباد أوامر الله الشرعية شقي الإنسان في الدنيا والآخرة.
وفي كل يوم، بل في كل ثانية، بل في كل لحظة يصدر من ذات الله ما لا يحصيه إلا الله، ولا يعلمه إلا الله من مليارات الأوامر الإلهية:
أوامر الخلق والإيجاد.. وأوامر البقاء.. وأوامر النفع والضر.. وأوامر التصريف والتدبير.. وأوامر التغيير والتبديل.. وأوامر الحياة والموت.. وأوامر العافية والمرض.. وأوامر العطاء والمنع.. إلخ.
وفي كل يوم، بل وفي كل ثانية، بل في كل لحظة يصدر من العباد ما لا يحصيه إلا الله من الأقوال والأعمال.. والطاعات والمعاصي.. والحسنات والسيئات.. وكل ذلك بإذن الله عزَّ وجلَّ.. والكل معلوم لعلاّم الغيوب.
وأوامر الله الشرعية تامة كاملة، وهي متعلقة بجميع أحوال العباد، والله يحب أن يطاع وتمتثل أوامره في جميع الأحوال من جميع العباد.
فالملك ملكه.. والخلق خلقه.. والأمر أمره.(2/8)
والعبد ليس له عمل إلا طاعة سيده ومولاه، الذي أفاض عليه من نعمه بما لا يحصى، ووعده إن أطاعه بالدار الحسنى، وإن عصاه بنار تلظى.
وأوامر الله الكونية والشرعية متعلقة بجميع أحوال الإنس والجن، وأوامر الله الكونية متعلقة بجميع المخلوقات.
فكل ذرة في هذا الكون العظيم لها أوامر من ربها.. أمر بالإيجاد.. وأمر بالبقاء.. وأمر بالنفع والضر.. ولله حكمة في خلقها.. وكلها مملوكة في قبضة الله.
والإنسان مأمور أن ينظر إلى المخلوقات التي خلقها الله في هذا الكون ولا يتعلق بها، بل يتجاوزها إلى خالقها.
فينظر إلى الصور ويتجاوزها إلى المصور سبحانه، وينظر إلى المخلوقات العجيبة ويتجاوزها إلى الخالق سبحانه، وذلك حتى لا تأتي عظمتها في القلوب مكان عظمة الله، الذي يستحق التعظيم الكامل وحده لا شريك له، ولا تأتي محبتها مكان محبة الله، الذي يستحق المحبة الكاملة وحده لا شرك له.
وينظر في ملكوت السموات والأرض نظر تفكر واعتبار لا نظر تفرج ولهو. فكل ينظر إلى الشجرة الكبيرة، الغافل ينظر إلى جمالها، ولا يذكر الجميل الذي زينها، والنجار ينظر إلى خشبها، والطبيب ينظر إلى الدواء الذي فيها، والمزارع ينظر إلى ثمرتها، والمؤمن ينظر إلى عظمة خالقها، فهذا أعظم الناس نظراً وفكراً واعتباراً: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [يونس: 101].
وقد أنزل الله الدين الكامل، الشامل لجميع أحوال العباد كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة:3].
فلله عزَّ وجلَّ أوامر يحب أن تمتثل عند الوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من العبادات.
ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا بوجود الأهل والزوجة والأولا د.
ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في التجارة والبيع والشراء وسائر المعاملات.
ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في الزراعة والصناعة ونحوها.
ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في ساحات الجهاد، وحلق الذكر، ومجالس العلم.(2/9)
ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في حال الغنى والفقر، أو الصحة والمرض، أو الحياة والموت، أو السلم والحرب.
ولله أوامر يجب أن تمتثل في حال الرضا والغضب، وفي حال الفرح والحزن، وفي حال الرخاء والشدة.
ولله أوامر يجب أن تمتثل في حال الإقامة، وحال السفر، وعند الأكل والشرب، وفي حال اليقظة، وفي حال النوم.
ولله أوامر يجب أن تمتثل في البيوت، وفي الأسواق، وفي المساجد، وفي المجالس.
ولله أوامر يجب أن تمتثل عند الزواج، وعند المعاشرة، وعند الولادة، وحال الأمن، وحال الخوف.
ولله أوامر على السمع والبصر، والقلب والبدن، وسائر الجوارح.
فهذه الأوامر وغيرها مما أمر الله ورسوله به هي الدين الذي يحبه الله ويرضاه، ويحب من قام به، وهو الدين الذي يجب على الإنسان قبوله والعمل به، والدعوة إليه، ليسعد في الدنيا والآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 71].
والناس في الدنيا نوعان:
مسلم له أوامر.. وكافر له أوامر.. وغني له أوامر.. وفقير له أوامر.. وقوي له أوامر.. وضعيف له أوامر.. وصحيح له أوامر.. ومريض له أوامر.. وكبير له أوامر.. وصغير له أوامر.. وبصير له أوامر.. وأعمى له أوامر.. ورجل له أوامر.. وامرأة لها أوامر.. وحي له أوامر.. وميت له أوامر.. ومقيم له أوامر.. ومسافر له أوامر.. ومتزوج له أوامر.. وأعزب له أوامر.. وخليفة له أوامر.. ورعية لها أوامر.. وهكذا، والنتائج يوم القيامة.
والله عزَّ وجلَّ أمر بكل خير، ونهى عن كل شر، وأحل ما ينفع، وحرم ما يضر، وأمر بالحق، ونهى عن الباطل: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [النحل: 90].
وما أمر الله به العباد نوعان:
أحدهما: باطن في القلب كالتوحيد والإيمان، والإخلاص واليقين، وحب الله ورسوله ودينه وأوليائه، والتوكل على الله، والخوف منه، وخشيته ورجائه.(2/10)
الثاني: ظاهر على الجوارح، وهي الأقوال والأعمال المأمور بها، وهي لا تقبل إلا بعمل القلب، وإرادة وجه الله بها، وأدائها كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم كالوضوء والغسل، والصلاة وسائر العبادات، فهذه وإن كانت أقوالاً وأفعالاً إلا أن القلب أخص بها.
والله تبارك وتعالى شرف هذه الأمة وأكرمها بالدين، وبالدعوة إلى الدين.
فالاستقامة على الدين أولاً.. ثم دعوة الناس إليه ثانياً.
والكفار يعرض عليهم الإسلام فإما أن يسلموا.. أو يصغروا.. أو يدمروا.
وإذا ترك العبد أوامر الله الانفرادية، جاءت عليه مصيبة انفرادية.
وإذا تركت الأمة أوامر الله الاجتماعية، جاءتها عقوبة اجتماعية.
وإذا أقام العبد أوامر الله الانفرادية، جاءت النصرة الانفرادية.
وإذا أقيمت أوامر الله الاجتماعية، جاءت النصرة الاجتماعية.
ففرعون ترك أمر الله واستكبر وعلا، فادعى الألوهية والربوبية، وأضل قومه فجاءت عقوبة الله عليه، وعلى قومه وجيشه، وكل من اتبعه، فأهلكوا بالغرق، ولهم أشد العذاب يوم القيامة.
وقارون ترك أمر الله الانفرادي، فجاءت المصيبة انفرادية عليه وعلى ماله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [القصص: 81].
فأوامر الله الانفرادية علينا جميعاً كالإيمان، والصلاة، والصيام، والزكاة لمن له مال، والحج على المستطيع، فإذا ترك الإنسان شيئاً من ذلك، جاءت المصيبة انفرادية على العبد وحده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 30].
والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، أوامر اجتماعية من الله على هذه الأمة، فإذا تركتها الأمة جاءت المصيبة على الأمة جميعاً كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 78، 79].(2/11)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» أخرجه أحمد والترمذي(1).
والله جل جلاله خلق الأسباب، وأنزل الأوامر، وأمر بامتثال الأوامر، وفعل الأسباب، وجعل سعادة الإنسان فقط بالإيمان والتقوى.
والتقوى: هي ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، وهي الأمر المتوجه من الله إليَّ بالفعل أو الترك، أفعله على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم .
فمثلاً، إذا أصابني صداع في الرأس، أنظر أمر الله أو أمر رسوله فيه، وأفعل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمي ثلاثاً ثم أقول سبع مرات: «أعوذ بِا? وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أجِدُ وَأحَاذِرُ» أخرجه مسلم(2).
ثم أفعل الأسباب من دواء مباح، فإن ذهب الصداع فأنت في الفوز والفلاح، لأنك فعلت السبب، وامتثلت الأمر، وإن لم يذهب الصداع فكذلك أنت في الفوز والفلاح، لأنك امتثلت أمر الله ورسوله.
فلا نتوجه عند المرض للدواء مباشرة، بل نتوجه إلى الله الشافي أولاً، والأسباب آخر شيء، أمر الله ثم أمر الرسول وفعله، ثم فعل السبب المباح، هذا هو الترتيب الصحيح لطلب الشفاء.
وإن تناولت الدواء مباشرة ثم ذهب الصداع فهذا ابتلاء من الله لإيمان العبد، وإن لم يذهب الصداع فيتوجه إلى الله، وكلما توجه العبد إلى الله في حاجة، فإما أن يقضي حاجته فوراً، وإما أن يؤخرها ليكثر من الدعاء، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم منها، وإما أن يؤخرها له إلى يوم القيامة.
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (23301).
وأخرجه الترمذي برقم (2169)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1762).
(2) أخرجه مسلم برقم (2202).(2/12)
وكلما توجه الإنسان إلى الله قضى حاجته، وكلما نفى المخلوق أياً كان يومياً سخره الله له.. وحفظه منه.. وأخرج اليقين عليه.. وحفظه، لا يعبده ولا يتوجه إليه.
والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر في جميع مخلوقاته:
خلق الشمس وأمدها بالحركة والإنارة والحرارة.. وخلق البحر وأمده بالسيولة والملوحة.. وخلق النبات وأمده بالنمو والتكاثر والثمرات... وخلق الحيوان وأمده بالنمو والتكاثر والحركة.. وخلق الإنسان وأمده بالنمو والتكاثر، والعقل والحركة.. وخلق الدماغ وأمده بالعقل.. وخلق العين وأمدها بالبصر.. وخلق اللسان وأمده بالكلام.. وخلق الأذن وأمدها بالسمع.. وخلق الأنف وأمده بالشم.
وخلق الليل والنهار وجعل لهما أوامر.. وخلق الشمس والقمر وجعل لهما أوامر.. وخلق الحرارة والبرودة وجعل لهما أوامر.. وخلق الصحة والمرض وجعل لهما أوامر.. وهكذا.
فالله خالق كل شيء، وبيده أمر كل شيء: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ?) [هود: 123].
والله تبارك وتعالى خلق المخلوقات، وكلماته التامات هي التي كون بها الأشياء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس:82].
فهذه الكلمات لا يجاوزها بر ولا فاجر.. ولا يخرج أحد عن القدر المقدور.. ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
فالكلمات نوعان:
إحداهما: كلمات يكون الله بها الكون، وهي المتضمنة لخلقه وتدبيره لهذا الكون، وما فيه من المخلوقات.
والأخرى: كلمات دينية، المتضمنة لأمره ونهيه كالكتب الإلهية التي أنزلها الله على رسله كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن.
فكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر ليست هي أمره ونهيه الشرعيين، فإن الفجار عصوا أمره ونهيه.
بل هي التي كون بها الكائنات، ودبر بها المخلوقات، وقهر بها أهل العقوبات.
فسبحانه الواحد القهار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 117].
فأوامر الله نوعان:(2/13)
الأول: أمر كوني لا بد من وقوعه ولا يمكن لأحد رده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
والثاني: أمر ديني شرعي، يأمر الله به عباده عن طريق رسله، فمنهم من يؤمن به، ومنهم من يخالفه كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [النحل: 90].
والأمر الكوني القدري، والأمر الديني الشرعي، كله لله، فلا خالق ولا مدبر لهذا الكون إلا الله وحده لا شريك له، ولا مشرع للعباد إلا ربهم وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 154].
والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، خلق المخلوقات كلها، وأحسن تصويرها، وأحاط بكل شيء علماً، وهو أحكم الحاكمين، وضع كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه، وجعل له من الأوامر ما يناسبه، ويحقق الانتفاع به.
فوضع قوة النور في الشمس.. وقوة الإنبات في الأرض.. وقوة البصر في العين.. وقوة السمع في الأذن.. وقوة الشم في الأنف.. وقوة البطش في اليد.. وقوة النطق في اللسان.. وقوة المشي في الرجل.. وخص كل حيوان وغيره بما يليق به.. ويحسن أن يعطاه.. وشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النمل: 88].
ودين الأنبياء والرسل وأتباعهم دين الأمر، فهم يدينون بأمر الله الشرعي، ويؤمنون بقدره الكوني.
وأعداء الله واقفون مع القدر الكوني، فحيث ما مال القدر مالوا معه، فدينهم دين القدر، فهم يعصون أمره، ويحتجون بقدره، ويقولون نحن واقفون مع مراد الله وقدره.
فهل فوق هذا من جهل؟، وهل بعد هذا من ضلالة؟: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 35].
وإذا أمر الله عزَّ وجلَّ عبده بأمر وجب عليه فيه ثماني مراتب:
الأولى: العلم به. ... الخامسة: أداؤه خالصاً صواباً.
الثانية: محبته. ... السادسة: عدم فعل ما يحبطه.
الثالثة: العزم على فعله. ... السابعة: الثبات عليه.(2/14)
الرابعة: عدم العمل به. ... الثامنة: نشره والدعوة إليه.
ولا بد في جميع أوامر الله من أصلين:
فعل ما أمر الله ورسوله به.. واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه.
ثم على كل عبد أن يتوب ويستغفر من تفريطه في المأمور، واقترافه للمحظور، ويختم جميع أعماله بالاستغفار.
والله تبارك وتعالى خلقنا لأربعة أمور:
الأول: العبادة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الذاريات: 56].
الثاني: الدعوة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [يوسف: 108].
الثالث: التعلم والتعليم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [آل عمران: 79].
الرابع: الخلافة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [النور: 55].
وإذا كان الله عزَّ وجلَّ قد أتقن خلقه غاية الإتقان.. وأحكمه غاية الإحكام.. وأحسن كل شيء خلقه.. فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى.. فشريعة الله لعباده في غاية الإتقان والإحكام، لا تفرق بين متماثلين، ولا تسوي بين مختلفين.. ولا تحرم شيئاً إلا لما فيه من المفسدة.. ولا تبيح شيئاً إلا لما فيه من المصلحة: (? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 50].
وأوامر الله عزَّ وجلَّ تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون الفعل المأمور به مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، كما يُعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم مشتمل على فساد العالم.
الثاني: أن الله إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً.
الثالث: أن يأمر الله العبد بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه؟.
ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه إسماعيل، فلما أسلما وتله للجبين، حصل المقصود من قوة الامتثال والطاعة، فداه الله بذبح عظيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [الصافات: 103-107].(2/15)
والله تبارك وتعالى منَّ على عباده بهذا الدين العظيم، والقرآن المجيد، والرسول الكريم، والهدي المستقيم.
فإن قيل فأي حكمة في تكليف الثقلين، وتعريضهم بذلك للعقوبة، وأنواع المشاق والمكاره..؟.
قيل: إن الله خلق المخلوقات، وجعل لها سنناً تسير عليها، فالشمس لها سنة، والقمر له سنة، والليل له سنة، والنهار له سنة، والنبات له سنة، والحيوان له سنة، والرياح لها سنة، والبحار لها سنة.
وكذلك الإنسان مخلوق من مخلوقات الله، محتاج إلى سنة يسير عليها في جميع أحواله، ليسعد في الدنيا والآخرة، وهذه السنة هي الدين الذي أكرمه الله به ورضيه له، وسعادته أو شقاوته مبنية على مدى تمسكه به، أو إعراضه عنه، وهو مختار في قبوله أو رده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ) [الكهف: 29].
وكذلك لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثاً وسدى، والله يتعالى عن ذلك، وقد نزه نفسه عنه، كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 115].
ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى مضاد للحكمة، فإنه خلق لغاية كماله، وكماله أن يكون عابداً لربه، محباً له، مطيعاً له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [الذاريات: 56].
وهذه المعرفة.. وهذه العبودية.. هما غاية الخلق والأمر.. وهما أعظم كمال الإنسان.
والله عزَّ وجلَّ من عنايته بالإنسان ورحمته له عرضه لهذا الكمال، وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة، ومكنه منها.
ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان، وما يتضمنه ذلك من اتصاف العبد بكل خلق جميل، وإتيانه بكل فعل جميل، وقول سديد، واجتنابه لكل خلق سيئ، وترك كل فعل قبيح.
وذلك كله متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، والإحسان إلى الخلق مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم، ومجاورة ربه في دار البقاء.
فأي الأمرين أليق بالحكمة..؟.(2/16)
هذا التكليف والتشريف.. أو إرساله هملاً كالخيل والبغال والحمير.. يأكل ويشرب وينكح.. ويفعل ما شاء كالبهائم.
وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنه؟.
وكيف تكون حاله لو لم يرسل الله الرسل إليه، وينزل الكتب عليه، ويشرع الشرائع له..؟.
وهل عرف الله حقاً من جوز عليه خلاف ذلك..؟.
بل ذلك من سوء الظن بالله، نعوذ بالله من ذلك: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?) [الأنعام: 91].
آهٍ لمشتت القلب والعقل.. أيليق بالعزيز الكريم أن يترك الإنسان سدى يتردى في أودية الهلاك تائهاً سكراناً من بين الخلائق..؟ ويموت لا ذاكراً ولا شاكراً..؟.
أيصح هذا..؟، أيعقل هذا..؟، أيليق به هذا..؟.
إن الله أكرم الإنسان، وفضله على غيره، وزوده بالعقل، وأنعم عليه بالدين، حتى يعيش سعيداً، ويصل إلى ربه في أحسن الأحوال، وأجمل الصفات، ويستقبل هناك بالإكرام، حتى يستقر في جنة الخلد حيث النعيم المقيم: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 68-72].
إن الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته وكمال حكمته أجرى على العباد ثلاثة أوامر، وبها يتم كمالهم، وتتحقق سعادتهم:
الأول: الأمر الكوني القدري بإيجادهم.
الثاني: الأمر الديني الشرعي في دنياهم.
الثالث: الأمر الجزائي في أخراهم.
ونقلهم سبحانه من دار إلى دار.. ومن حال إلى حال.. حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم بما عملوا.. ثم يستقروا في دار القرار.. في الجنة أو النار.
فيا له من دين ما أحسنه.. ويا لها من شريعة ما أكملها.. ويا لها من أحكام ما أعدلها.. وأين يذهب الناس عن هذا؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 83].(2/17)
إن حسن التكليف في العقول، كحسن الإنعام والإحسان إلى العباد، بل هو أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سماه الله نعمة ومنّة، وفضلاً ورحمة، وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار، وبين الناس والأنعام كما قال سبحانه: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [يونس: 58].
والله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، وهو الحكيم الخبير، له الخلق والأمر، والملك ملكه، والعباد عباده، وهو أعلم بما ينفعهم ويصلحهم.
يرسل الملائكة بأمره.. ويرسل الأنبياء والرسل بدينه وشرعه إلى خلقه.. ويرسل الرياح بأمره.. ويرسل السحاب فيسوقه حيث شاء.. ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء.. ويصرفها عمن يشاء.
وإرسال الله نوعان:
الأول: إرسال دين يحبه الله ويرضاه، كإرسال أنبيائه ورسله بدينه وأوامره إلى خلقه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النحل: 36].
الثاني: إرسال كون وهو نوعان:
إرسال يحبه الله ويرضاه، كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه.
وإرسال لا يحبه الله، بل يسخطه ويبغضه، كإرسال الشياطين على الكفار المعاندين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [مريم: 83].
3- خلق الله للكون
قال الله تعالى: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 29].
الله تبارك وتعالى هو رب العالمين، وهو الخلاق العليم، الذي خلق هذا الكون العظيم، وما فيه من المخلوقات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده.
خلق الله العرش والكرسي، وخلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، وخلق الملائكة والروح، وخلق النبات والحيوان، وخلق الإنس والجن، وخلق الجبال والبحار، وخلق الماء والنار، وخلق كل شيء، وقدر خلق كل شيء، وأحسن خلق كل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 11].(2/18)
وإذا تأمل الإنسان هذا العالم بعين البصيرة وجده كالبيت المبني، المعد فيه جميع آلاته ولوازمه ومصالحه، وكل ما يحتاج إليه.
فالسماء سقفه المرفوع، والأرض مهاد وبساط، وسكن وفراش، وذلول، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة، وأدلة للمسافر في طرق هذه الدار.
وأنواع النبات مهيأ لمآربه من حلو وحامض، وحار وبارد، وحبوب وثمار وأزهار.
وصنوف الحيوان مصرفة لمصالحه، فمنها المأكول، ومنها المركوب، ومنها الحلوب، ومنها اللباس والأمتعة والحراسة.
والجواهر والمعادن خلقها الله، وجعلها مخزونة فيه كالذخائر المهيأة، كل منها لشأنه الذي يصلح له، من ذهب وفضة، ونحاس وحديد.
وجعل سبحانه في هذا البيت النار للتسخين والإنضاج، والماء للشرب والتبريد، والهواء للتنفس والتنشيف، والجو للشمس والقمر يجريان فيه، والسحب والطير يسبحان فيه.
وجعل سبحانه الإنسان كالملك المتجول في ذلك كله، المتصرف فيه بفعله وأمره، وكل ما فيه سخر له: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 20].
فسبحان من أبدع هذا الخلق.. ونظمه أحسن نظام.. وتفرد بالخلق والأمر.. وتوحد بالجلال والجمال.. واختص بالكبرياء والعظمة.
وكما يستحيل أن يكون المدبر للبدن روحان، فكذلك يستحيل أن يكون المدبر للعالم العلوي والسفلي إلهان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 22].
والله جل جلاله خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل أعلاه مفتقراً إلى أسفله، ولا أسفله مفتقراً إلى أعلاه، بل جعل الجميع مفتقراً إليه وحده لا شريك له.
فالسماء والسحاب والهواء فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، بل الله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويسوق السحاب حيث شاء، ويرسل الرياح كيف شاء.
والعرش والكرسي فوق السماء، وليست مفتقرة إلى حمل السماء لها، والعلي الأعلى، رب كل شيء ومليكه فوق جميع خلقه، ليس محتاجاً إلى عرشه أو كرسيه ليحمله.(2/19)
بل العرش والكرسي، والسموات والأرض ومن فيهن، والملائكة والروح، والإنس والجن، والخلق كلهم محتاجون إلى الله سبحانه في خلقهم وبقائهم، فهو الغني وحده، وكل ما سواه مفتقر إليه مملوك له.
وما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد الله إلا كخردلة في يد أحدنا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67].
والله عزَّ وجلَّ بذاته وعظمته وكبريائه مستوٍ على عرشه، فوق سماواته فوق جميع الخلائق، يعلم أحوالهم، ويسمع أصواتهم، ويرى كل ذرة فيهم.
هو العلي الأعلى، له علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة، وهو العلي الكبير، استوى على العرش الذي هو أكبر مخلوقاته، وبحوله وقوته سبحانه حمل العرش، وحمل حملة العرش.
وهو جل جلاله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويمسك السموات والأرض أن تزولا، وهو الباقي، وبقاء كل شيء بأمره، وكل شيء هالك إلا وجهه.
أفيعصى من هذا ملكه.. وهذا خلقه.. وهذه قدرته..؟.
والله سبحانه هو الذي خلق السماء وزينها بالنجوم والكواكب، وخلق الأرض وزينها بما على ظهرها من المياه والنباتات، وأحاط الأرض بالمياه من جميع الجوانب، وفرشها بأنواع النباتات لأجل الإنسان، ووضع عليها سبحانه مائدة نعمه، فجميع الحيوانات والطيور، والبهائم والحشرات، وسائر البشر كلهم يأكلون ويشربون منها هو: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [طه: 53-54].
وقد خلق الله كل نفس ورزقها، وحدد أجلها، فلا تموت حتى تأكل رزقها، ولا يستطيع أحد أن يحول بينها وبين رزقها.
والله تبارك وتعالى خالق كل شيء.. خلق الإنسان في أحسن تقويم.. والإنسان ذرة بالنسبة إلى أرضه.. وأرضه ذرة بالنسبة إلى الكائنات.. وكذا الإنسان ذرة بالنسبة إلى نوعه.. ونوعه ذرة بالنسبة إلى شركائه في هذا الكون الكبير.(2/20)
فسبحان الخلاق العليم، وسبحان الرزاق الكريم، المنعم على جميع الخلائق، الفعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير، وهو البصير الذي يرى حاجة المرزوق إن لم يطلب، وهو السميع الذي يسمع كلامه إن طلب، الرزاق الذي يرزق من شاء، في أي وقت شاء، وبأي قدر شاء؟.
وهذه الدواب كلها تأكل من رزقه، ولا ينقص ما في خزائنه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
وهذا الكون كله.. سماؤه وأرضه.. ظاهره وباطنه.. ملائكته ودوابه.. إنسه وجنه.. حيوانه وطيره.. كله مخلوق.. والمخلوق مملوك.. محتاج في وجوده إلى ربه.. ومحتاج في بقائه إلى ربه.. ومحتاج في نفعه وضره إلى ربه.. من الذرة إلى الجبل.. ومن القطرة إلى البحر.. ومن النفس إلى الآفاق.. ومن السنبلة إلى الغابات.. ومن النملة إلى جبريل.. ومن الذرة إلى العرش.
كل هذا مخلوق، والمخلوق لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكل شيء بيد الله، وكل ما سواه محتاج إليه: (?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [فاطر: 15].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 188].
والله جل جلاله خلق المخلوقات التي لا يحصيها إلا هو، وفضل بعضها على بعض من أماكن وأزمان، وأشخاص وأحوال، وسلط بعض مخلوقاته على بعض، وقهرها بها.
فخلق الشمس وسلط نورها على الظلام.. وخلق السباع وسلطها على الحيوان، وخلق الجبال تقهر الرياح.. وسلط الحديد على الجبال يقطعها.. وسلط النار على الحديد تذيبه.. وسلط الماء على النار يطفئها.. وقهر الماء بالهواء يرده.. والله قاهر كل قاهر.
فسبحان القهار الذي قهر جميع الخلائق على ما أراد، القاهر فوق عباده: (? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 4].
وفضل سبحانه بعض الأماكن على بعض.. ففضل الآخرة على الدنيا.. وفضل بيته الحرام على سائر الأماكن.. وفضل بيوت الله على سائر بقاع الأرض.(2/21)
وفضل يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع.. وفضل ليلة القدر على سائر الليالي.. وفضل شهر رمضان على سائر الشهور.. وفضل يوم النحر على سائر أيام العام.
وفضل المؤمنين على الكفار.. والأبرار على الفجار.. وفضل بعض الرسل على بعض.. وفضل الإنسان على غيره من المخلوقات.
فجعل أصح المخلوقات مزاجاً هم بنو آدم، وأصح بني آدم مزاجاً هم المؤمنون، وأصح المؤمنين مزاجاً هم الأنبياء والرسل، وأفضلهم أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وأفضل أولي العزم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما السلام.
وأفضل الخليلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن، يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه، ويتأدب بآدابه.
وقد جعل الله سبحانه الدنيا قرية، والإنسان رئيسها، والكل مشغول به، ساعٍ في مصالحه، والكل قد أقيم في خدمته وحوائجه:
فالملائكة الموكلون به يحفظونه، والملائكة الموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه.
والملائكة الموكلون بالوحي كجبريل ينزلون بالوحي من ربهم إليه.
والأفلاك مسخرة منقادة دائرة بما فيه مصالحه.
والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته.
والعالم العلوي مسخر له برياحه وسحابه، يتنفس من هذا، ويشرب من هذا.
والعالم السفلي بسهوله وجباله، وبحاره وأنهاره، ونباته وأشجاره، وحبوبه وثماره، كل ذلك مسخر له، مخلوق لمصالحه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [ق: 6-8].
فسبحان الخلاق العليم، الذي خلق البحار، وخلق ما فيها من الأسماك والمخلوقات ما لا يعيش إلا فيه، ولو خرج عنه لمات.
وخلق البر، وخلق فيه من المخلوقات ما لا يعيش إلا فيه، ولو دخل البحر لمات.
وخلق الأرض، وخلق على ظهرها من المخلوقات ما لا يعيش إلا راكباً عليها، ولو دخل في باطنها لمات.(2/22)
وخلق في باطن الأرض من المخلوقات ما لا يعيش إلا في باطنها، ولو خرج على ظهرها لمات.
وخلق الأشجار والنباتات، وحملها من الحبوب والثمار ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله، مختلف ألوانه، مختلف احجامه، مختلف طعمه، مختلف ثماره.
وخلق الإنسان، ومكنه من الكلام، وحمل الكلمات والجمل من المعاني ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].
وهو سبحانه الحي، الذي خلق الموت والحياة، خلق الحياة، وجعل لكل جنس من خلقه نوعاً من الحياة:
فللملائكة حياة.. وللإنس حياة.. وللجن حياة.. وللنبات حياة، ولمن في البحر حياة، ولمن في الأرض حياة.. ولأهل القبور حياة.. ولأهل الجنة حياة.. ولأهل النار حياة.
فسبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [غافر:68].
وقد خلق الله المخلوقات وجعل منها عالياً، وسافلاً، ومتوسطاً بينهما، فجعل لعاليها النور، وهو مسكن أهل النور من خلقه.
وجعل لسافلها الظلمة، وهي مسكن أهل الظلمات من خلقه.
وجعل هذه الأرض وما فوقها إلى العلو متوسطاً بينهما.
وكل ما كان أقرب إلى العرش والكرسي كان أعظم نوراً، ولهذا كان فضل نور العرش والكرسي على ما تحته كفضل نور الشمس والقمر على أخص الكواكب.
وكل ما كان أقرب إلى السفلي المطلق كان أشد ظلمة، ولهذا لما كان محبس أهل الظلمات سجيناً كانت سوداء مظلمة، لا نور فيها بوجه.
فكل ما كان أقرب إلى الرب جل جلاله كان أعظم نوراً ظاهراً وباطناً.. وكلما بعد عنه كان أشد ظلمة بحسب بعده عنه.. ونسبة الأنوار كلها إلى نور الرب كنسبة العلوم إلى علمه.. والقوى إلى قوته.. والغنى إلى غناه.
وما أعظم نور النار.. فكيف بنور البرق الذي يكاد سناه يذهب بالأبصار.. فكيف بنور الشمس والقمر.. فكيف بنور الحجاب.. فكيف بنور العرش والكرسي.. فكيف بنور الخالق جل جلاله.(2/23)
والأمر أعظم من أن يصفه واصف، أو يتصوره عاقل، فتبارك الله رب العالمين، الذي أشرقت الظلمات بنور وجهه، وعجزت الأفكار عن إدراك كنهه، وشهدت الفطر باستحالة شبهه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 35].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم(1).
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة.. الخالق الذي خلق كل شيء.. المتفرد بالخلق والإيجاد.. والتصريف والتدبير.. الذي له الخلق والأمر.. فتبارك الله أحسن الخالقين.
خلق السماء المرفوعة وما فيها من المخلوقات العظام، وخلق الأرض الموضوعة وما فيها من عجائب المخلوقات، وخلق سراجي العالم وهما الشمس والقمر، وملأهما بنوره.
وخلق نوعي النبات ما قام منه على ساق، وما انبسط منه على وجه الأرض.
وخلق ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار، والمياه والمعادن والغاز.
وخلق سبحانه نوعي المكلفين، وهما الإنس والجن، والذكور والإناث.
وخلق نوعي المأكولات، من النبات والحيوان.
وخلق أنواع المشروبات من الماء العذب، والحليب السائغ، والعسل الشهي.
وخلق نوعي البحار، هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج.
وخلق لأوليائه دار كرامته، وهي الجنة دار السلام.
وخلق لأعدائه دار نقمته وإهانته، وهي النار دار العذاب.
وخلق لهذه خلقاً.. ولتلك خلقاً، حتى إذا اكتمل سكان هذه، وسكان هذه، انقطع النسل، ثم قامت القيامة، ثم نقلهم بعد الحساب إلى دار القرار، في الجنة أو النار، حسب أعمالهم: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الزلزلة: 7، 8].
وهذا الكون العظيم معرض هائل لآيات الله، وعجائب صنعته:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (179).(2/24)
فالسماء التي نراها، والكواكب التي نشاهدها، والنجوم المتحركة والثابتة، وما في السموات من المخلوقات، ومن أصناف الملائكة آية من آيات الله.
وفي هذه الأرض التي نعيش عليها أحياء تسكن سطحها، وأحياء تسبح في أجوائها، وأحياء تعيش في مائها، وأحياء تختبئ في مفاوزها وكهوفها.
وهي أشكال وألوان، وأمم وقبائل لا يحصيها إلا الله وحده لا شريك له.
وقد خلق الله لهذه الأحياء أقواتاً جاهزة ميسرة في كل زمان، وفي كل مكان، لتلبي حاجات هذه الأحياء التي لا يحصيها إلا الله الذي خلقها، وهي في كل لحظة تزيد، وأرزاقها تزيد، ومنافعها تزيد، وبيوتها تزيد.
وهذه الأرض الممدودة، وهاد وبطاح، وسهول وجبال، وأنهار ووديان، وبحار وبحيرات، وجنات وعيون وغدران، وتراب وأحجار ومعادن، ولها أحوال، فمنها ما يجري، ومنها ما يثمر، ومنها ما لا يحصي منافعه إلا الله.
فسبحان: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [الأعلى: 2-5].
والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء نباتاً وحيواناً، وإنساً وجناً، وطيراً وسمكاً، وزواحف وحشرات وغيرها.
هذه الخلائق لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له.
وكل خليقة منها أمة وشعوب وقبائل، لها أعمار تأكلها، وبيوت تسكنها ثم تبيد.
وكل فرد منها عجيبة:
كل إنسان.. وكل حيوان.. كل طائر.. كل زاحفة.. كل حشرة.. كل دودة.. كل نبتة.. كل شجرة.. لا بل كل جناح في يرقة.. وكل ورقة في زهرة.. كل واحدة من تلك آية في خلقها.. وآية في شكلها.. وآية في منافعها.
وكل ذلك نراه يومياً في المعرض الإلهي العجيب.. فهل من مدكر..؟.
وفي الأرض آيات وعجائب، وأشكال وألوان، وأمم ونعم لا يحصيها إلا الله العليم الخبير: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [يونس: 101].
غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالجولة في هذا المعرض الهائل إلا القلب العامر بالإيمان واليقين: (? ں ں ? ?) [الذاريات: 20].(2/25)
فاليقين هو الذي يحيي القلب فيرى ويدرك ويتأثر، وكثير من الناس يمرون بالمعرض الإلهي المعروض بآياته ومخلوقاته مغمضي العيون، لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون لغة، لأن نعمة اليقين لم تسكن قلوبهم، فتراهم ينظرون ولا يبصرون، لأن العيون ترى الأشكال، والقلوب ترى الحقائق، والعيون ترى الصور، والقلوب ترى المصور: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 46].
ومثل هذا المعرض العظيم الواسع المفتوح معرض آخر مكنون فينا نحن البشر، الذي انطوى فيه أسرار الوجود كله: (? ? ? ? ہ ہ) [الذاريات: 21].
وهذان المعرضان مفتوحان على الدوام.. لمن يريد أن يبصر ويستبصر.. ولمن يريد أن يستيقن.. ولمن يريد أن يملأ حياته بالمتعة والسرور.. ويروي قلبه بالإيمان واليقين.. ويرى إبداع الحكيم العليم في الخلق والتصوير.. والتصريف والتدبير: (? ? ? ? ? ) [النازعات: 26].
وهذه المخلوقات العظيمة التي خلقها الله، لا يحيط الإنسان بعددها، فضلاً عن وصفها وذكر منافعها.
والأحياء التي خلقها الله قسمان:
منها ما له بداية وليس له نهاية: وهم بنو آدم، فإن بدايتهم معلومة، ونهايتهم الخلود في الجنة أو النار، ومثلهم الجن، ومن شاء الله مما لا نعلمه.
ومنها ما له بداية وله نهاية وهو باقي المخلوقات التي يقال لها يوم القيامة كوني تراباً.
فهذا الخلاق العظيم.. وهذا خلقه.. وهذه قدرته.. وهذه آياته: (? ژ ژ ڑ ڑ) [الجاثية: 6].
4- فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 50].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 6].
الله عز وجل خالق كل شيء، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، مقلب القلوب ومصرفها كيف شاء، يفعل ما يشاء بقدرته وهو العزيز الحكيم.
هو الذي جعل المسلم مسلماً.. والمصلي مصلياً.. والمتقي متقياً.. والداعي داعياً.(2/26)
وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره.. وأئمة الضلال يدعون إلى النار بإذنه.. وألهم كل نفس فجورها وتقواها.
يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هو الذي وفق أهل الطاعة فأطاعوه، ولو شاء لخذلهم فعصوه، وحال بين الكفار وقلوبهم فكفروا به، فإنه يحول بين المرء وقلبه، ولو شاء الله لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ولو شاء الله ما اقتتلوا، وما اختلفوا، ولكن الله يفعل ما يريد: (? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الأنعام: 112].
علم الله كل شيء، وخلق كل شيء، وكتب كل شيء، وشاء كل شيء، هو الخالق وما سواه مخلوق، هو الملك وما سواه مملوك: ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
وهو سبحانه الحكيم وما سواه محكوم، حكيم في كل ما فعله وخلقه، فمصدر جميع ذلك عن حكمة تامة.
وحكمته سبحانه قائمة به كسائر صفاته، وهي الغاية المحبوبة له سبحانه، المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوى، وقدر فهدى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأضل وهدى، ومنع وأعطى.
ومصدر الخلق والأمر، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي ألا يخرج مخلوق عن قدرته.
وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به، وتقدمه عليه.
وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه.
وكذلك أمره سبحانه بعلمه وحكمته وعزته، فهو العليم بخلقه وأمره، الحكيم في خلقه وأمره، العزيز في ملكه وسلطانه.
ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلا، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجمعة: 2].(2/27)
والحكمة: هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والدعوة إليه، فكل هذا يسمى حكمة.
وكما لا يخرج مقدور عن علمه ومشيئته، فكذلك لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو سبحانه المحمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة.
ففي كل ما خلقه الله وأمر به حكمة، وكله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَبَّيْكَ! وَسَعْدَيْكَ! وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أخرجه مسلم(1).
فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه سبحانه، فلا يضاف إلى ذاته، ولا أسمائه، ولا صفاته، ولا أفعاله.
فذاته سبحانه منزهة عن كل شر.. وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب.. وصفاته صفات كمال لا نقص فيها.. وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك ألبتة.
وهو سبحانه المحمود على ذلك كله، فيستحيل إضافة الشر إليه.
وبيان ذلك:
أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها، وهي شرور النفس، وسيئات الأعمال، وهي ذنوب تأتي من نفس العبد.
فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد.
كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهي صفات ذاتية للرب، وذات الرب مستلزمة للحكمة والخير والجود والإحسان، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه كما قال سبحانه: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 53].
فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل، فصدر منه البر والإحسان والطاعة.
ومن أراد به شراً أمسكه عنه، وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وسوء وفساد.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (771).(2/28)
وليس منعه لذلك ظلماً منه سبحانه، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به، ولا يزكو فيه.
وأيضاً هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه، ولا يخلي بينه وبين نفسه، وهذا محض فضله.
والله تبارك وتعالى أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر به، ويزكو به.
وهو سبحانه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة، ويشكره عليها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 53].
وأصل الشكر: هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
ومن عرفها ولم يعرف المنعم لم يشكرها أيضاً.
ومن عرف النعمة والمنعم بها لكن جحدها فقد كفرها.
ومن عرف النعمة، والمنعم بها، وأقر بها، لكن لم يخضع للمنعم ويحبه ويرضى عنه لم يشكرها أيضاً.
ومن عرف النعمة.. وعرف المنعم بها.. وخضع للمنعم بها.. وأحبه.. ورضي به.. ورضي عنه.. واستعملها في طاعته ومحابه.. فهذا هو الشاكر لها.
فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته، والخضوع له، والتقرب إليه بما يرضيه.
وكل رجل، وكل امرأة، وكل عبد يتقلب بين نعمة من ربه، وذنب من نفسه.(2/29)
فعليه أن يحدث للنعمة شكراً، وللذنب استغفاراً، ويبوء إلى الله بنعمته عليه، ويبوء بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وهذا، رجوع عبد مطمئن إلى ربه منيب إليه، فهو معبوده ولا صلاح له إلا بعبادته كما قال صلى الله عليه وسلم : «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ» أخرجه البخاري (1).
فالخير كله من الله، والنعم كلها من الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 53، 54].
فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولكن أكثر الناس يظلمون أنفسهم، ويجحدون نعمة ربهم عليهم.
والله عزَّ وجلَّ هو الذي يحبب الإيمان إلى العباد، ويزينه في قلوبهم، بما أودع فيها من محبة الحق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الأدلة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وتوفيقهم للإنابة إليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [الحجرات: 7].
وهو سبحانه الذي كره إليكم الكفر والفسوق والعصيان بما أودع في القلوب من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وما نصبه من الأدلة على فساده، وعدم قبول الفطر له، وبيان أضراره.
فكل فضل ونعمة وخير يحصل للعباد إنما حصل لهم بفضل الله وإحسانه إليهم، لا بحولهم ولا بقوتهم، وهو العليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها، ممن لا يشكرها ولا تليق به، فيضع فضله حيث تقتضيه حكمته: (ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [الحجرات: 8].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6306).(2/30)
والله عزَّ وجلَّ وإن كان أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فإنه كذلك أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جوده وكرمه، ورحمته وفضله، حكمته وعدله.
ولو أن أحداً من العقلاء وضع المسك في الحش، أو وضع النجاسة في موضع الطيب، لاشتد نكير الناس عليه، والقدح في عقله، وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، أو وضع الإحسان موضع العقوبة، لسفهوه وقدحوا في عقله، وغير ذلك مما يخل بالحكمة.
فالعليم الحكيم الذي بهرت حكمته العقول والألباب كيف يليق به أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها، أو يمنعها من هو أهل لها؟.
وأجل النعم التي أنعم الله بها على العباد هي نعمة الإيمان بالله، ومعرفته ومحبته طاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ولزوم عبوديته، وهذا كله من تمام حكمته ورحمته بعباده.
والله سبحانه من حكمته خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار.. والحر والبرد.. والداء والدواء.. والعلو والسفل.. والذكر والأنثى.. واليابس والماء.
وكذلك الأرواح منها الطيب والخبيث.. وكذلك القلوب منها الشريف الزكي.. ومنها القلب الخسيس الخبيث.
وهو سبحانه أعلم بالقلوب الزاكية، والأرواح الطيبة، التي تصلح لاستقرار نعم الله فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها فيها.
فليس من الحكمة أن يبذر الإنسان البر في الصخور والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم ولا رشيد.
فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة في المحال التي هي أخبث المحال، فهو سبحانه العليم الحكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويضع أمانته.
وهو سبحانه أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده، ويقوم بحقها، ويصبر على أوامره، ويشكره على نعمه، ويعظمه ويتقرب إليه سبحانه، ومن لا يصلح لذلك.(2/31)
وكذلك الله عزَّ وجلَّ أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله، وإبلاغ دينه، فإن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته.
فالله عزَّ وجلَّ إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته، ومعرفته وتوحيده، حبب إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، وأعانه عليه، ويسر له طرقه، وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك، ثم تولاه بلطفه وتدبيره، فلا يزال يعامله بلطف، ويختصه بفضله ورحمته، ويمده بعونه، ويريه مواقع إحسانه إليه، وبره به، فيزداد العبد به معرفة، وله محبة، وإليه إنابة، وعليه توكلاً، وله ذكراً.
فهذا القلب الزاكي هو الذي اقتضت حكمة الله وكرمه وإحسانه أن يبذر فيه بذور الإيمان والمعرفة، وأن يسقيه بماء العلم النافع، ليقطف منه صاحبه ثمرة العمل الصالح، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة.
فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا.
وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ ا?، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى ا? الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79) واللفظ له، ومسلم برقم (2282).(2/32)
فشبه صلى الله عليه وسلم القلوب بالأرض، والوحي بالماء:
فمن الأرض أرض طيبة قابلة للماء والنبات.. وهذه الأرض بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه.. المستعد لزكاته فيه.. وثمرته ونمائه.. وهذا القلب خير قلوب العالمين.
ومن الأرض كذلك أرض صلبة قابلة لحفظ الماء.. لكن ليس فيها قوة الإنبات.. فهذه الأرض بمنزلة القلب الذي حفظ الوحي وأداه إلى من هو أفقه منه.. وهذا في الدرجة الثانية.
ومن الأرض كذلك أرض قيعان.. وهي الأرض المستوية التي لا تنبت لكونها سبخة، فإذا وقع عليها الماء ذهب ضائعاً، لم تمسكه لشرب الناس.. ولم تنبت به كلأً.. لأنها غير قابلة.
وهذا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأساً، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين.
والله عزَّ وجلَّ أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها، ومن لا يصلح لها.
وحكمته جل وعلا تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله، كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.
وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحاً، وجعله أهلاً وقابلاً.
فمنه الإعداد.. ومنه الإمداد.. ومنه التوفيق.
فإن قيل فهلا جعل المحال كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد؟
قيل هذا القائل من أجهل الناس، وأضلهم، وأسفههم، وأصغرهم عقلاً.
وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الله الأضداد؟.
وهلا جعلها كلها سبباً واحداً؟.
فلم خلق الليل والنهار.. والشياطين والملائكة.. والحر والبرد.. والداء والدواء.. والروائح الطيبة والكريهة.. والحلو والمر.. والحسن والقبيح.. والذكر والأنثى؟.
ومن له أدنى مسكة من عقل يعلم أن هذا السؤال يدل على حمق سائله، وفساد عقله.
وهل خلق هذه الأشياء المتقابلة إلا موجب ربوبيته وإلهيته، وملكه وقدرته، ومشيئته وحكمته، ومحال أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟.
وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء، وإهانة الأعداء؟.(2/33)
وهل تمام الحكمة، وكمال القدرة، إلا بخلق المتضادات والمتقابلات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها؟.
وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه جل جلاله وعز سلطانه؟.
فهل يكون رزاقاً وغفاراً، وحليماً ورحيماً، ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له، ولا من يحلم عنه ويرحمه؟.
وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟.
فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم؟.
ويري أولياءه كمال نعمته عليهم، واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه.
وليس في الحكمة تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئي يكون من لوازمه.
فالغيث الذي يحيي الله به البلاد والعباد، والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر؟، وكم يهدم من بناء؟، وكم يعوق من مصلحة؟.
ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح العظيمة من الإرواء والإنبات والحياة؟.
وهل تلك المفاسد في جنب هذه المصالح العامة النافعة إلا كتفلة في بحر؟.
وهل تعطيله لئلا تحصل تلك المفاسد، إلا موجبٌ لأعظم المفاسد والهلاك والدمار؟.
وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، كم تؤذي بحرّها مسافراً وغيره؟، وكم تجفف رطوبة؟، وكم تعطش من البهائم؟، وكم تحرق من نبات أخضر؟.
ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح؟.
فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه.
فحقيقة الإنسان أن نفسه جاهلة ظالمة، فقيرة محتاجة للعلم والهدى.
والشر الذي يحصل للإنسان نوعان: عدم.. ووجود.
فالأول: كعدم العلم والإيمان، وعدم الصبر وإرادة الخير، وعدم العمل بذلك.
والثاني: الشر الوجودي: كالعقائد الباطلة، والإرادات الفاسدة.
فذلك من لوازم ذلك العدم، فمتى عدم العلم النافع والعمل الصالح من النفس، لزم أن يخلق الشر والجهل وموجبهما ولا بد، لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالأمر النافع الصالح، اشتغلت بالضد الضار الفاسد.(2/34)
وهذا الشر الوجودي هو من خلقه تعالى، لأنه خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فله فيه حكمة لأجلها خلقه، فلو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة.
وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن في وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد عليها سبحانه أضعاف ما في عدمها من ذلك.
ومن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، في مقام الصدق بين الملأ الأعلى، فقد أرادت ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، والتي تفرق بين الأبرار والفجار كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گ گ) [الانفطار: 13، 14].
ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم من أهل الردى والدناءة والقبائح، لقدح الناس في ملكه، وقالوا: لا يصلح للملك، لاختياره ما لا يليق به ولا بملكه.
فما الظن بمجاوري الملك الأعظم، مالك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى، الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم.
أفيليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى، والدرجات العلا، أرواح سفلية أرضية، قد أخلدت إلى الأرض، وعصت ربها، وعكفت على شهواتها كالحيوانات والبهائم السائمة.
فلا ترى نعيماً ولا لذةً ولا سروراً إلا بما وافق طباعها من مأكل ومشرب ومنكح، من أين كان؟، وكيف كان؟.
فالفرق بينها وبين الكلاب والحمير انتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، والمشي على القدمين.
أما الطبع بالقلب فعلى شاكلة هذه الحيوانات وطباعها.
بل ربما كانت طباع الحيوانات خيراً من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير، ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [الأنفال: 22].
فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة؟.
ويكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟.(2/35)
هذا لا يكون أبداً، وتأباه حكمة أحكم الحاكمين: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القلم: 35، 36].
وهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين المؤمن والفاسق في دار واحدة يوم القيامة: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 28].
فالله عزَّ وجلَّ خالق كل شيء، خلق الليل والنهار، والماء والتراب، والحر والبرد، والسهل والحزن، والضار والنافع، والبر والفاجر ونحو ذلك لنعرف كمال قدرته، وكمال حكمته، وكمال رحمته.
فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة بتنزيلها منازلها، ووضع كل منها في موضعه، وكمال الرحمة بالانتفاع بها، والاتعاظ بها.
والمؤمن يربط القدرة بالحكمة، فلا يكون شيء إلا بقدر الله ومشيئته وحكمته، وكما لا يخلو مخلوق من علم الله، فكذلك لا يخلو من حكمته.
فكل ما يحصل من النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها، والتي لا تكون ناراً إلا بها.
وكذلك النفس، فما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها، وخالق كل شيء قام بها، وما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وجهلها.
فالنفس ليس عندها خير يحصل لها منها بل ذلك إلى الله، والنفس متحركة بالذات، فإن لم تتحرك بالخير تحركت بالشر فضرت صاحبها.
والنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضار كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [المعارج: 19-22].
فخلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان على هذه الصفة، ومن كان على غيرها فلأجل ما زكاه الله به من فضله وإحسانه من الإيمان والتقوى.
وخلقه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الرب سبحانه، وهو موجب حكمته وعزته، وهي بالنسبة إلى الخالق سبحانه خير وعدل وحكمة.
وبالنسبة إلى العبد تنقسم إلى خير وشر، وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية، وبراً وفجوراً.(2/36)
ولله تبارك وتعالى الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى توفيقه الموجب لطاعته، وعلى خذلانه الموقع في معصيته.
والله عزَّ وجلَّ رحمته سبقت غضبه، وما يحصل للبشر من الضرر والأذى، فله في ذلك أعظم حكمة مطلوبة.
فكما أن الزارع يحصد الزرع ثم يجعل الحب الطيب في مكان يناسبه، والعيدان والقصب في مكان آخر، فالأول للإطعام والانتفاع، والثاني للإحراق والإتلاف.
فكذلك الله تبارك وتعالى بحكمته ورحمته وفضله يجعل في الجنة من كان طيباً، وزرع خيراً، وجنى طيباً، ويجعل في النار من العباد من لا خير فيه، كالعيدان والشوك الذي لا يصلح إلا للنار.
وجميع ما خلقه الله عزَّ وجلَّ فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها ويرضاها وهي الإيمان والتوحيد.
الثاني: حكمة تعود إلى عباده وهي نعمه عليهم، يفرحون بها، ويتلذذون بها، وهذا في المخلوقات والمأمورات:
أما في المأمورات فإن الطاعات كلها يحبها الله ويرضاها، ويفرح بها، يفرح سبحانه إذا فعل العبد ما أمره الله به، ويغار إذا فعل العبد ما نهاه عنه.
وكذلك الطاعات عاقبتها سعادة العبد في الدنيا والآخرة، يفرح بها العبد المطيع، فكل ما أمر الله عزَّ وجلَّ به له عاقبة حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له، وفيها رحمة بعباده.
وكذلك المخلوقات، فكل ما خلقه الله خلقه لحكمة تعود إليه يحبها.. وخلقه رحمة بالعباد ينتفعون بها.
ومن أعظم حكمة الرب وكمال قدرته خلق الضدين، إذ بذلك تُعرف ربوبيته وقدرته وملكه، كما خلق الليل والنهار، وكما خلق جبريل وإبليس.
فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها، وأجرى على يديه كل خير.
وخلق أخبث الأرواح وأنجسها وأرداها، وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق وعصيان.
وجعل سبحانه الطيب منحازاً إلى تلك الروح الطيبة، والخبيث منحازاً إلى هذه الروح الخبيثة.(2/37)
فتلك تجذب كل طيب.. وهذه تجذب كل خبيث.. ولكل منهما عمل ودار.
وأي حكمة وقدرة أبلغ من هذا؟.
وقد خلق الله الإنسان من الأرض، وهي مشتملة على الطيب والخبيث، والله عزَّ وجلَّ يريد تخليص الطيب من الخبيث بالوحي الذي أنزله، ليجعل الطيب مجاوراً له في دار كرامته، مختصاً برؤيته والقرب منه.
ويجعل الخبيث في دار الخبث، حظه البعد منه، والهوان والطرد والإبعاد، إذ لا يليق بحمده وحكمته وكماله أن يكون مجاوراً له في داره مع الطيبين وهو خبيث فاسد نجس.
فسبحان الحكيم العليم الذي خلق من المادة النارية من جعله محركاً للنفوس الخبيثة.. داعياً لها إلى محل الخبث والإحراق وهو الشيطان.. لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع.. وتميل إليه بالمناسبة.. فتنحاز إلى ما يناسبها عدلاً وحكمة.. لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها.
بل أقام بحكمته وعدله داعياً يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوماً لخالقها وبارئها من أحوالها، وكان خفياً على العباد.
فلما استجابت لأمره، وآثرت طاعته على طاعة ربها، الذي تتقلب في نعمه، ظهر حينئذ لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس الخبيثة، وطردها عنه، وإبعادها عن رحمته.
وأقام سبحانه للنفوس الطيبة داعياً يدعوها إليه.. وإلى مرضاته وكرامته.. فلبت دعوته واستجابت لأمره.. فعلم عباده حكمته في تخصيصها بمثوبته وكرامته.
فظهر للعباد حمده التام، وحكمته البالغة في الأمرين، وعلموا أن خلق ولي الله وعبده جبريل وجنوده وحزبه، وخلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه، هو عين الحكمة والمصلحة، وأن تعطيل ذلك منافٍ لمقتضى حكمته وحمده.
فسبحان من هذا خلقه، وهذا أمره، وهذه حكمته: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 18].
والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد ونحو ذلك.(2/38)
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه.
فإن قيل كيف يريد الله عزَّ وجلَّ أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟.
قيل: الله سبحانه يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره، وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره، كما خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى.
فهو مبغوض للرب، مسخوط له، لعنه الله ومقته، وغضب عليه.
ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها:
منها ظهور قدرة الرب للعباد في خلق المتضادات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات، وسبب كل شر، في مقابلة جبريل التي هي أشرف الذوات وسبب كل خير.
وخلق الليل والنهار، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر، كل ذلك يدل على كمال قدرة الله وعزته، وعظمة سلطانه وملكه، فإنه خلقها وجعلها محل تصرفه وتدبيره.
فتبارك الله خالق هذا وهذا، وهو الحكيم العليم.
ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية كالقهار، وشديد العقاب، والمعز المذل، والنافع الضار، ونحوها، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته، فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
ومنها ظهور آثار الأسماء المتضمنة للحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه.(2/39)
فلا يضع سبحانه الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا العز مكان الذل، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به.
فهو سبحانه الحكيم العليم الذي يعلم أين يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها.
فلو قدر سبحانه عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه، ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب.
وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح والمنافع ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر.
ومنها حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فالله عزَّ وجلَّ يحب عبودية الجهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، وتوابعها من الموالاة في الله، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى.
فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وهو الحكيم الخبير.
ومنها عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار.
ومنها عبودية مجاهدة عدو الله، ومراغمته في الله، ومخالفته، وذلك من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه، ويجاهده.
ومنها أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده ومكره وشره.
ومنها أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه من الطرد واللعن بسبب معصيته، فيحذرون معصيته، ويبادرون إلى طاعته.
ومنها أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته.
ومنها أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب عزَّ وجلَّ.(2/40)
ومنها أن الطبيعة البشرية جعلها الله مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد.
فخلق الله الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل.
وأرسل الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل.
فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في إكرام أهل الخير وعقوبة أهل الشر.
فالملائكة ظنوا أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 30].
ألا ما أقل علم الخلق بقدرة رب العالمين، وحكمة أحكم الحاكمين.
ومنها أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه إنما حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان في قوم نوح، وآية الريح في قوم عاد، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وآية موسى مع فرعون وبني إسرائيل بانفلاق البحر، وخروج الماء من الحجر، ونحو ذلك.
فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [الشعراء: 139، 140].
ومنها أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً هو من شأن الربوبية القاهرة، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل.
والرب سبحانه كامل في نفسه، ولو لم يخلق هذه الأسباب، لكن ظهور آثارها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي.
فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلقه ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته، أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.(2/41)
فإن قيل هل يمكن حصول تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟.
قيل هذا محال، وهو سؤال باطل، إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه كفرض وجود الابن بدون الأب، والكتابة بدون كاتب، والحركة بدون متحرك، والتوبة بدون تائب.
فإن قيل: فهذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟.
قيل: هو سبحانه يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها.
وسر المسألة:
أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها، بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها ما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه.
فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته؟.
قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له.
فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟.
قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 46، 47].
والطاعة: هي موافقة الأمر لا موافقة القدر، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد، وثمود وقوم لوط، وقوم فرعون، كلهم مطيعين لله، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
والله حكيم عليم، فقد جعل في خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة، والآيات الظاهرة، ما لم يكن يحصل بدونه.
فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان التي أغرق الله بها الكفار والظالمين.(2/42)
ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه.
ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة.
ولولا كفر فرعون وقومه لما ظهرت تلك الآيات والعجائب التي تتحدث بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى بها من شاء الله من عباده.
وهلك بها من هلك عن بينة، وحيى بها من حيى عن بينة، وظهر بها فضل الله وعدله، وقدرته وحكمته، وآيات رسله.
ولولا مجيء المشركين يوم بدر بقوة السلاح، وكثرة الرجال، والكبر والبطر، لما حصلت تلك الآيات العظيمة من النصر، ونزول الملائكة، والتي ترتب عليها من الإيمان والهدى والخير، ما لم يكن حاصلاً مع عدمها.
وكم حصل بها من الهدى والإيمان؟.
وكم حصل بها من محبوب للرحمان، وغيظ للشيطان؟.
وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جداً بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وآثارها العظيمة.
والله حكيم عليم أراد أن يري عباده السابق واللاحق ما هو من أعظم آياته، وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون، وفي بيته، وعلى فراشه، ثم جعل زوال ملكه وإهلاكه على يده.
فكم حصل بقصة موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون من عبرة وحكمة، ورحمة وهداية.
وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب ( من مس الشيطان له بنصب وعذاب، اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء، وتبدله بالنعماء، بعد ذلك الصبر والدعاء.
وكذلك كفر قوم إبراهيم وشركهم، وتكسيره لأصنامهم، وغضبهم لها، وإيقاد النيران العظيمة له، وإلقاؤه فيها، كل ذلك أوصله إلى أن صارت النار التي ألقي فيها برداً وسلاماً عليه.
وصارت تلك آية وحجة وعبرة على مر الزمن.(2/43)
وكم بين إخراج الرسول ( من مكة مختفياً على تلك الحال، وبين دخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبوراً لله، وقد اكتنفه المسلمون من جميع الجهات، والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به، والملائكة من فوقهم، والوحي من الله ينزل عليه، وقد أدخله حرمه ذلك الدخول المهيب الرهيب.
فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كأن لم يكن في جنب هذا النصر المبين؟.
ولولا معارضة السحرة لموسى صلى الله عليه وسلم بإلقاء العصي والحبال، حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم، لما ظهرت آية عصا موسى صلى الله عليه وسلم التي ابتلعت عصيهم وحبالهم فآمنوا فوراً، وانقلبوا على فرعون، وقاموا في وجهه معتزين بدينهم، مدافعين عنه.
فسبحان الحكيم العليم الذي جميع أفعاله كلها حكم وآيات: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 18].
وهو سبحانه الملك الذي يتصرف في عباده بالحكمة والعلم، بالعدل لا بالظلم، بالإحسان لا بالإساءة، بما يصلحهم لا بما يفسدهم.
فهو يأمرهم وينهاهم إحساناً إليهم، وحمايةً وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم، ولا بخلاً عليهم بل جوداً وكرماً، ولطفاً وبراً، ورحمةً وإحساناً.
ويثيبهم إحساناً وتفضلاً ورحمةً، لا لمعاوضة واستحقاق منهم، أو دين واجب لهم يستحقونه عليه.
ويعاقبهم عدلاً وحكمةً، لا تشفياً ولا مخافةً ولا ظلماً كما يعاقب الملوك والجبابرة وغيرهم.
بل هو سبحانه على الصراط المستقيم، وهو صراط العدل والإحسان، في أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وقضائه وقدره كما قال هود صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [هود: 56].
فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه.. وهدايته وإضلاله.. وفي نفعه وضره.. وعافيته وبلائه.. وإعزازه وإذلاله.. وإنعامه وانتقامه.. وثوابه وعقابه.. وتحليله وتحريمه.. وأمره ونهيه.. وإحيائه وإماتته.. وفي كل ما يخلقه.. وفي كل ما يأمر به.. وفي كل ما يدعو إليه.(2/44)
وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم من المؤمنين.
وهو سبحانه على صراط مستقيم في تصرفه في ملكه، يتصرف بالعدل، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحداً بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحداً بجريرة أحد، ولا يكلف نفساً ما لا تطيقه، ومصير العباد كلهم إليه، وطريقهم عليه، لا يفوته أحد منهم، فيجازيهم بما عملوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 116].
وكل دابة تحت قبضته وإرادته، وهو آخذ بناصيتها، فلا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدره، ومن ناصيته بيد الله فلا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه، ولا يفعل إلا بإقداره، ولا يشاء إلا بمشيئته: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ?) [الإنسان: 30].
فهو سبحانه الحق، وقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، وجزاؤه الحق، وأفعاله كلها حق، وكتبه كلها حق، وكيف يليق بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثاً، ويتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم: (ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 115].
وهو سبحانه المولى الكريم، الذي هدى الضالين، وعلَّم الجاهلين، وأصلح الفاسدين، وأنقذ الهالكين، وبصر المتحيرين، وتاب على المذنبين، وأقبل بقلوب المعرضين، وذكر الغافلين، وآوى الشاردين.
وإذا أوقع سبحانه عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة.
حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الملك: 11].
فهو سبحانه لكمال حكمته وعدله، يضع العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضعه في الموضع الذي يقول من علم الحال لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا هذه العقوبة.(2/45)
وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ في كتابه أنه أهلك أعداءه، وأنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة والإرادة، بل بسبب عملهم كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الفرقان: 37].
وقال عن فرعون وقومه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الزخرف: 55].
وقال عن عاد حين كذبوا هوداً (: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الشعراء: 139].
وقد ضمن الله عزَّ وجلَّ زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، والمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين: (? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 26، 27].
وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده، فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده، ودفعه لما تحققه وعرفه.
وأنه سبحانه هو العليم الحكيم الذي لو علم في تلك المحال والنفوس التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته، فهم شر الدواب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنفال: 22، 23].
وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن أقبل على الله هداه، ووفقه لما يحبه ويرضاه، ومن أعرض عنه، فإن الله لا يهدي القوم الكافرين ولا الظالمين ولا الفاسقين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?) [المطففين: 14].
وأخبر سبحانه أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ?) [التوبة: 115].(2/46)
وأما المكر والكيد والخداع الذي وصف به نفسه، فهو مجازاته للماكرين والكائدين، والمخادعين لأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة.
وكذلك الكيد والمخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه وكيدهم، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر كما قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ?) [الأنفال: 30].
وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيدخل النار، فهذا عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه، لم يبطله عليه، فقد يكون به آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.
والله تبارك وتعلى يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمرهم بالسجود لآدم، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، وبادروا إلى الامتثال، وأظهر ما في قلب عدوه إبليس من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى وامتنع من السجود لربه كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [البقرة: 34].
وأما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمته.
والذي يخافه العارفون بالله من مكره، أن يؤخر عنهم عذاب المعاصي، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة، أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، أو أن يعلم من ذنوبهم ما لا يعلمونه، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون، أو يبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به، وذلك مكر.
ومن علم الله منه أنه لا يؤمن، ولا يصلح للهداية، فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 96، 97].(2/47)
ومن ضل عن قبول الحق والاهتداء به.. فهذا إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به.. وأن محله غير قابل له.. فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه.. كما هوأعلم حيث يجعل رسالته.
وكما أنه ليس كل محل أهلاً لتحمل الرسالة، وأدائها إلى الخلق، فليس كل محل أهلاً لقبولها والتصديق بها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 53].
وتأمل حكمة الرب جل جلاله في عذاب الأمم السابقة بعذاب الاستئصال، لما كانو أطول أعماراً، وأعظم قوى، وأعتى على الله وعلى رسله.
فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى، رفع الله عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين.
وما أعظم حكمة الرب جل جلاله في إرسال الرسل في الأمم واحداً بعد واحد.. كلما مات رسول خلفه آخر.. لحاجتها إلى تتابع الرسل والأنبياء.. لضعف عقولها.. وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق.
فلما انتهت النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم .. أرسله إلى أكمل الأمم عقولاً ومعارف.. وأصحها أذهاناً.. وبعثه بأكمل شريعة ظهرت في الأرض.
فأغنى الله الأمة بكمال رسولها، وكمال شريعته، ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ومن وراءهم، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي ولا محدّث.
فسبحان الخلاق العليم، العزيز الحكيم، البصير بأحوال خلقه وملكه، الذي له في كل ذرة في هذا الكون فما فوقها:
خلق من خلقه.. وقضاء من قضائه.. وأمر من أمره.. وحكمة من حكمه.
فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.
5- فقه خَلق المخلوقات
قال الله تعالى: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?) [الزمر: 62].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 101، 102].
الله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً:
خلق كل شيء في العالم العلوي، وفي العالم السفلي.(2/48)
خلق العرش والكرسي.. وخلق السموات والأرض.. وخلق الشمس والقمر، وخلق النجوم والكواكب.. وخلق الليل والنهار.. وخلق الملائكة والأرواح.. وخلق الماء والرياح.. وغير ذلك مما خلقه الله، ولا يحيط بعلمه إلا هو.
وخلق سبحانه الأنهار والبحار.. وخلق التراب والجبال.. وخلق النبات والحيوان.. وخلق الإنس والجان.. وخلق الحر والبرد.. وخلق اليابس والرطب.. وخلق الكبير والصغير.. وخلق الذكر والأنثى.
وخلق سبحانه الدنيا والآخرة.. والجنة والنار، والثواب والعقاب: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [غافر: 62].
فسبحان الخلاق الذي خلق كل شيء، الذي يخلق ما يشاء ويختار، الجبار الذي قهر كل شيء، العظيم الذي لا يعجزه شيء، الملك الذي بيده ملكوت كل شيء، القوي القادر على كل شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 81-83].
1- خلق العرش والكرسي
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 116].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ) [طه: 5].
الله تبارك وتعالى هو الملك الذي يملك كل شيء، القوي الذي لا يعجزه شيء، الخالق الذي خلق كل شيء.
خلق العرش واستوى عليه، وأمر الملائكة بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به.
وخلق البيت المعمور في السماء السابعة، وأمر الملائكة بالطواف به.
وخلق سبحانه البيت العتيق في الأرض، وأمر بني آدم بالطواف به، واستقباله في الصلاة.
وعرش الرحمن عزَّ وجلَّ سرير ذو قوائم.. تحمله الملائكة.. وهو كالقبة على العالم.. وهو سقف المخلوقات.. وأعظم المخلوقات.. وأعلى المخلوقات.. وأوسع المخلوقات.. وأكبر المخلوقات.. فالله سبحانه مجيد.. وعرشه مجيد.
والله جل جلاله مدح نفسه بأنه: (? ? ? ?) [البروج: 15].
وأنه: (? ? ? ?) [المؤمنون: 116].(2/49)
وأنه: ( ? ? ? ?) [التوبة: 129].
فوصف سبحانه العرش بأنه مجيد، وكريم، وعظيم.
فهو عظيم لكونه أعظم المخلوقات وأكبرها وأعلاها وأوسطها.
وكريم لما له من منزلة تميز بها عما سواه من المخلوقات.
ومجيد عال مرتفع على جميع المخلوقات والكائنات.
وبذلك صار بهذه الصفات لائقاً بجلال الله وعظمته وكبريائه.
وخصه الله جل جلاله من بين سائر المخلوقات بالاستواء عليه.
وعرش الرحمن أكبر المخلوقات وأعظمها، والرحمن استوى عليه بأوسع الصفات وهي الرحمة، فاستوى سبحانه على أوسع المخلوقات وهو العرش، بأوسع الصفات وهي الرحمة كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑڑ) [طه: 5].
وعرش الله عزَّ وجلَّ أعلى المخلوقات وأرفعها وسقفها وأقربها إلى الله تعالى، فهو أعلى من السموات والأرض، وهو سقف الجنة، اختصه الله بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه الرحمن كيف شاء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري(1).
وعرش الرحمن جل وعلا أكبر المخلوقات وأعظمها، وأوسعها وأثقلها، وزنته أثقل الأوزان، ولا يقدر قدره أحد إلا الله: فـ«سُبْحَانَ ا? وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» أخرجه مسلم(2).
والملائكة الذين يحملون العرش لا يعلم عظمتهم إلا الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ ا? مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ» أخرجه أبو داود(3)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7423).
(2) أخرجه مسلم برقم (2726).
(3) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4728)، صحيح سنن أبي داود رقم (3953).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (151).(2/50)
.
وعرش الرحمن أعلى المخلوقات، فبين السماء والأرض خمسمائة عام، وبين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه مثقال ذرة من أعمال العباد.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ العرش قبل خلق السموات والأرض، وقبل القلم، بل قبل سائر المخلوقات.
قال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 7].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» أخرجه مسلم(1).
والعرش أكبر المخلوقات وأعظمها كما قال سبحانه: (? ? ? ??) [التوبة: 129].
وعرش الرحمن تبارك وتعالى أعلى المخلوقات كلها وأثقلها وزناً.
فسبحان العزيز الجبار الذي خلقه، واستوى عليه، وجعله مع عظمته محتاجاً إليه: «سُبْحَانَ ا? وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِه» أخرجه مسلم (2).
والكرسي وسع السموات والأرض، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة.
والسموات السبع، والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة.
وحملة العرش ملائكة عظام لا يعلم عظم خلقهم إلا الله، ولا يعلم قوتهم إلا الله، ولا يعلم عددهم إلا الله، يحملون العرش بقدرة الله.
وحملة العرش من أكبر الملائكة وأعظمهم وأقواهم، وهم ومن حول العرش من الملائكة المقربين يعبدون الله عزَّ وجلَّ، ولهم زجل بالتسبيح والتقديس والتحميد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2652).
(2) أخرجه مسلم برقم (2726).(2/51)
ويوم القيامة يحمل عرش الرحمان ثمانية أملاك عظام كما قال سبحانه: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الحاقة: 17].
والكرسي جسم عظيم مخلوق بين يدي العرش، وهو موضع القدمين للباري عزَّ وجلَّ، والعرش أعظم منه، والكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 255].
والله تبارك وتعالى فوق سماواته، مستو على عرشه، عال على خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمرهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النمل: 26].
وإذا كانت هذه عظمة كرسيه.. فكم تكون عظمة عرشه الذي وصفه بأنه عظيم..؟. وكم تكون عظمة الرب الذي استوى عليه جلَّ جلاله..؟.
أفيليق بمن هذه صفاته.. وهذه أفعاله.. وهذه عظمته.. أن يسكن العبد في ملكه.. ويأكل من رزقه.. ويكفر به.. ويستكبر عن عبادته وطاعته..؟.
2- خلق السموات
قال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?) [النازعات: 27-29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ) [ق: 6].
من آيات الله العظام خلق السموات، فهي من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها، وفي سعتها وقرارها، بحيث لا تصعد علواً كالنار، ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [الرعد: 2].
وهو سبحانه الرؤوف الرحيم، الذي أمسك بقدرته السماء أن تقع على الأرض، ولولا إمساكه لها لخرت السماء على الأرض، فهو الذي خلق السماء: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?) [الحج: 65].
وهو سبحانه الحي القيوم، القوي القدير، الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ليحصل للخلق القرار والنفع والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وكمال قدرته، ما تمتلئ به قلوبهم إجلالاً له وتعظيماً، ومحبةً وذلاً، ولو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].(2/52)
وهو سبحانه الذي خلق سبع سماوات، كل واحدة فوق الأخرى، وخلقها في غاية الحسن والإتقان، لا خلل فيها ولا نقص، فهي حسنة كاملة متناسبة من كل وجه، في لونها وهيئتها وارتفاعها.
فسبحان الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، والذي خلق السموات السبع في غاية القوة والحسن والعظمة: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 3، 4].
وقد زين الله السماء الدنيا بمصابيح، وهي النجوم على اختلافها في النور والضياء كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الملك: 5].
وقد جعل الله هذه النجوم زينةً وجمالاً للسماء، ونوراً وهدايةً يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ورجوماً للشياطين الذين يسترقون السمع ويضلون العباد، ولولا هذه النجوم لكانت السماء سقفاً مظلماً لا حسن فيه ولا جمال.
فسبحان الذي خلق السماء وبناها، وسواها وعدلها، فلا صدع فيها ولا فطر، ولا شق فيها ولا عوج.
وسبحان من زينها بهذا اللون الأزرق، الذي هو أحسن الألوان، وأشدها موافقة للبصر وتقوية له.
وسبحان من أمسكها فلا تميل ولا تميد، ولا تزول ولا تسقط: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 117].
ومن أراد أن ينظر إلى عظمة الخالق فلينظر إلى مخلوقاته ومصنوعاته، وعظمة أسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه، وسعة خزائنه.
فما أعظم صنع الله في ملكوت السموات، وعلوها وسعتها، واستدارتها، وعظم خلقها، وحسن بنائها، وجمالها: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [ق: 6].
فتأمل خلق السماء، وما فيها من عجائب المخلوقات، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها.
فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة.. بل هي أحكم خلقاً.. وأتقن صنعاً.. وأجمع للعجائب من بدن الإنسان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 57].(2/53)
بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات، لسعتها وعظمتها، وعلوها، وما فيها من الملائكة والكواكب، والشمس والقمر كما قال سبحانه (? ? ? ? ? ?) [الذاريات: 47].
فالأرض وما فيها من المخلوقات، بالنسبة إلى السموات وما فيها من المخلوقات، كقطرة في بحر، وذرة في جبل.
وكما خلق الله الأرض وجعل فيها الإنس والجن، فكذلك خلق السموات السبع وملأها بالملائكة الذين: (? ? ? ? ? ?) [الأنبياء:20].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً لِلَّهِ، وَا? لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلى ا?» أخرجه الترمذي(1).
ولعظمة خلق السموات قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها:
إما إخباراً عن عظمتها وسعتها.. وإما إقسامًا بها.. وإما دعاءً إلى النظر إلى خلقها وعظمتها.. وإما إرشاد للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها.. وإما استدلال منه بربوبيته لها مع وحدانيته.. وإما استدلال بخلقها على ما أخبر به من المعاد.. وإما استدلال بحسنها واستوائها وإمساكها على تمام قدرته وحكمته عزَّ وجلَّ.
وخلق الأرض متقدم على خلق السموات كما قال سبحانه: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ) [فصلت: 9-12].
فسبحان الذي خلق هذا السقف الأعظم مع صلابته وشدته وقوته من دخان وهو بخار الماء.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2312)، صحيح سنن الترمذي رقم (1882).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (1722).(2/54)
وسبحان الذي بنى السموات السبع الشداد كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ?) [النبأ: 12].
فانظر إلى هذا البناء العظيم الشديد الواسع، الذي رفع الله سمكه أعظم ارتفاع، وزينه بأحسن زينة، وأودعه العجائب والآيات.
ثم ارجع البصر إلى السماء، وانظر فيها، وفي كواكبها ودورانها، وطلوعها وغروبها، وهي باقية إلى أن يطويها فاطرها ومبدعها.
وانظر إلى شمسها وقمرها، واختلاف مشارقها ومغاربها، ودأبها في الحركة على الدوام بأمر خالقها، من غير فتور في حركتها، ولا تغير في سيرها، إلى أن يأتي أجلها، وموعد زوالها.
وانظر إلى كثرة كواكب السماء، واختلاف ألوانها وأحجامها وأنوارها.
ثم انظر إلى الشمس، وقوة إنارتها وحرارتها، وسيرها في فلكها في مدة سنة، ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب بأمر ربها، بسير سخره لها خالقها، لا تتعداه ولا تقصر عنه.
ولولا طلوع الشمس وغروبها، لما عرف الليل والنهار، ولا المواقيت، ولأطبق الظلام على العالم أو الضياء.
وانظر إلى القمر وعجائب آياته، كيف يبديه الله كالخيط الدقيق، ثم يتزايد نوره شيئاً فشيئاً كل ليلة، حتى يكون بدراً في منتصف الشهر، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى، ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم، وعباداتهم ومناسكهم.
وما من كوكب من الكواكب إلا وللرب تبارك وتعالى في خلقه حكم كثيرة:
في حجمه ومقداره.. وفي شكله ولونه.. وفي موضعه من السماء.. وفي قربه من وسطها وبعده.. وفي قربه من الكوكب الذي يليه.. وفي بعده عنه.. كتفاوت أعضاء البدن واختلافها.. وتفاوت منافعها.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر في ملكوت السموات والأرض لما فيها من الآيات والعبر التي تزيد الإيمان كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?) [يونس: 101].
والنظر إلى السماء نوعان:
الأول: نظر إليها بالبصر الظاهر، فيرى مثلاً زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، وهذا نظر يشارك فيه الإنسان غيره من الحيوانات، وليس هو المقصود.(2/55)
الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها، وبين ملائكتها، الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويرى أنبياء الله ورسله الذين بلغوا دينه إلى عباده، آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السابعة، وغيرهم في السموات الأخرى.
ثم يفتح له باب بعد باب، حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته، وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في أرض فلاة.
ويرى الملائكة الذين يحملونه، والملائكة الذين حوله، حافين من حول العرش، ولهم زجل بالتسبيح والتحميد، والتقديس والتكبير.
ويرى الملك العظيم الجبار، الكريم الرحمن، مستو على عرشه، والأوامر تنزل من عنده بتدبير الممالك والجنود والخلائق التي لا يعلمها ولا يحصيها إلا ربها ومليكها.
فينزل الأوامر بإحياء قوم.. وإماتة آخرين.. وإعزاز قوم.. وإذلال آخرين.. وإنشاء ملك.. وسلب ملك.. وجبر كسير.. وإغناء فقير.. وشفاء مريض.. وإغاثة ملهوف.. ونصر مظلوم.. وهداية حيران.. وتفريج كرب.. ومغفرة ذنب.. وكشف ضر.. وتحويل نعمة من محل إلى محل.. وغير ذلك.
فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله شيء منها عن شيء، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج، ولا ينقص الإنفاق ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وينظر إلى أمره يتنزل بين السموات والأرض، وفي كل سماء من سمواته السبع، خلق من خلقه.. وأمر من أمره.. وقضاء من قضائه.
خلق سبحانه سبع سموات، بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأمره ينزل بين كل سماء وسماء، وبين الأرض والسماء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الطلاق: 12].(2/56)
فإذا رأى القلب هذا.. ورأى حملة العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به.. ورأى الملائكة يطوفون بالبيت المعمور.. ورأى كل سماء مملوءة بالركع السجود من الملائكة.. ورأى قدرة الله تمسك السماء أن تزول أو تقع عل الأرض.. ورأى هذا الملكوت العظيم.
فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيبته، خاشعاً لعظمته، ذليلاً لعزته، فيسجد بين يدي الرحمن، الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد.
فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه.
فيا له من سفر ما أبركه وأروحه.. وما أعظم ثمرته وربحه.. وما أسعد صاحبه.
وهذه السموات السبع العظيمة، على اتساعها وكبرها وعظمتها، يطويها العزيز الجبار يوم القيامة بيمينه، وهي في يده أصغر من الخردلة كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [الأنبياء: 104].
وجاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا مُحَمَّدُ! أوْ يَا أبَا الْقَاسِمِ! إِنَّ اللهَ تعالى يُمْسِكُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ ا? صلى الله عليه وسلم تَعَجُّباً مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقاً لَهُ، ثُمَّ قَرَأ: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 67]» متفق عليه(1).
ألا ما أعظم الله.. وما أعظم خلقه.. وما أعظم قوته.
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة.
وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فالناس بالنسبة إلى خلق السموات والأرض من أصغر ما يكون.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4811)، ومسلم برقم (2786) واللفظ له.(2/57)
فالذي خلق الأجرام العظيمة وأتقنها، قادر على إعادة الناس بعد موتهم من باب أولى وأحرى، فما بال أكثر الناس لا يعتبرون بذلك، ولا يجعلونه منهم على بال:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 57].
ألا ما أعظم آيات الله في خلق السموات السبع الشداد:
من علوها وسعتها.. وكبرها وعظمتها.. ولونها الحسن.. وإتقانها العجيب.. وما فيها من النجوم والكواكب.. الثوابت والسيارات.. والشمس والقمر النيرات.. جعلها الله سقفاً للأرض.. وحفظها من السقوط.
فهل يتعظ الإنسان ويتدبر خلق هذه السموات السبع الطباق، وما فيها من الآيات والعبر؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 32].
3- خَلق الأرض
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [السجدة: 4].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں) [ق: 6-8].
خلق الله الأرض مختلفة الأجناس والصفات والمنافع:
فهذه الأرض سهلة.. وهذه حزنة. وهذه صلبة.. وهذه رخوة.. وهذه سوداء.. وبجوارها بيضاء.. وهذه حصى كلها.. وبجوارها أرض ليس فيها حجر.. وهذه سبخة مالحة.. وبجوارها أرض خصبة طيبة.. وهذه طين أو رمل ليس فيها جبل.. وهذه مسجرة بالجبال.. وهذه تصلح لنبات كذا.. وهذه لا تصلح له.. وهذه تمسك الماء، ولا تنبت الكلأ.. وهذه تنبت الكلأ، ولا تمسك الماء: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 4].
فسبحان من نوعها هذا التنوع.. وفرق أجزاءها هذا التفريق.. ومن خص كل قطعة منها بما خصها به من المنافع والنبات والمعادن.
وسبحان من ألقى عليها رواسيها.. وفتح فيها السبل.. وأخرج منها الماء والمرعى.. ومن بارك فيها.. وقدر فيها أقواتها.
وإذا نظر الإنسان إلى الأرض، وكيف خُلقت، رآها من أعظم آيات فاطرها ومبدعها.(2/58)
خلقها الله عزَّ وجلَّ فراشاً ومهاداً، وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال، وجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد بهم.
ووسع سبحانه أكنافها، ودحاها، ومدها، وبسطها، وجعلها كفاتاً للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتاً للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء، وبطنها وطن للأموات كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [المرسلات: 25، 26].
والأرض كائن حي، يحيا ويموت، فالماء حين يصيب الأرض، يبعث فيها بأمر الله الخصب، فتنبت الزرع الحي النامي، وتموج صفحاتها بألوان وأشكال من الأحياء من النباتات، والماء رسول الحياة من الله، فحيث كان تكون الحياة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 24].
فانظر إلى الأرض وهي ميتة هامدة خاشعة، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتحركت، وربت واخضرت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر.
أقوات وأزهار وثمار على اختلافها، وتباين مقاديرها وأشكالها، وألوانها ومنافعها، وأنواع الفواكه والثمار، ومراعي الدواب والطير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 5].
ثم انظر إلى قطع الأرض المتجاورات، وكيف ينزل عليها ماء واحد، فتنبت الأزواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل، والرائحة والطعم، والمنفعة والحجم، واللقاح واحد، والأم واحدة، والنتاج مختلف.
فسبحان من أودع هذه الأجنة المختلفة في بطن هذه الأم، وجعلها تحمل بذلك من لقاح واحد أمم وقبائل من النبات: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأنبياء: 30].(2/59)
وسبحان من أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات، الشوامخ الصم الصلاب، ونصبها فأحسن نصبها، ورفعها وجعلها أصلب أجزاء الأرض، لئلا تضمحل على تطاول السنين، وترادف الأمطار، وتوالي الرياح، وأتقن صنعها، وأحكم وضعها، وأودعها من المنافع والمعادن والجواهر والعيون ما أودعها، ثم هدى الناس للاستفادة منها، ولولا هدايته لهم إلى ذلك لم يعرفوه ولم يقدروا عليه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [النبأ: 6، 7].
والله تبارك وتعالى هو الذي أنزل من السماء ماء مباركاً، وأسكنه في الأرض، يستفيد منه الإنسان والحيوان والنبات على مدار العام كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 18].
فسبحان من أودع الماء في الأرض، ثم أخرج به أنواع الأغذية والأدوية والأشربة والأقوات على مدار العام.
فهذا لغذاء الإنسان.. وهذا لغذاء الحيوان.. وهذا سم قاتل. وهذا شفاء من السم.. وهذا حار.. وهذا بارد.. وهذا حلو.. وهذا مر.. وهذا حامض.. وهذا مالح.. وهذا ثمر.. وهذا ورق.. وهذا حب متراكب.. وهذ منفرد.. وهذا ثمر مستور.. وهذا مكشوف.. وهذا ثمر أبيض.. وهذا أصفر.. وهذا أحمر.. وهذا أسود.
وهذا ثمره في باطن الأرض.. وهذا على سطح الأرض.. وهذا ثمره في أعلاه.. وهذا في أسفله.. إلى غير ذلك من عجائب النبات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده، والذي لا تكاد تخلو ورقة ولا زهرة، ولا ثمرة ولا خشبة منه، من منافع تعجز العقول عن الإحاطة بها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 11].
وانظر إلى قدرة الله في سوق الماء في تلك العروق الرقيقة الضعيفة، وكيف يستقبله النبات، وكيف يجذبه من مقره ومركزه إلى فوق، ثم ينصرف في تلك الأغصان والأوراق والثمار.
فسبحان من أنزل الماء بقدرته، ورفعه بقدرته، وسيره بقدرته، وقسمه بعلمه ومشيئته، وأحيا به الأموات، وأخرج به من كل الثمرات: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [النحل: 10، 11].(2/60)
وسبحان الخلاق العليم الذي خلق الأرض وبسطها، وشق أنهارها، وأنبت أشجارها، وأخرج ثمارها، ومن صدعها عن النبات، وأودع فيها جميع الأقوات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 174].
وسبحان الذي يمسك الأرض أن تتحرك أو تزلزل فيسقط ما عليها من بناء ومعلم، أو يخسفها بمن عليها فإذا هي تمور، وتبلع ما على ظهرها.
وإذا خسف الله بالأرض، فمن ذا يمسكها سواه، وإذا زلزلها فمن ذا يثبتها سواه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].
وهو سبحانه الذي جعل الأرض خزانة حافظة لما استودع فيها من المياه، والأرزاق، والمعادن، والنبات والحيوان، وجعل فيها الجنات والحدائق والعيون،إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
والله عزَّ وجلَّ هو الحي الذي يحيي الأرض بعد موتها، فينزل عليها الماء من السماء، ثم يرسل عليها الرياح، ويطلع عليها الشمس، فتأخذ في الحبل، فإذا كان وقت الولادة، مخضت للوضع، واهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج، بإذن ربها وفاطرها.
فتبارك الله أحسن الخالقين، الذي جعل السماء كالأب، والأرض كالأم، والقطر كالماء الذي ينعقد منه الولد، فإذا حصل الحب في الأرض، وصب عليه الماء، وكان في الموسم، انتفخت الحبة، وانفلقت عن ساقين، ساق من فوقها وهو الشجرة، وساق من تحتها وهو العروق، ثم عظم ذلك الولد، ثم وضع من الأولاد بعد أبيه آلافاً مؤلفة، كل ذلك صنع الرب في حبة واحدة، وذلك من البركة التي وضعها الله سبحانه في هذه الأم، وجعل ذلك دليلاً على إخراج من في القبور، ليوم البعث والنشور: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [الحج: 5-7].
فالأرض كالأم تحمل في بطنها أنواع الأولاد من كل صنف، ثم تخرج بأمر الله من ذلك للإنسان والحيوان ما أذن لها فيه ربها أن تخرجه، إما بعملهم وإما بدونه، ثم يرد إليها ما خرج منها، فينبته الله مرة أخرى.. وهكذا.(2/61)
وجعلها سبحانه كفاتاً للأحياء ما داموا على ظهرها، فإذا ماتوا استودعتهم في بطنها، فكانت كفاتاً لهم تضمهم على ظهرها أحياء، وفي بطنها أمواتاً.
فإذا جاء يوم الوقت المعلوم، وقد أثقلها الحمل، وحان وقت الولادة ودنو المخاض، أوحى إليها ربها وفاطرها أن تضع حملها، وتخرج أثقالها، فتخرج الناس بإذن ربها من بطنها إلى ظهرها.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [المعارج: 43، 44].
ثم تحدث أخبارها، وتشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير أو شر: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الزلزلة: 4-8].
فسبحان من أخرج الليل والنهار بواسطة الأجرام العلوية، وأخرج الذكور والإناث بواسطة الأجرام السفلية، فأخرج من الأرض ذكور الحيوان وإناثه، وذكور النبات وإناثه، على اختلاف أنواعها، كما أخرج من السماء الليل والنهار بواسطة الشمس.
وسبحان من جعل الأرض بالنسبة للإنسان كالأم، بل أشفق من الأم، فقد أمر الله الأم أن تسقيك لوناً واحداً من اللبن، وأمر الأرض أن تطعمك وتسقيك ألواناً من المأكولات والمشروبات.
وكنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، كنت مطيعاً لله، دعاك إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها مطيعاً.
وأنت الآن في بطن الأم الكبرى، وقد سخر الله لك كل شيء، وهو اليوم يدعوك إلى الخروج إلى الآخرة بالإيمان والأعمال الصالحة مراراً فلا تجيبه؟.
فما أجهل الإنسان بربه، وما أجهله بما ينفعه وما يضره، وما أظلمه لنفسه ولغيره: (? ? ? ? ?) [الأحزاب: 72].
وفي خلق الأرض آيات وعجائب وعبر، لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله كما قال سبحانه: (? ں ں ? ?) [الذاريات: 20].
ومن آياتها خلقها بهذا الحجم الهائل العظيم، وسعتها وكبر خلقها، وتسطيحها ليستقر عليها الحيوان، فهي كروية لها سطح.
ومن آياتها أن جعلها سبحانه قراراً وفراشاً، لتكون مقر الحيوان ومساكنه.(2/62)
وجعلها سبحانه بساطاً يسير عليها الحيوان والإنسان بيسر وسهولة، وجعل فيها الفجاج والسبل: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [نوح: 19-20].
وجعلها الله عزَّ وجلَّ مهاداً ذلولاً، تُوطأ بالأقدام، وتضرب بالمعاول والفئوس، وتُحمل على ظهرها الأبنية الثقال، فهي ذلول مسخرة لما يريد العبد منها في تحقيق مصالحه، من بناء وزراعة وصناعة.
ومن رحمته سبحانه أن جعل الأرض ذلولاً، لم يجعلها في غاية الصلابة والشدة كالحديد فيمتنع حفرها وشقها، والغرس والزرع فيها، ولم يجعلها سائلة لا يمكن الزرع والغرس فيها، ولا رخوة لا يمكن السير عليها، والبناء فوقها.
بل جعلها سبحانه قراراً بين الصلابة والدماثة، بحيث تصلح للسير والمشي، وتقبل الزرع والغرس، وتحمل المباني والأجسام الثقيلة: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 15].
وأشرف الجواهر عند الإنسان الذهب والفضة، ولو كانت الأرض من هذه الجواهر لفاتت مصالح العباد والحيوان منها، وتعطلت المنافع المقصودة منها.
ومن هنا نعلم أن جواهر التراب ومنافعه أشرف من هذه الجواهر وأنفع وأبرك، وإن كانت تلك أعز وأغلى، فغلاؤها وعزتها لقلتها، وإلا فالتراب أنفع منها وأبرك وأنفس.
ومن رحمته سبحانه أن خلق الأرض كثيفة غبراء، فصلحت أن تكون مستقراً للنبات والحيوان والأنام.
لم يجعلها سبحانه شفافة لا يستقر عليها النور، فلا تقبل السخونة، فتكون باردة لا يعيش عليها ولا فيها حيوان ولا نبات.
ولم يجعلها صقيلة براقة، لئلا يحترق ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس، كما يشاهد من احتراق القطن عند انعكاس شعاع الجسم الصقيل الشفاف عليه.
ومن الآيات في الأرض ما أوقعه الله بالأمم التي كذبت رسله، وخالفت أمره، فأبقى آثارهم دالة عليهم كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [السجدة: 26].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 38].(2/63)
فكم من آية؟، وكم من عبرة؟، وكم من تبصرة؟، وكم من ذكرى في هذه الأرض ما عليها؟.
وأي دلالة أعظم من رجل يخرج وحده لا مال له ولا عدة ولا عدد.
فيدعو الأمة العظيمة إلى توحيد الله والإيمان به وطاعته، ويحذرهم بأسه ونقمته، فيكذبونه ويعادونه، فيذكرهم أنواع العقوبات الخارجة عن قدرة البشر، والتي أوقعها الله بمن كفر به وكذب رسله.
فيغرق المكذبين كلهم تارة كما فعل سبحانه بقوم نوح، وفرعون وقومه.
ويخسف بغيرهم الأرض تارة كما فعل بقارون وغيره.
ويهلك آخرين بالريح كم فعل بقوم عاد.
ويهلك آخرين بالصيحة كما فعل بقوم ثمود.
ويهلك آخرين بالمسخ.. وآخرين بالصواعق.. وآخرين بالحجارة.. وآخرين بأنواع العقوبات.. وينجو داعيهم ومن معه من المؤمنين.. والهالكون أضعاف أضعافهم عدداً وقوة ومنعة وأموالاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک) [الشعراء: 67، 68].
وكل أخذه الله بذنبه عقوبة على جرمه: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?) [العنكبوت: 40].
والله جل جلاله يُري أهل كل قرن من الآيات ما يبين لهم أنه الإله الحق، وأن رسله صادقون، وأن دينه حق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 53].
وخلق السموات والأرض آية كبرى تشهد بأن الذي خلقها وأنشأها هو الله وحده، وتنطوي آية السموات والأرض على آية أخرى في ثناياها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 29].
والحياة في هذه الأرض وحدها، فضلاً عما في السموات من أحياء ومخلوقات لا ندركها آية أخرى، وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد، وعلمه إلى الله وحده دون سواه.
فسبحان الخلاق العليم الذي خلق هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان، فوق سطح الأرض، وفي ثناياها، وفي أعماق البحار، وفي جو السماء.
وهذه آية أخرى من آيات الله في الأرض.
أسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله، الذي خلقها، وقسم رزقها وسيرها في ملكه الواسع العظيم.(2/64)
وأسراب من النحل وأخواتها لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده.
وأسراب من الحشرات والهوام والذر، لا يعلم موطنها إلا الله الذي لا يخفى عليه شيء.
وأسراب من الأنعام والوحش، سائمة وشاردة في كل مكان، لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده.
واسراب من الحيوانات والأسماك في البحر، لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده.
وأمم من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان، مختلفة الأجناس والألوان واللغات والأشكال، لا يحصيها إلا الله الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 29].
وخلائق اخرى أربى عدداً، وأخفى مكاناً، في السموات والأرض، لا يعلمها إلا الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهذه المخلوقات التي تدب في السموات والأرض يجمعها الله حين يشاء، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب، وبنو آدم يعجزهم أن يجمعوا سرباً من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم، أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم.
وليس بين بعث هذه المخلوقات وجمعها، وبين موتها وحياتها، إلا كلمة واحدة من الخلاق العليم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
وهذه الأرض الواسعة بما فيها من تراب وجبال وبحار، عائمة في الهواء، سابحة في الفضاء، غير مستندة إلى شيء إلا إلى قدرة الذي خلقها وأمسكها ودبرها كيف شاء، بهذا النظام الذي لا يتخلف، وبهذا القدر الذي يسمح للأحياء والأشياء أن تظل على سطح هذا الكوكب السابح السارح الدائر في الفضاء. فسبحان الذي: ( ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الحج:65].
وسبحان من خلق الأرض ودحاها وملأها بالخيرات والأرزاق، وجهزها لاستقبال الأحياء، وحضانتهم على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وطريقة حياتهم، من نبات وحيوان، وطير وحشرات، وإنس وجن، وغيرهم مما لا يعلمه إلا الله العليم الخبير.
وكل هؤلاء جماعات وقبائل وشعوب، لا يحصيها إلا الله الذي خلقها، وخلق أرزاقها، وحدد آجالها.(2/65)
والله تبارك وتعالى هو المولى الكريم الرحيم، الذي خلق هذه الأقوات المدخرة في الأرض، للأحياء التي تسكن على ظهرها، أو تسبح في أجوائها، أو تمخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها.
هذه الأقوات الجاهزة من جهزها وأعدها بمختلف الأشكال والألوان؟.
إن الله هو الذي خلقها، لتلبي حاجات هذه الأحياء التي لا تحصى، ولا تحصى أنواع غذائها، ولا يحصب كميات أرزاقها إلا الذي خلقها.
هذه الأقوات التي أودعها الله في جوفها، والساربة في مجاريها، والسابحة في هوائها، والنابتة على سطحها، والقادمة إليها من الشمس، ومن العوالم الأخرى، وكلها تتدفق وفق تدبير الله الذي خلق هذا المحضن لهذا النوع من الحياة، وجهزه بكل ما يلائم، وبكل ما يلزم لهذه الأنواع الكثيرة التي لا تحصى، والتي تتوالد وتتكاثر على مرِّ الدهور.
فسبحان المصور الذي نوع مشاهد الأرض، حيثما امتد الطرف، وحيثما تنقلت القدم، سهول وجبال، وبحار وأنهار، ونبات وحيوان، وأزهار وثمار وأشجار.
وعجائب هذه المشاهد لا تنفد من وهاد وبطاح، ووديان وجبال، وبحار وأنهار.
وكل مشهد من هذه المشاهد في تغير دائم، يمر به الإنسان وهو أخضر، ثم يمر به إبان الحصاد حين يهيج ويصفر، فإذا هو مشهد آخر: (? ژ ژ ڑ ڑ) [الجاثية: 6].
ألا ما أعظم الآيات والعجائب في هذا الكون العظيم.
فمتى يستيقظ القلب البشري للتأمل والتدبر والتفكر في هذا المعرض الإلهي الهائل؟:
(? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 20].
إن كثيراً من الناس يمرون بهذا المعرض العجيب من المخلوقات، مغمضي العيون.. مقفلي القلوب.. لا يحسون فيه حياة.. ولا يفقهون لغة.. لأن لمسة اليقين لم تحيِ قلوبهم.. وقد يكون منهم علماء يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.(2/66)
أما حقيقة الحياة والأحياء فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفهم الوجود، ولا تفتح أسراره إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [يوسف: 105].
والله عزَّ وجلَّ وضع هذه الأرض للأنام كما قال سبحانه: (? ? ? ں) [الرحمن: 10].
والإنسان لطول استقراره على هذه الأرض، وإلفه لأوضاعها وظواهرها، لا يحس يد القدرة الإلهية التي وضعت هذه الأرض للأنام، وجعلت استقرارنا عليها ممكناً ميسوراً إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به، ولا نعلم بعظمة نعمة الله علينا فيه إلا حين يثور بركان، أو يمور زلزال، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا، فتضطرب وتمور: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الملك: 16].
إن البشر لو ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة في هذا الفضاء الكبير، وهي معلقة تسبح في هذا الفضاء، لا يمسكها شيء إلا قدرة الله، الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، لو أدركوا ذلك لظلوا أبداً معلقي القلوب والأبصار، راجفي الأرواح والأوصال، لا يركنون إلا للواحد القهار: (ک ک ک ک گ گ گ گ) [يونس: 3].
وما أعظم نعم الله على العباد في خلق هذه الأرض الذي أودعها خالقها ما لا يحصى من النعم.
فهي ذلول وحلوب.. وهي مذللة للسير عليها بالقدم.. وعلى الدابة.. وعلى السيارة.. وعلى الفلك التي تمخر البحار.. ومذللة للزرع والجني والحصاد.. ومذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات.
هذه الأرض التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة، وهي دابة متحركة، بل رامحة راكضة، وهي في الوقت نفسه ذلول لا تلقي براكبها عن ظهرها، ولا تتعثر خطاها، ولا تهزه وترهقه كالدابة غير الذلول.
ثم هي حلوب كما هي ذلول، فكم يخرج الله منها من المياه؟، وكم يخرج الله منها من الثمار والحبوب؟، وكم يخرج الله منها من البترول والغاز والمعادن؟.
فهذه النعم والأرزاق يسوقها الله إلينا من كل مكان.(2/67)
فهل أدينا حق الله علينا من العبادة والطاعة؟.
(? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 21، 22].
إن هذه الدابة التي نركبها تدور بأمر الله حول نفسها.. وتدور حول الشمس.. وتدور مع المجموعة الشمسية.. فهذه ثلاث دورات للأرض.
فسبحان من خلقها، وسبحان من أمسكها، وسبحان من أجراها وحركها.
ومع هذا الركض كله، يبقى الإنسان على ظهرها آمناً مستريحاً، مطمئناً معافى، لا تتمزق أوصاله، ولا تتهدم بيوته، ولا يقع مرة عن ظهره هذه الدابة الذلول: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الملك: 15].
وهذه الحركات الثلاث لها حكم وأسرار:
فدورة الأرض حول نفسها كل يوم ينشأ عنها الليل والنهار.
ولو كان الليل سرمداً لجمدت الحياة والكائنات من البرد، ولو كان النهار سرمداً لاحترقت الحياة والكائنات من الحر.
ودورة الأرض حول الشمس هي التي تنشأ عنها الفصول الأربعة، الصيف والربيع، والخريف والشتاء.
أما الحركة الثالثة فلم يكشف ستار الغيب عن حكمتها، إلا أنها تدل على كمال قدرة خالقها ومحركها.
وهذه الدابة الذلول، تتحرك بأمر القوي القدير هذه الحركات الثلاث الهائلة في وقت واحد، ثابتة على وضع واحد في أثناء الحركة.
وهؤلاء البشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة آمنين مطمئنين.. ويحلبونها فينالون من رزق الله فيها نصيبهم المعلوم.. يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب في بعض الأحيان.. عندما يأذن الله لها بأن تضطرب قليلاً.. فيرتج كل شيء فوق ظهرها أو يتحطم.. ويمور كل ما عليها ويضطرب.. فلا تمسكه قوة ولا حيلة.(2/68)
وذلك عند الزلازل والبراكين التي تكشف عن الوحش الجامح الكامن في الدابة الذلول، التي يمسك الله بزمامها، فلا تثور إلا بقدر، ولا تجمح إلا ثواني معدودات، فيتحطم كل شيء شيده الإنسان على ظهرها، أو يغوص في جوفها عندما تفتح أحد أفواهها، ويخسف جزء منها فتبلعه بأمر ربها انتقاماً وعقوبة ممن عصاه في ملكه وأرضه.
وهي تمور بالبشر، وهم لا يملكون شيئاً من هذا الأمر ولا يستطيعون، وهم كذلك يشهدون العواصف الجامحة الحاصبة التي تدمر وتخرب، وتحرق وتصعق: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الملك: 16].
والبشر يبدون في هول الزلازل والبراكين، والخسوف والعواصف، خلقاً ضعافاً مهازيل، لا يملكون شيئاً، ويقف الإنسان أمامها صغيراً هزيلاً، حسيراً مرعوباً، حتى يأخذ الله بزمامها فتلين وتسكن بأمره.
والقرآن يذكر البشر الذين يخدعهم سكون الدابة، ويغرهم الأمان، بنسيان خالقها وممسكها ومروضها، يذكرهم بهذه الجمحات التي لا يملكون من أمرها شيئاً، والأرض الثابتة تحت أقدامهم ترتج وتمور، وتقذف بالحمم وتفور.
والريح من حولهم تتحول إلى إعصار حاصب لا تقف له قوة في الأرض من صنع البشر، ولا تصده عن التدمير، يحذرهم وينذرهم بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الملك: 17].
وهذا الفضاء العظيم الواسع بين السماء والأرض من خلقه؟.
ومن ملأه تارة بالنور الشامل.. وتارة بالظلام الدامس؟.
ومن ملأه تارة بالحرارة.. وتارة بالبرودة؟.
ومن ملأه بالهواء اللطيف تارة.. وبالعواصف المدمرة تارة؟.
ومن سير فيه الشمس الجارية.. والقمر الساري.. والكواكب النيرة؟.
ومن سير فيه السحب المتراكمة.. والذرات الطائرة.. والطيور السابحة؟.
فسبحان من له الخلق والأمر، والتصريف والتدبير، والدين والشرع.
وسبحان الخلاق العليم... الذي خلق السماء والأرض... وخلق الكبير والصغير... وخلق البر والبحر... وخلق اليابس والرطب... وخلق كل شيء.
(? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک) [غافر: 62].
4- خلق الشمس والقمر(2/69)
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 33].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [نوح: 15، 16].
الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الشمس والقمر، وجعل فيهما النور والإضاءة، وجعل لهما بروجاً ومنازل، ينزلانها مرحلة بعد مرحلة، لإقامة دولة السنة، وتمام مصالح حساب العالم.
وبذلك يعلم الناس حساب الأعمار، وآجال الديون والإيجارات والمعاملات، وتتميز الأيام من الليالي، والليالي بعضها من بعض، ولولا حلول الشمس والقمر في تلك المنازل لم يُعلم شيء من ذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 5].
وقد قدر العزيز العليم طلوع الشمس والقمر وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، ففي طلوعهما مصالح عظيمة للعباد، وفي غروبهما مصالح عظيمة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 12].
ففي النهار يسعى الناس والدواب في مصالحهم، ويتصرفون في معايشهم، وتدبير أمورهم.
وفي الليل يهدأ الناس وينامون، فتنشط الأعضاء والأبدان، وتستعد لعمل جديد، بجسم نشيط.
ولولا الغروب لكانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها حتى يحترق كل ما عليها من نبات وحيوان.
فصارت بأمر العزيز الحكيم، تطلع وقتاً بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت، ليقضوا حوائجهم، ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويستريحوا.
وصار ضياء النهار، مع ظلام الليل، وحر هذا، مع برد هذا، مع تضادهما، متعاونين متظاهرين متعاقبين، بهما تمام مصالح العالم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 71].
وقال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [القصص: 72].
وفي حركة الشمس يظهر الله الليل والنهار، وفي ارتفاعها وانخفاضها يظهر الله بقدرته الأزمنة والفصول الأربعة (الصيف والشتاء، والربيع والخريف).(2/70)
ولو كان الزمان كله فصلاً واحداً لفاتت مصالح الفصول الباقية.
فلو كان صيفاً كله لفاتت منافع الشتاء، ولو كان شتاء كله لفاتت منافع الصيف، وهكذا منافع الربيع والخريف.
ففي الشتاء تغور الحرارة بأمر الله في الأجواف وبطون الأرض والجبال.. فتتولد مواد الثمار وغيرها.. وتبرد الظواهر.. ويتكثف الهواء.. فيحصل السحاب والمطر.. والثلج والبرد.. الذي به حياة الأرض وأهلها.. واشتداد أبدان الحيوان وقوتها.
ثم يليه الربيع، وفي الربيع تظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات، ويتنور الشجر بالزهر والثمر، ويتحرك الحيوان للتناسل.
ثم يليه الصيف، وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جداً، فتنضج الثمار بأمر الله عزَّ وجلَّ، وتنحل فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في فصل الشتاء، وتغور البرودة، وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء، لأنها كانت تهضمه بالحرارة التي سكنت في البطون.
فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان، وصفا الهواء وبرد، فانكسر ذلك السموم، وجعل الله الخريف برزخاً بين سموم الصيف، وبرد الشتاء، لئلا ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحر الشديد، إلى البرد الشديد، فيحصل له الأذى والضرر.
وكذلك جعل الله سبحانه الربيع برزخاً بين الشتاء والصيف، فينتقل فيه الحيوان من برد هذا، إلى حر هذا بتدريج وترتيب.
فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الفرقان: 62].
وأعدل الأماكن التي يعيش فيها النبات والحيوان هي التي تتعاقب عليها الفصول الأربعة، وكل موضع لا تقع عليه الشمس، لا يعيش فيه حيوان ولا نبات، لفرط برده ويبسه، وكل موضع لا تفارقه كذلك، لفرط حره ويبسه.
فسبحان من يقلب الليل والنهار لمصالح العباد والحيوان والنبات: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [النور: 44].(2/71)
وسبحان القادر العليم الحكيم، الذي نور العالم كله بهذا الكوكب العظيم، فجعله سراجاً وهاجاً، يسير بأمر الله عزَّ وجلَّ، فتنتظم به مصالح العباد، ولو كانت الشمس تطلع في موضع من السماء فتقف فيه ولا تعدوه لما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات، فيكون الليل سرمداً على من لم تطلع عليه، والنهار سرمداً على من طلعت عليه، فيفسد هؤلاء... وهؤلاء.
ولكن الله عزَّ وجلَّ بحكمته وعلمه وتدبيره قدر طلوعها من أول النهار من المشرق، فتشرق على ما قابلها من الأفق الغربي.
ثم لا تزال تجري وتغشى جهة بعد جهة، حتى تنتهي إلى المغرب، فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار، فيختلف عندهم الليل والنهار، فتنتظم مصالحهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 38].
والله حكيم عليم جعل في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل حكماً عظيمة، فإن الله خلق ظلمة الليل لهدوء الحيوان، وبرد الهواء على النبات والأبدان، فيعادل حرارة الشمس، فيصلح النبات والحيوان.
وشاب سبحانه الليل بشيء من الأنوار، ولم يجعله ظلمة داجية لا ضوء فيه أصلاً، فلا يتمكن الإنسان والحيوان فيه من شيء من الحركة، كالسير وطلب الأكل ونحو ذلك.
وجعل الله جل جلاله الشمس على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان، لئلا تتعطل الحكم المقصودة منها.
وجعل القمر يقبل الزيادة والنقصان، يبدو هلالاً، ثم لا يزال في الزيادة حتى يكون بدراً، ثم ينقص حتى يعود كما بدا، وبذلك تتحقق مصالح للعباد كثيرة، من معرفة الأيام والآجال والأوقات.
فجعل الله الشمس للتوقيت اليومي، والقمر للتوقيت الشهري، وهما يجريان بأمر الله في مصالح العالم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 38-40].
وجعل في نور القمر من التبريد والتصلب، ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل، فتتم الحكمة وتحصل المصلحة من تعاقب هذا بعد هذا.(2/72)
فسبحان الخلاق العليم، الذي جعل هذا الفلك العظيم بشمسه وقمره، ونجومه وكواكبه، وبروجه وفصوله، يدور على هذا العالم الكبير، هذا الدوران السريع المستمر، بتقدير محكم لا يزيد ولا ينقص، ولا يختل نظامه.
وذلك كله صادر عن كمال عزة الله وقدرته وعلمه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 96].
وإذا تفكر الإنسان في أمر هذين النيرين العظيمين وجدهما من أعظم الآيات في خلقهما وجرمهما، ونورهما وحركتهما، كل واحد له نهج واحد، فهما دائبان، لا ينيان ولا يفتران، ولا يقع في حركتهما اختلاف بالبطء والسرعة. والذهاب والرجوع.. والعلو والهبوط.
ولا يجري أحدهما في فلك صاحبه، ولا يدخل عليه في سلطانه، ولا تدرك الشمس القمر، ولا يجيء الليل قبل انقضاء النهار، بل لكل حركة مقدرة، ونهج معين، وتأثير ومنفعة لا يشركه فيها الآخر.
فسبحان من خلقهما.. وسبحان من نورهما وسيرهما.
وسبحان من سخرهما ودبرهما هذا التدبير العجيب لمنافع خلقه، وإظهار قدرته، وكمال علمه، ولطف تدبيره، وحسن حكمته: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فصلت: 37].
وإذا كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها، خاضعة لعظمته، مستكينة لعزته، عانية لسلطانه، السموات والأرض، والشمس والقمر، وسائر المخلوقات، فما بال الإنسان لا يشارك هؤلاء في عبادة ربه، ويسمع ويطيع؟.
إن من عدل عن عبادة الله إلى عبادة غيره فقد ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 18].
فسبحان من خلق الشمس والقمر، وأودعهما النور والإضاءة، وجعل لهما بروجاً ومنازل تعرف بهما السنين والشهور، والأيام والليالي وتتحقق بهما مصالح العالم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 12].(2/73)
وخَلْق الشمس والقمر.. وطلوعهما وغروبهما.. من أعظم الأدلة على وقوع المعاد.. كما هو مشهود في إبداء الليل والنهار وإعادتهما.. وفي إبداء القمر ثم كماله ثم نقصانه.. وفي إبداء النور وإعادته في القمر.. وفي طلوع الشمس وغروبها.. وفي إبداء الزمان وإعادته.. وإبداء الحيوان والنبات وإعادتهما.. وإبداء فصول السنة وإعادتها.. وفي إبداء الحر والبرد وإعادتهما.. كل ذلك دليل ظاهر على المبدأ والمعاد الذي نزلت به الكتب، وأخبرت به الرسل.
وقد خلق الله الشمس وجعل لها ست حركات:
من المشرق إلى المغرب.. ومن الأسفل إلى الأعلى.. ومن الأعلى إلى الأسفل.
وجعل لها مشرقين في الصيف والشتاء، ومشارق ومغارب بعدد أيام السنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [المعارج: 40، 41].
وهذا النور العظيم الهائل في الشمس.. وهذا النور العظيم في القمر.. وهذا النور الذي يشع من الكواكب والنجوم والأبصار، كل ذلك نور خلقه الله وأودعه تلك الأجرام.
وإذا كان هذا نور الشمس والقمر والنجوم... فكم يكون نور العرش الذي استوى عليه الرحمن؟.
وإذا كان هذا نور مخلوقاته.. فكيف يكون نوره جل جلاله؟:
فسبحان الذي كل خلق في العالم من خلقه... وكل رزق في الكون من رزقه...
وكل نور في العالم من نوره.
(ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [النور: 40].
5- خلق النجوم
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 97].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الملك: 5].
خلق الله تبارك وتعالى النجوم لثلاث:
زينة للسماء.. ورجوماً للشياطين.. وعلامات يهتدى بها.
فما أعظم حكمة الرب تبارك وتعالى في خلق النجوم والكواكب، وكثرتها وعجيب خلقها، وما جعل الله فيها من النور والضوء، بحيث ترى مع بعدها المفرط، فهي منقادة بأمر ربها، جارية على سنن واحدة لا تخرج عنه.(2/74)
فسبحان من خلق الكواكب والنجوم، وجعل لها البروج والمنازل، وجعل منها الثوابت والسيارة، والكبير والصغير، والقريب والبعيد، والمفرد والمجموع.
وفاوت بين ألوانها وأحجامها وحركاتها، وسيرها بقدرته:
فمنها الثابت، ومنها المتحرك، ومنها ما يسير وحده، ومنها ما يسير مع رفقته.
وسبحان من فاوت بينها، وحفظها وأبقاها، فلا تتقدم إلا بأمره، ولا تتأخر إلا بأمره، ولا تسكن ولا تحرك إلا بأمره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [النحل: 12].
وخالف سبحانه بين الكواكب في الطلوع والسير والمنازل:
فبعضها يطلع، وبعضها يغيب، ومنها السائر والمتحرك، ومنها ما يسير إلا مجتمعاً كالجيش الواحد، ومنها ما يسير وحده كالقائد.
ومنها ظاهر لا يغيب أبداً، جعلها الله بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر، فهم ينظرون إليها متى أرادوا، ويهتدون بها حيث شاءوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ??) [النحل: 16].
فما أعظم هذه النجوم المنثورة في السماء، وما أحسنها وما أجملها.
والجمال في خلق هذا الكون مقصود كالكمال.
والقرآن يوجه النظر إلى جمال السموات بعد أن وجه النظر إلى كمالها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [ق: 6].
فقد زين الله السماء الدنيا بمصابيح، وهي النجوم والكواكب الظاهرة للعين، نراها حين ننظر إلى السماء.
ومشهد النجوم في السماء جميل، وهو جمال يأخذ القلوب، متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته، ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء، إلى الليلة الظلماء، ومن مشهد الصحو، إلى مشهد السحاب والضباب، بل إنه ليختلف من ساعة إلى ساعة، وكله جمال يأخذ الألباب.
فسبحان الجميل الذي خلق الجمال في هذا الكون العظيم.(2/75)
هذه الشمس الساطعة.. وهذا القمر الساري.. وهذا الفلك الواسع.. وهذه النجوم المنتثرة.. في هذا الفضاء الواسع.. الذي لا يمل البصر امتداده.. ولا يبلغ البصر آماده.. وهذه الأجرام الهائلة التي تزين السماء.. وتجري بأمر ربها مشرقة ومغربة.
فسبحان من خلقها، وسبحان من جملها، وسبحان من سيرها.. وسبحان من أمسكها.
إن القرآن يوجه الإنسان إلى جمال السماء، وإلى جمال الكون، لأن إدراك جمال الكون، هو أقرب وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود وعظمته: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ) [ق: 6].
فكم من نجم سابح في الفضاء؟.. وكم من كوكب ساري؟.. وكم من شهاب ثاقب؟.
وكل كوكب وكل نجم له أمر من الله في خلقه.. وأمر في بقائه.. وأمر في حركته وسكونه.
فسبحان من خلقها وأمدها بالنور، وسيرها في ملكه العظيم، وهي سامعة مطيعة منقادة لأمر ربها، لا يصطدم منها نجم بآخر، ولا يواجه كوكب آخر.
وسبحان من نوع الآيات الدالة على عظمته وقدرته، وعلى صدق رسله، وجعلها للفطر تارة، وللسمع تارة، وللبصر تارة، وجعلها آفاقية ونفسية، ومنقولة ومعقولة، ومرئية بالعيون، ومرئية بالقلوب، فاستجاب من استجاب، وأبى الظالمون إلا كفوراً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
وإذا تأمل الإنسان ما في خلق هذا الكون من الآيات والعجائب.. وتدبر ما فيه من الحسن والتصريف والتدبير.. ورأى ما فيه من النعم والخيرات.. وظل معرضاً عن ربه.. ولم يخشع قلبه.. فليعلم أنه قد خسف بعقله وقلبه.. وأنه قد ركبه عدوه.. وسار به إلى النار.
فليطلب السلامة والنجاة من عدوه من ربه العزيز الرحيم.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [يوسف: 105].
6- خلق الليل والنهار
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 33].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) [غافر: 61].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار من أعجب آيات الله سبحانه.(2/76)
ولهذا يكرر الله ذكرها في القرآن، لما تضمنه من الآيات والعبر الدالة على ربوبية الله وقدرته وحكمته.
فانظر كيف جعل الله سبحانه الليل سكناً ولباساً يغشى العالم، فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب.
حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وسباتها، وتطلعت إلى معايشها وتصرفها، جاء فالق الإصباح سبحانه بالنهار تقدمه الشمس، فهزم تلك الظلمة، ومزقها كل ممزق، وأزالها وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون.
فانتشر الحيوان والإنسان، وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، لتستلم أرزاقها التي قدرها الله لها: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 47].
فيا له من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر، ومع تكرار ذلك، ودوام مشاهدة النفوس له، صار كالمألوف المعتاد، قل من يعتبر به: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [يوسف: 105].
وقد خلق الله الشمس، وجعلها علامة على النهار، وخلق القمر، وجعله علامة على الليل، فخلق سبحانه الشمس وأمدها بالنور والنار، ففيها إشراق وإحراق لمصالح العباد والكائنات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 12].
ولما كان الله عزَّ وجلَّ يحدث عند كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه، ويبث من خلقه ما شاء، فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره، شرع سبحانه في هذين الوقتين الصلاتين العظيمتين المغرب والفجر، ليذكر العبد ربه، ويسبحه ويحمده عند حدوث هذا التغير الكوني العظيم.
والله تبارك وتعالى هو الذي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 5].(2/77)
وهو سبحانه الذي جعل الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر، فلا يجتمعان أبداً، ولا يرتفعان أبداً، يذكران بعظمة خالقهما وآلائه ونعمه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [الفرقان: 62].
وهوسبحانه الذي يأتي بالليل بعد النهار، وبالنهار بعد الليل، ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الآخر وبالعكس، ويرتب على ذلك قيام الفصول، ومصالح الليل والنهار، التي تتم بها مصالح العباد: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الحج: 61].
إن السكون بالليل ضرورة لكل حي، ولا بد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية، ولا يكفي مجرد النوم لتوفير هذا السكون، بل لا بد من ليل، ولا بدَّ من ظلام، فالخلية الحية التي تتعرض لضوء مستمر تجهد ثم تتلف، لأنها لم تتمتع بفترة من السكون والظلام.
ونوم الإنسان انقطاع عن النشاط والإدراك، وهو سر من أسرار تكوين الحي، لا يعلمه إلامن خلق هذ الحي، وأودعه ذلك السر، وجعل حياته متوقفة عليه.
وما من حي يطيق أن يظل من غير نوم، فالنوم ضرورة لكل إنسان، وسر من أسرار القادر الحكيم، ونعمة من نعم الله على عباده: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 23].
والله حكيم عليم جعل حركة الكون، موافقة لحركة الأحياء، فكما أودع الإنسان سر النوم والسبات بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل، ليكون لباساً ساتراً يتم فيه السبات والانزواء، وظاهرة النهار، ليكون معاشاً تتم فيه الحركة والنشاط كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [آل عمران: 190].
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ السموات والأرض بالحق، لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 44].(2/78)
وكما جهز الخالق هذه السموات وهذه الأرض بما يصلح لحياة هذا الإنسان، جهز كذلك هذا الإنسان باستعدادات وطاقات، وبنى فطرته على معرفته، وترك له جانباً اختيارياً في حياته، يملك معه أن يتجه إلى الهدى، فيعينه الله عليه ويهديه، أو أن يتجه إلى الضلال، فيمد الله له فيه، وترك الناس يعملون بعد إرسال الرسل إليهم، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
يبلوهم لا للعلم فهو يعلم كل شيء، ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم، فيتلقوا جزاءهم عليها كما اقتضت إرادة الله وعدله.
فسبحان الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً:
خلق الأرض وما فيها.. وخلق السماء ورفعها بلا عمد.. وأمسكها أن تقع على الأرض إلا بإذنه.. وخلق الفلك العظيم الذي لا تبدو له حدود معروفة.. والذي تسبح فيه ملايين المليارات من الكواكب والنجوم والأجرام التي لا يحصيها إلا الله وحده.
هذه المخلوقات الكثيرة الضخمة، لا يلتقي فيها اثنان، ولا تصطدم منها مجموعة بمجموعة.
وكل هذه النجوم، وكل هذه الكواكب، تجري في هذا الفضاء الهائل بسرعات مخيفة، ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة لا تلتقي ولا تتصادم، لأنها في قبضة الله، خلقها بأمره، تبقى بأمره، وتسير بأمره، وتقف بأمره.
فسبحان من خلقها، وسبحان من دبرها، وسبحان من سيرها، وسبحان من نورها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].
7- خلق الملائكة
قال الله تعالى: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» أخرجه مسلم(1).
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء:
خلق السموات والأرض، وخلق الليل والنهار، وخلق ما نراه وما لا نراه من الأجسام والأرواح.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2996).(2/79)
خلق الدنيا والآخرة، وخلق الإنس والجن، وخلق الملائكة والروح، وخلق الأبدان والعقول.
والملائكة خلق عظيم من خلق الله، خلقهم الله من نور، وجبلهم على الطاعات.
والملائكة خلق عظيم لا يحصيهم إلا الله وحده، وهم كغيرهم متفاوتون في الخلق والصفات والأعمال.
وعالم الشهادة يسيره الله بالأسباب الظاهرة، وعالم الغيب يسيره الله بالملائكة.
والملائكة من حيث الرتبة عباد مكرمون، عابدون لله، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء.
وهم من حيث العمل، يعبدون الله ويسبحونه: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 19، 20].
وهم من حيث الطاعة، منحهم الله عزَّ وجلَّ الانقياد التام لأمره، وأعطاهم القدرة على تنفيذه فهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 6].
والملائكة خلق كثير لا يحصيهم إلا الله:
منهم حملة العرش.. وخزنة الجنة.. وخزنة النار.. والحفظة والكتبة.. وملائكة في السماء.. وملائكة في الأرض.
منهم من اختص الله بعلمهم، ومنهم من أعلمنا الله بأسمائهم وأعمالهم ومنهم:
1- جبريل صلى الله عليه وسلم ، وهو الموكل بالوحي إلى الأنبياء والرسل.
2- ميكائيل صلى الله عليه وسلم ، وهو الموكل بالقطر والنبات.
3- إسرافيل صلى الله عليه وسلم ، وهو الموكل بالنفخ في الصور.
4- مالك، خازن النار، وهو الموكل بالنار.
5- رضوان، خازن الجنة، وهو الموكل بالجنة.
ومنهم ملك الموت، الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومنهم الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم وكتابة أقوالهم وأعمالهم.
ومنهم الموكلون بالأجنة في الأرحام، يكتبون بأمر الله رزق الإنسان وعمله وأجله وشقي أو سعيد.
ومنهم الملائكة الموكلون بسؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ورسوله.
وغيرهم كثير مما لا يحصيه إلا الله الذي أحصى كل شيء عدداً.
وقد وكل الله الملائكة الكرام الكاتبين، وجعلهم علينا حافظين، يكتبون الأقوال والأعمال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الانفطار: 10-12].(2/80)
ومع كل إنسان ملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من أمامه، وواحد من خلفه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھھ) [الرعد: 11].
ووكل الله بالجبال ملائكة.. ووكل بالأرحام ملكاً يقول: يا رب نطفة؟.. يا رب علقة؟.. يا رب مضغة؟.. يا رب ذكر أم أنثى؟.. فما الرزق؟.. فما الأجل؟.. وشقي أم سعيد؟.
ووكل سبحانه بالموت ملائكة.. ووكل بسؤال الموتى ملائكة.. ووكل بالرحمة ملائكة.. ووكل بالعذاب ملائكة.
ووكل بالمؤمن ملائكة يثبتونه ويُوزونه إلى الطاعات.. ووكل بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها.. ويصنعون أرائكها وسررها.. وصحافها ونمارقها.. ووكل بالنار ملائكة يبنونها ويوقدونها.. ويصنعون أغلالها وسلاسلها.. ويقومون بأمرها.
ووكل بالبحار ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض.. فالملائكة هي المدبرات أمراً.. وهم رسل الله في تنفيذ أوامره في ملكه.
والملائكة كما أنهم متفاوتون في العمل فهم كذلك متفاوتون في الخلق.
فإسرافيل ينفخ في الصور النفخة الأولى، وهي نفخ الصعق، فيصعق بنفخة واحدة من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه نفخة البعث، فيقوم الناس ليوم البعث كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الزمر: 68].
وجبريل شديد القوة الظاهرة والباطنة، قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?) [النجم: 4-6].
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: «أنَّ النَّبِيَّ ^ رَأى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ» متفق عليه(1).
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4857)، ومسلم برقم (174)، واللفظ له.(2/81)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ ا? مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ» أخرجه أبو داود (1).
وحملة العرش من الملائكة يؤمنون بالله، ويسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون للمؤمنين في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 7].
والملائكة أفضل من صالحي البشر باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى، منزهون عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر.
وصالحو البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، فيوم القيامة بعد دخول الجنة يصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة.
فالمؤمنون في الجنة في نعيم وسرور دائم: (? ? ? ? ? ? ?ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [الرعد: 23، 24].
وقد وكل الله عزَّ وجلَّ الملائكة بالعالم العلوي، والعالم السفلي، تدبره بأمره سبحانه، فتدبر الأمطار والنبات، والأشجار والمياه، والرياح والبحار، والأجنة والحيوانات، والجنة والنار وغير ذلك مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله.
وقد أقسم الله بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أوامره فقال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ?) [النازعات: 1-5].
فالملائكة قوية تنزع الأرواح بقوة، وتجذبها بقوة.
وهي سابحة في الهواء صعوداً ونزولاً، تسبق غيرها لتنفيذ أمر الله جل جلاله.
وتدبر أهل العالم العلوي والسفلي بأمر الله.
والملائكة يقومون بعبادة الله وطاعته، وتنفيذ أوامره بلا كلل ولا ملل: (? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 20].
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4727)، صحيح سن أبي داود رقم (3953).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (151).(2/82)
والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ويموتون كما يموت الإنس والجن عند النفخ في الصور.
وللملائكة قدرة على التشكل كما جاء جبريل إلى مريم في صورة بشر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ) [مريم: 17].
وجاءت الملائكة إلى إبراهيم ^ في صورة بشر، وجاءوا إلى لوط ^ في صور شباب حسان الوجوه، وكان جبريل يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وتارة في صورة أعرابي يسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة.
والملائكة مستقيمون في عبادتهم، يتمون الصفوف، ويتراصون في الصف، وفي يوم القيامة يأتون صفوفاً منتظمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الفجر: 22].
ويقفون صفوفاً بين يدي الله هناك: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النبأ: 38].
وهم معصومون من الخطأ، فهم بأمر الله يعملون: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 6].
فهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون، فالأمر يحركهم، والأمر يوقفهم.
فسبحان من خلق هذا الخلق العظيم من الملائكة، وملأ بهم السموات السبع، وهم ملأوا السموات السبع بالتحميد والتقديس والتكبير والتهليل والاستغفار، تعظيماً وإجلالاً لربهم تبارك وتعالى.
8- خلق المياه والبحار
قال الله تعالى: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [النحل: 10، 11].
وقال الله تعالى: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأنبياء: 30].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 14].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الماء، وأودع بعضه في السحاب، وأرسل عليه الرياح تحمله بأمر الله، وتسوقه إلى ما شاء الله من البلاد والعباد: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الفرقان: 48-50].
إن خلق الماء بذاته آية، يجتمع ويتفرق بأمر الله، إن شئت رأيته قطرات، وإن شئت رأيته بحراً محيطاً بهذه الأرض، وبهذا الماء جعل الله كل شيء حي.(2/83)
ثم جمعه في السحاب آية أخرى، ثم سير هذا البحر العظيم في جو السماء آية أخرى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 57].
ثم نزول الماء من السحاب إلى الأرض على شكل قطرات آية أخرى.
ثم جمعه وإسكانه في الأرض وحفظه آية أخرى.
ثم تفجره بعد ذلك من الأرض ينابيع وعيوناً آية أخرى.
ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 21].
وحياة النبات التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه آية عجيبة من آيات ربك.
وقبول الأرض لهذا الماء وابتهاجها به، وإظهارها زينتها بسببه آية أخرى.
ورؤية النبتة الصغيرة وهي تكشف حجاب الأرض عنها، وتزيح أثقال الركام من فوقها، وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية آية أخرى.
ورؤية النبتة والشجرة، وهي تصعد رويداً رويداً إلى الفضاء آية أخرى.
كل ذلك كفيل بأن يملأ القلب المفتوح ذكرى، وأن يثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع: (? ? ہ ہہ ہ ھ ھ) [الأعلى: 2، 3].
وهذا الزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة.. بل في النبتة الواحدة.. بل في الزهرة الواحدة.. يسقى بماء واحد.. ويخرج من أم واحدة.. إنه معرض لإبداع قدرة الرب تبارك وتعالى.
وهذا الزرع النامي، له أجل وله عمر يبلغ تمامه، ويستوفي أيامه، ثم يهيج فتراه مصفراً، وقد بلغ غايته المقدرة له، فينضج للحصاد، ثم يكون حطاماً، قد استوفى أجله، وأدى دوره، وأنهى دورته مطيعاً نافعاً، كما قدر له واهب الحياة سبحانه، وفي ذلك ذكرى لأولي الألباب والعقول.
وكما ينزل الله الماء من السماء، فيحيي به الأرض بعد موتها، وينبت للعباد به زرعاً مختلفاً ألوانه، كذلك ينزل سبحانه من السماء وحياً وذكراً تتلقاه القلوب الحية فتنفتح وتنشرح، وتغير به بإذن الله وجه الحياة البشرية، بأحسن الأخلاق، والآداب، والعبادات، والمعاملات، والمعاشرات.(2/84)
وتتلقاه القلوب القاسية فلا تنتفع به، كما تتلقى الصخرة القاسية الماء فلا يؤثر فيها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ) [الزمر: 22].
والله عزَّ وجلَّ عليم حكيم، يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير، فيصلها بنوره، فتشرق به وتستضيء.
أما القلوب القاسية فهي مظلمة جافة معتمة، لا تقبل الهدى وإن رأته وسمعته، كما لا يقبل الحجر الإنبات مع نزول المطر عليه.
فسبحان من أنزل من السماء الماء والهدى، وجعل من القلوب ما يقبل الهدى، ومنها ما لا يقبل، وجعل من الأرض ما يقبل الماء، ومنها ما لا يقبل، والله بكل شيء عليم، وبعباده خبير بصير.
ألا ما أجهل الإنسان بربه، وما أجهله بمخلوقاته، وما أجهله بنعمه؟.
هذه المياه الغزيرة المتوفرة في العالم من خلقها؟.
وهذه المياه التي يحملها السحاب من أنزلها من السماء؟.
وهذه المياة المجموعة في بطن السحاب من فرقها على الجبال والسهول والوهاد والبطاح؟.
ومن سيّرها في الأنهار؟.. ومن فجّرها من العيون؟.
ومن ساقها شراباً عذباً للبهائم والأنعام، والناس والنبات؟
(ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 68-70].
والماء الذي ينزل من السماء في كل لحظة في العالم يعرفه كل إنسان، ويراه كل إنسان، ولكن أكثر الناس يمرون عليه ويمر بهم، وهم في غفلة لا يذكرون من خلقه وأنزله وقسمه، وذلك لطول الإلفة والتكرار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [يوسف: 105].
والله سبحانه ينزل الماء بقدر إلى الأرض، لا يزيد فيغرق الأرض ومن عليها، ولا يقل فتجف الأرض، وتذبل الحياة ويهلك من عليها: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 21].
فالله أنزل الماء بقدر معلوم، ليحيي به الأرض بعد موتها، ويسقي به العباد والبهائم، وليدل على البعث والنشور.(2/85)
فالذي أنشأ الحياة أول مرة، كذلك يعيدها سبحانه، والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?) [الزخرف: 11].
فسبحان من خلق هذه المياه العظيمة، وصرفها في البلاد والعباد، وجعل منها ما يجري في جو السماء، ومنها ما يجري على ظهر الأرض كالأنهار، وما يستكن في باطن الأرض، وما يستقر في البحار، وما ينبع من الأرض.
وسبحان من خلق الماء نوعاً واحداً، وجعل منه الحار والبارد.. والحلو والمر.. والعذب والمالح.. والساكن والجاري.. والسائل والجامد.
ومنه ما يعيش فيه هذا النبات، وهذا الحيوان، ومنه ما لا يعيش فيه إلا هذا النبات وهذا الحيوان، كما في البحار والأنهار.
وسبحان من جعل من هذا الماء بحرين، وجعل فيهما من المنافع والأرزاق والنعم ما لا يحصيه إلا الله، وجعل لكل بحر طبيعة وأحياء لا تعيش إلا فيه، وخلائق ومنافع تحصل منهما معاً: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 12].
ومن آيات الله عزَّ وجلَّ، وعجائب مخلوقاته، هذه البحار العظيمة المكتنفة لأقطار الأرض والمحيطة بها، حتى إن المكشوف من الأرض بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمور بالماء، فالأرض في البحر كبيت في جملة الأرض.
ولولا إمساك الرب تعالى للماء بقدرته، لطفح على الأرض وعلاها كلها، وهذا طبع الماء، ولكن الذي خلقه وطبعه حبسه وقهره.
وخلق الله عزَّ وجلَّ في البحار أجناساً مختلفة من الحيوانات، لها أشكال ومقادير وألوان، ولها منافع ومضار، حتى إن فيها حيواناً كالجبل لا يقوم له شيء، وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر مثله غالباً، وفيه أجناس كثيرة لا يعهد لها نظير في البر أصلاً.
وقد خلق الله هذه البحار العظيمة، وجعلها داراً وسكناً ومسرحاً لما لا يحصيه إلا الله من الأسماك المختلفة الأشكال والأحجام:(2/86)
فمنها الكبير والصغير.. والطويل والقصير.. والمسالم والمفترس.. وما يبيض وما يلد.. وما يعيش في أعلاه.. وما يعيش في أسفله.. وما يعيش في البحار.. وما يعيش في الأنهار.
والأسماك أمم وقبائل لا يعلمها إلا الله، ولا يحصيها إلا الذي خلقها، وتكفل بأرزاقها، وقام بأمرها، وأذن ببقائها.
فسبحانه من إله ما أرحمه، ومن رب ما أعظمه، ومن غني ما أكرمه: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الزمر: 6].
وخلق الله الحكيم العليم السمك بدون قوائم، لأنه لا يحتاج إلى المشي، إذ كان مسكنه الماء الذي يسبح فيه.
وخلق له سبحانه عوضاً عن القوائم أجنحة شداداً، يقذف بها من جانبيه، وكسى جلده قشوراً متداخلة ليقيه من الآفات، وأعين بقوة الشم، لأن بصره ضعيف والماء يحجبه، فصار يشم الطعام من بعد فيقصده ويأكله.
وجعل سبحانه من فيه إلى صماخه منافذ، فهو يصب الماء فيها بفيه، ويرسله من صماخيه فيتروح بذلك، كما يأخذ الحيوان البري النسيم البارد بأنفه، ثم يرسله ليتروح به.
فالماء للحيوان البحري كالهواء للحيوان البري، فهما بحران، أحدهما ألطف من الآخر، وفي كل بحر أمم تعيش فيه.
بحر الهواء يسبح فيه حيوان البر.
وبحر الماء يسبح فيه حيوان البحر.
ولو فارق أحد الصنفين بحره إلى البحر الآخر لمات، فكما يختنق الحيوان البري في الماء، يختنق كذلك الحيوان البحري في الهواء.
فسبحان من خلق هذا وهذا، وجعل لهذا عالم من الحيوان والنبات يناسبه، ولهذا عالم آخر يناسبه: (? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 3].
والسمك أكثر الحيوانات نسلاً، ولهذا يوجد في السمكة الواحدة من البيض أعداد هائلة، وحكمة ذلك أن يتسع لما يتغذى به من أصناف الحيوان، فإن أكثرها يأكل السمك.
فالناس تأكل السمك.. والطير تأكله.. والحيوانات والسباع تأكله.. ودواب الأرض تأكله.. والسمك الكبار تأكله.. فكثَّره جل وعلا ليكون غذاء وطعاماً لهذه الأصناف التي لا يحصيها إلا الله.
والبحر قسمان:
علوي.. وسفلي.(2/87)
فأما البحر السفلي فهو في الأرض، وهو نوعان: عذب، ومالح.
وأعظمها وأكبرها وأوسعها، هذا البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض، وهو البحر المالح، ويغمر نحو ثلاثة أرباع الأرض، ويتصل بعضه ببعض، ويشغل اليابس الربع، وهذا اليابس كجزيرة صغيرة في بحر عظيم.
وأما البحرالعذب فيشمل الوديان والأنهار.
وقد خلق الله البحرين، وجعلهما يلتقيان، ولكنهما لا يبغيان، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر، ووظيفته المقسومة، وبينهما برزخ من صنع الله وآياته العجيبة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الرحمن: 19-21].
وتقسيم الماء على هذا النحو في الأرض، لم يجيء مصادفة ولا جزافاً، بل هو مقدر تقديراً عجيباً من العزيز العليم.
وهذا القدر الواسع من الماء المالح، هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض، وحفظه دائماً صالحاً للحياة والعافية.
ومن هذا البحر الواسع تنبعث الأبخرة بأمر الله، تحت تأثير حرارة الشمس، وتأتي الرياح فتثيرها سحاباً يجري في السماء، وهي التي تعود بأمر الله فتسقط أمطاراً، يتكون منها الماء العذب، فيروي الأرض، وتجري منه الأنهار: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 48].
وعلى هذا الماء العذب الذي ينزله الله من السماء، ويفرقه في البلاد، تقوم حياة النبات والحيوان والإنسان.
وتصب جميع الأنهار في البحار، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض، ومستوى سطح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على النهر الذي يصب فيه، ولا يغمرمجراه بمائه المالح فيحوله عن وظيفته: (?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 53].
وهذا البحر العظيم لولا أن الله يمسكه لفاض على الأرض وأغرق ما فيها، ولكن الله يحبسه ويمسكه، وسيفجره عند قيام الساعة ويجره.
وفي البحر نباتات وأشجار لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده.
ومن آيات الله في البحرين أنه: (ٹ ? ? ? ?) [الرحمن: 22].(2/88)
واللؤلؤ أصله حيوان، ففي البحر عجائب، ولعل اللؤلؤ من أعجب ما في البحار، فهو يهبط إلى الأعماق، وهو داخل صدفة، وله شبكة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه، وتمنع دخول الرمل والحصى، وتحت الشبكة أفواه الحيوان، فإذا دخلت ذرة رمل أو حصاة إلى الصدفة سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة، وعلى حسب حجم الجسم الذي دخل يختلف حجم اللؤلؤة.
والمرجان من عجائب مخلوقات الله التي تعيش في البحار، يثبت نفسه على صخرة أو عشب، وفتحة فمه محاطة بزوائد إذا لمست الفريسة أصيبت بالشلل في الحال، فتأكلها بعد دخولها الفم.
ومن اللؤلؤ والمرجان يتخذ الناس حلياً غالية الثمن، جميلة المنظر.
هذا مع ما فيه من العنبر، وأصناف النفائس التي يقذفها البحر، أو يستخرجها الناس بوسائل الصيد.
ثم انظر إلى عجائب السفن وسيرها في البحر، تشقه وتمخره بواسطة الرياح التي سخرها الله، فإذا حبس الله القائد والسائق ظلت راكدة على ظهره: (? ? ? ? ? پ پپ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 32-33].
وهذه البحار العظيمة، والمحيطات الواسعة من أنشأها؟.
ومن أودع هذه البحار خصائصها من كثافة وعمق وسعة، حتى تحتضن ما لا يحصيه إلا الله من الأسماك والمخلوقات والنباتات؟.
ومن سخرها لتحمل السفن الضخام، والسفن الجواري، وحفظها من أمواج البحار والعواصف والقواصف؟.
وهذه السفن التي كالجبال من أنشأ مادتها، وأودعها خصائصها، وجعلها تطفو على وجه الماء بما فيها من الأجسام الثقيلة؟.
وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن، وغير الريح من القوى التي دل الله الإنسان عليها وسخرها له من بخار أو ذرة أو وقود، تدفع تلك السفن الضخام، من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام؟.
إن الله تبارك وتعالى هو الذي يسير المخلوقات في البر والبحر، لو شاء أسكن الريح، أو عطل محركات السفن، فظلت هذه الجواري راكدة على ظهر البحر.(2/89)
وإنها لتركد أحياناً، فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة، إن في إجرائهن وركودهن على السواء لآيات لكل صبار شكور: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 8، 9].
فسبحان من خلق المياه، وسقى بها البلاد والعباد.
وسبحان من أسكنها في باطن الأرض، وأجراها في الأنهار، وجمعها في البحار، وحملها في السحاب، وفرقها على النبات والحيوان والإنسان.
وسبحان الكريم الذي ملأ البحر بضروب من الحيوانات والنباتات، واللؤلؤ والمرجان، والجواهر والنفائس.
وما أوسع ملكه.. وما أكثر خلقه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [لقمان: 11].
وهذا الماء العذب الذي نشربه كل يوم ما دور الإنسان فيه؟.
دوره أنه يشربه وينتفع به، أما الذي أنشأه من عناصره، وأما الذي أنزله من سحائبه فهو الله سبحانه.
وهو سبحانه الذي قدر أن يكون الماء عذباً فكان.
فمتى يشكر الإنسان فضل الله عليه في خلق رزقه وسوقه إليه حيثما كان: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 68-70].
فسبحان من جمع المياه العظيمة في السحاب، وأمسكها بقدرته، وسيرها في هذا الكون العظيم، ثم أنزلها على شكل قطرات لا يحصيها إلا الله، وفرقها على الجبال والسهول والوديان والبحار، ثم جمعها في العيون والأنهار والبحار.
وسبحانه من حكيم عليم يجمعها إذا شاء لمن شاء، ويفرقها حيناً إذا شاء لمن شاء: (? ? ? ? ? ) [النازعات: 26].
وأما البحر العلوي فهو البحر الذي فوق السماء السابعة، الذي عليه عرش الرحمن، وهو بحر عظيم لا يعلم عظمته وسعته إلا علام الغيوب: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 7].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاء» أخرجه مسلم (1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2653).(2/90)
فسبحان من خلق هذه الروايا العظيمة، وحملها على ظهر الريح، وسيرها بأمره حيث شاء، فهي مأمورة مدبرة بأمر ربها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ» أخرجه مسلم (1).
اللهم إنا نستغفرك من جهلنا.. وظلمنا.. وتقصيرنا.. فاغفر لنا.. إنك أنت الغفور الرحيم.
9- خلق النبات
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الشعراء: 7، 8].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [فصلت: 39].
الله تبارك وتعالى خلق الأرض، وزينها بما على ظهرها من المياه والنباتات والأشجار، وفرشها بأنواع النبات، وجملها بالزهور، وحملها بالثمار من أجل الإنسان، الذي كرمه الله على سائر المخلوقات.
ووضع المولى الكريم مائدة نعمه عليها، من حلو وحامض، ورطب ويابس، وثمر وحبوب، وزرع ونخيل، وعنب وزيتون، وفواكه مختلفة، وأعشاب متنوعة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ?? ? ? ? ? ? ?) [عبس: 24-32].
فجميع الحيوانات والطيور والحشرات وسائر البشر، كلهم يأكلون من هذه المائدة التي خلقها الله، ووضعها لهم على هذه الأرض.
وقد خلق الله سبحانه كل دابة ورزقها، فلا تموت حتى تستوفيه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
والله عزَّ وجلَّ أنزل من السماء ماء، فمازج الأرض، فأوجد الله بينهما بسبب هذه الممازجة والمخالطة أنواعاً مختلفة من الثمار والفواكه والحبوب، والزروع والأشجار، وسائر الأغذية والأقوات المختلفة الألوان والأشكال، والأحجام والطعوم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الحج: 5-7].
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2984).(2/91)
فسبحان من غير بالماء الأرض المغبرة، حتى صارت مخضرة.
وسبحان من زينها بالنبات والأزهار، كما زين الإنسان بالثياب والأخلاق.
وسبحان من أنجب منها وأظهر ملايين المواليد من النباتات.
ذلك هو الله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له، فهو خالق كل شيء، كما ابتدأ الخلق، وكما أحيا الأرض بعد موتها، يحيي الموتى، ثم يجازيهم، وهو على كل شيء قدير.
وهذه الزروع التي تنبت، والأشجار التي تثمر، آية من آيات الله الباهرة، هو الذي خلقها ونمّاها، وأخرج منها الثمار والحبوب، فلكل نبتة، ولكل شجرة، ولكل ورقة، ولكل ثمرة، أمر من الله بالخلق، وأمر بالبقاء، وأمر بالنفع والضر.
أما دور البشر فهم يحرثون، ويلقون الحب الذي خلقه الله في الأرض التي خلقها الله، ويسقونه بالماء الذي خلقه الله، ثم ينتهي دورهم: (? ? ?? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الواقعة: 63-67].
إن الحبة أو البذرة تأخذ طريقها إلى الحياة بأمر الله عزَّ وجلَّ.. وتسير فيه سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق.. الذي لا يخطئ مرة كما يخطئ الإنسان في عمله.. ولا ينحرف عن طريقه.. ولا يضل الهدف المرسوم.
فسبحان من خلقها، وسبحان من دبرها، وسبحان من كبرها، وسبحان من صورها.
إن يد القدرة الإلهية هي التي تتولى خطاها على طول الطريق في هذه الرحلة العجيبة التي ما كان العقل ليصدقها لولا أنه أبصرها ورآها.
فأي عقل يصدق، وأي خيال يتصور، أن حبة القمح مثلاً يكمن فيها هذا العود، وهذا الورق، وهذه السنبلة، وهذا الحب الكثير.
أو أن هذه النواة تكمن فيها نخلة كاملة سامقة بكل ما تحتويه من جذور وأوراق وثمار وأولاد.
إن العقل لايصدق هذا، لولا أنه يراه يقع بين يديه صباح مساء، ولولا أن هذه القصة تتكرر على مرأى ومسمع من جميع الناس.(2/92)
إن كل حبة، وكل نبتة، وكل بذرة تنبت وتنمو وترتفع بأمر خالقها، ولو شاء سبحانه لم تبدأ رحلتها، ولو شاء لم تتم قصتها، ولو شاء لجعلها حطاماً قبل أن تؤتي ثمارها.
وهي بمشيئة الله تقطع رحلتها من البدء إلى الختام، وتقدم نفسها طعاماً للإنسان، وهو يعصي ربه، ويخالف أمره، بل قد يستعملها في معصيته.
ولكن الله غفور حليم يمنحهم الثمر، ويسمح للنبتة أن تتم دورتها، وتكمل رحلتها: ( ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 243].
والنبات والحيوان أمم وقبائل، وأشكال وألوان لا يحصيها إلا الله:
فالنبات منه ما هو معمر.. ومنه ما هو حولي.. ومنه ما هو فصلي.. ومنه الأبيض والأسود.. ومنه الأحمر والأصفر.. ومنه الأخضر والأزرق.. ومنه زهر بلون.. وزهر بلونين.. وزهر بألوان.
ومنه حلو.. ومنه مر.. ومنه حار.. ومنه بارد.. ومنه مالح.. ومنه حامض.. ومنه ثمر بنوى.. وثمر بدون نوى.
ومنه ثمر ظاهر على الأرض.. ومنه ثمر على رأس الشجر.. ومنه ثمر في باطن الأرض.
ومنه ما يتكاثر بالنواة.. ومنه ما يتكاثر بالعروق.. ومنه ما يتكاثر بالأغصان.. ومنه ما هو في البر.. ومنه ما هو في البحر.. ومنه ما هو رطب.. ومنه ما هو يابس.. ومنه ما هو مجموع كالرمان.. ومنه ما هو مفرود كالتمر.. ومنه الكبير.. ومنه الصغير.. ومنه الكروي.. ومنه المستطيل.. ومنه القائم.. ومنه النائم.. ومنه المعلق.
فسبحان الخلاق العليم الذي خلق هذه المواليد المختلفة من أم واحدة: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 36].
فما أجهل البشر بخالقهم، وما أجرأ أكثرهم على معصيته: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ) [الشعراء: 7، 8].
والله سبحانه خلق الإنسان من تراب، وأنبته من هذه الأرض، ثم يعيده بعد تمام أجله، ثم يخرجه للبعث كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ? ?? ? ? ? ? ?) [نوح: 17، 18].
وقد خلق الله سبحانه أصناف الأشجار والنبات، وزينها بالأوراق والأزهار والثمار.(2/93)
وجعل الأوراق زينة للأشجار، وستراً ولباساً للثمار، ووقاية لها من الآفات التي تمنع كمالها، ولهذا إذا جردت الشجرة من الورق، ماتت الشجرة، وفسدت الثمرة ولم ينتفع بها.
ويكسو الله عزَّ وجلَّ الأشجار كل سنة لباساً جديداً من الأوراق.
فتبارك الله رب العالمين، الذي يعلم مساقط تلك الأوراق ومنابتها، فلا تخرج منها ورقة إلا بإذنه، ولا تسقط إلا بعلمه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 59].
ومع هذا الجمال والزينة، وهذه الثمار المتنوعة، هناك جمال آخر، فلو شاهدها الناس وهي تسبح بحمد ربها، أغصانها وأوراقها، وأزهارها وثمارها، لشاهدوا أمراً آخر، ولرأوا خلقها بعين أخرى، ولعلموا أنها لشأن عظيم خلقت، فهي ساجدة لربها، مطيعة لخالقها الذي: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
فسبحان العزيز الجبار الكريم الرحمن، الذي يسبح له، ويسجد له، ويصلي له، جميع ما في السموات وما في الأرض من الكائنات.
وسبحان من تؤوب له الجبال بالتسبيح، وتهبط من خشيته الأحجار، وتتفجر بالماء من خشيته الصم الصلاب.
إن تكون حمل الشجر، وتقلبه من حال إلى حال كتنقل أحوال الجنين في بطن أمه، فبينما ترى الشجرة عارية، إذ كساها ربها بالزهر والورق أحسن كسوة، ثم أطلع فيها حملها ضعيفاً صغيراً.
ثم ساق إليه غذاءه في تلك العروق، فتتغذى به كما يتغذى الطفل من لبن أمه، ثم رباه ونماه حتى استوى وكمل.
فسبحان العليم القدير الذي اخرج ذلك الجني اللذيذ اللين الحلو، من تلك الحطبة الصماء، في تلك الأرض الغبراء، إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [فصلت: 39].
10- خلق الحيوانات
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ) [الأنعام: 38].(2/94)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النور: 45].
الله جل جلاله هو الخلاق العليم، خلق السموات، وملأها بالملائكة التي تسبحه وتقدس له.
وخلق الأرض، وخلق منها الإنسان، وجعله خليفة فيها.
وخلق حول الإنسان مخلوقات عظيمة من الحيوانات، تدب على وجه الأرض.. أو تحلق في جو السماء.. أو تسبح في قعر البحر.
وهذه الحيوانات أمم وقبائل، وأنواع وأجناس، وأشكال وألوان، وذكور وإناث.
وهي أعداد هائلة لايحصيها إلا الله الذي خلقها ودبرها، والذي يطعمها ويسقيها، وينميها ويعافيها، ويعلم مستقرها ومستودعها.
فهي ساربة منتشرة، في ملكه بأمره سبحانه، تأكل وتشرب من مائدة نعمه الكبرى في هذه الأرض:
فمنها ما يمشي على بطنه.. ومنها ما يمشي على رجلين.. ومنها ما يمشي على أربع.. ومنها ما يطير بجناحيه.. ومنها ما يسبح في البحار والأنهار.
وكلها تسبح بحمد ربها طائعة لخالقها، عابدة ساجدة له، حتى تستكمل آجالها، وتستوفي أرزاقها: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 49، 50].
وهذه الحيوانات المختلفة الأجناس والأنواع، والأحجام والألوان.
كل فرد منها معجز في خلقه.. معجز في تصريفه.. معجز في طريقة حياته.. معجز في نموه وتكاثره وولادته.. بحيث لا يزيد جنس عن حدود معينة تحفظ وجوده وامتداده.. وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء.
فسبحان العليم الحكيم الذي يمسك بزمام الأنواع والأجناس، يزيد فيها وينقص بحكمة وتقدير، ويضع في كل منها من القوى والخصائص والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعاً.
فالإبل والبقر، والغنم والمعز خلقها الله عزَّ وجلَّ لمنافع العباد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [يس: 71-73].
فسبحان العزيز الكريم الذي سخرها للإنسان يأكل من لحومها، ويشرب من ألبانها، ويلبس من أصوافها، ويفترش من أوبارها.(2/95)
وهذه الأنعام قليلة النسل، إذ قلما تلد في السنة إلا واحداً، ولكن الله سبحانه جعل فيها البركة، فهي مع قلتها وكثرة من يأكلها من البشر والسباع إلاأنها أكثر الحيوانات نماءً وكثرةً وبركة ومنافع.
والنسور من الطيور الجارحة الضارية وعمرها مديد، ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير.
وكيف يكون الأمر لو كان للنسور نسل العصافير؟.
إنها ستقضي على جميع الطيور، وتحرم منها بقية الأجناس والبشر.
فسبحان من أكثر من هذا، وقلل من هذا لمصالح عباده.
والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية، والفهود كذلك والنمور كذلك.
كيف تكون الحال لو كانت تنسل نسل الشياه والضباء؟.
إنها ما كانت لتبقي على لحم تجده من حيوان أو إنسان.
فسبحان العليم القدير الذي يمسك بزمام مخلوقاته.. فجعل نسل هذه محدوداً بالقدر المطلوب.. وبارك في نسل الضباء والشاء وغيرها من ذوات اللحوم لمصالح ومنافع عباده: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 5].
والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة بمشيئة الله مئات الألوف، وفي مقابل هذا لا تعيش إلا أسبوعين تقريباً. فكيف لو أفلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهراً أو سنوات؟.
إذاً لكان الذباب يغطي الأجسام والقرى والدور، ويأكل العيون والطعام.
ولكن الحي القيوم العليم بكل شيء أحكم الأمور وفق تقدير محكم، محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف.
فسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، كما أحسن خلقه وأتقنه.
وسبحان من خزائنه مملوءة بكل شيء، ولكنه حكيم لا ينزل منه إلا بقدر ما يصلح أحوال البلاد والعباد: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجر: 21].
إنها آيات وعجائب في الخلق والتدبير، والتحريك والتسكين، والإحياء والإماتة في عالم البشر، وفي عالم الحيوان، وفي عالم البر، وفي عالم البحر، وفي العالم العلوي، وفي العالم السفلي كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [الجاثية: 3، 4].(2/96)
إنها آيات ناطقة لكل مؤمن يراها ويتدبرها.
واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس وتتأثر وتنيب.
اليقين بالله الذي يدع القلوب تثبت وتطمئن، وتتلقى كل ما تراه وتسمعه في الكون في هدوء ويسر، وفي راحة من القلق والحيرة.
والميكروبات مخلوقات عظيمة هائلة الكثرة، فهي أكثر الأحياء عدداً، وأسرعها تكاثراً، وأشدها فتكاً، لكنها أضعف الأحياء مقاومة، وأقصرها عمراً.
وهي تموت بالملايين في كل لحظة بسبب البرد، أو الحر، أو الضوء أو عوامل أخرى.
ولو كانت قوية المقاومة، أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء.
فسبحان من بهرت حكمته القلوب والعقول، ومن دبر خلقه بمشيئته وحده لا شريك له.
وسبحان من خلق هذه الخلائق، وأسكنهم في ملكه، وأطعمهم من رزقه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الزخرف: 84].
وكل حي وكل كائن من هذه الحيوانات والطيور والحشرات، مزود بسلاح بتقي به هجمات أعدائه، ويغالب به خطر الفناء، في البر أو في البحر، وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع.
فكثرة العدد سلاح.. وقوة البطش سلاح.. وبينهما ألوان وأنواع:
فالحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها.
والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام.
والضباء مزودة بسرعة الجري والقفز.
والأسود والسباع مزودة بقوة البأس والافتراس.
والطيور الجارحة مزودة بمخالب ومناقير تمزق اللحوم.
وبعض الأسماك مزودة بمناشير تذبح من يقترب منها.
وهكذا كل حي من الأحياء الكبار والصغار على السواء.
فسبحان من خلقها، ومن دبر أرزاقها، ومن يسر لها القوة التي تدافع بها عن نفسها.
وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام، الإنسان والحيوان، والطيور والحشرات، كل خلق الله له ما يناسبه، من الطعام والشراب والسكن.
والحيوانات تحصل على أرزاقها التي قسم الله لها بطرق شتى:(2/97)
فمنها ما يعيش على النبات والحبوب كالإبل والبقر والغنم والغزال ونحوها.
ومنها ما يعيش على اللحوم كالحيوانات الكاسرة، والسباع الضارية التي تعيش في الفلاة، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها، والتغلب عليها كالأسود والنمور، والضبع والفهد، والذئاب والثعالب.
فهذه قد زودها الله بأنياب قاطعة، وأسنان حادة، وأضراس صلبة.
ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها، جعل الله لها عضلات قوية، وسلحها بأظفار ومخالب حادة، لتتمكن من الاستيلاء على فريستها، وجعل سبحانه في معدتها من الأحماض التي تساعدها على هضم اللحوم والعظام.
فسبحان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 50].
وأما الحيوانات المجترة المستأنسة، التي تعيش على المراعي، فهي تختلف فيما زودت به من الآلات، وقد خلق الله أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة.
فأفواهها واسعة نسبياً، وقد تجردت من الأنياب القوية، والأضراس الصلبة، وبدلاً منها خلق الله لها أسناناً قاصمة قاطعة، فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة، وتبلعها دفعة واحدة، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات.
ولما كانت هذه الحيوانات هدفاً للسباع، فهي تأكل غذاءها بسرعة وتختفي، ثم تهضمه في وقت طويل جداً، فلو لم تكن مجترة، وبمعدتها مخزن خاص، لضاع وقت طويل في الرعي.
فسبحان من خلقها، ووهبها سرعة الأكل، وهداها إلى تخزينه، ومكنها من إعادته بعد أن يصيب شيئاً من الرطوبة، ليبدأ الطحن والمضغ والبلع.
والطيور الجارحة كالبوم والحدأة والصقر، ذات منقار مقوس حاد، على شكل خطاف لتمزيق اللحوم.
بينما الأوز والبط لها مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء، وعلى جانب المنقار زوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش.
أما الدجاج والحمام، وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض، فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض.(2/98)
أما منقار البجعة فهو طويل طولاً ملحوظاً، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب، ليكون كشبكة الصياد، إذ أن السمك هو غذاء البجعة الأساسي.
فسبحان الحكيم العليم الذي يخلق ما يشاء لما يشاء، ويهديه للحصول عليه بما يشاء.
ومنقار الهدهد طويل مدبب، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدان التي غالباً ما تكون تحت سطح الأرض.
وإنه ليمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة لفمه ومنقاره.
أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب، فلما لم يعط أسناناً، فقد خلق الله له حوصلة وقانصة تهضم الطعام، ويلتقط الطير مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام.
فسبحان رب العالمين، الذي خلق العوالم من الحيوانات التي لا يحصيها ولا يعلمها ولا يرزقها إلا هو:
عالم البهائم والأنعام.. عالم السباع.. عالم الطيور.. عالم الذر.. عالم النحل.. عالم النمل.. عالم الجراد.. عالم الحشرات.. عالم الخيل.. عالم الإبل.. عالم البقر.. عالم الغنم.. عالم الدجاج.. عالم الحمام.. عالم الأسماك.
وغيرها من العوالم التي لا يحصيها إلا الله.
فتبارك الله أحسن الخالقين الذي خلق جميع هذه الخلائق، ودبر أمرها، وقسم أرزاقها، وقدر آجالها: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 102].
والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق جميع هذه الحيوانات والطيور والحشرات من ماء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النور: 45].
فالحيوانات التي تتوالد، مادتها ماء النطفة حين يلقح الذكرالأنثى، والتي تتولد من الأرض كالحشرات، تتولد من الرطوبات المائية بقدرة الله.
وقد تكفل الله عزَّ وجلَّ بأرزاق الخلائق كلهم، البشر والحيوان، والطيور والحشرات، قويهم وضعيفهم، قادرهم وعاجزهم، يسوقهم إلى أرزاقهم، أو يسوق أرزاقهم إليهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [هود: 6].(2/99)
ولا يزال الله يسخر لهذه الخلائق أرزاقها في كل وقت بوقته، ولا يمكن أن تهلك دابة من عدم الرزق، بسبب أنها خافية عليه، فهو سبحانه السميع العليم الذي لا يخفى عليه شيء: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [العنكبوت: 60].
فسبحان خالق هذا الكون العظيم، وما فيه من المخلوقات المختلفة.
وهي مخلوقات إلى جانب منافعها، تحمل آيات وعبر، وهي مخلوقة مقدرة، مأمورة مدبرة، صغيرها وكبيرها، ذكورها وإناثها، قويها وضعيفها، كلها في قبضة الله، ونواصيها بيده، وسكنها في ملكه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ?) [هود: 56].
وكل فرد من هذه المخلوقات، قدر الله زمانه فلا يكون إلا فيه.. وقدر مكانه.. وقدر خطاه.. وقدر طعامه.. وقدر أجله.. وقدر كمية أفراده.. وهو محسوب كغيره من المخلوقات والأحداث العظام الضخام: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 29].
وهذا العود الأخضر البري النابت وحده هناك في الصحراء، إنه الآخر قائم هناك بقدر، وهو طعام أعده الله للكائنات هناك.
الله أنبته، وهو يسوق طعامه وشرابه، وهو عبد يؤدي وظيفةً أمره الله بها، ويسبح بحمد ربه في كل حين.
وهذه النملة الساربة، وهذه الهباءة الطائرة، وهذه البهائم السائمة، وهذه الخلية السابحة في الماء، كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء:
لها تقدير في الزمان، وتقدير في المكان، وتقدير في المقدار، وتقدير في الشكل: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ) [القمر: 49، 50].
وفي خلق الأنعام عبرة، حيث يسقي الله العباد من بطونها المشتملة على الفرث والدم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 66].
وعالم النحل عالم عظيم عجيب، فقد خلق الله هذه النحلة الصغيرة، وهداها هذه الهداية العجيبة، ويسر لها المراعي، ثم أرجعها إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها، وهدايته لها.(2/100)
ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [النحل: 68، 69].
فسبحان الخلاق العليم، الذي خلق كل شيء في السماء والأرض، في البر والبحر، من الجماد والنبات، والإنسان والحيوان.
وكل ناطق وصامت.. وكل متحرك وساكن.. وكل ذكر وأنثى.. وكل ماض حاضر.. وكل معلوم ومجهول.. وكل صغير وكبير.. كل ذلك مخلوق بقدر.. ومصرف بقصد.. ومدبر بحكمة.
لا شيء جزاف، ولا شيء عبث، ولا شيء مصادفة، ولا شيء ارتجال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پ) [القمر: 49، 50]..
فهو سبحانه لم يخلق السموات والأرض والمخلوقات الأخرى لعباً ولا لهواً، بل خلقها بالحق، وخلقهما مشتمل على الحق، ليعبد الله وحده، وليأمر الله العباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لأنهم لم يتفكروا في خلق السموات والأرض وما فيهما من الخلائق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الدخان: 38، 39].
والطيور التي تسبح في الفضاء على اختلاف ألوانها وأحجامها وطيرانها، ماذا يعرف الإنسان عنها؟.
إنها أمة عظيمة من الأمم، خلقها الله عزَّ وجلَّ، وهي كغيرها مظهر من مظاهر قدرته سبحانه، وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [الملك: 19].
فهذه الآية العظيمة التي تقع كل لحظة، تنسينا بوقوعها المتكرر ما تشي به من قدرة الله وعظمته.
فكم من طائر الآن يطير في السماء؟، وكم من طائر يلقط الحب من الأرض؟.
وكم من طائر يجمع العيدان لعشه؟، وكم من طائر يبيض؟، وكم من طير يخرج من بيضه؟، وكم من طائر يعلم فراخه ويطعمهم؟.(2/101)
وجميع المخلوقات من جماد ونبات وحيوان، تسبح بحمد ربها، وكل له صلاة وعبادة بحسب حاله اللائقة به، وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح، إما بواسطة الرسل كالجن والإنس والملائكة، وإما بإلهام منه تعالى لها كباقي المخلوقات: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النور: 41].
إن تأمل هذه الطيور السابحة في الفضاء، وهي تصف أجنحتها وتقبضهما في يسر وسهولة، ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة به لا يمله النظر، ولا يمله القلب، وهو متعة فوق ما هو مثار تفكر وتدبر في خلق الله العجيب الذي يجمع الحسن والجمال والكمال.
إن يد الرحمن تمسك بالسموات والأرض، وتمسك بكل طائر، وبكل جناح، والطائر صاف جناحيه، وحين يقبض، ويبصره ويراه وهو معلق في الفضاء.
إن صنع الله كله إبداع وإعجاز، وكل قلب، وكل جيل يدرك منه ما يطيقه، ويلحظ منه ما يراه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [الملك: 19].
فسبحان القوي العزيز، العليم الخبير، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
إن إمساك الطيور في الجو، كإمساك الدواب على الأرض، كإمساك الشمس والقمر، كإمساك النجوم المعلقة في الفضاء، كإمساك السموات والأرض، وكإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن الله، فالله خالقها وحده، وهو الذي يمسكها بقدرته وحده.
فسبحان العزيز الجبار، القوي القهار الذي يمسك كل هذه المخلوقات بقدرته: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [فاطر: 41].
فمن هذا ملكه، وهذا خلقه، وهذه قدرته، وهذه رحمته، يجب أن يُطاع فلا يعصى، ويًشكر فلا يكفر، ويُذكر فلا ينسى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الانشقاق: 20، 21].
اللهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
11- خلق الجبال
قال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [النبأ: 6، 7].
وقال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 27، 28].(2/102)
خلق الله تبارك وتعالى الجبال، وجعل فيها من المنافع ما لا يحصيه إلا من خلقها ونصبها.
وجعل سبحانه الثلج يسقط عليها، فيبقى في قُللها حاضناً لشراب البهائم والناس إلى حين نفاده.
ويذوب الثلج من الجبال تدريجياً، فتجيء منه السيول الغزيرة، وتسيل منه الأنهار والأودية، فينبت في المروج والوهاد والربى ضروب النبات والأشجار.
والله حكيم عليم، فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الأرض، فانحل جملة، وساح دفعة واحدة، فعدم وقت الحاجة إليه.
ولو انحل جملة لأهلكت تلك السيول ما مرت عليه من نبات وحيوان، ودار وإنسان.
وقد خلق الله الجبال مختلفة الأشكال والألوان والأحجام، متعددة المنافع والصفات:
فمنها جبال بيض، وجبال حمر، وجبال خضر، وجبال صفر، وغرابيب سود وغيرها من الألوان المختلفة.
ومنها جبال كبيرة، وأخرى صغيرة، وجبال طويلة، وأخرى قصيرة، وجبال متصلة، وأخرى منفصلة.
وفيها من المنافع والمصالح والجواهر والمعادن ما لا يحصيه إلا الذي خلقها وأبقاها وأرساها، وملأها بالمنافع التي عرف بعضها الخلق، واكثرها لم يعرفوه.
ومن منافعها أن الله جعلها أعلاماً يستدل بها الناس في الطرقات، في البر والبحر والجو.
ومن منافعها أن الله جعلها للأرض أوتاداً تثبتها، ورواسي لها لئلا تضطرب.
ومن منافعها ما يكون في حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل التي هي بمنزلة الحصون والقلاع، وهي أيضاً أكنان للناس والحيوان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 81].
ومن منافعها أنها ترد الرياح العاصفة، وتكسر حدتها، فلا تدعها تصدم ما تحتها، وجعلها سبحانه سبباً لرد السيول النازلة من أعلى، فلا تنزل جملة بل تأخذ ذات اليمين، وذات الشمال.
وخلقها الله عزَّ وجلَّ على أكمل هيئة وأنفعها، فلو طالت واستدقت كالحائط، لتعذر الصعود عليها والانتفاع بها، ولسترت عن الناس الشمس والهواء.(2/103)
ولو بسطت ممتدة على وجه الأرض، لضيقت عليهم المزارع والمساكن، ولملأت السهل، ولما حصل لهم الانتفاع بها، ولما سترت عنهم الرياح، ولما حجبت السيول.
ولو جعلت مستديرة كالكرة لم يتمكنوا من صعودها.
فكان شكلها الذي خلقت عليه أولى الأشكال وأليقها وأحسنها وأوقعها على وفق المصلحة.
وخلق الله فيها من النباتات والأدوية والعقاقير ما لا ينبت في السهول والرمال.
ومن منافعها ما ينحت من أحجارها للبيوت والمباني، والأصباغ على اختلاف أصنافها وألوانها.
وأودع الله عزَّ وجلَّ في الجبال من الجواهر والمعادن على اختلاف أصنافها من الذهب والفضة، والنحاس والحديد، والرصاص والألماس، والزمرد والزبرجد، وغير ذلك من المعادن النفيسة، والتي ما يزال الإنسان يجهل أكثرها.
وفيها ما يكون الشيء اليسير منه تزيد منفعته وقيمته على قيمة الذهب بأضعاف كثيرة كاليورانيوم والألماس وغيرها.
وفي الجبال من المنافع ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله الذي فطرها وأبدعها، وقد عرف الإنسان من معادنها على ما يزيد على مائة نوع، وما جهله الإنسان أكثر.
وهذه المخلوقات والمنافع من أكبر الشواهد على قدرة باريها وفاطرها.
وهذه الجبال تسبح بحمد ربها، وتخشع له، وتسجد له، وتنشق وتهبط من خشيته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [الحج: 18].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [ص: 17، 18].
وكل ما في الكون كائنات حية تسبح بحمد ربها، وتخشع له، ومنها هذه الجبال العظيمة التي تهبط من خشية ربها كما قال سبحانه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 74].
وهذه الجبال العظيمة هي التي خافت كالسموات والأرض من ربها وفاطرها من حمل الأمانة، فأبت حملها، وأشفقت من ذلك كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحزاب: 72].(2/104)
وقد فرق الله الجبال في الأرض، وفضل بعضها على بعض:
فمنها جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى صلى الله عليه وسلم .
ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك من عظمة الله.
ومنها جبل أحد، الذي حبب الله رسوله وأصحابه له.
ومنها الجبلان اللذان جعلهما الله سوراً على بيته، وجعل الصفا في ذيل أحدهما، والمروة على ذيل الآخر.
ومنها جبل عرفات، فلله كم ينزل عليه من الرحمات، والعفو عن الذنوب العظام في يوم عرفة.
ومنها جبل حراء، الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلو فيه بربه، حتى أكرمه الله بالرسالة في ذلك الغار.
فسبحان الكريم الذي يخلق ما يشاء ويختار، ويختص برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرجال، والأيام والليالي والبقاع.
وهذه الجبال العظيمة الشاهقة، لتعلم أن لها موعداً تنسف فيه نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمته، فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له، وهو يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطور: 9-10].
وقال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ?? ? ?? ? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?) [طه: 105-108].
وهذه الجبال العظيمة مع شدتها وصلابتها، أخبر عنها خالقها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت وتصدعت من خشية الله كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [الحشر: 21].
فوا عجباً من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال.. تسمع آيات الله ومواعظه تتلى عليها.. ويذكر الرب جل جلاله فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب.. وتفر من المواعظ كفرار الحمر من الأسود: (پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المدثر: 49-51].
فليس بغريب على الله عزَّ وجلَّ، ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذا لم تلن على كلامه وذكره، ولم تروعها زواجره، ولم تؤثر بها مواعظه.(2/105)
إن من لم يلن لله قلبه في هذه الدار، ولم ينب إليه، ولم يبك من خشيته، فليتمتع قليلاً، فإن أمامه الملين الأعظم، وسيرد إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25، 26].
يا حسرة على العباد.. متى يستفيدون من عقولهم؟.. ومتى يرون بأبصارهم؟.. ومتى يؤمنون بقلوبهم؟.. وماذا ينتظر المكذبين لربهم.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الانشقاق: 20-24].
وإذا عرفنا قوة السموات والأرض.. وقوة الملائكة العظام.. وقوة المياه والرياح.. وقوة البحار والجبال.
فكم تكون قوة الجبار الذي خلق هذه المخلوقات..؟.
وكم سعة خزائنه التي وسعت هذه المخلوقات العظام..؟.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 155].
12- خلق الرياح
قال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [فاطر: 9].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ں ں ?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الذاريات: 41، 42].
إن من أعظم آيات الله الباهرة، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، نحس بجسمه، ولا نرى شخصه.
أوجده الله عزَّ وجلَّ في كل مكان، حاراً وبارداً ودافئاً، يتنفس منه الإنسان والحيوان، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، كالماء الذي وهبه الله للإنسان والحيوان، وكالشمس التي سخرها الله للإنارة والحرارة لجميع المخلوقات.
وهذا الهواء العظيم الذي خلقه الله، إذا شاء سبحانه حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة، وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحاً للسحاب والثمار كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [الحجر: 22].(2/106)
وإن شاء سبحانه حركه بحركة العذاب فجعله عقيماً، وأودعه عذاباً، فيجعله بقدرته صرصراً ونحساً وعاتياً، ومفسداً لما يمر عليه كما قال سبحانه عن قوم عاد: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [الأحقاف: 24، 25].
والرياح المذكورة في القرآن ثمان:
أربع رحمة.. وأربع عذاب.
فرياح الرحمة: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والرخاء.
ورياح العذاب: العاصف والقاصف وهما في البحر، والعقيم والصرصر وهما في البر.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن رياح الرحمة ورياح البر بلفظ الجمع، لأنها متعددة المنافع، مختلفة الصفات.
أما رياح العذاب فذكرها بلفظ الإفراد، لأن المطلوب ريح واحدة مدمرة، وكذلك رياح البحر ذكرها بلفظ الإفراد، لأن السفينة لا تسير لمقصدها إلا بريح واحدة، ذات اتجاه واحد.
وفي الشتاء يغلظ الهواء بسبب البرد، فيصير مادة للسحاب، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة، فتثيره، ثم تنشره بين السماء والأرض، ثم يسخر الله له الريح الحاملة التي تحمله على ظهرها.
ثم يرسل الله عليه الريح المؤلفة التي تؤلف بين كسفه وقطعه حتى يصير طبقاً واحداً، ثم يرسل الله عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء، فتلقحه كما يلقح الذكر الأنثى فيحمل الماء.
ثم يرسل الله عليه الريح المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أُمر أن يفرغ ماءه، فإذا أراد الله نزوله على الأرض أرسل عليه الريح الذارية بعد إعصاره فتذروه وتفرقه في الهواء، لئلا يقع صبة واحدة، فيهلك ما على الأرض، ويقل الانتفاع به.
فهذه ثمان رياح سخرها الله للمطر.
فإذا أسقي ما أمر بسقيه من البلاد والعباد قامت الرياح السائقة فساقته وأزجته إلى قوم آخرين، وأرض أخرى محتاجة إليه لسقي النبات والحيوان والإنسان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 48].(2/107)
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 57].
والسحاب من أعظم آيات الله في الجو، فهو في غاية الخفة، ثم يحمل الماء والبرد فيصير أثقل شيء.
فسل السحاب من خلقه وأنشأه؟.. ومن حمله بالماء والثلج والبرد؟.. ومن حمله على ظهور الرياح؟.. ومن أمسكه بين السماء والأرض؟.. ومن أحيا به البلاد؟.. ومن صرفه بين الخلق كما أراد؟.
وكم أودع الله في هذا الهواء من المنافع التي لا يحصيها إلا الذي خلقها، فهو حياة هذه الأبدان، تستنشق منه وتتغذى به، وينقل الأصوات للقريب والبعيد، وينقل الروائح على اختلافها من مكان إلى مكان، ويحمل الحر والبرد الذين بهما صلاح الحيوان والنبات والإنسان، ويلقح الشجر والنبات، ولولاه لكانت عقيماً، وفسد الثمر.
والرياح من أعظم آيات الله في الجو.. فهي أقوى خلق الله.. يحبسها الله إذا شاء.. ويرسلها إذا شاء.. تحمل الأصوات إلى الأذن.. والرائحة إلى الأنف.. والسحاب إلى الأرض والجزر.. وتأتي بالرحمة تارة.. وبالعذاب تارة.
وكذلك الرياح تسير السفن، ولولاها لوقفت على ظهر البحر.
وكذلك من منافعها أنها تبرد الماء، وتضرم النار، وتجفف الأشياء.
فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته، ولطفه ونعمته: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 46].
وكم من البحار التي خلقها الله في هذا العالم، وكم أودع فيها من المنافع والمصالح لعباده:
بحر عظيم من الماء فيه ما لا يحصيه إلا الله من النعم والمنافع والخلائق.
وبحر عظيم من الهواء فيه ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله من النعم والمنافع والخلائق.
وبحر عظيم من النور فيه ما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله من النعم والمنافع.
فسبحان من خلق هذه البحار العظيمة، وحفظها، وأودع فيها منافع للبلاد والعباد على مر الدهور.(2/108)
والله تبارك وتعالى خلق هذا الجسم اللطيف من الهواء الذي يحركه ويخرقه أضعف المخلوقات، وأعطاه من الشدة والقوة ما يفلق به الأجسام الصلبة القوية، ويزعجها عن أماكنها، ويحملها على متنه في جو السماء.
فانظر إليه إذا وضع في قربة أو جلد وامتلأ به، ووضع على الماء، فإنه لا يرسب فيه، بينما ينغمس فيه الحديد الصلب.
فامتنع هذا اللطيف بأمر الله من قهر الماء له، وبهذه الحكمة أمسك الله السفن على وجه الماء مع ثقلها، لأن الهواء يمتنع من الغوص في الماء.
فتأمل قدرة العزيز الحكيم كيف جعل هذا الجسم العظيم الثقيل من السفن، يستجير بهذا اللطيف الخفيف من الهواء، حتى أمن من الغرق.
فسبحان من علق هذا المركب العظيم الثقيل، بهذا الهواء اللطيف من غير علاقة، ولا عقدة تشاهد: (? ? ? ? ? پ پپ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ) [الشورى: 32، 33].
والهواء بأمر الله جل جلاله، ينقل الأصوات العظيمة والبعيدة إلى مسامع الناس، فينتفعون بذلك، كالهاتف والجوال والإذاعة.
ولو بقيت هذه الأصوات في الهواء، كما تبقى الكلمات في القرطاس، لامتلأ العالم من الأصوات، ولعظم الضرر به، واحتاج الناس إلى محوه من الهواء.
فإن ما يلقى في الهواء من الأصوات والكلمات، أضعاف ما يودع في القرطاس.
فمن رحمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء قرطاساً خفيفاً يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم ينمحي بإذن ربه، فيعود جديداً نقياً لا شيء فيه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک) [الشعراء: 67، 68].
فما أعظم آيات الله في خلق الرياح:
فهي آية في هبوبها وسكونها.. وآية في شدتها ولينها.. وآية في حرها وبردها.. وآية في اختلاف طبائعها ومهابها وتنوع منافعها.
فللمطر ثمان رياح.. وللنبات ريح تلقحه.. وللسفن ريح تسيرها.. وللرحمة ريح بلا رياح.. وللعذاب ريح متعددة الصفات، إلى غير ذلك من أنواع الرياح التي لا يعلمها إلا الله.(2/109)
واختلاف الرياح، واختلاف مهابها يدل على خالق مدبر، حكيم عليم، يصرفها كيف يشاء:
فيجعلها رخاء تارة.. وعاصفة تارة.. ورحمة تارة.. وعذاباً تارة.. وتارة يحيي بها الرزع والثمار.. وتارة يعطبها بها.. وتارة يسير بها السفن.. وتارة يغرقها بها.. وتارة ترطب الأبدان.. وتارة تذيبها، وتارة حارة.. وتارة باردة.. وتارة عقيماً.. وتارة لاقحة.
فسبحان من جعل في هذا الهواء الواحد هذه المنافع الكثيرة العجيبة.
والذي خلقها هو الذي يصرف مهابها في البر والبحر:
فتارة تهب من الشمال، وتارة من الجنوب، وتارة صبا، وتارة دبوراً.
وقد جعل الله مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب، ولولا ذلك لبقي الماء واقفاً.
وهذه الرياح مع غاية قوتها ألطف شيء، وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، لطيفة المسار بين السماء والأرض.
ولشدة حاجة كل نبات وحيوان وإنسان إليها، يسرها الله في كل مكان، وصرفها وحده بين عباده، ورفع تحكم البشر فيها، فحيثما سار الإنسان أو الحيوان وجدها، وحيثما وجد نبات فهي مرافقة له.
ولو قطعت عن النبات والحيوان لهلك، كبحر الماء الذي لو فارقه السمك هلك.
يحبسها الله إذا شاء، ويرسلها إذا شاء، تحمل الأصوات إلى الأذن بأمر الله، وتحمل الرائحة إلى الأنف، وتحمل السحاب إلى الأرض الجرز.
وهي خلق عظيم من أقوى خلق الله، وهي من أعظم آيات الله الدالة على قدرته.
فسبحان من أنشأ الرياح بقدرته، وملأ بها الكون، وصرفها بحكمته، وسيرها بمشيئته، وسخرها بإرادته، وأرسلها بشرىً بين يدي رحمته، وجعلها سبباً لتمام نعمته، وسلطاناً على من شاء بعقوبته.
فهل عرف الله، وعرف قدرته وعظمته، من بارزه بالمعاصي، وبدل نعمه كفراً؟.
ألا ما أعظم الجهل بالله وأسمائه وصفاته، وما أعظم الغفلة عن آلائه وإحسانه؟: (? ژ ژ ڑ ڑ) [الجاثية: 6].(2/110)
إن في خلق الرياح آية.. وفي هبوب الرياح آية.. وفي تصريف الرياح آية. فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار، والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً، ثم يسوق الله هذا السحاب بواسطة الرياح، ويصرفه كيف شاء بعلمه وحكمته، بين البلاد والعباد
والله تبارك وتعالى بيده هذا الملك العظيم، وله الخلق والأمر وحده لا شريك له، يصرف الرياح ليلاً ونهاراً، ويجعلها كما يشاء دافئة وباردة، ومنحرفة ومستقيمة، وعاصفة وهادئة، وعذاباً ورحمة.
ولهذه الرياح كلها أوامر من ربها لا تتعداها، ولها علاقة بالكائنات الأخرى، تتعاون معها في تحقيق مشيئة الله في خلق هذا الكون، وتصريفه كما أراد.
فمتى يتجول العقل البشري في هذا المعرض الإلهي المملوء بالآيات والعجائب، فله هنا عمل، وله في هذا الميدان مجال: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الجاثية: 4، 5].
ولما كانت الرياح مختلفة في مهابها وطبائعها، جعل الله لكل ريح ريحاً مقابلة لها، تكسر سورتها وحدتها، وتبقي لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة لاختلاف منافعها.
وأما ريح العذاب، فإنها ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها.
بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء، فيدمر كل شيء كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحاقة: 6-8].
13- خلق النار
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 71-73].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 80].
الله تبارك وتعالى هو الواحد القهار، خلق المخلوقات وقهر بعضها ببعض، وسلط بعضها على بعض.
خلق سبحانه الجبال، وسلط عليها الحديد، فهو يقطعها ويكسرها.
وخلق النار، وسلطها على الحديد، فهي تذيبه بأمر الله.
وخلق الماء، وسلطه على النار، فهو يطفئها بأمر الله.(2/111)
وخلق الرياح وسلطها على الماء، فهي تقهر الماء بأمر الله وتفرقه.
وخلق الظلمات وسلط عليها النور فهو يبددها.
والله حكيم عليم، خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور، فإنها لو كانت ظاهرة أبداً كالماء والهواء كانت تحرق العالم، وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة.
ولو كانت كامنة لا تظهر أبداً لفاتت المصالح المترتبة على وجودها.
فاقتضت حكمة الله عزَّ وجلَّ، أن جعلها مخزونة في الأجسام، يخرجها الإنسان عند حاجته إليها.
وخص الله سبحانه بالنار الإنسان دون غيره، فإنه لو فقدها لتعطلت له مصالح كثيرة، من التدفئة والإنارة، وإنضاج الأطعمة، وتركيب الأدوية، وغير ذلك من المنافع التي يستفيد منها الإنسان.
والنار خلقها الله عزَّ وجلَّ تصعد إلى العلو، فلولا قدرة الله التي تمسكها لذهبت صاعدة، كما أن الجسم الثقيل لولا الممسك له لخرَّ نازلاً.
فسبحان القوي العزيز الذي أعطى الجسم الثقيل القوة التي يهبط بها إلى أسفل، وأعطى النار هذه القوة التي تصعد بها إلى أعلى.
وهذه النار العظيمة التي خلقها الله، والتي تأكل الأخضر واليابس، وتلتهم الغابات، وتذيب الحديد والمعادن، هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ ا?، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قال: فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءاً، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» متفق عليه(1).
والله جل جلاله خلق النار وحبسها في الحطب والخشب، وفي باطن الأرض، ولو أذن الله لها أن تخرج لأهلكت ما على وجه الأرض من مخلوق، ولكن الله عزَّ وجلَّ يخرج منها بقدر، ليتذكر الناس به النار الكبرى يوم القيامة، وليستمتعوا بمنافعها، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [الواقعة: 73].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3265) واللفظ له، ومسلم برقم (2843).(2/112)
والنار التي خلقها الله سبحانه أربعة أنواع:
الأولى: نار لها إشراق وإحراق كالشمس، وكالنار المعروفة.
الثانية: نار لها إحراق بلا إشراق، وهي نار جهنم المظلمة.
الثالثة: نار لها إشراق بلا إحراق، وهي النار التي خلقها الله في الشجرة وكلّم موسى ^ عندها.
الرابعة: نار ليس لها إشراق ولا إحراق، وهي النار المحبوسة في الحطب والخشب، فهي مخزونة، فإذا أشعلت صار لها إشراق وإحراق.
فسبحان الخلاق العليم الذي جعل من الشجر الأخضر ناراً يابسة ملتهبة: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 80].
والله رؤوف بالعباد، وهو الواحد القهار.. الذي قهر هذه النيران المخزونة في باطن الأرض.. والمودعة في باطن الأخشاب والحطب.. والمشتعلة الملتهبة في الشمس.
هذه النيران لو خرجت على الناس من ذا يقف لها؟.
ومن ذا ينجو منها لو أرسلها الله على الناس؟.
ومن ذا يطفئها لو اشتعلت في الكون؟.
وقد خلق الله النار تأكل وتذيب ما وضع فيها، ولكن زمامها بيده سبحانه، إن شاء أشعلها وأحرق بها من شاء من أعدائه.
وإن شاء جعلها تشتعل ولا تحرق، بل قلب حالها برداً وسلاماً لمن شاء من أوليائه كما قال سبحانه عن خليله إبراهيم ^: (ے ے ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنبياء: 68-69].
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة.. وفي الآخرة حسنة.. وقنا عذاب النار.
(ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [آل عمران: 192].
اللهم (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 66. 65].
14- خلق الجن
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
وقال الله تعالى: (ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?) [الرحمن: 14-16].
الله تبارك وتعالى خلق الملائكة من نور، وخلق الجن من نار، وخلق البشر من تراب، كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 26، 27].(2/113)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم»أخرجه مسلم (1).
والجان: هو أب الجن، وفيهم المؤمن والكافر.
وإبليس: هو أب الشياطين، وله ذرية لا يموتون إلا معه وهو من الجن، ولكنه تمحض للشر.
وآدم: هو أب الإنس، وفيهم المؤمن والكافر.
والملائكة: خلقهم الله من نور، وهم مجبولون على الطاعة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
فالملائكة تمحضوا للخير.. والشياطين تمحضوا للشر.. والجن والإنس قابلون للإيمان والكفر، مستعدون للهدى والضلال.
ولا سبيل إلى معرفة الملائكة والجن إلا عن طريق الوحي.
وإبليس هو الشيطان، وهو من الجن، وله ذرية كما قال سبحانه: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الكهف: 50].
والجن من خلق الله، ولهذا الجنس من الخلق خصائص:
منها خلقهم من نار.
ومنها أنهم يرون الناس ولا يراهم الناس، كما قال الله عن الشيطان: (? ? ? ? ں ں ? ??) [الأعراف: 27].
وللجن تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس.
ولهم قدرة على الحياة في هذه الأرض مع البشر كما قال الله عن آدم وإبليس: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الأعراف: 24].
ولهم قدرة كذلك على الحياة خارج الأرض، والصعود إلى السماء كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ?) [الجن: 8، 9].
والجن يستطيعون أن يسمعوا صوت الإنسان، ويفهمون لغته، ويتأثرون به كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 29].
وإبليس وذريته يملكون التأثير على البشر وإغوائهم، إلا عباد الله المخلصين فلا سلطان لهم عليهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ?) [ص: 82، 83].
والجن كالإنس يعرفون الحق من الباطل، والرشد من الغي، والخير من الشر.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2996).(2/114)
وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة، وأن يؤمن فريق منهم لما سمعوا القرآن، ثم دعوا قومهم إليه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 30-32].
وحين سمعوا الهدى من ربهم أسلموا فوراً كما قال سبحانه عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 13].
وهؤلاء الجن الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم شعروا أن عليهم واجباً في الإنذار لا بد أن يؤدوه، واعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن، فنادوا قومهم: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأحقاف: 31].
والله تبارك وتعالى خلق الجن والإنس ليعبدوه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ) [الذاريات: 56-58].
وللجن طبيعة مزدوجة كطبيعة الإنسان في الاستعداد للهدى والضلال كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 11].
وهذا الإقرار من الجن يفيد ازدواج طبيعة الجن، واستعدادهم للخير والشر كبني آدم، إلا من تمحض للشر منهم، وهو إبليس وقبيله.
فليس كل الجن يمثلون الشر، بل فيهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، ولكن تمحض من الجن للشر إبليس وذريته كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ?) [البقرة: 34].
والمؤمنون من الجن يعرفون عظمة الله وقدرته، ويدركون أنهم لا يستطيعون الهرب من سلطانه، ولا الإفلات من قبضته، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 12].
وهم يتأثرون بسماع الهدى كالإنس فيؤمنون، وهم مطمئنون إلى عدل الله وقدرته، مؤمنون أن الله لا يبخس المؤمن حقه، ولا يرهقه فوق طاقته.
والجن كالإنس في الهدى والضلال، والجزاء على الهدى أو الضلال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ?) [الجن: 14، 15].(2/115)
فالجن كالإنس يعذبون بالنار، وينعمون بالجنة، حسب إيمانهم وأعمالهم، وكل ميسر لما خلق له.
والله عزَّ وجلَّ أمر الإنس والجن بعبادته، وأعطاهم القدرة على امتثال الأوامر والعمل بالشرع، وأعطى كل جنس من الطاقات والقدرات ما يناسب حاله.
فإذا استطاع إنسان أن يسخر جنياً فقد حصل على فرصة أكبر من أفراد جنسه، فهو يستطيع أن يفعل مالا يستطيع أن يفعله غيره من البشر.
فإذا استبد بهذا الإنسان هواه وأنانيته، واستخدم هذه الميزة في الشر بدلاً من الخير، سلط الله عليه ما يجعله مرهقاً متعباً في حياته.
ولذلك نجد أمثال هؤلاء الناس يعيشون حياة تعسة شقية، وينتهي أمرهم بالانتحار أو الجنون أو النكد.
فالذي يأخذ فرصة أعلى من غيره قد تشقيه ولا تسعده، والذي يعطيه الله فرصة أقوى، إذا لم يستخدمها في الخير، سلط الله عليه الشقاء.
فالذي يستعين بقوى غير قوى البشر كالجن مثلاً، نجد شكله منفراً، ورغم أنه قد يستخف بعقول بعض البشر، ويحصل منهم على أموال، إلا أننا نجده دائماً مفلساً معسراً قلقاً، ويموت غالباً على أسوإ حال. فالفرصة غير المتكافئة لا تجلب له إلا الشقاء كما قال سبحانه: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [الجن: 6].
والله سبحانه حينما سخر الجن لسليمان ^، سخرهم لنفع الناس، وعمارة الأرض، ولم يسخرهم في الإيذاء كما قال سبحانه عن سليمان ^: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 12، 13].
وما أكثر الغاوين الذين أغواهم الشيطان وأضلهم من الجن والإنس.. أعطاهم الله القلوب والأسماع والأبصار.. ولكنهم لم يستعملوا هذه النعم فيما خلقت له.. من معرفة الله والإيمان به وطاعته.
فهؤلاء جديرون بأن يكونوا من أهل النار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 179].
15- خلق آدم
قال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 26].(2/116)
وقال الله تعالى: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?) [ص: 71-74].
أول ما خلق الله تبارك وتعالى العرش، ثم خلق القلم، وكتب به المقادير قبل كونها، وخلق آدم آخر المخلوقات، تمهيداً للدار قبل الساكن.
ولكرامته على خالقه، هيأ له مصالحه وحوائجه وأسباب حياته قبل خلقه.
وخلق آدم من أعظم الآيات، فقد جمع الله ما فرقه في العالم في خلق آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير، وهو خلاصة الوجود وثمرته.
والنفوس تتطلع دائماً إلى النهايات.. والله عزَّ وجلَّ أخَّر أفضل الكتب.. وأفضل الرسل.. وأفضل الشرائع.. وأفضل الأمم إلى آخر الزمان.. وجعل الآخرة خيراً من الأولى.
فلما افتتح الله عزَّ وجلَّ خلق هذا العالم بالقلم، كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان.
فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالم.
ولهذا أظهر الله فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خصه به دونهم.
وقد خلق الله جل جلاله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، إظهاراً لشرفه، وأسكنه جنته.
ولما تم خلقه في أحسن تقويم، وظهر كمال آدم على غيره، جرى قدر الله بالذنب، ليتبين أثر العبودية في الذل، وما زالت تلك الأكلة من الشجرة تعاوده وتخيفه، حتى استولى داؤه على أولاده.
فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي من اختارهم، واصطفاهم واجتباهم من أنبيائه ورسله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 38-39].
فحماهم الشافي بالمناهي.. وحفظ القوة بالأوامر.. واستفرغ منهم الأخلاط الرديئة بالتوبة.. فجاءت إليهم العافية من كل ناحية.
وتزينت قلوبهم بالإيمان، وتجملت بالتقوى، وتحلت جوارحهم بالطاعات، ورضي عنهم ربهم، وصاروا أئمة في الخير.(2/117)
ولما سلم لآدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب، وحين علم اللطيف الخبير أن ذنب عبده لم يكن قصداً لمخالفته، ولا قدحاً في حكمته، علمه كيف يعتذر إليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 37].
فآدم صلى الله عليه وسلم لم يرد بمعصيته مخالفة سيده، ولا الجرأة على محارمه، ولكنها غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، فألهمه الله التوبة، وقبلها منه.
وفي خلق آدم من الطين سر عجيب، فالطين مركب من أصلين:
الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي.. والتراب الذي جعله الله خزانة المنافع والنعم.
وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الإنسان يحمل الهدى الذي به حياة العالم، ويحمل الدين الذي كله منافع.
ومن كرامة الله لآدم أن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وجميع المخلوقات خلقها الله بأمره، فقال لها: كوني فكانت.
ومن كرامته له كذلك أن أسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها دون غيره من الملائكة، ثم جعل فيه الاستعداد للترقي حتى يصبح كالملائكة، أو الهبوط حتى يكون أسفل من الحيوان فيقضي حياته على طريقة الحيوان، من أكل وشرب ولهو ولعب.
والله تبارك وتعالى عزيز حكيم، ما خلق ذرة في الكون عبثاً.
وقيمة الإنسان ومكانته بين المخلوقات عظيمة.. فمكانته بين السموات والأرض.. كمكانة القلب من الجسم، وبقاء المخلوقات مرهون بوجود الإنسان.. وكما أن القلب إذا فقد هلك البدن.. فكذلك الإنسان إذا فقد أنهى الله هذا الكون وطواه.
وقد خلق الله جميع المخلوقات، وجعل لكل مخلوق مقصداً، وأشرف المخلوقات مقصداً هو الإنسان، وهو من المخلوقات بمنزلة القلب من البدن.
وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يخلق آدم.. ويستخلفه في الأرض.. فأقدره على أشياء.. وأعجزه عن أشياء.. وعلمه أشياء.. وستر عنه أشياء. وقهره على أشياء.. وجعل له الخيار في أشياء.. وذلك ليستكمل مقومات الخلافة.. ولا ينسى أنه غير أصيل.. فله مرجع يعود إليه.. وقوة أعلى يعود إليها.. ويستعين بها.. تمده بما شاء.(2/118)
ولم يرسل الله آدم إلى الأرض ليقيم أمر الله دون تدريب عملي، بل جعل له تجربة واقعية يعيش فيها التكليف بأمره ونهيه، وبمقومات التكليف من الغفلة والنسيان، وإغواء الشيطان وتزيينه، قبل أن يهبط إلى الأرض، فإذا أخطأ رده الله إلى الصواب بلطف.
فأسكنه الله الجنة مع زوجه، وأمده بكل ما يحتاج بدون تعب ولا نصب كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [طه: 118، 119].
ثم استقبل آدم المنهج من ربه أمراً ونهياً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 35].
ثم حذر سبحانه آدم من معوقات التكليف خاصة الشيطان فقال: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 117].
ثم كان ما كان من الشيطان فأغرى آدم وزوجه بالأكل من الشجرة: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [طه: 120].
فأغراهما بالأكل من الشجرة، ليحصل لهما الخلود والملك، وأكد ذلك لهما بصفة الناصح الذي يريد لهما الخير: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 20-22].
ونسي آدم أنه في دور التجربة والتدريب، فأكل وزوجه من الشجرة فماذا حصل لهما؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 22].
وماذا كان جزاء آدم حين نسي أمر ربه وأكل من الشجرة؟.
كان جزاؤه فقط أن يلقنه الله مولاه كيف يرجع إليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 37].
واعترف آدم وزوجه بالذنب، وسألا ربهما أن يغفره لهما ويرحمهما: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
فاستجاب الله لدعاء آدم، واجتباه وتاب عليه وهداه، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?) [طه: 122].
وبعد هذه التربية لآدم في الجنة، وبعد ما ظهرت له عداوة الشيطان، وبعد ما علمه الله كيف يتخلص من الذنب، أهبط الله آدم إلى الأرض، ليقوم وذريته بالخلافة فيها، وأهبط معه الشيطان وحذره منه: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ?) [الأعراف: 24].(2/119)
ولما أهبط الله آدم وزوجه إلى الأرض رزقهم الذرية، وأخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة مشحونة بالامتحان والابتلاء، ثم يتلوها الموت.
وأنهم لا يزالون فيها، يرسل الله إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت فيدفنون فيها، ثم إذا استكملوا بعثهم الله وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة، التي هي دار المقامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 25].
ثم امتنَّ عليهم بما يسر لهم من اللباس والطعام والشراب والسكن والمركب، مبيناً لهم أن هذا ليس مقصوداً بالذات، وإنما أنزله الله ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته، وأن لباس التقوى خير لباس يلبسه العبد، وهو جمال القلب والروح كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الأعراف: 26].
ثم حذر الله بني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم آدم، فيغريهم بالمعاصي ويزينها لهم، فينقادون له فليحذروا منه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [الأعراف: 27].
فآدم أبو البشر، والبشر فيهم المؤمن والكافر، ففي فترة التربية في الجنة كان آدم بشراً عادياً، غفلة وسهواً، ونسياناً وضعفاً.
وفي الطور الثاني يمثل المصطفين الأخيار، المبلغين عن الله، فيجب أن يكون معصوماً، لأنه رسول من الله.
وآدم صلى الله عليه وسلم عصى ربه، وإبليس عصى ربه، لكن الفرق أن آدم عصى ولم يرد الأمر على الله، بل اتهم نفسه، وأقر بالظلم والتقصير، والغفلة والنسيان: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?) [الأعراف: 23].
أما إبليس فقد رد الأمر على ربه وتكبر، وخالف أمر ربه كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [البقرة: 34].
وبسبب هذا الإباء والاستكبار طرده الله ولعنه.
فمن رد الأمر على الله ففيه شبه بإبليس، ومن عصى واعتذر وتاب ففيه شبه بآدم ^.(2/120)
وآدم وزوجه لما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، بدت لهما عوراتهما كما قال سبحانه: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [طه: 121].
وفي هذا إشارة إلى أن الدين حين يخالف تبدو عورات الناس، فلا عورة في مجتمع إلا إذا كان هناك أمر من أوامرالله قد خولف.
ولما عصى آدم ثم تاب وتاب الله عليه، أهبطه الله إلى الأرض، للقيام بالخلافة، وتنفيذ أوامر الله، وأهبط معه إبليس.
ثم بدأ المنهج الإلهي في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 123، 124].
ومعصية آدم ذكرها الله سبحانه بقوله: (? ? ? ? ?) [طه: 121].
والعصيان قد يكون عمداً فيكون ذنباً.. وقد يكون خطأ أو نسياناً فيكون زلة.. وهذه معصية آدم: (? ? ?) [البقرة: 36].
ومما يدل على أن معصية آدم لم تكن عمداً ولا قصداً، بل نسياناً قوله سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 115].
ومن ثم فلا مؤاخذة، لأن الله لا يؤاخذ على الخطأ والنسيان.
وإنما اعتبر القرآن النسيان معصية لآدم، فذلك لمقام آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلمه الأسماء كلها.
والذي شأنه هكذا، يجب أن يكون يقظاً كأقوى ما يكون، بحيث لا ينسى وصاية الله له.
ولما علم الله منه أن معصيته لم تكن بسبب الكبْر، بل بسبب الغفلة والنسيان، والشهوة وإغواء الشيطان، ألهمه الله التوبة، وتاب عليه.
وترك الأمر معصية، وارتكاب النهي فسق، وارتكاب النهي أخف من ترك الأمر، وترك الأمر ذنب إبليس، وبسببه أخرج من رحمة الله، وارتكاب النهي ذنب آدم.
وآدم في الجنة أصيب بآفتين: النسيان.. وضعف العزيمة كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 115].
وهذان مرضان.. وعلاج الأول بالذكر والتذكير.
وعلاج الثاني بتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة.(2/121)
وآدم في الجنة ليس عنده من يذكره إذا نسي، وليست عنده بيئة الأعمال التي تقوي عزيمته إذا ضعف، وغلبته الشهوة، فسهل التأثير عليه وإغراؤه، فوقع في ارتكاب النهي، وأكل من الشجرة.
وهاتان الآفتان لازمتان لكل إنسان، وشفاء الإنسان منهما بالتذكير، وتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة التي تقوي عزيمته إذا ضعف.
والله سبحانه ابتلى آدم وذريته بأن حبب لكل إنسان حب الخلد، وحب الملك الذي لا يبلى، وبهما تمكن الشيطان من إغواء آدم.
ولما كان هذا نسياناً من آدم للعهد ألهمه الله أن يتوب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 37].
وقد منَّ الله على آدم بنعم كثيرة، وعلمه الإيمان والتوحيد، ومعرفة ربه، وألهمه اليقين على ذاته وأسمائه وصفاته، وحذره من عدوه الشيطان بقوله: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [طه: 117].
وإبليس أول من اجتهد لتغيير اليقين على ذات الله، إلى اليقين على الأشياء، بإغراء آدم بالأكل من الشجرة، ليحصل له الملك والخلد.
فالشيطان أول من أفسد يقين آدم.. ولا يزال يفسد يقين ذريته.. فهو جاهد على البشر.. ليحول يقينهم على ربهم، إلى اليقين على المخلوق.. ويشغلهم بالأموال والأشياء عن الإيمان والأعمال الصالحة.. ويزين لهم العادات والتقاليد بدل السنن والأحكام.. ويغريهم بالخلود في الدنيا.. وينسيهم ذكر الموت والآخرة.
ولكن الله تاب على آدم وهداه، وحذر ذريته من طاعة عدوهم الشيطان الذي غر أباهم، حتى وقع في المعصية.
وآدم لما طلب الخلود في الجنة من جانب الشجرة التي أغراه الشيطان بالأكل منها، عوقب بالخروج منها.
وكذلك يوسف لما طلب الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا، عوقب باللبث فيه بضع سنين.
وذلك كله بإغواء الشيطان وتزيينه، وحرصه على إفساد يقين العباد، ليعصوا ربهم، ويطيعوه فيهلكون معه.
وحين خلق الله آدم قال الله للملائكة: (? پ پ پ پ?) [البقرة: 30].
فقالت الملائكة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [البقرة: 30].(2/122)
فقال الله لهم: (? ? ? ? ? ?) [البقرة: 30].
لقد خلق الله آدم، وأكرمه وأسكنه جنته، وابتلاه ليربيه، فسلط عليه عدوه بعد أن حذره منه، ولكنه ضعف وعصى ربه، فأهبطه الله إلى الأرض.
هبط إلى الأرض مؤمناً بربه، مستغفراً من ذنبه، مأخوذاً عليه عهد الخلافة أن يتبع ما يأتيه من ربه، ولا يتبع الشيطان والهوى.
ثم مضى به الزمن، وجاءت ذريته، وبث الله من نسله رجالاً كثيراً ونساء.
وحل بالإنسان ما حل بأبيه آدم من النسيان والضعف.. وتسلط عليه الشيطان.. وأغراه بالمعاصي.. وزينها له كما فعل بأبيه، فغلبه الشيطان كما قال سبحانه: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [سبأ: 20].
لقد هبط آدم إلى الأرض موحداً مهتدياً تائباً، ولكن ها نحن نرى أكثر البشرية ضالاً مفترياً، ظالماً كذاباً، مشركاً معانداً لرسل ربه، فلا بد من الإنقاذ مرة أخرى.
ومن رحمة الله بالبشرية، أنه كلما انحرفت عن منهج الله، بعث إليها رسولاً يردها إليه، حتى ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتسلمت أمته من بعده إبلاغ هذا الدين والقيام عليه في أنحاء الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
والمنهج هو الهدى الذي أرسل الله به رسله:
دعوة إلى التوحيد والإيمان بالله.. وترغيب في الطاعات.. وتحذير من المعاصي.. وأمر بكل خير.. وتحذير من كل شر.
وقيمة الشيء ترتفع بقدر ما فيه من الصفات، وكذلك قيمة المسلم عند الله ترتفع بقدر ما يحمل من الإيمان، وما يقوم به من الأعمال الصالحة.
وبنو آدم كثيرون، ولكن الله اشترى منهم أحسنهم وأفضلهم وأكملهم، وهم المؤمنون، فهؤلاء خير الناس، وأحسن الناس، وأغلى الناس.
والسلعة إذا خفي عليك قدرها.. وأردت أن تعرف قيمتها.
فانظر المشتري لها من هو؟، وانظر إلى الثمن المبذول فيها؟، وانظر إلى من جرى على يديه عقد الشراء؟.(2/123)
فالسلعة النفس المؤمنة.. والمشتري لها هو الله عزَّ وجلَّ.. وثمنها جنات النعيم.. والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة، وأكرمهم عليه، وهو جبريل ^.. وخير خلقه من البشر، وأكرمهم عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وصفات هذه السلعة الإيمان والأعمال الصالحة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 111].
لقد خلق الله آدم من الأرض، فمن الطين كوّن الله كل عناصر جسده، فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد كيف جاء، وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً.
ونحن نجهل كنه هذه النفخة، وهذه الروح، فما أحد يعلمها إلا الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 85].
ولكننا نعرف آثارها، فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض.
ميزته بالقابلية للرقي العقلي والروحي، فجعلت عقله ينظر تجارب الماضي، ويصمم خطط المستقبل، ويتقي ويحذر.
وجعلت روحه تتجاوز المدرك بالحواس، والمدرك بالعقول، ليتصل بالغيب المجهول للحواس والعقول.
وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة، لا يشاركه فيها أحد من الأحياء في هذه الأرض سوى الجن.
لقد نفخ الله عزَّ وجلَّ من روحه في هذا الكائن البشري، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض، وأن يتسلم بأمر الله مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها الله له، وهي الخلافة في الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?) [البقرة: 30].
وقد أودع الله الإنسان القدرة على المعرفة، ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بربه، واستمد منه منهج الحياة، وقام بأمر الخلافة الراشدة.
وما كان لهذا الإنسان الصغير الحجم، القصير الأجل، المحدود المعرفه، أن ينال شيئاً من هذه الكرامة، لولا لطف ربه وكرمه: (کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الإسراء: 70].(2/124)
فلله كم كرامة؟، وكم نعمة؟، وكم رحمة حصلت للبشرية في خلق آدم.. وفي سجود الملائكة له.. وفي سكنه الجنة.. وفي إهباطه إلى الأرض.. وفي كونه خليفة في الأرض.. وفي نسله وذريته..؟
فقد أظهر الله فضل آدم على الملائكة بما خصه من العلم الذي لم تعلمه الملائكة.
وأمرهم بالسجود له تكريماً له، وإظهاراً لفضله، وامتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، فأسجدهم له، وأظهر فضله عليهم، لما أثنوا على أنفسهم، وذموا الخليفة الذي اصطفاه ربهم.
واستخرج سبحانه ما كان كامناً في نفس إبليس من الكبر والمعصية، والذي ظهر عند أمره بالسجود مع الملائكة لآدم.
فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامناً في نفسه، والله يعلم ذلك، ولكن لم يكن ليعاقبه على ما علمه، بل على وقوع معلومه، الذي لم تكن الملائكة تعلمه، فلما امتنع من السجود علموا خبثه.
وسبب معصية إبليس الاستكبار والإباء والكفر، وإنما ذكر تلك الشبهة تعنتاً، إذ ليس في أمره بالسجود لآدم ما يناقض الحكمة بوجه.
وشبهة إبليس الداحضة، أنه قال: إنه خلق من نار، وآدم خلق من طين، والنار خير من الطين، فهو خير من آدم، فكيف يخضع له.
كما قال سبحانه لإبليس: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 12].
فلما امتنع إبليس من السجود، وعصى ربه واستكبر، حطه الله من مرتبته العالية إلى أسفل سافلين، وأهبطه من الجنة، لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم، فأهبط إلى الأرض ذليلاً مهاناً، جزاء على كبره وعجبه كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 13].
وشبهة إبليس باطلة حساً وعقلاً وشرعاً.(2/125)
فإن الطين والتراب خير من النار، فإن النار طبعها الفساد والإتلاف، والتراب طبعه النفع والإنبات، والنار طبعها الخفة والطيش، والتراب طبعه الرزانة والسكون، والتراب يخلق الله فيه أرزاق الحيوان ولباسهم ومساكنهم، بخلاف النار التي تحرق كل شيء، والتراب إذا وضع فيه الحب أخرجه أضعافاً كثيرة، بخلاف النار التي تأكل كل ما يوضع فيها.
والأرض وصفها الله بالبركة، وأما النار فهي مذهبة للبركة، وأودع الله في الأرض من المنافع والأقوات، والثمار والأشجار، والمعادن والعيون، والنبات والحيوان وغيرها، ما لم يودع في النار شيئاً منه.
والنار وإن كان فيها بعض المنافع فالشر كامن فيها.
وقد استخرج الله من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل.. والعباد والعلماء.. والمجاهدين والمتصدقين.. والأولياء والمؤمنين، وعمر بهم الجنة، وميز الخبيث من ذريته من الطيب، وعمر بهم النار.
وقد خلق الله آدم عليه السلام في أحسن تقويم.. وأكمل صورة وأجملها.. وأكمل محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار.. وتولى ربه خلقه بيده.. فجاء في أحسن خلق.. وأجمل صورة.. طوله في السماء ستون ذراعاً.. قد ألبس رداء الجمال والحسن.. والمهابة والبهاء.
فرأت الملائكة منظراً لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلهم سجوداً بأمر ربهم عزَّ وجلَّ، إلا إبليس فإنه امتنع عن السجود حسداً كما قال سبحانه: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [البقرة: 34].
والله سبحانه لكمال قدرته خلق خلقه أصنافاً:
فمنهم عقول بلا شهوات كالملائكة.. ومنهم شهوات بلا عقول كالحيوانات.. ومنهم من له عقل وشهوة كالإنس والجن.. ومنهم من لا عقل له ولا شهوة كباقي المخلوقات من جماد ونبات.
وقد اقتضت حكمة الله تفضيل بني آدم على كثير من خلقه، فميزهم الله وكرمهم بما شاء، وجعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم، فهي عبودية اختيارية، تزاحمها المعارضات والموانع والشهوات.(2/126)
أما عبودية غيرهم من الملائكة فهي عبودية بلا معارض، إذ هم مجبولون عليها، كما جبلت الشمس على الإنارة.
والله تبارك وتعالى سبق في علمه أن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، وأسكنه في الجنة، ليربيه ويريه دار النعيم التي أعدها الله له ولأولاده.
فأمره الله ونهاه، وأعلمه بعدوه وحذره منه، ووفر له كل ما يحتاجه في الجنة، وأمره بالأكل من كل شيء في الجنة، ونهاه عن الأكل من شجرة واحدة، وخلى بينه وبين عدوه إبليس، ليمتحن إيمانه وطاعته قبل نزوله إلى ميدان العمل، فوسوس إليه الشيطان بالأكل، فنسي وغلبته الشهوة فأكل.
وخلى بينه وبين نفسه حتى عصى الله، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 35، 36].
ثم ألهمه الله التوبة فتاب، وتاب الله عليه، وبعد أن كملت تربيته، وعرف عدوه، وعاش في داره، أهبطه الله عزَّ وجلَّ من دار النعيم إلى دار الابتلاء والعمل، ليعود إليها ومن آمن من ذريته على أكمل الوجوه.
فكم لله من حكمة في إهباط آدم إلى الأرض، تعجز الألسن عن وصفها، وتعجز العقول عن إدراكها والإحاطة بها:
منها أن الله أنزل آدم ليكون إيمانه وإيمان ذريته تاماً، والإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر، وبذل وترك، وهذا إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم.
ومنها أن الله خلق آدم وذريته ليستعمرهم في الأرض، ويجعلهم خلفاء الأرض.
فخلقهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم، لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه، فإذا وافوا دار النعيم بعد التعب والكد، عرفوا قدر تلك الدار، وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الحور والولدان.(2/127)
ومنها أن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلاً وأنبياء وشهداء، يحبهم ويحبونه، وينزل عليهم كتبه، يؤثرون محابه ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه، فأنزلهم إلى دار الابتلاء ليكملوا مراتب العبودية، ويعبدوه في السراء والضراء بما تكرهه نفوسهم، وهذا لا يحصل في دار النعيم المطلق.
ومنها أن أسماء الله الحسنى كالغفور والرحيم، والعزيز والكريم، والملك والجبار لها آثار، فأنزل الله آدم إلى الأرض، وجعل له ذرية، ليظهر أثر أسمائه وصفاته فيهم، وفيما حولهم من المخلوقات.
فإن الله هو الملك الذي يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، فأنزل أبوي الإنس والجن، إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام، ثم يعودون إليه مع ذرياتهم، فيحاسبهم على ما عملوا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 130].
والله تبارك وتعالى هو الملك، الذي يملك كل شيء، له ملك السموات والأرض، وله ملك الدنيا والآخرة، وهو ربنا ونحن عبيده.
وهو مالك الملك.. ولا بد للملك من جنود.. والله له جنود السموات والأرض من ملائكة وغيرهم.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. ولا بد للملك من أوامر تصلح بها أحوال رعيته.. وهي الكتب السماوية المشتملة على الحث والترغيب، والنهي والتحذير.. ولا بد له من سفراء بينه وبين خلقه.. وهم الرسل الذين يبينون للناس ما نزل إليهم من ربهم.. ولا بد أن تكون له محكمة يحاسب فيها من أطاع ومن عصى.. فيجزي على الخير خيراً.. وعلى الشر شراً.. وهي يوم القيامة.
ولا بدَّ له بعد الحساب أن يكرم أهل طاعته بما يسعدهم وهي الجنة، وأن يذل ويهين أهل معصيته بما أعد لهم من العذاب وهي النار.
(چ چ چ ? ? ? ?? ? ? ? ? ?) [الحجر: 98، 99]
16- خلق الإنسان
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإنسان: 2].
وقال الله تعالى: (ے ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 4].(2/128)
خلق الله تبارك وتعالى الإنسان في أحسن تقويم، وخَلقُ الإنسان من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره.
وفي الإنسان من العجائب الدالة على عظمة الله وقدرته ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وتعجز العقول عن إدراك كنهه، وتعجز الألسنة عن وصفه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطارق: 5-8].
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر والتفكر في خلق الإنسان، نظر اعتبار وتفكر، وتأمل وتدبر، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ) [الذاريات: 21].
ولو فكر الإنسان في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [عبس: 17-22].
وقد خلق الله آدم من تراب كما قال سبحانه: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الروم: 20].
والتراب إذا أضيف إليه الماء صار طيناً كما قال سبحانه: (گ ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 12].
والطين إذا تغير واسودّ لطول مجاورته للماء صار حمأً، ثم صار مسنوناً، والمسنون: المصور أو المصبوب لييبس كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 26].
فإذا يبس الطين واشتد صار صلصالاً، وهي المرحلة الأخيرة من خلق الإنسان كما قال سبحانه: (ے ? ? ? ? ?) [الرحمن: 14].
أما الإنسان الذرية فقد خلقه الله من نطفة وهي الماء، فهو سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 7، 8].
وقد بين الله عزَّ وجلَّ أطوار خلق الآدمي من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه فقال سبحانه: (گ ? ? ? ? ? ? ?? ں ں ? ? ??? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 12-14].(2/129)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه(1).
وقد وكل الله بالرحم ملكاً، فإذا تم للنطفة في الرحم أربعون أو بضع وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، وسوي أو غير سوي، وذكر أو أنثى، كل ذلك حسب أمر ربه، لا يزيد على ما أمر ولا ينقص.
فالملائكة: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 6].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ، بِأرْبَعِينَ، أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ؟ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ! أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأثَرُهُ وَأجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ» أخرجه مسلم(2).
وهذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وجعله أفضل العالمين، خلقه الله ليبقى أبد الآباد، وما سواه يفنى إلا من استثناه الله.
وكل فرد من بني آدم سينتقل من حال إلى حال، ومن دار إلى دار كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?) [الانشقاق: 19].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208) واللفظ له، ومسلم برقم (2643).
(2) أخرجه مسلم برقم (2644).(2/130)
فأول طباقه كونه نطفة.. ثم علقة.. ثم مضغة.. ثم جنيناً.. ثم مولوداً.. ثم رضيعاً.. ثم فطيماً.. ثم طفلاً.. ثم شاباً.. ثم شيخاً.. ثم هرماً.. إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه.. إلى أن يموت ثم يبعث.. ثم يوقف بين يدي الله.. ثم يحاسب.. ثم يصير إلى الجنة أو النار حسب عمله.. فهذه ستة عشر طبقاً.
ويركب أثناء هذه الأحوال أطباقاً عديدة:
فينتقل من حال إلى حال كالصحة والمرض.. والعافية والبلاء.. والغنى والفقر.. والسعادة والشقاء.. وهكذا حتى يستقر في دار القرار في الجنة أو النار.. فذلك آخر أطباقه التي يعلمها العباد.
فسبحان من هذا خلقه.. وهذا أمره.. وهذه قدرته.
وقد خلق الله الإنسان في كبد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ?) [البلد: 4].
فابن آدم يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، فلا تلقاه إلا في مشقة، فالإنسان مخلوق في شدة بكونه في الرحم، ثم عند ولادته، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة المعيشة، والأمر والنهي، والبلاء والامتحان.
ثم مكابدة الموت، وما بعده في البرزخ، ثم مكابدة أهوال يوم القيامة، ثم مكابدة العذاب في النار، ولا راحة له إلا في الجنة.
فينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم في الجنة، وذلك بالإيمان والأعمال الصالحة.
وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وجعل فيه تسعة أبواب:
بابان للسمع وهما الأذنان.. وبابان للبصر وهما العينان.. وبابان للشم وهما في الأنف.. وبابان لخروج فضلات البول والغائط.. وباب للكلام والنفس، والطعام والشراب وهو الأنف.
ونشأة الإنسان كنشأة النبات من عناصرها الأولية يتكون، ومن عناصرها الأولية يتغذى، فهو نبات من نباتها كما قال سبحانه: (چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ?) [نوح: 17، 18].
فالإنسان والنبات كلاهما نبات من نبات الأرض، وكلاهما يرضع من هذه الأم شرابه وطعامه.(2/131)
وكما أن في النبات الحلو والمر.. والنافع والضار.. وذا الأزهار والثمار.. وذا الشوك والسم، فكذلك في الإنسان المسلم والكافر.. والمطيع والعاصي.. وذو الإيمان والأعمال الصالحة.. وذو الشر والفساد.. ولكل أجل.. ولكل عمل.. ولكل مقعد إما في الجنة أو النار.. وكل راجع إلى ربه.. ومحاسب على عمله: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 25، 26].
إن خلق الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة المتنوعة الكثيرة، لآيات تدهش العقول، وتحير الألباب، ولكننا نسيناها لطول تكرارها، ولقربها منا، وإلفنا لها.
إن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة وعبرة.
وهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [ق: 16].
إن هذا الإنسان هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض كما قال سبحانه: (? ? ? ? ہ ہ) [الذاريات: 21].
ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان، وحين يحرم نعمة اليقين.
إن آيات الرب تبارك وتعالى في خلقه ومخلوقاته تبصرة وذكرى، يتبصر بها من عمى القلب، ويتذكر بها من غفلته، فيعظم من خلقه.
فالمضاد للعلم، إما عمى القلب، وزواله بالتبصر، وإما غفلته، وزواله بالتذكر.
وأعظم وأفضل ما أنفقت فيه الأنفاس.. التفكر في آيات الله.. وعجائب صنعه.. والانتقال منها إلى تعلق القلب بالله.. وتعظيمه وتوقيره سبحانه دون شيء من مخلوقاته بتوحيده والإيمان به.. وطاعته، وعبادته.
إن هذا الإنسان عجيبة في تكوينه الجسماني في أسرار هذا الجسد.. وعجيبة في تكوينه الروحي في أسرار هذه النفس.
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه، التقى بأسرار تدهش وتحير، خلق أعضائه وتوزيعها، وأشكالها ووظائفها، وفي كل عضو من أعضائه، بل في كل جزء من عضو، خارقة تحير الألباب، لو كانت هناك عقول.(2/132)
وأعجب من هذا أسرار روحه، وطاقاتها المعلومة والمجهولة، إدراكه للأشياء، وطريقة إدراكها، وحفظها، وتذكرها.
وهذه المعلومات والصور والكلمات أين خزنت؟، وكيف انطبعت؟، وكيف تُستدعى فتجيء؟.
ومن ألف وجمع في المخ آلاف الآيات والأحاديث والكلمات والقصص والأشعار وغيرها..؟ ومن حفظها في الذهن كما يحفظ المال في الخزانة..؟
ثم أسراره في توالده وتكاثره، خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص.
وكل فرد من هذا الإنسان عالم وحده، وطبعة خاصة لا تتكرر أبداً على مدى الدهور، ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعاً، لا في شكله وملامحه، ولا في عقله ومداركه، ولا في روحه ومشاعره.
فكل فرد نموذج خاص، وطبعة فريدة لا تتكرر.
وما أعظم وأمتع تلك اللحظات التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم، بعين العابد السائح، الذي يتجول في معرض من إبداع أحسن الخالقين.
ألا ما أعظم الخالق.. وما أعظم صنعه وخلقه.
وما أخطر الجهل.. وما أسوأ الغفلة.. وما أضل من جهل نفسه.
متى يتفكر الإنسان في نفسه؟.
ومتى ينتبه القلب من رقدته؟.
ومتى يؤوب العبد إلى ربه؟.
إن سبب الخسران في الدنيا والآخرة الفكر فيما يفنى، والجهد في غير محله، والجلوس على موائد الشيطان، والإعراض عن موائد الرحمن.
إن الرابح حقاً من حجز المقاعد كلها للدين، الفكر واللسان، والسمع والبصر، والقلب والعقل، والروح والبدن، وبقية الجوارح: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطارق: 5-7].
انظر إلى النطفة التي خلقها الله، إنها تحتوي على أكثر من مائة ألف إنسان قابل للحياة في كل دفقة مني من الإنسان.
فسبحان من جمع هذه الخلائق في قطرة ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت.
وتأمل كيف استخرجها الرب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته، مطيعة لمشيئته، مع ضيق طرقها، واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرها في الرحم؟.(2/133)
وتأمل كيف جمع الله عزَّ وجلَّ بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع، الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه؟.
وكيف قدر سبحانه اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد، جعله الله لهما قراراً مكيناً ينشأ فيه الولد؟.
ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشرقة، إلى علقة حمراء تضرب إلى السواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في كونها وشكلها.
ثم جعلها العزيز العليم عظاماً مجردة لا كسوة عليها، مباينة للمضغة في شكلها وقدرها.
ثم انظر كيف قسم الله تبارك وتعالى تلك الأجزاء المتشابهة إلى الأعصاب والعظام، والعروق والأوتار، والأعضاء والأجهزة، واليابس واللين؟.
ثم تأمل كيف ربط سبحانه بعضها ببعض بأقوى رباط وأشده؟. وكيف كساها لحماً ركبه عليها، وجعله وعاء لها وغشاءً وحافظاً، وجعل العظام حاملة له، فاللحم قائم بها، وهي محفوظة به؟.
ثم انظر إلى صنع الخالق البارئ المصور، كيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر، والفم والأنف، وسائر المنافذ؟.
ثم تأمل كيف مد اليدين والرجلين كالأعمدة، وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسمهما بالأنامل، وزود أطرافها بالأظفار؟.
ثم انظر كيف خلق سبحانه من تلك النطفة الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة، والكبد والطحال، والرئة والرحم، والأمعاء والمثانة والمرارة؟.
كل منها له قدر يخصه.. وعمل يخصه.. ومنفعة تخصه.. وشكل يخصه.
فسبحان الخلاق العليم: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ) [الأعلى: 2، 3].
ثم انظر إلى حكمة العليم الحكيم في تركيب العظام قواماً للبدن، وعماداً له، وكيف قدرها ربها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة:
فمنها الصغير والكبير.. والطويل والقصير.. والمنحني والمستدير.. والمصمت والمجوف.. وركب بعضها على بعض، وربط بعضها ببعض؟.(2/134)
وتأمل كيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها، كالأضراس فإنها لما جعلت آلة للطحن جعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة.
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظماً واحداً، بل عظاماً متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منه وشكله، على حسب الحركة المطلوبة منه.
وشد سبحانه أسر تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات أنبتها من العظم، وأدخل بعض العظام في بعض، على شكل الذكر والأنثى، فإذا أراد الإنسان أن يحرك جزءاً من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه.
فسبحان من هذا خلقه، وهذه قدرته، وهذه حكمته، وهذا صنعه.
وتأمل كيف خلق سبحانه الرأس، وكثرة ما فيه من العظام التي تزيد على خمسٍ وخمسين عظماً، مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركبه سبحانه على البدن، وجعله عالياً عليه علو الراكب على مركوبه؟.
ولما كان الرأس عالياً على البدن، جعل فيه الحواس الخمس، وآلات الإدراك كلها، من السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
وجعل سبحانه حاسة البصر في مقدمته، ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن عما حوله.
وركب العين من سبع طبقات، لكل طبقة وظيفة مخصوصة، لو فقدت طبقة منها، أو زالت عن موضعها، لتعطلت العين عن الإبصار.
ثم وضع سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقاً عجيباً، وهو إنسان العين بقدر العدسة، يبصر به ما بين المشرق والمغرب، وما بين الأرض والسماء.
وجعله سبحانه من العين بمنزلة القلب من الإنسان، فهو ملكها، وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له، وحجاب وحراس.
فتبارك الله أحسن الخالقين.
وانظر إلى عجيب صنع الله كيف حسن شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما، ثم جمّلهما بالأجفان غطاءً لهما وستراً، وحفظاً وزينة، فهما يحفظانهما من الحر والبرد، ويتلقيان عن العين الأذى والقذى والغبار.(2/135)
ثم غرس في أطراف الأجفان الأهداب جمالاً وزينة ومنافع أخرى.
ثم أودع سبحانه العينين ذلك النور الباصر، والضوء الباهر، الذي يخرق ما بين السماء والأرض.
فسبحان من أودع هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير، بحيث تنطبع فيه صورة السموات والأرض على عظمتهما، وللعين قدرة على على حفظ نصف مليون صورة ملونة يومياً.
وشق سبحانه له السمع، وخلق الأذن أحسن خلقة، فجعلها مجوفة كالصدفة، لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصماخ، وليحس بدبيب الحشرات فيها، فيبادر إلى إخراجه والتخلص منه.
وجعل فيها تجاويف واعوجاجات تمسك الهواء، والصوت الداخل، فتكسر حدته، ثم تؤديه إلى الصماخ.
وجعل الحكيم العليم ماء الأذن مراً في غاية المرارة، فلا يجاوزه الحيوان إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه عنه.
وجعل ماء الفم عذباً حلواً، ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه، إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته.
وجعل سبحانه ماء العين مالحاً، ليحفظها، فهي شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظاً.
فسبحان من خلق هذه المياه.. وجعل كلاً فيما يناسبه ويصلح له.
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه، فأحسن شكله وهيأته، وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة، والنافعة والضارة، ويستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب، فيتروح به ويتغذى به.
وجعله سبحانه مستقيماً لئلا يمسك الرائحة، مصباً تنحدر إليه فضلات الدماغ، فتجتمع فيه ثم تخرج منه، وجعل أعلاه أدق من أسفله، لأن أسفله تجتمع فيه الفضلات فكان واسعاً لتخرج منه بسهولة، ولأنه يأخذ من الهواء ملأه ثم يصعد في مجراه قليلاً قليلاً، حتى يصل إلى القلب بهدوء.(2/136)
ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمةً منه ورحمة، لأنه مجرى النفس، ومنحدر فضلات الرأس، فيكون أحدهما غالباً للنفس، والآخر لخروج الفضلات، وإما أن تجري الفضلات فيهما فينقسم، فلا يفسد الأنف جملة، بل يبقى فيه مدخل للنفس، وربما أصيب أحدهما فيبقى الثاني يؤدي وظيفته.
فاقتضت الحكمة تعددهما كالأذنين والعينين: (? ? ? ? ?) [المؤمنون: 14].
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذوق والقطع والطحن والكلام ما يبهر العقول عجائبه.
فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجماناً لملك الأعضاء وهو القلب، مبيناً مؤدياً عنه، كما جعل الأذن رسولاً مؤدياً إليه العلوم والأخبار، والعين رسولاً مؤدياً إليه المرئيات والمبصرات، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد.
وانظر إلى حكمة العزيز العليم الذي جعل اللسان مصوناً محفوظاً مستوراً غير مكشوف كالأذن والأنف، لأن هذه الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه، جعلت بارزة ظاهرة.
ولما كان اللسان مؤدياً من القلب إلى الخارج جعله مستوراً لعدم الفائدة في إبرازه.
وأيضاً لما كان اللسان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره، ضرب عليه سرادقان لستره وصيانته، أحدهما الأسنان، والآخر الشفتان، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر.
وأيضاً هو من ألطف الأعضاء وألينها وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزاً صار عرضة للحرارة واليبوسة المانعة له من التصرف وسهولة الحركة.
ثم زين سبحانه الفم وجمله بالأسنان، وجعلها بيضاء مصفوفة، فزادته جمالاً، وجعل بها قوام العبد وغذاءه.
وجعل بعضها آلة للقطع، وبعضها آلة للكسر، وبعضها آلة للطحن.
وأحكم سبحانه أصولها، وحدد رؤوسها، وبيض لونها، ورتب صفوفها، فكأنها الدر المنظوم بياضاً وصفاءً وحسناً.(2/137)
وأحاط جل وعلا الأسنان بحائطين، وهما الشفتان، فحسن شكلهما ولونهما، وجعلهما غطاءً للفم وطبقاً له، وجعلهما إتماماً لمخارج الحروف ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وسطاً له، ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة.
وجعل سبحانه الشفتين لحماً صرفاً لا عظم فيه، ليتمكن بهما الإنسان من مص الشراب، ويسهل عليه فتحهما وإغلاقهما.
وخص سبحانه الفك الأسفل بالتحريك، لأن تحريك الأخف أيسر وأحسن، فإن الرأس يشتمل على الأعضاء الشريفة، فلم يخاطر بها في الحركة.
وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة، والليونة والخشونة، والصلابة والرطوبة، والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف.
وزين الله تبارك وتعالى الرأس بالشعر وجعله لباساً له، لاحتياجه إليه، وزين الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير.
فزينه بالحاجبين، وجعلهما وقاية مما يتحول من بشرة الرأس إلى العينين، وزين أجفان العينين بالأهداب، وزين الوجه باللحية، وجعلها كمالاً ووقاراً ومهابةً للرجل.
وزين الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب، وما تحتهما من العنفقة.
وخلق سبحانه اليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه، ورأس مال معاشه.
فطولهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه، وعرض الكف، ليتمكن من القبض والبسط، وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل أصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنتين.
ووضع الأصابع الأربعة في جانب، والإبهام في جانب، لتدور الإبهام على الجميع، فهي بمنزلة الراعي من الرعية، والإمام من المأمومين.
فجاءت اليد بتدبير الحكيم العليم على أحسن حال، وصلحت للقبض والبسط ومباشرة الأعمال المختلفة.(2/138)
إن شئت جعلتها مطرقة، أو مغرفة، أو آخذة، أو معطية، أو جاذبة، أو دافعة، أو للربط، أو للحل، أو للكتابة، أو للرفع، أو للسحب، أو للذبح، أو للكنس، أو للمسح، أو للمشط، أو للأكل أو غير ذلك من المنافع التي لا يحصيها إلا الذي خلقها، فتبارك من أودعها هذه المنافع وغيرها.
وركب فيها سبحانه الأظفار على رؤوسها زينةً لها وعماداً ووقاية، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع، وجعلها سلاحاً لغيره من الحيوان والطير، وآلة لمعاشه، وليحك بها الإنسان بدنه عند الحاجة.
وجعل سبحانه عظام أسفل البدن غليظة قوية، لأنها أساس له، وعظام أعاليه دونها في الثخانة والصلابة، لأنها محمولة.
ثم تأمل كيف جعل سبحانه الرقبة مركباً للرأس، وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات، ثم طبق بعضها على بعض، حتى كأنها خرزة واحدة، ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر.
ثم ركب الظهر من أعلاه إلى منتهى عظم العجز من أربعٍ وعشرين خرزة، وركب بعضها في بعض، هي مجمع أضلاعه، والتي تمسكها أن تنحل أو تنفصل.
ثم وصل الحكيم الخبير تلك العظام بعضها ببعض، فوصل عظام الرأس بعظام الرقبة، وعظام الرقبة بعظم الظهر، وعظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتفين بعظام العضدين، والعضدين بالذراعين، والذراعين بالكفين والكفين بالأصابع.
ووصل عظام الظهر بالعجز، ووصل عظام العجز بالفخذين، والفخذين بالساقين، والساقين بالقدمين، والقدمين بالأصابع، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم تأمل حكمة اللطيف الخبير كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والرأس كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين.
فالإنسان مركب على ثلاثمائة وستين عظماً، فلو زادت واحداً أو نقصت واحداً، لاختل تركيب الجسم ونظامه، واضطربت حركة الإنسان.(2/139)
ثم إنه سبحانه ربط تلك الأعضاء والأجزاء بالرباطات، فشد بها أسرها لتمسكها وتحفظها، حتى بلغ عددها خمسمائة وتسعة وعشرين رباطاً، وهي مختلفة الطول والقصر، والغلظة والدقة، بحسب اختلاف مواضعها.
فجعل منها أربعة وعشرين رباطاً آلة لتحريك العين، وفتحها وضمها وإبصارها، لو نقص منها رباط واحد لاختل أمر العين.
وهكذا لكل عضو من الأعضاء رباطات، هن له كالآلات التي بها يتحرك ويتصرف.
وذلك كله صنع الرب الحكيم، وتقدير العزيز العليم، في قطرة من ماء مهين، فويل للمكذبين، وبعدٌ للجاحدين، وتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن عجائب خلقه أنه جعل في الرأس ثلاث خزائن، في مقدمته، وفي وسطه، وفي مؤخرته، وأودع تلك الخزائن من أسراره ما أودعها، من التذكر والتفكر، والتعقل والحفظ.
ومن عجائب خلق الإنسان ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب والكبد، والطحال والأمعاء، والرئة والمعدة، والمثانة والمرارة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة.
فأما القلب فهو الملك المستغل لجميع آلات البدن المستخدم لها، فهو مخدوم مستقر في الوسط، وهو أشرف أعضاء البدن، وبه قوام الحياة.
وهو معدن العقل والعلم، والحلم والشجاعة، والمروءة والكرم، والصبر والحب، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال.
وجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وقواها إنما هي جند من أجناد القلب:
فالعين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات.
والأذن رسوله المؤدي له جميع المسموعات.
واللسان ترجمانه المخبر عنه.
وجعل الله عزَّ وجلَّ الرئتين كالمروحة تروح عليه دائماً، لأنه أكثر الأعضاء عملاً، وأشدها حرارة.
هذا خلق الله في قطرة واحدة من ماء مهين، فكم خلق الله من قطرة في العالم؟، وكم جعل في هذه القطرة من الأحياء؟.
هذا في عالم الإنسان.. فكم من العجائب في خلق الحيوانات.. والطيور والزواحف.. والحشرات.. وغيرها من المخلوقات..؟(2/140)
فسبحان الخلاق العليم الذي تولى خلق هذه النطفة، وجعل منها إنساناً سوياً، سميعاً بصيراً: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [غافر: 62].
فما أعظم قدرة الله، وما أعظم صنعه في هذه النطفة، كيف جعلها إنساناً، وبث منها البشرية المنتشرة على وجه الأرض؟.
فمن هذه عظمته، وهذه نعمه، وهذا صنعه، كيف لا يعبده الإنسان ويطيعه، وهو الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره؟.
أما يخاف هذا الإنسان يوماً عبوساً قمطريراً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ) [غافر: 52].
إن الإنسان إذا نظر إلى غذائه، في مدخله ومستقره ومخرجه، رأى فيه العبر والعجائب:
كيف جعل الله له آلة يتناوله بها، ثم باباً يدخل منه، ثم آلة تقطعه صغاراً، ثم طاحون يطحنه، ثم أعين بماء يعجنه، ثم جعل له مجرى وطريقاً إلى جانب النفس، ينزل هذا، ويصعد هذا.
فإذا وصل إلى المعدة، التي هي خزانته، ولها بابان، باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه ثفله.
والباب الأعلى أوسع من الأسفل، والأسفل منطبق دائماً، فإذا انتهى الهضم، انفتح ذلك الباب لخروج الفضلات.
وقد أحاط الله المعدة من داخلها وخارجها بحرارة نارية، ربما تزيد على حرارة النار، ينضج بها الطعام فيها، كما ينضج الطعام في القدر بالنار.
فإذا أذابته المعدة وطبخته، علا صفوه إلى فوق، ورسا كدره إلى أسفل، ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن، يبعث فيها نصيب كل عضو وقوامه، بحسب استعداده وقبوله.
فيبعث ألطف ما يتولد من الغذاء وأخفه وأشرفه إلى الأرواح.
وينبعث إلى الدماغ منه ما يناسبه في اللطافة والاعتدال.
وينبعث منه إلى العظام والشعر والأظافر ما يغذيها ويحفظها.
وبنبعث من الباقي إلى بقية الأعضاء كل بحسبه.
ولما كان الغذاء يستحيل في المعدة إلى دم، ومرة سوداء، ومرة صفراء، وبلغم، اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن جعل لكل واحد من هذه الأخلاط مصرفاً ينصب إليه ويجتمع فيه، ولا ينبعث إلى الأعضاء الشريفة إلا أكمله.(2/141)
فوضع سبحانه المرارة مصباً للمرة الصفراء.. ووضع الطحال مقراً للمرة السوداء.. والكبد تمتص أشرف ما في ذلك وهو الدم، ثم تصفيه وتبعثه إلى جميع البدن من عرق واحد، ينقسم إلى مجار كثيرة، يوصل إلى كل واحد من العروق والأعصاب والعظام والشعور ما يكون به قوامه.
فسبحان الملك الحق ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة.
وإذا كان هذا صنعه في قطرة ماء مهين، فكيف صنعه في ملكوت السموات والأرض؟.
وكيف شأن كرسيه وعرشه العظيم؟.
وكم تكون عظمة الجنة التي خلقها؟.. والنار التي سعرها؟
وكيف عظمته وجلاله وكبرياؤه؟: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے) [غافر: 64].
ومن عجائب خلق الإنسان، ما خلق الله فيه من الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك، ورتبها بحكمته سبحانه:
فأولها حاسة اللمس، وهو أول حس يخلق للحيوان، وأقل درجاته أن يحس بما يلاصقه، وخلق الله للبعيد حساً آخر تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم تدرك به الرائحة من بعد.
ولكن لا تدري من أي ناحية جاءت الرائحة، فخلق الله لك البصر، لتدرك به ما بعد عنك، وتدرك جهته فتقصدها بعينها، إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً، إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب، فقد يقصدك عدو بينك وبينه حجاب، وقرب منك قبل أن يكشف الحجاب، فتعجز عن الهرب.
فخلق الله سبحانه السمع، حتى تدرك به الأصوات من وراء الحجرات، عند جريان الحركات.
ولا يكفي ذلك لو لم يخلق لك حس الذوق، الذي تعلم به ما يوافقك، وما يضرك، وتعلم به الطعوم وأحوالها من حلو وحامض، ومر ومالح، وحار وبارد.
ثم أكرمك الله تبارك وتعالى بصفة أخرى هي أشرف من الكل، وهو العقل الذي تدرك به معرفة الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، وعظمه وقدرته، وآلائه وإحسانه، وهذه أعلى فوائد العقل.
وأدناها ما تدرك به الأطعمة ومنافعها، وما ينفعك وما يضرك.(2/142)
ثم انظر إلى حكمة الله في خلق القدرة والإرادة في الإنسان، فلو خلق لك البصر حتى ترى به الطعام، ولم يخلق لك في الطبع شوق إليه، وشهوة تستحثك على القصد إليه، لكان البصر معطلاً.
فكم من مريض يرى الطعام، وهو أنفع الأشياء له ولا يقدر على تناوله، لسقوط شهوته، فخلق لك الرحيم شهوة الطعام وسلطها عليك.
ثم هذه الشهوة لو لم تسكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام، لأسرفت وأهلكت نفسك، فخلق العليم الكراهة عند الشبع، لتترك الأكل بها.
وكذلك خلق لك شهوة الجماع لحكمة بقاء النسل.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ كل حيوان ورزقه، والرزق والأجل قرينان، فما دام الأجل باقياً، كان الرزق آتياً.
وإذا سد الله على العبد بحكمته طريقاً من طرق الرزق، فتح له برحمته طريقاً أنفع له منه.
فانظر إلى الجنين في بطن أمه، يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة وهو حبل السرة.
فلما خرج من بطن الأم، وانقطعت تلك الطريق، فتح له الله طريقين اثنين وهما الثديان، وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول، لبناً خالصاً سائغاً يناسب حاله.
فلما تمت مدة الرضاع، وانقطعت الطريقان بالفطام، فتح له المولى الكريم طرقاً أربعة أكمل منها تناسب حاله، وهما طعامان وشرابان.
فالطعامان النبات والحيوان، والشرابان المياه، وما يتصل بها من الألبان والعسل، ونحوهما من المنافع والملاذ.
فإذا مات الإنسان، انقطعت عنه هذه الأربعة، لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيداً طرقاً ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء، ليجد نعيماً لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
فأي نعيم فوق هذا.. وأي كرم من ربه عليه فوق هذا؟.
إن الرب جل وعلا لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا، إلا ويؤتيه ما هو أفضل منه وأنفع له، وليس ذلك لغير المؤمن.
فإنه سبحانه يمنعه الحظ الأدنى، ولا يرضى له به، ليعطيه الحظ الأعلى.(2/143)
ولكن العبد لجهله بربه، وجهله بكرمه، وجهله بحكمته ولطفه، وجهله بمصالح نفسه، لا يعرف التفاوت بين ما منع منه، وبين ما ذخر له، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً فانياً، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً باقياً.
ولو تأمل العبد وفكر لعلم أن فضل الله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها، أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب للقدوم عليه، ويسلك الطريق الموصلة إليه.
وقد ركب الله سبحانه في الإنسان قوتين: هما الشهوة والغضب.
وهاتان القوتان بمنزلة صفاته الذاتية لا ينفك عنهما، وبهما وقعت المحنة والابتلاء، وبهما ينال العبد منازل الأبرار، أو ينحط تحت أقدام الأشرار في أسفل سافلين.
فمن شهوته مصروفة إلى ما أعد الله له في دار النعيم.. وغضبه حمية لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، فهذا في الدرجات العلى، والنعيم المقيم.
ومن كانت شهوته مصروفة في هواه وأمانيه العاجلة.. وغضبه مقصور على حظه.. ولو انتهكت محارم الله وحدوده وشرائعه.. وهو ملحوظ بعين الاحترام والتقدير ونفوذ الكلمة.. فهذا في أسفل سافلين.
ولن يجمع الله بين الصنفين في دار واحدة.
فالأول: صعد بشهوته وغضبه إلى أعلى عليين، فهو في الجنة.
والثاني: هبط بهما إلى أسفل سافلين، فهو في النار.
فسبحان من خلق هذا الإنسان من تراب، وجعل نسله من ماء مهين، ووكل بخلقه من هذا الماء ملائكة تنفذ أمره فيه.
فهذه النطفة بمجرد استقرارها في الرحم، تتولاها ملائكة بأمر الله، فتنقسم إلى خلايا يلهمها الله ماذا تفعل؟، وماذا تريد؟.
وكل خلية من هذه الخلايا مكلفة بأمر الله ببناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة، عمارة الجسم الإنساني العجيب:(2/144)
فتنطلق مجموعة منها لتنشئ بأمر الله الهيكل العظمي.. وأخرى تبني الجهاز الهضمي.. وأخرى تبني الجهاز العصبي.. وأخرى تبني الجهاز الدموي.. وأخرى تبني الجهاز التناسلي.. وأخرى تبني الجهاز التنفسي.. إلى آخر بقية الأركان في العمارة الإنسانية.
وهذه العمارة دقيقة الصنع، عجيبة التركيب، متنوعة الوظائف، وكل خلية مأمورة أن تقوم بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة.
يأمرها الملك فتنطلق بأمر الله وهي تعرف طريقها، وتعرف إلى أين هي ذاهبة، وما هو مطلوب منها، ولا تخطئ واحدة منها..؟
فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أين مكانها، وتعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه، ولا يجوز أن تكون في البطن أو الظهر أو القدم، مع أنه يمكن أن تنمو في أي مكان.
فمن ترى قال لها إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين، في هذا المكان دون سواه.
إنه العلي الأعلى، الذي خلقها وهداها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله وحده.
وكما أودع الله في الأرض ودائعً، وبالجهد عليها تظهر هذه الودائع، وتنفع الناس كالماء والحديد وسائر المعادن.
كذلك وضع الله في الآدمي ودائعَ، فإذا اجتهدنا عليها بالمنهج الصحيح ظهرت هذه الودائع، وخدمت الدين، وإلا نجتهد عليها يضيع هذا الاستعداد بين شهوات البهائم، أو غضب السباع، أو كيد الشياطين.
فكل جوارح الإنسان خلقت للعبادة، وخدمة الدين، والقيام بالدين.
فالعين عندها استعداد النظر.. والأذن عندها استعداد السمع.. والقلب عنده استعداد الإيمان.. والعقل عنده استعداد الفكر. واللسان عنده استعداد الكلام.. واليد عندها استعداد البطش بالأعداء.. والرجل عندها استعداد المشي والكر والفر، وهكذا بقية الجوارح.
فأين الذي استفاد منها حسب أمر الله؟.
وقد خلق الله اللسان، وجعل فيه استعداد الكلام، حيث يحدث الصوت من هواء ساذج، يخرج من الصدر حتى يصل إلى الحلق واللسان، والشفتين والأسنان، فيحدث منه الكلام والصوت.(2/145)
نظمه ونثره.. وخطبه ومواعظه.. لينه وخشنه.. والضحك والبكاء.. والترغيب والترهيب.. والسؤال والجواب.. والإنذار والتبشير، والنداء والدعاء.. والحمد والذم.. والتسبيح والاستغفار.. وغير ذلك مما لا يمكن حصره من أنواع الكلام الذي ينطق به اللسان بإذن الله.
فسبحان القدير الذي أخرج كل ذلك من هواء ساذج يخرج من الصدر، ولا يدرى ما يراد به، ولا أين ينتهي، ولا أين مستقره، فهو بحر من الهواء يقلبه الله إلى بحر من الكلمات والجمل التي تحمل المعاني.
وأعجب من هذا اختلاف الألسنة واللغات والأصوات.
فيجتمع خلق من الناس من بلاد شتى، وكل يتكلم بلغته، ولا يدري كل منهم ما يقول الآخر، مع أن الهواء واحد، واللسان واحد، والحلق واحد، والأضراس واحدة، والشفتان واحدة، إن في ذلك لآية.
فمثل اللسان مثل الأرض تسقى بماء واحد، وتخرج نباتات مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأحجام، من الأشجار والأزهار والحبوب والثمار، مع أن التراب واحد، والماء واحد: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 4].
وعجيبة أخرى في خلق هذا الإنسان:
إنها عملية تحويل الغذاء في الجسم إلى دم، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم.
إنها عملية عجيبة فائقة العجب، وهي بقدرة الله وتدبيره تتم في الجسم في كل ثانية، كما تتم عملية الاحتراق، كما تتم عملية التنفس.
وفي كل لحظة تتم في جسم الإنسان عمليات هدم وبناء مستمرة، لا تكف حتى تفارق الروح الجسد.
ولا يملك الإنسان أمام هذه المخلوقات العظيمة، وهذه العمليات العجيبة، إلا أن تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الكون والإنسان.
والله سبحانه خلق الإنسان، وزوده بآلات العلم والمعرفة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب.
فأي نعمة فوق هذه النعم؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 78].(2/146)
وأول الشكر وأعظمه، الإيمان بالله الواحد الأحد، وعبادته وطاعته، والدعوة إليه، والإحسان إلى خلقه.
ألا ما أعظم فضل الله على الإنسان في خلقه.. وحسن صورته الخلقية.. وحسن صورته الشعورية.. فالإنسان أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني، كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري.. واستعداده الروحي.
ومن ثم وكلت إليه الخلافة في الأرض، وأقيم خليفة في هذا الملك العريض، إلى يوم الدين.
إن الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان من نطفة، وجعله يمر بمراحل:
المرحلة الأولى: في بطن الأم، ومدتها تسعة أشهر، والحكمة من وجوده هذه المدة شيئان: تكميل الأعضاء الداخلية والخارجية.
المرحلة الثانية: في بطن الدنيا، ومدتها من يوم الولادة إلى الموت، والحكمة من وجوده في الدنيا شيئان: تكميل الإيمان، والأعمال الصالحة.
المرحلة الثالثة: في القبر، ومدتها من الموت إلى قيام الساعة، والحكمة من وجوده في القبر انتظار قيام الساعة، وهو في هذه الفترة إما في عذاب، وإما في نعيم، حسب عمله، سواء دفن أو لم يدفن.
المرحلة الرابعة: في دار القرار، في الجنة أو النار، ومدتها من دخول الجنة أو النار، إلى أبد الآباد، والحكمة من وصوله إلى هذه الدار، بلوغ كمال النعيم، والتمتع برؤية ربه إن كان مؤمناً، والخلود في الجنة، أما الكافر فيصل إلى كمال العذاب جزاء على عمله في الدنيا، ويخلد في النار.
والله حكيم عليم، خلق الإنسان ضعيفاً، ومع ضعفه فعلمه قليل، فمهما علم من العلم فلن يعرف كل شيء.
والإنسان مع ضعفه وقلة علمه عجول، ومع عجلته كان أكثر شيء جدلاً، ومع جداله كان خصيماً، وقتوراً وهلوعاً.
وفوق ذلك كان ظلوماً جهولاً، وفوق ذلك كان مختالاً فخوراً، وفوق ذلك كان كفوراً: (ژ ڑ ڑ ک ک) [الزخرف: 15].(2/147)
إن أعطى لم يشكر.. وإن ابتلي لم يصبر.. وإن أساء لم يستغفر: «يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ» أخرجه مسلم(1).
فالإنسان بحاجة إلى الوحي، وبحاجة إلى الدين، وبحاجة إلى قدوة حسنة، ولذلك بعث الله إليه خيار الناس وهم الأنبياء، ليقتدي بهم.
فمن اتبعهم وسار على هديهم أفلح ونجا في الدنيا والآخرة.
ومن خالفهم وسار على هواه ضل وخسر في الدنيا والآخرة.
فسبحان العليم الحكيم، السميع البصير، الذي خلق الإنسان ورعاه ورباه، وهو جنين في بطن أمه، وجعله في موضع صغير، لا يد تناله، ولا بصر يدركه.
وسبحان من أجرى له الدم من الأم، يتغذى به كما يتغذى النبات بالماء، فينمو تدريجياً حتى يصير بشراً سوياً.
وسبحان من قلب ذلك الدم بعد الولادة لبناً خالصاً.
حتى إذا كمل خلقك، وقوي بدنك على مباشرة الهواء، واستعد بصرك لملاقاة الضياء، وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، هاج الطلق بأمك بأمر العزيز الحكيم، وجاءت الأوامر بخروجك.
فخرجت من الظلمات إلى النور.. ومن دار الأمن إلى عالم الابتلاء.. فبينما الرحم مبتهجٌ بحملك.. صار يعج إلى ربك من ثقلك.
فسبحان الذي فتح لك بابه حتى ولجت.. ثم ضمه عليك وحفظك فيه حتى كملت.. ثم فتح لك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر.. لم يخنقك ضيقه.. ولم تحبسك صعوبة طريقه.
وسبحان من صرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين معلقتين على صدرها، تحمل غذاءك على صدرها، كما حملتك في بطنها، وساقه إلى تلك الخزانتين أعظم سوق وألطفه، فهي بئر مملوءة بالحليب، تشرب منها كلما ظمئت وجعت لبناً خالصاً سائغاً.
فتبارك الكريم الرحيم الذي خلقه وصفاه، وأطاب طعمه، وحسن لونه، وأحكم طبخه، ليس بالحار المؤذي، ولا البارد القارس، ولا المر ولا المالح، ولا الكريه الطعم والرائحة، بل هو أحسن ما يكون.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).(2/148)
وجعله في أعلى مكان ليناسب حالك، فإذا اشتهيت اللبن در لك الثدي بإذن ربه، ولسهولة وصوله إليك جعل الله في رأس الثدي حلمة هي بمقدار صغر فمك، فلا يضيق عنها، ولا يتعب بالتقامها: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الجاثية: 6].
ثم نقب سبحانه في رأس الحلمة نقباً صغيراً يناسب حالك، لم يوسعه فتختنق باللبن، ولم يضيقه فتمصه بكلفة.
فسبحان من عطف قلب الأم على مولودها، ووضع فيه الحنان العجيب، والرحمة الباهرة، تسهر من أجلك، وتؤثرك بكل شيء، وهي منقادة مسرورة.
حتى إذا قوي بدنك، واتسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى طعام يشتد به عظمك، ويقوى عليه لحمك، أنبت في فيك آلة القطع والطحن من الأسنان والأضراس.
فسبحان الذي حبسها وقت الرضاع رحمةً بأمك، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمةً بك ولطفاً بك.
وكلما ازددت قوة وحاجة إلى الأسنان في أكل الطعام زيد لك في تلك الأسنان، حتى تنتهي إلى النواجذ، فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، ثم إذا ازددت قوة، زيد لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحين التي هي آخر الأضراس.
ومن رحمته سبحانه بالإنسان أن أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فإنه على ضعفه لا يحتمل العقل والفهم والمعرفة، وإنما يعطي ذلك تدريجياً كما ينمو تدريجياً رحمةً من ربه العزيز الرحيم.
فلا يزال يتزايد فيه العقل والمعرفة شيئاً فشيئاً، حتى يألف الأشياء ويتمرن عليها، ويستقبلها بحسن التصرف فيها، وحسن التدبير لها.
وخص سبحانه الذكر بأن جمل وجهه باللحية، وقاراً وهيبةً له، وجمالاً وزينة، وفصلاً له عن سن الصبا، وفرقاً بينه وبين الإناث.
وبقيت الأنثى على حالها، لما خلقت له من استمتاع الذكر بها، فبقي وجهها على حاله ونضارته، ليكون أهيج للرجل على الشهوة، وأكمل للذة الاستمتاع.
فالماء واحد.. والوعاء واحد.. واللقاح واحد.. والنتاج مختلف.(2/149)
فسبحان الذي أعطى الذكر الذكورية، والأنثى الأنوثية: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 49، 50].
وجعل سبحانه المعدة خزانة يستقر فيها الغذاء، فتطبخه كالطباخ، وتسلمه لمن ينتفع به، فالإنسان يطبخ الطعام في الخارج، حتى يظن أنه قد كمل، وطباخه من الداخل يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي إليه، ولا تقدر عليه.
فهو يوقد عليه نيراناً تذيب الحصى، وتذيب ما لا تذيبه النار، وهي في ألطف موضع منك، لا تحرقك ولا تلتهب عليك، وهي أشد حرارة من النار.
وجعل سبحانه في بدنك المنافذ والأبواب، لإدخال ما ينفعك، وإخراج ما يضرك.. فهل من عاقل..؟ وهل من ذاكر..؟ وهل من شاكر..؟
فسبحان الخلاق العليم الذي خلق لك الحواس، وجعلها في الرأس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الأشياء.
وجعل سبحانه الحواس خمساً في مقابل المحسوسات الخمس، كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بحاسة:
فجعل البصر في مقابلة المبصرات.. وجعل السمع في مقابلة الأصوات، وجعل الشم في مقابلة الروائح.. وجعل الذوق في مقابلة المذوقات.. وجعل اللمس في مقابلة الملموسات.. فأي محسوس بقي بلا حاسة؟.
وأعينت هذه الحواس بمخلوقات أخر لتكمل بها منفعتها:
فأعينت حاسة البصر بالضياء والنور.. وأعينت حاسة السمع بالهواء الذي ينقل الأصوات.. وأعينت حاسة الشم بالنسيم اللطيف.. وأعينت حاسة الذوق بالريق المتحلل في الفم.. وأعينت حاسة اللمس خاصة بقوة جعلها الله فيها تدرك بها الملموسات، ولم تحتج إلى شيء من خارج.
فسبحان من أخرج الكلام من هواء ساذج في باطن الإنسان، وأخرج من الحروف والكلمات والجمل أنواع الكلام:(2/150)
من أمر ونهي.. ونظم ونثر.. ومضحك ومبك.. ومسل ومحزن.. وما يولد الخوف.. وما يولد الأمن.. ومنه ما يسقم الصحيح.. ومنه ما يبرئ السقيم.. ومنه ما يزيل النعم.. ومنه ما يحل النقم.. ومنه ما يستدفع به البلاء.. ومنه ما يجلب النعماء.. ومنه ما يؤلف القلوب.. ومنه ما يفرق القلوب.. ومنه ما يضل.. ومنه ما يهدي.. ومنه العالي.. ومنه السافل.. ومنه الحسن.. ومنه القبيح.
فسبحان من أخرج هذا كله من هواء ساذج يخرج من الصدر: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ? ? ? ? ? ?) [الشعراء: 8، 9].
وسبحان من أخرج من هواء واحد ما لا يحصيه إلا الله من الحروف والكلمات، والأصوات والأنغام، وأخرج بماء واحد ما لا يحصيه إلا الله من النباتات والأشجار، والأزهار والثمار.. وأخرج بلسان واحد ما لا يحصيه إلا الله من اللغات واللهجات.
فالحلق يمر به هواء واحد، والأرض تسقى بماء واحد، والمواليد من هذ وهذا مختلفة لا يحصي أنواعها إلا الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يس: 82].
وما أعظم نعمة الله في الحفظ والنسيان، والذي خص به نوع الإنسان، وما أعظم ما فيهما من الحكم، وما للعبد فيهما من المصالح.
فإنه لولا القوة الحافظة التي خص الله بها الإنسان لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى، ولا ما سمع وما رأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر من أحسن إليه، ولا من أساء إليه، ولا من نفعه فيقرب منه، ولا من ضره فينأى عنه، ولا يعرف علماً ولو درسه مراراً، ولا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مراراً، ولا ينتفع بتجربة، ولا يعرف من عامله.
ومن أعجب النعم عليه نعمة النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا أبداً، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزى عن مصيبة، ولا ارتفع عنه حزن، ولا بطل له حقد، ولا استمتع بشيء من الدنيا مع تذكر الآفات، ولا نام من تذكر المصائب والبليات.(2/151)
فما أعظم نعمة الله على العبد في الحفظ والنسيان مع تضادهما: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 53].
والله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يفعل ما يشاء بقدرته وهو الصمد:
خلق آدم بلا أب ولا أم.. وخلق زوجه من أب بلا أم.. وخلق عيسى من أم بلا أب.. وخلقنا من أب وأم.
فخلق آدم من تراب، وخلق زوجه من أحد أضلاعه، وخلق عيسى من نفخة جبريل في درع مريم، وخلق البشر من اجتماع ماء الرجل والمرأة.
فسبحان من خلق من هذا الماء بشراً سوياً يقوم ويقعد.. ويأكل ويشرب.. ويفرح ويغضب.. ويصلي ويتعبد.. ويعدل ويظلم.. ويتكلم ويسكت.. ويرحم ويبطش.
وسبحان من جعل من نسله الذكر والأنثى.. والأسود والأبيض.. والطويل والقصير.. والمؤمن والكافر.. والعاقل والمجنون.. والعرب والعجم.
وسبحان من هيأه للإيمان والكفر.. والطاعات والمعاصي.. والخير والشر.. والإحسان والإساءة.. والهدى والضلالة.
وسبحان من ملأ الأرض من نسله.
فهذا يولد.. وهذا يموت.. حتى يأكلوا أرزاقهم.. ويستكملوا آجالهم.. والله يوالي عليهم نعمه.. ويرسل إليهم رسله.. وهم يعملون بما يسر الله لهم.. ويغدون ويروحون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فما أعظم خلق هذه النفوس، وما أعجب ما فيها من الآيات والعبر والشواهد والحكم، وما أدلها على قدرة بارئها وفاطرها: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الذاريات: 20، 21].
وهذا الإنسان مركب من ستة أشياء وهي:
بدنه الجثماني.. ونفسه الشهوانية.. ونفسه الغضبية.. ونفسه الشيطانية.. وروحه الملكية.. وجوهره العقلي.
والذي يملك السمع والأبصار هو الله، فهو خالقها وحده، وهو الذي يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويعافيها أو يمرضها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره.
وفي تركيب العين وأعصابها، وكيفية إدراكها للمرئيات.
وفي تركيب الأذن وأجزائها، وطريقة إدراكها للذبذبات.
في ذلك كله عجائب تذهل العقول، وتدير الرؤوس.(2/152)
إن كثيراً من الناس يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم، كأنهم لا يبصرون ولا يدركون: (ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [يونس: 92].
والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، هو الله وحده.
ألا ما أعظم الرب الخالق سبحانه، وما أعظم قدرته، وما أتقن صنعه.
إن وقفة واحدة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة.
أو أمام البيضة والبويضة، يخرج منهما الفرخ والإنسان.
إن ذلك لكافٍ لاستغراق حياة الإنسان في التأمل والارتعاش، إجلالاً لعظمة الله وكمال قدرته، وسعة علمه، وجميل صنعه.
فسبحان العليم القدير.
أين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟.. وأين كان يكمن العود؟.
وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق والثمار؟.
وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق والعراجين؟.
وأين كان يكمن الطعم والنكهة، واللون والرائحة؟.
وأين كان يكمن البلح والتمر، والرطب والبسر؟.
وأين في البيضة كان الفرخ؟.
وأين كانت تكمن تلك العظام واللحوم، والزغب والريش؟.
وأين كان يكمن في البويضة ذلك الكائن البشري العجيب؟.
وأين كان يكمن لحمه وعظامه، عروقه وأعصابه، وسمعه وبصره، ورأسه وأطرافه، وأفكاره وأعماله، وكلامه وحركاته؟
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 11].
وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار، إلى دم حي في الجسم الحي.. وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق.. لأعجوبة يتسع العجب منها.. كلما زاد العلم بها.. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار.
إن هذه الكائنات الحية لا تكون إلا من إله حي، يهب الحياة لكل حي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 65].
17- خلق الروح
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 85].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 28، 29].
الله تبارك وتعالى هو الذي سوَّى النفس كما سوَّى البدن.(2/153)
فأخبر أنه سوى البدن بقوله: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?) [الانفطار: 6-8].
وأخبر أنه سوى النفس بقوله: (ٹ ٹ ? ?? ? ? ?) [الشمس: 7، 8].
فالله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها.
والإنسان مجموع الروح والبدن كما قال سبحانه: (? ? ? ں ں ? ? ? ??? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [ص: 71، 72].
وباجتماع الروح مع البدن، تصير النفس فاجرة أو تقية، وإلا فالروح بدون البدن لا فجور لها.
وقد أفلح من زكى نفسه بحملها على طاعة الله، وخاب من أهلكها وحملها على معصية الله.
والعبد إنما يزكي نفسه بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، ويدسيها بعد تدسيه الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه حينما أعرض عن ربه.
والله عزَّ وجلَّ هيأ الإنسان لقبول الكمال، بما أعطاه الله من الأهلية والاستعداد، التي جعلها كامنة فيه كون النار في الزناد.
فألهمه ربه ومكنه، وعرفه وأرشده، وأرسل إليه رسله، وأنزل عليه كتبه، لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل، فالنفس قابلة للفجور والتقوى لحكمة الابتلاء.
ثم خص الله سبحانه بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها بطاعة الله فذلك المتقي.
ثم حكم بالشقاء على من دساها، فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور فذلك الشقي.
فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها، وتعليها حتى تصير أشرف شيء، وأكبره وأزكاه وأعلاه.
والمعصية تذل النفس وتصغرها وتحقرها.
فما أصغر النفس مثل معصية الله، وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
والبدن كالقالب بالنسبة للنفس، وهي تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، ويكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها، وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه.
ولهذا يقال لها عند مفارقة البدن: «أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله وَرِضْوَانٍ» أخرجه أحمد وأبو داود(1)
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (18534)، وهذا لفظه.
وأخرجه أبو داود برقم (4753)، صحيح سنن أبي داود رقم (3979).(2/154)
.
والأرواح جنود مجندة، وأنواع مختلفة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه(1).
وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته.
فالمؤمن والكافر قد يتشابهان كثيراً، وبين روحيهما أعظم التباين، وقلَّ أن ترى بدناً قبيحاً إلا وجدته مركباً على نفس تشاكله، وقل أن ترى آفة في بدن، إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها.
وقل أن ترى شكلاً جميلاً، وصورة حسنة، إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، حسنة مثله.
وإذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزاً بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى.
وأرواح الموتى تتلاقى وتتزاور، وأرواح الأحياء والأموات تتلاقى في النوم، ويكلم بعضها بعضاً، كما تلتقي أرواح الأحياء، وكما تلتقي أرواح الموتى كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الزمر: 42].
فالروح جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره جوهر البدن، وهي مخلوقة مدبرة، وأرواح الأحياء والأموات تتلاقى في البرزخ، فتجتمع وتتحدث، فيرسل الله أرواح الأحياء لتستكمل أرزاقها وآجالها، ويمسك أرواح الأموات.
وموت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً فهي لا تموت بهذا الاعتبار.
فالأرواح باقية بعد خلقها ومفارقة أجسادها في نعيم أو عذاب، حتى يردها الله إلى أجسادها عند البعث.
وموت الأنبياء أنهم غيبوا عنا حيث لا ندركهم، فهم أحياء في قبورهم، كالملائكة أحياء موجودون ولا نراهم.
وإذا تقرر أنهم أحياء، وكذلك الشهداء، فحياتهم تختلف عن حياتهم في الدنيا، وواهب الحياة وحده، أعلم بكيفية تلك الحياة.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3339)، ومسلم برقم (2638).(2/155)
فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق الأنبياء، فالأظهر أنه غشية.
فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأكُونُ أوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ، فَلا أدْرِي: أكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأفَاقَ قَبْلِي، أوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ» متفق عليه(1).
وقد وصف الله النفس بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع والصعود إلى السماء كما قال سبحانه: (? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ?? ? ? ?) [الفجر: 27-30].
والروح تعاد إلى الميت في قبره وقت سؤال الملكين له في القبر.
من ربك؟، ما دينك؟، من نبيك؟.
والروح تتعلق بالبدن، وإن بلي وتمزق، ولكنها لا تستقر فيه.
وسر ذلك أن الروح لها مع البدن خمسة أحوال:
أحدها: تعلقها بالجنين في بطن أمه.
الثاني: تعلقها بالبدن بعد خروجه إلى الأرض.
الثالث: تعلقها بالبدن في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً، بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، فترد إليه عند السؤال في القبر، ووقت سلام المسلم عليه، وهذا الرد لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
الخامس: تعلقها به يوم القيامة، وهو أكمل أنواع تعلقها، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء في السموات، ورأى موسى ^ يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ورأى إبراهيم ^ في السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وقبورهم وأبدانهم في الأرض، ولا تنافي في ذلك.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2411) واللفظ له، ومسلم برقم (2373).(2/156)
فإن الروح كانت هناك في السماء، ولها اتصال بالبدن في القبر، وإشراف عليه، وتعلق به، بحيث يصلي في قبره، ويرد السلام، وهي في الرفيق الأعلى، ولا تنافي بين الأمرين.
إن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، فصعودها ونزولها وحركتها أخف من حركة البدن وأسرع.
والنعيم والعذاب في القبر على البدن والروح معاً، تنعم الروح وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن.
وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رماداً، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب أو النعيم ما يصل إلى المقبور.
فإن قيل، وقد قيل، وما قيل إلا بسبب الجهل بالله ودينه وشرعه.. عذاب القبر ونعيمه.. وسعته وضيقه.. وكونه حفرة من حفر النار.. أو روضة من رياض الجنة، قد كشفنا القبر وما رأينا ذلك؟.
ولا رأينا الملائكة التي تعذب الكفار؟.
ووجدنا القبر كما حفرناه وقبرناه لم يزد ولم ينقص؟.
وكيف يسع القبر الميت مع من يعذبه أو يؤنسه أو يسأله؟.
ونرى المصلوب على خشبة لا يتحرك ولا يسأل ولا يجيب؟.
وكذلك من أكلته السباع، ومن احترق، ومن تفرقت أجزاؤه؟.
وكيف يسأل من تفرقت أجزاؤه في الرياح والبحار والتراب؟.
فيقال لهؤلاء وأمثالهم: كتاب الله تنزيل من حكيم عليم، والرسل لم تأت بما تحيله العقول، وتقطع باستحالته.
بل ما جاء به الرسل قسمان:
أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر.
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها، كأمور الغيب التي أخبروا بها عن البرزخ، واليوم الآخر كالصراط والميزان، والجنة والنار ونحو ذلك.
ولا يكون خبر الرسل محالاً في العقول أصلاً.
وكل خبر يُظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أمرين:
الأول: إما أن يكون الخبر كذباً عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسداً يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 6].(2/157)
الثاني: أن يُفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده، من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصربه عن مراده مما قصده من الهدى والبيان.
وقد حصل بسبب إهمال ذلك كل بدعة وضلالة ومعصية، مع حسن القصد أو سوء القصد، وما ذاك إلا بسبب سوء الفهم عن الله ورسوله.
والله سبحانه خلق هذا الكون العظيم، وخلق البشر، وشرع لعباده الدين الحق.
وجعل الدور ثلاثاً:
دار الدنيا.. ودار البرزخ.. ودار الآخرة.
وجعل سبحانه لكل دار أحكاماً تخصها، وتناسب أحوالها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح.
وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، ولهذا جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه.
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبعاً لها، فالأبدان في الدنيا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها.
والأرواح هناك في القبور ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجري أحكام البرزخ على الأرواح، فتسري إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان، وتسري إلى الأرواح عذاباً أو نعيماً.
وذلك واقع في الدنيا بالنوم، فإن ما يجري على الإنسان في نومه من عذاب أو نعيم، يجري على روحه أصلاً، والبدن تابع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن، فيرى في نومه أنه قد ضرب، فيقوم وأثر الضرب في جسمه.
وذلك أن الحكم لما جرى على الروح، استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت لاسيتقظ وأحس.
فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقام الناس من قبورهم، صار الحكم، والنعيم والعذاب على الأجساد والأرواح معاً ظاهراً بادياً في كل منهما.
والله عزَّ وجلَّ جعل أمر الآخرة، وما كان متصلاً به كالبرزخ غيباً، وحجب ذلك عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته ورحمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم.(2/158)
فالملائكة تنزل على المحتضر، وتجلس قريباً منه، ويشاهدهم عياناً، وقد يسلمون على المحتضر، وقد يرد عليهم بإشارة أو لفظ.
وكذلك النار التي في القبر ليست من نار الدنيا، والخضرة التي فيه ليست من زرع الدنيا، وإنما ذلك من نار الآخرة وخضرتها، فلا يحس بها الأحياء في هذه الدار، لأنهم محجوبون عنها.
ولو أطلعنا الله على ذلك لزالت حكمة التكليف، ولما تدافن الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَوْلا أنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر» أخرجه مسلم(1).
ورؤية هذه النار أو الخضرة في القبر كرؤية الملائكة والجن تقع أحياناً لمن شاء الله أن يريه ذلك، كما حصل لبعض الناس.
والله عزَّ وجلَّ قد أحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك.
فجبريل صلى الله عليه وسلم كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، ويكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه ولا يسمعه.
والجن يتحدثون بيننا بالأصوات المرتفعة، ونحن لا نسمعهم ولا نراهم، وقد نسمع كلامهم ولا نراهم، كما إذ دخلوا في بعض الإنس وتكلموا.
فالله رؤوف بالعباد يخلق حوادث ومخلوقات، يصرف عنها أبصار الناس، حكمة منه ورحمة بهم، لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها.
والعبد أضعف بصراً وسمعاً وتحملاً من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر.
وإذا كان العبد يستطيع أن يوسع القبر، ويستره عن الناس، فلا يعلمون منه إلا ما شاء، فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، ويستر ذلك عمن يشاء، ويظهره لمن يشاء؟.
والسر في ذلك كله أن النار والخضرة، والضيق والسعة في القبر ليست من المعهود في هذا العالم، فلا يمكننا إدراكه.
والله سبحانه إنما أشهد بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها، فأما أمر الآخرة، فقد أسبل عليه الغطاء، ليكون الإيمان به والإقرار سبباً لنجاتهم وسعادتهم.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2868).(2/159)
ولا يمتنع على من هو على كل شيء قدير، أن يرد الروح إلى المصلوب والغريق والحريق، ونحن لا نشعر بها.
وكذلك من تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على الذي لا يعجزه شيء، أن يجعل للروح اتصالاً بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، فإنه سبحانه جعل في الجمادات شعوراً، فهي تسبح بحمد ربها، وتسقط الحجارة من خشيته سبحانه: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ) [الإسراء: 44].
وعذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة.
وسمي عذاب القبر ونعيمه، وأنه روضة أو حفرة، باعتبار غالب الخلق، وإلا فإن للغريق والحريق والمصلوب، ومن أكلته السباع والطيور، من عذاب القبر ونعيمه ما للمقبور.
ولو عُلق الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح، لأصاب جسده نصيبه من عذاب القبر ونعيمه بقدرة العزيز العليم، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
والله تبارك وتعالى جعل لابن آدم معادين وبعثين: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?) [النجم: 31].
فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء الأولى في القبر، وهو الحشر الأول.
والبعث الثاني: يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثها من قبورها إلى مستقرها في الجنة أو النار، وهو الحشر الثاني.
فالأول برزخ بين الدنيا والآخرة، يتنعم فيه المطيعون، ويعذب العاصون، من حين موتهم إلى يوم يبعثون، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 100].
والثاني مكان كمال النعيم، وكمال العذاب، في الجنة أو النار.
فجعلهما الله داري جزاء المحسن والمسيء، ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثاني في دار القرار كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 185].
وقال سبحانه عن الكفار: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [غافر: 46].(2/160)
وقد اقتضت حكمة الله وعدله، وأوجبت أسماؤه الحسنى وكماله، تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان لا دار جزاء لم يظهر فيها ذلك جلياً.
وأما البرزخ فأول دار جزاء، وأول منازل الآخرة، فظهر فيه من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضي الحكمة إظهاره.
فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفى الله أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأرواح والأبدان وعذابهما.
فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة ونعيمها، وهو مشتق منه، وواصل إلى أهل البرزخ هناك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن إذا مات وقبر: «فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إلى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ».
وقال في الكافر إذا مات وقبر: «فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إلى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ» أخرجه أحمد وأبو داود(1).
فإذا كان يوم القيامة دخل كل إنسان إلى دار مقامه الأبدي في الجنة أو النار.
فسبحان من له الخلق والأمر، وحكمته منتظمة أكمل انتظام في الدور الثلاث.
أما الأسباب التي يعذب بها أهل القبور:
فإنهم يعذبون على جهلهم بالله.. وإضاعتهم لأمره.. وارتكابهم معاصيه.. فلا يعذب الله روحاً عرفته وأحبته وأطاعته.. ولا بدناً كانت فيه أبداً.
فإن عذاب الدنيا.. وعذاب القبر.. وعذاب الآخرة.. أثر غضب الله وسخطه على من عصاه.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (18534) وهذا لفظه.
وأخرجه أبو داود برقم (4753) صحيح سنن أبي داود رقم (3979).(2/161)
فمن أغضب الله وأسخطه في الدنيا، ومات لم يتب، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب، ومطيع وعاص، وشقي وسعيد.
وسؤال الملكين للميت في قبره عام لكل الناس، المسلم والكافر والمنافق، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويضل الله الظالمين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [إبراهيم: 27].
وهو كذلك عام في هذه الأمة، وما قبلها من الأمم.
وسؤال الملكين لا يشمل الأطفال الذين لا تمييز لهم، فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، لكن قد يراد بعذاب القبر الألم الذي يسري أثره على الطفل فيتألم به، ولذا شرع للمصلي أن يسأل الله أن يقيه ذلك العذاب.
وعذاب القبر نوعان: دائم.. ومنقطع.
فالدائم: هو عذاب الكفار والمنافقين.
والمنقطع: هو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول العذاب عنه، وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج ونحو ذلك.
ومستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة في السماء:
فأرواح السعداء عن يمين آدم في السماء الأولى.. وأرواح الأشقياء عن يساره.
فلا تزال الأرواح هناك حتى يكتمل عدد الأرواح كلها، ثم يعيدها الله إلى الأجساد ثانية.(2/162)
قال النبي ^ في قصة الإسراء والمعراج: «فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أسْوِدَةٌ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أهْلُ النَّارِ، فَإذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى» متفق عليه (1).
والأرواح البشرية متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت.
فأرواح الأنبياء في أعلى عليين، وهم متفاوتون في منازلهم.
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وهي أرواح بعض الشهداء.
ومنهم من أرواحهم نسمة طائر يعلق في أشجار الجنة.
ومنهم من يكون محبوساً على باب الجنة.
ومنهم من يكون محبوساً في قبره.
ومنه من يكون محبوساً في الأرض، لأن روحه سفلية أرضية.
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني.
ومنها أرواح تسبح في نهرالدم.
فمقر الأرواح مختلف.. أرواح في أعلى عليين.. وأرواح في أسفل سافلين.. كل بحسب عمله.
والأرواح مع كونها في السماء تتصل بفناء القبر وبالبدن منه، وهي أسرع شيء حركة وانتقالاً، وصعوداً وهبوطاً، بعضها مرسل، وبعضها محبوس.
والروح في جسد الإنسان بدار غربة، ولها وطن غيره، فلا تستقر إلا في وطنها، وقد أمرت بمساكنة هذا الوطن الكثيف، وهي تحن إلى وطنها في المحل الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (349)، واللفظ له، ومسلم برقم (163).(2/163)
وأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيتها في أعماق البدن، واشتغالها بملاذه، وانقطاعها عن ملاحظة ما خلقت له، وما هيئت له، وعن وطنها ومحلها ومنزل كرامتها.
ولكن سكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب، فإذا صحت من سكرها تحسرت على ما فاتها من كرامة الله.
فالمؤمن في هذه الدار سبي من دار الجنة والنعيم إلى دار التعب والعناء، ثم ضرب عليه الرق فيها، فكيف يلام على حنينه إلى داره التي سبي منها، وفرق بينه وبين ما يحب، وجمع بينه وبين عدوه؟.
فروحه دائماً معلقة بذلك الوطن، وبدنه في الدنيا.
ولهذا كان المؤمن غريباً في هذه الدار، أين حل منها فهو في دار غربة، إلى أن تنقضي ويصير إلى وطنه ومنزله.
والروح نؤمن بوجودها في البدن، ولا نعلم كيفيتها، ولا اختصاص للروح بشيء معين في الجسد، بل هي سارية في الجسد كله، والحياة مشروطة بالروح، فما دامت فيه كانت فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة.
وأرواح الموتى قسمان:
أرواح معذبة.. وأرواح منعمة.
فالأرواح المعذبة في شغل بما هي فيه عن التزاور والتلاقي.
والأرواح المنعمة المرسلة تتلاقى وتتزاور، وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا.
والأرواح مخلوقة مع الأجساد، والملك الموكل بنفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذ مضى على النطفة أربعة أشهر، وذلك أول حدوث الروح فيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه(1).
__________
(1) متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208) واللفظ له، ومسلم برقم (2643).(2/164)
والمؤمنون تفتح لأرواحهم عند الموت أبواب السماء.. وتفتح لأجسادهم أبواب الجنة.. وأما الكفار فلا تفتح لأرواحهم أبواب السماء.. ولا تفتح لأجسادهم أبواب الجنة كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?) [الأعراف: 40].
وأهل الإيمان والعمل الصالح، لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه، وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 10].
وأهل الكفر لما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة، بل أغلقت عنها.
والفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا بالذات، ولكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفساً، فإن العبد كلما نام خرجت منه، فإذا استيقظ رجعت إليه، فإذا مات خرجت خروجاً كلياً، فإذا دفن عادت إليه، فإذا سئل خرجت، فإذا بعث رجعت إليه، ولها اتصال بالبدن في القبر.
فالنفس واحدة ولها ثلاثة أحوال:
فتكون أمارة بالسوء تارة كما قال سبحانه: (پ پ پ پ) [يوسف: 53].
وتكون لوامة تارة كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ) [القيامة: 2].
وتكون مطمئنة تارة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?) [الفجر: 27، 28].
وأكثر الناس الغالب عليهم الأمارة.. واللوامة أقل منها.. وأما المطمئنة فهي أقل النفوس البشرية عدداً، وأعظمها عند الله قدراً.
والله تبارك وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، ويظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان.
إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة.. وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية.. فإن خرج في هذه الدار.. وإلا ففي كير جهنم.. فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة.(2/165)
والنفوس البشرية علوية وسفلية.. ومرسلة ومحبوسة.. ولها بعد المفارقة صحة ومرض.. ولذة ونعيم.. وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير.
فهناك الحبس والألم، والعذاب والعقاب، والمرض والحسرة لبعضها.. وهناك اللذة والراحة، والنعيم والطمأنينة، والسعادة والسرور للبعض الآخر.
وما أشبه حالها في هذا البدن، بحال البدن في بطن الأم، وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.
ولكل نفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها:
الأولى: في بطن الأم، حيث الحصر والضيق والظلمات الثلاث.
الثانية: دار الدنيا، وهي التي ينشأ فيها الإنسان، ويكتسب فيها الخير والشر، وأسباب السعادة والشقاوة.
الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة تلك الدار إلى الأولى.
الرابعة: دار القرار، وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها.
والله جل وعلا ينقلها في هذه الدور طبقاً بعد طبق، حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها، وهيئت للعمل الموصل لها إليها.
ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ أحكام الأرواح عند الموت بقوله سبحانه: (? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? چ چ چچ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑکک ک ک گگگ گ ? ? ? ?? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھھ ھ ھے ے ? ? ? ?? ? ? ? ??) [الواقعة: 83-96].
فالناس عند القيامة الصغرى وهي الموت، وعند القيامة الكبرى بعد البعث ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مقرب له الروح والريحان وجنة النعيم.
القسم الثاني: مقتصد من أصحاب اليمين، حكم الله له بالإسلام والسلامة من العذاب، فهو في الجنة.
القسم الثالث: ظالم بتكذيبه وضلاله فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم.
وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [المجادلة: 22].(2/166)
وكذلك الروح التي يلقيها الله على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [غافر: 15].
فالوحي للقلوب بمنزلة الروح للجسد، فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك القلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح.
والقوى التي في البدن تسمى أرواحاً، فيقال الروح الباصر، الروح السامع، الروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودعة في الأبدان، تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت الأبدان.
ويطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو قوة المعرفة بالله، والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذا إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه.
وهي الروح التي يؤيد الله بها أهل طاعته وولايته، ولهذا يقال فلان فيه روح، وفلان ليس فيه روح.
فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح وهكذا.
والناس متفاوتون في هذه الأرواح، فمنهم من تغلب عليه فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها، أو يفقد أكثرها فيصير أرضياً بهيمياً، أو إبليساً.
18- خلق الدنيا والآخرة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [العنكبوت: 64].
وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الحديد: 20].
الله تبارك تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، خلق السموات والأرض، وخلق الدنيا والآخرة، وهو الحكيم العليم، الذي يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
أظهر سبحانه ما شاء، وأخفى ما شاء، وهو العزيز الحكيم.
فأظهر ما شاء من المخلوقات.. وأخفى نفسه جل جلاله.
وأظهر الأبدان.. وأخفى الأرواح.
وأظهر قيمة الأشياء.. وأخفى قيمة الأعمال.
وأظهر الدنيا.. وأخفى الآخرة.
خلق سبحانه الدنيا.. وجعلها دار الإيمان والعمل.. وخلق الآخرة.. وجعلها دار الثواب والعقاب.(2/167)
ولا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
الأول: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنكد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع، وما يعقب ذلك من الحسرة.
فطالب الدنيا لا ينفك من همِِِّ قبل حصولها، وهمِِِّ في حال الظفر بها، وغمِِِّ وحزن بعد فواتها.
الثاني: نظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من اللذات والنعيم، والخيرات والمسرات.
فإذا تم له هذان النظران.. وفكر في هذه وهذه.. وتجول في تلك الدارين ببصره وبصيرته.. آثر ما يقتضي العقل إيثاره.. وزهد فيما يقتضي العقل الزهد فيه.
والله عزَّ وجلَّ خلق الدار الدنيا، وجعلها سكناً للعباد، ومكاناً للعمل وامتثال أوامر الله، وهيأ للعباد فيها ما يحتاجونه من الطعام والشراب واللباس والمراكب، وسائر النعم والملاذ كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 29].
وجعل سبحانه ما في الدنيا من المخلوقات والأحوال للاعتبار والتفكر، والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر، ومعرفة عظمته وقدرته، وسعة علمه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
وبقاء العباد في هذه الدار إلى أجل مسمى لا يعلمه إلا الله، فإذا انقضت مدة السكن أجلاهم ربهم من الدار، ثم خربها لانتقال الساكن منها إلى غيرها.
فكور الشمس.. وفطر السماء.. ونثر الكواكب.. ودك الأرض.. وسير الجبال.. وعطل العشار.. وفجر البحار.. وبعثر ما في القبور كما قال سبحانه: (? ? ?? ? پ پپ پ ? ?? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹ) [الانفطار: 1-5].(2/168)
وفي تغير الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، بيان لقدرة العزيز الجبار، بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد بإتلاف معبوداتهم، وإظهار أن للعالم رباً مدبراً يتصرف في الكون كيف يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار.. ودلالة على كمال قدرته وقوته.. وعظمة عزته وسلطانه.
فسبحان من انقادت المخلوقات بأسرها لقهره، وأذعنت لجبروته، وخضعت لمشيئته، وكلها بيده أصغر من الخردلة: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [الجاثية: 36، 37].
والله عزَّ وجلَّ خلق الناس ليعبدوه، ولا يمكن لهم أن يعبدوه إلا إذا عرفوه. فيجب على كل إنسان أعطاه الله عقلاً يدرك به حقائق الأشياء أن يعرف:
ربه.. ونفسه.. ودنياه.. وآخرته.
فإذا عرف العبد ربه: نشأ من ذلك محبة الله وتعظيمه، وطاعته، والتوكل عليه.
وإذا عرف نفسه: نشأ من ذلك الحياء والخوف من الله، والتواضع له، والافتقار إليه، والتوكل عليه.
وإذا عرف الدنيا، وسرعة زوالها؛ نشأ من ذلك شدة الرغبة عنها.
وإذا عرف الآخرة، وكمال نعيم الجنة، نشأ من ذلك شدة الرغبة فيها، والمسارعة إلى الأعمال التي توصل إليها.
وإذا عرف شدة عذاب النار: نشأ من ذلك شدة الفرار منها بالحذر من الشرك والمعاصي.
والدين خطوتان: خطوة للعبادة.. وخطوة للدعوة.. ومصباحهما العلم.. ومحركهما الإيمان.. فمن خطاهما معاً.. أدى الأمانة.. ووصل إلى الجنة.
والدنيا مجلسان: مجلس في طلب الآخرة.. ومجلس في طلب الحلال.
والثالث يضر لا ينفع فاجتنبه.
والدنيا والآخرة ضرتان إن ملت إلى إحداهما أضررت بالأخرى، وبينهما في الجمال والكمال والدوام أبعد مما بين المشرق والمغرب.
والآخرة خير من الأولى كما قال سبحانه: (? ? ? ?? پ پ پ پ) [الأعلى: 16، 17]
فسرور الدنيا كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها.(2/169)
إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها قتلتك، وإن أقبلت عليك شغلتك، وإن أدبرت عنك أحزنتك، وإن تكثرت منها أطغتك كما قال سبحانه: (گ گ ? ?? ? ? ? ?) [العلق: 6، 7].
ويكفي في هوانها على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها، وكل ما فيها متاع زائل كما قال سبحانه: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ) [الشورى: 36].
والدنيا دار الغربة، والعبد فيها على جناح سفر، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فليكن فيها كأنه غريب أو عابر سبيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أخرجه الترمذي وابن ماجة(1).
فإذا طال عمر الإنسان، وحسن عمله، كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة، فإنه كلما طال السفر إليها، كانت الصبابة أجل وأفضل.
وإذا طال عمر الإنسان، وساء عمله، كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه، ونزولاً به إلى أسفل، فالمسافر إما صاعد، وإما نازل.. وإما رابح، وإما خاسر.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير فقال: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَالَ: « مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» أخرجه الترمذي(2).
والتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري، ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني، وحقيقة الحياة وتكاليفها، وماذا يراد منها؟.
فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر.. والآخرة شطر الحياة الأعلى والأدوم.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2377)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1936).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4109)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3317).
(2) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2330)، صحيح سنن الترمذي رقم (1899).(2/170)
والله عزَّ وجلَّ بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليعلموا الناس كيف يقضون حياتهم فيما ينفعهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، وكيف يرضون ربهم الذي خلقهم ورزقهم.
ويتم ذلك بمعرفة الله بأسمائه وصفاته.. ومعرفة دينه وشرعه الذي هو الطريق الموصل إليه.. ومعرفة ما للناس بعد القدوم عليه في الآخرة.. من النعيم المقيم لمن أطاعه.. والعذاب الشديد لمن عصاه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 219، 220].
فللحصول على السعادة لا بد من التفكير في الدنيا والآخرة، وتقديم ما يبقى على ما يفنى، ولزوم ذلك: (? ? ? ? ? ?) [الضحى: 4].
والدنيا والآخرة ملك لله، فمن أراد شيئاً من ذلك فليطلبه من مالكها، فعنده ثواب الدنيا والآخرة، ولا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك أمور الدنيا والدين إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 134].
ومن أراد الدنيا فعمل لها وسعى، ونسي المبتدأ والمنتهى، عجل الله له من حطامها ومتاعها ما شاء مما كتب له، ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له، ثم جعل له في الآخرة العذاب والفضيحة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 18].
ومن آمن بالله، وأراد الآخرة، وسعى لها سعيها الذي جاء في كتاب ربه، وجاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فله أجره وثوابه عند ربه كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [الإسراء: 19].
وكل واحد من هؤلاء.. وهؤلاء، يمده الله من عطائه ونعمه، لأنه عطاؤه وإحسانه يتفضل الله به على المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة والمعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، بل جميع الخلائق يأكلون من رزقه، راتعون في فضله وإحسانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [الإسراء: 20].
وحب الدنيا رأس كل خطيئة.(2/171)
ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً.. وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهداً.. ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات.
والدنيا ليست محذورة لعينها، فهي مكان وزمان العمل والعبادة، والدعوة والجهاد، وإنما تذم لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، والعمل بشرعه.
والفقر ليس مطلوباً لعينه، بل لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل به، وفراق المحبوب شديد.
فمن أحب الدنيا كره لقاء الله تعالى، ومن أحب الله تعالى اشتغل بما يحب، وهجر ما يكره، وأحب لقاء الله تعالى.
وقد خلق الله بطن الأم لخلق الإنسان، وتكميل أعضائه وجوارحه.
وخلق الدنيا لتكميل الإيمان والأعمال الصالحة.
وخلق الآخرة لتحقيق القسط والعدل الإلهى، وتكميل الشهوات، وإبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا في النعيم والخلود.
والله تبارك وتعالى خلق الخلائق، وكتب الآجال، وقسم الأرزاق، وهو الحكيم الخبير، يعطي الدنيا لأعدائه ليتمرغوا فيها، فتركبهم وتذلهم، ويمنعها عن أوليائه، ليتضرعوا إليه، ويقفوا ببابه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 55].
فهؤلاء لما قدموها على مراضي ربهم، وعصوا الله لأجلها، عذبهم الله بها في الدنيا بهم القلب، وتعب البدن، وانتقلوا من الدنيا إلى الشقاء الدائم في نار جهنم.
فالدنيا التي تشغل العبد عن طاعة الله هي عدو له.. وهي كالجيفة فكيف نقعد على موائدها؟.. وهي كالحمام فكيف نعشق البقاء فيها؟.
والآخرة أغلى من الجواهر فكيف لا نسارع إليها؟.
والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو لم يكن من هوانها إلا كون الله الحق تبارك وتعالى يعصى فيها، فذلك كاف في بغضنا لها.
والناس في العمل في الدنيا قسمان:
منهم من اجتهد على الدنيا ثم راح وتركها، فهو يحاسب على حلالها، ويعاقب على حرامها.
والذين اجتهدوا على الدنيا صنفان:
منهم من حصلها فبغى وطغى، وتجبر واستكبر، فصارت زاده إلى النار.(2/172)
ومنهم من خسرها فحصد الهم والحزن، وتحمل الديون، وحقوق العباد.
والذين اجتهدوا لكسب الآخرة قسمان أيضَا:
منهم من اشتغل بالعبادة وأعمال البر فقط، فهذا إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» أخرجه مسلم (1).
ومنهم من اشتغل بالعبادة، والدعوة، وتعليم الأمة أحكام دينها، فهذا عمله مستمر، لأن كل من اهتدى بسببه، أو تعلم بسببه، فله مثل أجره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شيئاً، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئاً» أخرجه مسلم(2).
فكم يكون في صحيفة هذا من المسلمين والمصلين، والدعاة والمجاهدين، والعلماء والمعلمين، والصائمين والمتصدقين، والحجاج والمعتمرين؟.
والحياة الدنيا لعب ولهو، حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى، حين يعيشها المرء لذاتها، مقطوعة عن منهج الله فيها.
ذلك المنهج الرباني الذي يجعلها مزرعة للآخرة، ويجعل من أحسن الخلافة فيها مستحقاً لوراثة الدار الآخرة الباقية كما قال سبحانه: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 36].
فالإيمان والتقوى والعمل بمنهج الله في الحياة الدنيا.. هو الذي يجعلها ميداناً فسيحاً لكسب الأجور.. ويخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً.. ويطبعها بطابع الجد.. ويرفعها عن مستوى القاع الحيواني.. إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1631).
(2) أخرجه مسلم برقم (2674).(2/173)
وحينئذ لا يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعَا ولا مقطوعاً.
فعن هذا البذل والإنفاق ينشأ الأجر الأوفى في الدار الأبقى.
والله سبحانه لا يسأل الناس أن يبذلوا أموالهم كلها، ولا يشق عليهم في فرائضه وسننه، وهو لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بذلها كلها فتضيق صدورهم، وتظهر أضغانهم: (? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 37].
والله يريد منا الإنفاق في سبيله، وأجره عائد على المنفق، فالذين يبخلون على أنفسهم، إنما يحرمون أنفسهم بأيديهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [محمد: 38].
إن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا والآخرة.. ليعرف العباد عظمته وجلاله.. ويعرفوا آلاءه وإحسانه.. وجعل الإنسان إن اتقى الله وآمن به سيداً في الدنيا والآخرة.. وإن كفر به وعصاه عاش ذليلاً مهاناً في الدنيا والآخرة.
إن اختيار الله لهذه الأمة لحمل دعوته تكريم وتشريف، ومن وعطاء، فإذا لم يكونوا أهلاً لهذا الفضل، ولم ينهضوا بتكاليف هذه المكانة، وإذا لم يدركوا قيمة ما أعطوا، فإن الله يسترد ما وهب، ويختار غيرهم لهذه المنة ممن يقدِّر فضل الله، وعظيم نعمته.
إنها لنذارة عظيمة رهيبة.. لمن ذاق حلاوة الإيمان.. وأحس بكرامته على الله.. وبمقامه في هذا الكون.. وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم.. ويمشي في الأرض بسلطان الله في قلبه.. ونور الإيمان في كيانه.. ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 33].
إن الإيمان أغلى شيء في حياة الإنسان، وهو هبة عظيمة من الله لعباده، لا يعدلها في هذا الوجود شيء.
الحياة رخيصة، والمال زهيد، حين يوضع الإيمان في كفة، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه.
وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها، ثم تسلب منه، ويطرد وتوصد دونه الأبواب.(2/174)
بل إن الحياة لتغدو جحيماً لا يطاق عند من يتصل بربه الذي بيده كل شيء، ثم توصد دونه الأبواب، ويطبق دونه الحجاب: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 38].
وإذا استكبر من في الأرض عن عبادة ربهم، ولم ينقادوا لها، فإنهم لن يضروا الله شيئاً، والله غني عنهم، وله عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يملون من عبادته، لشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 38].
فما أعظم نعم الله على عباده وهو يواليها عليهم في بطون أمهاتهم وفي دنياهم وفي أخراهم: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 34].
والدنيا دار الإيمان والعمل، والآخرة دار الثواب والعقاب، فيجازي الله العباد حسب إيمانهم وأعمالهم، فريق في الجنة وفريق في السعير كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الحج: 56، 57].
وقد أعد الله للمؤمنين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [السجدة: 17].
وإذا فصل الله بين العباد يوم القيامة، صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار.
أهل الجنة في نعيم دائم كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
وأهل النار في عذاب دائم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 68].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا.. ولا مبلغ علمنا.. ولا إلى النار مصيرنا.. واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 201].
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثاني ... 2
فقه الخلق والأمر ... 2
1- فقه الخلق والأمر ... 2
2- فقه أوامر الله الكونية والشرعية ... 7
3- خلق الله للكون ... 20(2/175)
4- فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به ... 29
5- فقه خَلق المخلوقات ... 51
1- خلق العرش والكرسي ... 52
2- خلق السموات ... 56
3- خَلق الأرض ... 63
4- خلق الشمس والقمر ... 75
5- خلق النجوم ... 80
6- خلق الليل والنهار ... 83
7- خلق الملائكة ... 86
8- خلق المياه والبحار ... 90
9- خلق النبات ... 99
10- خلق الحيوانات ... 103
11- خلق الجبال ... 112
12- خلق الرياح ... 116
13- خلق النار ... 122
14- خلق الجن ... 124
15- خلق آدم ... 128
16- خلق الإنسان ... 140
17- خلق الروح ... 165
18- خلق الدنيا والآخرة ... 179(2/176)
موسوعة فقه القلوب (3)
البَابُ الثّالث
فقه الفكر والاعتبار
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
البَابُ الثّالث
فقه الفكر والاعتبار
1- فقه الفكر والاعتبار
قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگگ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [آل عمران: 190، 191].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [النور: 44].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهدى سبحانه من يعلم أنه يصلح لعبادته وطاعته، ويقوم بامتثال أمره ونهيه، ويصلح لسكنى دار كرامته.
وهدى واشترى أحسن أنواع الإنسان وهم المؤمنون كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التوبة: 111].
وأمر هؤلاء بكل خير، ونهاهم عن كل شر، وأمرهم بكل حسن، وحذرهم من كل قبيح، ودعاهم إلى عبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأنعام: 162، 163].
وأضل سبحانه من يعلم أنه لا يصلح لسكنى دار كرامته، ويعلم أنه لا يطيع أمره ونهيه، وخذل من استكبر عن عبادته وطاعته.
فهؤلاء لا يستحقون الهداية: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک) [آل عمران: 86].
والله عزَّ وجلَّ خلق في كل إنسان ثلاث أواني:
آنية الطعام والشراب، وهي المعدة.
وآنية المعلومات، وهي الدماغ.
وآنية الإيمان، وهي القلب.
وأمر سبحانه أن لا يوضع في الأولى إلا ما ينفعها ويصلحها من الطيبات التي أحلها الله عزَّ وجلَّ.
وخلق سبحانه العقل والدماغ والمخ، وأمرنا باستعمالها حسب أمره، بالتفكر في عظمة الله وجلاله وجماله، وآياته ومخلوقاته، واستقبال الوحي والعمل بموجبه، وتعليمه والدعوة إليه.(3/1)
وخلق سبحانه القلوب وجعلها محل الإيمان، وأمرنا بالتفكر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، ليزيد الإيمان، فتأتي الطاقة والمحبة والرغبة للقيام بأعمال الدين، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال.
فلله عزَّ وجلَّ على العبد في كل عضو من أعضائه أمر.. وله عليه فيه نهي.. وله فيه نعمة.. وله به منفعة ولذة.
فإذا قام العبد لله في ذلك العضو بأمره، واجتنب فيه نهيه، فقد أدى شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به.
وإن عطل أمر الله ونهيه فيه، عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته.
ولله عز وجل على كل عبد، في كل وقت من أوقاته، عبودية تقدمه إليه، وتقربه منه، وتحببه إليه.
فإن شغل وقته بعبودية ذلك الوقت، تقدم إلى ربه، ونال رضاه.
وإن شغله بهوى وراحة وبطالة تأخر فخاب وخسر.
وجعل سبحانه كل عضو من أعضاء الإنسان آلة لشيء إذا استعمل فيه فهو كماله:
فالعين آلة للنظر.. والأذن آلة للسمع.. والأنف آلة للشم.. واللسان آلة للنطق.. والرِّجل آلة للمشي.. واليد آلة للبطش.. والفرج آلة للنسل.
والقلب للتوحيد والإيمان والمعرفة.. والعقل للتفكر والتدبر والتذكر.. وإيثار ما ينفع على ما يضر.. وتقديم المصالح.. ودرء المفاسد.
والعبد كالشجرة آلة للعمل والإنتاج، فمتحرك بطاعة، ومتحرك بمعصية، وداع إلى الخير، وداع إلى الشر، وحامل مسك، وحامل بعر.
ولا يزال العبد في تقدم أو تأخر، فإما متقدم إلى الله والجنة، أو متأخر إلى العذاب والنار، ولا وقوف في الطريق البتة، فقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المدثر: 36، 37].
فأعلى الفكر وأجله، وأعظمه وأنفعه، وأكبره وأشرفه، ما كان لله والدار الآخرة.
فما كان لله تبارك وتعالى فهو أنواع:
أحدها: التفكر في أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة عظمة الله وجلاله وجماله وكماله من خلال ذلك.(3/2)
الثاني: التفكر في آيات الله الكونية، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده.
الثالث: التفكر في آيات الله المنزلة، وتعقلها، وفهم المراد منها.
الرابع: التفكر في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، ومعرفة سعة رحمته ومغفرته وحلمه.
ودوام الفكر والذكر فيما سبق يزيد الإيمان، ويصبغ القلب بمعرفة عظمة الله وجماله وكماله صبغة تامة، وذلك بفضل الله يؤتيه من يشاء: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ) [البقرة: 138].
الخامس: الفكر في عيوب النفس وآفاتها، وعيوب العمل وآفاته.
السادس: الفكر في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهم كله عليه، فجميع مصالح الدنيا والآخرة إنما تنشأ من حفظ الوقت، ومن أضاعه ضاعت مصالحه الدنيوية والأخروية.
ووقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته.
واستدعاء خواطر اللهو واللعب أخف شيء على النفس الفارغة، وأثقل شيء على النفس الشريفة المطمئنة.
والله سبحانه خلق الإنسان، وخلق فيه طاقات كثيرة ينتفع بها أهمها:
الطاقة البدنية.. والطاقة العقلية.. والطاقة الروحية.. والطاقة التناسلية.
فالأولى للحركة، والثانية للعلم، والثالثة للإيمان، والرابعة للإنجاب.
ومكان الأولى في الأعضاء والجوارح.. ومكان الثانية في المخ والدماغ.. ومكان الثالثة في القلب.. ومكان الرابعة في الجهاز التناسلي.
ولا بد للمسلم من الاستفادة من هذه الطاقات للدين.
وجميع هذه الطاقات تبدأ.. ثم تقوى.. ثم تضعف.. ثم تنتهي بالموت، إلا الطاقة الروحية، فإنها تبدأ في الحياة، وتبقى بعد الموت، ولكنها معارضة بالنفس امتحاناً وابتلاء.
النفس تريد تكميل الشهوات.. والروح بما فيها من الإيمان تريد تكميل أوامر الله ومحبوباته.. والتشبه بالملائكة في الطاعة والعبادة.(3/3)
وحال الإنسان وحركته مقيدة إما بنفسه وشهواته.. وإما بإيمانه وأعماله.
والمسلم لا بد أن يعبد الله على بصيرة، والبصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به العبد حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين.
والبصيرة ثلاثة أقسام، من استكملها فقد استكمل البصيرة:
الأولى: بصيرة العبد في أسماء الله وصفاته وأفعاله.
الثانية: بصيرة في أمر الله ونهيه.
الثالثة: بصيرة في وعد الله ووعيده.
فالبصيرة في الأسماء والصفات، أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، ناطقة وصامتة، ساكنة ومتحركة.
سميعاً لأصواتهم.. رقيباً على ضمائرهم.. مطلعاً على أسرارهم.
ويشهد أمر الممالك والخلائق تحت تدبيره، نازلاً من عنده، صاعداً إليه.
وملائكته بين يديه، تنفذ أوامره في أقطار السموات والأرض، موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال.
حي لا يموت.. قيوم لا ينام.. له الخلق والأمر.. يفعل مايشاء.. ويحكم ما يريد.
والبصيرة في الأمر والنهي، ألا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله، ولا تقليد يريحه من بذل الجهد في تلقي الأحكام من النصوص.
والبصيرة في الوعد والوعيد، أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر، في دار العمل وفي دار الجزاء، وذلك موجب إلهيته وربوبيته، وعدله وحكمته.
فالمعاد معلوم بالعقل، وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي.
وتشهد أهل الجنة يتنعمون فيها.. وأهل النار يعذبون فيها.
ولا يزال نور البصيرة في زيادة، حتى يُرى على الوجه والجوارح، وعلى الكلام والأعمال، وعلى الأخلاق والصفات.
صاحبه متصل بالله، مستضيء بنور الوحي، مستنير بنور الإيمان، متزين بالسنن والآداب والأخلاق.
يميز به بين الحق والباطل.. والصادق والكاذب.. والطيب والخبيث.(3/4)
ويميز به بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه من الأقوال، والأعمال، والأخلاق والأعيان.
وفي كل إنسان ثلاث قوى:
قوة البدن.. وقوة العقل.. وقوة القلب.
فقوة البدن يشترك فيها الإنسان مع الحيوان.
وقوة العقل يشترك فيها المسلم والكافر.
وقوة القلب خاصة بالمسلم، وهي مكان دعوة الرسل، حيث اجتهدوا على قلوب البشر، حتى امتلأت بتوحيده وعظمته ومحبته، والخوف منه، والتلذذ بعبادته وطاعته، والإيمان به.
فعلى المسلم أن يستفيد من هذه الطاقات، ويسخرها للدين لتصلح حاله وأحوال العالم من حوله: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 16].
إن كل ما في الوجود مما سوى الله فهو فعل الله وخلقه.
فكل ذرة من الذرات.. وكل قطرة من القطرات.. وكل حركة من الحركات.. وكل مخلوق من المخلوقات.. كل ذلك فيه آيات وعجائب.. تظهر بها حكمة الله وقدرته.. وجلاله وعظمته.. وإحصاء ذلك غير ممكن.
والمخلوقات التي خلقها الله قسمان:
الأول: ما لا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها، فكم من الموجودات التي لا نعلمها، بل نسبة ما نعلمه إلى ما لا نعلمه كالقطرة بالنسبة للبحر، وقد قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ??) [النحل: 8].
الثاني: ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها، فيمكننا أن نتفكر في تفصيلها، ونهتدي إلى شيء من أسرارها.
وهي منقسمة إلى ما ندركه بحس البصر، وإلى ما ندركه بالخبر:
أما الذي لا ندركه بالبصر ولكن ندركه بالخبر فكالملائكة والأرواح.. والجن والشياطين.. والعرش والكرسي.. والجنة والنار، وما فيهما من النعيم والعذاب.. وما يجري في اليوم الآخر من العرض والحساب والموازين وغيرها.. وأحوال الأمم الماضية.
وأما ما ندركه بحس البصر فالسماء والأرض وما بينهما من المخلوقات.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر والتدبر والتأمل والتفكر في ذلك.
فخلق السماء آية.. وجمالها آية أخرى.. وعلوها آية أخرى.. وعظمتها آية أخرى.(3/5)
وفي السماء آيات وعبر، فالشمس آية، وإنارتها آية، وجريانها آية.
والقمر آية.. وإنارته آية.. وتغير أحواله آية.. وسيره آية.
وفي طلوع الشمس والقمر آية.. وفي غروبهما آية
وخلق النجوم آية.. وفي إنارتها آية.. وتوزيعها في السماء آية.. وفي سيرها آية، وفي الليل والنهار آيات بينات، وعبر وعظات: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? چ چ) [نوح: 15، 16].
وفي الأرض آيات وعبر وعظات:
نباتات متنوعة.. وحيوانات مختلفة.. وأنهار وبحار.. وسهول وجبال.. وجواهر ومعادن.. وأزهار وثمار.. وحجارة ورمال.
فمن ينظر؟.. ومن يتفكر؟.. ومن يتدبر؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?? ? ? ? ? ? ں) [ق: 6-8].
وما بين السماء والأرض آيات وعجائب:
سحب وغيوم.. ورعد وبرق.. وأمطار وثلوج.. وصواعق وشهب.. ورياح وعواصف.. وطيور وذرات.. وحرارة وبرودة.. وليل ونهار.
فهذه الأجناس في السموات والأرض وما بينهما، أصناف وأنواع لا يحصيها إلا الله (? ? ہہ ہ ہ ھ ھ) [الأعلى: 2، 3]
وجميع هذه المخلوقات مجال الفكر والتفكر.. والنظر والتدبر.. والاعتبار والاستبصار.
فلا تتحرك ذرة في السماء والأرض من ملك وإنسان.. وحيوان ونبات.. وماء وجماد.. ولا فلك ولا كوكب.. إلا والله تعالى هو محركها ومجريها.
وفي حركتها حكم وأسرار، وكل ذلك شاهد لله بالوحدانية، ودال على عظمته وجلاله، وحكمته وقدرته، وآلائه وإحسانه، وعظمة ملكه وسلطانه.
ففي خلق الإنسان من نطفة عجائب تدل على عظمة الخالق.
وفي خلق الحيوان وأصنافه وأنواعه وألوانه، آيات وعجائب تدل على عظمة المصور، وكمال قدرته.
ففي طيور الجو، وحيوانات البر، ودواب الأرض، وأسماك البحر، من العجائب ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وكلها تدل على عظمة خالقها، وقدرة مقدرها، وحكمة مصورها.
وفي خلق النمل والنحل وغيرها من صغار الحشرات ما يبهر العقول سواء كان في تكاثرها، أو بناء بيوتها، أو جمع غذائها، أو طباعها.(3/6)
وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى.
وعجائب البحر كعجائب الأرض وما فيها، بل ما فيه من النبات والحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض.
فسبحان الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأعجب من ذلك كله ما هو أظهر من كل ظاهر، وهو قطرة الماء، هذا الجسم الرقيق السيال، متصل الأجزاء، كأنه شيء واحد، لطيف التركيب، سريع الاتصال والانفصال.
به حياة كل ما على وجه الأرض من نبات وحيوان كما قال سبحانه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأنبياء: 30].
ومن آيات الله الدالة على عظمته، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يدرك حسه ولا يرى شخصه، وجملته مثل البحر الواحد، والطيور محلقة فيه في جو السماء، سابحة بأجنحتها في الهواء، كما يسبح حيوان البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه، كما تضطرب أمواج البحر.
ومن آياته سبحانه ملكوت السموات، وما فيها من النجوم والكواكب.
ومن عرف عجائب الأشياء، وفاتته عجائب السموات فقد فاته الكل، فالأرض وما فيها من النبات والحيوان، والبحار والجبال، وكل جسم سوى السموات بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر أو أصغر كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک گ گ گ گ) [النازعات: 27، 28].
وكما يعظم الناس عالماً، بسبب معرفتهم بعلمه ومؤلفاته، فيزدادون بمعرفته توقيراً له، وتعظيماً واحتراماً.
فكذلك كلما استكثر الإنسان من معرفة أسماء الله وصفاته، وعجيب صنع الله، كانت معرفته بجلاله وعظمته أتم، وتوقيره أعظم، وعبادته أكمل.
وهكذا التأمل والنظر في المخلوقات؛ فكل ما في الوجود من خلق الله وصنعه، والنظر والفكر فيه لا يتناهي، وإنما لكل عبد منه بقدر ما رزق: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101].(3/7)
ومن عود نفسه الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته، والنظر في خلقه وملكه، صار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأن ذلك غذاء قلبه وروحه، لا مانع عنه، ولا مزاحم فيه.
والعاقل من يطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولايوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى، وعجائب مخلوقاته، والإيمان به، ولذة مناجاته.
وإنما يحصل الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق طعم الإيمان لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك فهو من المحرومين.
فأصل كل حرمان سببه الجهل بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه.
وأصل كل طاعة ونجاة إنما هو الفكر في أسماء الله وصفاته.. وأفعاله وخزائنه.. وفيما خلق له الإنسان.. وفيما أمر به.. وفيما أعد له من النعيم المقيم.. أو العذاب الأليم.
فتولد تلك المعرفة بالله إقبالاً ونشاطاً بحسب قوتها أو ضعفها، فيزداد القلب فرحاً وأنساً بربه، وتتلذذ الجوارح بالطاعة والعبادة.
وكذلك أصل كل معصية إنما يحصل من جانب الفكر.. فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة.. فيبذر فيها حب الأفكار الرديئة.. فيتولد منه الإرادات الفاسدة.. فيتولد منها العمل الذي يغضب ربه.. ويحبط عمله.. ويكون سبباً لهلاكه.
وإذا تدبرنا القرآن وجدنا أن الله يريد منا في الدنيا أن نكمل الإيمان، والأعمال الصالحة، والأخلاق، ونحذر المعاصي، لندخل الجنة.
والشيطان يريد منا أن نكمل شهواتنا الآن، ونعطل الأوامر، ونعيش على هوانا، ولو دخلنا النار يوم القيامة: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [النساء: 27].
والله سبحانه يريد منا أن نكمل محبوباته في الدنيا من الإيمان والإحسان، والصدق والصبر، والتوبة والجهاد، وغيرها من الأعمال الصالحة، وهو سبحانه يكمل محبوباتنا في الآخرة برؤيته، وسكنى دار كرامته، ورضوانه، والتلذذ بألوان النعيم: (? ? ? ? ? ? ?) [القمر: 55](3/8)
والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فالدنيا دار العمل، والمسلم فيها مقيد بأوامر الله، كما أن السجين مقيد بأوامر السجن، فلا يستطيع أن يأكل ما شاء، أو يتكلم مع من شاء، أو يزور من شاء، بل هو مقيد بأوامر السجن.
لكن يعطي من هذه الأشياء بقدر الحاجة.
فكذلك المسلم في هذه الدنيا مقيد بأوامرالله التي تصلحه وتنفعه، فهو يقوم بالعمل، والله يطعمه ويسقيه ويرزقه حسب الحاجة، وبقدر ما يصلحه، إلى أن يخرج من السجن، إلى قصور الجنة، حيث النعيم المطلق، والخلود الدائم هناك: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [السجدة: 17].
والله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن، فالكون كله ملكه، والإنسان ملكه، خلقه الله، وشرفه على ما سواه.
فمن أطاع الله سخر له كل شيء، ومن خضع لأوامر الله أخضع الله الكائنات كلها له من البحار والمياه والرياح وغيرها.
ولكن الإنسان إذا لم يطع الله ولم يكن له، فلا يكون الله له، ولا يكون معه، فإن الله مع المؤمنين والمتقين والمحسنين، ومن كان الله معه فكل شيء معه، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? چ چ) [فصلت: 30-32].
ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدة منهما إلا بمشقة، فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما، ولكن الناس لضعفهم، وتزيين الشيطان لهم، يؤثرون ما يفنى على ما يبقى لقلة المذكر كما قال سبحانه: (? ? ? ?? پ پ پ پ) [الأعلى: 16، 17].
والمحب الذي قد ملك المحبوب أفكار قلبه، لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه وهو ربه سبحانه، أو بنفسه.
وفكره في محبوبه لا يخرج عن حالين:
إحداهما: فكره في جمال الرب وجلاله، وأسمائه وصفاته.
الثانية: فكره في أفعاله وإحسانه، وبره ولطفه.
وإن تعلق فكره بنفسه فكذلك لم يخرج عن حالين:(3/9)
فإما أن يفكر في أوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها فيتجنبها، وإما أن يفكر في الصفات والأفعال والأخلاق التي تقربه منه، وتحببه إليه، لكي يتصف بها.
فالأوليان توجب له زيادة محبته لربه، وتعظيمه، والخضوع له.
والأخريان توجب له محبة محبوبه له، وإقباله عليه، وقربه منه، وعطفه عليه، وإيثاره على غيره، وإسعاده في الدنيا والآخرة..
فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة.
ومجاري الفكر في صفات نفسه وأفعالها كثيرة، ويمكن حصرها في ستة أجناس:
الطاعات الظاهرة والباطنة، فيتفكر في معرفتها، وأدائها، وتحسينها، ودوامها، والإكثار منها، وترغيب الناس فيها.
والمعاصي الظاهرة والباطنة، فيتفكر كيف يعرفها، ويحذر منها، ويقلع عنها، ويتوب منها، ويحذر الناس منها.
والصفات والأخلاق الحميدة، يتفكر كيف يعرفها، ويتخلق بها، ويدعو الناس إليها، ليتجملوا بها.
والصفات والأخلاق السيئة، يتفكر كيف يعرفها، ويحذرها، ويحذر الناس منها.
وأما الفكر في أسماء الرب وصفاته، وفي أفعاله وأحكامه:
فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر.. والتوحيد والشرك.. ووصفه بما هو أهله من العزة والجبروت.. والكبرياء والعظمة.. والجلال والإكرام.. وتنزيهه عما لا يليق به.
وجماع ذلك الفقه في معاني أسماء الله وصفاته، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر.
فيكون فقيهاً في أسماء الله وصفاته.. فقيهاً في أوامر الله ونواهيه.. فقيهاً في قضاء الله وقدره.. فقيهاً في الأوامر الكونية القدرية.. فقيهاً في الأحكام الدينية الشرعية.. فقيهاً في دنياه وأخراه.. فقيهاً في الاستفادة من أوقاته.
ومن طلب ذلك ساقه الله إليه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
ومن وفقه الله لذلك عرف ربه، وعرف ما يوصل إليه، وعرف ما له من الثواب والإكرام بعد القدوم عليه: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الحديد: 21].(3/10)
ولا شيء أنفع للقلب من تدبر كلام الله عزَّ وجلَّ، والتفكر فيه، فهو الذي يولد التعظيم للمعبود، ويورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله واستنارته.
وكذلك تدبر القرآن يزجر العبد عن جميع الصفات المذمومة، والأفعال السيئة التي يحصل بها فساد القلب وهلاكه.
فعلى الإنسان أن يتفكر في آيات ربه المسموعة وهي القرآن: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ) [ص: 29].
ويتفكر في آياته المشهودة وهي المخلوقات كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101]
إن النظر والتدبر والتفكر من أعظم أنواع العبادة.
إن هذا الكون العظيم معرض هائل واسع لإبداع قدرة الرب، وعظمه خلقه، وتذكير بالخالق المبدع الذي خلق كل شيء.
وذلك يبهر الإنسان، ويشعره بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً.
إن الله عزَّ وجلَّ كما ينزل من السماء ماءً.. فينبت به زرعاً مختلفاً ألوانه.. كذلك أنزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية.. فتنفتح له، وتنشرح به.. وتتحرك حركة الحياة بالحسن والجميل من الأقوال والأعمال.. والأخلاق والآداب.
وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقى الماء الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة: (? ? ? ? ? ? ?) [الرعد: 3].
والله حكيم عليم، له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر، وهو الجواد الكريم على عباده: (ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 243].
وحقوق الله تبارك وتعالى على العباد نوعان:
أحدهما: أمره ونهيه، الذي هو محض حقه على العباد، ويتم بعبادته وحده لا شريك له، وطاعته في كل حال.
الثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليهم.
فهو سبحانه يطالبهم بشكر نعمه، والقيام بأمره.
فمشهد الواجب على العبد لا يزال يُشهده تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته، فإن لم يتداركه بذلك هلك.
وكلما كان أفقه في دين الله، كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم.(3/11)
فينشأ من ذلك التشمير للعمل.. ودوام الاستقامة على أوامر الله.. وكثرة التوبة والاستغفار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه(1).
فما أعظم نعم الله على عباده، وما أحسن ما دعاهم إليه من النظر في الآيات الكونية.. والنظر في الآيات القرآنية.
وفي النظر فيهما يكمل الإيمان.. وتكمل الأعمال الصالحة.. وتحسن الأخلاق.. ويكمل اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله.. وعلى دينه وشرعه.. وعلى وعده ووعيده.
وأفضل الناس توفيقاً.. وأكملهم توحيداً.. وأحسنهم تقوى.. من قرأ وعلم.. وسمع وأبصر.. وتفكر وتدبر.. وتذكر وتعقل.. ونظر وتأمل في آيات ربه المشهودة والمسموعة.. واستقام على دينه وشرعه.
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [فصلت: 30-33]
2- فقه الفكر في أسماء الله وصفاته
1- الفكر والاعتبار في عظمة الله
قال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 255].
وقال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الحشر: 22].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 23].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 24].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ?) [الزخرف: 84].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 70].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [التغابن: 13].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [طه: 8].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الطلاق: 12].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).(3/12)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ) [المائدة: 40].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [غافر: 65].
وقال الله تعالى: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ) [الأعراف: 54].
2- الفكر والاعتبار في قدرة الله
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المائدة: 120].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [البقرة: 148].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 81، 82].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 67].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الحج: 74].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 63].
وقال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 45].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [النور: 45].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الأنعام: 60].
وقال الله تعالى: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الأنعام: 61].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 41].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??? ? ? ? ? ں) [ق: 6-8].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 79].
وقال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?) [العنكبوت: 19].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 20].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 27].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?) [يس: 71-73].
وقال الله تعالى: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [الأحقاف: 33].(3/13)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ?) (? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ?) [الذاريات: 47- 49].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 84، 85].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 86، 87].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 88، 89].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?) (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ) [يس: 31، 32].
وقال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 16].
وقال الله تعالى: (? ? ٹ ٹٹ ٹ ?? ? ?? ? ? ?? ? ? ?? ? ? ?چ چ چ ?? ? ? ?? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک) [النبأ: 6-16].
3- الفكر والاعتبار في علم الله
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 59].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 34].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??) [الحج: 70].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [ق: 16].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 16].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [المجادلة: 7].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النمل: 74، 75]
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 16].
وقال الله تعالى: ( گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [البقرة: 235].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [الأنعام: 3].
وقال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [سبأ: 2].(3/14)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 4].
وقال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الحشر: 22].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 41].
3- فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية
قال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [آل عمران: 190].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ٹ) [إبراهيم: 19، 20].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [البقرة: 164].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 20].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الشعراء: 7].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النمل: 86].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ??? ? ? ? ?? ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گ) [نوح: 15-20].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 185].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 50].
وقال الله تعالى: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [الروم: 20].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [الروم: 21].
وقال الله تعالى: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الروم: 22].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 25].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ??) [الروم: 27].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 40].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الروم: 48].(3/15)
وقال الله تعالى: (? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الروم: 54].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يس: 37-40].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پپ ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?? ? ? ? ? ? ?) [يس: 41-44].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 37].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [فصلت: 39].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الشورى: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ) [الملك: 19].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 10، 11].
وقال الله تعالى: (? ? ?? ? ? ? ں ں? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہھ ھ ھ ھے) [الواقعة: 63-67].
وقال الله تعالى: (ے ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??) [الواقعة: 68-70].
وقال الله تعالى: (? ? ? ?? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ?? ? ? ? ??) [الواقعة: 71-74].
4- فقه الفكر في نعم الله
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 20].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [إبراهيم: 32- 34].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 53].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ) [البقرة: 40].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الجمعة: 2].
وقال الله تعالى: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 3].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [البقرة: 211].(3/16)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ککک ک گ گ گ گ) [إبراهيم: 28، 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 72].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 81].
وقال الله تعالى: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [النحل: 114].
وقال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [لقمان: 31].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 3].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?? ? ? ? ? ?) [الزخرف: 12-14].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [آل عمران: 103].
وقال الله تعالى: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الإسراء: 70].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 31].
وقال الله تعالى: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [العنكبوت: 60].
وقال الله تعالى: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الزمر: 52].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ? ? ??? ? ? ? ژژ) [الذاريات: 56-58].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [غافر: 13].
وقال الله تعالى: ( ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 6].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [الحج: 65].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھےے ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ?) [النحل: 3-7].
وقال الله تعالى: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ?) [النحل: 10، 11].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [النحل: 12].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 13].(3/17)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??? ? ? ? ??? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 14-18].
5- فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية
1- فقه التأمل والتفكر
قال الله تعالى: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 82].
وقال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ??) [محمد: 24].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [ص: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 51].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 46].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 47].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [القصص: 71].
وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [القصص: 72].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 76].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 164].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [يونس: 34].
وقال الله تعالى: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 35].
وقال الله تعالى: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الرعد: 16].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 20].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحقاف: 4].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 41].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ھ ھ ھ ھے ے ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 17-20].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101].
وقال الله تعالى: (? ? ? ٹٹ ٹ ٹ ? ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?) [الطارق: 5-8].(3/18)
وقال الله تعالى: (? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ?? ? ?? ? ?? ? ?? ? ?? ? ? ??) [عبس: 24-32].
2- فقه التصريف والتدبير
قال الله تعالى: (? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [لقمان: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [النور: 44].
وقال الله تعالى: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [آل عمران: 26].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 27].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 40].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 28].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [الحج: 5-7].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 9].
وقال الله تعالى: (گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [المؤمنون: 12-14].
وقال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ?) [الفرقان: 45،46].
وقال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 47].
وقال الله تعالى: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [الفرقان: 48-50].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 54].
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 53].
وقال الله تعالى: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الفرقان: 62].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [الإسراء: 89].(3/19)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 57].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 3].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 99].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 6].
3- فقه الترغيب والترهيب
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? چ چ) [فصلت: 30-32].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [البقرة: 155- 157].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 47].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الإسراء: 9].
وقال الله تعالى: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الحديد: 21].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [آل عمران: 133].
وقال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [النساء: 56].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [النساء: 57].
وقال الله تعالى: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?? ? ? ? ? ?ں) [العنكبوت: 58، 59].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الروم: 14-16].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 107].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [طه: 74-76].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [محمد: 12].
وقال الله تعالى: (??? ? ? پپ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [العصر: 1-3].(3/20)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 161، 162].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 91].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 116].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ?? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 196،197].
وقال الله تعالى: ( ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے? ? ? ? ? ? ??? ? ? ??) [الحج: 19-21].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 23].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 36].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البينة: 6].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [البينة: 7، 8].
4- فقه التوجيه والإرشاد
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 24].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 153].
وقال الله تعالى: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [البقرة: 172].
وقال الله تعالى: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 102].
وقال الله تعالى: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [النساء: 29].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 59].
وقال الله تعالى: (ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 35].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [المائدة: 51].
وقال الله تعالى: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [المائدة: 87].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [المائدة: 105].
وقال الله تعالى: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 27].(3/21)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [التوبة: 38].
وقال الله تعالى: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 23].
وقال الله تعالى: (گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں??) [الحج: 77].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??? ? ??) [الأحزاب: 41، 42].
وقال الله تعالى: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 70-71].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 7].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 6].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 11].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحجرات: 12].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الحشر: 18].
وقال الله تعالى: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [المنافقون: 9].
وقال الله تعالى: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 14].
وقال الله تعالى: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الصف: 2، 3].
وقال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الممتحنة: 13].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التحريم: 6].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [التحريم: 8].
وقال الله تعالى: (? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 21، 22].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 168].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [النساء: 1].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 170].(3/22)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [الحجرات: 13].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 174-175].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ککک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [يونس: 57-58].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يونس: 108-109].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 1،2].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الحج: 73-74].
وقال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 33].
5- فقه الوعد والوعيد
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پپ) [المائدة: 9، 10].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 68].
وقال الله تعالى: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 72].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ) [النور: 55].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 44].
وقال الله تعالى: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 22].
وقال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 61].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 60].
وقال الله تعالى: (ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 33].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??? ? ? ? ??? ? ??) [الحجر: 42-46].(3/23)
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ??) [الحجر: 49، 50].
وقال الله تعالى: (گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ) [إبراهيم: 47، 48].
وقال الله تعالى: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [الأحزاب: 64-66].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ??) [النساء: 47].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الأحزاب: 57].
وقال الله تعالى: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 58].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 159-160].
وقال الله تعالى: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 78، 79].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 161، 162].
وقال الله تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 25].
وقال الله تعالى: (ے ے ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [السجدة: 18-20].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ?) [الروم: 14-16].
6- فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [يونس: 3].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 6].
إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الكون العظيم:
سمواته وأرضه.. شمسه وقمره.. ليله ونهاره.. وما في السموات والأرض من خلق.. ومن أمم.. ومن سنن.. ومن جماد ونبات.. ومن إنسان وحيوان.
والله وحده هو الذي خلق هذا الليل الطامي السادل، الشامل الساكن البارد.
وهو سبحانه الذي خلق هذا الفجر الأبيض المتفتح في سدف الليل.(3/24)
وهو سبحانه خالق هذا الصبح الذي إذا تنفس، دب النشاط في الحياة والأحياء، وتحركت الكائنات في طلب الرزق والمعاش.
وهو سبحانه خالق هذه الظلال الساربة الجارية، يحسبها الرائي ساكنة، وهي تدب سائرة في هدوء ولطف.
وهو سبحانه خالق هذا النبات النامي، المتطلع أبداً إلى النمو والحياة.
وهو سبحانه خالق هذا الطير الرائح الغادي، القافز الواثب، الذي لا يستقر على حال.
فمن هداه إلى داره؟، ومن ساقه إلى طعامه؟، ومن أمسكه في الجو؟.
وهو سبحانه خالق هذه الخلائق الذاهبة الآيبة، الغادية الرائحة، مما لا يحصيه إلا الله من الحيوانات والبهائم والأنعام، وهي تتجول في البر والبحر، في تدافع وانطلاق، وانتظام وانسجام.
وهو سبحانه خالق هذه البشرية كلها من نفس واحدة، وخالق هذه الأرحام التي تدفع، وهذه المواليد التي تتابع، والقبور التي تبلع.
وهو سبحانه خالق هذه الشمس الجارية، والقمر الساري، والكواكب المبثوثة في السماء.
فمن هذا خلقه، ومن هذه قدرته، ومن هذه عظمته، ومن هذا ملكه، أيحتاج إلى البشر، أو إلى عبادة البشر..؟.
أيليق بالعاقل أن يشرك به، ويعبد معه غيره: (ں ? ? ? ? ? ?ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الأعراف: 191، 192].
إن هذه الظواهر البارزة الحية هي التي تلمس الحس، وتوقظ القلب، لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك.
إن الله الذي خلق هذه المخلوقات ودبرها، هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية، ولا يشركون به شيئاً من خلقه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].
إن القرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلوب والعقول، لتدبر ما في هذا الكون من العجائب والآيات، والبصائر والعبر.(3/25)
إن هذه المخلوقات العظيمة الواسعة من الصور والأشكال.. والحركات والأحوال.. والمجيء والرواح.. والبقاء والفناء.. والحياة والممات.. والذبول والنماء.. والشروق والغروب.. والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل، التي لا تسكن ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار.. إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتفكر.
فمتى يستيقظ القلب ويتفتح لمشاهدة الآيات العظام، المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه؟: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101].
إن الإنسان لو وقف لحظة واحدة، يرقب ما خلق الله في السموات والأرض، ويستعرض هذه المخلوقات العظيمة التي لا تحصى، من الأنواع والأجناس، والهيئات والأحوال، والأوضاع والأشكال، لو وقف لحظة واحدة، لامتلأ قلبه بالإيمان، وفاض بما يغنيه في حياته كلها، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش.
ولا يدرك هذا إلا أهل التقوى، التقوى التي تجعل القلوب سريعة التأثر، سريعة الاستجابة لخالق هذه المخلوقات كما قال سبحانه: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [آل عمران: 190].
إن الله عزَّ وجلَّ العليم بما خلق، يخاطب الفطرة البشرية بآيات الله الكونية المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون، والتي يعلم سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة، تؤدي إلى الإيمان بالله، وهذه من أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً.
أما الجدل فإنه لا يصل إلى القلب، ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة، التي لا تدفع إلى حركة، ولا تؤدي إلى بناء حياة.
ولا تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة، تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك، وتردهم إليه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ??? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الذاريات: 47-50].
والفطرة البشرية بجملتها قلباً وعقلاً، وحساً ووجداناً، تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها، وتتأثر بها، وتدرك أن خالق هذا الكون هو الحق، وأن ما شرعه هو الحق، وأن وعده هو الحق.(3/26)
إن بين الفطرة البشرية، وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية، تسمع لهذا الكون وتعقل عنه.
إن النظر إلى ما في السموات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات.. وزاد من الاستجابات والتأثرات.. وزاد من سعة الشعور بالوجود.. وزاد من التعاطف مع هذا الوجود.
وذلك كله يملأ القلب بالإيمان، ويوحي إليه بوجود الله، وبجلال الله، وتدبير الله، وبحكمة الله، وبعلم الله، وبرحمة الله.
فإذا كان الإنسان مهتدياً بنور الله، إلى جوار هذه المعارف العلمية عن هذا الكون، زادته هذه المعارف من الزاد الذي يحصل من التأمل في هذا الكون والأنس به، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله، ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه بالله.
وأما إن كانت هذه المعارف العلمية غير موصولة بالله، وغير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة، والبعد عن الله، والحرمان من بشاشة الإيمان، وفقد الأنس بالله: ( ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [يونس: 101].
وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب، وتجمدت العقول، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة، واحتجب الإنسان بجملته عن هذا الوجود، فلم يسمع ولم يرَ ولم يتدبر؟.
إن كتاب الله تبارك وتعالى مملوء بالتعريف بعظمة الرب سبحانه.
فقد جعل الله هذا الكون العظيم معرضاً جميلاً واسعاً.. تتجلى فيه عظمة الخالق.. وعظمه أسمائه وصفاته.. وعظمه أفعاله.. وعظمة مخلوقاته.. في معرض كوني كبير.. مفتوح طول الحياة لعموم البشرية.. يتجولون فيه فيزيد إيمانهم.. وتقوى عباداتهم.
فلا يحرم من نظر إلى ذلك وتأمله من الإيمان إلا محروم: (گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأنبياء: 30].(3/27)
إن الفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين، وإلى الاعتقاد بإله، وحين تصح وتستقيم، تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد، وذلك مركوز في الفطر، يوقظه ويحييه ويزيده، النظر في الآيات الكونيه، والآيات القرآنية.
ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست إنشاء الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه، فهذا مركوز في الفطرة كما قال سبحانه: ( ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 10].
إن وظيفة العقيدة الصحيحة.. هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه.. وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره.. وتعريفه بأسمائه وصفاته.. لا تعريفه بوجوده وإثباته.. فلا شك في وجوده.. بل وجوده أظهر من أن يستدل عليه بدليل.
ثم تعريف العبد بمقتضيات الألوهية في حياته.. من شعائر تصله بمعبوده.. ومن شرائع تنظم منهج حياته.. ومن أخلاق تزين حياته.
ومن ثم ينسجم إذا أطاع مع الكون في الطاعة والعبادة.
والشك في حقيقة وجود الله أو إنكاره، هو بذاته دليل قاطع على اختلال بيًّن في عقل الإنسان، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيه، ولذلك إنكار الرب قليل في العباد.
وإذا تعطلت أجهزة الاستقبال والتأمل والاستجابة في الإنسان، فلا سبيل إلى قلبه وعقله لإقناعه بالجدل والمناظرة، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه، لعلها تتحرك وتسلك الصراط المستقيم.
إن لفت الحس والقلب والعقل إلى ما في السموات والأرض من آيات ومخلوقات، وسيلة من أكبر وأعظم الوسائل لاستحياء القلب الإنساني، لعله ينبض ويتحرك، ويتلقى ويستجيب: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ?? ? ? ? ? ?ں) [ق: 6-8].(3/28)
إن أعداء هذا الدين شغلوا البشرية عامة، والمسلمين خاصة بالعلم الإنساني عن العلم الإلهي، وصرفوهم عن النظر في الآيات الكونية والشرعية إلى النظر في المصنوعات البشرية، وشغلوهم عن صحف القرآن بالصحف الهزيلة، وشغلو أوقاتهم بكل مخز وقبيح وضار.
وصرفوا اهتمامهم من الآخرة إلى الدنيا، بجمع الأموال، والإسراف في الشهوات، والعبث بالأوقات.
وحشر الأعداء البشرية كلها في هذه الميادين المسمومة، فأنى يجدوا العافية؟.
إن آيات الله في الكون، وعجائبه في مخلوقاته في العالم العلوي والسفلي، وآلائه ونعمه على الناس، تخاطب كل حاسة، وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس.
إنها تخاطب العين لترى.. والأذن لتسمع.. والحواس لتستشعر.. والقلب ليتأثر.. والعقل ليتدبر جلال الله وعظمته، وعلمه وحكمته، وقوته وقدرته، وفضله وعدله، ولطفه ورحمته.. ومن ثم يعرف العبد من يعبد ومن يطيع..؟
إن آيات الله الكونية منتشرة في الكون كله:
سماؤه وأرضه.. وشمسه وقمره.. وليله ونهاره.. وجباله وبحاره.. وفجاجه وأنهاره.. وظلاله وأكنانه.. ونبته وثماره.. وحيوانه وأطياره.. وإنسه وجنه.. فهل من متدبر؟، وهل من متفكر؟: (ہ ہ ھ ھ ھ ھےے ? ? ?? ? ? ? ?? ? ? ? ? ?) [الغاشية: 17-20].
وآيات الله الشرعية تكشف للإنسان دنياه وآخرته.. وأسرار هذا الكون وغيوبه.. وما ينفع الإنسان وما يضره.. وما يصلحه وما يفسده.. وما يحب ربه وما يبغضه.. وما يرضيه وما يسخطه.. وتبين أسماء الرب وصفاته.. وأفعاله ومخلوقاته.. ووعده ووعيده.
فهل من متفكر؟، وهل من متدبر؟: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النساء: 82].
إن الآيات الكونية، والآيات الشرعية، منبه عظيم، ومذكر يوقظ الحواس والجوارح، وينبه العقول والقلوب للإيمان بالله: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [الجاثية: 6].(3/29)
إن آيات الخلق، وآيات النعم، وآيات التدبير والتصريف، وآيات العزه والتمكين، وآيات البطش والإنتقام، من أعظم الأدلة على الخالق العظيم سبحانه.
فهل من خالق غير الله يعبده الناس؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فاطر: 3].
وهل يستوي من يخلق ومن لا يخلق؟: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? چ چ چ چ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [النحل: 17-20].
أفيجوز أن يسوى إنسان في حسه وتقديره بين من يخلق ذلك الخلق كله، ومن لا يخلق لا كبيراً ولا صغيراً، بل هو مخلوق:
(ک ک ک کگ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ??) [الجاثية: 7، 8].
والله تبارك وتعالى جعل في الماء حياة كل حي، يحيي به الأرض بعد موتها، ومن عليها من الإنسان والحيوان والنبات.
وخير ما أنزل الله على عباده الوحي، الذي به حياة الروح، ويليه الماء الذي به حياة الأجسام.
ومن الناس من يقبل الوحي الإلهي، ومنهم من لا يقبله، كذلك الأرض منها ما يقبل الماء، ومنها ما لا يقبله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 58].
وهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام من بين فرث ودم لبناً خالصاً أليس له خالق قدير؟: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 66].
وهذه الأسراب من النحل، ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وسخرها لجمع الرحيق من الأزهار والثمار، ليخرج من بطونها شراب فيه شفاء للناس، كما أن في الوحي شفاء لأرواح الناس.
فسبحان من سخر هذه الأمة من النحل لنفع البشرية بهذا الشراب اللذيذ: (ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [النحل: 69].
وسبحان من أنزل الوحي شفاءً للقلوب.
فمن هذا خلقه.. ومن هذه قدرته.. وهذه عظمته.. هو الذي يستحق أن يُعبد.. ويشكر فلا يكفر.. ويطاع فلا يعصى.. ويذكر فلا ينسى.(3/30)
والله سبحانه وحده هو الذي خلق البشر، وجعل لهم الأزواح والبنين، ورزقهم من الطيبات، فكيف يشركون به؟.. وكيف يخالفون أمره وهذه النعم كلها من عطائه؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 72].
فكيف لا يعبد الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم؟: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [النحل: 73].
وإنه لعجيب حقاً أن ينحرف الناس إلى هذا الحد، فيتجهون بالعبادة والطاعة إلى ما لا يملك لهم رزقاً، وما هو بقادر في يوم من الأيام، ولا في حال من الأحوال، ويدعون الله الخالق الرازق، وآلاؤه ونعمه بين أيديهم لا يملكون إنكارها: (ک ک ک ک گ گ گگ) [النحل: 83].
فما أخطر الجهل.. وما أعظم.. الجحود.. وما أقبح الكذب.
ومشهد الطير في جو السماء مشهد مكرور، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب، وتحليقه في جو السماء آية عجيبة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 79].
فسبحان من جعل الطير قادراً على الطيران.. ومن جعل الجو من حولها مناسباً لهذا الطيران.. ومن أمسك بها طائرة في جو السماء.
إن التفكر في عظمة خلق السموات والأرض، وما فيهما من العجائب والآيات.. ينشأ منه توجيه القلب إلى الله.. وإيقاظه لرؤية آلائه.. وشهود رحمته وفضله.. وتملى بدائع صنعه في خلقه.. وامتلاء الحس بهذه البدائع والعجائب.. وفيضه بالتسبيح والحمد والتكبير: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 1].
والله تبارك وتعالى بديع السموات والأرض، ومنشئ هذه الخلائق الهائلة في السموات والأرض، وإنها لمخلوقات عظيمة، لكن الإلفة قد أفقدتنا الجمال والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى هذه البدائع للمرة ا لأولى.
ولا يحتاج القلب الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء، وأحجامها وطرق سيرها، ليستشعر الروعة والرهبة، أمام هذا الخلق الهائل العجيب من الخلاق العليم.(3/31)
فحسبه إيقاع هذه المخلوقات على قلبه.. حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء.. حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء.. حسبه الفجر المنفجر كل يوم بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق.. حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء.. حسبه الأرض وما فيها من النبات النامي.. والنهر الجاري.. والحب المتراكب.. وما فيها من مشاهد وحركات لا تنتهي.. ولا يستقصيها أهل الأرض ولو قضوا أعمارهم في السياحة والتفكر والتملي.
إن آيات الله في الكون كفيلة بتوجيه الناس إلى الإيمان لو تدبروها، وتفكروا في خلقها وجمالها، وعظمتها ونموها، وبقائها وحركتها.
إن تأمل هذه الآيات العظيمة يوقظ القلوب، ويفتح مغاليقها، ويوجه القلوب إلى تعظيم مبدع هذا الكون: (? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ?) [الجاثية: 3-5].
والآيات المبثوثة في السموات والأرض، لا تقتصر على شيء دون شيء، ولا على حال دون حال.
إن الإنسان حيثما مد بصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب:
هذه السموات بأجرامها آية.. وإمساكها آية.. وأفلاكها الهائلة آية.. ونثر هذه الكواكب والنجوم في هذا الفضاء الهائل آية.. ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة وانسجام آية.. وآيات لا يحصيها إلا الله.
وذلك كله لا تشبع العين من النظر إليه، ولا يشبع القلب من تمليه، ولا يشبع العقل من التفكر فيه، ولا يشبع اللسان من الكلام فيه، ولا تمل الأذن من سماعه.
وهذه الأرض الواسعة العريضة آية.. والبشر بالنسبة إليها كالذرة.. وهي كالذرة بالنسبة للفضاء الذي يحيط بها.. والله يمسكها أن تضطرب أو تزول.
وكل شيء في الأرض آية.. وكل حي آية.. وفي كل جزء، من كل شيء، في السماء والأرض آية: (? ں ں ?? ? ? ? ? ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ) [الذاريات: 20-22].
والصغير الدقيق كالضخم الكبير آية.(3/32)
هذه الورقة الصغيرة.. وهذه الثمرة اللذيذة.. في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة آية.. آية في شكلها وحجمها.. وآية في لونها وملمسها.. وآية في وظيفتها وتركيبها.. وآية في طعمها وحلاوتها.
فهل ننظر ونتفكر في خلق هذا النبات، وما فيه من الآيات والعجائب كما قال سبحانه؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 99].
وهذه الشعرة في جسم الحيوان آية.. وفي جسم الإنسان آية.. وهذه الريشة في جناح الطائر آية.. وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات أمامه.. وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره.
ولكن لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها؟.
ومن الذي يراها ويستشعرها؟.
إنهم المؤمنون الذين اتصلت قلوبهم بالله فعرفوه بآياته ومخلوقاته.
فالإيمان هو الذي بفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء، ورؤية النعم والآلاء.
والإيمان هو الذي تخالط بشاشته القلوب، فتحيا وترق وتلطف، وتلتقط ما يزخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة، تشير كلها إلى قدرة الخالق المبدع الذي خلق كل شيء، وأحسن خلقه.
ولكن بلادة الإلفة تذهب بروعة النظر والتأمل والتدبر في هذا الكون الرائع العجيب، الواسع الجميل.
الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته.
ولا يشبع القلب من تملي إيحاءاته وإيماءاته.
ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته.
والذي يتأمل هذا الكون بهذه العين وبهذا العقل، يرى معرضاً إلهياً باهراً رائعاً، لا تخلق بدائعه وعجائبه، لأنها أبداً متجددة للعين والقلب والعقل.
والإنسان الذي يعرف شيئاً عن طبيعة هذا الكون ونظامه، تدركه الدهشة والذهول، ويرى قدرة الجبار في الخلق والتحريك والتسكين والتغيير.
ومن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل.(3/33)
إن القرآن يكل الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهده وعجائبه، ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعاً على مختلف مستوياتهم العلمية والفكرية.. يخاطب ساكن المدينة.. كما يخاطب ساكن الغابة.. ويخاطب العالم.. كما يخاطب الأمي الذي لم يقرأ.
وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون.. وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 185].
وفي القرآن الكريم من الأدلة والبراهين والآيات الدالة على كمال الباري تبارك تعالى، ووصفه بالأسماء الحسنى، والصفات العلا، الموجبة لامتلاء القلوب من معرفته ومحبته، وتعظيمه وإجلاله، وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له تعالى.
وإن من أكبر الظلم والفحش اتخاذ أنداد لله من دونه، ليس بأيديهم نفع ولا ضرر، بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 9].
فهؤلاء قد غلطوا أقبح الغلط في عبادة أولئك الأولياء.
فالله سبحانه هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته، والتقرب إليه بما أمكن من أنواع القربات.
وهو سبحانه الولي والمولى الذي يتولى عباده وجميع الخلائق بتدبيره، ونفوذ القدر فيهم، ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتربيتهم بلطفه وعونه.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
البَابُ الثّالث ... 2
فقه الفكر والاعتبار ... 2
1- فقه الفكر والاعتبار ... 2
2- فقه الفكر في أسماء الله وصفاته ... 15
1- الفكر والاعتبار في عظمة الله ... 15
2- الفكر والاعتبار في قدرة الله ... 16
3- الفكر والاعتبار في علم الله ... 18
3- فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية ... 20
1- فقه التأمل والتفكر ... 26
2- فقه التصريف والتدبير ... 28
3- فقه الترغيب والترهيب ... 30
4- فقه التوجيه والإرشاد ... 32
5- فقه الوعد والوعيد ... 36(3/34)
6- فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر ... 39(3/35)
موسوعة فقه القلوب (5)
الباب الخامس
فقه التوحيد
تأليف
محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري
قام بتنسيقه وفهرسته
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الخامس
كتاب التوحيد
1- فقه التوحيد
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 163].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110]
التوحيد: هو أن يتيقن العبد ويقر أن الله وحده هو رب كل شيء ومليكه، وأنه وحده الخالق الذي يدبر الكون كله وحده، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال، منزه عن كل عيب ونقص، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا.
والتوحيد: مراد الله من عباده، وهو أحب شيء إلى الله، وهو المقصود من خلق الجن والإنسان، بل خلق الكون كله.
والتوحيد: ألطف شيء وأنزهه، وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كالثوب الأبيض يدنسه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها.
ولهذا تشوشه وتؤثر فيه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية.
فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه والتخلص منه.
والتوحيد: مفزع أولياء الله وأعدائه.
فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها كما قال الله عنهم: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 65]
وأما أولياؤه فينجيهم من كرب الدنيا والآخرة.
ولذلك فزع إليه نوح صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله، ومن آمن به، وأغرق من كفر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الصافات: 75-76].
وفزع إليه إبراهيم صلى الله عليه وسلم فنجاه الله من النار، وجعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 68-69].(4/1)
وفزع إليه يونس صلى الله عليه وسلم فنادى ربه، وهو في بطن الحوت في ظلمات البحر فنجاه الله كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الأنبياء: 87-88].
وفزع إليه محمد صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى المدينة فحفظه الله، وفي بدر فنصره الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ??) [الأنفال: 9].
وفزع إليه أتباع الرسل، فنجوا مما عُذب به المشركون في الدنيا، وما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة.
ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند معاينة الموت لا يقبل، وهذه سنة الله في عباده لا تتبدل كما قال سبحانه: (ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [النساء: 18].
وقوة التوحيد والإيمان تقهر ما يضادها وتحرقه.
ومن الناس من يكون توحيده عظيماً كبيراً، ينغمر فيه كثير من الذنوب ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه، فيخلط توحيده الضعيف بما خالط به صاحب التوحيد العظيم توحيده فيسقط ويهلك.
وصاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات، يسامَح بما لا يسامَح به مَنْ أتى مثل تلك السيئات، وليست له تلك المحاسن.
فما حصلت المطالب إلا بالتوحيد، ولا دفعت الشدائد إلا بالتوحيد، ولا ظفر بالجنة إلا بالتوحيد، ولا نجاة من النار إلا بالتوحيد، ولا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فالتوحيد مفزع الخلائق كلها، وهو ملجؤها وحصنها وغياثها.
ولله عزَّ وجلَّ على كل عبد ثلاثة أمور:
أمر يأمره به.. وقضاء يقضيه عليه.. ونعم ينعم بها عليه.
فواجبه في الأمر الطاعة.. وواجبه في القضاء الصبر.. وواجبه في النعم الشكر.. وهو لا ينفك عن هذه الثلاثة.
والتقصير والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، فلا بدَّ له مع تلك الثلاثة من الاستغفار الكثير المستمر، لعظمة حجم النقص، والتقصير في حق الرب.(4/2)
والقضاء نوعان:
إما مصائب.. وإما معائب.
وأحب الخلق إلى الله، وأقربهم إليه، من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها، وأبعدهم منه من جهل عبوديته في هذه المراتب كلها. فعبوديته في الأمر امتثاله إخلاصاً واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعبوديته في النهي اجتنابه خوفاً من الله، وإجلالاً له، وحياءً منه، ومحبة له.
وعبوديته في قضاء المصائب الصبر عليها، ثم الرضا بها، وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها، وهو أعلى من الرضا.
وهذا إنما يتأتى منه إذا تمكن حب الله من قلبه، وعلم حسن اختياره له، وبره به، ولطفه به، وإحسانه إليه بالمصيبة وإن كرهها.
وعبوديته في قضاء المعائب المبادرة إلى التوبة منها، ووقوفه أمام ربه في مقام الاعتذار والانكسار، مستيقناً أنه لا يرفعها إلا هو، ولا يقيه شرَّها سواه، وأنها إن استمرت أبعدته من قربه، وطردته من بابه.
فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره، حتى إنه ليراها أعظم من ضر البدن، فهو عائذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، وبه منه، مستجير وملتجئ إليه.
يعلم يقيناً أنه إذا تخلى عنه، وخلى بينه وبين نفسه، وقع في أمثالها أو شر منها، وأنه لا سبيل إلى الإقلاع عنها والتوبة منها إلا بتوفيقه سبحانه وإعانته، وأن ذلك كله بيده سبحانه لا بيد غيره.
ويستيقن أنه أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه، أو يأتي بما يرضي سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته.
فهو ملتجئ إليه، ملق نفسه بين يديه، يعلم أن الخير كله بيديه، وأنه ولي نعمته، أعطاها له بدون سؤال، وابتدأه بها من غير استحقاق، وأجراها عليه، وساقها إليه، مع تبغضه إليه بإعراضه وغفلته ومعصيته، فحظه وحقه سبحانه الحمد والشكر والثناء، وحظ العبد الندم والنقص والعيب والتقصير.
فالحمد كله لله رب العالمين، والفضل كله منه، والمنَّة كلها له، والخير كله في يديه.(4/3)
فمنه سبحانه الإحسان، ومن العبد الإساءة، ومنه التودد إلى العبد بنعمه، ومن العبد التبغض إلى ربه بمعاصيه.
وأما عبودية النعم: فمعرفتها والاعتراف بها أولاً، وعدم إضافتها إلى سواه وإن كان سبباً، فهو مسببه ومقيمه، فالنعمة منه وحده بكل وجه واعتبار، ثم الثناء بها عليه، ومحبته عليها، وشكره باستعمالها في طاعته.
ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه.. ويستقل كثير شكره عليها.. ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها.. وأنها لله لا للعبد.. فلا تزيده النعمة إلا انكساراً وذلاً وتواضعاً ومحبة للمنعم.. وكلما جدد الله له نعمة أحدث لها عبودية ومحبة، وخضوعاً وذلاً.. وكلما أحدث له قبضاً أحدث له رضىً.. وكلما أحدث العبد ذنباً أحدث له توبة وانكساراً واعتذاراً.
فهذا هو العبد الكيِّس: الذي عرف أن مولاه واحد، بيده كل شيء، ومنه كل شيء، فأحبه وتولاه، ولزم بابه.
فليس للعبد غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن تخلى عنه وأهمله هلك، لأنه ليس له من يعوذ به ويلوذ به غير سيده، وهو عبد مربوب مدبر مأمور منهي، يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه، وليس عند العبد عمل إلا تنفيذ أوامر سيده، والعمل بما يرضيه.
فهؤلاء هم عبيد الطاعة الذين آمنوا بربهم، وهم المضافون إليه سبحانه في قوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 65]
ومن عداهم عبيد القهر والربوبية وهم الكفار، وشأنهم شأن الملوك والأحرار، وإضافتهم إليه كإضافة سائر المخلوقات إليه، وهي إضافة مبنية على الملك والاقتدار. لا على الطاعة والامتثال.
والعبد حقاً من يعبد ربه في جميع أحواله:
فيكون عبداً مطيعاً من جميع الوجوه صغيراً أو كبيراً، غنياً أو فقيراً، معافىً أو مبتلى، بالقلب واللسان والجوارح.
فالعبد وما يملك لسيده ومولاه، لا يتصرف إلا بأمره، وكيف يكون له في نفسه تصرف، ونفسه بيد ربه، وناصيته بيده، وقلبه بين إصبعين من أصابعه.(4/4)
وموته وحياته، وسعادته وشقاوته، وعافيته وبلاؤه، كله إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيء، بل هو ومن في العالم العلوي والسفلي في قبضته سبحانه، فكيف يرجو أو يخاف غيره؟.
فمن شهد ذلك صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته ومعرفته.
ومعرفة الله نوعان:
الأولى: معرفة إقرار: وهي التي اشترك فيه جميع الناس، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والعاصي: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 30]
والثانية: معرفة توجب الحياء من الله، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إليه، والأنس به، ومحبته، والإنابة إليه، والفرار من الخلق إليه.
وهذه أعلى المعارف وأعظمها، وتفاوت الخلق فيها لا يحصيه إلا الذي عرفهم بنفسه، وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم.
وكل يعبد الله ويطيعه ويتلذذ بذلك بحسب تلك المعرفة، وما كشف له منها، وقد قال أعرف الخلق به: «لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (1).
وأشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور في القلوب، وتفاوت أهلها في ذلك النور لا يحصيه إلا الله عزَّ وجلَّ.
فمن الناس من نور (لا إله إلا الله) في قلبه كالشمس.. ومنهم من نورها في قلبه كالقمر.. ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري.. ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.. ومنهم من نورها في قلبه كالسراج المضيء.. وآخر كالسراج الضعيف.. وهكذا.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوب المؤمنين من نور هذه الكلمة.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (486).(4/5)
وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معه شبهة، ولا شهوة، ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً.
فأي شبهة، أو شهوة أو ذنب أو معصية دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا عند غفلته، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصل أضعاف مكسبه.
فهو هكذا مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزائنه، وولى الباب ظهره، وتركهم يسرقون ويفسدون.
وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه فقط.
بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها.
ولا يحصل هذا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بدَّ من قول القلب وقول اللسان.
ومعرفة الله لها بابان واسعان:
الباب الأول: النظر والتفكر في آيات الله المتلوة، والنظر والتفكر في آيات الله المشهودة.
وتأمل حكمته فيها وقدرته، ولطفه وإحسانه وعدله، ويتم ذلك بمعرفة أسماء الله وصفاته، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر.
فيكون العبد فقيهاً في أسماء الله وصفاته.. فقيهاً في أوامره ونواهيه.. فقيهاً في قضائه وقدره.. فقيهاً في الحكم الديني الشرعي.. فقيهاً في الحكم الكوني القدري.. (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الحديد: 21].
والله سبحانه المالك لهذا الكون، يدبره بحكمته، ويتصرف فيه بما يشاء، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، وفي قضائه وقدره، وفي أمره ونهيه، وفي ثوابه وعقابه.(4/6)
خبره كله صدق.. وقضاءه كل عدل.. وأمره كله مصلحة.. وما نهى عنه كله مفسدة.. وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته.. وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته.
وحكم الله في عباده نوعان:
حكمه الديني الشرعي.. وحكمه الكوني القدري.
والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني القدري لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه.
والقضاء هو الإتمام والإكمال، وإنما يكون بعد مضيه ونفوذه، فالحكم الذي نفذه الله في عبده عدل منه فيه، وذلك يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وعفو كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 30].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» أخرجه أحمد (1).
فجعل المضاء للحكم، والعدل للقضاء.
وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه، وقد يشاء تنفيذه، وقد لا ينفذه، فإن كان حكماً دينياً فهو ماضٍ في العبد، وإن كان كونياً، فإن نفذه سبحانه مضى فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه.
فهو سبحانه على كل شيء قدير، يمضي ما يقضي به، وغيره قد يقضي بقضاء، ويقدر أمراً، ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي ما شاء في أي وقت شاء، وفي أي مكان شاء.
وصلاح الحياة واستقامتها إنما تتم إذا كان الآمر في المملكة واحداً، فإن تعدد الآمرون بالحركات تعارضت حركات البشر بعضهم مع بعض وتعاندت، ثم فسدت الحياة والأحياء.
فالوحدانية أساس استقامة حركة الحياة.
فكما نوحده سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كذلك نوحده بعبادته وطاعته وحده لا شريك له.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4318)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (199).(4/7)
فنطيع أمره وحده، ونجتنب نهيه وحده، ونؤمن به وحده.. ونتوكل عليه وحده، ونعبده وحده، ونستعين به وحده.
فلكي لا تتعاند الأقوال والأفعال، والأوامر والحركات، لا بدَّ أن يكون الهدف واحداً، والآمر واحداً، فإن اختلفت الأهداف، وتعدد الآمرون كان الفساد والفوضى.
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والعابد حقاً من يأتمر بأوامر الله في جميع الأحوال، والشعائر كالصلاة والأذكار تعينك وتعطيك القوة ليزيد إيمانك، فيسهل عليك امتثال أوامر الله في كل حال.
والتوحيد هو الأصل العام الذي يرتبط بجميع الأعمال، وهو القاعدة التي ترجع إليها جميع التكاليف والفرائض، وتستمد منها الحقوق والواجبات. فيجب قبل الدخول في الأوامر والنواهي.. وقبل الدخول في التكاليف والفرائض.. وقبل الدخول في الشرائع والأحكام.. أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم.. كما يعترفون بألوهيته وحده لهم في عقيدتهم.
لا يشركون معه أحداً في ألوهيته.. ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته.
فالشرك بكل أقسامه وصوره هو المحرم الأول، لأنه يجر إلى كل محرم، وهو المنكر الأول الذي يجر إلى كل منكر.
فيجب فوراً حشد الإنكار كله له، حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله.. ولا رب لهم إلا الله.. ولا حاكم لهم إلا الله.. ولا مشرع لهم إلا الله.
فمعرفة التوحيد أول واجب، وأعظم واجب على كل إنسان كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 19].
والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله أمور:
أحدها: بل أعظمها التفكر في سنن الله وآياته الكونية، وآياته الشرعية، ثم تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله، فذلك يوجب بذل الجهد في التأله والتعبد للرب الكامل الصفات.
الثاني: العلم بأن الله هو المتفرد بالخلق والتدبير، ومنه يعلم أنه المستحق للعبادة، المتفرد بالألوهية.(4/8)
الثالث: العلم بأن الله وحده هو المتفرد بهبة النعم الظاهرة والباطنة، المادية والروحية، الدنيوية والأخروية، فذلك يوجب تعلق القلب به، محبة ورغبة، وخوفاً ورهبة.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه، القائمين بتوحيده، من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين.
الخامس: معرفة الطواغيت التي فتنت الناس، وصرفتهم عن دين الله وكتبه ورسله، وأنها ناقصة باطلة من جميع الوجوه، لا تملك لنفسها ولا لعبَّادها نفعاً ولا ضراً.
السادس: أن خواص الخلق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقاً وعلماً، وهم الأنبياء والرسل والملائكة والعلماء الربانيون قد شهدوا بذلك كما قال سبحانه: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 18].
وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
لها وزن وثقل.. ولها عظمة.. ولها قيمة.. ولها قوة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن نبي الله نوحاً صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة، قال لابنه: «إِنِّي قَاصّ ٌعَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ، آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بـ(لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ، لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَسُبْحَانَ ا? وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْر» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (1).
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (6583)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (558).
انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (134).(4/9)
فكلمة التوحيد وزنها عظيم، فلو كانت لا إله إلا الله في كفة، وسبع أرضين بجبالها وسهولها.. وبحارها وأنهارها، ومدنها وقراها.. وإنسها وجنها.. وحيواناتها وطيورها.. وذهبها وفضتها، ومعادنها وحديدها.. وترابها ونباتها، وما في ظاهرها وما في باطنها..
والسموات وما فيها من النجوم والكواكب.. السماء الأولى بملائكتها.. وهكذا إلى السابعة.. والجنة وكل ما فيها من القصور والحور، والولدان والغلمان، والأنهار، وجبريل وميكائيل وإسرافيل.. والصور وكل ما تحت العرش في كفة.
فلو وضعت السموات والأرض وما فيهما كما سبق في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله.
فمن كانت في قلبه كلمة التوحيد (لا إلا إلا الله) كيف يكون وزنه عند الله؟ وكيف تكون منزلته عند الله؟
وكيف تكون جنته يوم القيامة؟
والدين أول ما يبنى من أصوله، ويكمل بفروعه، كما أنزل الله بمكة أصوله: من التوحيد والإيمان، والأمثال والقصص، والوعد والوعيد. ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعه الظاهرة: من الأذان والإقامة، وصلاة الجمعة والجماعة، والجهاد والصيام، وتحريم السرقة والزنا، والخمر والميسر، وغير ذلك من واجباته ومحرماته.
فأصوله تمد فروعه وتثبتها وتقويها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها. وإذا جرد العبد التوحيد لله، خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله.
فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه، وخوفه منه، واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفاع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا.
وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم وأكمل، وإن مَزج مُزج له، وإن كان مرة ومرة، كان الله له مرة ومرة.
وكلمة التوحيد (لا إلا إلا الله) مركبة من جملتين:
(لا إله) نفي.. (إلا الله) إثبات.(4/10)
فالنفي أن يخرج فكره ويقينه عما سوى الله، من الأرض إلى السماء.. ومن الذرة إلى أعظم جبل.. ومن قطرة الماء إلى البحر.. ومن البعوضة حتى الفيل.. ومن النملة حتى جبريل.. ومن أصغر مخلوق إلى أكبر مخلوق.
فكل هذه مخلوقات ليس بيدها ولا بيد غيرها من المخلوقات نفع ولا ضر، فكلها ليست بإله، وإنما هي مخلوقة مملوكة مقهورة بأمر الله.
(إلا الله): إثبات الألوهية لله وحده، فيركز فكره ويقينه بأن الله وحده هو الإله الواحد الأحد القهار، فيعبده وحده ويطيعه، فإذا اعتقد ذلك أتبعه بشهادة أن محمداً رسول الله، فيتبعه في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، لأن الله بعثه إلينا رحمة بنا وبالعالمين جميعاً، لنقتدي به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 21].
والخلق والإيجاد، والتصريف والتدبير من صفة الربوبية.
والدين والشرع، والأمر والنهي، من صفة الألوهية.
والجزاء بالثواب والعقاب، والجنة والنار، من صفة الملك.
فأمر الله خلقه بإلهيته.. وأعانهم ووفقهم، وهداهم وأضلهم بربوبيته.. وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله.
فهو محمود في إلهيته.. ومحمود في ربوبيته.. ومحمود في رحمته... ومحمود في ملكه كما قال سبحانه: (پ پ پ پ? ? ?? ? ? ??) [الفاتحة: 2-4].
والله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويهدي ويضل.
فكيف يتوجه الناس إلى غيره وهذه صفاته.. وهذه أفعاله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
وقد فطر الله الناس على التوحيد، والفطرة فطرتان:
الأولى: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله، ومحبته، وإيثاره على ما سواه.(4/11)
الثانية: فطرة تتعلق بالبدن، وهي فطرة عملية، وقد أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ (أوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ» متفق عليه(1)
فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تزكي البدن وتطهره وتجمله.
وتوحيد الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله هو الأصل، ولا يغلط في توحيد العبادة إلا من لم يعطه حقه، فمن عرف الله أطاعه وخافه ورجاه.
وتوحيد العبادة أشهر نتائج توحيد الربوبية.
وكذلك الصبر، والرضا، والتسليم، والتوكل، والإنابة، والتفويض، والمحبة، والخوف، والرجاء، كل ذلك من نتائج توحيد الربوبية.
فإن توحيد العبادة إنما يكون بعد معرفة الرب، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة خزائنه وآلائه ونعمه، ومعرفة مخلوقاته.
والتوحيد هو أساس الأعمال كلها، وهو قلبها ولبها وروحها، فكل عمل ليس معه التوحيد فهو باطل ولو كان على السنة، فقبول الأعمال له شرطان: أن تكون خالصة لله، وأن تكون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم : (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110]
فالقلب الذي يوحد الله، يدين لله وحده بكل شيء، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئاً من غيره، ولا يعتمد على أحد من خلقه.
فالله وحده هو القوي عنده، وهو القاهر فوق عباده، والعباد كلهم ضعاف مهازيل لا يملكون له نفعاً ولا ضراً.
فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم، وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.
والله وحده هو الغني وما سواه فقير، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: (?? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [فاطر: 15].
والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بأنه الإله الذي يصرف الوجود كله، ومن ثم لا يختار غير ما اختار الله من الأحكام والشرائع، بل يطيع أمره وشرعه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5889)، ومسلم برقم (25)، واللفظ له.(4/12)
والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت قدرة الله في هذا الكون من أشياء وأحياء، فيأنس بالله، ويتفكر في مخلوقاته، ويتحرج من إيذاء أحد، أو إتلاف شيء، أو التصرف في شيء إلا بإذن الله.
خالق كل شيء.. ورب كل شيء.. ومالك كل شيء.
والقلب المؤمن بحقيقة التوحيد.. هو القلب الذي عرف الله فتعلق به، ولم يلتفت إلى أحد سواه.
فهو يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدىً وبصيرة، لأن قلبه وبصره معلق باتجاه واحد، ولأنه لا يعرف إلا مصدراً واحداً للحياة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضر، ومصدراً واحداً للعطاء والمنع.
فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، ويعبد رباً واحداً، يعرف ماذا يرضيه فيفعله، وماذا يغضبه فيتقيه.
والمخلوقات كلها أولها وآخرها، وصغيرها وكبيرها، لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، وهي كالميت لا تعمل ولا تتحرك إلا بإذن الله، ومثالها كالحجر لا ينفع ولا يضر ولا يتحرك إلا إذا جاءت قوة خارجة أقوى منه فحركته، وهكذا كافة المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله وإرادته.
والمخلوقات قسمان:
شكل للنفع كالطعام والماء.. وشكل للضرر كالنار والسم.
وكل المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله لا بذاتها، وهي مملوكة مأمورة مدبرة.
فالنَّار التي ألقي فيها إبراهيم صلى الله عليه وسلم مظهر للضرر، ولكن لما جاء إليها أمر الله لنصرة وليه، قلب حالها الذي خلقها، فصارت نافعة، وكانت برداً وسلاماً على إبراهيم.
والماء الذي يشربه قوم نوح مظهر للنفع، فجاء إليه أمر الله بالضرر فأغرق من كفر واستكبر من قوم نوح.
فالطيبات كلها أشكال للنفع، فإذا جاء إليها أمر الله بالضرر انقادت وأطاعت فضرت بإذن الله من شاء الله.
والطعام وإن جعله الله شكلاً للنفع، فهو لا ينفع ولا يضر بنفسه، فهو مخلوق ليس بيده شيء.(4/13)
يأكله الصغير فيكبر، ويأكله الضعيف فيسمن، ويأكله الكبير فيضعف، ويأكله الشاب فأحياناً يزيد، وأحياناً ينقص، وأحياناً لا يزيد ولا ينقص، فالفعال هو الله وحده لا شريك له.
والطعام خلقه الله، وأنعم به على خلقه، وهو سبب يتلذذون به، ويمتثلون أوامر الله عند أكله، وهو مملوك مربوب لا ينفع ولا يضر كغيره إلا بإذن الله.
والخبائث والمؤذيات والمهلكات كلها أشكال للضرر، فإذا جاء إليها أمر الله بالنفع نفعت وانقادت وأطاعت لأمر ربها.
وحقيقة التوحيد: التعلق بالله وحده ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وعدم التعلق بغيره، أو الالتفات إلى ما سواه.
فحصول الضرر والنفع.. واختلاف الليل والنهار.. وتبدل الحر بالبرد.. وحصول الجوع والشبع.. والأمن والخوف.. والصحة والمرض.. والعزة والذلة.. والفقر والغنى.. ليست بذاتها.. بل أمر الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [الزمر: 62].
فالموحد لا يتعلق قلبه بالأسباب النافعة كالطعام والدواء مثلاً، ولا يتعلق بالأسباب الضارة كالنار والسموم، بل يتعلق قلبه بالله وحده، الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وبيده مقاليد الأمور.
و(? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الحديد: 5].
والله عزَّ وجلَّ ابتلى كل إنسان بثلاثة أشياء:
ابتلاه بالمصائب، لينظر أين يتوجه القلب في جميع الأحوال، إلى الله أم إلى الأسباب؟.
فقلب المؤمن يتوجه عند الجوع إلى الله، وعند المرض إلى الله، وقلب الكافر يتوجه عند الجوع إلى الطعام، وعند المرض إلى الدواء.. وهكذا.. وابتلاه الله بالشهوات والأوامر، لينظر من يقدم أوامر الله على الشهوات، فالمؤمن يقدم أمر الله على المباحات، ومحبوبات النفس، والكافر يقدم محبوباته وشهواته على كل شيء.
وابتلاه بالحلال والحرام، ليعلم من يخافه بالغيب كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 94].(4/14)
فالمؤمن إيمانه يدفعه للانتفاع بالحلال، واجتناب الحرام، في جميع الأحوال، والكافر يقترف المحرمات والكبائر، لأنه ليس لديه إيمان يحجزه عن المحرمات والكبائر.
والتوحيد يقوم على ثلاثة أصول:
الأول: الاعتقاد واليقين بوحدانية الله، ومكانه القلب.
الثاني: النطق والإقرار، ومكانه اللسان.
الثالث: العمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، ومكانه الجوارح.
فإن أخل العبد بشيء من هذه لم يكن المرء مسلماً.
فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند مستكبر كفرعون وإبليس.
وإن عمل بالتوحيد ظاهراً وهو لا يعتقده باطناً. فهو منافق أشرُّ من الكافر.
والتوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان:
الأول: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو سبحانه الكامل وحده في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، الذي بيده كل شيء، خالق كل شيء المالك لكل شيء، المحيط بكل شيء، الذي ليس كمثله شيء، له الأسماء الحسنى والصفات العلا: (? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [الشورى: 11].
الثاني: توحيد في القصد والطلب، وهو توحيد العبادة، وهو إفراد الله بجميع أنواع العبادة كالدعاء والصلاة، والخوف والرجاء، فيتيقن العبد ويقر أن الله وحده ذو الألوهية على خلقه أجمعين، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده دون سواه.
فلا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة كالدعاء والصلاة، والخوف والرجاء، والتوكل والاستعانة، والذبح والنذر ونحوها إلا لله وحده دون سواه.
ومن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المؤمنون: 117].
والله تبارك وتعالى وحده هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولكماله وجلاله وجماله وإحسانه، استحق أن يعبد وحده لا شريك له.(4/15)
فله سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلا التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، وأن يعظم غاية التعظيم.. وأن يخضع له غاية الخضوع.. فهو وحده المعبود الذي تألهه القلوب وتحبه وتخضع له، وتذل له، وترجوه وتخافه، وتنيب إليه عند الشدائد، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتسكن إليه، وتطمئن بذكره وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 28].
وقد اجتهد الشيطان لإفساد هذا اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بين عموم البشر.
فزيَّن لآدم وزوجه الأكل من الشجرة، ليحصل لهما الملك والخلد بزعمه كما قال الله عن الشيطان: (? ? ? ? ں ں ? ? ? ??) [طه: 120].
فأكل آدم من الشجرة، وعصى ربه، ثم تاب إلى ربه، فتاب الله عليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 37].
وزيَّن الشيطان كذلك لقوم نوح أن يصوروا الصالحين من الأموات ليتذكروهم ويتعظوا بعبادتهم، وينشطوا للعبادة إذا رأوهم.
ثم زيَّن لهم أن البناء على قبورهم، والعكوف عندها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب.
ثم نقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بالمقبور، والإقسام به على الله في قضاء الحوائج، لمكانته عند الله.
فلما تقرر ذلك عندهم.
نقلهم إلى دعاء الميت وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور والزهور، ويطاف به، ويستلم، ويحج إليه، ويذبح عنده.
فلما تقرر ذلك عند هؤلاء وألفوه، والشياطين تعينهم لما أشركوا بالله غيره، نقلهم الشيطان منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً يقصده الناس من كل مكان.(4/16)
فلما تقرر ذلك عندهم، زيَّن لهم الشيطان ونقلهم منه إلى اعتبار أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وحط من قدرهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام. وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد؛ ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس منهم وعنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه، ويأبى الله ذلك: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الأنفال: 34].
فهذه خطوات الشيطان في إفساد يقين العباد على ربهم، وإغرائهم بعبادة الأصنام من دون الله، وقد حذرنا الله منه بقوله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 21].
والتوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم هو إفراد الله بالعبادة كلها، ليس فيها حق لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهم، فمن عبد الله ليلاً ونهاراً، ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 51].
ومن ذبح لله ألف أضحية، ثم ذبح لنبي أو غيره، فقد اتخذ إلهين اثنين، وهذا هو الشرك الذي حذرنا الله منه، وأمرنا بالتوحيد في جميع الأحوال كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].
فمن أخلص العبادات كلها لله، ولم يشرك فيها غيره، فهو المؤمن الموحد الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو المشرك، ومن عبد غيره من دونه فهو الكافر الجاحد.
والناس كلهم مأمورون بالتوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 31].
والتوحيد يرد الأشياء كلها إلى الله وحده خلقاً وإيجاداً، وبقاء واستمراراً، ونفعاً وضراً، ونجاة وهلاكاً، وحياة وموتاً، وغنى وفقراً.
والكفر والشرك يرد الأشياء كلها إلى غير الله.(4/17)
فالتوحيد أعدل العدل.. والشرك أظلم الظلم.
ومن علامات ضعف التوحيد واليقين:
ضعف الدعاء، وهو غير تركه، فتركه استكبار.. وعدم الكلام عن عظمة الله.. وعدم التحدث بنعمه.. وقلة ذكره.. وقلة حمده وشكره.. وعدم الثناء عليه.. وعدم نشر دينه وشرعه.. وقلة ذكر أسمائه وصفاته.. وتعظيم المخلوق.. وكثرة ذكره.. وثقل الطاعات عليه.. وخفة المعاصي عليه.. وقلة الرغبة في سماع كلامه.. وعدم الطمأنينة والسكينة في مجالس الذكر.
والله عزَّ وجلَّ واحد لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
هو وحده أحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخير الرازقين، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وله ملك الدنيا والآخرة.
وهو وحده الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويكشف السوء، ويفرج الكربات، ويقيل العثرات.
وهو وحده الذي يهدي خلقه في ظلمات البر والبحر، ويرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده.
وهو سبحانه الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات ما لا يحصيه إلا هو، الذي عنت له الوجوه، وخشعت له الأصوات، وسبحت بحمده الأرض والسماوات.
وهو سبحانه الذي لا تسكن الأرواح إلا بحبه، ولا تطمئن القلوب إلا بذكره، ولا تزكو العقول إلا بمعرفته، ولا تحيا القلوب إلا بلطفه، ولا يقع أمر إلا بإذنه، ولا يزول إلا بأمره، ولا يزيد ولا ينقص إلا بعلمه ومشيئته.
وهو سبحانه الذي لا يهتدي ضال إلا بهدايته، ولا يستقيم معوج إلا بتقويمه، ولا يتخلص من مكروه إلا برحمته، ولا يحفظ شيء إلا بكلاءته، ولا يحصل شيء إلا بإذنه، ولا يفتتح أمر إلا باسمه، ولا يتم شيء إلا بحمده.
وهو سبحانه الذي لا يُدرك محبوب إلا بتيسيره، ولا تنال سعادة إلا بطاعته، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأوسع كل مخلوق فضلاً وبراً.(4/18)
وهو سبحانه الرب الحق، الإله الحق، الملك الحق، المتفرد بالكمال المطلق من كل الوجوه، المتفرد بالجلال المطلق من كل الوجوه، المتوحد بالجمال المطلق من كل الوجوه، المبرأ من النقائص والعيوب من كل الوجوه.
لا يبلغ المثنون وإن استوعبوا جميع الأوقات بكل أنواع الثناء ثناء عليه، بل ثناؤه على نفسه أعظم وأكبر وأشمل من ثناء الخلق عليه.
سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. (? ? ? ? ? ??) [الزمر: 4].
إن مدلول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) يقتضي أن تكون الحاكمية العليا لله وحده في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في تدبير الكون سواء.
فهو سبحانه الحاكم الذي يحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو الحاكم الذي يحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته.
وبناء على هذا لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه.. ولا يتقدم بالشعائر التعبدية إلا لله وحده.. ولا يتلقى الشرائع والأوامر في شئون الحياة إلا من الله وحده.. ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يشرع أو يحكم في شيء من هذا كله مع الله.
وإن من الغيورين على الإسلام اليوم وقبل اليوم من يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية، أو استنكار انحلال أخلاقي، أو مخالفة من المخالفات، وهذا واجب، ومن قام به مأجور.
لكن أوجب منه إنكار المنكر الأكبر، وهو قيام حياة الناس على غير التوحيد في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق وغيرها.
والمرض المنتشر في العالم اليوم هو تصدع جدار التوحيد، فالناس يتوجهون في عباداتهم إلى الله، ويتوجهون في قضاء حاجاتهم إلى غير الله، من الناس والأحوال والأشياء والأحجار والأشجار والأموات والحيوانات.
ولإزالة هذا المرض الخطير نتوجه إلى الله في كل شيء، فهو الذي بيده كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، والقادر على كل شيء.(4/19)
نتوجه إلى الله وحده لقضاء حوائجنا في جميع الأحوال، والله بيده خزائن الأموال، وبيده تغيير الأحوال، ولا ننظر إلى أحوالنا مهما كانت شديدة، فالله على كل شيء قدير: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [الأعراف: 54].
فإبراهيم صلى الله عليه وسلم ليس معه قوة ولا جيش، ولكن الله معه، فقلب الله سبحانه سلاح الأعداء وهو النار من ضار إلى نافع، وصارت النار بأمر الله برداً وسلاماً على خليل الرحمن.
والمشركون في بدر معهم قوة الأسباب، والمؤمنون مع رسول الله قلة في العدد والعدة، لكن الله معهم، فتوجهوا إليه فنصرهم، وأهلك أعداءهم.
فالمؤمن حقاً هو الذي يعلم ويتيقن أن الملك والتصريف والتدبير بيد الله تعالى لا بيد غيره.
فلا يرى نفعاً ولا ضراً.. ولا حركة ولا سكوناً.. ولا ظلمة ولا نوراً.. ولا خفضاً ولا رفعاً.. ولا قبضاً ولا بسطاً.. ولا حياة ولا موتاً... إلا والله عزَّ وجلَّ خالقه وفاعله ومدبره، فلا يحصل في ملكه سبحانه حركة ولا سكون، ولا حياة ولا موت، ولا نفع ولا ضر إلا بإذنه وأمره وإرادته سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [الملك: 1].
وأهل التوحيد متفاوتون في توحيدهم علماً ومعرفة وحالاً تفاوتاً لا يحصيه إلا الله الذي خلقهم ويعلم سرهم ونجواهم.
فأكمل الناس توحيداً الأنبياء والرسل، والمرسلون منهم أكمل في ذلك.
وأولو العزم من الرسل أكمل توحيداً وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وأكمل أولي العزم توحيداً الخليلان محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فقد قاما بالتوحيد بما لم يقم به غيرهما، علماً ومعرفة، وحالاً وجهاداً، ودعوة للخلق إلى ربهم.
فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم من أجله، وصبروا على إبلاغه.
ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم فيه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 90].(4/20)
ولما قاموا بحقيقة التوحيد جعلهم الله أئمة الخلائق، يهدون بأمره، ويدعون إليه، وجعل الخلائق تبعاً لهم كما قال سبحانه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [السجدة: 24].
إن التوحيد هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأخذ بها الميثاق عليهم في ذات أنفسهم، وهم بعد في عالم الذر.
فالاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري، فطرة أودعها الخالق فيه، وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ گ ? ? ? ? ?) [الأعراف: 172-174].
فالله عزَّ وجلَّ قد فطر البشرية كلها على التوحيد، أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى، فيحتاجون إلى التذكير والتحذير فالتوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ بداية خلقهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الروم: 30].
فلا حجة لهم في نقض الميثاق، حتى لو لم يبعث الله إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم، ولكن رحمة الله وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف، وألا يكلهم إلى عقولهم فقد تضل، فبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ومذكرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
ألا ما أعظم قدرة الخلاق العليم، إنه مشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته، وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى وهي تجمع وتستشهد وتخاطب خطاب العقلاء، وتستجيب استجابة العقلاء، فتعترف وتقر وتشهد، ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب.
إنه مشهد عظيم، مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تقف أمام الذي خلقها وفطرها، فيسألها ألست بربكم؟
فتعترف كلها لله بالربوبية.. وتقر له سبحانه بالعبودية.. وتشهد له سبحانه بالوحدانية.. وهي منثورة كالذر في الكثرة والحجم.(4/21)
إن الإنسان ليصيبه الذهول.. ويرتعش من أعماقه.. وهو يتملى هذا المشهد العظيم.. ويتصور هذا الذر السابح.. وفي كل خلية حياة.. وفي كل خلية استعداد كامن للاستماع والفهم والإجابة.. وفي كل خلية إنسان كامل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور.. ويقطع على نفسه العهد والميثاق بالتوحيد قبل أن يبرز إلى حيز الوجود.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟». ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: (? ? ? ? ? ??) الآيَة. [الروم: 30]. متفق عليه(1).
وقد أنشأ الله البشر مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده، أودع هذا في فطرة كل حي فهو ينشأ عليه، حتى ينحرف عنه بفعل فاعل يفسد إيمانه، ويميل به عن فطرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى: وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». أخرجه مسلم (2).
فالتوحيد ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها، مودع في كل خلية منذ نشأتها، وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات، وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله سبحانه.
فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها، ولا سبيل إلى أن يقول أحد إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1358) واللفظ له، ومسلم برقم (2658).
(2) أخرجه مسلم برقم (2865).(4/22)
أو يقول إني خرجت إلى هذا الوجود فوجدت آبائي على الشرك، ولم يكن أمامي سبيل إلى معرفة التوحيد، إنما ضل آبائي فضللت فهم المسئولون وحدهم، فلن يقبل هذا كله يوم القيامة: (چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گگ) [الأعراف: 172، 173].
ولكن الله رؤوف بالعباد، يعلم أن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف، فرحمة منه بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا، كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به، حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات، ليستنقذ فطرهم من الانحراف، ويستنقذ عقولهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.
ولو كان الله تبارك وتعالى يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى، دون رسل ولا رسالات، ودون تذكير وتفصيل للآيات، لأخذ الله عباده بها.
ولكنه سبحانه رحمهم بعلمه، فجعل الحجة عليهم هي الرسالة، كما قال سبحانه: (گ ? ? ? ??) [الأعراف: 174].
يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله، وإلى ما أودعه الله في نفوسهم من قوى البصيرة والإدراك.
وذلك كفيل بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب التي ضلت، وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد، ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير.
وفطرة الله التي فطر الناس عليها هي عهد الله الذي عقده مع البشر، المركوز في طبيعة كل حي أن يعرف خالقه، ويتجه إليه وحده بالعبادة.
فإذا نقض هذا العهد العظيم فقد دخل في الشرك الذي لا يغفر الله لصاحبه.
ولماذا يتخذ العبد ولياً من دون الله؟
إن كان يتولاه لينصره ويعينه.. فالله هو فاطر السموات والأرض.. وهو خير الناصرين.
وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه، فالله هو الرزاق المطعم للخلائق كلها.
ففيم الولاء لغير صاحب السلطان المنعم الرزاق؟: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 14].(4/23)
وقد كان كفار قريش يرفعون يداً للإيذاء والحرب والتنكيل، ويمدون يداً أخرى للإغراء والمصالحة واللين، وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر الله رسوله أن يقذف هؤلاء بالاستنكار العنيف، والحسم الصريح بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 164].
ولماذا يتخذ العبد ولياً من دون الله؟
ولماذا يعرض نفسه للشرك الذي نهى الله عنه؟
ولماذا يخالف الإسلام الذي أمره الله به؟
إن كان ذلك كله رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا، فهذا كله بيد الله، وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب، وله القهر على العباد، وبيده وحده النفع والضر، والعطاء والمنع: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 17].
وهل يكون الإنسان مسلماً لله في عبادته، بينما هو يتلقى من غير الله في شئون الحياة، وبينما هو يخضع لغير الله، ويستنصر بغير الله، ويتولى غير الله؟
والمحبة الصادقة لله تقتضي توحيد المحبوب في كل شيء، وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته، التي تستلزم كمال التعظيم لله، مع كمال الذل له، وكل محبة لغير الله فهي عذاب ووبال على صاحبها.
ومن أعرض عن محبة الله، وذكره، والشوق إلى لقائه، ابتلاه بمحبة غيره، وعذبه بها في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.
فإما أن يعذبه بمحبة الأوثان، أو بمحبة الصلبان، أو بمحبة المردان.. أو بمحبة النسوان.. أو بمحبة الدينار.. أو بمحبة الغناء والفحش.. وغيرها مما هو في غاية الحقارة والهوان.
والإنسان عبد محبوبه كائناً ما كان: (چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [البقرة: 165].
والله سبحانه رب السموات والأرض وما فيهن، وهو الخالق وحده، القاهر وحده، الذي له الأمر كله، وما سواه مخلوق مربوب مقهور مأمور، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الرعد: 16].(4/24)
والله سبحانه هو الواحد القهار.. المدبر للكون والحياة، العليم بالظواهر والبواطن، والحق والباطل، والباقي والزائل.
فمن آمن به ووحده واستجاب لأمره فله الجنة، ومن أشرك به ولم يستجب لأمره فله النار (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 18].
وهو سبحانه القائم على كل نفس بما كسبت، وهو الرقيب المسيطر عليها في كل حال، فكيف يجعل له البشر شريكاً الله خالقه ومالكه، وهو رقيب عليه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الرعد: 33].
إن هؤلاء ستروا نفوسهم عن دلائل الهدى.. فحقت عليهم سنة الله.. ومن اقتضت سنة الله ضلاله.. لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد.. لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد.
والكفار إن أصابتهم قارعة في الدنيا فهو عذاب، وإن حلت قريباً من دارهم فهو الرعب والقلق وتوقع الشر، وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب.
ومواجهة كل حادث وكل مصيبة بلا إدراك الحكمة عذاب، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أدوم وأشق: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الرعد: 31].
إن المؤمن حقاً هو الذي يعلم أن إلهه هو الذي يستحق أن يكون رباً لا رب سواه، ولا حاكم سواه، ولا مشرع سواه، ولا متصرف سواه، ولا معبود سواه، ولا مالك سواه.
ومن ثم فهو يعبد الله وحده، ويدين له وحده، لا في أوقات الصلاة فحسب، بل في كل شأن من شئون الحياة.
إن عبادة الأصنام والأوثان والأحجار وسائر الأوثان التي كان يزاولها أهل الجاهلية لا تستغرق كل صور الشرك بالله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، وإنما هي صورة من صور الشرك بالله التي يجب تغييرها، وصرف العبادة لله وحده لا شريك له.(4/25)
والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها في ميادين الحياة في كل زمان ومكان.
إن التوحيد هو الدينونة لله في كل شيء، والشرك بالله يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة خالصة لله وحده في كل شأن من شئون الحياة، فالرب واحد، والمعبود واحد، والمطاع واحد، والآمر واحد لا شريك له: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ) [البينة: 5].
إن العبد الذي يتوجه إلى الله بالاعتقاد في ألوهيته وحده.. ثم يدين لله في الوضوء والصلاة، والصوم والحج، وسائر الشعائر.. بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاجتماعية والاقتصادية لشرائع من غير الله.. ويدين في قيمه وأخلاقه وأزيائه لأرباب من البشر.. تفرض عليه هذه الأخلاق والمعاملات والأزياء مخالفة لشرع الله وأمره.. فتارة ينفذ أوامر الله.. وتارة ينفذ أوامر البشر.. يدين لربه في حال.. ويدين لغيره في حال.
إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته، ويخالف شهادة أن (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) في أخص حقيقتها.
فأي إيمان؟.. وأي توحيد؟.. وأي اقتداء مع هذا الخلط العجيب؟.
(? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
إن الإسلام هو الدين الحق الذي جاء لتحطيم الأصنام الحجرية والخشبية التي تعبد من دون الله، وتوجيه الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
كما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن من شئون الحياة، وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة، وفي كل شأن من شئون الحياة.
فلا بدَّ من عرض الهيئات والصور والحركات على الشرع الإلهي، وتتبعها عند كل فرد، لتضبط وتعرف ويقرر ما إذا كانت توحيداً أم شركاً؟
موافقة لهدي رسول الله ^ أم مخالفة له؟
يدين بها العبد لله وحده، أم لشتى الطواغيت؟
إن دين الله عزَّ وجلَّ منهج كامل شامل لجزيئات الحياة اليومية.(4/26)
والدينونة لله في كل جزئية من جزئيات الحياة، فضلاً عن أصولها وكلياتها، هي دين الله، وهو الإسلام الذي رضيه الله لنا إلى يوم القيامة، فلا يقبل من أحد ديناً سواه.
والشرك لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غير الله معه، ولكنه كذلك يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه.
فلينظر الناس لمن المقام الأعلى في حياتهم؟
ولمن الدينونة الكاملة؟.. ولمن الطاعة الكاملة؟
ولمن الاتباع والامتثال؟
فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله.. وإن كان لغير الله معه أو من دونه فهم في دين الطواغيت: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
وتوحيد الله عزَّ وجلَّ، وإخلاص الدين له، ليس كلمة تقال باللسان فقط، إنما هو منهاج حياة كامل يصبغ الحياة كلها بلونه.
يبدأ من اعتقاد بوحدانية الله.. وينتهي بنظام يشمل حياة الفرد والجماعة في جميع الأحوال والأماكن والأزمان.
وقد أنزل الله الكتاب بالحق على رسوله صلى الله عليه وسلم .. الحق الواحد الذي يصرف السموات والأرض.. ويصرف أهل السموات والأرض.. وهو المنهج الذي يسير عليه البشر في أنحاء الأرض بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد.
والقلب الذي يوحد الله، يدين لله، وحده لا شريك له، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئاً من غيره.
والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله، ويؤمن بأن الدين الذي اختاره الله للبشر لا تصلح حياة البشر إلا به، ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه، ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم والسنن والأحكام، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله، ونظام الحياة الشامل.
وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرفات، وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً وفق أمر الله: (چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 2].(4/27)
إن التوحيد والشرك متقابلان، لا يجتمعان أبداً، فكما لا يجتمع النور مع الظلام، فكذلك لا يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد، وفي آن واحد.
وقد ضرب الله مثلاً للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء، يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتعارضة.
وعبد آخر يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلب منه، فهو مستريح مستقر على منهج واحد من مصدر واحد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 29].
فهما لا يستويان، فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق.
والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب لا يستقر على حال، ولا يرضي واحداً منهم فضلاً عن أن يرضي الجميع.
وهكذا حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال.
فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو الذي يسير في هذه الحياة على هدى، لأن قلبه وبصره معلقان بإله واحد، يستمد منه الهدى والتوجيه، ويعتصم بحبله، لا يزوغ عنه بصره، ولا يتجه إلى غير فكره.
ويخدم سيداً كريماً غنياً قوياً واحداً، يعرف ماذا يرضيه فيفعله، ويعرف ماذا يغضبه فيجتنبه.
وبذلك تجتمع الطمأنينة وتتوحد، فالحمد لله الذي اختار لعباده طريق الأمن والإيمان، والراحة والطمأنينة، وطريق الاستقامة والاستقرار.
فهل يليق بالناس مع هذه النعمة الكبرى أن ينحرفوا عنه، ويقفوا بباب غيره؟.. ويعرضوا عن باب الغني، ويقفوا بباب الفقير؟.. وماذا يملك الفقير؟ وماذا يعطي؟.. وماذا يملك العاجز للعاجز؟.(4/28)
وهل يقضي الحاجات إلا الملك العزيز الجبار، الغني الكريم؟ الملك الذي كل شيء ملكه.. الغني الذي كل شيء في خزائنه.. العزيز الذي كل شيء تحت قهره.. الكريم الذي كل شيء من فضله.. العفو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعاً.. الرحمن الذي يرحم الخلائق كلها.. التواب الذي يتوب على من أناب إليه.. الودود الذي يتحنن إلى عباده بنعمه.. الخلاق الذي خلق الكون وما فيه.
هو الأول الذي ليس قبله شيء.. الآخر الذي ليس بعده شيء.. الظاهر الذي ليس فوقه شيء.. الباطن الذي ليس دونه شيء.. العليم الذي لا يخفى عليه شيء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 101-103].
إذا طلعت الشمس ميز الإنسان بين الذهب والحجر.. وإذا جاء نور الإيمان والتوحيد في القلب ميز العبد بين الكبير والصغير، والقوي والضعيف، ومن يستحق العبادة ممن لا يستحقها، وميز بين الدنيا والآخرة، ورأى كل شيء على حقيقته، ورأى الحق حقاً، ورأى الباطل باطلاً.
والتوحيد والإيمان حق الله على العباد، فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق. وقيمة الإنسان عند الله بإيمانه وتوحيده وصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (1).
وشريعة الله للبشر إنما هي جزء من تشريعه وتصريفه للكون، فالأوامر الكونية والشرعية للمخلوقات كلها بيد الله وحده، ومخالفة الأوامر الشرعية زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا.
وللعبد رب واحد هو ملاقيه، وبيت هو قادم إليه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).(4/29)
وإن من المؤسف حقاً أننا نقف ضد مرتكب الجريمة في حق المخلوق وهذا حق، ولا نقف ضد مرتكب جريمة الكفر والشرك في شأن أحكم الحاكمين، وهذا حق أكبر من ذلك وأوجب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 39].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ ا?، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّ الإسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله» متفق عليه(1).
والمؤمن حقاً من جمع في كل وقت بين توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية:
فيشهد قيومية الرب تعالى فوق عرشه.. يدبر أمر عباده وحده.. يخلق ويرزق.. ويعطي ويمنع.. ويعز ويذل.. ويحيي ويميت.. ويدبر جميع الأمور في العالم العلوي والسفلي.. وما شاء الله كان.. وما لم يشأ لم يكن.
لا تتحرك ذرة إلا بإذنه.. ولا يجري حادث إلا بمشيئته.. ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.. ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاه علمه.. وأحاطت به قدرته.. ونفذت به مشيئته.. واقتضته حكمته.. يفعل ما يشاء.. ويحكم ما يريد.. فهذا جمع توحيد الربوبية وشهوده.
وأما جمع توحيد الإلهية فهو أن يجمع قلبه وهمه وعزمه على الله.. ويجمع إرادته وحركاته على أداء حقه تعالى.. والقيام بعبوديته سبحانه.. فتجتمع شئون إرادته على مراد الله الديني الشرعي.
وهذان الجمعان هما حقيقة: (? ? ? ?ٹ) [الفاتحة: 5].
فإن العبد يشهد من قوله (?) الذات الجامعة لجميع صفات الكمال والجلال والجمال.
ثم يشهد من قوله: (?) جميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة التي أمر الله بها خلقه، والتي تؤديها جميع الكائنات في ملكه.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (25)، واللفظ له، ومسلم برقم (22).(4/30)
ثم يشهد من قوله: (? ?ٹ) جميع أنواع الاستعانة والتوكل والتفويض والتسليم لله.
ثم يشهد من قوله (ٹ) هداية الله له للعلم والإيمان.. وأن يقدره عليه.. ويجعله مريداً له، وأن يجعله فاعلاً له.. وإلا فهو غير قادر بنفسه.. وأن يثبته على ذلك.. وأن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له.. وأن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة.
وأن يشهده المقصود في الطريق فيكون مطالعاً له في سيره.
وأن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة.
وأن يشهده الطريقين المنحرفين عن طريقها، وهما طريق أهل الغضب، الذين عدلوا عن اتباع الحق قصداً وعناداً بعد معرفته وهم اليهود، وطريق أهل الضلال الذين عدلوا عنها جهلاً وضلالاً بعد معرفتها وهم النصارى.
ثم يشهد جمع (ٹ ٹ?) في طريق واحد، عليه جميع أنبياء الله ورسله وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
فهذا هو الجمع الذي عليه رسل الله وأتباعهم، فمن حصل له هذا الجمع فقد هدي إلى الصراط المستقيم: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69-70].
وأول ما يتعلق القلب بتوحيد الربوبية.. ثم يرتقي منه إلى توحيد الإلهية.. والله عزَّ وجلَّ يدعو عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر.. ويحتج عليهم به.. ويقررهم به.. ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 87].
فأين يُصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره، ولا خالق سواه.
فجميع الخلق مقهورون تحت قبضة الله، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، فالقلوب كلها بيده، وكلها مملوكة له، مكشوفة كغيرها له.
من يهده الله فلا مضل له.. ومن يضلل فلا هادي له.. يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه.. وهذا عدله وقضاؤه..(4/31)
فإذا ثبت قدم العبد في توحيد الربوبية رقى منه صاعداً إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن الخلق والأمر، والضر والنفع، والعطاء والمنع والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، وكل شيء بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها وحده، وأنه لا موفق إلا من وفقه الله وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وأن أصح القلوب وأسلمها من اتخذه وحده إلهاً ومعبوداً، فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأرجى له من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، فهذا علامة توحيد الإلهية في قلب العبد.
والله تبارك وتعالى يريد منا تحقيق التوحيد في حياتنا، وحياة البشرية كلها، كما حققه الله في الكون كله، وفطر كل مخلوق على التسبيح بحمده.
فخلق الله القلوب للتوحيد والإيمان واليقين.. وخلق اللسان لذكره وتكبيره.. وحمده والثناء عليه.. والدعوة إليه.. وتعليم دينه.
وخلق الجوارح لعبادته وطاعته وتنفيذ أوامره.
وكما يحرك الله الكون كله وما فيه بالسنن الكونية، كذلك هو يحب سبحانه من البشر أن يتحركوا بالسنن الشرعية التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، لأن له الخلق والأمر في الكون كله.
فلا سعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، ولا طمأنينة لها إلا بالإيمان والتوحيد.
فيطمئن كل قلب، وتحصل له السكينة بالإيمان بالله وتوحيده وذكره.
ويتحقق التوحيد في اللسان بالإقرار بالشهادتين، وذكر الله وتكبيره، وحمده والثناء عليه في كل حين.
ويتحقق التوحيد في الجوارح بطاعة الله ورسوله، وتطبيق مقتضيات الإيمان على كل عضو من أعضاء الإنسان.
فللبدن سنن.. وللقلب سنن.. وللسمع سنن.. وللبصر سنن.. ولليد سنن.. وللرجل سنن.. وللعقل سنن.. وللأكل سنن.. وللنكاح سنن.. وللوضوء سنن.. وللصلاة سنن.. وللباس سنن.. وللسفر سنن.. وللكسب سنن.. وللعبادات سنن.. وللمعاملات سنن.. وهكذا.(4/32)
فالكون له سنن.. والإنسان له سنن، والكون كله عابد لربه مطيع، فالإنسان كذلك لا بدَّ أن يكون عابداً مطيعاً لربه ليفوز بالجنة والسعادة، فإن عصى تحمل تبعة معصيته بالعقوبة في الدنيا والآخرة.
فهذه السنن والآداب والأحكام من لوازم التوحيد والإيمان، وهي مظهره وثمرته، لكنها لا تنفع ولا تقبل إلا مع الإيمان والتوحيد، كما أن التوحيد والإيمان لا ينفع بدونها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
2- خطر الجهل
قال الله تعالى: (ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے) [الزمر: 64].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 50].
وقال الله تعالى: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ??) [النحل: 116، 117].
العلم شجرة الزينات والحسنات.. والجهل شجرة القبائح والسيئات.
والناس متفاوتون في الجهل.. كما هم متفاوتون في العلم.. فجاهل بأسماء الله وصفاته.. وجاهل بدينه وشرعه.. وجاهل بقضائه وقدره.. وهم متفاوتون في الجهل بذلك فمستقل ومستكثر.
والجهل شجرة خبيثة تثمر كل شر وبلاء وقبيح، والعلم شجرة طيبة تثمر كل خير وبركة ومليح.
والجاهل يضر نفسه، ويضر غيره، والعالم ينفع نفسه، وينفع غيره.
فالعالم والجاهل لا يستويان في العمل، ولا يستويان في الجزاء، ولا يستويان في القيمة عند الله، وعند الناس: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 9].
والجهال بأسماء الله وصفاته يبغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون.
فلجهلهم يقرُّون في قلوب الضعفاء، أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة وإن طال زمانها، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكر الله.(4/33)
وأنه سبحانه يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى مكان الفساد، ومن التوحيد والطاعة إلى الشرك والمعصية، ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 23].
وقوله سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 99].
وقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال24].
ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة، وأنه كان عابداً في السماء، لكن جنى عليه جاني القدر، وأنه ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الذي يثب عليك بغير جرم منك.
ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ». متفق عليه(1).
وبنوا هذا وأفعاله على أصلهم الباطل، وهو إنكار الحكمة والتعليل والأسباب، وأن الله لا يفعل لحكمة ولا بسبب، وإنما يفعل بمشيئة مجردة من الحكمة والتعليل والسبب، وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب، وينعم على أعدائه وأهل معصيته بجزيل الثواب، وأن الأمرين بالنسبة إليه سواء.
ألا ما أخطر الجهل على صاحبه وعلى من اقتدى به؟ فأي جهل يصد عن الله وعن دينه فوق هذا؟
فإذا رجع العاقل إلى نفسه، وفهم منهم هذا قال: من لا يستقر له أمر، ولا يؤمن له مكر، كيف يوثق بالتقرب إليه، وكيف يعول على طاعته واتباع أمره؟.
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208)، ومسلم برقم (2643)، واللفظ له.(4/34)
وقال: ليس لنا إلا هذه المدة اليسيرة، فإن هجرنا اللذات، وتركنا الشهوات، وتكلفنا أثقال العبادات، وكنا مع ذلك على غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفراً، والتوحيد شركاً، والطاعة معصية، والبر فجوراً، ويديم علينا العقوبات كنا خاسرين في الدنيا والآخرة.
فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم، وتخمر في نفوسهم، صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللذات، بمنزلة من يقول لولده: معلمك إن أحسنت وأطعته ربما عاقبك، وإن أسأت وعصيته ربما أكرمك. فيودع في قلبه ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة، ولا على وعده على الإحسان.
وإن كبر الصبي وصلح للمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس، فيجعله وزيراً أو أميراً، ويأخذ المحسن المتقي، فيخلده في الحبس أو يقتله.
فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه، وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه، وجعله يخافه مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة، والبريء بالعذاب.
فانظر إلى جناية الجهل وأهله، وإلى ما حصل بها وبهم من الفساد وترك العمل، وبغض الدين عند من وقع في شراك هؤلاء؟
وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟
ولو اجتهد الكفار والملاحدة على تبغيض الدين للناس، والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.
وهذا الصنف من الناس يظن أنه يقرر التوحيد والقدر، ويرد على أهل البدع، وينصر الدين.
ولو علم هؤلاء أن كتب الله المنزلة كلها.. ورسله كلهم.. شاهدة بضد ذلك.. ولا سيما القرآن.. لعلموا أنهم ليسوا على شيء.. وأنهم يفسدون أكثر مما يصلحون.. وينفرون الناس من دين الله أكثر مما يجمعون.
ولو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه، لصلح العالم صلاحاً لا فساد معه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گگ) [يوسف: 108].(4/35)
فالله سبحانه قد أخبر في كتابه، أنه إنما يعامل الناس بكسبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة ولا يظلمها كما قال سبحانه: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 40].
ويجزي سبحانه بالحسنة عشر أمثالها، ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ويجزي السيئة بمثلها كما قال سبحانه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [الأنعام: 160].
وهو سبحانه الحكيم العليم الذي هدى الضالين.. وأصلح الفاسدين.. وأنقذ الجاهلين.. وآوى الشاردين.. وتاب على المذنبين.. وعلَّم الجاهلين..
وإذا أوقع عذاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة، حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه عن أهل النار: (? ? ? ? ? ?) [الملك: 11].
ولهذا قال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [الأنعام: 45].
فهذا قطع إهلاك يحمد عليه الرب تعالى، لكمال حكمته وعدله، ووضعه العقوبة في موضعه، الذي لا يليق به غيرها، فلا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة.
ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن الحكم بين عباده يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 75].
فكأن الكون كله قال: الحمد لله رب العالمين، لما شاهدوا من حكمة الحق وعدله وفضله وإحسانه.
وقد أخبر سبحانه أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة، كما قال سبحانه عن نوح ^: (? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژژ ڑ ڑ ک کک ک گ گ گ گ ? ? ? ??) [الشعراء: 117-121].
ولما سأله نوح ^ نجاة ابنه أخبر أنه يغرقه بسوء عمله وكفره، ولم يقل إني أغرقه بمحض مشيئتي بلا ذنب ولا سبب.(4/36)
كما أنه سبحانه ضمن زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم، وكذلك ضمن زيادة الهداية، وحصول البركات للمتقين، الذين يتبعون رضوانه.
وأخبر سبحانه أنه لا يضل إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وأنه إنما يضل من آثر الضلالة على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه إنما يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به، ودفعه ورده.
فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه للحق، وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته كما قال سبحانه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 23].
وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن يصلح للهداية هداه، ولا يضل إلا الفاسقين والظالمين، ولا يهدي المسرفين والمكذبين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، وإذا أعرض عن الله أعرض الله عنه.
فيختار العبد لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى، والغي على الرشاد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الصف: 5].
فهؤلاء لما انصرفوا عن الحق باختيارهم عاقبهم الله فلم يوفقهم للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، لأنهم أغلقوا على أنفسهم أبواب الهدى.
وأما المكر الذي وصف الله به نفسه، فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة.
وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه، فهي منهم أقبح شيء، ومن الله أحسن شيء، لأنها عدل ومجازاة.(4/37)
أما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا الرجل عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه، فإن فيه آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، فلو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.
وأما شأن إبليس، فإن الله قال لملائكته: (? ? ? ? ??) [البقرة: 30].
فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا تعلمه الملائكة.
فلما أمرهم الله بالسجود، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد لأمر الله فبادروا إلى الامتثال والطاعة.
وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وأما خوف أولئك من مكره فحق، فإنه يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم، فيصيروا إلى الشقاء.
فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمة ربهم.
أما قوله سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 99].
فهذا إنما هو في حق الكفار والفجار، ومعناه: فلا يعصي ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون.
والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الذنوب، فيحصل لهم نوع اغترار، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة وفترة قبل التوبة.
أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، فيكون مكره بهم تخليه عنهم.
أو أن يعلم سبحانه من ذنوبهم، ما لا يعلمون من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.
أو يبتليهم ويمتحنهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنوا به وذلك مكر.
هذا خطر الجهل بأسماء الله وصفاته، يولد مثل هذه الطامات، والقول على الله بلا علم، وظن الناس بربهم غير الحق.
فماذا ينتظر هؤلاء من العقوبة؟
(? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الأنعام: 144].(4/38)
وأما الجهل بدين الله وشرعه، فقد نشأ بسببه من البدع والمخالفات ما عمَّ وطمَّ، وبلغ السهل والجبل.
والناس متفاوتون في ذلك، فمن الناس من يعبد الله مخلصاً لكن على جهل، ومنهم من ابتدع في الدين عبادات لم يشرعها الله ورسوله، فصارت عبادات يتقرب بها الجاهلون إلى الله، ويدافعون عنها، ويعادون من أنكرها عليهم، ويدعون الناس إليها، وينسبونها لله ورسوله فبأي شيء يفرح الشيطان بأكثر من هذا؟.
(ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 21].
وأما الجهل بقضائه وقدره، فقد نشأ بسببه نسبة ما لا يليق به إليه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فالجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم، والعارف إنما يشكو إلى الله وحده.
وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 79].
فالمراتب ثلاث:
أخسها أن تشكو الله إلى خلقه.. وأعلاها أن تشكو نفسك إليه.. وأوسطها أن تشكو خلقه إليه.
والجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة في ثنايا التاريخ.. وليست المقابل لما يسمى بالعلم والحضارة.
وإنما حقيقة الجاهلية: هي رفض الاهتداء بهدي الله.. ورفض الحكم بما أنزل الله.. ورفض العمل بشرع الله.
فالجاهلية في الحقيقة هي التي تستنكر هدى الله.. وتستحب العمى على الهدى.. وتزعم أن ما هي فيه هو الخير المحض.. وأن ما تدعى إليه من الهدى هو الضرر والخسران كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [فصلت: 17].
وزوال هذه الجاهلية يكون بالإيمان، والأعمال الصالحة، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله.
ولما جاء الإسلام ذهب الكفر، ولما جاء الحق زهق الباطل.
وذهاب الإسلام يكون على يد أربعة أصناف من الناس:(4/39)
صنف لا يعملون بما يعلمون.. وصنف يعملون بما لا يعلمون.
وهذان الصنفان فتنة لكل مفتون، فالأول العالم الفاجر، والثاني العابد الجاهل، والناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على العامة والخاصة، فليحذر العبد من هؤلاء، ولا يخالف قوله فعله: (? ? ? ں ں ? ? ??) [الصف: 2].
والصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44].
والصنف الرابع: الذين يمنعون الناس من العلم والعمل، ويثبطونهم عنهما، وهؤلاء هم نواب إبليس في الأرض، وهم أضر على الناس من شياطين الجن.
وهؤلاء كالسباع الضارية، ومَنْ قبلهم كالأنعام السائمة.
والله حكيم عليم، يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في طاعته، والله أعلم بمن يصلح لهذا، ويصلح لهذا.
والله عزَّ وجلَّ أعطاك السمع والبصر والعقل.. وعرفك الخير والشر.. وبين لك ما ينفعك وما يضرك، وأرسل إليك رسوله، وأنزل عليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل.. وأعانك بمدد من جنده الكرام يحفظونك ويثبتونك، ويحاربون عدوك.
أمرك الله بشكره لا لحاجته إليه، بل لتنال به المزيد من فضله.
وأمرك بذكره، ليذكرك بإحسانه إليك، وأمرك بالسؤال ليعطيك، بل أعطاك أجلَّ العطايا بلا سؤال.
فكيف ينسى الإنسان ربه، ويكفر بنعمه، ويسأل غيره، ويشكو مَنْ رَحِمَهُ إلى من لا يرحمه، ويتظلم ممن لا يظلمه، ويدعو من يعاديه ويظلمه.
ألا ما أجهل الإنسان بربه.. وما أظلمه لنفسه ولغيره.
إنْ أنعم الله عليه بالصحة والعافية، والمال والجاه، استعان بنعمه على معاصيه، وإن سلبه ذلك ظل ساخطاً على ربه وهو شاكيه، لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء.
العافية والمال تلقيه إلى مساخطه، والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته، وشكايته إلى خلقه.(4/40)
عجيب أمر هذا الإنسان؟.. وغريب منه الإعراض والكفران؟.
دعاه الله إلى بابه فما وقف عليه، ثم فتح له فما عرج عليه، أرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته فعصاه، وقال: لا أبيع ناجزاً بغائب، ولا أترك ما أراه لشيء سمعت به.
ومع هذا الجحود والإعراض لم يؤيسه من رحمته، بل قال: متى جئتني قبلتك، ومتى استغفرتني غفرت لك، رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقوبتي: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 156].
إن الإنسان بالعلم والإيمان تحصل له الطمأنينة والسكينة، والانقياد والتسليم، وطاعة الله ورسوله.
وبسبب الجهل والكفر تحصل له الوحشة والاضطراب، والرياء والاستكبار، ومعصية الله ورسوله، والاعتراض على أسماء الله وصفاته، والاعتراض على شرعه وقدره.
وقلَّ من يسلم من هذا، فكل نفس بسبب الجهل معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفساً اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة، فأناخت ببابه.
ألا ما أعظم الجهل بالرَّب والدين والشرع.
ماذا يملك الإنسان من أمره إذا كانت ناصيته بيد الله، ونفسه بيده، وقلبه بين إصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، وحياته وموته بيده، وسعادته وشقاوته بيده، وعافيته ومرضه بيده، وغناه وفقره بيده؟.
وحركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله بإذن الله ومشيئته؟
إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى عجز وضيعة، وتفريط وخطيئة.
وإن وكله إلى غيره وكله إلى من لا يملك له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وإن تخلى عنه استولى عليه عدوه، وجعله أسيراً له، فهو لا غنى له عنه طرفة عين، ومع ذلك فهو لجهله متخلف عنه، معرض عنه، يتبغض إليه بمعصيته مع حاجته إليه.
نسي ذكره، واتخذه وراءه ظهرياً مع أنه إليه مرجعه، وبين يديه موقفه، وفوق هذا رافق عدوه، واستجاب لأوامره: (? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 38].(4/41)
وقد ذم الله عزَّ وجلَّ أهل الجهل في كتابه، وشبههم بالأنعام، بل وصفهم بأنهم أضل سبيلاً كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44].
وأخبر سبحانه بأن الجهال شر الدواب عند الله، على اختلاف أصنافها من الحمير والسباع، والكلاب والحشرات، وسائر الدواب والأنعام.
فالجهال شر منهم، وليس على دين الرسل أضر من الجهال، بل هم أعداؤه على الحقيقة، كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ) [الأنفال: 22].
فهؤلاء الجهال صمٌّ عن استماع الحق.. بكْمٌ عن النطق به.. لا يعقلون ما ينفعهم.. ولا يؤثرونه على ما يضرهم.. فهم شر من جميع الدواب.. لأن الله أعطاهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ليستعملوها في طاعة الله، فاستعملوها في معاصيه، وحرموا بذلك أنفسهم وغيرهم خيراً كثيراً، فكانوا شر البرية، ولو أطاعوا الله وآمنوا به لكانوا من خير البرية.
وأخبر سبحانه عن عقوبته لأعدائه بأن منعهم علم كتابه ومعرفته وفقهه فقال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 45، 46].
وأثنى على عباده المؤمنين بالإعراض عنهم وتركهم فقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑک) [القصص: 55].
ومن أعظم الجهال بالله الذين قالوا اتخذ الله ولداً، قالها اليهود في العزير، وقالها النصارى في عيسى. وقالها المشركون في الملائكة.
وأي حاجة بالغني القوي الذي له ملك السموات والأرض أن يتخذ ولداً؟
أيعينه الولد في تدبير الملك؟ أم يخلفه على خلقه؟
فأيُّ جهل بعظمة الخالق فوق هذا؟
(? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ??) [البقرة: 116].
إن الله أرسل الأنبياء والرسل ليجمعوا الناس على الدين، فجمعوهم عليه فتحابوا، ولو جمعوهم على الدنيا لتقاتلوا عليها.(4/42)
والجاهلية في أي مكان.. وفي أي زمان.. تجمع الناس وتجعل الرابطة بينهم. أحياناً الدم والنسب.. وأحياناً الأرض والوطن.. وأحياناً القوم والعشيرة.. وأحياناً الحرفة والطبقة.. وأحياناً المصالح المشتركة.
وكل هذه تصورات جاهلية تخالف مخالفة أصيلة دين الله عزَّ وجلَّ، وتطل بوجهها الكالح الخادع، وتفسد حياة الناس، وتغير فطرتهم.
ويعيش الناس في ظلها في عذاب وعناء، وشدة وفساد، وكل ذلك مما يشترك فيه الإنسان مع البهائم، بل مع الكلاب والحمير.
لقد كان الكفار في مكة، وما زالوا في كل مكان وزمان يتخذون الأوثان والأصنام لينالوا بها النصر، بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد، أو يصيبها بسوء، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? چ چچ) [يس: 74، 75].
فأي سخف وأي جهل انحدر إليه البشر فوق هذا؟
وأعظم ما يلهي الناس عن الله والدار الآخرة هو طلب التكاثر في الأموال والأولاد، والتمرغ في الشهوات، والتفاخر بذلك كما قال سبحانه: (ژ ڑڑ ک ک کک) [التكاثر: 1، 2].
والتكاثر والتفاخر في كل شيء، فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية.
فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال.. ومن الناس من يلهيه التكاثر بالأولاد.. ومنهم من يلهيه التكاثر بالعلم أو بالجاه، فيجمعه تكاثراً وتفاخراً.
ومن جمع العلم تكاثراً وتفاخراً فهو أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه، فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها، وكاثر بأسبابها.
والنعيم التام: هو في الدين الحق علماً وعملاً، فأهله هم أصحاب النعيم الكامل، والشقاء التام: هو في الباطل علماً وعملاً، وأهله هم أصحاب الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گگ) [الانفطار: 13، 14].(4/43)
ولكن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب.. وما ينال كثيراً من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والأموال وغيرها.
فيعتقد لجهله أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل.
وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، فإذا سمع في القرآن: (گ گ ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 8].
وقوله عزَّ وجلَّ: (? ? ? ??) [الصافات: 173].
ونحو هذه الآيات، حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فإننا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، والقرآن لا يرد بخلاف الحس.
ويعتمد على هذا الظن، إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، ويرى صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق.
فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال هذا في الآخرة.
وإذا قيل له كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق؟.
فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله بالحكم والمصالح قال: يفعل الله في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد: (? ? ? ? ? ??) [الأنبياء: 23].
وإن كان ممن يعلل الأفعال قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة، وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب.
ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحث وأجوبة بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك.
والقلوب تغلي كالقدور بما فيها من حلو ومر، وطيب وخبيث، وحق وباطل.
وكثير من الناس لجهله يصدر منهم من التظلم للرب تعالى واتهامه، ما لا يصدر إلا من عدو، ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة سببها أمران:(4/44)
أحدهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب لله عليه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأن نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه.
الثاني: اعتقاده أن الله سبحانه قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا، بل يعيش عمره مظلوماً مقهوراً، مع قيامه بما أمره الله به ظاهراً وباطناً.
فهو عند نفسه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وهو تحت أهل الظلم والفجور والعدوان.
فلله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل.. ومتدين لا بصيرة له.. ومنتسب إلى العلم لا معرفة له؟.
ومعلوم أن العبد وإن آمن بالآخرة، فإنه طالب في الدنيا لما لا بدَّ له منه، من جلب نفع، ودفع ضر، بهما قوام معيشته.
فإذا اعتقد أن الدين الحق، واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة، ينافي ذلك، وأنه يعادي جميع أهل الأرض، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه وتجرده لله ورسوله.
فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين.. بل قد يدخل مع الظالمين.. بل مع المنافقين.
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لا بدَّ له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.
فسبحان الله كم صدَّت هذه الفتنة الكثير من الخلق عن القيام بحقيقة الدين؟
وأصل ذلك ناشئ من جهله بحقيقة الدين، وجهله بحقيقة النعيم، الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها.
فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم.
وكمال العبد أن يكون عارفاً بالنعيم الذي يطلبه، وبالعمل الذي يوصله إليه، مع إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم.
والعبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق ظاهراً وباطناً، فهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه، وما هو المراد منه.(4/45)
فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدراً ونوعاً وصفة.
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين.
فهذا من جهله بوعد الله ووعيده، وما أعده الله لأهل طاعته، وما أعده لأهل معصيته.
فأما المقام الأول، فإن العبد كثيراً ما يترك واجبات لا يعلم بها، فيكون مقصراً في العلم، وكثيراً ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلاً وإما تهاوناً، وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك من الأسباب.
فواجبات القلوب أشد وجوباً من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات.
فترى بعض الناس يتحرج من ترك فرض أو واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها من التقوى والتوكل، والخشية والإنابة، والخوف والرجاء، ونحو ذلك.
ويتحرج من فعل أدنى المحرمات الظاهرة، وقد ارتكب من محرمات القلوب كالنفاق والرياء، والحسد والكيد، ونحو ذلك مما هو أشد تحريماً، وأعظم إثماً.
بل ما أكثر من يتعبد لله بترك ما أوجب الله عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقرب إلى الله بذلك مجتمع على ربه.
فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظنه أنه من خواص أوليائه وأصفيائه.
والله عزَّ وجلَّ إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق.
وكذلك العزة والعلو إنما هو لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال.
فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 129].
وله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه: (گ گ ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 8].(4/46)
فإذا فات العبد حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علماً وعملاً، ظاهراً وباطناً.
وكذلك الدفع عن العبد بحسب إيمانه، فإذا ضعف الدفع عنه، فهو من نقص إيمانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 38].
وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان: (? ? ? ? چ چ چ چ?) [الأنفال: 64].
فكفاية الله لهم بحسب اتباعهم لرسوله وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله.
وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [غافر: 51].
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد.
ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما ذلك بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: (? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 141].
فانتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل.. فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم.. فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى.
فالمؤمن عزيز عالٍ، مؤيد منصور، مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهراً وباطناً: (? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہہ) [محمد: 35].
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله، يحفظهم الله بها، ويعزهم بها، وينصرهم بها.
وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط واللبس، فكثير من الناس لجهله يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائماً، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى، وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده.
وهذا سببه الجهل، وسوء الفهم لكتاب الله، فإنه سبحانه بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [غافر: 51].(4/47)
وما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدوه عليه، فذلك بسبب ذنوبه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الشورى: 30].
وفوق هذا لا بدَّ أن نعلم أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والأذى والمحن دون ما يصيب الكفار، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير، والواقع شاهد بذلك.
وما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا، فمعولهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته.
فإنهم كلما شاهدوا العوض، هان عليهم تحمل المشاق، بخلاف الكفار فلا رضا عندهم ولا احتساب: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 104].
والمحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب في رضا محبوبه مستحلى غير مسخوط، فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه، ورفعة له.
وما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العزِّ والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وهوان، وأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» أخرجه مسلم(1).
وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2999).(4/48)
وما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه في بعض الأحيان، أمر لازم لا بدَّ منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم.
فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين.
فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالماً غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه، ولفاتت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر.
وفي ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم حكم عظيمة:
منها استخراج عبوديتهم لله وذلهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مغلوبين مقهورين، لما قامت للدين قائمة، ولا قامت للحق دولة.
فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، وإذا غَلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لدخل معهم من ليس قصده الدين، ولو كانوا مغلوبين مقهورين لم يدخل معهم أحد.
ولكي يتميز من يريد الله ورسوله، ومن يريد الجاه والدنيا، جعل الله لهم الدولة تارة.. وعليهم تارة: ( ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پپ) [آل عمران: 140، 141].
والله سبحانه حكيم عليم، يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم.
فلكل حالة عبودية خاصة لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والراحة والتعب، والري والعطش، والشبع والجوع.
فامتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم.(4/49)
والله سبحانه إنما خلق السموات والأرض، وخلق الحياة والموت، وزيَّن الأرض بما عليها، لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلم من يريده ممن يريد الدنيا وزينتها، وليعلم الصادق من الكاذب: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 2، 3].
فلا بدَّ من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن قد يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة.
والكافر والمنافق والفاجر قد تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم والحسرة، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم البتة.
والإنسان لا بدَّ له أن يعيش مع الناس، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم.
والكافر كالأعمى الذي يتردى في حفرة، لا بدَّ من رحمته والأخذ بيده قبل أن يسقط، ولو تركناه حتى يسقط نكون ظالمين.
فكذلك الكافر لو تركناه على كفره حتى يموت يدخل النار، فلا بدَّ من رحمته ودعوته والأخذ بيده، والإحسان إليه، حتى يدخل نور الإيمان في قلبه.
ولكن أكثر المسلمين اليوم بسبب جهلهم وغفلتهم تركوا العاصي ومعصيته، فكيف بالكافر، وحُرموا الحزن على العاصي، ثم حرموا الحزن على الكفار، فقل نزول الهداية بسبب ترك الدعوة، والفكر في هداية البشرية، وتحول الفكر من الإيمان والأعمال الصالحة، إلى الفكر في زيادة الأموال وتملك الأشياء.
وهذا كله من جهل الإنسان بربه، وكفره بنعمه، فإن الإنسان كفور للنعم، إلا من هدى الله، فمَنَّ عليه بالعقل السليم، واهتدى إلى الصراط المستقيم، فإنه يعلم أن الخالق البارئ المصور، العزيز الرحيم، الغني الكريم، الذي يكشف الشدائد، وينجي من الأهوال، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، وتخلص له سائر الأعمال في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء.
لقد أكرم الله بني آدم بجميع وجوه الإكرام.(4/50)
فكرمهم بالعلم والعقل، والسمع والبصر، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب.
وجعل سبحانه منهم الأولياء والأصفياء، والصديقين والشهداء، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.
وحملهم سبحانه في البر على الإبل والخيل، والبغال والحمير، والمراكب البرية والجوية.
وحملهم سبحانه في البحر على السفن والمراكب.
ورزقهم سبحانه من الطيبات من المآكل والمشارب، والملابس والمناكح فما من طيب تتعلق به حوائجهم إلا وقد أكرمهم الله به، ويسره لهم غاية التيسير.
وفضلهم عزَّ وجلَّ على كثير من خلقه، بما خصهم به من المناقب، وفضلهم به من الفضائل التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات كما قال سبحانه: (کک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں?) [الإسراء: 70].
أفلا يقوم الناس بشكر من أولى النعم، وحباهم بها، ودفع عنهم النقم؟.
ألا ما أجهل البشر حين تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم، بل ربما استعانوا بها على معصيته؟
إن كل من كان في هذه الدنيا أعمى عن الحق فلم يقبله ولم ينقد له، بل اتبع الشر والضلال فهو في الآخرة أعمى عن سلوك طريق الجنة، كما لم يسلكه في الدنيا، وأضل سبيلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 72].
وضلال البشر ضربان:
الأول: ضلال في العلوم النظرية الاعتقادية كالجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ووحدانيته.
وهذه يعبر عنه بالضلال البعيد كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 12].
الثاني: ضلال في العلوم العملية كالجهل بالأحكام الشرعية كالعبادات والمعاملات كالصلاة والصيام، والبيوع والحدود ونحوها.
يا من أكثر عمره قد مضى في الجهل والغفلة، أما تخاف مصرعاً تحت الثرى، وحساباً بين الورى؟
ألا ما أخطر الجهل والتعصب إذا اجتمعا على العبد؟
نعوذ بالله من جهل بلا علم، ومن سفه بلا حلم، ومن دنيا بلا دين، ومن جزم بلا علم.
3- خطر الكفر
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 161].(4/51)
وقال الله تعالى: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ںں) [النساء: 56].
كان الناس أمة واحدة على فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، ثم جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، ليردوهم إلى فطرة التوحيد، وليحكموا بينهم بكتاب الله الذي يشتمل على الأخبار الصادقة، والأوامر العادلة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک کک) [البقرة:: 213].
وبعد بعثة الرسل كان الناس ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: أهل الإيمان والصدق، الذين استقر الإيمان في قلوبهم، وظهرت آثاره على جوارحهم، وهؤلاء خير الناس كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البينة: 7].
الطائفة الثانية: أهل الكفر والشرك، الذين استقر الكفر والشرك في قلوبهم، وظهرت آثاره على جوارحهم، فهؤلاء أخسر الخلق وأضلهم وأشرهم كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البينة: 6].
الطائفة الثالثة: أهل النفاق، الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، وهؤلاء أشر الطوائف عند الله، وعذابهم من أشد العذاب يوم القيامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 145، 146].
وكما أن للإيمان أركاناً، فكذلك للكفر أركان.
وأركان الكفر أربعة وهي:
الكبر.. والحسد.. والغضب.. والشهوة.
فالكبر يمنع الإنسان من الانقياد للحق.. والحسد يمنعه من قبول النصيحة وبذلها.. والغضب يمنعه من العدل.. والشهوة تمنعه من التفرغ للعبادة.
فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد، وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة.
ومنشأ هذه الأربعة من أمرين:
جهل العبد بربه.. وجهله بنفسه.
والكفر بالله أقسام:(4/52)
أحدها: كفر صادر عن جهل وضلال وتقليد الأسلاف، وهو كفر أكثر الأتباع والعوام الذين يقولون: (? ? ? ? ? ? ? ? ?ٹ) [الزخرف: 23].
الثاني: كفر جحود وعناد وقصد مخالفة الحق، ككفر اليهود والنصارى، وزعماء قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وغالب ما يقع هذا النوع فيمن له رئاسة علمية في قومه كالأحبار والرهبان.. أوله رئاسة سلطانية كفرعون وكسرى وقيصر.. أوله تجارة وأموال في قومه كقارون وأبي بن خلف.
فيخاف هذا على ماله، وهذا على سلطانه، وهذا على مكانته، فيؤثر الكفر على الإيمان عمداً.
الثالث: كفر إعراض محض، فلا ينظر فيما جاء به الرسول، ولا يحبه ولا يبغضه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل هو معرض عنه إلى غيره.
وموانع الإيمان كثيرة:
فقد يعرف الإنسان الحق، ويلتذ به ويحبه، لكن يمنعه مانع من قبوله، إما لضعف المعرفة.. أو لعدم الأهلية وإن كانت المعرفة تامة كالأرض الصلبة لا تنتفع بالماء، فكذلك القلب الحجري لا يقبل التزكية ولا تؤثر فيه النصائح، كما لا تنبت الأرض الصلبة، ولو أصابها كل مطر.
والسبب الثالث: قيام مانع من حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهذان داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وهما اللذان منعا اليهود والمنافقين وزعماء قريش من الإيمان، حملهم الكبر والحسد على الكفر بالله ورسوله.
والسبب الرابع: مانع الرياسة والملك، وإن لم يكن بصاحبه حسد أو كبر، لكن يمنعه من الانقياد الضن بالملك والرياسة، كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار.
وهو داء فرعون وقومه الذين قالوا: (? ? ? ? ? ? ) [المؤمنون: 47].
والسبب الخامس: مانع الشهوة والمال، وهو الذي منع كثيراً من الناس من الإيمان، خوفاً من بطلان مآكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم الكفار.
وكذلك الرغبة في الشهوات من الخمر والزنا، فتتفق قوة داعي الشهوة والمال، وضعف داعي الإيمان، فيجيب داعي الشهوة والمال.(4/53)
السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة، فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، فيبقى على كفره بينهم.
السبب السابع: محبة الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب، ولكن يرى أن في الإسلام خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة، فيضن بداره ووطنه عن الإسلام.
السبب الثامن: من رأى أن في الإسلام، ومتابعة الرسول، إزراءً وطعناً منه على آبائه وأجداده، وذماً لهم.
وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام، لئلا يسفه عقول وأحلام آبائه وأجداده، حتى قال عند موته لما عرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام: هو على ملة عبد المطلب، مع يقينه بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه.
السبب التاسع: متابعة من يعاديه من الناس للرسول صلى الله عليه وسلم ، وسبقه إلى الدخول في الإسلام، وعلو شأنه فيه، فيحمله ذلك على معاداة الحق وأهله، كما جرى لليهود مع الأنصار، فلما أسلم الأنصار، وكانوا أعداء اليهود، حملتهم معاداتهم لهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم.
السبب العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ، وهذا السبب أغلب على الأمم، فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس، فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثابتة، وعن دار إلى دار أخرى.
فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، خصوصاً خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم .
كيف غيروا عوائد الأمم الباطلة، وطريقة حياتهم المعوجة، ونقلوهم إلى الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق العالية، وبذلوا كل ما يقدرون عليه من أجل إعلاء كلمة الله.
وكل من كفر بالله واستكبر عن عبادة الله لا بدَّ أن يعبد غيره، فالإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وكل إرادة لا بدَّ لها من مراد تنتهي إليه، فلا بدَّ لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته.
فمن لم يكن الله معبوده، ومنتهى حبه وإرادته، فلا بدَّ أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله.(4/54)
إما المال.. وإما الجاه.. وإما الصور.. وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله كالشمس والقمر.. والكواكب والأوثان.. وقبور الأنبياء والصالحين.. أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً من دون الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 31].
وكلما كان العبد أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله، ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو مقصود القلب، ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات، إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه.
وكلما قويت عبودية العبد لله أبرأه الله من الكبر والكفر والشرك.
والكبر غالب على اليهود.. والشرك غالب على النصارى.
واليهود كثيراً ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به، حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل، ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها، وهي من صفات خلقه.
والنصارى كثيراً ما يعدلون المخلوق بالخالق، حتى جعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية، وصفات الإلهية، ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
(ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
وكلما كان في القلب حب لغير الله، كانت فيه عبوديته لغير الله بحسب ذلك، ولا يجوز لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا يخرجه من الإسلام بعمل، إلا إذا تضمن ترك ما أمر الله به كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت فإنه يكفر به.
وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة كالصلاة والزكاة ونحوهما.
وعدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة كالشرك والفواحش، والظلم والقتل ونحو ذلك.(4/55)
والإنسان لا يقطع علاقته بالله، ولا يبتعد عنه، إلا إذا تغلبت عليه الأهواء واللذات، فيقبل عليها ويبتعد عن ربه، ويشتغل بها عن طاعة الله وعبادته.
وسبب هذا الضلالة والجهالة التي قادته إلى الكفر والذل والهوان، فإن الله أكرم الإنسان فخلقه بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة.
وجعله أشرف المخلوقات، ليتذوق حلاوة الإيمان، ولذة مناجاة الله، وسماع كلامه، والابتهاج بذكره.
فكيف يذل نفسه الكريمة فيتخذ حجراً أو صنماً أو معبوداً غير الله، ويفقد شعوره بعظمته ومكانته؟.
وكيف يذل نفسه لنظيره، أو لما هو أدنى من نوعه، ذل عبودية وعبادة؟
وقد يذل نفسه لعضو من أعضائه، فيكون عبداً له، كمن يصرف كل قواه الفكرية في نيل شهوة بطنه ليأكل ما حل وحرم، أو فرجه لينكح ما حل وحرم، أو أذنه ليسمع ما حل وحرم، أو عينه فيرى ما حرم الله، أو لسانه فيتكلم بما يغضب الله.
فيكون الإنسان بذلك من أذل العبيد وأحقرهم، لأن تلك الأعضاء خلقها الله لتخدمه وتنفعه، لا لتسخره وتستعبده.
وسبب هذا كله جهالته، فإن كمال الإنسان بقهر ملذاته الحسية بإرادته، والإقبال على كمالاته الروحية وإخضاعها لأوامر الله عزَّ وجلَّ.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد.
ويطلق الطاغوت على كل ما صرف عن عبادة الله وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه.
فالشيطان طاغوت.. لصرفه الناس عن عبادة خالقهم، وإغوائه لهم حتى عبدوا غير الله، وسفكوا الدماء، وأحلوا الحرام، وحرموا الحلال.
والأوثان والأصنام، والقباب والأشجار التي تعبد من دون الله، كلها طواغيت.. لأنها صرفت عن عبادة الله تعالى بعبادة الناس لها.
والحاكم بغير ما أنزل الله طاغوت.. لأنه نصب نفسه منصب الإله المشرع، فبدل أن يحكم بما أنزل الله، تجاوز ذلك وأصبح يحكم بهواه، وتجاوز حده من عبد لله ينفذ أحكام الله إلى مشرع يحكم بما يريد.(4/56)
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نؤمن بالله ونعبده، ونكفر بالطاغوت ونجتنبه أياً كان شكله ومنزلته:
سواء كان إنساً أو جناً، أو حجراً أو شجراً، أو وهماً أو خيالاً، أو هوى أو شهوة، أو مالاً أو جاهاً، أو وظيفة أو غيرها كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [النحل: 36].
فكل ما صرف القلوب عن طاعة الله إلى طاعة غيره فهو طاغوت.
وكل ما تنعم به الكافرون من النعم، وكل ما تركوه من واجبات الدين كالصلاة والزكاة والصيام ونحوها، وكل ما اقترفوه من الآثام والمحرمات، فهذا كله يحاسب عليه الكفار يوم القيامة.
لكنهم إذا أسلموا لا يجب عليهم قضاء الواجبات، لأنهم كفار، سواء كانت الرسالة بلغتهم أم لم تبلغهم، وسواء كان كفرهم جحوداً أو عناداً أو استكباراً أو جهلاً.
وإذا أسلم الكفار فإن الله يغفر لهم ما سلف من الذنوب كما قال سبحانه:
(? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [الأنفال: 38].
وكما أن الإيمان له شعب، فكذلك الكفر له شعب كالكذب والشك، والسخرية والكبر، والنفاق والظلم، والحسد والبغي ونحو ذلك.
فكفار مكة لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام عارضوه بشعب الكفر والشرك.
فكذبوا بوحي الله فقالوا: (پ پ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 91].
وشككوا في وحدانية الله فقالوا: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [ص: 5].
وأنكروا لقاء الله يوم القيامة فقالوا: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ?) [ق: 3].
وسخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (? ? ? ? ??) [الفرقان: 41].
واقترحوا أن يكون مع الرسول ^ ملك كما قال سبحانه: (گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ??) [الفرقان: 7].
وقالوا لو أنزل هذا القرآن على ذي سلطان ومال لاتبعناه: (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [الزخرف: 31].
وقالوا لرسول الله ^ لو اتبعناك فمن يحمينا من الناس؟
(ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 57].(4/57)
إلى آخر ما قالوا من الكذب والبهتان، والتهكم، والسخرية، والعناد والجحود، وما فعلوه برسول الله من السب والأذى.
والله عزَّ وجلَّ يأمره بالصبر والحلم عليهم كما قال سبحانه: (ڑ ک ک ک ک گ گگ) [المزمل: 10].
ويأمره بالثبات على الدين، ولزوم عبادة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ?? ? ? ? ? ??) [الحجر: 97-99].
ومن أقبل على الله وطلب هداه، شرح الله صدره للإسلام، وملأ قلبه بالإيمان، واستعمل جوارحه في طاعته وعبادته.
ومن أعرض عن الهدى فلم يسمعه ولم يطلبه ولم يقبله، شقى في الدنيا والآخرة، واستعمل الشيطان فكره وقلبه وجوارحه في معصية الله، وسخطه وغضبه: (? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 38].
وأمهات الذنوب والمعاصي تنحصر في أربع صفات:
الأولى: صفات ربوبية.. ومنها يحدث الكبر والفخر، وحب المدح والثناء، والعز وطلب الاستعلاء ونحو ذلك.
الثانية: صفات شيطانية.. ومنها يتشعب الحسد والبغي.. والحيل والخداع.. والمكر والنفاق.. والغش والفساد والإفساد.
الثالثة: صفات سبعية.. ومنها يتشعب الغضب والحقد، والتهجم على الناس بالقتل والضرب، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، والظلم والقهر.
الرابعة: صفات بهيمية.. ومنها يتشعب الشره، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، فيتشعب من ذلك الزنا والفواحش، والسرقة وأخذ الحطام لأجل الشهوة ونحو ذلك، وهذه أكثر ذنوب الخلق، لعجز أكثرهم عما قبلها.
وهذه الصفات التي يتمرغ فيها الكفار لها تدرج في الفطرة.
فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً.. ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً.. فإذا اجتمعت هاتان استعملتا العقل في الصفات الشيطانية من المكر والخداع والحيل.
ثم تغلب الصفات الربوبية فيحدث الكبر والفخر، وحب المدح، وحب العلو.
ثم تتفجر الذنوب من هذه المنابع إلى الجوارح، فتفسد بقية المملكة.(4/58)
فبعضها في القلب كالكفر والبدع والنفاق.. وبعضها في العين والأذن واللسان.. وبعضها في البطن والفرج.. وبعضها في الأيدي والأرجل.
وهذه الذنوب منها ما يتعلق بالنفس.. ومنها فيما بين العبد والرب.. ومنها فيما بين العبد والخلق: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 14].
وبسبب ترك الدعوة إلى الله يزداد الكفر والشرك والبدع، ويكثر الخراب والفساد، وقد حرمنا الحزن على الكفار، ثم حرمنا الحزن على العصاة، ثم انتقلت إلينا صفات الكفار، ثم قام فينا من يدعو إليها، ويحمل الناس عليها، وذلك كله بسبب ترك الدعوة.
والكفار يعيشون في الدنيا عيشة البهائم، ويقضون أوقاتهم كالأنعام على حد سواء، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، ولا صلاة ولا صيام.
بل هم أضل من الأنعام، لأنهم لم يستعملوا ما وهبهم الله من العقول والأسماع والأبصار فيما خلقت له من عبادة الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 179].
وإذا كان الناس يعيشون على الهوى لا على الهدى فكم تكون المصائب؟
وكم يكون الاضطراب في العالم؟.. وكم تفسد الحياة والأحياء؟.
فالهدى يوحد الحركات في العالم.. والهوى يحدث التصادم في العالم.
وإذا كان لكل إنسان هوى خاص فكم تكون الأهواء في العالم؟
وكيف تستقيم الحياة وكل يريد تحقيق هواه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 50].
والله تبارك وتعالى خلق الخلق ليعبدوه.. وركب فيهم العقول ليعرفوه.. وأسبغ عليهم نعمه ليشكروه.. وأرسل إليهم الرسول ليطيعوه.. وأنزل عليهم الكتاب ليتبعوه..
فمتى يعرف الناس قدر هذه النعم؟.. ومتى يدركون قيمة هذا التكريم لهم من ربهم؟.. ومتى يشكرون من أنعم عليهم بجزيل النعم؟
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 12].
والكفر موجب للعذاب والشقاء والخلود في النار يوم القيامة، وبحسب غلظ الكفر يكون غلظ العذاب يوم القيامة.(4/59)
وغلظ الكفر الموجب للعذاب له ثلاث مراتب:
الأولى: من حيث العقيدة الكافرة في نفسها كمن جحد رب العالمين بالكلية، وعطل العالم عن الرب الخالق المدبر له، فلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كفرعون وهامان وقارون.
وهؤلاء هم الدهرية الذين جحدوا وجود الرب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [الجاثية: 24].
الثانية: تغلظه بالعناد والضلال عمداً على بصيرة، مثل من شهد قلبه أن الرسول حق، لما رآه من آيات صدقه، وكفر عناداً وبغياً كقوم ثمود، وقوم فرعون، وكفر أبي جهل وزعماء قريش ونحوهم.
الثالثة: من سعى في إطفاء نور الله، وصد عباده عن دينه، بما تصل إليه قدرته.
فهؤلاء أشد الكفار عذاباً يوم القيامة، وعذابهم بحسب غلظ كفرهم، فمنهم من يجتمع في حقه الجهات الثلاث، أو اثنتان، أو واحدة، فليس عذاب هؤلاء كعذاب من هو دونهم في الكفر: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ??) [النحل: 88].
فمن دون هؤلاء في الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون منه في سلامة فلا ينالهم منه أذى، ولم يتغلظ كفره كتغلظ أولئك، بل هو مقر بالله ووحدانيته وملائكته، وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر، وإن شارك أولئك في كفرهم بالرسول، فقد زادوا عليه أنواعاً من الكفر.
فكُفر أبي طالب ليس ككفر أبي جهل وأمثاله ممن آذوا الرسول والمؤمنين وحاربوهم، وعذاب أبي طالب أخف من عذاب أبي جهل وأمثاله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أهْوَنُ أهْلِ النَّارِ عَذَابًا أبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» أخرجه مسلم(1).
فالمؤمنون في الجنة متفاوتون في الدرجات، والكفار في النار متفاوتون في الدركات، كل حسب عمله ينعم أو يعذب، ويكرم أو يهان.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (212).(4/60)
وأهل الكفر والشرك هم أصحاب الظلمات، المنغمسون في الجهل، بحيث أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹٹ) [محمد: 12].
وأعمالهم كلها ظلم وظلمات وهباء، فلا يقبل منها شيء في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الفرقان: 23].
وما عملوه من خير في الدنيا يجازون به في الدنيا من صحة في الأبدان، ونماء في الأموال، ورغد في العيش، حتى يلاقوا ربهم يوم القيامة وليس لهم حسنة واحدة يجزون بها.
والكافر ظالم، والمشرك ظالم، ومن كان ظالماً يعيش في الظلمات في الدنيا والآخرة:
ظلمة الكفر.. وظلمة الشرك.. وظلمة الجهل.. وظلمة الشك والريب.. وظلمة الإعراض عن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 1].
فأنى يكون لهذا الظالم الذي يعيش في الظلمات نوراً بدون نور الإيمان؟
وكيف تكون حاله إذا فقد النور في الدنيا والآخرة؟
(? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
فكل معرض عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في بحور الهم والغم والظلمات، وإن كان فيما يرى الناس سعيداً.
فقلبه مظلم.. ووجهه مظلم.. وكلامه مظلم.. وعمله مظلم.. وفكره مظلم.. وحياته مظلمة.. ومصيره إلى الظلمة. (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ??) [البقرة: 257].
فتلاطم أمواج الشبه والباطل في صدور الكفار كتلاطم أمواج البحار.
وقد شبه الله عزَّ وجلَّ أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له.(4/61)
وجعل الأكثرين أضل سبيلاً من الأنعام، لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق، فلا تحيد عنها يميناً ولا شمالاً، والأكثرون يدعونهم الرسل، ويهدونهم السبيل، فلا يستجيبون ولا يهتدون، ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم.
والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه، وبين ما ينفعها فتؤثره: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 44].
والله عزَّ وجلَّ لم يخلق للأنعام قلوباً تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل الله لهم من القلوب والعقول والألسنة والأسماع والأبصار.
فهم أضل من البهائم، فمن لا يهتدي إلى الرشد، وإلى الطريق مع الدليل، أضل وأسوأ حالاً ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.
والمؤمن حي، والكافر ميت، والميت لا يخاطب بأحكام الله الشرعية، ولا يطلب منه العمل بها، فإن القلب إذا مات لم يعد فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل، ولا إرادة للحق، وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما.
فإذا دخل الإيمان في قلبه دبت فيه الحياة، وصار حياً يعرف الحق ويقبله ويحبه، ويعمل به، ويؤثره على غيره كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [الأنعام: 122].
والله جلَّ جلاله فعال لما يريد، يمحو ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب.
والختم والطبع، والغشاوة والقفل، عقوبات عاجلة للكفار في الدنيا كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [البقرة: 6، 7].
ويمكن للعبد أن يفعل الأسباب التي يكشف الله بسببها عنه الطبع والختم، وفتح ذلك القفل يفتحه الذي بيده مفاتيح كل شيء.
فأسباب الفتح مقدورة للعبد، وإن كان فتح القفل، وفك الختم، غير مقدور له، كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة، وحصول العافية، غير مقدور له.(4/62)
فإذا استحكم به المرض لم يكن له عذر في ترك ما يستطيع من أسباب الشفاء، وإن كان الشفاء غير مقدور له.
فالعبد إذا عرف الهدى فلم يحبه، ولم يرض به، وآثر عليه الضلال، مع تكرر تعريفه بما يضره وما ينفعه، فقد سدَّ على نفسه باب الهدى بالكلية، ولو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده نفعه وهداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده الله فهو ضال، وسأل الله أن يقبل بقلبه، وأن يقيه شر نفسه، وفقه الله وهداه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ) [العنكبوت: 69].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ» أخرجه مسلم(1).
ولو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك الضلال، ورغب إلى الله في فك ذلك عنه، وفعل مقدوره، لكان هداه أقرب شيء إليه.
لكن إذا استحكم الطبع والختم، حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكه، وفتح قلبه.
والرين الذي غطى الله به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [المطففين: 14].
فغلظ الكفر سببه سوء الكسب والعمل، وكلما زاد زاد الرين الذي يمنع من قبول الحق ومعرفته ومحبته والعمل به.
والطبع والختم والغشاوة عقوبات لم يفعلها الله بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان، ودعاه إليه.
وإنما عاقبه الله بها بعد تكرار الدعوة منه للكفار، وتكرار الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوبهم، ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك.
والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع، بل كان منهم اختياراً، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).(4/63)
وليس هذا حكماً يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفاراً قبل ذلك، ولم يختم على أسماعهم وقلوبهم.
فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين معاندين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا، بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، وبعضهم بخسف ديارهم.
فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب، كما يعاقب بالطمس على الأعين. وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت، ثم يعافي عبده ويهديه، كما يعاقب بالعذاب كذلك.
وكيف يكفر العبد بربه وهو الذي خلقه، ووهبه الحياة، ثم يميته، ثم يحييه، ثم يعود إليه؟ فكما ذرأهم في الأرض إليه يحشرون، فيجازي كلاً بعمله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 28].
أفيليق بالناس أن يكفروا بربهم وهم تحت تصرفه وتدبيره، ويتقلبون في نعمه؟.
وهل هذا إلا جهل عظيم، وسفه وحماقة، وإنكار للجميل والإحسان؟
فاللائق بأهل العقول أن يؤمنوا بالله ويتقوه ويشكروه، ويخافوا عذابه، ويرجوا ثوابه.
وكيف يكفر بالله من خلق الله له ما في الأرض جميعاً، وجعله خليفة في الأرض، مالكاً لما فيها؟.
إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض من بين المخلوقات فكيف لا يطيع ربه الذي خلقه ورزقه، وملكه وسوده؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 29].
إن الكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء العظام كفر قبيح بشع، مجرد من أي حجة أو برهان.
والقلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً، إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له.
ومن يرتد عن الإسلام بعد ما ذاقه وعرفه، فارتد تحت مطارق الأذى والفتنة، فمصيره عند الله:
حبوط عمله في الدنيا والآخرة، ولزوم العذاب في النار خلوداً: (? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [البقرة: 217].(4/64)
ولا زال أعداء هذا الدين من الكفار والمشركين، واليهود والنصارى، والمجوس والمنافقين يكيدون له ويحاربون أهله، ويشككون في حقائقه، وينهون عنه وينأون عنه: (ک ک ک ک گ گ گ گ ??) [البقرة: 217].
لقد كفر الكفار بآيات الله، ولبسوا الحق بالباطل، وضلوا وأضلوا، ومكروا بالمسلمين وكادوا لهم، ودسوا في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون، وما سلم شيء من التراث الإسلامي إلا كتاب الله عزَّ وجلَّ، الذي تكفل بحفظه إلى يوم الدين، فسلم من التحريف والتبديل، ومن الزيادة والنقصان.
ودسوا في التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي بما يندى له الجبين، ودسوا ولبسوا وجندوا من الرجال والنساء بالمئات والألوف من الكفار الذين كانوا دسيسة خبيثة على التراث والمجتمع الإسلامي.
والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على أيدي الصهيونية الماكرة، والصليبية الحاقدة، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات والخيانات والغدر والفساد ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين.
وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً يركض في كل مكان، تراه العيون وتبصره في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل مجتمع، وفي كل دولة (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [البقرة: 109].
ورغبة الكفار إخراج المسلمين من النور إلى الظلمات، ومن الإيمان إلى الكفر: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ?ں) [النساء: 89].
ولكن الله عزَّ وجلَّ حفظ دينه، وما تزال مثابة الأمان والنجاة من كيدهم هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ، والعودة إليه، والعمل بما فيه فهو الحق، ومن قام به فالله معه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [الحج: 40، 41].(4/65)
ألا ما أخطر كيد الكفار؟، وما أشد لسعته، خاصة مع غفلة المسلمين وتفرقهم وتناحرهم فيما بينهم مما سبب فشلهم: (? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 46].
وقوى الكفار منتشرة في أنحاء العالم، ولهذه القوى الماكرة اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيش جرار من المنافقين، في صورة علماء ودعاة، وفلاسفة ودكاترة، وباحثين وفنانين، وصحفيين وأطباء، وغيرهم، يحملون أسماء إسلامية، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة.
وهذا الجيش المنظم من المنافقين موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، وتوهين العقيدة والشريعة في الأمة على حد سواء، وتمجيد حياة الأعداء، والتزين بزيهم، ونقل أجساد أهل الشهوات إلى ديارهم، وجلب طلاب المسلمين إلى مدارسهم ليحملوا أفكارهم، وينفذوا رغباتهم في أجسادهم وجسد الأمة الكبير، ويسعون لإطلاق الشهوات من عقالها، وسحق قواعد الأخلاق، لتخر الأمة في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً: (? ? ? ? ??) [التوبة: 30].
إنهم يريدون تحويل العالم الإسلامي إلى قطيع من الأنعام التي لا تعرف إلا قضاء شهواتها، ولا تبالي بما وراء ذلك: (ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [البقرة: 217].
ويتعاون شياطين الإنس والجن معاً، فيقفون بالعداوة والأذى للأنبياء وأتباعهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليخدعوهم به، ويغروهم بحرب الرسل، وما جاءوا به من الهدى.
وقدر الله أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للحق وأهله، ومن الضلال والفساد في الأرض، وقد شاء الله ذلك كله لحكم يعلمها سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک) [الأنعام: 112، 113].(4/66)
وهؤلاء الأعداء من شياطين الإنس والجن لا يفعلون شيئاً من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وأتباعهم وإيذائهم بقدرة ذاتية فيهم، إنما هم وأهل السموات والأرض في قبضة الله وتحت قهره.
لكنه سبحانه يبتلي بهؤلاء عباده المؤمنين لأمر يريده من تمحيص هؤلاء الأنبياء وأتباعهم، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء، فإذا اجتازوا الامتحان بقوة، كف الله عنهم الابتلاء، وكف عنهم هؤلاء الأعداء، وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله، وآب أعداء الله بالضعف والخذلان، وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم.
وكل هذا الكيد محاط بمشيئة الله وقدره، وما يضر هؤلاء أحداً من أولياء الله بشيء إلا بما أراد الله في حدود الابتلاء: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفتح: 24].
ألا ما أخطر الكفر والشرك والتعطيل والإلحاد.
ولما كان أحب الأشياء إلى الله عزَّ وجلَّ حمده ومدحه والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر به، وهو شر من الشرك، فالمعطل أشر من المشرك.
فإنه لا يستوي جحد صفات الملك وحقيقة ملكه، والتشريك بينه وبين غيره في الملك.
فالمعطلون هم أعداء الرسل بالذات، بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل، فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن السوء به لما أشرك به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ?? ژ ژڑ) [الصافات: 86، 87].
أي فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟
وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟
أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟
أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك؟
أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟.
أم ظننتم أنه قاس فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟
أم هو ذليل فيحتاج إلى أولياء يتكثر بهم من قلة، ويتعزز بهم من ذلة؟(4/67)
أم يحتاج إلى الولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه؟
تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 68].
فما أسوأ هذا الظن بالله، وما أخسر من ظن به ظن السوء، ونسب إليه ما لا يليق به وبجلاله وعظمته وكبريائه: (چ چ چ چ ? ? ? ? ??) [فصلت: 23].
ألا ما أخطر الجهل على الإنسان، وما أشنع الكفر والشرك بالله، وما أقبح الكذب على الله ورسوله.
لقد قال الكفار: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [ص: 5].
(? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الإسراء: 49].
(گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [الفرقان: 7، 8].
فهل فوق هذا من جهل بالله وآياته ورسله؟
لقد جهلوا أشد الجهل، حيث كذبوا على الله ورسوله، وجحدوا آيات الله، وقاسوا قدرة الجبار خالق السموات والأرض بقدرتهم الضعيفة العاجزة، وأنكروا ما يحيل العقل والحس إنكاره، وضلوا ضلالاً بعيداً.
فسبحان من جعل خلقاً من خلقه يزعمون أنهم أولو العقول والألباب مثالاً في جهل أظهر الأشياء وأجلاها، وأوضحها برهاناً، وأبينها وأعلاها، ليري عباده أنه ما ثم إلا توفيقه وعونه، أو الهلاك والضلال: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 8].
4- خطر الشرك
قال الله تعالى: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 48].
وقال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
الكفر والشرك إذا افترقا فهما بمعنى واحد، وهو الكفر بالله تعالى.
وإذا اجتمعا في آية أو حديث أو كلام، فالمراد بالكفر جحود الخالق سبحانه، والمراد بالشرك جعل شريك لله من مخلوقاته، وإشراكه معه في العبادة.(4/68)
الشرك بالله أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، وأنجس النجاسات، ولذلك كان أبغض الأشياء إلى الله، وأكرهها له، وأشدها مقتاً لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه لشدة نجاستهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [التوبة: 28].
وحرم سبحانه ذبائح أهل الشرك، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم وأولادهم ونساءهم أن يتخذوهم عبيداً.
ونجاسة الشرك نوعان:
نجاسة مغلظة.. ونجاسة مخففة.
فالنجاسة المغلظة: هي الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عزَّ وجلَّ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به إذا مات العبد ولم يتب منه.
والنجاسة المخففة: هي الشرك الأصغر كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به، وخوفه ورجائه.
ونجاسة الشرك عينية كالبول والغائط، بل هي أنجس منهما.
فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم.
والأعيان النجسة إما أن تؤذي البدن، أو القلب، أو تؤذيهما معاً، والنجس قد يؤذي برائحته، وقد يؤذي بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة.
والنجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة، فيغلب على القلب والروح الخبث والنجاسة.
حتى إن صاحب القلب الحي ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها كما يتأذى من يشم رائحة النتن، ويظهر ذلك كثيراً في عرقه.
ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الناس عرقاً.
وإذا خرجت النفس الطيبة من البدن، وجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض، وإذا خرجت النفس الخبيثة من البدن وجد لها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.
فالشرك أقبح القبائح، وأنجس النجاسات، لأنه هضم لحق الرب، وتنقيص لعظمته، وسوء ظن به كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ےے) [الفتح: 6].(4/69)
فلم يجمع الله عزَّ وجلَّ على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا بالله ظن السوء، وما قدروا الله حق قدره، إذ سووا به غيره كما قال الله عن المشركين أنهم يقولون لآلهتهم في النار: (? ں ں ? ? ?? ? ? ہ ہہ) [الشعراء: 97، 98].
ومعلوم أنهم ما سووهم بالله في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا إن آلهتهم خلقت السموات والأرض، ولا أنها تحيي وتميت.
وإنما سووها به في محبتهم لها، وتعظيمهم إياها، وعبادتهم لها.
فما قدر الله حق قدره من جعل له عدلاً ونداً وشريكاً يحبه كحب الله، ويخافه ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، وهذا هو الضلال البعيد، والافتراء العظيم، والظلم الكبير. (? ? ? ? ?? ژ ژڑ) [الصافات: 86، 87].
فما ظننتم به من السوء حتى عبدتم معه غيره؟
فإن المشرك إما أن يظن أن الله عزَّ وجلَّ يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو عون.
وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته.
وإما أن يظن أنه تعالى إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أولا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفي عبده وحده، أولا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به.
أولا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كما هو حال ملوك الأرض، وهذا أصل شرك الخلق.
أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقاً فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه به كما يتوسل الناس إلى الملوك والأكابر يمن يعز عليهم، ولا يمكنهم مخالفته.(4/70)
وكل هذا تنقص للرَّب، وهضم لحق الإله، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه من قلب المشرك، وذلك بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص ويضعف ذلك التعظيم والخوف والرجاء والمحبة بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه لكفى في شناعته.
فالشرك كله تنقص لرب العالمين شاء المشرك أم أبى.
ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه في النار، ويجعله أشقى البرية.
فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله سبحانه وإن زعم أنه يعظمه بذلك الشرك.
كما أنك لا تجد مبتدعاً إلا وهو متنقص للرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة، فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى، أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلاً، وإن كان مستبصراً في بدعته فهو مشاق لله ورسوله.
ولهذا جعل الله البدعة قرينة الشرك في كتابه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 33].
وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عزَّ وجلَّ، ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك.
واستقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة كبول الصبي الرضيع، والنجاسة في محل الاستجمار ما لا يعفى عن المغلظة.
وكذلك يعفى عن صغائر الذنوب ما لا يعفى عن الكبائر، ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك.
فلو لقي المسلم الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه ربه بقرابها مغفرة.
ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك، فالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، فإنه يتضمن من محبة الله وتعظيمه وإجلاله، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي فلا تثبت معه.(4/71)
ولكن نجاسة الزنا وفاحشة قوم لوط أغلظ من غيرهما من النجاسات من جهة أنها تضعف القلب وتفسده وتضعف توحيده جداً.
ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً.
فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصاً كان منها أبعد كما قال الله تعالى عن يوسف: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [يوسف: 24].
وليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تعبيد القلب لغير الله، فإنهما من أعظم الخبائث، وكلما ازداد القلب خبثاً ازداد من الله بعداً.
ولما كانت هذه حال الزنا كان قريناً للشرك في كتاب الله كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [النور: 3].
والله سبحانه سمى الزناة والزواني خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل فد شرعت فيه الطهارة وإن كان حلالاً، وسمى فاعله جنباً لبعده عن الصلاة حتى يتطهر بالماء.
فكذلك إذا كان حراماً يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان حتى يحدث طهراً كاملاً بالتوبة، وطهراً لبدنه بالماء.
فالعاصي إنما ينقم على أهل الطاعة تجريدهم الطاعة وتركهم المعصية كما حكى الله عن قوم لوط قولهم: (پ پ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 82].
وهكذا كل مشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالشرك.
وهكذا المبتدع إنما ينقم على صاحب السنة تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بما يخالفها: (? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 59].
والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان:
قوم نوح.. وقوم إبراهيم.
فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم دعوا الله عندها، ثم عبدوها من دون الله.
وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر.
وكل هؤلاء إنما يعبدون الجن، فإن الشياطين تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وتتصور لهم بصور الآدميين، فيرونهم بأعينهم.(4/72)
والجن كالإنس فيهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والمنافق والفاسق. والشياطين من الجن يوالون وينفعون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان من الآدميين: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ??) [سبأ: 40، 41].
فنوح صلى الله عليه وسلم أول من غير الشرك الأرضي، وهو عبادة أهل الأرض للأصنام، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم أول من غير الشرك السماوي، وهو عبادة قومه للكواكب والنجوم.
وكلما ضعف الإيمان ضعف اليقين على الله، ثم حصل الشرك، فيبعث الله نبياً يرد الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حتى ختمهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع أهل الأرض إلى يوم القيامة بالإسلام الذي يقوم على أصلين:
شهادة أن لا إله إلا الله... وشهادة أن محمداً رسول الله.
ومعناها: عبادة الله وحده لا شريك له، على طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم ، في كل شأن من شئون الحياة، وامتثال أوامره سبحانه في جميع الأحوال، وتحقيق العبودية لله في كل أمر:
في العبادات.. والمعاملات.. والمعاشرات.. والأخلاق.
فعبادة الأصنام لا تعني فقط الصور الساذجة التي كان يزاولها العرب في الجاهلية مجسمة في أحجار أو أشجار، أو حيوان أو طير، أو نجم أو كوكب، أو أرواح أو نار.
فهذه الصور لا تستغرق الشرك كله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، فلا بدَّ من معرفة معنى الأصنام.
فالشرك بمعناه المطلق يتمثل في كل حالة لا يكون فيها الحكم لله.
فالإنسان الذي يتوجه إلى الله معتقداً بألوهيته، ثم يدين لله في الوضوء والصلاة والصيام وسائر الشعائر، بينما هو في الوقت ذاته يدين في معاملاته ومعاشراته وطريقة حياته لغير الله، ويدين في قيمه وأخلاقه، وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر، فهذا العبد إنما يزاول الشرك في أخص حقيقته، ويجعل مع الله شريكاً يطيعه.(4/73)
فلهؤلاء الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة كما قال سبحانه: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ?) [البقرة: 85].
فالإسلام هو توحيد الله في جميع الأحوال، وطاعته وحده في كل أمر وفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه.
لم يأت الإسلام بتحطيم الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل جاء ليُعبد الله وحده لا شريك له، وليكون الدين كله لله:
في كل أمر.. وفي كل هيئة.. وفي كل صورة.. وفي كل بلد.. وفي كل زمان. (ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 208].
والشرك قسمان:
أحدها: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو نوعان:
الأول: شرك التعطيل، وهو جحد الرب، وهو أقبح أنواع الشرك كقول فرعون: (? ? ??) [الشعراء: 23].
الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته، ولم يجحد ربوبيته كقول النصارى إن الله ثالث ثلاثة، ومنه شرك عباد الأصنام والكواكب الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر.
القسم الثاني: الشرك في العبادة، وهذا الشرك دون الأول، فإنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته.
فيعمل لحظ نفسه تارة.. ولطلب الدنيا تارة.. ولطلب الرفعة تارة.. فلله من عمله نصيب.. ولنفسه نصيب.. وللشيطان نصيب.. وللخلق نصيب.
وهذا حال أكثر الناس، فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فالرياء كله شرك، والتوحيد ضد الشرك.
فالواجب علينا كما أفردنا الله بالربوبية.. أن نفرده بالألوهية.. ونفرده بالعبودية: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 102].
وهذا الشرك مبطل للعمل كما قال سبحانه في الحديث القدسي: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2985).(4/74)
والشرك في العبادة يبطل ثواب العمل وهو قسمان:
شرك أكبر.. وشرك أصغر.
فالشرك الأكبر: هو صرف العبادة أو بعضها لغير الله كدعاء غير الله، والذبح لغير الله.. وسؤال غير الله مما لا يقدر عليه إلا الله كنزول الغيث، وشفاء المرضى ونحو ذلك.
ومن الشرك الأكبر الشرك بالله في المحبة والتعظيم، والطاعة والتأله، والخضوع والتذلل، والخوف والتوكل.
فمن أحب مخلوقاً أو عظمه، كما يحب الله ويعظمه، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله.
ومن أطاع العلماء والأمراء، والرؤساء والحكام، في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم شركاء لله في التشريع والتحليل والتحريم، وذلك كله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 31].
ومن خاف غير الله من وثن أو صنم أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يضره أو يصيبه بما يكره فقد أشرك بالله الشرك الأكبر، وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها، فمن صرفه لغير الله، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كما قال سبحانه: (ٹ ٹ ٹ ? ? ??) [آل عمران: 175].
ومن توكل على غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، كالتوكل على الموتى والغائبين ونحوهم في دفع المضار، وتحصيل المنافع والأرزاق والأولاد، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [المائدة: 23].
ويتبع هذا الشرك الشرك بالله:
في الأقوال.. والأعمال.. والإرادات والنيات.
فالشرك بالله في الأقوال كالحلف بغير الله، وقول الإنسان: ما شاء الله وشئت، أو مالي إلا الله وأنت، أو أنا متوكل على الله وعليك، أو أنا في حسب الله وحسبك، أو هذا من الله ومنك، أو هذا من بركات الله وبركاتك ونحو ذلك.
والشرك بالله في الأعمال كالسجود لغير الله، والطواف بغير بيته، والسجود للقبور، والطواف عليها، وتقبيلها واستلامها ونحو ذلك.(4/75)
والشرك بالله في الإرادات والنيات بحر لا ساحل له، وقلّ من يسلم منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته، وهذا حال أكثر الخلق كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 106].
فالسجود والعبادة، والتوكل والإنابة، والخوف والرجاء، والمحبة والطاعة والتوبة والدعاء، كله محض حق الله تعالى الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه: من ملك مقرب أو نبي مرسل فضلاً عن غيرهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الكهف: 110].
وحقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق، والتشبيه للمخلوق به، فالمشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية من التفرد بملك النفع والضر، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل بالله وحده.
فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، فضلاً أن يملكها لغيره، شبيهاً لمن له الخلق والأمر كله، وبيده كل شيء، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
وهذا من أقبح التشبيه، حيث شبه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له، والتعظيم والإجلال كله له، والخوف والخشية والرجاء كله له، والدعاء والمحبة والطاعة كلها له سبحانه.
فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا ندَّ له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله.
ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم فإن الله لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [النساء: 116].
ومن خصائص الإلهية العبودية وهي: غاية الحب لله، مع غاية التعظيم له، والذل له.
فمن أعطى حبه وذله وخضوعه وتعظيمه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه سبحانه.(4/76)
ومن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، وصرف له ما لا يستحقه.
وأما التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى مدحه وتعظيمه، والخضوع له، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته.
وما عبد أحد غير الله من الملائكة والكواكب.. والأصنام والأوثان، إلا وقعت عبادته للشيطان كما قال سبحانه: (?? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ) [يس: 60، 61].
وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [مريم: 44].
والله عزَّ وجلَّ كما أنه لا يرضى أن يكون معه آلهة أخرى يخلقون ويرزقون ويدبرون.. فإنه لا يرضى كذلك أن يكون معه آلهة أخرى يشرعون ويحللون ويحرمون.. ولا يرضى كذلك أن يكون معه آلهة أخرى يعبدون من دون الله.
فالشرك الأكبر:
مخرج من الملة.. ومحبط لجميع الأعمال.. مبيح للدم والمال.. وصاحبه مخلد في النار.
والشرك الأصغر:
ينقص التوحيد.. لكنه لا يخرج من الملة.. وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.. يعاقب عليه صاحبه.. ولا يخلد في النار خلود الكفار.
والشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال، لكن الشرك الأصغر يحبط العمل الذي قارنه، كأن يعمل عملاً لله يريد به ثناء الناس عليه، كأن يحسن صلاته أو يتصدق أو يصوم أو يذكر الله لأجل أن يراه الناس، أو يسمعونه أو يمدحونه.
فهذا الرياء إذا خالط العمل أبطله.
ومن الشرك الأصغر الحلف بغير الله، وقول الإنسان ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وفلان، ونحو ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» أخرجه أحمد وأبو داود (1).
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2354)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (137).
وأخرجه أبو داود برقم (4980) واللفظ له، صحيح سنن أبي داود رقم (4166).(4/77)
والشرك الأصغر قد يكون أكبرَ على حسب ما يكون في قلب صاحبه، فيجب الحذر من الشرك مطلقاً، الأكبر والأصغر، فالشرك ظلم عظيم لا يغفره الله.
والشرك نوعان:
شرك جلي.. وشرك خفي
فالجلي ما سبق ذكره، والخفي لا يكاد يسلم منه أحد، مثل أن يحب مع الله غيره، وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، وأكثر الأمة واقعون فيه كما قال سبحانه: (ٹ ? ? ? ? ? ? ?) [يوسف: 106].
فمن نقصت محبته لله أحب غيره، إذ لو كملت محبته لله لم يحب سواه، وكلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلَّت، وكلما ضعفت محبته لله كثرت محبوباته من المخلوقات وانتشرت.
وإذا كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وكلما نقص خوفه من ربه زاد خوفه من غيره.
وإذا كمل رجاء العبد في مولاه لم يرج أحداً سواه، وإذا نقص رجاؤه وضعف وقف بباب المخلوق ورجاه، وذل لغير مولاه.
ومن توكل على ربه كفاه، واستغنى به عمن سواه، وإذا نقص توكله توجه إلى المخلوق، واتكأ على عاجز مثله.
فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد يسلم منه أحد إلا من عصم الله سبحانه.
وكثيراً ما يقرن الناس بين الرياء والعجب.
فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس.
وهذا حال المستكبر:
فمن حقق (إياك نعبد) خرج من الرياء.
ومن حقق (وإياك نستعين) خرج من العجب.
فاللهم: (ٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الفاتحة: 6، 7].
واتخاذ الوسائط بين الله وخلقه قبيح عقلاً وشرعاً، فإن الوسائط بين الملوك والناس على أحد وجوه ثلاثة:
الأول: إما لإخبار الملوك عن أحوال الناس بما لا يعرفونه، والله عزَّ وجلَّ يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع لكل شيء، البصير بكل شيء، العليم بكل شيء، فلا يحتاج لذلك.
الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلضعفه وعجزه يتخذ أعواناً وأنصاراً.(4/78)
والله سبحانه هو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل كلهم محتاجون إليه.
الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج.
فإذا خاطب الملك من ينصحه أو يعظمه، أو يرجوه أو يخافه، تحركت همة الملك وإرادته لقضاء حوائج رعيته، وقبل شفاعتهم بإذنه وبدون إذنه، لحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة جزاء لإحسانهم إليه.
والله عزَّ وجلَّ لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني سبحانه، وهو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل شيء إنما يكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الملك وكل ما سواه عبيد: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 18].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [مريم: 93 ].
والمشرك إنما يتخذ معبوداً من دون الله لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من أربع:
إما مالك لما يريده عابده منه.. فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك.. فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً.. فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پپ) [سبأ: 22، 23].
فما أعجب حال المشرك، لقد استكبر عن الانقياد للرسل بزعمه أنهم بشر، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر والحجر، واستكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه من الأصنام، طاعة لأعدى أعدائه الشيطان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [الأحقاف: 5، 6].
ومن السفاهة والحماقة أن يتخذ الناس آلهة من دون الله، يعبدونها ويحبونها، ويرجونها ويخافونها، ويتقربون إليها، وهي غافلة عنهم لا تسمع ولا تعقل.(4/79)
فماذا خلقت هذه الآلهة، وماذا صنعت؟(ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الأعراف: 191].
وهذا الكون قائم معروض على الأنظار والقلوب فماذا لهم فيه؟
وأي قسم من أقسامه أنشأوه؟.. وأي جزء من أجزائه شاركوا في بنائه.
والله سبحانه يلقن رسوله صلى الله عليه وسلم ليواجه الكفار بشهادة كتاب الكون المفتوح، الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة فيقول: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحقاف: 4].
فهذه الأوثان والأصنام التي تعبدونها من دون الله ماذا عملت؟
هل خلقت من أجرام السموات والأرض شيئاً؟
هل خلقوا جبالاً؟.. هل أجروا أنهاراً؟.. هل خلقوا حيواناً؟.. هل أنبتوا أشجاراً؟.. هل أرسلوا رياحاً؟.. هل أنزلوا غيثاً؟.
هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟.. كلا.. وكلا.
فهذه الأنداد لا تملك نفعاً ولا ضراً، فهي عاجزة ضعيفة، وعبادة العاجز الضعيف الذليل قبيحة باطلة لا تليق بعاقل.
فهذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تستحق شيئاً من العبادة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الحج: 46].
فتلك المعبودات من دون الله لم تخلق شيئاً فكيف تُعبد؟
وليس هناك كتاب إلهي يقر هذا الشرك، أو بقية علم يقر خرافة هذه الآلهة التي تعبد من دون الله؟
فما أحسن العقل والفهم والبصيرة، وما أقبح الجهل والتقليد والتعصب؟ (ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 71].
وعقائد المشركين في مكة مختلفة:
فمنهم من يعبد الملائكة.. ومنهم من يعبد الجن.. ومنهم من يعبد الشمس والقمر.. ومنهم من يعبد الأصنام المختلفة.. وكل يعمل على شاكلته.
وكان أقل عقائدهم انحرافاً من يقولون عن هذه الآلهة: (ک ک گ گ گ گ ?) [الزمر: 3].
ومن العجيب حقاً أننا لو عرضنا على أحد المسلمين صنماً من الذهب، وقلنا هذا يأتي بالرزق والأولاد؟
لقال: أعوذ بالله هذا شرك.(4/80)
فإذا حولناه إلى نقود ذهبية وجئنا به إليه، قال هذا المسلم: احفظوه، فإنه قاضي الحاجات، المغني عن الناس، فارج الكربات، ومغيث اللهفات.
فبلسانه يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وبيده يمسك النقود الذهبية، كما يمسك الغريق بحبل النجاة.
وبقلبه يتعلق بها ويرى فيها قضاء حاجاته من دون الله.
وهذا هو الشرك الخفي الذي يقول الله عنه: (ٹ ? ? ? ? ? ??) [يوسف: 106].
إن أي فكرة وأي عقيدة وأي شخصية.. إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر.. وهذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من الحق الذي أمر الله به.
وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان المؤثرين في هذا الوجود، وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة وانتفاش.
والمشركون في أنحاء الأرض يشركون مع الله آلهة أخرى في صور شتى.
ويقوم الشرك ابتداءً على إعطاء غير الله سبحانه شيئاً من خصائص الإلهية ومظاهرها، ظلماً وعدواناً.
وفي مقدمة ذلك حق التشريع للعباد في شئون حياتهم كلها.
وحق الاستعلاء على العباد، وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات.
ثم تأتي مسألة تشريع العبادات الشعائرية للبشر، وكل ذلك ظلم للعباد.
فإن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد.
وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده لا شريك له.
ولتتلقى منه الشريعة والأخلاق والآداب بلا منازع.
ولتعبده وحده بلا أنداد.
فكل ما خرج عن قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق، ومن ثم فهو واهٍ هزيل، لا يحمل قوة ولا سلطاناً، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة، وكيف يؤثر وهو لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة؟.
وما دام المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً، فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء، وهم أبداً في رعب وخواء: (ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [آل عمران: 151].
وفطرة الله التي فطر الناس عليها تعرف ربها، وتلجأ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة.(4/81)
فالهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلاً دائماً إلى يوم القيامة، فالناس في الدنيا يصادفون ويواجهون الهول والكرب في ظلمات البر والبحر، فلا يتوجهون عند الكرب إلا إلى الله، ولا ينجيهم من الكرب إلا الله، ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء: (ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ?? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ?ہ) [الأنعام: 63، 64].
إن الفطرة عند الشدائد تلفظ كل شيء من دون الله، وتطرح كل شيء، وتتعرى من كل شيء، وتتوجه إلى بارئها وفاطرها، وتتجه إلى الإله الحق بلا شريك، ولا تلتفت لشيء سواه.
لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك، وتدرك انعدام الشريك.
والانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة.
والجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل.
إن الله عزَّ وجلَّ فطر كل نفس على التوحيد، فتتوجه إلى بارئها عند الخوف، وعند الطمع، وعند الشدة.
وكثير من الناس يعترفون بالله رباً، ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً، بينما يجعلون أوامر الطاغوت مقدمة، تخالف في سبيلها أوامر الله وشريعته، بل تنبذ نبذاً، لاعتقادهم أنها سبب التخلف والمصائب: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [القصص: 57].
والجاهلية القديمة على ما فيها من شرك أكثر أدباً مع الله، فقد كانت تتخذ مع الله آلهة أخرى لتقربها إلى الله زلفى.
فكان الله في حسها الأعلى.
فأما الجاهلية الحديثة، فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله سبحانه عندها.
فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة.. وتنبذ ما يأمر به الله نبذاً شنيعاً.
إن الله تبارك وتعالى يأمر المرأة بالعفة والحشمة، والفضيلة والقرار في البيوت، ولكن الوطن والإنتاج يأمرها بأن تخرج وتتعرى، وتعمل مضيفة سافرة على ظهور الطائرات، وصالات الفنادق، وساحات المصانع، وأماكن الرذيلة.
فمن الإله الذي تتبع أوامره؟
أهو الله سبحانه؟.. أم أوامر الطاغوت؟(4/82)
والله سبحانه يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة، ولكن الوطن والقومية تستبعد العقيدة، وتأمر أن يكون الجنس أو القوم هم القاعدة.
فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟
أهو الله جلَّ جلاله.. أم هي الآلهة المدعاة؟
والله عزَّ وجلَّ يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة، ولكن عبداً من العبيد أو مجموعة من الشعب تقول كلا، إن العبيد هم الذين يشرِّعون، وشريعتهم هي الحاكمة، وهذا كله قائم ظاهر في جميع بلاد الإسلام إلا ما شاء الله.
فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟
أهو الله سبحانه؟.. أم هي الآلهة المدعاة؟.
والقرآن الكريم يحاور المشركين، ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري أياً كانت طفولته فيقول: (ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الأعراف: 191، 192].
إن الإله الذي يخلق هو الذي يستحق أن يُعبد، فكيف يشركون به من لا يخلق، بل هو مخلوق؟
والملك الذي يملك أن يرزق عباده، ويملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم، هو الذي يجب أن يعبد.
فالخلق والأمر.. والقوة والقهر.. والغنى والملك.. هي خصائص الربوبية.. وموجبات العبادة والعبودية.
وما يشركون به لا قوة لها ولا سلطان، لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا نصر غيرهم، فكيف يجعلونها شريكة لله؟.
يا حسرة على العباد كيف لعب الشيطان بعقولهم إلى هذا الحد؟.
إن العقل البشري لو خلي بينه وبين واقع الأمة اليوم، وما حل بها من شرك وظلم وفساد، فإنه لا يقره ولا يرضاه.
ولكنها الشهوات والأهواء، والتضليل والخداع، هي التي جعلت البشرية ترتد إلى هذه الجاهلية، فتشرك بالله ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون.
إن البشرية لفي حاجة اليوم، كما كانت في حاجة بالأمس، إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى، لتؤوب إلى ربها، وتسعد بهداه.(4/83)
في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام، ويخرجها من الظلمات إلى النور، ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية، كما أنقذها الدين أول مرة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فهل من مشمر؟.
إن شرك تلقي الأحكام من البشر، مثل شرك عبادة الأوثان والأصنام سواء. هذا شرك في العبادة.. وهذا شرك في الشريعة.
وهذا كله شرك، وخروج من التوحيد الذي يقوم عليه دين الله، والذي تعبر عنه شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
والله تبارك وتعالى ينبه هؤلاء المشركين إلى سخف ما هم عليه من الشرك، إذ كيف يتخذون آلهة لا تخلق بل هي مخلوقة؟
ولا تنصر عبَادها، بل لا تملك لنفسها ولا لغيرها نصراً؟
أين عقول هؤلاء، كيف يدعون من دونهم أو أمثالهم؟
وكيف يدعون من لا يستجيب لهم؟.
وكيف يعبدون من هو غافل عنهم؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ?) [الأحقاف: 5، 6].
فما أعجب حال الإنسان إذا أضل؟
وما أخسر البشر الذين لا يستفيدون عن عقولهم؟
(ں ? ? ? ? ? ?ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [ الأعراف: 191-194].
إن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله أحجار هامدة، ليس لها أرجل ولا أيدي، وليس لها أعين ولا آذان، وليس لها عقول ولا إدراك.
هذه الجوارح التي تتوافر لهم هم، فكيف يعبدون ما هو دونهم من هذه الأحجار الهامدة؟: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 195].
فلا بدَّ لصاحب الدعوة إلى الله أن يستهين بهذه الأسناد والأصنام، وأن يتجرد منها، فهي في ذاتها واهية واهنة، مهما بدت قوية قادرة.
وحتى لو قدرت على أذاه، فإنما تقدر على أذاه بإذن ربه، فليواجههم بقوة مولاه، وليتوكل على الله: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ??) [الأعراف: 196].(4/84)
إن صاحب الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزيمة، وإلا بمثل هذا اليقين: (? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الحجر: 94-96].
ولقد كان مشركو العرب يعرفون أن الله هو خالق هذا الكون، فإن معرفتهم بالله لم تكن قليلة ولا سطحية ولا غامضة كما يظنه بعض الناس.
ولم يكن شرك العرب متمثلاً في إنكار الله سبحانه، ولا في عدم معرفتهم الحقيقة كما قال الله عنهم: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 38].
إنما كان أكثر شركهم يتمثل في عدم إخلاصهم العبودية لله، وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره، وهو ما لم يكن متفقاً مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم له.
فأما الأصنام التي كانوا يعبدونها، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهيتها كألوهية الله سبحانه.
وإنما اتخذوا الشعائر والعبادة لها، لتكون مجرد شفعاء عند الله كما قال سبحانه: (ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?) [الزمر: 3].
فلا يكفي للمسلم الاعتقاد وأداء الشعائر لله وحده فقط.. بل لا بدَّ مع ذلك من إقامة الحياة كلها على منهج الله.. وتحقيق التوحيد في شعب الحياة كلها.. ورفض العبودية لغير الله في كل عمل كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 162، 163].
وأهل الكتاب بعدما حرفوا كتابهم، وبدلوا شرائعه، هم كفار مشركون كما قال الله عنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 31].
والأحبار: جمع حبر، وهو العالم من أهل الكتاب، وكثر إطلاقه على علماء اليهود.
والرهبان: جمع راهب، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة، وهو عادة لا يتزوج، ولا يزاول الكسب.(4/85)
واليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم، ومع هذا فقد حكم الله عليهم بالشرك والكفر، لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها.
وهذا وحده يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله.
والآية الكريمة تسوي في الوصف بالشرك بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوهم واتبعوهم، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً، وقدموا إليه الشعائر في العبادة.
فهذه كتلك في اعتبار فاعلها مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من الإيمان إلى الكفر، ومن التوحيد إلى الشرك.
فالشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته، ولا تقديم الشعائر التعبدية له.
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالََ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ» وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ (? ? ? ? ? ? ?) [التوبة:31] قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» أخرجه الترمذي (1).
إن دين الحق الذي لا يقبل الله ديناً غيره هو الإسلام، والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة، بعد الاعتقاد بألوهيته وحده، وتقديم الشعائر التعبدية له وحده لا شريك له.
فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله، صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى.. من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله.
لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله، بغير إنكار منهم، يثبت منه أنهم لا يتبعونهم إلا عن إكراه واقع بهم، لا طاقة لهم بدفعه.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (3095)، صحيح سنن الترمذي رقم (2471).(4/86)
فالدين يتجلى في ثلاثة أمور:
إيمان في القلب.. وأداء الشعائر التعبدية لله.. وتنفيذ الشرائع التي أنزلها الله لعباده.
والذين يعتقدون بألوهية الله سبحانه، ويقدمون له وحده الشعائر، ويتلقون الشرائع من غيره، هم مشركون بنص القرآن.
وهذا أخطر شيء على الدين، وهو من أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه، الذين يخدعون بعض الناس على أنهم بهذا مسلمون.
والله سبحانه يقرر في أمثالهم أنهم مشركون، لا يدينون دين الحق، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 31].
وهؤلاء الأرباب يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، فيتبعونهم ويطيعونهم، فتلك عبادتهم إياهم.
والله تبارك وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين عما يعبدونه من الشركاء، وماذا يملكون من الأمر الذي به يستحقون العبادة؟.
فقال له: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 35].
والمشركون مقرون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق، ولكنهم غير مسلمين بإعادته ولا بالبعث والنشور كما قال سبحانه: (ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التغابن: 7].
ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق، ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم.
إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم، وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره، وعدله ورحمته.
وإذا كان هؤلاء الكفار يؤمنون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق، فما لهم لا يؤمنون بأنه كذلك قادر على أن يعيده، وهذه الإعادة قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يؤمنون به.
ثم يسألهم مرة أخرى: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 35].
هل من شركائكم الذين أشركتموهم مع الله من ينزل كتاباً، ويرسل رسولاً؟(4/87)
وهل فيهم من يضع نظاماً، ويشرع شريعة، وينذر ويوجه إلى الخير، ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس، ويوقظ القلوب الغافلة، ويحرك المدارك المعطلة، كما هو معهود لكم من الله، ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله، وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق؟.
ولوضوح الحجة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يهدي للحق، ومن هنا تنشأ قضية جوابها مقرر: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ??) [يونس: 35].
فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالإتباع ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهذا ينطبق على كل معبود من دون الله سواء كان حجراً أو شجراً أو كوكباً، أو كانوا من البشر بما في ذلك عيسى بن مريم عليه السلام، فهو ببشريته محتاج إلى هداية الله له، وإن كان هو قد بُعث هادياً للناس، فغيره من باب أولى.
فما أعجب حال أكثر البشر، كيف يحيدون عن الحق الواضح المبين، ويتعلقون بأوهام وظنون لا تغني من الحق شيئاً: (? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [يونس: 36].
وعجيب أمر هؤلاء الكفار إنهم يقرون أن الله خالق السموات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ولكنهم مع هذا يعبدون الأصنام أو الجن أو الملائكة، ويجعلونهم شركاء لله في العبادة، وإن لم يجعلوهم شركاء في الخلق، وهو تناقض عجيب.
فأنى يؤفكون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب؟
وعجيبة أخرى تقع منهم، وفيها التناقض والاضطراب: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [العنكبوت: 65].
فهم مضطربون متقلبون؟
إذا خافوا وحدوا الله في مشاعرهم وألسنتهم سواء.
وإذا أمنوا أشركوا مع الله غيره، وانحرفوا من التوحيد إلى الشرك.
وهذا الانحراف ينتهي بهم إلى الكفر بما آتاهم الله من النعمة، وما آتاهم من الفطرة، وما آتاهم من البينة، وأن يتمتعوا في الدنيا إلى الأجل المقدور، ثم تكون عاقبتهم الشر والسوء: (? ? ? ? ? ? چچ) [العنكبوت: 66].(4/88)
والشرك: معناه أن تجعل لله شريكاً في ربوبيته أوألوهيته، أو أسمائه أوصفاته.
فإذا اعتقد الإنسان أن مع الله خالقاً أو معيناً فهو مشرك.
وإذا اعتقد أن أحداً سوى الله يستحق أن يعبد فهو مشرك.
وإذا اعتقد أن لله مثيلاً في أسمائه أو صفاته فهو مشرك.
والشرك بالله ظلم عظيم؛ لأنه اعتداء على حق الله تعالى الخاص به وهو التوحيد، فالتوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم، وأقبح القبائح؛ لأنه تنقص لرب العالمين، واستكبار عن طاعته، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، ولعظيم خطره فإن الله لا يغفره.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ للشرك أربع قبائح في أربع آيات وهي:
1- قال الله تعالى: (? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 48].
2- وقال الله تعالى: (گ گ گ گ ? ? ??) [النساء: 116].
3- وقال الله تعالى: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ) [المائدة: 72].
4- وقال الله تعالى: (پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الحج: 31].
والجبت: هو كل ما لا خير فيه من السحر والكهانة والعرافة وغيرها، وهو من الشرك.
والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود كالأصنام، أو متبوع كعلماء الضلالة، أو مطاع كالأمراء والرؤساء، وهو من الشرك.
والعيافة: هي زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإن ذهب يميناً تفاءل، وإن ذهب شمالاً تشاءم، وهي من الجبت.
والطرق: هو الخط على الأرض على سبيل السحر والكهانة، ثم يقول: سيحصل كذا، أو حصل كذا، وهو من الجبت.
والتطير: هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم كالأيام والشهور، وهي من الجبت، وأضيفت إلى الطير؛ لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، وكان العرب يتشاءمون بالطير والمكان والزمان والأشخاص والنبات والحيوان، وهذا كله من الشرك.(4/89)
والكهان: هم رجال أو نساء في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، تنزل عليهم الشياطين التي تسترق السمع وتخبرهم، ثم يضيف الكاهن إلى هذا أخباراً كاذبة، فيقول: حصل كذا، أو سيقع كذا، فيصدقه الناس إذا وقع ما أخبر به، ويعتقدون أنه عالم بالغيب، وهذا من الشرك.
والعراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، ويخدع بها ضعاف العقول، وهذا من الشرك. وهناك أقوال وأفعال من الشرك أو من وسائله ومنها:
لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه، وذلك شرك، وتعليق التمائم على الأولاد، سواء كانت من خرز أو عظام أو كتابة، وذلك اتقاء للعين، وذلك شرك.
والتبرك بالأشجار والأحجار والآثار والقبور ونحوها، فطلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء شرك؛ لأنه تعلق بغير الله في حصول البركة.
والسحر: وهو عبارة عما خفي ولطف سببه، وهو عزائم ورقى وكلام يتكلم به، وأدوية، فيؤثر في القلوب والأبدان، فيقتل أو يمرض أو يفرق بين المرء وزوجه.
وهو عمل شيطاني، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك.
والسحر شرك؛ لما فيه من التعلق بغير الله من الشياطين، ولما فيه من ادعاء علم الغيب.
قال الله تعالى: (پ ? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 102].
وقد يكون السحر معصية من الكبائر إذا كان بأدوية وعقاقير فقط.
والاستسقاء بالنجوم هو عبارة عن نسبة نزول المطر إلى طلوع النجم أو غروبه كأن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فينسب نزول المطر إلى الكوكب لا إلى الله، فهذا شرك؛ لأن نزول المطر بيد الله، لا بيد الكوكب ولا غيره.
ونسبة النعم إلى غير الله شرك؛ لأن كل النعم من الله، فمن نسبها إلى غيره فقد كفر، وأشرك بالله.
كمن ينسب نعمة حصول المال أو الشفاء إلى فلان، أو ينسب نعمة السير والسلامة إلى السائق والملاح والطيار.
وينسب نعمة حصول النعم، أو اندفاع النقم، إلى جهود الحكومة أو الأفراد أو العلم ونحو ذلك.(4/90)
فيجب نسبة جميع النعم إلى الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النحل: 53].
والله جل جلاله خلق الخلق لعبادته، المتضمنة لكمال محبته وتعظيمه، والخضوع له.
ولهذا خلق الجنة والنار، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق السموات والأرض.
والله تبارك وتعالى يحب نفسه.. ويحمد نفسه.. ويقدس نفسه.. ويحب من يحبه.. ويحمده ويثني عليه.
بل كلما كانت محبة عبده له أقوى، كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثني عليه.
ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض شيء إليه، لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به.
ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه، وتنقص بها مرتبته عنده، إذا كان من المخلوقين.
فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة، والمخلوق لا يحتمل ذلك، ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً؟.
ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب، ولم يقربه إليه، هذا مقتضى الطبيعة والفطرة.
أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده، وبين غيره في هذه العبودية والمحبة؟.
(چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ) [البقرة: 156].
فما أجهل الإنسان وما أضله حين يعبد من دون الله أصناماً ناقصة في ذاتها وفي أفعالها، فلا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً؟.
بل لا تملك لنفسها شيئاً من النفع، ولا تقدر على شيء من الدفع، كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم مهجناً لأبيه عبادة الأوثان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [مريم: 42].
فهذا برهان جلي يدل على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله وأحواله مستقبح عقلاً وشرعاً.. فهل يليق بالإنسان عبادته، وترك عبادة الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؟.(4/91)
ومن شناعة الشرك وقبحه أن الحيوانات اشمأزت منه، فالهدهد جاء إلى نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بما رأى من الشرك، وصار داعياً إلى التوحيد، فقد ذهب الهدهد إلى مملكة سبأ، فلما جاء إلى سليمان قال له: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چچ ? ? ? ? ? ? ? ???) [النمل: 22-26].
فمتى يغار أهل التوحيد على البشرية من الشرك؟.
ومتى ينقذونهم من عدوهم الذي زين لهم الشرك والبدع والمعاصي؟.
ومتى يؤدوا أمانة الدعوة إلى التوحيد التي كلفهم ربهم بها؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
5- خطر النفاق
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 145].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 68].
المنافقون قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر، ومعاداة الله ورسله، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف منهم عذاباً، والمنافقون تحتهم في دركات النار.
فالطائفتان اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، وهم الذين يدلون العدو على عورات المسلمين، ويتربصون بهم الدوائر صباحاً ومساءً.
وهم أشقى الأشقياء، ولهذا يستهزأ بهم في الآخرة، كما استهزؤوا بالمسلمين في الدنيا، ويعطون نوراً يتوسطون به على الصراط، ثم يطفئ الله نورهم:
(ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ??) [الحديد: 13].
ويضرب الله بينهم وبين المؤمنين: (چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الحديد: 13-15].
فهؤلاء المنافقون خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداء.(4/92)
فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم، كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 3].
وجماعة المنافقين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام بعد أن غلب وظهر وعلا أمره.
فرأى هؤلاء أن حب السلامة، وحب الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام، وأن يكيدوا له داخل الصفوف سرا، بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف علانية.
وهؤلاء المنافقون إذا دعوا إلى الجهاد والبذل تخلفوا عن الركب، ونكصوا عن البذل، ومالوا إلى عرض تافه، أو مطلب رخيص في كل زمان، وفي كل مكان: (? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 42].
إن هؤلاء المنافقين يعيشون على هامش الحياة، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع، ونالوا مطالب، واجتنبوا أداء الثمن الغالي.
يهلكون أنفسهم بهذا الحلف، وبهذا الكذب، وما يكذب إلا الضعفاء الأقزام.
ويخيل إليهم أن الحلف والكذب على الناس سبيل النجاة.
والله يعلم الحق، ويكشفه للناس، ويهلك الكاذب في الدنيا والآخرة.
ألا ما أخطر المنافقين على المسلمين، خاصة في ميدان الجهاد، فالنفوس الخائنة خطر على الجيوش المتماسكة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 47].
إن القلوب الحائرة تبث الخدر والضعف في الصفوف، ولو خرج المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم، بل لزادوهم اضطراباً وفوضىً، ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة، والفرقة والتخذيل، وفي المسلمين من يسمع لهم.
والله عزَّ وجلَّ عليم بالمنافقين لا يبعث فيهم همة الخروج مع المسلمين للجهاد، لما يعلمه من سوء نواياهم، فأقعدهم مع القاعدين الذين لا يستطيعون الغزو، فهذا مكانهم اللائق بالهمم الساقطة، والقلوب المرتابة، والنفوس الخاوية من اليقين: (ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 46].(4/93)
وقد وقف المنافقون في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلوا ما في طوقهم لتمزيق كلمة المسلمين، حتى غُلبوا على أمرهم، فاستسلموا وفي القلب ما فيه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 48].
وكان ذلك عند مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، قبل أن يظهره الله على أعدائه، ثم جاء الحق، وانتصرت كلمة الله، فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون لله ورسوله ودينه، وأتباعه.
وظلوا يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين، وهم كذلك إلى يوم القيامة ولا يخلو منهم زمان ولا مكان.
إن الإيمان الحق متى استقر في القلب، ظهرت آثاره في السلوك، والإيمان عقيدة متحركة من الشعور الباطن إلى حركة سلوكية واقعية، فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم، ويبذلون في سبيله أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم.
والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها، ثم يدعها ويمضي مخالفاً لها، وقد كان المنافقون يدعون الإيمان، ويخالفون مدلوله: (ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 47].
وهذا الفريق الذي يدعي الإيمان، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان.
المنافقين الذين لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام، ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله إلا أن تكون لهم مصلحة، لعلمهم أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق، ولا ينحرف عن الهوى، ولا يتأثر بالمودة والشنآن.
هذا الفريق الناقص من الناس لا يريد الحق، ولا يطيق العدل، ومن ثم يعرضون عن التحاكم إليه: (ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہہ ھ ھ ھ ھ ے ے ??) [النور: 48، 49].
إن الرضا بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق، وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب، وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما يرفض حكم الله ورسوله إلا سيئ الأدب، لم يتأدب بأدب الإسلام، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان.(4/94)
إن حركة النفاق حركة مدنية، لم يكن لها وجود في مكة، لأنه لم يكن هناك ما يدعو إليها، فالمسلمون في مكة كانوا في موقف المضطهد الذي لا يحتاج أحد أن ينافقه.
فلما أعز الله الإسلام والمسلمين بالأوس والخزرج في المدينة، وانتشر في العشائر والبيوت، بحيث لم يبق بيت إلا دخله الإسلام، اضطر ناس ممن كرهوا للإسلام وللرسول أن يعز ويستعلي، ولم يملكوا في الوقت ذاته أن يجهروا بالعداوة، اضطروا للتظاهر بالإسلام على كره، وهم يضمرون الكفر والحقد والبغضاء، ويتربصون بالرسول وأصحابه الدوائر.
وكان وجود اليهود في المدينة، وتمتعهم فيها بقوة عسكرية ومالية، وكراهيتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ولدينه وأتباعه مشجعاً للمنافقين.
وسرعان ما جمعتهم البغضاء والحقد، فأخذوا جميعاً يحيكون الدسائس والمؤامرات في كل مناسبة ضد المسلمين.
فإن كان المسلمون في شدة جهروا بعدائهم وبغضائهم.. وإذا كان المسلمون في رخاء ظلت المؤامرات والدسائس سرية.. ودبرت المكايد في الظلام.
فما أخطر المنافقين الذين تولوا عن الإيمان بعد إذ شارفوه: (? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 25، 26].
ألا ما أخسر صفقة النفاق والمنافقين، إنهم عند الموت تُضرب وجوههم وأدبارهم، الأدبار التي ارتدوا إليها من بعد ما تبين لهم الهدى، فيا لها من مأساة وخسارة: (? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 27، 28].
فالمنافقون هم الذين اختاروا لأنفسهم هذا المصير، وهم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه من اليهود. وهم الذين كرهوا رضوانه فلم يعملوا له، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه، فأحبط أعمالهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 28، 29].(4/95)
تلك الأعمال التي يُعجبون بها، ويحسبونها مهارة وبراعة، يتآمرون بها على المؤمنين، ويكيدون لهم، فإذا بهذه الأعمال تورثهم ذلة في الدنيا، وعذاباً في الآخرة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 140].
إن بلية الإسلام والمسلمين بالمنافقين شديدة جداً، وخطرهم على المسلمين قوي جداً، لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه، يهدمون ويفسدون، ويزعمون أنهم مصلحون: (ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 11].
يخرجون عداوتهم للإسلام في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 32].
فارقوا الوحي، وتركوا الاهتداء به، ونزلت عليهم نصوص الوحي نزول الضيف على أقوام لئام، فقابلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام.
يرون أنفسهم أهل العلم والمعرفة، ويرون المتمسك من الناس بالكتاب والسنة سفيهاً غير مقبول، فلا يسمعون منه، ولا يستجيبون له: (? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 13].
ألا ما أخطرهم على جسد الأمة، لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والغل والكفران، ألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب المحاربين:
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 8].
رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والختر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ??) [البقرة: 9].
قد أنهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت المقاصد السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها: (? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 10].
فسادهم في الأرض كثير، يخرجون العباد من الدين، ويحولون بينهم وبين التصديق، لكل منهم وجهان:
وجه يلقي به المؤمنين.. ووجه ينقلب به إلى إخوانه الملحدين.
(? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 14].(4/96)
قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاءً بأهلهما واستحقاراً، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحاً بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا شراً، يستهزؤون بالمؤمنين، ويعظمون إخوانهم الكافرين: (? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 15].
خرجوا في طلب التجارة البائرة، والعلوم السافلة، في بحار الظلمات، فركبوا مراكب الشبه والشكوك، فهلكوا وأهلكوا وخسروا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البقرة: 16].
أضاءت لهم مصابيح الإيمان، فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال، ثم طغى ذلك النور، وبقيت نار تأجج ذات لهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون، وفي تلك الظلمات يعمهون: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ) [البقرة: 17، 18].
أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان.
وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن.
وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون.
(? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ) [البقرة: 18].
ألا ما أجهل المنافقين وما أسفههم، نزل عليهم صيِِّب الوحي، وفيه حياة القلوب والأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد، والأمر والنهي، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وجدوا في الهرب: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [البقرة: 19].
قام بهم الرياء وهو أقبح مقام قام به الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم ثقيلاً: (? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [النساء: 142].
هم بين الناس كالشاة التائهة بين الغنمين، تفيء إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة، ولا تستقر مع إحدى الفئتين، فهم واقفون بين الجمعين، ينظرون أيهم أقوى، وأعز قبيلاً: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 143].
يتربصون بالمسلمين الدوائر، فإن كان للمؤمنين نصر وغنائم قالوا ألم نكن معكم، وإن كان للكفار نصيب قالوا ألم نكن معكم ضد المؤمنين.(4/97)
ألا ما أسفه المنافقين؟.. حقاً إن المنافقين هم الكافرون:
(? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 141].
يعجب السامع من قول أحدهم لحلاوته ولينه، ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ولينه، فتراه عند الحق نائماً، وفي الباطل قائماً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ??) [البقرة: 204].
يأمرون بكل فساد، وينهون عن كل صلاح، يلبسون لباس التقوى، وفي قلوبهم الكفر البواح، يقول أحدهم ما لا يفعل: (? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [البقرة: 205].
ألا ما أخزاهم، وأشد كفرهم، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله أن ينفقوه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 67].
ألا ما أغلظ كفر المنافقين؟.. وما أقسى قلوبهم؟.. وما أخطر كيدهم؟.
إن حاكمتهم إلى صريح الوحي نفروا، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ??) [النساء: 61].
فكيف لهؤلاء بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم ودينهم؟.
وأنى لهم التخلص من الضلال والردى وقد اشتروا الكفر بالإيمان؟.
(? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [النساء: 62].
وقد أقسم الله عزَّ وجلَّ محذراً لأوليائه، ومنبهاً على حال هؤلاء بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 65].
تسبق يمين أحدهم كلامه، لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے?) [المنافقون: 2].
برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلما رأوا طول الطريق، وبعد الشقة، نكصوا على أعقابهم ورجعوا: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 3].
أحسن الناس أجساماً، وأخلبهم لساناً، وألطفهم بياناً، وأخبثهم قلوباً.(4/98)
فهم كالخشب المسندة، التي لا ثمر لها ولا ينتفع بها: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المنافقون: 4].
يؤخرون الصلاة عن وقتها، ولا يشهدون الجماعة إلا قليلاً: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژژ) [النساء: 142].
تلك معاملتهم للخالق، أما معاملتهم للخلق فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ، إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه(1).
يحلفون كذباً إنهم منكم وما هم منكم: (? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ??) [التوبة: 56].
ليس في قلوبهم شجاعة، يخافون إن أظهروا حالهم من المؤمنين، ويخافون أن تتبرؤوا منهم فيتخطفهم الأعداء، قد جمعوا بين رذيلتين: رذيلة الكذب، ورذيلة الجبن، فما أشد خوفهم وجبنهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ) [التوبة: 57].
إن أصاب المؤمنين عافية ونصر، ساءهم ذلك وغمهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله، وامتحان يمحص قلوبهم، ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 120].
ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملها فألقوها ووضعوها، وتفلتت منهم السنن فلم يحفظوها، ولم يعملوا بها، فأحبط الله أعمالهم: (? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 9].
وهؤلاء المنافقون متفقون تماماً مع أعداء الله ورسوله في محاربة الإسلام وأهله، ينفذون من ذلك ويظهرون حسب الظروف المناسبة: (ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [محمد: 26].
أسروا سرائر النفاق، فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم، وفلتات اللسان: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ??) [محمد: 29، 30].
فكيف بهم إذا جمعوا ليوم التلاق، وتجلى الله جل جلاله للعباد، وعُرضت أعمالهم عليهم في المعاد؟: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ??) [القلم: 43].
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33) واللفظ له، ومسلم برقم (59).(4/99)
وكيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطئ الأقدام، فقسمت بين الناس أنوار الإيمان، وبقوا هم في الظلمات يتخبطون.
تباً لهم إن ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكفار.
فماذا يقول المنافقون حينذاك؟.. وماذا يقال لهم؟.. وإلى أين يصيرون؟.
(ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [الحديد: 13-15].
إن زرع النفاق ينبت على ساقيتين:
ساقية الكذب.. وساقية الرياء.
ومخرجهما من عينين:
عين ضعف البصيرة.. وعين ضعف العزيمة.
فإذا تمت تلك استحكم نبات النفاق وبنيانه، ولكنه على شفا جرف هار، فإذا شاهد المنافقون سيل الحقائق يوم تبلى السرائر، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، تبين للمنافق أن بضاعته التي حصلها كالسراب: (? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ) [النور: 39].
ألا ما أخطر النفاق، وما أشد عقوبة المنافقين يوم القيامة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 145، 146].
اللهم طهر قلوبنا من النفاق.. وأعمالنا من الرياء.. وألسنتنا من الكذب.. وأعيننا من الخيانة.. وجوارحنا من المعاصي.
6- فقه التوفيق والخذلان
قال الله تعالى: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 160].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [الأنعام: 125].
وقال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چچ) [الحشر: 19].
النعم كلها من الله وحده.. نعم الطاعات كلها.. ونعم اللذات كلها.
وعلى كل عبد أن يرغب إلى الله، أن يلهمه ذكرها، ويوزعه شكرها، وكما أن النعم منه سبحانه، ومن مجرد فضله، فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه.(4/100)
والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده، وتخليته بينه وبين نفسه، وإن لم يكشف ذلك عن عبده، فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه، فهو مضطر إلى التضرع والابتهال إلى ربه، ليدفع عنه أسبابها، حتى لا تصدر منه.
وإذا وقعت كذلك بحكم القدر، فهو كذلك مضطر إلى الدعاء والتضرع إلى ربه، ليدفع عنه عقوباتها.
فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاح له إلا بها:
الشكر... وطلب العافية.. والتوبة النصوح.
ومدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد، بل بيد مقلب القلوب، ومصرفها كيف يشاء.
فإن وفق عبده أقبل بقلبه إليه، وملأه رغبة ورهبة، فصار من السعداء.
وإن خذله تركه ونفسه ونسيه، ولم يأخذ بقلبه إليه، فصار من الأشقياء.
وللتوفيق والخذلان أسباب وهي:
أهلية المحل وعدمها، فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت.
فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان، والنوعان متفاوتان في القبول.
فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت.
وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول أعظم تفاوت، لكنه أقل من النوع الإنساني.
فإذا كان المحل قابلاً للنعمة.. بحيث يعرفها.. ويعرف قدرها وخطرها.. ويشكر المنعم بها.. ويثني عليه بها.. ويعظمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود.. وعين المنَّة.. من غير أن يكون هو مستحقاً لها.
بل هي لله وحده، ومنه وبه وحده، فوحده بنعمته إخلاصاً، وصرفها في محبته شكراً.
وشهدها من محض جوده سبحانه، وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجزاً وضعفاً وتفريطاً.
وعلم أن الله إن أدامها عليه فذلك محض فضله وصدقته وإحسانه.
وإن سلبه إياها قهراً فهو أهل لذلك مستحق له.
وكلما زاده الله من نعمه، ازداد ذلاً له وانكساراً، وقياماً بشكره، وخشية له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيقه شكرها، كما سلب نعمته من لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها.(4/101)
فإن لم يشكر نعمته سبحانه، وقابلها بضد ما يليق أن يقابل به سبحانه، سلبه إياها ولا بدَّ كما قال عزَّ وجلَّ: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ??) [الأنعام: 53].
وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة، بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال سبحانه عن قارون: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ??) [القصص: 78].
والواجب أن يقول كما قال سليمان صلى الله عليه وسلم لما أوتي الملك: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ??) [النمل: 40].
والمؤمن يرى كل نعمة من ربه هو المالك لها، وهو المتفضل بها، منَّ بها على عبده من غير استحقاق منه، بل هي صدقة تصدق بها على عبده، وله أن لا يتصدق بها، وله أن يسلبها.
فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئاً هو له يستحقه عليه، فإذا لم يشهد ذلك رأى فيه أنه أهلاً ومستحقاً، فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة، وعلت بها واستطالت على غيرها، فكان حظها منها الفرح والفخر كما قال سبحانه: (? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ??) [هود: 9، 10].
وإذا علم الله هذا من قلب عبد.
يأس وكفر عند الضراء.. وفرح وفخر عند النعماء.. وكلاهما فتنة وبلاء.. وذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه.
فإن محله غير قابل لها، ولا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 22-23].
فأسباب الخذلان من النفس وفيها.. وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة.
فأسباب التوفيق منه ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق سبحانه أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات، وهذه غير قابلة، وخلق الشجر، هذه قابلة للثمرة، وهذه لا تقبلها.
وخلق النحلة قابلة لأن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانها، والزنبور غير قابل لذلك.(4/102)
وخلق سبحانه الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره، ومحبته وتوحيده، وإجلاله وتعظيمه، ونصح عباده.
وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل قابلة لضده، وهو الحكيم العليم.
فكل خير فأصله توفيق الله للعبد.. وكل شر فأصله خذلانه لعبده.
فالتوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك.. والخذلان أن يخلى بينك وبين نفسك.
وإذا كان كل خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء والافتقار، وصدق اللجوء والرغبة والرهبة، وحسن التوجه إليه.
فمتى أعطى الله العبد هذا المفتاح، فقد أراد أن يفتح له أبواب الخير والبركات.
ومتى أضله عن المفتاح، بقي باب الخير مرتجاً عليه، فهو واقف دونه.
وعلى قدر نية العبد وهمته ورغبته في ذلك، يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة تنزل من الله على عباده بقدر همهم ورغبتهم ورهبتهم.
والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك.
والله بصير بالعباد.. وهو الحكيم العليم.. يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به.. ويضع الخذلان في مواضعه اللائقة به.
وما أُتي من أتي إلا من قِبل إضاعته الشكر والافتقار والدعاء.
وما ظفر من ظفر بتوفيق الله وعونه إلا بقيامه بالشكر والافتقار والدعاء.
وملاك ذلك كله الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وقد ضل أكثر الخلق عن باب التوفيق:
إما لاشتغالهم بالنعمة عن شكر المنعم بها.. أو رغبتهم في العلم وتركهم العمل.. أو المسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة.. أو الاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بأفعالهم.. أو إدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها.. أو إقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها.. أو الاهتمام بالعادات والتقاليد وترك السنن والآداب.
والناس في الحياة قسمان:
أحدهما: من قابلوا أمر الله بالترك ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بعدم الشكر ومنعه بالتسخط، ولم يستجيبوا لله والرسول.(4/103)
فهؤلاء أعداء الله ورسوله، وهم شر البرية، وليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت، صاروا إلى الحسرة والعذاب الأليم.
وهؤلاء أكثر الخلق كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ??) [يوسف: 103].
وهؤلاء هم الأشقياء في الدنيا، المخلدون في النار يوم القيامة كما قال سبحانه: (ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [البينة: 6].
الثاني: قسم قالوا: أنت ربنا ونحن عبيدك، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.
سمعنا وأطعنا، وآمنا بالله ورسوله، فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت، صاروا إلى النعيم المقيم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ??) [البقرة: 25].
فانظر لنفسك من أي الفريقين أنت؟
وبأي العملين اشتغلت؟.. ومن أطعت ومن عصيت؟..
وماذا قدمت وماذا أخرت؟
وكل إنسان يوم القيامة سوف يخبر بما قدم وأخر: (? ? ? ? ? ??) [القيامة: 13].
هل قدم حاجات الدنيا أو حاجات الدين؟.. أو أخر حاجات الدنيا أو حاجات الدين؟.
وهل قدَّم أوامر الله على شهوات النفس؟. أو أخَّر شهوات النفس أو أوامر الله عزَّ وجلَّ؟.. وهل قدم محبوبات الرب على محبوبات النفس؟.
والله عزَّ وجلَّ خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أموالهم وأنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم، ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له، فتطيع ربها وتعبده بشرعه الذي أنزله.
وقد خلق الله عباده، وخلق كل شيء من أجلهم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [لقمان: 20].
وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق بالعقل والعلم.. والبيان والنطق.. والشكل والصورة الحسنة.. والهيئة الشريفة.. واكتساب العلوم، والتخلق بالأخلاق الشريفة الفاضلة من البر والصدق والإيمان، والطاعة والانقياد.(4/104)
وقد اشترى الله عز وجل من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل ثمن ذلك الجنة كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [التوبة: 111].
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة لله، مصطفاة عنده، مرضية لديه، وقدر السلعة يُعرف بجلالة قدر مشتريها، وبمقدار ثمنها.
فإذا عرف الإنسان قدر السلعة.. وعرف مشتريها.. وعرف الثمن المبذول فيها.. علم شأنها ومرتبتها في الوجود.
فالسلعة أنت أيها المؤمن، والله المشتري، والثمن الجنة، والنظر إلى وجه الرب، وسماع كلامه في دار الأمن والسلام والخلود.
والله عزَّ وجلَّ هو الملك العزيز الجبار، لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها وأعظمها قيمة وقدراً.
وإذا كان الرب قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه، يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه، وحياته وموته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض.
ثم إن العبد لجهله أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه.
ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه الشيطان، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه وخالقه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه، وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه، على عدوه الشيطان، أبغض خلقه إليه، واستبدل غضب ربه برضاه، ولعنته برحمته ومحبته.
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟
(? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الزمر: 15].
وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ خذلان من عصاه استدرجه، والاستدراج معناه أن يعامل الله العصاة والمجرمين باللطف والإحسان، مع تماديهم في الغي والإجرام.
وذلك بأن يزيد الله نعمه عليهم، فيظنون أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادون بطراً وانهماكاً في الغي، حتى تحق عليهم كلمة العذاب كما قال سبحانه: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 182، 183].(4/105)
فكلما أحدثوا ذنباً، فتح الله عليهم باباً من أبواب الخير والنعم، فيزدادون بطراً وإمعاناً في الغي والفساد، ثم يأخذهم الله تعالى أغفل ما يكونون: (ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ??) [الأعراف: 182، 183].
فالتوفيق أن لا يكل الله العبد إلى نفسه، بل يتولاه ويعينه ويدافع عنه.
والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد ونفسه ويكله إليها.
والعبد مطروح بين الله، وبين عدوه إبليس.
فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه، وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة: (چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک کک) [آل عمران: 160].
لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا لأحد من خلقك طرفة عين.
ولضعف الإيمان، وضعف اليقين على الأعمال الصالحة، غيَّر أكثر المسلمين مكان الاجتماع، وغيَّروا موضوع الاجتماع، وغيروا أعمال الاجتماع.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان المسجد مكان اجتماعهم، وموضوع الاجتماع الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، وتعلم الدين، ومواساة الفقراء، واستقبال الضيوف، وتعلم القرآن والذكر والعبادة ونحو ذلك.
وكان الاجتماع في المسجد لجميع المسلمين أغنياء وفقراء، وسائر الطبقات وأعمال الاجتماع إقامة الدين في أنحاء الأرض، وخروج الناس للدعوة إلى الله، وتعليم الناس أحكام دينهم، وقراءة القرآن، والعمل به، والخروج للجهاد في سبيل الله ونحو ذلك.
واليوم تغيرت الأحوال:
فتغير مكان الاجتماع، فأصعب شيء على المسلم اليوم هو الاجتماع في المسجد، وصار الاجتماع في غير المسجد سهلاً، بل لذيذاً ومحبوباً، كالاجتماع في الفنادق والحدائق، والمطاعم والأسواق، والملاعب وأماكن الترفيه، فضلاً عن أماكن اللهو والفساد.
وتغير موضوع الاجتماع فصار كله للدنيا، وأقيمت الدنيا بأركانها الخمسة على حساب الآخرة.(4/106)
وأركان الدنيا الخمسة بينها الله بقوله سبحانه: (ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک کگ) [الحديد: 20].
فحل المال مكان الإيمان.. وحلت الشهوات مكان الأعمال.. وأعمال الدنيا مكان أعمال الدين.. فقام سوق الدنيا.. وتعطل سوق الدين عند كثير من المسلمين.. فنزلت بهم من الله المحن والشدائد: (ہہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ??) [مريم: 59].
ومتى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنه قد مسخ.
ومتى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله، والاستعداد للقائه، وحل فيه حب المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا فاعلم أنه قد خسف به.
ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس بالله إلى الأنس بالخلق، ومن الخلوة مع الله إلى حب الخلوة مع غيره، فاعلم أنك لا تصلح له.
والموجودون الآن من بني آدم أربعة أصناف:
الصنف الأول: مؤمنون بالله، تعلموا الدين، وعملوا بالدين، ودعوا إلى الدين، بنية النبي، وبيقين النبي، وبفكر النبي، وبترتيب النبي، فهؤلاء خير القرون، ونصرة الله معهم، وفي مقدمتهم الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: مؤمنون صالحون، لكنهم لا يقومون بالدعوة، فهم قانعون بالأعمال الصالحة، فالله يعطيهم في الدنيا حياة طيبة بقدر ما عملوا، وفي الآخرة لهم الجنة.
لكن في الدنيا إذا جاءت الأحوال والمصائب فغالباً لا يستطيعون حفظ أنفسهم من الفتن.
الثالث: مسلمون، ولكنهم غارقون في المعاصي والمحرمات.
وهؤلاء مقلدون للكفار، يحبون معاشرتهم، فهم عبيد لهم، ولشهواتهم.
الرابع: كفار ومشركون، وهؤلاء يبقون في الدنيا إلى آجالهم، ولكن إذا آذوا وقاتلوا الصنف الأول، فالله ينصر المؤمنين عليهم، ولو كانوا قليلي العدد والعدة.(4/107)
والمطلوب جهد الصنف الأول على الصنف الثاني، ليأتي عندهم مع الصلاح الإصلاح.. وعلى الصنف الثالث بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والترغيب والترهيب.. ليغيروا حياتهم من الاقتداء بالكفار، إلى الاقتداء بالأنبياء والصحابة في الدعوة والعبادة والاستقامة، وعلى الصنف الرابع بالدعوة إلى الله، وعرض الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة لعلهم يهتدون.
والله عزَّ وجلَّ هو العزيز الحكيم الذي يأمر بالعدل والإحسان، عم بعدله عموم عباده، وخص من شاء منهم بفضله وإحسانه.
ولو أن ملكاً أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولاً، وكتب معه كتاباً يعلمهم فيه أن العدو مصبحهم عن قريب، ومخرب البلد، ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكب وزاداً وعدة وأدلة، وقال: ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة لتنجوا.
ثم قال لجماعة من مماليكه اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده، واحملوه ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى فلان وفلان كذلك، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي، فذهب خواص الملك إلى من أمروا بحملهم، فحملوهم إلى الملك، واجتاح العدو من بقى في المدينة، وقتلهم وأسر من أسر، فلا يعد الملك ظالماً لهؤلاء؟
بل هو عادل فيهم، لأنه حذرهم، وبين لهم سبيل النجاة.
نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم، إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه بل: (? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے) [الحديد: 21].
والله تبارك وتعالى هو الذي جعل في قلوب عباده المؤمنين محبته والإيمان به، وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان، وذلك محض فضله ومنته عليهم، حيث لم يكلهم إلى أنفسهم؟
بل تولى سبحانه هذا التحبيب والتزيين وتكريه ضده، فجاد عليهم به فضلاً منه ونعمة.
والله عليم بمواقع فضله، ومن يصلح له، ومن لا يصلح له، حكيم بجعله في مواضعه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ کک ک ک گ گ گ گ ? ??) [الحجرات: 7-8].(4/108)
والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله قادراً على فعل ما يرضيه، مريداً له محباً له مؤثراً له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه، وهذا مجرد فضله، والعبد محل له.
فلم تكن محبتكم للإيمان، وإرادتكم له، وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك.
والذي حبب إليكم الإيمان، أعلم بمصالح عباده منكم، وأنتم لولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان.
والنفس أمَّارة بالسوء، وهي منبع كل شر، وكل خير فيها ففضل من الله منَّ به عليها لم يكن منها كما قال سبحانه: (? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النور: 21].
فحب الإيمان، وكراهية الكفر، وتزكية النفس بالإيمان محض فضل الله ونعمته على عبده، وهو الذي جعل العبد بسبب ذلك من الراشدين: (ک ک گ گ گ گ ? ??) [الحجرات: 8].
فهو سبحانه العليم بمن يصلح لهذا الفضل، ويزكو عليه وبه، ويثمر عنده، وهو الحكيم فلا يضعه عند غير أهله، فيضيعه بوضعه في غير موضعه.
والحسنات كلها من إحسان الله ومنِّه وتفضله على العباد بالهداية والإيمان كما قال أهل الجنة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 43].
فجميع ما يتقلب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب سابق يوجب ذلك لهم، ومن غير حول وقوة منهم إلا به، وهو سبحانه خالقهم وخالق أعمالهم الصالحة، وخالق جزائها، وهذا كله منه سبحانه، بخلاف الشر، فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد، وذنبه من نفسه.
وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر ربه على ذلك، فزاده من فضله عملاً صالحاً، ونعماً يفيضها عليه.
وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه، استغفر ربه وتاب، فزال عنه سبب الشر.
فيكون دائماً شاكراً مستغفراً، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 79].(4/109)
والعالم كله قسمان:
سعداء.. وأشقياء.
فالسعداء أربعة أنواع كما قال سبحانه: (? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گگ) [النساء: 69، 70].
وأما الأشقياء فهم نوعان:
كفار.. ومنافقون.
فذكر الكفار بقوله سبحانه: (? ? ? ? ? ? ٹٹ) [الحديد: 19].
وذكر المنافقين بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [النساء: 145].
أما المخلط فليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار، واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه، لأنه أتى بسببه، فعسى الله أن يتوب عليهم: (? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ??) [التوبة: 102].
ومسارعة الكفار إلى الكفر لا تضر الله شيئاً، وإنما هي فتنة لهم، وقدر الله بهم.
فقد علم الله من أمرهم وكفرهم، ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة، فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته.
وقد كان الهدى مبذولاً لهم، فآثروا عليه الكفر، فتركهم يسارعون في الكفر، وأملى لهم ليزدادوا إثماً، مع الإملاء في الزمن، والإملاء في الرخاء.
فهذا الإمهال والإملاء، إنما هو وبال عليهم وبلاء: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [آل عمران: 176].
7- فقه حمل الأمانة
قال الله تعالى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 72].
وقال الله تعالى: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ??) [الأنفال: 27].
إن السموات والأرض والجبال، من المخلوقات العظيمة التي يبدو الإنسان أمامها شيئاً صغيراً ضئيلاً، هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى من يحكمها ويدبرها، وتطيع أمر الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة.
وتجري في تنفيذ أوامر خالقها دائبة منقادة.
فهذه الشمس تدور في فلكها، وترسل أشعتها، وتجري لمستقر لها، وتؤدي وظيفتها التي قدر الله لها بلا إرادة منها.(4/110)
وهذا القمر، وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب، وهذا الهواء، كلها تمضي لشأنها بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها، ولا كد ولا محاولة.
وهذه السماء المرفوعة بما فيها من العجائب والمخلوقات الهائلة.
وهذه الأرض بما فيها من الآيات والعبر، تخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتفجر ينابيعها، وفق سنة الله بلا إرادة منها.
وهذا الماء الجاري.. وهذه النباتات المختلفة.. وهذه الأشجار المثمرة.. وهذه الجبال العالية.. وهذه البحار الواسعة.. وهذه السهول.. وهذه الوهاد.. وهذه البطاح.. كلها تؤدي دورها.. وتقوم بوظيفتها طائعة منقادة بإذن بارئها.. خاشعة لربها.. تنفذ أمره بلا إرادة منها.
هذه المخلوقات العظيمة في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، كلها أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة.
وحملها الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى بارئه بتدبره وبصره، ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 72].
حقاً إنها أمانة عظيمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر، الظلوم الجهول، الكفور العجول، الذي تحيط به المغريات، وتناوشه الشهوات، وتستبد به النزغات والميول والأطماع، وإنها لتبعة ثقيلة جسيمة.
وبسبب ظلمه لنفسه.. وجهله بطاقته.. زج نفسه لحملها.
وإنه لمقام عال كريم حين ينهض الإنسان بالتبعة، ويصل إلى معرفة بارئه، والاهتداء المباشر إلى ربه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه، كالمخلوقات الأخرى، التي تعرف ربها مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا يحول بينها وبين بارئها حائل، ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.(4/111)
إن الإنسان حين يصل إلى هذه الدرجة، وهو واع مدرك مريد، فإنه يصل حقاً إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد.
إن الإرادة، والإدراك، والمحاولة، وحمل التبعة، هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله في السماء والأرض.
وهي مناط التكريم، الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهوأمر الملائكة بالسجود لآدم، وأكرم بذلك ذريته من بعده.
فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان.
واختصاص الإنسان بحمل الأمانة، وأخذه على عاتقه أن يعرف بنفسه، ويهتدي بنفسه، ويعمل بنفسه، ويصل بنفسه.
هذا كان ليتحمل عاقبة اختياره.. وليكون جزاؤه على عمله.. وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات.. والمشركين والمشركات.. وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات.. فيتوب عليهم مما يقعون فيه تحت ضغط ما ركب فيهم من ضعف ونقص.. وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع، وما يشدهم ويجذبهم من الشهوات والمغريات.. فذلك فضل الله وعونه.
وقد حمل الإنسان هذه الأمانة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأحزاب: 73].
والأمانات في الدين كثيرة، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأداء جميع الأمانات كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 58].
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى، الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان، والتي أبت السموات والأرض أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وهي أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه.
فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة.
فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته، وألزمه طاعة أمره بغير جهد منه.(4/112)
والإنسان وحده هو الذي وكله الله إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله بعون من الله كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ) [العنكبوت: 69].
وقد حمل الإنسان هذه الأمانة العظيمة، وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات، ومن هذه الأمانة تنبثق سائر الأمانات التي أمر الله أن تؤدى.
ومن هذه الأمانات أمانة الشهادة لهذا الدين.
الشهادة له في النفس أولاً بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له، ترجمة حية في شعورها وسلوكها، حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس، فيقولون: ما أحسن هذا الإيمان وأطيبه وأزكاه، وهو يصوغ أصحابه على الجمال والكمال، وحسن الأخلاق والآداب.
فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون فيدخلون فيه.
والشهادة له كذلك بدعوة الناس إليه، وبيان فضله وجماله، فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان، وهي إحدى الأمانات الكبرى: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [إبراهيم: 52].
ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجاً للبشرية كلها، بكل ما يملكه الفرد.. وتملكه الأمة من وسائل، فإقرار منهج الله في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان بالله، ولا يعفى من هذه الأمانة فرد ولا جماعة.
ومن الأمانات التي يجب أداؤها، أمانة التعامل مع الناس، ورد أماناتهم إليهم، وأمانة المعاملات والودائع، وأمانة النصيحة للراعي والرعية، وأمانة القيام على الأهل والأولاد، وأمانة المحافظة على العبادات وأدائها في وقتها بصفتها خالصة لله، وسائر ما ورد في الدين من أحكام وواجبات، وسنن وآداب.
فهذه من الأمانات التي يجب أن تؤدى كما أمر الله بقوله: (? ? ? ? ? ? ? ? ?) [النساء: 58].(4/113)
ومن أعظم الأمانات وأهمها الحكم بما أنزل الله في أي جيل، وفي أي قبيل، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فإنما يرفض ألوهية الله ويرد أمره، وذلك كفر.
وقد وصف الله عزَّ وجلَّ من لم يحكم بما أنزل الله بثلاث صفات هي:
الكفر.. الظلم.. الفسق
فقال سبحانه: (? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھھ) [المائدة: 44].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? ? ? ? ??) [المائدة: 45].
وقال سبحانه: (? ? ? ? ? چ چ چ چ?) [المائدة: 47].
فالظلم صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله، فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله سبحانه، واختصاصه بالتشريع لعباده وحده.
وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة الله الصالحة المصلحة لأحوالهم، وهو ظالم لنفسه بإيرادها موارد الهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر، وتعريض حياة الناس وهو معهم للفساد.
وصفة الفسق صفة ثالثة، تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل، فهو فاسق بخروجه عن منهج الله، واتباع غير طريقه.
فالكفر برفض ألوهية الله ممثلاً في رفض شريعته.. والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله.. والفسق بالخروج عن منهج الله وتجاوزه إلى غيره.
لقد ربى الله تبارك وتعالى هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله، في نفوسها وحياتها وقوامتها على البشرية.
لقد رباها الله عزَّ وجلَّ بشتى التوجيهات، وشتى المؤثرات، وشتى التشريعات، وشتى الابتلاءات.
وأعدها سبحانه بعقيدتها، وسلوكها، وأخلاقها، وشريعتها، ونظامها، لأن تقوم على دين الله في الأرض، ولأن تتولى القوامة على البشر.
وقد حقق الله ما يريده بهذه الأمة، فقامت في واقع الحياة الأرضية في عهده صلى الله عليه وسلم تلك الصورة الوضيئة من دين الله، حين كان دين أولئك سمعنا وأطعنا.
وتملك البشرية ذلك اليوم حين تعود إلى ربها، وتجاهد لبلوغ رضاه، فيعينها الله، والله غالب على أمره، وبيده مقاليد الأمور.
والناس في الدنيا قسمان:(4/114)
1- قسم خلقه الله لجهنم، وهؤلاء هم الذين ينكرون الحق ويكذبون به فلهم جهنم كما قال سبحانه: (? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ?) [الأعراف: 179].
2- وقسم متمسكون بالحق، ويدعون الناس إليه، ويحكمون به، ويدافعون عنه، ولا ينحرفون عنه كما قال سبحانه: (? ? ? ? ژژ) [الأعراف: 181].
فهذه الأمة الثابتة على الحق، العاملة به في كل حين، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، فهم يهدون بالحق، ويدعون إلى الحق، فهم لا يقتصرون على معرفة الحق والعمل به، إنما يتجاوزونه إلى الهداية به والدعوة إليه، ويتجاوزون معرفة الحق والهداية به، إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس، والحكم به بينهم، تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق.
فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس.. ولا مجرد وعظ يهدى به ويعرف.. إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله بلا استثناء.
يحكم اعتقادهم.. ويحكم شعائرهم التعبدية.. ويحكم حياتهم الواقعية.. ويحكم أخلاقهم وسلوكهم.. ويحكم أفكارهم وعلومهم.. يصبغها بلونه.. ويضبطها بموازينه: (? ? ? ? ? ? ? ? ? ??) [الأعراف: 170].
وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق وحده.
والأموال والأولاد فتنة قد تقعد الناس عن الاستجابة لله والرسول خوفاً وبخلاً.
والحياة التي يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة كريمة.. لا بدَّ لها من تكاليف.. ولا بدَّ لها من تضحيات.
ولقلع هذا الحرص ينبه الله عباده إلى فتنة الأموال والأولاد، فهي موضع فتنة وابتلاء، ويحذرهم من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان، ومن التخلف عن دعوة الجهاد، وعن النكوص عن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة.
واعتبار هذا كله خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض.(4/115)
وهي إعلاء كلمة الله في الأرض.. وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل، وتنفيذ أوامر الله في عباده على مدار الزمان.
ومع هذا التحذير، التذكير بما عند الله من أجر عظيم، يرجح بالأموال والأولاد التي تقعد الناس عن التضحية والجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه: (? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الأنفال: 27، 28].
فعلى الأمة المسلمة التي آمنت بالله أن تجاهد لتقرير عقيدة الإيمان في القلوب، وإقامة منهج الله في خلقه، وبذلك تكون قد أدت الأمانة التي حملتها.
فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان فقط.. وليس مجرد عبادات وأدعية وأذكار فقط.. إنما هو مع ذلك منهج حياة كاملة شاملة لبناء واقع الحياة الإنسانية على قاعدة (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق، ورد المجتمع كله إلى حكمه وشرعه، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء، وتأمين الحق والعدل ومكارم الأخلاق للناس جميعاً.
وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت، وتعمير الأرض، والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله، بمنهج الله، وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكل هذه أمانات عظيمة من لم ينهض بها فقد خانها، وخاس بعهد الله الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله.
وأداء ذلك كله يحتاج إلى الصبر والتضحية، وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد، والى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم لمن أدى الأمانة: (? ? ? ? ? ? ? ? ? چچ) [الأنفال: 28].
فقد وهب الله عباده الأموال والأولاد ليبلوهم بها، ويفتنهم بها، فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء، ليرى الله فيها صنع العبد وتصرفه.
أيشكر الله عليها، ويؤدي حق النعمة فيها؟.
أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟(4/116)