إن هناك علاقة وثيقة -بل طردية- بين الزلازل والبراكين -بل غالب النوائب والابتلاءات- وبين الظلم والإفساد في الأرض وارتكاب الذنوب والموبقات، فإن البلاء إذا جاء فإنه يأخذ الصالح والطالح، البر والفاجر، المؤمن والكافر، وإنه كما يكون إهلاكا للجبارين والمجرمين فإنه يأتي ابتلاء للمؤمنين، والله تعالى يقول: "وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"، وقوله سبحانه: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"، غير أن غريق المؤمنين يكون شهيدا.
إنذار من الله
وفي خطبة الدكتور أحمد عمر هاشم الرئيس السابق لجامعة الأزهر، أكد أن الزلزال الذي وقع بجنوب آسيا إنذار من الله عز وجل، يجب الانتباه إليه والاعتبار به، "فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة"، وقد قال الله تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا" .
إن الله سبحانه وتعالى قد أرسل مع هذا الزلزال رسالة للظالمين والجبارين مؤداها أن الله قادر على إهلاككم إن لم تتوبوا إلى ربكم وترجعوا إليه، وقد قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".
وما حدث رسالة للظالمين، مفادها أن الله ينبهكم أيها الظالمون، وأن ما يحدث من الهلاك هو بسبب ما ترتكبوه بأيديكم، قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".
==============
في الزلازل دعوة للتوبة
إعداد: مسعود صبري**
29/12/2004
في حلقة مباشرة من حلقات الاستشارات الإيمانية المباشرة طغت حاجة الناس إلى التوبة على جل الأسئلة المطروحة؛ وهو ما يؤكد معلومة هامة، مفادها أن الإيمان مغروس في قلوب الناس، وأنهم مهما تشاغلوا عنه بالمعاصي واقتراف الآثام، فإنه ساكن في قلوبهم لن يبرحها، وأن النصر للإيمان على المعصية، شريطة أن يبقى الناس طالبين للتوبة، وأن تكون التوبة مطلبا أساسيا للجميع. فإن كان الناس يرفعون شعارات في شئون حياتهم؛ ليعبروا عن أهم ما يحتاجون إليه؛ فبعضهم يقول: التعليم حق للجميع، ورغيف الخبز حاجة الجميع؛ فإننا نقول: إن التوبة مطلب الجميع.
التوبة إلى الله بالزلازل
كان لحدث الزلازل التي هزت بعض دول جنوب شرق آسيا ظلالها على الاستشارات المباشرة؛ حيث توجه محمد -وهو طالب جامعي- بسؤال قال فيه: أرجو إفادتي عما يحدث في العالم اليوم من فيضانات وكوارث، هل هو كما قال سبحانه وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ}؟ فهل كوارث جنوب شرق آسيا تنطبق عليها تلك الآية، ومن قبل الجراد الذي هجم على بلدان كثيرة؟
وفي إجابته على هذا السؤال أوضح الأستاذ فتحي عبد الستار، محرر صفحة دعوة ودعاة بالموقع أن الزلازل والبراكين تظهر فيها آيات الله تعالى الكونية والخَلقية والإيمانية، ثم ركز على الآيات الإيمانية التزاما بمنهج المعالجة في الصفحة؛ حيث يرى في الزلازل والبراكين جندا من جند الله، وهي تذكرة من الله تعالى لعباده بقوته وضعفهم أمام هذه القوة الإلهية، وما يجب عليهم أن يعودوا إليه.
وأكد الأستاذ فتحي عبد الستار على أن هذه الآيات تؤثر أكثر بكثير من العظات والخطب والكلمات؛ فهي تثبت القلب على الإيمان، وتدفع الإنسان إلى التوبة والعودة إلى الله تعالى، وتذكر الناس بالأمم السابقة التي أهلكها الله تعالى بسبب ذنوبها، وبسبب عدم الإصلاح؛ حيث إن هذه الزلازل لا تفرق بين صالح وطالح، ولكنها تعم الجميع؛ فعقاب الله تعالى لا يرفع إلا بالإصلاح، أما الصلاح وحده فغير كاف لرفع بلاء الله تعالى عن عباده، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}. فلعل ما حدث يكون دعوة للإصلاح في الأرض جميعا، وأن نعود إلى الله تعالى.
نصائح عملية للتوبة
وكان من أوائل ما تلقيناه في الاستشارات الإيمانية المباشرة سؤال من أحمد بشر عبد الله، وهو طالب في الثانوية العامة يسأل فيه عن نصائح للتوبة، وكيف يتوب إلى الله تعالى.
وأجاب عن سؤاله الباحث الشرعي مسعود صبري، حيث أتت الإجابة بشكل عملي، رأى فيها صبري أن نداء التوبة يغلب على كل مسلم، يناديه أن يرجع إلى فطرته الأولى قبل أن يغيرها بيده، أو بحكم البيئة والعشرة، أو التعليم وغيرها من عوامل التأثير في الإنسان، ويظل الإنسان يصارع؛ فإن صدق النية وفقه الله تعالى لتوبة نصوح، وإن عاند وتجبر، تركه الله لنفسه هذه المرة، وإن فتح له أبواب التوب مرات عديدة.
ثم توجه المستشار للسائل بخطوات عملية للتوبة:(4/260)
1- اجلس مع نفسك، قد يكون ذلك في حجرة، على أن تكون وحدك، دون أن يكون معك أحد، أغلق عليك باب حجرتك. أو اجلس في مسجد من المساجد، بعيدًا عن جو الدنيا. أو اجلس في حديقة عامة، حيث الخضرة والهواء الطلق، والهدوء بعيدًا عن زحمة العمل أو البيت.
2- اختر المكان المناسب لك، واجعل معك قلمًا وورقًا، وسطر بيديك ذنوبك، قسمها إلى كبائر وصغائر، وأحصها جيدًا. فالإحصاء جيد لمعرفة كم الذنوب التي يقترفها الإنسان.
3- انشغل أولا بالكبائر، عدها جيدًا، وانظر أخطرها وأعظمها أثرًا. ابدأ بأكبر الكبائر، فالأصغر فالأصغر.
4- انشغل بذنب واحد، وضع خطة للتخلص منه.
5- انظر ما الذي يدفعك إلى فعل الذنب، فقد يكون الفراغ، أو شهوة النفس، أو أصدقاء السوء، أو غير ذلك؛ فمعرفة الدافع للفعل تساعد كثيرًا على التخلص منه، أو استثماره بشكل أفضل.
6- تعقل ما الذي تستفيده من وقوعك في الذنب؟ انظر وسيلة مباحة تحقق بها ما تظن أنه فائدة، أو تركه في الله؛ فكل ما حرم الله فيه ضرر للإنسان.
7- ضع جدولا زمنيًّا، واجعل التغيير مرحليًّا، لا تتعجل وتجهد نفسك للتخلص من كل الذنوب، فربما كان في الإسراع إنهاء لمشروع التوبة، لا تكن كمن يجري بسرعة، ويظل يجري، فإذا به يقع على الأرض؛ فلا ظهرًا أبقى، ولا أرضًا قطع.
8- قسم التخلص من الذنوب على جدول زمني، انظر كم يومًا يمكن لك أن تتخلص فيه من الذنب، ربما يكون في شهر أو أكثر، وربما يكون في أقل.
9- قسم الجدول الزمني إلى أسابيع وأيام.
10- اجعل الجدول الزمني في حقيبتك، أو حافظتك، وتابع القدر اليومي للتخلص من الذنب.
11- لا تنَم حتى تنظر في جدولك، وضع علامة على تحقق القدر اليومي، فإن لم تكن حققته، فخذ هذا القدر مع القدر اليومي لليوم التالي.
12- أعطِ نفسك درجات في تحقق القدر اليومي، وتابع بشدة.
13- ادعُ الله كل يوم أن يتوب عليك.
14- ابتعد عن كل ما يعوقك عن التوبة.
15- كافئ نفسك عن كل تقدم في التوبة إلى الله.
16- استشعر نداء الله لك بالتوبة: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
17- استشعر فرحة الله تعالى بتوبتك، ألا يستحق خالقك أن تفرحه بالعودة إليه؟
18- ابدأ في النظر إلى الذنب الثاني، وطبق جدول العلاج فيه أيضًا. واصدق النية لله تعالى، يتب عليك ويهدِك إلى توبة نصوح.
التوبة من العلاقة المحرمة
وإن كان السائل الأول قد طلب نصائح عامة في التوبة كي يعود إلى الله، فإن فتاة في سن الثامنة عشرة من عمرها أسمت نفسها h7era طلبت النصح لتوبة في مسألة خاصة، يقع فيها عدد من الشباب والفتيان تحت مسمى الحب، وللانفتاح الزائد وغير المنضبط في العلاقة بين الجنسين، متناسين ما وضع الله تعالى من الفطرة بين الشباب والفتيات وبين الرجال والنساء، وإن لم يمنع الإسلام التعامل والأخوة ما دامت بعيدا عن الحرام، غير أن نسيان الله يورد المهالك؛ فقد وقعت السائلة في الزنى، وتقدم إليها شاب أيضا وقع هو الآخر في الزنى، وهي تسأل: هل يمكن أن يغفر الله تعالى لهما، وكيف هذا؟ وهل يعد الزواج سبيلا للتوبة؟
وكانت إجابة الأستاذ رمضان فوزي، عضو فريق الاستشارات الإيمانية بموقع "إسلام أون لاين.نت" متركزة على فتح الله تعالى باب التوبة لعباده، وندائه لهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ}.
وأن هذا الخطاب القرآني الرقيق يضيف فيه المولى عز وجل عباده الذين أسرفوا وتمادوا في معاصيهم إلى نفسه إضافة تشريف وتلطيف وتأليف لقلوبهم؛ لأنه عز وجل يعلم أن الشيطان يحول بين المرء وتوبته، فإذا وجده يقبل على التوبة فإنه يذكره بمعاصيه السابقة وإسرافه على نفسه، ويقول له: كيف تتوب الآن وأنت الذي فعلت وفعلت؟
ولكن الله تعالى من رحمته فتح باب التوبة والقبول أمام العصاة ما لم تبلغ الروح الحلقوم حتى تشرق الشمس من مغربها.
وختم المستشار إجابته بالإسراع إلى التوبة والتحصن بها، مع التحلي بالستر، وعدم الإفصاح عن الذنب، وأن يكون ما حدث بينها وبين الله تعالى، ثم الوصية بالاستعانة بالله تعالى والتعلق به في الحياة الجديدة، حتى يرزق الزوجان السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة.
التوبة من المساعدة على أكل حق الغير
وشكل جديد من أشكال التوبة تطرحه السائلة مروة صالح؛ فهي طرحت أمرين متغايرين في سؤالها؛ الأول: كيف يعرف من تاب أن الله تعالى تقبل توبته؟ والثاني: ماذا لو كانت التوبة متعلقة بحق الغير، ولم تكن هي مَن أكل حق الغير، ولكنها كانت مساعدة؟(4/261)
أما عن التأكد من قبول التوبة؛ فيرى فيها الأستاذ عماد حسين المدرس المساعد بجامعة الأزهر أن هذا يأتي عن طريق الثقة بالله تعالى، متى تقدم العبد بذل بين يديه، عارفا بمقام الربوبية، معترفا بذنبه، والثاني: الاستمرار على التوبة، والطمع في كرم الله تعالى وفضله.
أما عن رد الحقوق لأهلها كسبيل للتوبة، فإن كان في المقدور رده وجب رده، أو إقناع الغير برده، وإلا فليجتهد التائب في إهداء الأعمال الصالحة والإحسان لذويهم وأولادهم إن كانوا قد انتقلوا للدار الآخرة، أو الإحسان لهم إن كان رد الحق لهم أو طلب المغفرة منهم يؤدي لضرر أكبر، على أن يكون هذا الضرر يقينيا، ويحكم به رجل من أهل التقوى والعلم والحكمة، لا أن يكون من تزيين النفس أو خشية الناس.
ويطالعنا عبد العزيز، وهو طالب جامعي بشكل رابع في التوبة، وهو عدم الاستمرار على التوبة؛ فهو يطيع الله فترة، ويعصي فترة أخرى، وقد رأى في نفسه التزاما كبيرا خلال فترة الثانوية، ويخبر عن نفسه أنه يحب الالتزام جدا، لكنه يقع في المعصية.
وكانت إجابة الأستاذ همام عبد المعبود المحرر الشرعي بالموقع أن الإنسان يمر بفترات ضعف، وهذه طبيعة إنسانية؛ فيجب ألا ننزعج من هذا، كما أشار للسائل عن فترة الثانوية، وأنها فترة تقلب، مع إقبال الشباب على الطاعة، ولمس في نفس السائل منبتا إيمانيا جميلا حيث قال له: "وقد اطمأن قلبي لقولك: يعلم الله أني أحب الالتزام بشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقولك: حنيت إلى أيام الالتزام؛ فهي كلمات لا تخرج إلا من قلب مسلم راغب في العودة إلى ربه".
ثم ختم له ببعض الوصايا العملية، من الثقة بالله، والمحافظة على الصلاة والنوافل، وملازمة الصالحين من أصحابه، وأن ينوع من عباداته وطاعاته؛ حتى يجد في نفسه ما يحب من الطاعة.
==============
الذنوب.. زلازل القلوب
الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي
25/01/2005
كثير من الناس لا يكادون يعرفون من المعاصي والذنوب إلا ما يدركه الحس، وما يتعلق بالجوارح الظاهرة، من معاصي الأيدي والأرجل، والأعين والآذان، والألسنة والأنوف، ونحوها مما يتصل بشهوتي البطن والفرج، والغرائز الدنيا للإنسان.
ولا يكاد يخطر ببال هؤلاء: الذنوب والمعاصي الأخرى التي تتعلق بالقلوب والأفئدة، والتي لا تدخل -فيما تراه الأبصار- أو تسمعه الآذان، أو تلمسه الأيدي، أو تشمه الأنوف، أو تتذوقه الألسنة.
معاصي الجوارح
في القسم الأول تقع معاصي العين من النظر إلى ما حرم الله من العورات، ومن النساء غير المحارم.
ومعاصي الأذن من الاستماع إلى ما حرم الله من آفات اللسان؛ فالمستمع شريك المتكلم.
ومعاصي اللسان من الكلام بما حرم الله من الآفات التي بلغ بها الإمام الغزالي عشرين آفة؛ من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية واليمين الفاجرة والوعد الكاذب والخوض في الباطل والكلام فيما لا يعني وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وشهادة الزور والنياحة واللعن والسب... إلخ.
ومعاصي اليد من البطش والضرب بغير حق، والقتل، ومصافحة أعداء الله، وكتابة ما لا يجوز كتابته، مما يروج الباطل أو يشيع الفاحشة، وينشر الفساد.
ومعاصي الرجل من المشي إلى معصية الله، وإلى زيارة ظالم أو فاجر، ومن السفر في إثم وعدوان.
ومعاصي الفرج من الزنى وعمل قوم لوط، وإتيان امرأته في دبرها، أو في المحيض، وهو أذى كما قال الله.
ومعاصي البطن من الأكل والشرب مما حرم الله، مثل أكل الخنزير، وشرب الخمر، وتعاطي المخدرات، وتناول التبغ (التدخين) وأكل المال الحرام من الربا، أو الميسر، أو بيع المحرمات، أو الاحتكار، أو قبول الرشوة أو غيرها من وسائل أكل مال الناس بالباطل.
المعاصي المهلكة
وهذه الأعمال كلها محرمات ومعاص معلومة، وبعضها يعتبر من عظائم الآثام، وكبائر الذنوب، ولكنها جميعًا تدخل في المعاصي الظاهرة، أو معاصي الجوارح، أو ظاهر الإثم، والمسلم مأمور أن يجتنب ظاهر الإثم وباطنه جميعًا، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام: 120).
بل إن المعاصي الباطنة أشد خطرًا من المعاصي الظاهرة، وبعبارة أخرى: معاصي القلوب أشد خطرًا من معاصي الجوارح، كما أن طاعات القلوب أهم وأعظم من طاعات الجوارح؛ حتى إن أعمال الجوارح كلها لا تقبل إلا بعمل قلبي، وهو النيِّة والإخلاص.
ونقصد بمعاصي القلوب ما كانت آلته القلب؛ مثل: الكبر، والعجب، والغرور، والرياء، والشح، وحب الدنيا، وحب المال والجاه، والحسد، والبغضاء، والغضب... ونحوها مما سماه الإمام الغزالي في "إحيائه": المهلكات، أخذًا من الحديث الشريف: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
وإنما اشتد خطر هذه المعاصي والذنوب لعدة أمور:(4/262)
أولها: أنها تتعلق بالقلب، والقلب هو حقيقة الإنسان؛ فليس الإنسان هو الغلاف الجسدي الطيني الذي يأكل ويشرب وينمو، بل هو الجوهرة التي تسكنه، والتي نسميها: القلب أو الروح أو الفؤاد، أو ما شئت من الأسماء. وفي هذا قال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب" (متفق عليه، عن النعمان بن بشير).
وقال: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم).
وجعل القرآن أساس النجاة في الآخرة هو سلامة القلب، كما قال تعالى على لسان إبراهيم: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 87 - 89).
وسلامة القلب تعني: سلامته من الشرك جليه وخفيه، ومن النفاق أكبره وأصغره، ومن الآفات الأخرى التي تلوثه، من الكبر والحسد والحقد، وغيرها.
وقال ابن القيم: "سلامته من خمسة أشياء؛ من الشرك الذي يناقض التوحيد، ومن البدعة التي تناقض السنة، ومن الشهوة التي تخالف الأمر، ومن الغفلة التي تناقض الذكر، ومن الهوى الذي يناقض التجريد والإخلاص".
ثانيها: أن هذه الذنوب والآفات القلبية هي التي تدفع إلى معاصي الجوارح؛ فكل هذه المعاصي الظاهرة إنما يدفع إليها: اتباع الهوى، أو حب الدنيا، أو الحسد، أو الكبر، أو حب المال والثروة، أو حب الجاه والشهرة... أو غير ذلك.
حتى الكفر نفسه، كثيرًا ما يدفع إليه الحسد كما حدث لليهود؛ فقد قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: 109).
أو يدفع إليها الكبر والعلو في الأرض، كما قال تعالى عن فرعون وملئه وموقفهم من آيات موسى عليه السلام: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 14).
أو حب الدنيا وزينتها، كما رأينا ذلك في قصة هرقل ملك الروم، وكيف تبين له صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وصحة نبوته، ثم لما هاج عليه القسس غلب حب ملكه على اتباع الحق؛ فباء بإثمه وإثم رعيته.
وإذا نظرت إلى من يقتل نفسًا بغير حق وجدت وراءه دافعًا نفسيًا أو قلبيًا، من حقد أو غضب، أو حب الدنيا؛ حتى إن أول جريمة قتل في تاريخ البشرية كان سببها الحسد، وذلك في قصة ابني آدم {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) إلى أن قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائددة: 30).
وكذلك كل من ارتكب معصية ظاهرة من شهادة زور أو نميمة أو غيبة أو غيرها؛ فلا بد أن وراء تلك المعاصي شهوة نفسية، وفي هذا جاء الحديث: "إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" (رَواهُ أبو داود وَالحَاكِمُ عن عبد الله بن عمر، كما في صحيح الجامع الصغير 2678).
ثالثها: أن المعاصي الظاهرة التي سببها ضعف الإنسان وغفلته سرعان ما يتوب منها، بخلاف المعاصي الباطنة التي سببها فساد القلوب، وتمكن الشر منها؛ فقلما يتوب صاحبها منها، ويرجع عنها.
وهذا هو الفارق بين معصية آدم، ومعصية إبليس.
معصية آدم كانت معصية جارحة حين أكل من الشجرة، ومعصية إبليس كانت معصية قلب، حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين.
معصية آدم كانت زلة عارضة نتيجة النسيان وضعف الإرادة، أما معصية إبليس فكانت غائرة متمكنة، ساكنة في أعماقه.
لهذا ما أسرع ما أدرك آدم خطأه واعترف بزلته، وقرع باب ربه نادمًا تائبًا هو وزوجته: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23).
أما إبليس فاستمر في غلوائه، متمردًا على ربه، مجادلا بالباطل، حين قال له: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (سورة ص: 75، 76).
ولهذا كانت عاقبة آدم: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37).
وكانت عاقبة إبليس: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (سورة ص: 77- 78).(4/263)
رابعًا: وهذه ثمرة للوجوه السابقة، وهو تشديد الشرع في الترهيب من معاصي القلوب، وآفات النفوس لشدة خطرها، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" (رَواهُ مسلم عن ابن مسعود)، وقوله: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" (رَواهُ البزار عن الزبير بإسناد جيد كما قال المنذري. انظر: المنتقى 1615، والهيثمي 30/8).
وقوله: "لا تغضب" وكررها ثلاثًا، لمن قال له: أوصني (رَواهُ البُخاريُّ عن أبي هريرة).
وقوله في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه" (رَواهُ مسلم عن أبي هُريرةَ وفي معناه عدة أحاديث )، وقوله: "إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم" (رَواهُ مسلم عن جابر).
===========
سنة الابتلاء ! وقصة أبي قلابة العجيبة في الصبر على الابتلاء
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...
سنة الابتلاء
سأل رجلٌ الإمام الشافعي رحمه الله : يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يُمكَّن أو يبتلى؟
فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة.
فالابتلاء سنة الله التي لا تتخلف.
قال تعالى: تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا .
وقال تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا .
قد يسأل البعض: لم لم يخلق الله الناس على منحًى واحدٍ في الشكل والهيئة والرزق والآجال؟
والجواب لأن الله خلق الدنيا للابتلاء، ولا بد لكي يبتلي أن تحدث الفوارق بين الناس، ليبلو بعضهم ببعض، قال تعالى: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم {المائدة:48}.
وقال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم {هود:118،119}.
وقال تعالى: ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا {الزخرف:32}.
نافذة الابتلاء
إن مشكلة الإنسان أنه ينظر إلى الناس والكون من حوله من نافذة ابتلائه فقط، فإن كان مريضًا لم ير من الناس إلا الصحة، وإن كان فقيرًا لم ير إلا الغنى، وإن كان دميمًا لم ير إلا الحسن، إن فقد ولده نظر إلى من لم يفقد ولده، إن تيتم نظر إلى آباء الاخرين، إن ترملت المرأة نظرت إلى غير الأرامل..
وهكذا، فيستشعر المبتلى أنه وحده الذي يواجه الابتلاء في هذا الكون، ولا يشعر بنعم الله عليه فيزدريها، وفي الحديث: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله" {مسلم 2963}.
فيؤدي به هذا إلى عدم اتهام نفسه الظالمة الجاهلة التي هي منشأ كل شر يصيبه قال تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك {النساء:79}، ولقد ذكر الله تعالى عقوبات الأمم السابقة من آدم إلى آخر وقت، وفي كل ذلك يبين أنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين {الأعراف:23}.
فالعارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة من الله عليه، ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا هو معنى حديث سيد الاستغفار، موضع الشاهد: أبوء لك بنعمتك علي (مشاهدة المنة) وأبوء بذنبي (مطالعة عيب النفس)، فمشاهدة المنة تورث الحب الكامل لله تعالى، ومطالعة عيب النفس تورث الذل التام لله، ومدار العبادة على هاتين القاعدتين: حب كامل، وذل تام.
الصحابة والابتلاء:
علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحو في الصباح الباكر فيبحث هو وفاطمة عن شيء من طعام فلا يجدانه، فيرتدي فروًا على جسمه من شدة البرد ويخرج، ويتلمَّس ويذهب في أطراف المدينة، ويتذكر يهوديًا عنده مزرعة، فيقتحم عليٌّ عليه باب المزرعة الضيق الصغير ويدخل، ويقول اليهودي: يا أعرابيُّ، تعال وأخرج كل غَرْبٍ بتمرة (والغرب هَو الدلو الكبير)، أي يخرجه من البئر معاونة للجمل، فيشتغل على رضي الله عنه معه برهة من الزمن حتى تَرِمَ يداه ويكلَّ جسمه، فيعطيه بعدد الغروب تمرات ويذهب بها ويمر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعطيه منها، ويبقى هو وفاطمة يأكلان من هذا التمر القليل طيلة النهار.
عتبة بن غزوان رضي الله عنه، يستغرب وهو يخطب الناس الجمعة، كيف يكون في حالة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع سيد البشر يأكل معه ورق الشجر مجاهدًا في سبيل الله، في أرضى ساعات عمره وأحلى أيامه، ثم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أميرًا على إقليم؟ إن الحياة التي تقبل بعد وفاة الرسول حياة رخيصة حقًا.(4/264)
وكذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يصيبه الذهول وهو يتولى إمرة الكوفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما لهذه الحياة وما لقصورها ودورها تقبل بعد إدبار الرسول صلى الله عليه وسلم "وللآخرة خيرٌ لك من الأولى".
فابتُلي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوعي الابتلاء (السراء والضراء)، فما غرتهم النعم وما أسخطتهم النقم، وما تنكبوا الصراط المستقيم حتى لقوا رب العالمين ، رضي الله عنهم أجمعين.
نموذج فريد:
"أبو قلابة صاحب ابن عباس" كان من أعلم الناس بالقضاء وأشدهم منه فرارًا، وأشدهم منه فرقًا، قال أيوب السختياني عنه: ما أدركت بهذا المصر أعلم بالقضاء من أبي قلابة، ابتلاه الله بالضراء، فصبر واحتسب وتجمل، يروي حكايته ابن حبان (في الثقات) بسنده عن الأوزاعي، عن عبد الله بن محمد، قال: خرجت إلى ساحل البحر مرابطًا وكان رباطنا يومئذ عريش مصر. قال: فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا بِبُطَيْحة، وفي البُطيْحة خيمة، فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره، وماله من جارحة تنفعه إلا لسانه، وهو يقول: "اللم أوزعني أن أحمدك حمدًا، أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا".
قال الأوزاعي: قال عبد الله: قلت: والله لآتينَّ هذا الرجل، ولأسألنَّه أنَّى له هذا الكلام، فهمٌ أم علمٌ أم إلهامٌ أُلهمه؟ فأتيتُ الرجل فسلمت عليه، فقلت: سمعتك وأنت تقول: "اللهم..... تفضيلا" فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها، وأي فضيلة تفضل بها عليك تشكره عليها؟
قال: وما ترى ما صنع ربي؟ والله لو أرسل السماء على نارًا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فأغرقتني، وأمر الأرض فبلعتني، ما ازددت لربي إلا شكرًا، لما أنعم علي من لساني هذا، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني، لي إليك حاجة، قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضُرٍّ ولا نفع، ولقد كان معي بنيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي، فيوضيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فتحسَّسه لي رحمك الله.
فقلت: واللهِ ما مشى خَلْقٌ في حاجة خلقٍ، كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجةِ مثلك. فمضيت في طلب الغلام، فما مضيتُ غير بعيد، حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت وقلت: أنى لي وجه رقيق آتي به الرجل؟ فبينما أنا مقبل نحوه، إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتيته سلمت عليه، فرد علي السلام، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي. قلت: هل علمت ما صنع به ربه؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى. قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا. قلت: لم يرضَ منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه؟ قال: نعم. قلت: فكيف وجده ربُّه؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًا. قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيَّره عَرَضًا لمار الطريق، هل علمتَ؟ قال: نعم. قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابرًا شاكرًا حامدًا، أوجز رحمك الله. قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كُثبان الرمل، وقد افترسه سبع فأكل لحمه، فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر. فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقًا يعصيه، فيعذبه بالنار. ثم استرجع، وشهق شهقة فمات، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتي، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدتُ، لم أقدر على خير ولا نفع. فسجَّيته بشملةٍ كانت عليَّ، وقعدت عند رأسه باكيًا، فبينما أنا قاعد إذ تهجم علي أربعة رجال، فقالوا: يا عبد الله، ما حالك؟ وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه، فعسى أن نعرفه. فكشفت عن وجهة، فانكبَّ القوم عليه، يقبلون عينيه مرة، ويديه أخرى، ويقول: بأبي عينٌ طالما غُضّت عن محارم الله، وبأبي جسم طالما كان ساجدًا والناس نيام. فقلتُ: من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي، صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم .
فغسَّلناه وكفنَّاه بأثواب كانت معنا، وصلينا عليه ودفنَّاه. فانصرف القوم وانصرفتُ إلى رباط، فلما أن جَنَّ عليَّ الليل، وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة، وعليه حُلَّتانِ من حُلَلِ الجنة، وهو يتلو الوحي: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"، فقلتُ: ألست بصاحبي؟ قال: بلى. قلت: أنى لك هذا؟ قال: "إن للهِ درجاتٍ لا تُنَال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية الله عز وجل في السرِّ والعلانية".
فقه الابتلاء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ" {صحيح الجامع}.
إلا أن الإنسان يحذر من جلب المحن أو الحرص عليها، فلا يتمنى البلاء بحال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا..." {البخاري}.(4/265)
فلا ينبغي للمرء أن يذل نفسه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم .
"لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرَّض من البلاء لما لا يطيق" {السلسلة الصحيحة}.
لكن إذا وقع البلاء فنحن مأمورون بالصبر اقتداءً بالأنبياء، قال تعالى:
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم {الأحقاف:35}.
قال عمر رضي الله عنه: بالصبر أدركنا حسن العيش.
ولأهل السنة عند المصائب ثلاثة فنون:
1 الصبر .
2 الدعاء .
3 انتظار الفرج .
سقيناهمو كأسا سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
سقيناهمو كأسا سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
وفي الحديث: "من يتصبر يصبره الله..." {مسند أحمد}.
بل قد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأينا مبتلى أن نقول:
الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلقه تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء {الترمذي}.
وأخيرًا: فلنعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت ابتلاء العباد في الدنيا، فإخفاء موعد الموت وساعته: ابتلاء، ليكون الإنسان دائم الحذر، فربما يستدعيه خالقه في أي لحظة لسؤاله عن الأمانة.
وعدم علم الغيب: ابتلاء، وعدم رؤية الجن: ابتلاء، وعدم رؤية الملائكة: ابتلاء، والله لا يُرى إلا في الآخرة تحقيقا للابتلاء.
فلو رأينا الجنة والنار، فلم إذن الرسل؟ ولم الشرائع، ولم الابتلاء، ولماذا إذن يكون المؤمنون بالغيب هم المفلحين.
والله أعلم.
منقول عن مجلة التوحيد
===============
فلسفة الابتلاء في الإسلام
الحمد لله القائل: {وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ (155) الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيهِ راجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ}. [البقرة:155-157]. والصلاة والسلام على رسول الله الذي ابتُلي بأنواع من البلاء، فصبر وشكر، وعلى آله وصحابته المبتلين الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلا يخفى على أحدٍ أنَّ الحياة الدنيا مليئة بالمصائب والبلاء، وأنَّ كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ عرضة لكثيرٍ منها: فمرة يُبتلى بنفسه، ومرة يبتلى بماله، ومرة يبتلى بحبيبه، وهكذا تُقلَّب عليه الأقدار من لدن حكيم عليم. وإذا لم يحمل المؤمن النظرة الصحيحة للبلاء فسوف يكون زللُه أكبر من صوابه، ولا سيما أن بعض المصائب تطيش منها العقول لضخامتها وفُجاءَتها - عياذاً بالله.
ومن هنا كانت كتابة هذه الرسالة لتسلية كل مصاب مهما بلغ مصابه، أبيِّن له من خلالها بعض حِكم البلاء العظيمة التي ربما غفل عنها بعض الناس - هداهم الله- ونسوا أو تناسوا أن الله لا يبتلينا ليعذبنا، بل ليرحمنا. وأن على المؤمن أن ينظر إلى البلاء- سواءً كان فقداناً للمال أو الصحة أو الأحبة- من خلال نصوص الكتاب والسنة على أنه:
أولاً: امتحان وابتلاء:
نعم امتحان وابتلاء، فنحن في قاعة امتحان كبيرة نُمْتحن فيها كل يوم تدعى الحياة، فكل ما فيها امتحان وابتلاء: المال فيها امتحان، والزوجة والأولاد امتحان، والغنى والفقر امتحان، والصحة والمرض امتحان، وكلنا ممتحن في كل ما نملك وفي كل ما يعترينا في هذه الحياة حتى نلقى الله، قال تعالى: {كُل نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَنَبلُوكُم بِالشر وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ}. [ الأنبياء: 35 ].
وقال جل ذكره: {أَحَسِبَ الناسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنا وَهُم لاَ يُفتَنُونَ (2) وَلَقَد فَتَنا الذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَن اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَن الكَاذِبِينَ}. [ العنكبوت: 2-3 ].
فأنت أيها المعافى ممتحن، ولكن ما أحسست أنك في قاعة امتحان حتى ابتُليت، وأنت أيها المريض ممتحن، ولكن ما أحسست أنك في قاعة امتحان حتى شُفيت.
وليس فينا من هو أكبر من أن يمتحن. وكيف لا وفي الحديث الصحيح: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل…" [ رواه البخاري ]. كما أنه ليس فينا من يملك رفض هذا الامتحان. ولكن فينا من يُمتحن بالبلاء فينجح بالصبر والإيمان والاحتساب، وفينا من يمتحن بالبلاء فيرسب بالجزع والاعتراض على الله - عياذاً بالله.
ورحم الله الفضيل بن عياض حين قال: " الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه ".
ثانياً: قسمة وقدر:
إنَّ الله تعالى قسم بين الناس معايشهم وآجالهم، قال تعالى: {نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم معِيشَتَهُم في الحَياةِ الدنيَا}. [الزخرف: 32 ]. فالرزق مقسوم، والمرض مقسوم، والعافية مقسومة، وكل شيء في هذه الحياة مقسوم. فارضَ بما قسم الله لك يا عبد الله، ولا تجزع للمرض، ولا تكره القدر، ولا تسب الدهر، فإن الدقائق والثواني والأنفاس كلها بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء، فيُمرِض من يشاء، ويعافي من يشاء، ويبتلي من يشاء {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ}. [الأعراف: 54]. - بلى سبحانه وتعالى.(4/266)
وما دام الأمر كذلك فسلِّم أمرك لله أيها المبتلى، واعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن من يريد أن تكون الحياة على حال واحدة، فكأنما يريد أن يكون قضاء الله تعالى وفق هواه وما يشتهيه. وهيهات هيهات.
يا صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ أبشِر بخيرٍ فإنَّ الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيأسنَّ فإنَّ الكافي الله
الله يُحدِث بعد العسر ميسرة لا تجزعنَّ فإن القاسم الله
إذا بُليت فثِقْ بالله وارضَ به إنَّ الذي يكشف البلوى هو الله
واللهِ ما لكَ غير الله من أحدٍ فحسبُك الله في كلٍ لك الله
ثالثاً: خير ونعمة بشرط:
وأياً كانت هذه القسمة وهذا الامتحان فهو خير للمؤمن وليس لأحد غيره، ولكن بشرط الشكر على النعماء، والصبر على البلاء. وفي الحديث الصحيح: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له" [ رواه مسلم ].
وما أصدق الشاعر إذ يقول:
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت...........ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وأجمل من ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وَيَجعَلَ اللهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً}. [النساء:1] وقوله: {وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لكُم وَعَسَى أَن تُحِبوا شَيئًا وَهُوَ شَر لكُم وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لاَ تَعلَمُونَ }.
لذا فاعلم يا عبد الله أنه إنَّما ابتلاك الذي أنعم عليك، وأخذ منك الذي أغدق عليك. وليس كل ما تكرهه نفسك فهو مكروه على الحقيقة، ولا كل ما تهواه نفسك فهو نافع محبوب، والله يعلم وأنت لا تعلم.
لئن كان بعض الصبر مُرًّا مذاقُه.............. فقد يُجتنى من بعده الثمرُ الحلوُ
يقول بعض السلف: "إذا نزلت بك مصيبة فصبرت، كانت مصيبتك واحدة. وإن نزلت بك ولم تصبر، فقد أُصبت بمصيبتين: فقدان المحبوب، وفقدان الثواب". ومصداق ذلك من كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَمِنَ الناسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَن بِهِ وَإِن أَصَابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدنيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبِينُ}. [الحج: 11 ].
كُن في أمورك مُعرضاً............ وكل الأمور إلى القَضَا
وأبشِر بخيرٍ عاجلٍ............ تنسى به ما قد مضى
فلرُبَّ أمرٍ مسخطٍ............ لك في عواقبه الرضا
رابعاً: محطة تمحيص وتكفير:
نعم، الابتلاء محطة نتوقف فيها برهة من الزمن فإذا بأدران الذنوب والمعاصي تتحاتّ منا كما يتحات ورق الشجر؛ إذ المؤمن يُثاب على كل ضربة عرق، وصداع رأس، ووجع ضرس، وعلى الهم والغم والأذى، وعلى النَصَب والوَصَب يصيبه، بل وحتى الشوكة يشاكها. وفي الحديث: "ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ - وهما المرض والتعب - ولا همٍ ولا حزنٍ ولا غمٍ ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه" [ متفق عليه ].
فالأجر ثابت يا عبد الله، على كل ألمٍ نفسي أو حسي يشعر به المؤمن إذا صبر واحتسب. فقد جاء في كتب السنة "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب رضي الله عنها، فقال لها: ما لكِ تزفزِفين ؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى فإنها تُذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" [ رواه مسلم ]. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرضٍ فما سواه إلا حطَّ الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" [ متفق عليه ]. فهنيئاً للصابرين المحتسبين.
خامساً: رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤ لمنازل الجنات:
إن البلاء يعتري المسلم فيمحو منه - بإذن الله- أدران الذنوب والمعاصي إن كان مذنباً مخطئاً - وكل ابن آدم خطَّاء كما مرَّ معك - وإن لم يكن كذلك فإن البلاء يرفع درجاته ويبوِّئه أعلى المنازل في الجنة. وقد جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول لملائكته إذا قبضوا روح ولد عبده: "قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي ؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيت الحمد" [ رواه أحمد وحسنه الألباني ]. ويقول سبحانه في الحديث القدسي: "ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صَفِيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" [ رواه البخاري ].
بل ترفع درجات المؤمن حينما يُبتلى بما هو أقل من ذلك، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة" [ رواه مسلم ].
إذاً هي درجة تلو درجة ليبلِّغه الله منزلته في الجنة، والتي يكون تبليغه إياها بفضل الله، ثم بفضل صبره على البلاء، والله عز وجل يقول: {إنمَا يُوَفى الصابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ}. [ الزمر: 10].
عَطِيَّتُه إذا أعطى سرورٌ....... وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأيُّ النعمتين أعمٌّ فضلاً......... وأحمد في عواقبها إيابا
أنِعمتُه التي أهدت سروراً........ أم الأخرى التي أهدت ثوابا(4/267)
بل الأخرى وإن نزلت بكرهٍ...... أحقُّ بشكرِ مَن صبر احتسابا
سادساً: علامة حب ورأفة:
إن المصائب والبلاء امتحانٌ للعبد، وهي علامة حب من الله له؛ إذ هي كالدواء، فإنَّه وإن كان مراً إلا أنَّك تقدمه على مرارته لمن تحب - ولله المثل الأعلى - ففي الحديث الصحيح: "إنَّ عِظم الجزاء من عظم البلاء،وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" [ رواه الترمذي وصححه الألباني ].
يقول ابن القيم رحمه الله: "إنَّ ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه لأهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به إلى تمام الأجر وعلو المنزلة …" إلى آخر ما قال.
ولا شك - أخي الحبيب-أنَّ نزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة. وكيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة" [ رواه الترمذي وصححه الألباني ]. وبيَّنأهل العلم أن الذي يُمسَك عنه هو المنافق، فإن الله يُمسِك عنه في الدنيا ليوافيه بكامل ذنبه يوم القيامة - عياذاً بالله.
سابعاً: دروس وذكرى:
في البلاء دروسٌ لا يمكن أن نأخذها من غيره أبداً وهي من حِكَم البلاء- ومن أهمها ما يلي:
الدرس الأول: أنَّ البلاء - أخي المسلم - درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل، يطلعك عملياً على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف لا حول لك ولا قوة إلا بربك، فتتوكل عليه حق التوكل، وتلجأ إليه حق اللجوء، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء، والعجب والغرور والغفلة، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه.
الدرس الثاني: أن البلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور، وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا،في حياة لا مرض فيها ولا تعب: {وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ}. [ العنكبوت: 64].
أما هذه الدنيا فنكد وجهد وكبد: {لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ}. [البلد: 4].
فهذا شأن الدنيا فبينما هي مُقبلة إذا بها مدبرة، وبينما هي ضاحكة إذا بها عابسة. فما أسرع العبوس من ابتسامتها، و ما أسرع القطع من وصلها، وما أسرع البلاء من نعمائها.
فهذه طبيعتها، ولكنك تنسى - أخي الحبيب - فيأتي البلاء فيذكرك بحقيقتها؛ لتستعد للآخرة، ويقول لك:
فاعمل لدارٍ غداً رضوانُ خازنها........... الجارُ أحمدُ والرحمنُ بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك تربتها........... والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
الدرس الثالث: أنَّ البلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالعافية. فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان وأصرح برهان معنى العافية التي كنت تمتعت بها سنين طويلة، ولم تتذوق حلاوتها ولم تقدِّرها حق قدرها. وصدق من قال: "الصحة تاجٌ على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى". ومَن غير المبتلى يعرف أنَّ الدنيا كلمة ليس لها معنىً إلا العافية ؟.
الدرس الرابع: أن البلاء يذكِّرنا، فلا نفرح فرحاً يطغينا، ولا نأسى أسىً يفنينا. فإن الله عز وجل يقول: {مَا أَصَابَ مِن مصِيبَةٍ في الأرضِ وَلاَ في أَنفُسِكُم إِلا في كِتابٍ من قَبلِ أَن نبرَأَهَا إِن ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لكَيلاَ تَأسَوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلاَ تَفرَحُوا بِمَا آتاكُم وَاللهُ لاَ يُحِب كُل مُختَالٍ فَخُورٍ}. [ الحديد: 22-23 ].
الدرس الخامس: أنَّ البلاء يذكرك بعيوب نفسك لتتوب منها، والله عز وجل يقول: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ }. [النساء: 79]. ويقول سبحانه: {وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ}. [الشورى: 30].
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ}. [ السجدة: 21 ]. والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها.
الدرس السادس: أنَّ البلاء درس تربوي عملي يربينا على الصبر. وما أحوجنا إلى الصبر في كل شيء. فلن نستطيع الثبات على الحق إلاَّ بالصبر على طاعة الله، ولن نستطيع البعد عن الباطل إلاَّ بالصبر عن معصية الله، ولن نستطيع السير في مناحي الحياة إلاَّ بالصبر على أقدار الله المؤلمة. وما أجمل الصبر في ذلك كله، فهو زادنا إلى جنة الخلد والرضوان. قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يُلَقاهَا إِلا الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقاهَا إِلا ذُو حَظ عَظِيمٍ}. [ فصلت: 35 ].
وختاماً لهذه الدروس، أظنُّك - أخي الحبيب - توافقني الرأي بأنَّ هذه الدروس الستة، لا يمكن أن نأخذها من غير بلاء؛ إذ هي من قبل أن نُصَاب بالبلاء لا تعدو أن تكون حبراً على ورق، أو كلاماً نظرياً يطير به الهوى، فإذا نزل بنا البلاء واجتزناه بنجاح صارت واقعاً عملياً نعيشه،وهذا من حِكَم البلاء.
قصص وعبر:(4/268)
لما فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين الحكمةَ الشرعية للبلاء، كانوا أفضل منَّا حالاً معه، وضربوا لنا أروع المثل في الصبر والعزاء والاحتساب، وإليك أمثلة على ذلك:
1- يروى عن عمر الفاروق رضي الله عنه أنَّه كان يكثر من حمد الله على البلاء، فلما سُئِل عن ذلك قال: "ما أُصبت ببلاءٍ إلاَّ كان لله عليَّ فيه أربع نعم: أنَّه لم يكن في ديني، وأنَّه لم يكن أكبر منه، وأنِّي لم أُحْرَم الرضا والصبر، وأنِّي أرجو ثواب الله تعالى عليه".
2-أصيب عروة بن الزبير رحمه الله في قدمه؛ فقرر الأطباء قطعها، فقطعت. فما زاد على أن قال: "اللهم لك الحمد فإن أخذت فقد أبقيت، وإن ابتليت فقد عافيت". فلما كان من الغد ركلت بغلةٌ ابنه محمداً - وهو أحب أبنائه إليه، وكان شاباً يافعاً - فمات من حينه، فجاءه الخبر بموته، فما زاد على أن قال مثل ما قال في الأولى، فلما سُئِل عن ذلك قال: "كان لي أربعة أطراف فأخذ الله مني طرفاً وأبقى لي ثلاثة، وكان لي سبعةٌ من الولد فأخذ الله واحداً وأبقى لي ستة. وعافاني فيما مضى من حياتي ثم ابتلاني اليوم بما ترون، أفلا أحمده على ذلك ؟!".
هكذا كانوا رضي الله عنهم أجمعين، وألحقنا بهم في فسيح جناته. فهلاَّ تشبَّهنا بهم.
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبُّه بالكرام فلاح
وختاماً أخي الحبيب: لا تنس:
لا تنس أن تبحث في البلاء عن الأجر، ولا سبيل إليه إلاَّ بالصبر، ولا سبيل إلى الصبر إلاَّ بعزيمةٍ إيمانيةٍ وإرادةٍ قوية.
ولا تنس ذكر الله تعالى شكراً على العطاء، وصبراً على البلاء، وليكن ذلك إخلاصاً وخفية بينك وبين ربك.
ولا تنس أنَّ الله تعالى يراك، ويعلم ما بك، وأنَّه أرحم بك من نفسك ومن الناس أجمعين، فلا تشكونَّ إلاَّ إليه !. واعلم بأنَّك:
إذا شكوتَ إلى ابن آدم فكأنَّما تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحم
ولا تنس إذا أُصبت بأمرٍ عارضٍ، أن تحمد الله أنَّك لم تُصَب بعرضٍ أشدَّ منه، وأنَّه وإن ابتلاك فقد عافاك، وإن أخذ منك فقد أعطاك.
ولا تنس أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنَّ عِظم الجزاء من عظم البلاء، وأنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب، ودع الجزع فإنَّه لن يفيدكَ شيئاً، وإنما سيضاعف مصيبتك، ويفوِّت عليك الأجر، ويعرضك للإثم.
ولا تنس أنَّه مهما بلغ مصابك، فلن يبلغ مصاب الأمة جمعاء بفقد حبيبها عليه الصلاة والسلام، فتعزَّ بذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنَّها من أعظم المصائب" [ رواه البيهقي وصححه الألباني ].
ولا تنس إذا أصابتك أيُّ مصيبةٍ أن تقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أجِرْني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها. فإنَّك إن قلت ذلك؛ أجارك الله في مصيبتك، وخلفها عليك بخير.
ولا تنس أن لا يأس من روح الله مهما بلغ بك البلاء، فإنَّ الله سبحانه يقول: {فَإِن مَعَ العُسرِ يُسراً (5) إِن مَعَ العُسرِ يُسراً}. [ الشرح: 5-6 ]. ولن يغلب عسرٌ يسرين، كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه. ثم حذارِ أن تنسى فضل الله عليك إذا عادت إليك العافية، فتكون ممن قال الله عنه: {وَإِذَا مَس الإِنسانَ ضُر دَعَا رَبهُ مُنِيباً إِلَيهِ ثُم إِذَا خَولَهُ نِعمَةً منهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدعُو إِلَيهِ مِن قَبلُ…} الآية [ الزمر: 8 ].
ثم لا تنس أن البلاء يذكرك بساعةٍ آتيةٍ لا مفر منها، وأجلٍ قريبٍ لا ريب فيه، وأنَّ الحياة الدنيا ليست دار مقرٍ. فاعمل لآخرتك؛ لتجد الحياة التي لا منغِّص لها.
وقبل الوداع أذكِّرك وأُبشرك بما بدأت به، وهو قول الحق جلَّ وعلا: {وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ (155) الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيهِ راجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ}. [البقرة:155-157].
وأخيراً، أسأل الله أن يجعلنا جميعاً من الصابرين على البلاء.. وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
==============
ما الحكمة من الابتلاء..!؟
يسأل البعض.. لماذا يبتلينا الله؟ وما الحكمة من الابتلاء؟
أولا: رفع الدرجات.
ان الله يبتلينا ليرفع درجاتنا.." فإن كان دينه صلبا زيد في ابتلائه".
وتخيّلوا معي إذا لقينا الله يوم القيامة بلا مصائب وابتلاءات سنكون مفلسين.. إياكم أن تظنوا أن حسناتنا تكفي لدخولنا الجنة..!!!
إنما تأتي المصيبة تنغص عليك أسبوعا.. تنغص عليك شهرا.
وأحيانا تصل الى سنة واثنين.. فاعلم أن لك منزلة كبيرة في الجنة. ولتصل الى هذه الدرجة فلا بد من هذه المصيبة وهذا الابتلاء.
ثانيا: التميز في الدرجات.
ومن حكمة الله في الابتلاء أيضا.. التمييز في الدرجات.
يقول تعالى:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} آل عمران 142.(4/269)
ويقول أيضا:{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب} آل عمران 179.
ويا لها من حكمة.. ليتميز الناس ويتميز أصحاب الفضل عن المنكّسة رؤوسهم.
ثالثا: حتى لا تصاب بالكبر والغرور
وهي من الحكم العظيمة، فتخيّل لو استمرت الأمور مستقرة وحياتنا هادئة، فماذا يحدث للانسان هنا..؟ إنك تعرف نفسك أكثر من أيّ إنسان!!
ستصاب بالكبر والغرور.. أليس كذلك؟ فالحياة مستقرة ليس بها ما يعكّرها.. نعيم وسعادة ومنافع (وهذا ما يحدث لأهل الباطل).
وهنا يصاب الانسان بالكبر والغرور والتعالى على الله وعدم الاحتياج له.. ولذلك يبتلينا الله، فنرجع اليه ونتذلل له ونحتاج اليه.. فرحمة بنا بتلينا.
يا لها من معاني.. تستشعرها القلوب المرهفة..!!
رابعا: حتى تشتاق الى الجنة
ومن الحكم أيضا.. أنك لن تشتاق ال الجنة الا إذا ذقت مرارة الدنيا!!
فكيف تشتاق الى الجنة وأنت ترى الدنيا مريحة.. جميلة..
وهذا ليس معناه أن تكره الدنيا.." لا بل ابذل الجهد وعمّر وشيّد.."
ولكنك تشتاق الى الجنة... فيذيقك الله مرارة الدنيا لتتمنى حلاوة الجنة.
خامسا: حتى لا تنسى الله
ومن الحكم أيضا.. أن المصائب والابتلاءات تذكّرك بالله صاحب النعم.. فتكون المصيبة سبب في أن تشكر الله على نعمته عليك وأن ترضى بقضائه.
وهكذا لا تنساه أبدا...
سادسا: لتعلم ان الله هو القوي
ومن حكم الله في الابتلاء.. أنه يبتليك لتظهر قوة الله عز وجل.. وتنجلي صفة القوة وصفة الرحيم.. أن نجاك من الابتلاء.
إن الله يبتليك فتلجأ اليه فيأخذ بيدك فتعلم أن الله قادر.. أن الله قوي.. أن الله رحيم..
سابعا: لأن الله يحبك
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم" الترمذي 2396 وابن ماجه 4031.
فمن حكم الله في الابتلاء.. أنه يحبك أيها العبد المؤمن.. الطاهر.. النقي.. التقي.. الخفي.
للأمانة الموضوع منقول : من محاضرات عمرو خالد
=============
الحكمة من الابتلاء
سبق في علم الله انه إذا أصاب المؤمن مصيبة فإنها تكون وفق قدر معلوم وقضاء مرسوم وحكمة ازلية وكتابة إلهية ولابد أن يعلم المؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطاه لم يكن ليصيبة حيث قال تعاليما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب
من قبل أن نبرأها أن ذلك علي الله يسير) وهكذا فان من صفته تعالي أن يقدر ويلطف ويبتلي ويخفف.
إن في الشدائد دروسا قيمة للمؤمنين وتجارب نافعة لدينهم ودنياهم تنضح نفوسهم وتصقل إيمانهم وتذهب صدا قلوبهم وتكفر من خطاياهم وتزيد صلتهم بربهم.
أولا: في الابتلاء تمحيص للمؤمن وزيادة في الأجر والثواب فعن أنس ري الله عنه قال:قال رسول الله لي الله عليه وسلم (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا الله بعبده الشر امسك عنه بذنبه حتي يوافي به يوم القيامة).
ثانيا: التعرف علي سنة الله عز وجل في التغيير: قال تعاليإن الله لا يغير ما بقوم حتي
يغيروا ما بأنفسهم).
ثالثا:التمييز بين الخبيث من الطيب:يقول الله تعالي(ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما انتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم علي الغيب)
رابعا:البلاء درس من دروس التوحيد والإيمان والتوكل ويطلعك عمليا علي حقيقة نفسك لتعلم انك عبد ضعيف لا حول لك ولا قوة إلا بربك. فتوكل عليه حق التوكل.
خامسا:إن البلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وإنها متاع لغرور وان الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا حياة لا مرض فيها ولا تعب.
سادسا:إن البلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالعافية
سابعا:إن البلاء يذكرك بعيوب نفسك لتتوب منها .
ثامنا:إن البلاء درس تربوي يربينا علي الصبر وما أحوجنا إلي الصبر في كل شي ولن نستطيع الثبات علي الحق إلا بالصبر علي طاعة الله .
===============
للابتلاء حكم عظيمة منها :
1- تحقيق العبودية لله رب العالمين
فإن كثيراً من الناس عبدٌ لهواه وليس عبداً لله ، يعلن أنه عبد لله ، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) الحج/11 .
2- الابتلاء إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض
قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة ، فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن .
3- كفارة للذنوب
روى الترمذي (2399) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي (2399) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2280) .(4/270)
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1220) .
4- حصول الأجر ورفعة الدرجات
روى مسلم (2572) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) .
5- الابتلاء فرصة للتفكير في العيوب ، عيوب النفس وأخطاء المرحلة الماضية
لأنه إن كان عقوبة فأين الخطأ ؟
6- البلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل
يطلعك عمليّاً على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف ، لا حول لك ولا قوة إلا بربك ، فتتوكل عليه حق التوكل ، وتلجأ إليه حق اللجوء ، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء ، والعجب والغرور والغفلة ، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه ، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه .
قال ابن القيم :
" فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه " انتهى ." زاد المعاد " ( 4 / 195 ) .
7- الابتلاء يخرج العجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله .
قال ابن حجر : " قَوْله : ( وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ ) رَوَى يُونُس بْن بُكَيْر فِي " زِيَادَات الْمَغَازِي " عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : قَالَ رَجُل يَوْم حُنَيْنٍ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم مِنْ قِلَّة , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْهَزِيمَة .."
قال ابن القيم زاد المعاد (3/477) :" واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته " انتهى .
وقال الله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) آل عمران/141 .
قال القاسمي (4/239) :" أي لينقّيهم ويخلّصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس . وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم. .........ثم ذكر حكمة أخرى وهي ( ويمحق الكافرين ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنّة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم ... وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعاً " انتهى .
8- إظهار حقائق الناس ومعادنهم . فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن .
قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه " .
ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : اُفْتُتِنَ نَاس كَثِير - يَعْنِي عَقِب الإِسْرَاء - فَجَاءَ نَاس إِلَى أَبِي بَكْر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّهُ صَادِق . فَقَالُوا : وَتُصَدِّقهُ بِأَنَّهُ أَتَى الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , إِنِّي أُصَدِّقهُ بِأَبْعَد مِنْ ذَلِكَ , أُصَدِّقهُ بِخَبَرِ السَّمَاء , قَالَ : فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الصِّدِّيق .
9- الابتلاء يربي الرجال ويعدهم
لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذي تتخلله الشدائد ، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال ، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها ، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها .
نشأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيماً ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضاً .
والله سبحانه وتعالى يُذكّر النبي صلّى اللّه عليه وآله بهذا فيقول : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ) .
فكأن الله تعالى أرد إعداد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تحمل المسئولية ومعاناة الشدائد من صغره
10- ومن حكم هذه الابتلاءات والشدائد : أن الإنسان يميز بين الأصدقاء الحقيقيين وأصدقاء المصلحة
كما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي(4/271)
11- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها
والله عز وجل يقول : ( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ ) النساء/79 ، ويقول سبحانه : ( وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ ) الشورى/30 .
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ فإنَّ الله تعالى يقول : ( وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ) السجدة/21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر .
وإذا استمرت الحياة هانئة ، فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .
12- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور
وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا ، في حياة لا مرض فيها ولا تعب ( وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ ) العنكبوت/64 ، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ : ( لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ ) البلد/4 .
13- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية
فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة ، ولم تتذوق حلاوتهما ، ولم تقدِّرهما حق قدرهما .
المصائب تذكرك بالمنعِم والنعم ، فتكون سبباً في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده .
14- الشوق إلى الجنة
لن تشتاق إلى الجنة إلا إذا ذقت مرارة الدنيا , فكيف تشتاق للجنة وأنت هانئ في الدنيا ؟
فهذه بعض الحكم والمصالح المترتبة على حصول الابتلاء وحكمة الله تعالى أعظم وأجل .
والله تعالى أعلم .
منقول من موقع
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com
-===========
خطبة استسقاء
18/8/1422هـ
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق تقواه، فإن من اتقى الله حفظه ووقاه، ومن سأله منحه وأعطاه، ومن توكّل عليه كفاه وآواه.
أيها المسلمون، دلائل وحدانية الله وآياتُ قدرته كثيرة، لا تُعدّ ولا تحصى، وشواهدُ عظمته وفيرة لا تحدُّ ولا تستقصى.
فوا عجباً كيف يُعصى الإله ……أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكةٍ …وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
وفي كل شيء له آية ……تدل على أنه الواحدُ
أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:63].
ولكن القلوب عن آيات الله غافلة، والنفوس عن شواهد قدرته لاهية، والعقول عن دلائل عظمته شاردة، إلا من رحم الله، فأين المتفكرون؟ وأين المتأملون؟ أين أولو الألباب؟ وأين أهل البصائر واللباب عن التفكير في عظمة رب الأرباب، وقدرة مسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب؟ ليقودهم ذلك إلى توحيد ربهم جل وعلا، وإخلاص الدين له، وإفراده بالعبادة دون سواه.
إخوة الإسلام، هنالك نعمة من نعم الله، وآية من آياته، لا غنى للناس عنها، هي مادة حياتهم، وعنصر نمائهم، وسبب بقائهم، منها يشربون ويسقون، ويحرثون ويزرعون، ويرتوون ويأكلون، تلكم ـ يا رعاكم الله ـ هي نعمة الماء والمطر، وآية الغيث والقطر.
إخوة الإيمان، الماء أصل النماء، الفائق على الهواء والغذاء والكساء والدواء، هو عنصر الحياة وسبب البقاء، من الذي أنشأه من عناصره إلا الله؟! ومن الذي أنزله من سحائبه إلا الله؟! أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [المعارج:68-70]، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [الفرقان:48-50].
تلك كوكبة من آيات كتاب الله، تدل على عظمة هذه النعمة، وأهمية تلكم المنة.
أمة الإسلام، إنه لا يقدر هذه النعمة قدرها إلا من حُرمها، تأمَّلوا في أحوال أهل الفقر والفاقة، التي تغلب على حياة من ابتلوا بالجدْب والقحط والجفاف والمجاعة، سائلوا أهل المزارع والمواشي، في أي حالة من الضر يعيشون، لقلة الأمطار، وغور المياه، وهي سبب خصب مزارعهم وحياة بهائمهم، أرأيتم يا من تنعمون بوفرة المياه، ماذا لو حبس الماء عنكم ومنعتم إياه؟ هل تصلح لكم حال؟! وهل يقر لكم قرار؟! وهل تدوم لكم حياة؟! قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30]، إنه لا منجأ ولا ملجأ من الله إلا إليه.(4/272)
ومن حكمته تبارك وتعالى أن لا يديم عبادهُ على حالة واحدة، بل يبتليهم بالسراء والضراء، ويتعاهدهم بالشدة والرخاء، ويمتحنهم خيراً وشراً، نعماً ونقماً، محناً ومنحا، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].
ومن ابتلاء الله لعباده حبسُ القطر عنهم، أو تأخيره عليهم، أو نزع بركته منهم، مع ما للمطر من المنافع العظيمة للناس والبهائم والزروع والثمار، وما في تأخيره من كثير من المضار.
معاشر المسلمين، إن للغيث أسباباً جالبة وأخرى مانعة، هل سألنا أنفسنا ونحن في مواسم الغيث: هل أخذنا بأسباب نزوله، أم قد نكون نحن بأفعالنا سبباً في منعه؟ تعالوا بنا نعرض شيئاً من أحوالنا، لعلها تكون ذكرى نافعة، وسبباً في تقويم أوضاعنا على منهج الله، لنحظى برزقه الوافر، الذي لا ينال إلا بمرضاته، فالغيث جناح الرزق، قال تعالى: وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، والمطر أصل البركات، قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
فيا عباد الله، لنحاسب أنفسنا، ألم نقصِّر في تحقيق الإيمان والتقوى؟! ألم تتسلَّل إلى بعض أهل الإسلام لوثات عقدية، ومظاهر شركية، وأخرى بدعية؟! ما ميزان الصلاة وهي ثاني أركان الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان؟! لقد خفَّ مقدارها، وطاش ميزانها عند كثير من الناس إلا من رحم الله، وإذا سألت عن الزكاة المفروضة وإخراجها ترى العجب العجاب، من بخل بعض الناس وتقصيرهم في أدائها، مما نزع البركة من الأموال، وكان سبباً كبيراً في منع القطر من السماء، أخرج البيهقي والحاكم وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ((ولم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا))(1)[1].
لقد ظهرت المنكرات، وعمت المحرمات، في كثير من المجتمعات، فلم يتمعَّر منها وجه، ولم يشمئزّ منها قلب إلا من عصم الله، قتل وزنا، ظلم وربا، خمور ومسكرات، مجونٌ ومخدرات، وفي مجال المعاملات غش وتزوير، وبخس ومماطلة ورشاوي، في انتشار رهيب للمكاسب المحرمة، والمعاملات المشبوهة، وتساهل في حقوق العباد، وعلى الصعيد الاجتماعي هناك مشكلات أسرية معقدة، وعلاقات اجتماعية مفككة، ساد كثير من القلوب الحسد والبغضاء، والحقد والضغينة والشحناء، وقل مثل ذلك في مظاهر التبرج والسفور والاختلاط، وما أفرزته موجات التغريب من مساوئ في النساء والشباب، مما يذكي الجريمة، ويثير الفتنة، ويشحذ الغريزة من مظاهر محرمة، وصور ماجنة، وأفلام خليعة، يتولى كبر ذلك كثير من الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، حتى ضعفت الغيرة في النفوس، وقل التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، مع أنه قوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين، وحصل القصور في مجال التربية والدعوة والإصلاح، مع سيلٍ من مظاهر التحلل والإباحية والعولمة والانفتاح.
فأين الغيرة الإيمانية؟! وأين الحميّة الإسلامية؟! وأين الشهامة الإنسانية؟! وعلى الصعيد العالمي والدولي، هناك حروب وحوادث، ومكائد وكوارث، فتنٌ وبلايا، ومحن ورزايا، ظلم وإرهاب، وفوضى واضطراب.
فاللهم سلم سلم، ورحماك ربنا رحماك، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن ذنوبنا كثيرة، ومعاصينا عظيمة، وإن شؤم المعاصي جسيم وخطير، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : "وهل في الدنيا شرٌ وبلاء، إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!". الذنوب ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، إنها تقضّ المضاجع، وتدع الديار بلاقع، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما عند الله لا يستنزل إلا بالتوبة النصوح، يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : (ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة) (2)[2].(4/273)
عباد الله، لقد شكوتم إلى ربكم جدْب دياركم، وتأخر المطر عن إبّان نزوله عن بلادكم وأوطانكم، فما أحرى ذلك أن يدفعكم إلى محاسبة أنفسكم، ومراجعة دينكم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وما ابتلي المسلمون اليوم بقلة الأمطار، وغور المياه، وانتشار الجدْب والقحط، وغلبة الجفاف والمجاعة والفقر، في بقاع كثيرة من العالم، إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
رأيت الذنوب تميت القلوب ……وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ……وخير لنفسك عصيانها
إذا كنت في نعمة فارعها ……فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله …فإن الإله سريع النقم
أيها الأحبة في الله، إن تشخيص الداء في هذه القضية يحمل في طياته أسباباً كثيرة، منها: غفلة العباد، وقسوة قلوبهم، وضعف إيمانهم، وانتشار الذنوب والمعاصي بينهم، لا سيما منع الزكاة، ونقص المكاييل والموازين، والتقصير في الدعاء والضراعة، والإعراض عن التوبة والتسويف فيها، وإغفال الاستغفار الذي هو السبب العظيم في استنزال المطر من السماء، يقول تعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، وقال سبحانه عن هود عليه السلام: وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [هود:52]، واستسقى عمر رضي الله عنه فلم يزد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، قال : (لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر) (3)[3].
فالاستغفار ـ يا عباد الله ـ هو الدواء الناجع في حصول الغيث النافع، ولا بد في الاستغفار أن يكون صادقاً، فقد قال بعض السلف: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار"(4)[4].
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أنه ليس طلب الغيث بمجرد القلوب الغافلة، والعقول اللاهية، وإنما يتطلب تجديد العهد مع الله، وصدق العمل بشريعة الله، وفتح صفحة جديدة من حياة الاستقامة، وإصلاحاً شاملاً في كل مرافق الحياة، ومع هذا كله ففضل الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء، وعفوه عمَّ كل التائبين، فما ضاق أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجا، وما عظم خطب إلا جعل الله معه فرجا، فمنه يكون الخوف، وفيه يكون الرجا، هاهو جل وعلا ينادي عباده للتوبة والإنابة : قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ويقول سبحانه: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
وإن مواهب ربنا لجليلة، عطاياه لجزيلة، بابه للسائلين مفتوح، وعطاؤه للمقبلين ممنوح، وفضله للراغبين يغدو ويروح، فاشكروه على ما أعطى، وارجعوا عن المعاصي والأخطاء، جددوا التوبة من ذنوبكم، واتركوا التشاحن، واخرجوا من المظالم، وأحسنوا الظن بربكم، وتسامحوا، وتراحموا، ولا تقنطوا من رحمة الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
وإني لأدعو الله حتى كأنما ……أرى بجميل الظن ما الله صانع
أيها الإخوة في الله، من رحمة الله بعباده أن أنزل لهم من الغيث نوعين اثنين : أحدهما معنوي والآخر حسي.
فالأول غيث القلوب والأرواح بالكتاب والسنة، وهذا الغيث هو مادة حياة القلوب، وصفاء الأرواح، وبه تتحقق سعادة الدارين، وصلاح الحياتين، وهذا الغيث ـ يا عباد الله ـ هو ما يفتقده الناس اليوم على الحقيقة، بل إن ضرورتهم إليه وحاجتهم له أشد من الغيث الحسي، وهو غيث الأرض بالمطر، ولا يحصل الثاني إلا بتحقق الأول، فعلينا ـ يا عباد الله ـ أن نتفقد قلوبنا؛ هل رويت من القرآن، أم هي ظامئة عطشى؟ يجب علينا أن ننظر في صحائفنا، هل هي ربيع لوحي الله، أم قاحلة جدْباء؟ لعل ذلك يدفعنا إلى إصلاح حالنا، وتقوية الإيمان في قلوبنا.
عباد الله، يا من خرجتم تستغيثون، هنيئاً لكم اجتماعكم هذا، لقد أجبتم داعي الله، وأحييتهم سنة رسول الله ، وامتثلتم أمر ولي الأمر وفقه الله، فلا حرمكم الله فضله وثوابه، وحقق آمالكم، واستجاب دعاءكم، وإنه لمن الحرمان العظيم تساهل بعض الناس في حضور دعوة الخير، وإحياء سنة المصطفى .(4/274)
هذا وإن الارتباط بين الغيث المعنوي والحسي عظيم ووثيق، فإذا أجدبت الأحاسيس والمشاعر، وقحطت المعاني الخيّرة والمثل العليا في النفوس والضمائر، وساد الناس جفاف في الإيمان والسلوك، بليت الأمة بمنع القطر، وإذا رُويت بالإيمان والتقوى سعدت في الأولى والعقبى، وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:42، 43].
فيا عباد الله، ألم يأن لنا أن تخشع قلوبنا لذكر الله، فلنتق الله عباد الله، ولنتأس بنبينا الحبيب المصطفى ، فقد خرج يوم الاستسقاء متخشِّعاً متذللاً، متضرعاً(5)[5]، مجتهداً في الدعاء، لأن الاجتهاد في الدعاء من أعظم الأمور التي يستنزل بها المطر، يقول سبحانه: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرْضِ أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقد ورد أن الله عز وجل يستحي من عباده، إذا رفعوا أيديهم إليه، أن يردها صفراً أي خائبتين(6)[6].
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ……ولم تدْر ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطئ ولكن ……لها أمدٌ وللأمد انقضاء
إذا علمتهم ذلك ـ يا عباد الله ـ فارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم ومولاكم، والهجوا بالثناء عليه سبحانه، طالبين الغيث منه، راجين لفضله، مؤمِّلين لكرمه، ملحِّين عليه بإغاثة القلوب والأرواح، وسقي البلاد والعباد، فمتى علم الله إخلاصكم وصدقكم وتضرعكم، أغاث قلوبكم بالتوبة إليه، وبلدكم بإنزال المطر عليه.
لا إله إلا الله غياث المستغيثين ، وراحم المستضعفين، وجابر كسر المنكسرين، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العشر الكريم.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّاراً، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحًّا غدقاً طبقا عاماً واسعاً مجللا، نافعاً غير ضار، عاجلا غير آجل، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاءٍ ولا هدم ولا غرق.
اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أغثنا غيثاً مباركا، تحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته عوناً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ الضرع، وأسقنا من بركاتك، وأنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض.
اللهم ارفع عنا الجهد والقحط والجفاف، وعن بلاد المسلمين يا رب العالمين، واكشف عنا من الضر ما لا يكشفه غيرك.
اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك.
اللهم ارحم الشيوخ الركع، والبهائم الرتع، والأطفال الرضع، اللهم اكشف الضر عن المتضررين، والكرب عن المكروبين، وأسبغ النعم، وادفع النقم عن عبادك المؤمنين.
اللهم صل وسلم وبارك على خاتم النبيين، وإمام المتقين، وأشرف المرسلين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، والقحط وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة، يا رب العالمين.
اللهم أمدَّ بالعون والتسديد والتوفيق أميرنا وسائر المسلمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، لقد كان من سنة نبيكم ، بعدما يستغيث ربه أن يقلب رداءه(7)[7]، فاقلبوا أرديتكم، اقتداءً بسنة نبيكم ، وتفاؤلاً أن يقلب الله حالكم من الشدة إلى الرخاء، ومن القحط إلى الغيث، وليكون ذلك شعاراً وعهداً تأخذونه على أنفسكم بتغيير لباسكم الباطن إلى لباس الإيمان والتقوى بدلاً من لباس الذنوب والمعاصي.(4/275)
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تردنا خائبين، ولا عن بابك مطرودين، ولا من رحمتك محرومين.
اللهم هذا الدعاء، ومنك الإجابة، وهذا الجهد، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182]، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الفتن [4019] ، والبيهقي في الشعب (3/197) ، وصححه الحاكم (4/540) ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة [106].
(2) انظر : طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم ، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز ، انظر : مجموع الفتاوى (8/163).
(3) أخرجه عبد الرزاق [4902] ، وسعيد بن منصور (5/353) ، وابن أبي شيبة [29485] ، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال : خرج عمر يستسقي فذكره ، قال أبو زرعة وأبو حاتم : الشعبي عن عمر مرسل ، تحفة التحصيل (ص164).
(4) روي عن الحسن البصري رحمه الله كما في تفسير القرطبي (4/210).
(5) أخرجه أحمد [2039] ، وأبو داود في الصلاة [1165] ، والترمذي في الجمعة [559] ، والنسائي في الاستسقاء [1489] ، وابن ماجه في إقامة الصلاة [1266] ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال الترمذي : "حسن صحيح" ، وصححه ابن خزيمة [1408] ، وابن حبان [2862] ، وابن الجارود [253] ، والضياء في المختارة (9/501).
(6) أخرجه أحمد [23715] ، وأبو داود في الصلاة [1488] ، والترمذي في الدعوات [3556] ، وابن ماجه في الدعاء [3865] ، من حديث سلمان رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب ، ورواه بعضهم ولم يرفعه" ، وصححه ابن حبان [876] ، وهو في صحيح الترغيب [1635].
(7) أخرجه البخاري في الجمعة [969] ، ومسلم في الاستسقاء [1489] من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
[1995-البغا-]، ومسلم في كتاب الأدب [2628].
===============
خمس طرق يستخدم فيها الله المصاعب
المصاعب التى تواجهها ، إما تهزمك أو تنميك ، وهذا يعتمد على كيفية تجاوبك معها ..
ولسوء الحظ ، يفشل أغلب الناس في رؤية إرادة الله الجميلة في استخدام المصاعب
في حياتهم .. ويتفاعلون بغباء ممتعضين بدلا من التأني لرؤية الفائدة التي يمكنهم
الحصول عليها .. وها هنا خمسة طرق يريدها الله باستخدام المصاعب في حياتنا
الله يستخدم المصاعب في توجيهك 1-
أحيانا يضطر الله لوضعك فوق نيران المصاعب لتتحرك
فغالبا ماتوجهنا المشاكل إلى طريق جديد ، وتحفزنا كي نتغير ..
2- الله يستخدم المصاعب لإختبارك
الناس مثل عبوات الشاي .. إن أردت أن تختبر ما بداخلها ، مجرد ضعهم
فى ماء مغلي ! .. إن الله يمتحن إيمانك بمصاعب فى حياتك ..
إذاً عندما تقع في تجارب متنوعة فلتفرح لأنها تختبر إيمانك ، وهذا ينشئ فيك صبراً
-3 الله يستخدم المصاعب لتقويمك
هناك دروس لا يمكننا تعلمها إلا من خلال الألم والفشل .. مثلما يريد والدين
تعليم
طفلهم الا يلمس الإبريق الساخن .. ربما لن يتعلم ذلك إلا من خلال دفعهم له
ليلمسه وليلسعه متألما .. وأحيانا نحن لانعرف قيمة شئ ما في حياتنا مثل :
الصحة والمال وعلاقة ما .. إلا عندما نفقدها .
-4 الله يستخدم المصاعب لحمايتك
إن حصول مشكلة ما لك , قد تكون هناك من خلفها بركة .. إذا ما منعت عنك
أذى شئ أكبر منها .. في أحد الشركات فصل أحدهم من عمله ، لأنه رفض أن يقوم
بعمل شئ غير أخلاقى فى عمله رغم طلب رئيسه منه القيام بذلك ..
كان تعطله عن العمل مشكلة حقيقية ..
لكنها أنقذته من أن يدان ويدخل السجن بعد مرور عام ، عندما أكتشف عمل رئيسه
وكما يقال " رب ضارة نافعة "
5 - الله يستخدم المصاعب ليكملك
المصاعب ، حينما نستجيب لها بطريقة صحيحة ، تبنى صفاتنا الشخصية ،
والله يهمه ما نحن عليه أكثر ما تهمه راحتنا .. لأن علاقتك بالله ،
وما أنت عليه من صفات هما الشيئين الوحيدين اللذان ستأخذهما
معك في الآخرة .. وهذه هي النقطة المهمة
فالله يعمل في حياتك من خلال المصائب لكمالك .. حتى حينما لا تدرك
أنت ذلك أو تفهمه .. ولكنه من الأسهل والأكثر فائدة عندما
تؤمن بذلك وتشكره على الضراء والسراء .. فالنجاح يمكن قياسه
، ليس فقط بالانجازات ،
ولكن أيضاً بما نتعلمه من دروس .
================
حكمة الإبتلاء
لماذا الإبتلاء؟(4/276)
إن الانسان عندما يولد، تولد معه فرصتان متساويتان ككفتي الميزان اللتين لا رجحان لأحداهما على الأخرى؛ فرصة الخير، وفرصة الشر.. فرصة الدخول الى الجنة، وفرصة الدخول في النار. ثم يدخل الانسان بعد ذلك في سلسلة لا تنتهي من الامتحانات، وهذه الامتحانات تتعمق وتصبح أكثر صعوبة عند البلوغ، وفي بعض الأحيان تغدو امتحانات عسيرة شديدة.
وكلما إزدادت هذه الاختبارات شدة وصعوبة، إزداد نقاء جوهر الانسان. والدليل على ذلك إن أصل كلمة (فتنة) مقتبس من وضع الذهب في النار، لأن هذا المعدن يختلط بسائر المعادن. فلكي يصفى وتذهب عنه تلك الشوائب، فانه يحتاج الى (الفتنة)؛ أي الى أن يعرض للنار ليذوب فيها وتزول الزوائد منه. وقد استخدم القرآن الكريم هذا المصطلح في مواضع عديدة، منها سورة (البروج) حيث يقول عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ( (البروج/10)
فما هو - يا ترى - معنى الفتنة للمؤمنين في هذه الآية الكريمة ؟
إنها تعني؛ أن في داخل المؤمن خليطاً من رواسب الشرك والذنوب والخطايا.. فالكثير من الناس كانوا يعانون في مقتبل أعمارهم من إنحرافات، كالكذب والغيبة، والنظر أو الاستماع الى ما حرمه الله تعالى، وما الى ذلك من ذنوب. وهذه الذنوب تظل في أعناقنا بالتأكيد، لأنها مسجلة في اللوح المحفوظ، وقد أحصتها الملائكة علينا. كما أنه كل شيء يشهد على الانسان، كالأرض التي ارتكب الذنب عليها، والجوارح التي مارست بها هذا الذنب. أضف الى ذلك، إن الذنوب تترك آثاراً على قلب الانسان، فهي ترين عليه، وتحيط به.
الفتنة تطهر الانسان
والفتنة هي التي تتكفل بازالة رواسب الذنوب، والثقافة الجاهلية، والانحراف، والتربية الفاسدة من نفس الانسان وقلبه. وقد تتجسد الفتنة في الجهاد في سبيل الله عز وجل أو العيش في دار الغربة.. والألم الذي يعاني منه الانسان في هذه الحالة، يؤدي الى تطهير القلب، كما تطهر النار الذهب من الرواسب العالقة به. ولذلك فان الانسان المؤمن حقاً يحب الفتنة، ويتقبلها بصدر رحب، لكي يتخلص من رواسب ذنوبه.
وبالطبع فاننا نعوذ بالله تعالى من جهد البلاء وشدته، ومن التعرض الى الفتن العظيمة التي لا طاقة للانسان بها والتي تؤدي الى تهيبه وتراجعه، وبالتالي سقوطه في الامتحان الإلهي.
وهكذا فان نظرتنا الى الصراع بيننا وبين أعداء الدين قائمة على أساس الايمان بالفتنة والاختبار الإلهي، وبالتالي فان علينا أن لا نعترض على الارادة الالهية، ولا نتذمر منها قائلين: لماذا كل هذه المآسي والمصائب التي تنزل علينا، ولماذا لا نعيش مرتاحين كما يعيش الآخرون، ولماذا لا نخرج من صراع إلاّ لندخل في صراع آخر؟
فطبيعة الحياة الدنيا تقتضي أن يدخل الانسان سلسلة من الامتحانات،
ونحن لا نستطيع أن نهرب من تقديرات الله تبارك وتعالى. فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: "ولو أنَّ مؤمناً على قلّة جبل لبعث الله عز وجل إليه شيطاناً يؤذيه". (1)
الفتنة جزء من الحياة
وإذا ما أراد الانسان أن يتخلص من الفتن، فعليه أن يخرج من هذه الدنيا. وإذا خرج منها، فإن كل شيء سينتهي. فما دامت الحياة قائمة، فان الفتنة قائمة هي الأخرى الى اللحظة الأخيرة من هذه الحياة. ولذلك فقد جاء في بعض الأدعية: "اللهم اني أعوذ بك من العديلة عند الموت".(1) ففي لحظات الموت يصاب الانسان بعطش شديد، ولذلك فمن المستحب أن يسقى الماء. وفي هذه اللحظات الحرجة والحساسة، والتي هي لحظات الفتنة والاختبار، يأتي الشيطان ويخاطب الانسان قائلا: سأعطيك الماء شريطة أن تكفر بالله. وهناك من الناس من يسقط في هذا الامتحان، فيكفر بربه في اللحظات الأخيرة، فيموت وهو كافر.
فلنحذر من هذه اللحظة، ولنفكر فيها، ولنحاول أن نتجاوزها بنجاح من خلال تعويد أنفسنا على قراءة القرآن وحفظ آياته والتدبر فيها، والعيش في أجوائها، لكي تكون زادنا الذي نتقوى به في تلك اللحظات المصيرية.
وعلى هذا فان صراعنا مع الأعداء هو صراع ثقافي مبدئي؛ وهذا الصراع من مصلحتنا، لأنه يزكينا ويطهرنا من دنس الذنوب ورواسب الشرك وحب الدنيا. فمن الضروري أن تكون في حياتنا الصراعات والمشاكل، لكي لا ننسى الآخرة، ولا نتجه الى الدنيا.
وهذا الصراع الثقافي الدائر بيننا وبين أعدائنا ينبغي أن نديره بمهارة وذكاء، بأن نستغله في تربية الروح الدينية، وتنمية التقوى، وإيجاد زخم معنوي في النفوس، وبعث الحالة الحضارية في أنفسنا من جديد. فكلنا مسؤول، وسنمثل يوم القيامة كلنا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله ليكون شاهداً وحجة علينا فيما عملناه من أجل الاسلام، وما قدمناه له من تضحيات وعطاءات.
عقبى الفتنة(4/277)
والتعرض الى الفتن والابتلاءات والخروج منها ونحن أقوى عزيمة وأشد بأساً، وأكثر مضاء وتصميماً على مواصلة الدرب، والاستمرار في المسيرة.. كل ذلك هو الذي يضمن لنا الارتفاع في درجات الايمان، والتطهر من الذنوب والآثام، وصقل نفوسنا، وبالتالي المثول أمام رب العالمين جل وعلا بوجوه بيضاء، ونفوس مطمئنة، وأرواح متطلعة الى ثواب ربها ورضوانه. وإلا فان سوء العاقبة سوف تكون بانتظارنا - لا قدر الله - إذا ما سقطنا في الامتحانات الإلهية، ولم نعرف كيف نستغلها في سبيل الرقي في المدارج العليا للايمان، وذلك من خلال التذمر منها، وعدم الصمود أمامها، والتهرب من مواجهتها.
حتمية الإبتلاء
المصيبة العظمى والداء الوبيل أن يخلد الانسان ويميل بكل كيانه الى الدعة، ويغرق في بحار اللذائذ والترف؛ فيعتقد أن سر وجوده في هذه الحياة وفلسفته، هما التنعم باشباع الغرائز والشهوات، مثله في ذلك كمثل البهيمة المربوطة التي لا همّ لها سوى علفها.
وعندما يسود الذهن البشري اعتقاد كهذا، يقضي بأن الحياة الدنيا هي الأساس والغاية، وبنهايتها تكون خاتمة المسير والمطاف؛ فلا حياة ولا نشور. فان هذه هي المصيبة الكبرى، ذلك لأن هذا الاعتقاد يمثل الضلال المبين الذي يميت القلب، والغشاوة التي تعمي الأبصار، والسبب الحقيقي لمسيرة الانحراف الخطيرة في حياة الانسان؛ ذلك لأن الدنيا لم تخلق ليركن إليها، بل إنها قامت على كدر ومشاكل ومعاناة، وجرت دواليبها بدفع من الجد والجهد والاجتهاد، لذلك يقول تعالى: (يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ( (الانشقاق/6).
وبالطبع فاننا لا نريد أن نلغي التمتع بالنعم في الدنيا، بل نعني أن هذه النعم إن وجدت فانها طارئة منقضية، وأن إحساس الانسان بالراحة والاستقرار هو حالة إستثنائية.
سر ظاهرة الموت
وفي البدء لنتأمل ونمعن النظر في سر ظاهرة الموت التي هي ليست في الحقيقة غريبة وعجيبة، لأننا نعيشها ونلحظها في كل آن، ولكن الغرابة والعجب يكمنان في سر هذه الرحلة. فقد يسأل الإنسان نفسه في هذا المجال قائلا: ترى ما قيمة هذه الحياة التي نحياها اذا كانت تختتم بالموت؟ فها نحن نبني ونعمل وننتج ونعمر الأرض.. وإذا بكل شيء ينتهي في تلك اللحظة المخطوطة، والأجل المكتوب، لينتهي معه النزاع والتكالب على هذه الدنيا وحطامها رغما عنا.
وبناء على ذلك فما قيمة هذه الحياة، وما قدر هذه الدنيا، وما أعظم تلك العبر والدروس والمواعظ التي علمونا إياها أئمة الهدى عليهم السلام، وأرادوا لنا بها خير الدنيا وثواب الآخرة؟ فها هو ذا إمامنا موسى الكاظم عليه السلام ينطق بالموعظة البليغة، عندما ينظر الى ميت قد إنشغل أهله وأصحابه باهالة التراب على جسده فيقول: " إنَّ شيئاًً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإنَّ شيئاً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره". (1) فهذا هو حال الدنيا، فالانسان يسعى فيها ويجهد ويبني ويشيد ثم يأتي هادم اللذات فينغص عليه لذائذه، ويهدم بفأسه آماله وأمانيه.
صحيح إن هذه الدنيا لا تخلو من راحة أو تمتع بنعمة أو نشوة، ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا إن تلك النعم واللذائذ إن خلت من التنغيص فان زوالها السريع هو التنغيص بذاته. ثم إننا كثيراً ما نرى أن ساعات التمتع بالنعم والملذات تتخللها - وربما تفسدها - تلك المنغصات الطارئة أو الكامنة في النفس. فحتى في تلك الساعات التي نفرغ فيها من أداء المهمات والواحبات، ونكون فيها أحراراً من كل مسؤولية؛ في هذه الساعات تنطلق كوامن النفس من هواجس ووساوس وأفكار شتى، وربما تكون وساوس شيطانية تملأ القلب، وتنغص عليه ساعات الراحة تلك.
وهكذا الحال بالنسبة الى النعم واللذائذ، فان أقل منغص لها علمك بزوالها أو زوالك عنها بعد فترة قصيرة، ثم هناك القلق والخوف والتفكير في كيفية الحفاظ على هذه النعمة وحراستها.
لا حياة بدون مشاكل
وعلى هذا الأساس فان الحياة الدنيا لا تخلو من المشاكل والمعاناة والمنغصات الكثيرة، وبالتالي فان الانسان يخرح بنتيجة ملموسة وواقعية، وهي إن الهدف الرئيسي للانسان لا يمكن أن يتحدد في إطار هذه الدنيا؛ فهي ليست خاتمة المطاف، وإن أولئك الذين يغالطون واقعهم ويزعمون أن الدنيا هي الهدف والغاية هم الأكثر بلاء.. والأشد عناء ومعاناة.(4/278)
ولذلك فان الانسان عندما يعيش الأمل بالراحة وصفاء البال وتوفر النعمة.. ثم إذا به يواجه وابلاً من المشاكل والعثرات، فان من الطبيعي أن يحس بعنف الصدمة النفسية، والغصة في أوج حالة التنعم والارتياح. أما إذا كان قد أعد العدة للمشاكل والصدمات النفسية والعثرات التي تعترض سبيل الراحة والاطمئنان والتنعم، فحينئذ سيكون الأمر بالنسبة إليه عادياً، وسيكون قادراً على إستيعاب تلك المشاكل والمعضلات؛ لا كأولئك الذين يحسبون أن الدنيا دار أنس وراحة وتمتع واستقرار، والذين ينهارون من الناحية النفسية والمعنوية لمجرد أبسط مشكلة تواجههم. ذلك لأنهم عاشوا الدنيا وهم يتصورون أنها الغاية والهدف المنشود، فتراهم لا يعيرون أذنا صاغية الى ناصح، متغافلين عن هتافات وتحذيرات الأنبياء والأوصياء.
فلنأخذ بعين الاعتبار دائماً البلايا والمصاعب ومواجهة العثرات؛ فان جائتنا النعم والخيرات فرحنا بها، وإن واجهتنا الأمور التي لا تبعث على الراحة، وتسلب الاطمئنان، فانها سوف لا تكون غريبة علينا، لأننا كنا قد وضعناها في الحسبان، وأعدنا العدة لمواجهتها.
وبناء على ذلك، فلو نظرنا الى الحياة من خلال هذا المنظار - المنظار الواقعي - فان في ذلك مبعث النجاح والفلاح في هذه الحياة، وفي كتاب الله العزيز نرى أن في كثير من آياته تأكيداً متواصلاً على حقيقة البلايا والمصائب والصراعات والمعضلات والعثرات والفتن والوساوس الشيطانية والموت ومواعظه البليغة. وعلى سبيل المثال فانه يذكّر بالموت ونزوله بالانسان، ويحثه على العمل والجد والاجتهاد والسعي والانتشار في أرض الله الواسعة.. وبذلك فانه يؤكد لنا على أن هذه الحياة لم تخلق بهدف الدعة، وبلوغ الراحة.
ومن خلال هذه النظرة الواقعية الصائبة الى الحياة، يمكن للانسان السير نحو الكمال المطلق؛ أي نحو الله سبحانه وتعالى، ويتحول الى ذلك الانسان الذي يقول عنه: "كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف". (1) فالمؤمن أقوى وأكثر شموخاً من الجبل، وأصلب من الحديد، لا تنال من عزمه وهمته ولا تثبط حركته ونشاطه في الحياة عواصف الدنيا وقواصفها.
المؤمن خفيف المتاع
والمؤمن الذي يعيش هذا الواقع، نراه لا يخلد كثيراً الى الأرض. فهو خفيف المتاع؛ فعلى سبيل المثال فانه يضع في حسبانه الهجرة، والفرار الى الله سبحانه إن اقتضت الظروف ذلك، فتصبح الهجرة في أرض الله الواسعة بالنسبة إليه مسألة عادية لا يبالي بصعوباتها وتبعاتها. ذلك لأن الهجرة هي حقيقة واقعية في التاريخ. وقد عاشها أولئك الذين سبقوه، ثم إنه قرأ هذه الحقيقة في القرآن فوجد التأكيد المتواصل عليها مما يهونها عليه، ولذلك فانه يتوقعها ويدرك أن الطريق الذي سلكه في هذه الحياة هو طريق الرسالة والايمان والجهاد يتطلب مثل تلك الظروف والتضحيات. فالهجرة هي واقع شهده التأريخ في كثير من محطاته منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وأنزله الى الدنيا والى قيام اليوم الموعود.
وهذه الحركة هي أحد متطلبات التغيير في الحياة، والمؤمن الذي يعيش واقع هذه الحركة نراه لا يخلد كثيراً إلى الأرض، ولا يمد جذور عميقة في واقعه، ولا يبني القصور، ولا ينمي الاموال لينفقها في تشييد العقارات.
وكمثال آخر؛ فان الانسان المؤمن ينظم حياته الاقتصادية تنظيماً حكيماً، فهو عندما يدّخر شيئاً من المال فان ادّخاره هذا ليس من أجل الادّخار ذاته كما يفعل الكثير من الأغنياء الذين سيخرجون فقراء جياعاً من هذه الدنيا رغم ما يمتلكونه من الثروات، ورغم ما يدّخرونه. فالانسان المؤمن عندما يدّخر شيئاً فانه يخطط بذلك للمستقبل، والظروف الصعبة التي قد يمرّ بها، فيدّخر لحاجته في الغد حتى لا يمد يده الى أحد، كما إنك تراه في سلوكه المعاشيّ معتدلاً، لا يسرف ولا يفرط، ويصب جل تفكيره في بناء حياة اقتصادية متوازنة.
وهكذا فان القرآن الكريم يوجهنا ويعظنا مشيرا الى معضلات هذه الحياة ومعاناتها وآلامها، والى الفتن والامتحانات التي يتعرض لها الانسان المؤمن. فبصائره تسير في هذا الاتجاه، وتهيّئه - أي المؤمن - لكي يكون مستعداً من جميع النواحي لمقارعة الصعاب، وتحمل المشاق والمصائب.
القرآن بيان للناس
وفي هذا المجال يقول عز من قائل: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(. (آل عمران/138) في هذا السياق إشارة أريد تبيانها هنا، وهي إنها تعطينا فكرة عن أهمية الموضوع الذي سيأتي الحديث عنه، والذي يمثل حقيقة كبرى وبصيرة نافذة لا غنى لنا عنها، وأنها تمس حياتنا وواقعنا. فعلى الناس جميعاً أن ينتفعوا من هذا البيان والارشاد الرباني، وهم قادرون على استيعابه، وبالتالي فان الكشف عنه سيكون حجة على الناس كلهم.
ومع ذلك فاننا لا نجد من يأخذ بهذه الحقائق الواضحة البينة، وينتفع بها إلاّ المؤمنون المتقون الذين لا تحجبهم الذنوب، ولا تغشى أبصارهم الشهوات، ولا تعمي قلوبهم الأهواء المقيتة عند انكشاف الحقائق.(4/279)
ثم ينتقل السياق الكريم ليستعرض تلك الحقائق والبصائر، ويرسم آفاق النجاح، فيقول جل اسمه: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا(. (آل عمران/139) أي لا يحبطنكم التراجع، والانهزام عند مواجهة ركام المصائب، وجبال الهموم والمعاناة، ولا تدعوها تفشل حركتكم ونشاطكم وسعيكم في هذه الحياة ومنعطفاتها. ثم وإياكم والهزيمة النفسية والمعنوية، فانها أصل كل هزيمة واندحار وفشل، كما يقول تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ( (آل عمران/139).
فلماذا - إذن - الوهن والفشل مادمنا ندعو الى الايمان والتوكل على الله؟ وكيف نسمح للانهيار والوهن يسيطران على نفوسنا، في حين إن المؤمنين هم الشامخون الأقوياء الأعزاء في نفوسهم ؟
ثم يعود السياق المبارك ليدخل في تفاصيل أكثر فيقول: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ( (آل عمران/140).
هذا هو حال الدنيا؛ يوم لك ويوم عليك، والأيام دول بين الناس. فكما أنك تخوض الامتحان، فان عدوك يخوضه أيضاً. ولننظر الى التأريخ في هذا المجال؛ فكم من جبار وسلطان ووزير.. كانت لهم سطوتهم، يرفعون الصولجان على رؤوس الناس ويستعبدونهم ويذلونهم بالسياط والحديد والنار... ولكن أين صاروا، وأين هم الآن ؟
ثم يقول تبارك شأنه: (وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا...( (آل عمران/140).
وهنا تكمن حكمة الفتن والبلايا، وهذه الحكمة تتمثل في معرفة أهل الايمان. فالإبتلاء هو المحك، فعند خوض بحر المصاعب، والسير في الطرق المليئة بالأشواك، حينئذ يعرف الايمان الحق. وعند إجتياز الامتحان بإرادة أصلب وأقوى من الجبال، وبصيرة تنفذ في الصخر الاصمّ، فحينئذ يمكننا أن نصف الانسان الذي إجتاز هذا الامتحان بأنه مؤمن حقاً.
من حكم الابتلاء
ثم يستمر السياق المبارك في بيان المظاهر الأخرى للحكمة من التعرض للابتلاءات، فيقول تعالى: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ( (آل عمران/140). والمعنى المراد هنا قد يكون (الاستشهاد)؛ أي إن السياق يريد معنى أن الله سبحانه وتعالى يبتلي الناس، ويعرضهم للاختبارات، فتكون المكافأة في أصعبها، فيأخذ عز وجل الفائزين الى قربه، ويمنحهم وسام الشهادة الرفيع، ويكرمهم بتلك الكرامة العظيمة عندما يقتلون في سبيله.
والمعنى الآخر لقوله تعالى: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ( أن ينبري من صلب المجتمع، ويبرز الى مقدمته الممحّصون الذين امتحنتهم الأحداث فكانت لهم محكا، ويواجهون العواصف العاتية كالجبال الشماء، ويقفون في وجه التيارات المنحرفة، ويتصدون لقيادة الأمة في ساحات المواجهة، والسير بها نحو الأهداف الرسالية المنشودة.. ولعل هذا المعنى هو المراد. فمعنى القيادة والريادة هو المطلوب في الآية السابقة.
ثم يقول عز من قائل: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ( (آل عمران/140). وللأسف فان الكثير منا يتصورون أن الله سبحانه وتعالى يحب الظالمين، ذلك لأنهم يرون بعض الظلمة قد ظلوا يتسلطون رغم المصائب التي أنزلوها في ساحة الملايين من الناس، غافلين عن سنة إلهية جرت في العباد، وهي أن الله جل وعلا إنما يبقي على الظالمين ليزدادوا إثماً. فلنحذر من الانحراف في المفاهيم، وتغيير القيم. فهذا هو أيضاً إبتلاء إلهي لنا، ثم علينا أن لا ننسى أن لله في إرادته وسننه حكماً لا ندركها إلاّ في وقت تجليها.
محق الكافرين
ثم يضيف السياق مبيناً أسراراً أخرى للبلايا والشدائد التي يتعرض لها المؤمنون وتنزل بالكافرين، فيقول تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ( (آل عمران/141). فالكافرون عندما ينزل عليهم العذاب الشديد على أيدي المؤمنين، يدمرهم ويستأصلهم. وهذا هو معنى (المحق)؛ أي زوالهم على أيدي المجاهدين الرساليين الذين يمحّصون، ويبلون بلاءً حسناً في مثل هذه المواجهات الحاسمة. ذلك لأن المؤمنين لا تخلو قلوبهم من الشوائب؛ فكما أن الكافرين يصلون الى أعلى درجات كفرهم عند المواجهة، فان المواجهة هذه تكشف أيضاً عن أولئك المؤمنين الذين صفت قلوبهم، وخلصت نياتهم لله سبحانه، لأن الانسان المؤمن لا يمكن أن يدخل الجنة وقلبه مشوب بتلك الشوائب. وهذه القضية ليست بالسهلة الهينة، بل هي في غاية الأهمية، والحديث الشريف يؤكدها، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لن يدخل الجنة عبدٌ في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر". (1)
ترى من منا يمكنه الادعاء بأن قلبه طاهر نظيف من الكبر والحسد والغل والرياء ؟ لا يمكن لأحد أن يدعي هذا الادعاء، ولذلك فان الخالق تبارك وتعالى جعلنا عرضة للبلايا والمصائب ليمحّصنا ويمتحننا ويكشف عن صدق ادعاءاتنا، ليعرف مدى صبرنا وصمودنا ومقاومتنا، ثم يمهد لنا سبيلاً الى الجنة عند النجاح في هذه الابتلاءات والشدائد. ثم علينا أن لا ننسى أن هذه البلايا والمصائب والشدائد مهما بلغت، فانها ضئيلة ازاء عذاب الآخرة، وأهوال يوم القيامة.
ثمن الجنة(4/280)
ثم ينتقل السياق الكريم ليؤكد على ثمن الجنة، وطريق الولوج الى عوالمها الرحبة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ( (آل عمران/142)
فلنفكر في هذا الأمر، لأنه مرتبط بمصيرنا مادامت الدنيا في طريقها الى الفناء، ولن يكون بعدها سوى جنة تقابلها نار. فالمصائب والشدائد منتهية وزائلة لا محالة، ولكن الذي يبقى هو شعلة الايمان تضيء وهاجة، وراية العمل الصالح ترفرف خفاقة، وهما يدلان على طريق الجنة والنعيم الأكبر.
فالجنة مثلها كمثل قصر نظيف مزخرف واسع، مزينة جدرانه وقوائمه، مزخرفة سقوفه وأروقته، فيه من الأطعمة والأشربة ما تلذ به الأنفس.. وإذا بآتٍ يأتيه وعليه الكدارة والأوساخ والملابس القذرة يريد الدخول فيه، فهل - يا ترى - سيجد الطريق إليه مفتوحاً؟
كلاّ - بالطبع - فلابد من أن يمنعه الحرس الواقفون على بابه قائلين له: إذهب وتنظّف وتطهّر وغيّر مظهرك القذر هذا، وارتد الثياب النظيفة الجميلة.
وهكذا الحال بالنسبة الى الجنة، فانها ترفض إستقبال الانسان الملوث بألوان الذنوب، وأنواع الخطايا والسيئات. فالجنة لا يمكن دخولها بهذه السهولة والسرعة، بل هي بحاجة من أجل دخولها الى بذل الجهد والجهاد ومحاربة هوى النفس، واجتناب الخطايا والآثام، ومقاومة الشهوات، وعدم الاستسلام للوساوس الشيطانية.. والعمل على تزكية النفس وتطهيرها، كما أن دخولها متوقف على الصبر والصمود وبذل التضحيات الجسام.
تعادة الوعي حكمة الابتلاء
لا شك إن وراء المآسي التي تتوالى على الأمم، والصعوبات والمحن التي تنتاب المجتمعات، فلسفة وحكمة. على الرغم من إن البعض يزعم أن الصدفة تلعب دوراً أساسياً فيما يجري عليه، ونحن - كمسلمين - نرفض هذا الراي، ونرى إن كل شيء في هذا الكون بمقدار؛ فما من سكون وحركة، وضر ونفع، إلاّ في كتاب مبين. فنحن نؤمن - على سبيل المثال - بأن السحب لا تجري، وإنما تزجى وتساق من قبل إرادة مدبّرة لها، وإن الأرض لا تنبت وإنما تُزرَع، وإننا لسنا نحن الزارعين، بل ان الله جل وعلا هو الزارع، وإنه لن يصيب الانسان إلاّ ما كتب له.. وبالتالي فان السنن الالهية والتقديرات الحكيمة، هي التي تجري مقادير الكون الذي نعيش نحن فيه، ونعد جزء منه.
ضرورة وعي الأحداث
وبناءً على ذلك، فان علينا أن نتساءل عن أسباب الحوادث التي تجري حولنا وعلينا، لأن الصدفة لا يمكن أن تلعب دوراً في تسبيب تلك الحوادث. فليس من الصدفة بمكان أن يأتي الطغاة الظالمون ليتحكّموا في مصائر بلداننا وشعوبنا. فقديماً أبتلي - على سبيل المثال - العراق بالحجاج، وبزياد ابن أبيه، وقديماً أبتلي الايطاليون في الزمن الغابر بطاغية مثل نيرون، وقديماً نزلت القوارع على الأمم من أمثالنا فأبيدت، واغرقت، واحترقت...
إن تلك الأحداث وغيرها لم تقع صدفة؛ لذا علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البصيرة من وراء ذلك، وما هي العبرة، وكيف نستطيع أن نفهم الحياة الفهم اللائق بها ؟
أقول: إن من الجيد أن يفكر الانسان في هذه الأمور، وأن لا يحبس تفكيره في أطر ضيقة، لأن التفكير في قضايا صغيرة وتافهة ليس من شأن الانسان. فمن المفروض فيه أن يفكر ويعتبر ويخطط لمستقبله، ويتطلع الى الأفضل. فماذا ينفعه أن يصبّ تفكيره على القضايا الهامشية، في حين يعيش حالة التغافل عن إنسان طاغية يتحكم في مصيره ويسلبه إراداته، ويسومه الخسف والهوان ؟
حكمة المآسي
وهنا نعود لنتساءل: ما هي حكمة المآسي التي تتوالى على البشرية ؟
في آيات عديدة من القرآن الكريم يكشف لنا الله تعالى عن هذه الحكمة. ونحن اذا تدبرنا في هذه الآيات، واستوعبنا تلك الحكمة، وطبقناها على أنفسنا، ولم ندع المآسي تتكرر، فاننا سنعيش أحراراً في دنيانا، مستقلين عن أية قوة داخلية أو خارجية تريد أن تستعبدنا.
ومن أبرز الحكم في مآسي الأمم، دعوة الله عز وجل الانسان أن يعود إليه. فالله يحب البشر، ويحب أن يعود عباده إليه، ولذلك فانه ينزل عليهم المآسي والمحن. وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبداً غتّه بالبلاء غتاً وثجَّه بالبلاء ثجاً، فإذا دعاه، قال: لبيك عبدي، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر، ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك". (1)
وهكذا فان من جملة الحكم أن الخالق جلّ شأنه يريد من عبده أن يدعوه، وأن يتضرع إليه. فالله تبارك وتعالى يتحبب الى العباد، وهناك منهم من يستجيبون الى هذا التحبب، فيتضرعون الى خالقهم. فان كان الانسان يتمتع بكل شيء من طعام وشراب وما الى ذلك، فانه سوف لا يجد في نفسه دافعاً أساسياً حتى الى العبادة ، فيستبدّ به الغرور. أمّا إذا أصابته مصيبة، فان قلبه سينكسر، وسيدعو الله جل جلاله بلسان التوسل والتضرع.(4/281)
وفي هذا المجال يروى أن جبرائيل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال: يا محمد السلام يقرؤك السلام ويقول لك: إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضّة، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة. قال: يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك؟ قال: الموت، فقال: إذاً لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده. فقال له جبرئيل: وفقت لكل خير يا محمد". (1)
إن الانسان الذي يجيء شبعه بعد جوعه، فانه يشكر الله تبارك وتعالى. أما الانسان الذي لم يذق في حياته الجوع ولو لمرة واحدة، فانه سوف لا يحس بأن هناك جائعاً على الأرض، وبالتالي فانه سوف يطغى ويستكبر عن عبادة الخالق. ولذلك فان الانسان لايشكر ربه - عادة - على النعم العظيمة التي أنعم بها عليه.
ومن حكمة المآسي على الشعوب، أن سلبياتها تتراكم طبقة على طبقة، وظلاماً فوق ظلام، وإنحرافاً أيديولوجياً، وشذوذاً في العادات والسلوكيات، وإنحرافاً في الاخلاق والآداب والمفاهيم، وتشوّشاً في الرؤية، وفوضى في النظم السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها.. فاذا بهم يعيشون في شرنقة الانحرافات، وزنزانة الفساد. وفي هذه الحالة لا تنفعهم نصيحة الناصحين، ولا عبر ودروس التأريخ، ولا تلاوة القرآن والروايات.. فتراهم يركضون وراء المادة، فان لم يجدوها جروا وراء وهمها.
وفي هذه الحالة فان الله عز وجل، وطبقاً لحكمته يعرّض هذه الشعوب للبلاء. ويشتد هذا البلاء، ويتدرج في العنف والقسوة، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في البأساء والضراء، فيجعل الله سبحانه بأسهم بينهم، فيقتلون بعضهم البعض، ويتسلّط عليهم أراذلهم وحقراؤهم.
هدف الابتلاء
وفي كل مرحلة من مراحل البلاء يكون الهدف هو اليقظة؛ أي أن يستيقظوا، وينتقدوا أنفسهم، ويعودوا الى رشدهم، ويعترفون بخطأهم وانحرافهم، ليعودوا الى الله جل وعلا، والى القيم الحقة، والصراط المستقيم، وينعموا في الحياة الدنيا والآخرة. فان لم يصلوا الى هذا المستوى، فان الخالق سوف ينزل عليهم بلاءات أخرى أشدّ، حتى تحين فرصتهم في الاعتبار من هذا البلاء. وحينئذ يفتح الله تعالى عليهم أبواب الرحمة، وإذا بهم بعد ذلك يفرحون، ويعلون في الأرض، ويعيثون فيها الفساد، وعند ذلك يأخذهم الخالق بأشدّ البلاء.
فعلى سبيل المثال ابتلى الله فرعون وقومه بسبع بلايا، فكانوا كلما تأتيهم آية يقرّرون العودة الى بارئهم، وبمجرّد أن تنتهي يعودون الى غيّهم وعدوانهم. وحينها كانوا يذهبون الى موسى ويقولون له: يا موسى؛ أدع الله أن يرفع عنّا هذا البلاء، فاننا عائدون الى دينه. وما كان من هذا النبي الكريم إلاّ أن يتوجه بالدعاء الى الخالق ليرفع عنهم البلاء، فيستجيب الله لدعوته. ولكنهم سرعان ما يعودون الى سابق عهدهم. وفي نهاية المطاف أغدق الله عليهم بالنعم والخيرات، ففرحوا واستبدّ بهم الغرور، وعلوا وطغوا. وحينئذ أخذهم -سبحانه- أخذ عزيز مقتدر ، ونبذهم في اليم فانتهوا وانقرضوا، وأصبحوا عبرة لمن يعتبر.
إستعادة الوعي
والذي يصيبنا الآن - نحن المسلمين - هدفه وحكمته أن نستعيد وعينا، وأن نقف موقف الناقد من أنفسنا، وأن نسأل أنفسنا: لماذا هذه الابتلاءات؟ فان انتبهنا، واستيقظنا، وعدنا الى رشدنا، رفع الله تعالى عنّا البلاء. وإن لم نفعل ذلك، فان هذا البلاء سوف يزداد، وستأتي مراحل شديدة وصعبة إذا لم نتّعظ.
وفي هذا المجال يقول عز من قائل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى اُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ اُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الانعام/42-45)
إن الأمم السابقة لم تتضرع، ولم تعد الى الله، ولم تطبق حكمة الابتلاء في حياتها؛ وبدل أن ينقذوا أنفسهم، ويستعيدوا وعيهم، وينتفعوا من المآسي، تكرّست السلبيات في أنفسهم، لأن قلوبهم كانت قاسية. والقلب عندما يقسو، فان المواعظ البالغة، والابتلاءات الشديدة لا يمكن أن تنفع معه.
وعلى الرغم من التذكير والابتلاءات المتواصلة، فانهم نسوا التحذيرات الالهية، فكانت النتيجة أن استدرجهم الله سبحانه وتعالى بالنعم حتى قطع دابرهم، وأهلكوا عن آخرهم. فأين عاد، وأين ثمود، وأين أصحاب الأيكة وقوم لوط... ؟ لقد انقرضوا جميعاً، وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم. فالله أتاح لهم الفرص الواسعة، وفتح أمامهم الطريق للعودة، ولم يبادرهم ويباغتهم بالعذاب.(4/282)
ويبقى هنا السؤال المهم: بعد هذه المآسي والويلات والابتلاءات التي توالت وتتوالى علينا بين الحين والآخر، هل انتفعنا منها وأخذنا الدروس والعبر؟ وهل أدرك الناس إن التشرذم، والتفكير المصلحي الخاص لا يمكن ان ينفعهم؟ وهل أعادت مؤسساتنا النظر في إستراتيجياتها، وفي اُسلوب عملها وتحرّكها؟ وهل قمنا بما كان ينبغي لنا أن نقوم به؟
إن علينا أن نقف وقفة شجاعة مشرّفة لنعرف ماذا فعلنا. ففي كثير من الأحيان يكون النقد البنّاء، ومراجعة الماضي، وإعادة النظر في المسيرة، من صميم العمل الرسالي، ومن صميم واجبات ومسؤوليات الانسان كانسان، فما بالك بالقيادات، والعلماء والمفكّرين والطلائع الرسالية ؟
الى متى الهزائم؟
إن المهم في كل ذلك أن نتضرع الى الله جل جلاله، وأن نعود إلى أنفسنا، ونتساءل عن الخطأ في سلوكنا وفكرنا وبصيرتنا ووعينا.
ومن العجيب في هذا المجال أننا نرى البعض يفتخرون بالهزائم، في حين أن الناس يبحثون عادة عن إنتصار لكي يربطوا أنفسهم به. ولكن البعض منّا تراه يبحث عن هزيمة ليتقوقع وينطوي على نفسه في داخلها، ويصبّ كل تبريراته في إطارها، ويقول إن مصيرنا أن ننهزم وننهزم دون أن نستطيع تحقيق أي إنتصار. في حين أن المثل المعروف يقول: (الهزيمة يتيمة)، ولكننا نرى أن هزيمتنا لها ألف أب وأب. الأمر الذي يدلّ على شدة فقرنا الفكري، وانعدام الوعي بالبصائر القرآنية.
مما لا ريب فيه إن الله تبارك وتعالى عادل، عندما يصيبنا بذنوبنا، ويوجّه إلينا الصعقات القوية التي لم تصل لحد الآن الى المستوى الذي نصحو فيه على واقعنا. فعلى الرغم من المآسي والمصائب والويلات والمحن التي نزلت علينا، فاننا ما نزال نياماً. ونحن نعوذ بالله تعالى من أن تنطبق علينا الآية الكريمة التي تقول: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا(.
فمن الخطأ أن نتصور إن هذه الآية تنطبق على الحكام الظالمين وحدهم. فالانسان الذي يترك العمل في سبيل الاسلام، ويضع مصالحه فوق مصالح الأمة، والذي يثير الخلافات في وقت نحن أحوج ما نكون فيه الى الوحدة، والذي يعيش في زنزانة ذاته الضيقة، هو أيضاً إنسان ظالم. ولذلك فاننا ندعو الأمة الى أن تتعظ من المصائب والابتلاءات، وأن تكون في مستوى المرحلة التي تعيشها.
=============
الضراعة هدف الابتلاء
الفطرة هي أكبر رأس مال يمتلكه الانسان في الحياة؛ فهذه الفطرة هي التي تكشف للانسان الحقائق، وتجعله ينسجم مع طبيعة الكون والنفس، فيتفاعل بهما ومعهما. ولكن هذه الفطرة التي لابد أن تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله تتعرض للرين، لأن حجب الشهوات والأهواء والتراكمات السلبية تفصل بينها وبين إدراك الحقائق. فقد تتحول هذه الفطرة الى فطرة تحجبها الأهواء والشهوات، فتفتقد القدرة على الكشف، ولا تستطيع ان تقوم بدورها الأساسي في تبصير الانسان بالحقائق.
سبب جميع المآسي
والانسان عندما ينظر بفطرته، وطبيعته الأولية الى الأشياء، فان حياته ستكون حياة قائمة على أسس حضارية تحمله خطوة فخطوة الى الأمام وبصورة مستمرة. وإذا ما استبعدت الفطرة فان كل سعي الانسان، وكل حركة له سيكونان باتجاه معاكس؛ أي إتجاه التخلف والتقهقر بدلاً من التقدم.
وإذا أردنا أن نبيّن بكلمة واحدة سبب تخلف الانسان، وسبب المشاكل المتراكمة عليه، لابد أن نقول ان تلك الفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في ذات الانسان قد تغيرت وانقلبت واحتجبت بالشهوات. وهذا هو تعبير موجز عن جميع المآسي التي يتعرض لها الانسان.
وعلى سبيل المثال فان الانسان الذي ينظر الى الأمور بفطرته، يستطيع أن يتنبّأ بالمستقبل بصورة طبيعية. صحيح إنه لم يزود بالقدرة على إستشراق الغيب، ولكنه قد منح البصيرة الكافية لتنسيق حياته، ودرء الأخطار عن نفسه، ولذلك فان الشعور بالألم وضع للدلالة والاشارة الى وجود المرض في الجسم.
وهكذا الحال بالنسبة الى الحياة الاجتماعية؛ فظهور الفوضى في المجتمع يشير الى قربه من المأساة، والوقوع في مستنقع المشاكل الاجتماعية. فمشكلة الفقر، والعنصرية، والرأسمالية، والمشاكل الأخرى على الصعيد الاجتماعي تترك آثاراً واضحة تبين للانسان أن هذا المجتمع يسير في اتجاه منحرف، وبالتالي فانها تمكنه من اكتشاف الخطأ في الوقت المناسب ومعالجته قبل الاستفحال.
وعلى سبيل المثال فان السياسي الذي لا يستطيع أن يفهم ضمير مجتمعه، لا يمكنه أن ينجح في قيادة هذا المجتمع؛ والرئيس الذي لا يدرك معنى الاضطرابات في بلده، ومعنى أن يعيش شعبه في حالة الغليان والثورة، لا يمكنه أن يستمر في حكمه. فلابد أن يكتشف أن المجتمع يعيش في حالة غير صحية، وأن من الممكن أن ينقلب عليه الأمر. والسيطرة على هذه الاضطرابات، وتهدئة الأوضاع بحاجة الى وجود حالة من الانسجام بين فطرة الحاكم، وبين طبيعة الأوضاع الاجتماعية السائدة في بلده.(4/283)
وبناءً على ذلك فان الفطرة هي طبيعة الانسجام بين الانسان والطبيعة، واذا كانت الحجب متراكمة على هذه الفطرة فانها سوف لا تنفع الانسان فحسب وإنما تضره، لأن هذه الحجب بإمكانها أن تنفذ الى عمق الفطرة، وتقلب رؤية الانسان.
والتخلف الذي منيت به الأمة الإسلامية اليوم، هو نتيجة الحجب المتراكمة على فطرة أبنائها. ففطرتنا ليست تلك الفطرة التي خلق الله تعالى الناس عليها، ولا تمثل تلك المواهب التي أودعها الله عز وجل في الانسان، والمقاييس والمعايير التي وضعها في قلبه والتي لابد ان تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله. فتلك الفطرة والمواهب والمقاييس قد انحرفت، ولم تقم بدورها الطبيعي، ولذلك نرى أن أمتنا تزداد تخلفاً يوماً بعد آخر، ولا تستطيع أن تقوم بأي دور.
عبادة الماضي سبب التخلف
ومن جملة عوامل وأسباب التخلف عبادة الماضي، والافتخار الكاذب به. فالمجتمع الذي يقلد ماضيه، ويفتخر به بكل ما فيه من ايجابيات وسلبيات، هذا المجتمع يكون عاجزاً عن القيام بأي دور، لأنه ينظر الى الحياة من حوله بمنظار الماضي الذي أكل الدهر عليه وشرب. ولذلك فانه لا يستطيع أن ينسق حركته، فتراه يفسر كل شيء وفق المقاييس السابقة، وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها الانسان.
وهكذا فان الذي يريد أن يعالج الأوضاع الحالية من خلال العهود السابقة التي كانت لها ظروفها وملابساتها، وقيمها الخاصة بها، لا يفهم مدى التطور الهائل الذي حدث في عالمنا اليوم والذي يحدث بين لحظة وأخرى؛ فكيف بين سنة وأخرى، وبين مرحلة من الزمان ومرحلة أخرى؟ فالذي يريد أن يسير على حرفية الكلمات التي تفوّه بها المفكرون الاسلاميون قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة لا يستطيع أن يقرأ لغة العصر، ويعجز عن أن يكيّف تصرفاته وفق الحاجات المتجددة لهذا المجتمع أو ذاك.
إثارة الفطرة حكمة الابتلاء
وعلى هذا فان مشكلة الانسان منذ أن خلقه الله عز وجل وحتى يومنا هذا هي مشكلة إبتعاده عن فطرته، ومحاولته أن ينظر الى الحياة من زوايا جانبية لا بشكل مباشر. فمشكلة الانسان في عصر نوح عليه السلام وعاد وقوم ثمود هي مشكلة اليوم، وهي مشكلة كبرى. فلقد زوّد هذا الانسان بمقياس واحد لكي يكتشف الحياة من حوله، ألا وهو العقل والفطرة. فاذا ما انسحب العقل من العمل، وتغيرت الفطرة، فماذا يبقى للإنسان ؟ لا يبقى له حلّ سوى أن ينسحب هو بدوره.
وعلاج هذه المشكلة هو علاج إلهي من خلال إبتلاء الانسان بالمصائب والمآسي. فالحكمة منها هي إثارة فطرة الانسان، وإعادته الى حالة نقائه وطهره. وبتعبير آخر؛ الى نقطة البداية التي لابد أن يبدأ منها، من خلال إزالة الحجب التي حالت دونه ودون استيعاب الحقائق.
وفي هذا المجال يقول عز من قائل: (وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلآَّ أَخَذْنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَاَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَآءِ وَالاَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَاَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَاَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَاَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ( ( الاعراف/94-99 )
فهذه الآيات الكريمة تصرح بأن الهدف من أخذ الناس بالسراء والضراء هو أن يضرعوا، والضراعة هي أن يعود الانسان الى حالته الطبيعية والفطرية. وعلى سبيل المثال فان السياسي ينظر الى الحياة من خلال سياسته، والمثقف لا ينظر الى الحياة إلاّ بمنظار ثقافته، ولكن هذا الانسان لابد أن يعود الى الضراعة، والى حالته البشرية واستكانته الى الله سبحانه وتعالى، وازالته لكل العوائق التي تمنعه من الوصول الى القمة.
وهناك الكثير من الأمم التي تنتفع من الضراعة، وهي عادة الأمم التي أصيبت بمشاكل وأزمات سياسية وإجتماعية وحضارية. ولكن البعض من هذه الأمم لا يستفيد حتى من المأساة التي تهز الضمير، وتكشف عن فطرة الانسان؛ ولأنهم وصلوا الى هذه المرحلة من قسوة القلب، فقد جاء الأمر الإلهي بانزال العذاب عليهم، ومحوهم من الوجود.
(ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَاَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ( (الاعراف/95)
وهكذا فقد اكتسبوا السيئات، فرسمت هذه السيئات المقياس الذي كان لابد أن يكشف لهم عن حقيقة الحياة. فالمآسي والمصائب لم تعدهم الى طبيعتهم، فكانت النتيجة أن انتهوا بكارثة طبيعية نتيجة عدم اعتبارهم بالمأساة.(4/284)
وللأسف فان بعض الناس في مجتمعاتنا ما يزالون غير مدركين لمغزى ما جرى ويجري عليهم، فلم يفسروا الأحداث التي مرت بهم تفسيراً قرآنياً صحيحاً. وأنا عندما أقول: (بعض الناس) فاني لا أقصد أناساً بعيدين عنا، بل نحن أنفسنا؛ بسبب تراكم سلبيات الماضي علينا، واحتجاب فطرتنا عن الحقائق، فلم نكتشف الدرس الذي لابد أن نكتشفه، والعبرة التي لابد أن نأخذها في مجال الحياة الاجتماعية.
لقد مرت أعوام طويلة والعالم الاسلامي ممزق، والمآسي والمشاكل والأزمات السياسية والاجتماعية تتراكم علينا، فلا نتخلص من مأساة إلاّ لنقع في شرك مأساة جديدة، ولا ننجو من حاكم ظالم إلاّ لنقع في حبائل حاكم ظالم آخر.. والمشكلة ليست في وجود المآسي ومعاناتنا منها، بل إن المشكلة هي عدم فهمنا للعبرة منها. فهذه المآسي التي تتكرر علينا لم تعطنا الدرس المناسب، وهو أن نعود الى فطرتنا، والى حالة الضراعة.
حقيقة الضراعة
إن الضراعة تعني في حقيقتها أن نغيّر أنفسنا، وأن نستعد لاعادة النظر في تأريخنا، وبنائنا الفكري والثقافي والسلوكي والاجتماعي والسياسي. ولكن للأسف فان كل تلك المآسي لم تعطنا الدرس المناسب والكافي، فلماذا لا نحتكم الى القرآن الكريم وهو الذي يهدينا سواء السبيل في هذا المجال، من خلال الآيات السابقة التي تقرّر أن الحكمة من المصائب والمآسي التي تنزل على الانسان هو أن يستشعر حالة الضراعة الى الله تبارك وتعالى؟
وعلى هذه الأساس فان مشكلتنا الرئيسية هي أننا لم نستفد من الدروس القاسية التي مرّت بنا، ولم نفهم الحكمة الالهية من الضراعة الناجمة من البأساء والضرّاء. ورغم أننا نؤمن إنّ علينا أن نعيد النظر في تاريخنا وأشخاصنا وفي كل شيء يحيط بنا، إلاّ أننا ما نزال نعيش في قمة المآسي والمشاكل. والمصيبة أننا ننسى كل هذه المآسي لنعيش في أفقنا الضيق، وننظر الى كل هذا العالم الرحب الواسع عبر ثقب ضيق للغاية. في حين أن الله جل وعلا خلق لنا هذه السموات الواسعة والمظاهر الطبيعية التي لا حصر لها.. ومع ذلك ترانا نهرب من الطبيعة، ومن الحقائق، ونحصر أنفسنا في زاوية حادة.
فلنعد الى القرآن الكريم الذي يطلب منا أن نعيد النظر في بنائنا الاجتماعي والفكري والسياسي، فلابد من أن نعود إليه والى حكمه ونكتشف بصائره في الظروف المتأزمة التي يمرّ بها الانسان. ثم لنتضرع الى الله سبحانه وتعالى عبر الادعية التي من شأنها أن تعيدنا الى فطرتنا، والى فهم السبب الحقيقي لمآسينا، وإسقاط الاعتبارات المزيفة، وتحطيم الأصنام التي تحجبنا عن الحقائق. فلنقرأ القرآن بتدبر ولندرس من خلاله واقعنا، ولنقرأ الأدعية بتأمل لندرس أنفسنا من خلالها، وليحاول كل واحد منا أن يعيد بناء نفسه ومن حوله، فالمأساة هي أعظم مدرسة لنا في الحياة، فمن يدخل مدرسة الحياة فانه سيكون في غنىً عن أي أستاذ آخر.
=============
تزكية النفوس مراد الإبتلاء
من الظواهر السلبية في حياتنا إنّ أغلب الناس منصرفون الى هموم الدنيا، وشؤون المعاش من مأكل وملبس ومتع ولهو ولعب، غير ملتفتين الى علة وجودهم وحياتهم على هذه الأرض، ولا آبهين بغاية هذا الوجود؛ فقلّما نجد أولئك الذين يسائلون أنفسهم عن تلك العلّة والغاية، وما ينطوي عليهما من حقائق تنظّم الحياة، وتعبّد طرقها على أساس ذلك الفهم والادراك.
فلابدّ أن يكون هناك هدف وغاية من وجودنا، وتركيبنا بهذه الهيئة التي نحن عليها؛ بل إنّ الغائيّة والهدفيّة تعمّان كلّ صغير وكبير في أبداننا وأحاسيسنا. فأعضاء جسد الإنسان لم تخلق، ولم ينعم بها الإنسان إعتباطاً وعبثاً، بل لها أهداف تجتمع في بؤرة هدف واحد، هو الهدف الرئيس من الوجود.
هدفيّة الوجود تشمل كل شيء
وهدفيّة الوجود لا تقتصر على الإنسان وحده، بل إنها امتدّت الى كل شيء صغير وكبير في الطبيعة. فليس هناك شيء مخلوق دون هدف، وحاشى لله أن يصدر منه ذلك، وحتى المخلوق الذي فيه الضرر والفتنة للانسان فانّه ضروري لإصلاحه.
ويبقى من حقّ كل إنسان أن يسأل عن هذا الهدف، وسرّ الظواهر التي تحيط به؛ فهذا السؤال هو السؤال المهم الذي له صلة وثيقة بأوضاعنا التي نعيشها اليوم، والتي هي أوضاع خطيرة وحسّاسة يعجب منها الناس لأنهم يجهلون أسبابها وأسرارها والحكمة من ورائها، فلو عرفوها بطل العجب وزالت الحيرة عندئذ.
الفتنة.. هدف أساس(4/285)
وهكذا فانّ المهمّ أن نعرف ما هو الهدف من وجودنا وحياتنا أوّلاً، وكيف نتحرّك في إطار هذا الهدف ثانياً كي لا يستبدّ بنا العجب. والجواب على السؤال الأوّل يتلخّص في كلمة واحدة صريحة هي: الفتنة التي هي باطارها العام الهدف الأساسيّ من خلق الإنسان فوق هذه البسيطة، وربّما جهلت ملائكة السماء أمر الخلقة الإلهية للانسان، والارادة الربانية من وراء إهباطه على الأرض، ومنحه نعمة الارادة والحريّة والاختيار بعد أن يجد أمامه أسباب الاستقامة، وأسباب الانحراف، ويرى بعينه، ويدرك بعقله سبل التقوى والرفعة والنبل مقابل سبل المعصية والانحطاط، ليختار، ويُعمل إرادته وحريّته. فالملائكة جهلت سرّ أمر الارادة الإلهية في هذا الخلق، فما عرفوه أنّ هذا المخلوق من شأنه الإفساد، وسفك الدماء فحسب كما روى لنا ذلك الخالق تعالى في قوله: (وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( (البقرة/30)
الآثار الايجابية لمعرفة الهدف
وبمعرفة الهدف وادراكه والتكيّف معه، نعرف كيف نتعامل مع هذا الهدف، وبالتالي فاننا سنقترب من الحكمة الإلهية التي اقتضت لنا تلك الهدفيّة في الحياة؛ أي الفتنة والتمحيص والابتلاء، وبذلك يكتمل الإيمان فينا، فنعيش الطمأنينة والسكينة وراحة النفس والبال والضمير. وهذه هي سمات المؤمنين بالله حقّاً، فلأنَّ المؤمنين يعون جيداً هذه الهدفية في الحياة، فانّك تراهم في سكن وطمأنينة وراحة في نفوسهم وضمائرهم؛ فاذا ما محّصوا بالفقر وجدوا الله تعالى عندهم فاطمأنّت قلوبهم، وهدأت نفوسهم بذكره وحمده وتسبيحه وشكره على نعمائه، وإذا ما أصابتهم مصيبة الموت في عزيز أو قريب عندهم لجأوا الى ربهم، فقد كيّفوا أنفسهم مع البلادء والابتلاء، وخبروا الفتن والمصائب بكلّ ألوانها وأنواعها، وارتضوا لانفسهم ما قدّر الله سبحانه وقضى لهم وعليهم. وهذه من قوانين الله في عباده ومخلوقاته في الوجود، فالمؤمن يكيف نفسه، ويجعلها تنسجم مع المقتضيات والسنن الإلهية.
تأثير الابتلاء على النفس المؤمنة
وهناك سؤال آخر يثار في هذا المجال وهو: ما هو تأثير الإمتحان والفتنة على النفس المؤمنة، وكيف نحقّق في أنفسنا وحياتنا فلسفة وحكمة الفتنة والابتلاء؟
إن تأثير الامتحان والتمحيص على الإنسان قد يكون سلبيّاً أو ايجابياً، ولذلك قيل: (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان). فعندما يسأل الإنسان عن مدى خبرته في عمل ما، فانه لا يتردّد في الجواب الايجابي وإن كان جاهلاً، وهذه هي طبيعة الإنسان المتمثلة في عدم إقراره بالجهل، ولكنّ أمره سرعان ما يفتضح عند الاختبار، وحينئذ سيفهم هذا الإنسان حقيقة نفسه فيضطرّ حينئذ الى إصلاحها.
وللأسف فانّ البعض ممن يهرب من عيوب نفسه، ويخشى ظهورها على حقيقتها، نجده يتهرّب من مواقع التمحيص كالذي يكره المرآة، ويودّ تحطيمها لأنها أظهرت له عيباً في وجهه لم يكن قد التفت إليه لولاها. ولكي نبرهن على واقعيّة إيماننا علينا أن نعشق المرآة، ونلجأ إليها دائماً كي نطّلع على عيوب أنفسنا، ونعمد الى إصلاحها؛ ومرآتنا تتمثل في إخواننا المؤمنين ذوي الألباب، فبنصحهم وصلاحهم تصلح مسيرتنا، وتنجلي البقع السوداء من قلوبنا؛ فقد تحسّ أن في قلبك نقاطاً سوداء يجعلها الناس فيك، وربّما يتوفّاك الموت دون أن يعلم أحد بها، ولكن عليك أن لا تنسى أن الإنسان لا يحاكم لوحده يوم القيامة، بل إنّ الملايين قد تُحاكم كمجموعة واحدة في يوم الحشر الرهيب، وهناك تفتضح النفوس، وتنكشف حجب القلوب، ولذلك جاء في الدعاء بشأن هذا الموقف الرهيب: "اللهم إنّي مؤمن بجميع أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم فلا تقفني بعد معرفتهم موقفاً تفضحني فيه على رؤوس الأشهاد، بل قفني معهم وتوفّني على التصديق بهم". (1)
من هنا كان الأجدر بنا أن نظهر حقيقة ما في قلوبنا وأنفسنا قبل أن يفتضح أمرنا في يوم الخزي الأكبر. فلنعرض حقيقة أنفسنا، ولنبدأ باصلاحها بعد التوكّل على الله سبحانه، ولندعُ لاصلاح أنفسنا في كلّ ساعة وفي كل حال نحن فيه.
واصلاح النفس يكون بالالتزام بركنين من الأخلاق؛ الاجتناب، والتمسك. إجتناب الأخلاق السلبية السيئة، والتمسّك بالأخلاق الايجابية الفاضلة. فالى متى نظلّ نعيش أخلاق السلب، ونتعامل بها مع الآخرين، فتزيدنا ذنوباً الى ذنوبنا؟ والى متى يبقى الحسد، والكبر، والبغض متأصّلاً في قلوبنا، ومتراكماً عليها؟ فمثل هذه الكدورات، والعيوب التي تسوّد قلوبنا وتميتها ينبغي أن ندعو الله لازالتها. فلنحذر الشيطان ومكائده، والتي منها أنه يصوّر لنا أنفسنا بأحسن صورة، فيجعلنا نرضى عنها، ونقتنع أنها منزّهة زكية.
الابتلاء غاية الحياة(4/286)
ومن كلّ ذلك نستنتج إن غاية الحياة والوجود هي الابتلاء، ومعرفة حقيقة الإيمان به، ومدى تحمّله، والصبر عليه، ومن ثمّ الاستقامة والثبات في السير نحو الهدف التكامليّ للحياة. فحين الابتلاء يعرف الإنسان المؤمن نفسه ويعرف قيمة أخيه المؤمن، وقد قيل في الحكم "عند الشدائد تعرف الاخوان". فالبعض قد تجد منه الطيب والنبل في لسانه، فيعدك بالاخلاص، وتشمّ من كلامه معك روح التفاني والتضحية، ولكن حين الشدة والصعاب لا تلقى منه أدنى شيء مما لقيته في لسانه حين الرخاء واليسر، وربما تلمس منه الكذب في ظروف أخرى غير الشدّة وذلك عندما يرتقي منصباً، أو يصبح ذا مال وفير بعد فقر أو غير ذلك مما يظهر معدن المرء على حقيقته.
وهكذا فبالتمحيص والابتلاء والفتنة يعرف المؤمنون الصادقون، والرجال الصالحون المخلصون، والمجاهدون حقّاً في سبيل الله، وإلاّ فإنَّ الدين والايمان في السرّاء ليسا إلاّ لعقاً على الألسن كما قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( (العنكبوت/2-3) فبالتمحيص يتميّز الخبيث من الطيب، والمؤمن حقّاً من المنافق.
هدفية الحياة في القرآن
والآن نتناول موضوع الهدفيّة في الحياة من خلال الآيات القرآنية التالية المقتطفة من سورة الأحزاب. قال الله تعالى: (وَاِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّين مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَاِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيمَاً * يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ اِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * اِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَاِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يَآ أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ اِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَاهِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً( (الاحزاب/7-13)
الأنبياء طليعة الخلق
فالسياق القرآني يتعرّض هنا للعهود والمواثيق التي أُخذت على أنبياء الله وخاصّة أهل العزم منهم. فالأنبياء والرسل هم قادة الأمم على مرّ الدهور السابقة؛ فهم طليعة الخلق، ولذلك لم يكن العهد الذي أُخذ منهم عهداً هيّناً وسهلاً، بل كان عهداً غليظاً - كما عبّر عنه القرآن - يليق بمقامهم كأنبياء ورسل يقودون الأمم نحو التكامل الانساني.
ثم ينتقل السياق لبيان علّة أخذ الميثاق، فيقول تعالى: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ
عَن صِدْقِهِمْ...( (الاحزاب/8). فالانسان الصادق إنما يظهر صدقه عندما يفتن ويمحّص فيتبيّن إذا ما كان صادقاً حقّاً أم لا، وقد جاء التأكيد على هذا التمحيص في هذا الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، حيث قال: "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فانّ الرجل ربما نهج بالصلاة والصوم، حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة".(1) فهويّة الإنسان المؤمن تتجلى بصدق الحديث، ومدى ادائه للأمانة.
ثم يستمر السياق الكريم مذّكراً المؤمنين بما أنعم الله عليهم في أيام الشدائد، وساعات المواجهة الأولى مع الأعداء، إذ يقول تعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ....( (الاحزاب/9)، ولعلّ أعظم نعمة يغاث بها الإنسان المؤمن حين الشدة، وساعة الصراع، هي الامداد الإلهي الغيبي.
ثم يمضي السياق ليذكّر المؤمنين بشدّة تلك المواقف الصعبة: (اِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ...( (الاحزاب/10). فتلك كانت ساعة التمحيص الكبرى، حيث زاغت العيون من شدّة الخوف، وراح المؤمنون يتحشرجون في أنفاسهم وكأن قلوبهم قد انخلعت، حتى ظنّ بعضهم أنّ ربّهم قد خذلهم، وأوقع بهم في المهلكة. وهناك كانت ساعات التمحيص ولحظاته، حيث استخرج الله عز وجل ما خفي في نفوسهم وقلوبهم، وأزال منها ما كان قد علق بها من الأدران والشوائب فأجلاها ونقّاها في هذا الاختبار الصعب.(4/287)
والإنسان المؤمن الواعي لا يمكن أن يغفل هذه الحقيقة، فيدع الشيطان يداهم نفسه، ويوهمها بالكمال والصلاح، فيرضى عن نفسه، ويكتفي بما بلغه من السير على طريق الكمال والصلاح؛ بل يبقى لآخر لحظة من حياته يروّض نفسه، ويربّيها على التقوى من أجل أن يضمن لها حسن العاقبة، وهو الأمر الخطير والمهمّ لدى كلّ انسان.
المنافقون شياطين الإنس
ثم ينتقل السياق ليتحدث عن شياطين الإنس المتمثّلين في المنافقين في قوله تعالى: (وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً( (الاحزاب/12) فهؤلاء المنافقون يظنّون أنّ سرّهم سيظلّ خافياً على الأمة وقيادتها الرساليّة، فيبقون يكيدون للمؤمنين في الخفاء، ولكنّ الله سبحانه شاء أن يكشف أمرهم، ويفضحهم في المواقف الحرجة، ليظهروا على حقيقتهم السوداء المنكرة، وليفضحوا على رؤوس الأشهاد، فيلعنوا على مدى الدهر.
والمنافقون أشدّ خطراً على الأمة من الكفار والمشركين، وقد جاء التأكيد في القرآن الكريم كراراً على خطورة وجودهم، وحركتهم الخبيثة داخل المجتمع الإسلامي. ولقد إبتلي المسلمون بداء النفاق منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية وحتّى يومنا هذا، وقد إنكشف أمر البعض منهم في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله، فتصدّى لهم المسلمون، وأوقفوهم عند حدّهم، وربّما نالوا جزاء نفاقهم؛ والبعض الآخر كشف عنهم النبي صل الله عليه وآله، ولكنه لم يستطع القيام بعمل من شأنه أن يردعهم بسبب طبيعة الظروف، فظهر دورهم التخريبي في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
الابتلاء يفضح المنافقين
فالبلاء - إذن- له مردودات إيجابية على صياغة روح المؤمنين، وجلي نفوسهم، وإظهار معدنهم الحقيقي، وبالاضافة الى ذلك فانه يعود عليهم بالنفع المتمثل في افتضاح النفاق والمنافقين في المواقف الصعبة. وهذه هي طبيعة المنافقين، والذين في قلوبهم مرض؛ أي الذين تكدّرت قلوبهم، واسودّت بالحسد، فغدت مريضة تعيش الحسد والحق والبغضاء.. فهم يحرصون على الدنيا وملاذّها، ويلهثون وراء سرابها، تاركين الجهاد في سبيل الله، ويثبّطون المؤمنين، وينالون من عزائمهم ولذلك كان حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، وباباً من أبواب النفاق.
ومن هنا نرى أن المؤمنين الصادقين يحذرون الانغماس في ملذّات هذه الدنيا، فلا ينالون منها إلاّ ما قُدّر لهم من حلالها الطيب. ولا بأس في هذا المجال أن نزور الآثار وما فيها من الديار والقصور الفخمة والابراج والقلاع التي تركت في كلّ مكان من هذه الأرض، ففي ذلك عبرة لأولي الألباب. والإنسان المؤمن ينظر الى هذه الآثار والأطلال فيتدبّر مع نفسه، ويحدّثها، ويسائلها: أين أصبح أصحابها، أليسوا قد نُقلوا من قصورهم الى قبورهم، وغدت عظامهم بعد ذلك رميماً؟ فما الذي أصطحبوه الى قبورهم هذه، فَلِمَ - إذن- كلّ هذا التخاصم والنزاع والتكالب على ما هو صائر الى الفناء؟!
كيف نتعامل مع الفتن
والسؤال الأخير الذي نطرحه هنا هو: كيف نتعامل مع الفتن والبلايا، ومع ما نعيشه من مشاكل لا تقلّ معاناة عن البلاء؟
إنّ التعامل هذا يكون بأن نستغلّ مشاكلنا لتربية نفوسنا، وتقوية ذواتنا، وشخصياتنا الإيمانية. وهذه المشاكل والصعاب التي تحلّ على المؤمنين لا تزيدهم إلاّ إيماناً وثباتاً واستقامة على الطريق؛ أمّا المنافقون، فانّ أمرهم سينكشف شيئاً فشيئاً، فيسقطون كما سقط أسلافهم من ذوي القلوب المريضة. والمؤمن الحقيقي يغدو في خضم هذه الفتن والبلايا مؤمناً إستثنائياً على غاية من التفوّق والتميّز.
فلنستثمر هذه المآسي والمعاناة لتربية أنفسنا وتزكيتها، وتخريج جيل من المؤمنين الحقيقيين، ممن لا تغرهم الأموال والمصالح..
فلنخلص النيّة، ولنتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقنا، ولنبدأ باصلاح أنفسنا عسى الله أن يرحمنا، ويكتب أسماءنا في قائمة أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وطهّروا قلوبهم من النفاق، وكانوا في مستوى الابتلاء والتمحيص والفتنة، فخرجوا منها بوجوه بيضاء.
==============
الثبات ثمرة الإبتلاء
من أبرز حكم الله عز وجل في الحياة، حكمة الفتنة والامتحان؛ ولو عرف الانسان هذه الحكمة بوعي كامل، لانكشفت أمامه حقائق كثيرة، وزالت من قائمة إستفساراته تساؤلات كثيرة تتوارد على ذهن الانسان لتتركه حيران يبحث عن فلسفة خلقه، والسبب الكامن وراء مجيئه الى الحياة، والهدف من الصراع الدائر بين البشر والذي يفرز حالات قد تكون متباينة مثل الغنى والفقر، والظلم والأمن..
إن النفس الأمارة بالسوء لا تبقى بعيدة عن مسرح هذه الشكوك، بل تبادر الى طرح عشرات الأمثلة لزرع الوساوس في الانسان، ولتتحول هذه الوساوس بدورها الى حجب وعقد تتركز في ذهن الانسان، متحولة الى موجة عارمة لا تهديه السبيل، بل تفقده الوعي والبصيرة.(4/288)
إننا إذا عرفنا الفلسفة الحقيقية للمحنة، فان هذه المعرفة سوف تكون مدعاة الى امتصاص البلاء، وإحتواء موجات الفتن والآلام والمآسي، وذلك ضمن معرفة الحقيقة العامة في الحياة والتي تقتضي حالة التغيير والتقلب.
إن سنة الفتنة والامتحان لا تختص بالانسان فحسب، بل تدخل في مجال الطبيعة أيضاً. فالحداد يحيل الحديد الخام الى آلات، وهو يطلق عليه اسم (الصانع) لأنه يصنع شيئاً عبر تعامله مع الطبيعة الأصلية من خلال إخضاعها للاختبار، وتعريضها للضغط، ليصل بهذه المراحل الى صيغة أساسية لحالة الصنع؛ الأمر الذي يؤكد على أن الطبيعة هي الأخرى تتعرض لنوع من الامتحان باشراف الانسان.
إن الانسان الذي يستطيع الثبات أمام حالات التغيير في الحياة، هو الذي كان قد بنى نفسه كانسان يستطيع مواجهة المتغيرات الحياتية. فالفقيه - مثلاً - لابد أن يحافظ على كرامة شخصيته، ولا ينهار أمام الأغنياء، بل يحترم الغني لانسانيته، وللقيم التي يحملها.. أما إذا احترم الغني لغناه، فانه سيكون قد أشرك مع الله سبحانه وتعالى إلهاً آخر، فيدفعه هذا الانهيار الى البحث عن العزة في قصور السلاطين.
وهكذا الحال بالنسبة الى الانسان الغني، فان من المفترض أن لا يخرجه غناه عن طوره الانساني، ولا يدعوه إلى التكبر والغرور..
أعظم الفتن
إن من أعظم أنواع الفتن؛ الفتنة الاجتماعية التي تصيب المجموع. وإذا ما أراد الله جل وعلا أن يجرب إرادة شعب بأكمله، فانه ينزل عليهم الفتنة الجماعية. وعلى سبيل المثال فعندما تنشب الحرب ويكون الاشتراك في هذه الحرب مؤدياً الى الشهادة أو الأسر أو التعويق الدائم، ففي هذه الحالة تظهر طبيعة الانسان على حقيقتها. والله سبحانه وتعالى يعرض البشر دائماً لهذا النوع من الإمتحانات، وهو القائل: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ( (الفرقان/20)
والمثال الواضح على ذلك من التأريخ معركة بدر الكبرى، حيث ذهب المسلمون للحصول على المغانم واذا بهم يواجهون ألف فارس من فرسان الجزيرة العربية مدججين بالسلاح، مع أن المسلمين كانوا قليلي العدد لا يملكون سوى أسلحة بسيطة تعد لا شيء بالقياس الى الأسلحة التي يتمتع بها العدو.
ويروي لنا عز وجل هذه الحادثة التأريخية، قائلاً: (إِذْ أَنْتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ( (الانفال/42).
فقد كانت مواقع الطرفين في المعركة مختلفة، ولو كانت هذه الحرب مقصودة ومدبرة سلفاً، لكانت إحتمالات وقوعها قليلة، خصوصاً مع عدم تهيؤ أفراد الجيش لهذه المعركة. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: (لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً( (الانفال/42)
فالأمر الذي أراده الله تعالى من فجائية الحرب، هو معرفة الانسان لحقيقة طاقاته وقدراته، لكي يستطيع أن يدعي حينئذ أنه قادر على فتح البلاد وإدارة العباد، لا أن تفند كل ادعاءاته هذه عندما تأتي ساعة المواجهة.
ويؤكد عز وجل على فلسفة المباغتة والمفاجأة، قائلاً: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ( (الانفال/42) وهو سميع عليم، لأنه يراقب مجريات المعركة عن كثب، ويعلم بما في صدور المسلمين.
ثم يقول سبحانه وتعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الاَمْر( (الانفال/43)
فعلى الرغم من أن جيش المشركين كان ذا عدد ضخم بالمقياس العسكري لذلك العصر، ولكن الله تبارك وتعالى قلل من شأن هذه القوة عند رسول الله صلى الله عليه وآله في منامه، لكي تنتصر إرادة المؤمنين على واقع هذه المجموعة المزيفة.
تقييم واقعي
وإني أستوحي من هذه الآيات الكريمة؛ أن القيادات العسكرية مكلفة بزرع حالة الاستهانة لدى الشعب بالعدو، في الوقت الذي تقوم فيه القيادة بعملية التقييم الواقعي لقوة العدو دون أن تضخم وتبالغ، لئلا تصاب الجماهير بهزيمة نفسية. فبدلاً من ذلك، على هذه القيادة أن تزرع الأمل والحيوية والنشاط في نفوس الجماهير لمواجهة العدو، وهذا هو ما فعله القرآن الكريم، إذ تقول الآية الكريمة صراحة: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الاَمْرِ( (الانفال/43)
فلو كان التهويل والتضخيم قد حدثا، لسرت بعض الشائعات في الجيش الاسلامي بعدم القدرة على مواجهة العدو، وضرورة العودة الى المدينة. ولكن المسلمين عندما بدا لهم أن العدو قليل العدد اندفعوا للقتال، وحاربوا الكفار بكل عزم واصرار حتى حققوا الانتصار عليهم. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (وَلكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(. (الانفال/43-44)(4/289)
فلقد قدر الله جلت قدرته أمرين؛ فقلل المشركين في نظر المسلمين، وقلل المسلمين في نظر المشركين، لكي تكون نتيجة هذا التقدير وقوع الحرب. لأن المشركين لو كانوا يعرفون قوة جيش الرسول صلى الله عليه وآله وأن بصحبته أبطالاً أسوداً من مثل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وحمزة لهربوا وجبنوا. ولكن إستهانتهم بقوة جيش الاسلام، دفعتهم الى محاربته. ومن جهة أخرى رأى المسلمون ان قوة قريش زائفة، فأعطاهم الله تعالى الأمل، وأمدهم بالقوة الايمانية.. الأمر الذي مكنهم من التغلب على القوة المادية الظاهرة المتمثلة في جيش المشركين. وبوقوع هذه المعركة إكتشفت العرب خواء وزيف قوة قريش العسكرية، وتيقنت من قوة الايمان العظيمة.
سر الانتصار
ثم يستمر السياق القرآني الكريم ليلخص عبرة التأريخ كاملة في كلمات قصار، لو عرفها المسلمون وأدركوها بوعي تام لما حدثت هزيمة واحدة في تأريخهم. يقول تعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (الانفال/45).
والخطاب في هذه الآية موجه الى فئة المؤمنين، الذين يمثلون صنفاً خاصاً من عموم الناس.
إن من أهم صفات المؤمن التي تقررها هذه الآية، هي صفة الثبات، الذي يتجلى في الثبات القلبي من خلال اليقين بقدرة الله تعالى، والتوكل عليه، وعدم التشكيك في طاقات الانسان وقدراته عبر الوساوس الشيطانية التي تمارس دور التثبيط، معللة ذلك بعدم تساوي القوى المادية لدى المؤمن مقابل العدو.
والقرآن الكريم يطالبنا هنا بالثبات الذي كان يتمثل في صدر الاسلام بجريد النخل أمام السيف، أمّا الآن فانه يتجسد في الأسلحة اليدوية مقابل الدبابات والطائرات.. وهذه المسافة متقاربة الى حد ما، لان سلاح الايمان يضيف الى إمكانيات الانسان المؤمن قوة هائلة لا يمتلكها العدو.
كما ويتجلى الثبات في نوعه المادي بالصبر على تقدير الله عز وجل، وإن قدمنا الكثير من الشهداء، وسالت الدماء الزكية على أرض المعركة. فالثبات في المواقف الصعبة هو سر الانتصار في التأريخ، وتلك الآية المباركة كانت حبل نجاة المسلمين في الكثير من المعارك التي خاضوها.
ولا نبالغ إن قلنا أن حالة الثبات في المواجهة هي التي فتحت الآفاق الواسعة أمام المسلمين، اذ زادتهم شجاعة واطمئناناً وسكينة، واستعداداً من أجل التضحية والفداء، بالاضافة الى ذكر الله الذي هو ضمانة الانتصار أمام الضغوط، كما يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (الانفال/45)
=================(4/290)
الثمار الإيجابية للإبتلاء
من ضمن الحقائق الثابتة التي لا مجال للشك والترديد فيها، إن الهدف من وجود الانسان في الحياة هو أسمى بكثير من التمتع بملاذ الدنيا، والعيش كما تعيش البهائم. فهو يدخل خلال حياته في خضم دورة تربوية تعليمية عميقة الأثر في كيانه، ثم يخرج منها إما الى جنة عرضها السماوات والأرض، لا توصف نعماؤها ولا تدرك لذائذها؛ وإمّا الى نار سجرها جبارها لغضبه، حيث تنعدم منها الرحمة والأمان .
ولو عرف الانسان هذه الحقيقة وأدركها لاستقامت حياته، ولاستطاع أن يتفوق على جميع المؤثرات، ويتحدى كل المتغيرات.
ولكن كيف يتسنى لنا ان نعرف هذه الحقيقة ؟
من الأمور والظواهر المشهودة في حياتنا أننا إذا أُصبنا في أموالنا أو أبنائنا وما الى ذلك، فان أنظارنا تتركز عادة على ذات المصيبة، فنسأل أنفسنا قائلين: لماذا نزلت بنا هذه المصيبة، ولماذا خصتنا دون غيرنا؟ في حين إن من الأجدر بنا أن نعي ظروف المصيبة وخلفياتها، ونستفيد منها - بالتالي - كمنهاج تربوي لنا في حياتنا.
كيف تعامل الائمة مع المآسي؟
ونحن نستطيع أن نلمس بشكل مباشر هذ الحقيقة في واقعة الطف، التي لا يشك أحد في أنها كانت أعمق أثراً، وأوسع نطاقاً من أي مصيبة أخرى. ففي صلب أجواء هذه المصيبة كانت للإمام الحسين عليه السلام كلمات وخطب تتفجر منها الحكمة، وتفيض منها الروح الايمانية الصلبة، والنور الإلهي البهي. فكلماته عليه السلام التي انطلقت من صميم واقع المصيبة كانت تعبر عن العمق الإيماني، والروح الوثابة في جبهة الإمام الحسين عليه السلام.
وهكذا الحال بالنسبة الى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام؛ ففي اللحظات الأخيرة من حياته وهو يعاني من ألم السم القاتل الذي دسه إليه معاوية، دخل عليه جنادة طالباً منه أن يوصيه، فيبادر الإمام الى تقديم وصيته له قائلاً: "... واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصية الله الى عزِّ طاعة الله عز وجل،...". (1)
ولا ريب إن هذه الوصايا لم تكن مجرد كلمات عابرة يطلقها إنسان يحتضر، ويكاد جسده يتفجر من الألم، بل هي كلمات تفيض حكمة ورشداً وروحاً إيمانية.. وفي ذلك دلالة كبرى على مدى استيعاب الإمام عليه السلام لحكمة الحياة، فقد استطاع بشخصيته العظيمة أن يتجاوز حدود المأساة.
وهنا تنبغي الاشارة الى حقيقة هامة، وهي إن الإنسان الذي سرعان ما يستسلم للمصيبة، ولا يخطر على باله أن يقاومها ويتحداها، إنما هو إنسان ضعيف لم يترسخ الايمان في قلبه، ولم تطمئن نفسه ولو للحظة واحدة. كما أنه لا يمتلك رؤية مستقبلية الى الحياة، بل ينظر الى لحظته التي يعيشها فقط.
المصائب ضرورية
وبناءً على ذلك فان المصائب التي تتوالى على الانسان ضرورية لبناء شخصيته، بالرغم من عدم رغبته في أن تنزل عليه. ومع ذلك فلولاها فانه لا يستطيع أن ينتبه الى خطائه، ونقاط الضعف في شخصيته، ولولاها لما عرف قدره ومكانته في الحياة. فمن ضمن فوائد المصيبة أنها تنقذ الانسان من الغفلة، وتذكره بواقعه.
والقرآن الكريم ينبهنا في سورة الانعام، وعبر آيات عديدة إلى الثمار الايجابية للمصائب والصعوبات التي يلاقيها الانسان في حياته، فيقول عز وجل في هذا المجال:( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ اَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى اُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ اُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الانعام/40-45)
والآيات السابقة تبين لنا أن الانسان قد يصاب أحياناً بالغفلة حتى عن الله سبحانه وتعالى، وحينئذ يأتي دور المصائب لتعيده الى ذكره -تقدست أسماؤه- وتوسع من آفاق معرفته. وفي هذا المجال يروى إن رجلاً جاء الى الإمام الصادق عليه السلام، وقال له: ياابن رسول الله دلني على الله ما هو، فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيّروني؟ فقال له: يا عبد الله؛ هل ركبت سفينةً قطّ؟ قال: نعم. قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم. قال الإمام االصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث". (1)(4/291)
ومن هنا نفهم أن حالات المصائب والرزايا تقرب الانسان الى الله تعالى، وتزيد من معرفته به. وهل هناك نعمة أكبر وأعظم من نعمة معرفة الله تبارك وتعالى، هذه النعمة التي تعد خير الدنيا والآخرة، وهل هناك نقمة أشد من نقمة الضلالة والغفلة عنه عز وجل ؟
وعند نزول المصائب لا يتعلق الانسان المؤمن بشئ غير الله، وهذا ما يقودنا الى التوجه نحو رب العزة دائماً وأبداً، وبذلك نتحدى المصائب. فهي عندما تلم بنا فاننا سنرفع رؤوسنا وأيدينا متضرعين، طالبين من الله تعالى أن يرفعها عنا، وييسر أمورنا. فهو القادر وحده على كشفها.
وعلى الانسان أن يستدل من خلال زوال المصائب عنه، وخلاصه منها، أن هناك قوة فوق هذه القوى، ألا وهي قوة الله تعالى.
وفي مثل هذه الظروف التي نمر بها يجدر بنا أن نزداد إيماناً، وضراعة الى خالقنا من خلال إستغلال الدقائق والساعات والأيام في التوجه الى الله والتضرع إليه. فهو جل شأنه يباهي ملائكته بعبده المؤمن الذي يقوم من نومه، ويصلي له ركعات في جوف الليل، ويدعوه بأحسن الدعوات، ويتبتل إليه، ويعرض له حوائجه، فانه مجيب دعوة المضطرين، ونصير المظلومين.
التضرع هدف الإبتلاء
وتشير الآيات القرآنية السابقة الى أن المشاكل والمصائب كانت تتوالى على كل أمة من الأمم مع مجئ كل نبي مرسل إليها، الى درجة أن البعض كان يعترض على نبي زمانه بأنه لو كان حقاً نبياً مرسلاً فلماذا كل تلك المصاعب والأزمات التي يمرّ بها ؟ إلاّ أنهم لوكانوا قد تبصروا في تلك المصاعب والأزمات لأدركوا أنها لم تنزل عليهم إعتباطاً، وإنما ضمن هدف وحكمة بالغة من الله سبحانه؛ منها إثارة عقل الانسان، وتنمية إرادته، وتوسيع أفقه، وبعث مواهبه، وإثارة حوافز الخير عنده.. ولذلك يقول تعالى في بيان فلسفة الابتلاء: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (.
إن حالة التضرع الى الله جل وعلا تمثل قمة سامقة في سماء الايمان، لا يبلغها إلاّ من تخلص من الأنانية والذاتية، وكل حالات الجهل والتخلف والعصبيات.
ومع ذلك فاننا لم نستطع بعد أن نصل الى مستوى الضراعة، ولذلك فان النصر لم يتنزل علينا. فنحن ما نزال مصرين على عاداتنا التي تشوبها بعض الصفات السلبية كالاستهزاء ببعضنا البعض، وعدم سيادة الاحترام فيما بيننا، وبخس حقوق الآخرين...
فلننبذ جانباً هذه الصفات، ولنتضرع الى الله سبحانه وتعالى، ولو لفترة قصيرة لنرى كيف أن الله سوف يرأف بنا، وينزل علينا نصره.
ثم يقول تعالى مشيراً الى تلك الفئة التي لا تعتبر من المصائب: (فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(.
فهناك البعض من الناس لم تنفعهم المصائب، لأنهم لم يعتبروا بها؛ فكلما نزلت بهم مصيبة كانت كأن لم تكن شيئاً مذكوراً، ونتيجة لذلك فقد أصبحت قلوبهم قاسية قد أحاطت بها الذنوب من جميع أرجائها.
إن مثل هذه الحالة تدعونا الى الحذر. فالأجدر بنا - إذن - أن نستغفر الله سبحانه وتعالى حال إرتكابنا أية معصية أو ذنب صغير. أمّا إذا لم يتضرع الانسان الى ربه، فان الله سيستدرحه بإنزال النعم الوافرة عليه، وحينئذ ينزل العذاب عليه بغتة، ويأخذه أخذ عزيز مقتدر.
==============
سبيل العودة الى الفطرة
رغم إن الانسان قد زوّد بعقل يساعده على رؤية الحقائق وملامستها، إلاّ أنه - في نفس الوقت - أبتلي بحجب من الشرك تعطّل أجهزة البصيرة عنده عن العمل، الأمر الذي يحول دون رؤيتها.
وهناك الكثير منا يزعم أنه يعيش الحقائق بوعي، وإحساس دقيق، إلاّ أن هذا الزعم كثيراً ما يشوبه الخطأ. فالغالبية العظمى من الناس لا يعيشون إلا ظلال الحقائق، ولعل البعض منهم يعيش أوهاماً يظن أنها هي الحقائق.
النموذج الأسمى
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الطاهرين، والأولياء الصالحين، النموذج الأسمى لادراك الحقائق ورؤيتها. فعندما يخيم الليل بظلامه الدامس، تجد الناس يستوحشون منه، فيسارعون إلى فراشهم ليغطوا في نوم عميق حتى ينبلج الصباح. بينما النبي وأهل بيته ومن سار على نهجهم وهداهم يأنسون بظلام الليل، حيث يقضون الليالي في التبتل والتهجد والعبادة، ويتأملون السماء وما فيها من الآيات الربانية بقلوب منشرحة، وببصيرة نافذة.
ومن المعلوم إن الله سبحانه وتعالى خلق الانسان في أحسن تقويم، وزوده بالقدرة على النطق لكي يستطيع التفاهم مع أبناء جنسه، وجعل بينه وبين الخلق حاجات مشتركة. ولو عشنا الحقائق لأدركنا أن هذه الظواهر تمثل كتلة من مظاهر الجمال التي أنعم بها الخالق تبارك وتعالى على الانسان.
ومع ذلك فان الحجب لاتدع الانسان يتحسس مظاهر الجمال تلك، بل تفرض عليه أن يعيش في السلبيات، فلا يرى من الحياة إلاّ جانبها المأساوي السلبي. وهذه الحالة تدفع بالانسان عادة الى أن يسجن نفسه في زوايا ضيقة من هذا العالم الواسع دون أن ينفتح على آفاقه الرحبة، حتى أنك تراه يفقد علاقاته مع الآخرين بصورة تدريجية.(4/292)
إن هذا المنحى يخالف فطرة الانسان التي تحثه على التواصل مع الآخرين، والانسجام مع الكون بكل موجوداته. ومن هنا يتضح لنا أن مشكلة الانسان تتلخص في أنه يعيش وراء الحجب التي تتمثل بمجموعة من الأفكار الجاهلية التي متى ما استطاع الانسان أن يتحرر منها، ويعيش الطبيعة كما خلقها الله عز وجل، فانه سيحقق الانجازين التاليتين:
1- العيش في أجواء الايجابية والتفاهم؛ فمن خلال هذه الأجواء سينظر الى جميع مآسي ومنغصّات الحياة بنظرة متفائلة دائماً.
2- الوصول الى مستوى النشاط والحيوية تبعا لما تمليه عليه طبيعته المتفائلة التي تأبى الكسل والخمول.
إن الذين يركنون الى الكسل، والركود، إنما تدفعهم الى ذلك حجب داكنة، تمنعهم من رؤية جمال الحركة، وتفصلهم عن ضميرهم. فنحن نرى أن مجتمعاتنا مقيّدة بأغلال من مثل الخجل، والخوف، والتردد.. هذه الحجب التي كرّستها التربية الخاطئة، مما حالت دون إنطلاقة شعوبنا لتحقيق طموحاتها الحضارية. وكل ذلك يعود - بالدرجة الأساس - الى إبتعاد الانسان عن الحقائق، وعن الفطرة النقية.
كيف يعود الانسان الى فطرته
وثمة سؤال مهم في هذا المجال هو: كيف يتسنى للانسان أن يعود الى فطرته في صفائها ونقائها، لكي تدفعه هذه الفطرة الى التحرك والنشاط والعمل؟
إن تحقيق هذا المكسب ممكن من خلال أحد أمرين:
1- أن يدعو الانسان داعية الى ذلك، كما كان الحال بالنسبة الى الجزيرة العربية التي كانت ترزح تحت وطأة الحجب الجاهلية، فجاءها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، وأطلق فيها صرخته المدوية: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".(1) فأخرجها من ظلمات الجاهلية الى نور الاسلام.
2- أن يعاني الانسان الصعوبات، ويعيش المشاكل لكي تتضح له الحقائق عن كثب، ويبدد بذلك كل الأوهام والظنون.
فقد يتصور الانسان أنه من المقربين الى الله تعالى، وأن دعاءه مستجاب، ولكن عندما تحيط به الأزمات، وتنزل عليه الكوارث، فانه سيستغيث حينئذ بخالقه. ولكنه سيكتشف أن دعاءه لا يستجاب، ذلك لأن مقاومة الأزمات، ومواجهة المحن بحاجة الى عمل دؤوب، وتضحيات مكثفة، وإرادة صلبة.
صحيح إن الدعاء يعتبر - في حدّ ذاته - ممارسة مفيدة ونافعة، ولكنه لابد أن يقترن بالعمل.
ومن هنا ينبغي علينا أن لا نعيش الأوهام، وأن لا ننساق في تيار الأفكار الجاهلية، والقناعات الباطلة، بل يجب علينا أن نتوجه نحو الحقائق. فعندما تحيط بنا الملمات والمصائب، فان من الواجب علينا أن لا نستسلم لها، بل علينا أن نحوّلها الى وسيلة ليقظتنا. وبذلك تتهاوى الحجب، وحينئذ سيكون بمقدور الانسان أن ينظر الى الحقائق نظرة جديدة جدية، ويستلهم منها سبل تغيير نفسه، وسوق مجتمعه باتجاه الكمال.
والقرآن الكريم يوجهنا الى هذه الحقائق في قوله:( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ اَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ( (الانعام/40-41).
ففي ظل المآسي والصعاب تتساقط الافكار الجاهلية الواحدة تلو الأخرى، وتتبدّد القناعات البالية؛ وحينئذ يتجه الانسان صوب المنقذ الحقيقي، من خلال العودة الى الله تقدست أسماؤه.
فلسفة المآسي
وبعد ذلك يبين لنا السياق القرآني فلسفة المآسي والويلات التي تترى على البشرية، وذلك في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى اُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (الانعام/42-43).
وهكذا فان الغرض من إرسال الرسل، ونزول البأساء والضراء من كوارث طبيعية ومن حروب، انما هو ايقاظ الانسان بعودته الى فطرته. وهذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلاّ في حالة التضرع الى الله تعالى، ونبذ جميع الافكار الشركية التي إن أصرّ عليها الانسان معانداً مسيرة الحق فسوف يبقى يعيش في دوامة المآسي الى نهاية عمره.
ومما يؤسف له إننا وعلى الرغم من المآسي والويلات التي حلت بنا، ترانا ما نزال نولي وجوهنا شطر الاختلاف والتفرقة. ولا يختلف إثنان في أن هذا التوجه لا يخرج عن الدائرة الجاهلية، إلاّ أن الإصرار على ذلك هو الذي يجعلنا نرزح دائماً تحت العذاب. وهذه نتيجة طبيعية، لأننا خالفنا بها الحقائق. أوَ لَم يقل ربنا سبحانه وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا( (آل عمران/103) أوَ لَم يوجّهنا الى المبادرة لأداء أعمال الخير في قوله: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ( (الزلزلة/7).
وهكذا فاننا متى ما عدنا الى تلك القيم الالهية التي تعتبر التجلي الواضح للحقائق، فاننا سوف نعيش حينئذ السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
===============
حكمة الحياة(4/293)
من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الكون رحمة من لدنه، وانتشرت آثار رحمته في كل شيء، وخلق البشر ليرحمهم لا ليعذبهم، فلماذا نجد في بعض الأحيان ينزل عذابه على البشر اما في صورة قحط وفقر، أو في صورة مرض وحوادث طبيعية كالسيول و الفيضانات وما الى ذلك، وأما في صورة الحروب الداخلية فلماذا كل ذلك - يا ترى - أوليس الله أرحم الراحمين، أولم تتجلى رحمة الله في كل شيء ؟
إننا بفطرتنا و بمقدار عقولنا المحدودة عرفنا من ربنا الرحمة، فمنذ أن كان الانسان نطفة في قرار مكين، إلى أن أصبح في رحم أمه، إلى أن خرج الى هذه الدنيا وأودع في قلب أمه وأبيه الرحمة والعطف عليه، الى أن نما وترعرع فان حياته محاطة بآثار رحمة الله.. فما هي فلسفة العذاب في الدنيا، وما هي فلسفة الآلام والأمراض والكوارث الطبيعية ؟
إن فلسفة كل ذلك هي إمتحان الانسان وابتلاؤه، لأن فلسفة خلق الانسان فوق هذا الكون تختصر في الفتنة والامتحان والابتلاء. ومن عرف هذه الفلسفة يستطيع أن يجعل حياته في الدنيا حياة سعيدة، ووجهته الى الله سبحانه وتعالى وجهة سليمة، ومن لم يعرفها كفر وظلم نفسه وخسر حياته في الدنيا والآخرة، وهذا هو الخسران المبين.
إننا نواجه الآن طائفة من المشاكل؛ من غلاء في بلد، الى فقر مدقع و مجاعة في بلد آخر، الى حرب داخلية مدمرة في بلد ثالث، الى غزو غاشم لبلد آخر... و هذه جملة مشاكل، ولا يخفى على أحد منا حجم هذه المشاكل وانتشارها. فكل واحد منا إذا فتح المذياع، واستمع الى أي إرسال من أي اذاعة، فان أول خبر يسمعه إما قتل، وإما مجاعة، وما الى ذلك. وكذلك عندما يقرأ الصحف، لا ينتهي من خبر مزعج إلاّ ويأتيه خبر مزعج آخر. فما هي الطريقة المثلى لتعاملنا مع هذه الاخبار ؟
إنها التسلح بالبصائر القرآنية، و فهم حكمة الوجود، و بذلك نستطيع أن نعرف كيف نتعامل مع هذه الأمور. فالابتلاء هو حكمة الحياة؛ فالغني مبتلى بماله، و الفقير مبتلى بفقره.. فالغني إذا أوتي من نعم الله وفضله شيئاً فعليه أن يعطي للآخرين ويسعدهم. وأما الفقير فاذا منع من فضل الله بقدر ما، فلابد ان يصبر، ولابد أن لا يفقد ايمانه، ولا يفقد دينه، ولا يفقد استقلاله. فكل من الغني و الفقير مبتليان كما يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ( (الفرقان/20).
فالله عز وجل خلق الانسان بحيث يبتلي البعض بالبعض الآخر؛ فالقوي قوته فتنة، والضعيف ضعفه فتنة.. وإذا أصبح الانسان قوياً فان عليه أن يستخدم هذه القوة في سبيل الله. فقد يمتلك شخص ما قوة و شجاعة ثم يقول لنفسه: سأنزل الى الشارع وأثبت قوتي على الضعفاء. في حين أن هذا السلوك ليس صحيحاً، لأن الذي أعطاك هذه القوة إنما منحها إياك ليختبرك، وإلاّ فانك لا تستطيع أن تطالبه بحق، فهو باستطاعته أن يسلبها منك.
وعلى سبيل المثال فان موسى بن عمران عليه السلام كان في وضع مزر، وكان غريباً مهاجراً مطارداً عندما كان في مدين، وكان جائعاً، وحسب ما جاء في رواية عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله صلوات الله عليه، إذ يقول: (إنِّي لمَّا أنْزلت إليَّ مِنْ خَيْر فَقيْر( والله ما سأله إلاّ خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه". (1)
ولكن عندما لاحظ أن الناس جاؤوا، وكل واحد منهم سقى غنمه، ثم بقيت إمرأتان تذودان، قال لهما: ما خطبكما؟ فقالتا له: نحن نملك قطيعاً لكن أبانا شيخاً كبيراً ونحن نساء لا نستطيع مزاحمة الرجال على السقاية. فما كان منه إلاّ أن سقى لهما، ولم يطلب أجراً؛ أي إنه إستغل قوته وعضلاته في سبيل مساعدة المستضعفين.
إن البعض يقول: أنا لا أملك إمكانيات. ونحن نقول له: لا بأس، ولكن ألاّ تملك عضلات؟ فإذا كنت لا تملك قوة مالية، فانك تملك قوة جسدية والحمد لله. ومع ذلك فان البعض يقول أنه لا يمتلك لا المال و لا القوة الجسدية، وأنا أقول له: نعم؛ ولكن عندك ماء وجه.
وهكذا فان الانسان الذي لا يملك قوة بدنية ولا مالية، فانه يمتلك بالتأكيد ماء الوجه، فليبذله في سبيل الله سبحانه، لان ماء الوجه هو إمتحان للانسان وقد جاء في حديث شريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، أنه قال: "والشفاعة زكاة الجاه". (1)
وقد يوجد شخص آخر لا يمتلك مالاً ولا قوة جسدية أيضاً، ولكنه يتمتع بلسان طيب، فباستطاعته أن يشجع الآخرين بالكلمة الطيبة التي هي صدقة، فتعال واخدم الاسلام بلسانك. وفي هذا المجال يروى أن الانكسار عندما بان في جبهة المسلمين في بداية حرب حنين، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله واقفاً كالجبل الأشم، والإمام علي عليه السلام بين يديه يضرب بالسيف، في حين لاذ قسم من المسلمين بالفرار وثبتت ثلة منهم. فجاء النبي صلى الله عليه وآله الى عمه العباس وقال: يا عمّ أعنا بصوتك - وكان صوته جهورياً - فالتفت العباس الى الفارين، واستنهضهم وأرجعهم بصوته.(4/294)
وبناءً على ذلك فان الانسان قد يمتلك صوتاً، أو قوة بدنية، أو ماء وجه، أو مالاً.. فأي شيء يمتلكه هو امتحان له. هذا بالنسبة الى القوي الذي يملك شيئاً، أما بالنسبة الى الضعيف، أو المطارد، أو المهاجر فحرام عليه أن يبيع نفسه. فهناك الآن نوع جديد من سوق النخاسين، يتمثل في أن يقال له: إنتمي إليَّ وأعطيك المبلغ الفلاني ! طيب إذا كنت مؤمناً بهذا الخط والفكر والقيادة وهذا التجمع، فأهلاً وسهلاً، وانتمي إليه بايمانك. أما إذا كنت غير مؤمن بهم، ولكنك من أجل رأس المال الذي يملكونه تخضع لهم ولأفكارهم وخطهم وثقافتهم، فان هذا يعني بيع النفس. وللأسف فان بعض الناس يقول: من يدفع أكثر أنا معه! كيف يكون ذلك؟ إن هذا طاغوت، والانسان الذي يتبع من لا يؤمن به طمعاً في ماله، أو خوفاً من سطوته، فانما يتبع الطاغوت، في حين إن عليه أن يتبع الله عز وجل.
وفي هذا المجال يروى إن معاوية بعث عسلاً الى عائلة عمار بن ياسر، وكانت هذه العائلة لم تأكل شيئاً لثلاثة أيام، فأخذت طفلة من هذه العائلة قليلاً من العسل، ووضعته في فمها، ثم يأتي أبوها و يرى إبنته تأكل من العسل. فقال لها: أتعرفين من بعث هذا العسل؟ إنه معاوية. فما كان من الطفلة إلاّ أن قذفت العسل.
وهكذا فان على الانسان ان يحذر؛ فالفقير فقره امتحان، فعلينا أن لا ننظر إليه نظرة إحتقار، إذ من الممكن أن يكون أفضل منا تقوى وإيماناً، وإن صبره على فقره هو أكبر أجر له من الله تعالى من إحترامنا للغني. وكذلك المهاجر من بلده، صحيح انه لا يملك وطناً، ولكنه يملك شخصية وعنده إيمان واستقلال فلابد من احترامه وتقديره، وفي ذات الوقت يجدر بالمهاجر أن لا يركض وراء أية راية ترفع، بل يجدر به أن يعرف أية راية هي، وهل هو مقتنع بها حقاً أم لا.. لأن من طبيعة الإنسان أنه يخلط المصلحة بالدين، والهوى بالحق.. فلابد من التمييز بينهما.
وعلى هذا المنوال الصحيح مبتلى بعافيته، والسقيم مبتلى بسقمه، والحاكم مبتلى بقدرته، والمحكوم مبتلى بضعفه.. فالحياة كلها إبتلاء، وفهم حكمة الإبتلاء فيها يجعلنا نحيا حياة سعيدة.
وعلى هذا ينبغي على كل من يملك علماً أو جاهاً أو قوة.. وعلى كل من ابتلي بفقر أو ضعف.. أن يفهموا أن هذه الدنيا محفوفة بالابتلاءات، وأنها ليست ببعيدة عن كل واحد منا، ولا مناص لنا إلاّ ان نطلب من الله بقوته وقدرته، وبحق نبينا الأعظم وأهل بيته أن يعيننا على أنفسنا في مزالق الحياة، وأن لا يكلنا الى أنفسنا طرفة عين أبداً.
================
حكمة الوجود
عندما خرج سيدنا وإمامنا أبو عبد الله الحسين عليه السلام من مكة تلقاء العراق قاصداً الكوفة، توافدت عليه مجموعات من المعارضين للنظام الأموي، والقاعدين عن الجهاد.. يتساءلون عن السبب الذي دفع الإمام عليه السلام الى الخروج في هذا الوقت، في حين إن الظروف المناسبة لخروجه ضد طاغية عصره يزيد بن معاوية لم تنضج بعد حسب تصورهم.
وقد أجاب عليه السلام كل فريق باجابة مختلفة؛ كل حسب فهمه وظروفه وانتماءاته. فقد قال لبعض: "إنَّ بني امية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت". (1)
وقال لمجموعة أخرى:
"كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، يسألوني القدوم إليهم ففعلت". (1)
وعندما أتته أفواج مسلمي الجن، فقالوا: يا سيدنا؛ نحن شيعتك وانصارك، فمرنا بأمرك وما تشاء. فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك. فجزاهم الحسين خيراً، وقال لهم: أو ما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله (أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشّيَّدَةٍ(، وقال سبحانه: (لَبَرَزَ الَّذينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ ( وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس، وبماذا يختبرون؟" (2) محدداً لذوي البصائر هؤلاء حكمة الهية لخروجه تتصل بمهمة الأنبياء جميعاً، والأوصياء كلهم، لأنهم يسيرون على نهج الانبياء عليهم السلام.
فهناك أهداف وتطلعات يسعى المقربون والسابقون والصديقون الى تحقيقها، وهذه الأهداف هي أعلى وأسمى من الأهداف السابقة، رغم أن كليهما مشروعان.
إن الصديقين والاوصياء لا يأبهون بحسابات الربح والخسارة، ولا يجعلون هدفهم الرئيس إسقاط هذا الطاغية أو ذاك، بل يستهدفون الامتثال لأوامر الله تعالى؛ أي إنهم يريدون تحقيق إرادته عز وجل في الأرض.
وهناك أهداف سياسية وأخرى رسالية ينبغي على المؤمن أن يسعى لتحقيقها، ذلك لأنه يريد إقامة حكم الله في الأرض، وإزاحة حكم الطغاة، وتحرير الانسان من عبودية الظالمين، وبالتالي تحقيق الرفاه والسعادة للبشر.. وهذه هي الأهداف التي يتطلع المؤمنون المجاهدون لتحقيقها.
ومن حكم الله سبحانه في خلق الانسان، وسائر الأنظمة والسنن التي تحوم حول الانسان؛ ابتلاؤه وفتنته واختبار إرادته. والامتحانات هذه على أقسام؛ فقد يكون الامتحان فردياً كأن يبتلى الانسان بمال حرام يحتاج إليه، أو امرأة محرمة تشتهيها نفسه، أو سلطة تهويها نفسه.. والانسان الفرد هو الذي يمتحن في هذا المجال.
الامتحان الجماعي(4/295)
وهناك إمتحان آخر على مستوى أعلى، وهو إمتحان المجتمع ككل؛ بحيث يوضع الناس كلهم في غربال ويغربلون ليعرف من الصامد، ومن المتهاوي، ومن الذي كان يجري وراء المناصب، ومن الذي يبحث عن الحق، ومن المستقيم على الطريق، ومن الذي يتساقط يمنة وشمالاً كأوراق الخريف..
والآيات القرآنية تبين أن الفتنة في حياة الانسان، لابد وأن تسير في هذا الاتجاه. فالانسان في اللحظات الحرجة حيث تختلف الأهواء، وتتناقض المذاهب، وتعم الحيرة في إختيار الطريق المستقيم، لابد أن يختار الطريق الذي يأمره به إمامه وقائده، أي إن عليه أن لا يبحث عن ما تهويه نفسه، بل عن ما يأمره به دينه.
وفي هذا المجال يقول عز وجل: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (النور/51).
فلابد أن نتنازل عن أهوائنا وشهواتنا الى ما يريده الله، وأن نبحث عن القسطاس المستقيم، والفرقان، والحجة بيننا وبينه عز وجل. والحجة هي كلام الله، وسيرة الرسول، وطاعة من أمر الرسول صلى الله عليه وآله بطاعته.
ثم يقول تعالى في وصف المنافقين: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( (النور/53).
فهناك من الناس من يسير مع الرسول صلى الله عليه وآله، ومع من هو في خطه ما سارت مصالحهم، فان تضررت مصالحهم هذه كفوا عن نصرته. وقد أشار الإمام الحسين عليه السلام الى هذه الطائفة من الناس في قوله: "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فاذا محّصوا بالبلاء قلَّ الديانون". (1)
إن الانسان لا يمكن فصله عن ماضيه، ولا يمكن أن يولد في كل يوم من جديد، بل لابد أن يتأثر في سلوكياته بالعوامل الاجتماعية والتاريخية والخط الذي كان ينتمي إليه. والقرآن الكريم يؤكد إن أولئك الذين يأمرهم الرسول بالجهاد ثم يحلفون بالله أنهم يطيعونه، فاذا أمرهم بالخروج في ساعة الحسم والمواجهة إذا بهم ينكثون، ويخلفون وعدهم. إن هؤلاء كانت حياتهم، ومسيرتهم معروفتين، وهي مسيرة المنافقين الذين يتربصون الدوائر بالمؤمنين، فان وجدوا مؤمناً قد ابتلي إنفجرت ألسنتهم وأقلامهم ضد كل المؤمنين ليشفوا غلّ صدورهم، ويشيعوا السلبيات بين أفراد المجتمع.
والقرآن الكريم يشير الى أن أمثال هؤلاء ينبغي معرفتهم من خلال خطوطهم السابقة، فلا يمكن للانسان أن يكون في خط منحرف لفترة طويلة ثم يسير فجأة على الخط المستقيم، ويبادر الى الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله والخط الرسالي دفاعاً مستقيماً. إنه في الواقع لا يدافع عن الخط الرسالي، بل عن مصالحه.
أهم مواصفات القيادة
ويقول تعالى مؤكداً على أهمية القيادة: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ( (النور/54)، فمن أهم مواصفات القيادة حسم الصراعات، والقضاء بين الناس بالحق، وأن تتدخل في اللحظات الحرجة لتنقذ المسلمين من المآزق.. وعلى المسلمين بدورهم أن يلتفوا في هذه الظروف حول القيادة، وأن لا يتطرفوا فيمرقوا عن الدين، بل يكونوا مع القيادة أينما كانت.
وإذا ما وجدنا حركة رسالية في هذا المستوى فلنبشرها بالنصر، لأن القرآن الكريم يقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً( (النور/55).
ونحن بصفتنا مؤمنين علينا أن نطيع الله، ونستقيم على الطريقة، وأن لا نطغى في الأرض، ولا نظلم أحداً، ولا نتطرف ضد هذا وذاك، ولا ننخدع بالحسابات السياسية العاجلة، بل علينا أن ندع طريقنا يأخذ مجراه باتجاه خط الانبياء، وبذلك سنضمن نصر الله تعالى بحوله وقوته.
فلابد أن نستقيم، وأن ننظر الى واجبنا الشرعي، وهو أن نخدم الاسلام في أي مكان كان وبكل الوسائل الممكنة. فالمهم أن نسير في الاتجاه الصحيح، وأن يرضى عنا الخالق، وحاشى له عز وجل أن يأمرنا بأمر فنطيعه، ونتوكل عليه، ويعدنا بالنصر ثم يخلف وعده.
ولو كان المؤمنون العاملون للصالحات شجعاناً متوكلين على ربهم، لما بقي أثر من الكفر في الأرض، ولكن المشكلة كامنة في نفوسنا.(4/296)
ومعنى قوله تعالى: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ( (النور/55) إن هذا الدين من شأنه أن يتمكن ويسيطر في الأرض سيطرة كاملة، وإذا ما ثبت وتمكن واستقر وتعمقت جذوره، فان هذا الدين سوف يكون لمصلحة العاملين في سبيل الله. وبهذا التعبير، أي قوله تعالى: (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً( (النور/55) يبين لنا الله أن مسيرتنا تكتنفها المشاكل والمخاوف، ولكن العاقبة ستنتهي الى أن يعيش المؤمن في زمن وفي أرض يعبد فيهما الله وحده، وهذه النعمة تأتي نتيجة للتضحيات.
بعد ذلك يقول عز وجل: (وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( (النور/55). فبعد أن يسقط الله تعالى الطغاة، ويحطم الأصنام بيد المؤمنين، يظهر أناس يكفرون بالنعمة بدل أن يشكروها، وتجرفهم مذاهب الدنيا، فلا يفكرون إلاّ في مصالحهم، وقضاياهم الشخصية.
حكمة الوجود
والنتيجة النهائية التي نستوحيها من الآيات القرآنية السابقة؛ إن علينا أن ننظر دائماً الى حكمة الوجود، ولا نعيش في التمنيات والأحلام. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الدنيا لكي يفرض على أهلها عبادته كرها، بل يريد منهم الاختبار والامتحان. فعليهم أن يسعوا ويتحركوا ويبذلوا الجهود لكي يحققوا حياة آمنة، وعليهم أن يتقبلوا البلاء والفتنة ليعرف مدى إيمانهم، وصدق أقوالهم. ففي حالات الرفاه ترفع شعارات كثيرة، أما في حالة الشدة فان الأمور تختلط مع بعضها. فيجب علينا أن نجعل دائماً أفق تفكيرنا أفقاً ربانياً من خلال نظرة إلهية وبصيرة ربانية، وأن ننتبه الى حكمة الوجود.
إن على الواحد منا - كمثال - أن لا يسيء الظن بالله تعالى بسبب إنزلاق رجله وهو في طريق ذهابه الى المسجد، فبوقعته هذه سيحصل على ثواب مضاعف. وقد روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: "إن الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه وتعهده بالبلاء، كما يتعهّد المريض أهله بالطرف، ووكل به ملكين فقال لهما: اسقما بدنه، وضيّقا معيشه، وعوَّقا عليه مطالبه، حتى يدعوني فانّي اُحبُّ صوته، فاذا دعا قال: اكتبا لعبدي ثواب ما سألني وضاعفا له حتّى يأتيني، وما عندي خير له، فإذا أبغض عبداً وكل به ملكين، فقال: أصحّا بدنه ووسّعا عليه في رزقه، وسهّلا له مطلبه، وأنسياه ذكري، فأنّي اُبغض صوته حتّى يأتيني، وما عندي شرٌّ له". (1) فان دعوت الله من أعماق قلبك فسوف تحصل على بعض الثواب، في حين إنه عز وجل يريد لك أن تحصل على المزيد من هذا الثواب، ولذلك يؤخر إستجابة دعائك.
إن الثواب الذي حصلنا عليه قليل، وميزان صالحاتنا ما يزال خفيفاً، والله يريد أن يثقل هذا الميزان من خلال الابتلاء كالاضطهاد والهجرة، وما الى ذلك. والايمان يزداد ويتعمق في حالات كهذه، والثواب في الآخرة يزداد، وميزان الحسنات سيكون أرجح وأثقل من ميزان السيئات، وعلى الانسان المؤمن أن لا يرفض قدراً من أقدار الله جل وعلا عليه.
إن الواحد منا - بسبب معارضته للطغاة- قد يدخل السجن ويعذب أو يستشهد، ولكن كل ذلك هو بلاء بسيط بالقياس الى نار جهنم وعذاب الله وسجنه الرهيب. فالانسان لا يمكن أن تنتهي حياته هناك كما يقول تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ َكَانَ عَزِيزاً حَكِيماً( (النساء/56).
فالعذاب لا ينتهي، والانسان المنحرف يتحسس بالألم دائماً. والى هذا المعنى يشير الإمام السجاد عليه السلام في دعائه: "وإن يكن ما ظللت فيه أو بت فيه من هذه العافية بين يدي بلاء لا ينقطع و وزر لا يرتفع فقدِّم لي ما أخّرتَ وأخِّر عليَّ ما قدّمتَ فغير كثير ما عاقبته الفناء وغير قليل ما عاقبته البقاء ".
من دعائه عليه السلام: "إذا دُفع عنه ما يحذر أو عجل له مطلبه".
فكل ما كان في الدنيا هو قليل، لأن الدنيا تنتهي. وكل ما كان في الآخرة كثير، وإن بدا ظاهره قليلاً لأنه لا ينتهي.
فلتتجه أنظارنا الى يوم القيامة، فهذه الدنيا ليست إلاّ معبراً، فلو دامت لغيرنا لدامت لنا أيضاً. فهي لم تَصفُ حتى للأنبياء والصديقين، فكيف تصفو لنا. فهي دار الابتلاءات والامتحانات، فلنحاول أن نجتازها بوجوه مبيضة لدى رب العالمين.
==============
مصنع الرجال
الانسان لم يخلق عبثاً، ولذلك فانه لم يترك سدى. والهدف من الحياة، وخصوصاً حياة الانسان إمتحانه، وابتلاء سرائره، وليتم الله حجته عليه. وفي هذا المجال يقول تعالى في محكم كتابه: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( (الانبياء/35).
وهكذا فان على الانسان أن يتسلح بسلاح الحذر واليقظة. فلو غفل لحظة واحدة، فانه سيخسر عمره كله. وهذا هو الخسران المبين.
إن أولئك الذين اختاروا الحق هدفاً، وخططوا للوصول إليه بوعي، واستقاموا على طريقهم، كانت عاقبتهم خيراً. أما الذين خارت عزيمتهم، وضعفت إرادتهم، وأحاطت بأبصارهم الغشاوات، فانهم سوف لا يخسرون حياتهم الدنيا فحسب، وإنما سيخسرون أيضاً الآخرة، وسيعضّون على أيديهم من الندم، وهيهات أن ينفعهم الندم.(4/297)
حقيقة الابتلاء في القرآن
إن المؤمنين لا يكتفون بالايمان بالله ورسالاته وكتبه لفظاً وقلباً، وإنما يضحّون بكل ما يملكون في سبيل الله تعالى. فالايمان قد عم قلوبهم، ولم تبق هناك أية ثغرة يتسلل من خلالها الشيطان الى قلوبهم. فلا يكفي أن يدعي الانسان الايمان بلسانه، بل عليه أن يعمل على سدّ كلّ الثغرات التي من الممكن أن يدخل الشيطان من خلالها الى قلبه، وعليه أن يعقد العزم منذ البدء على أن يفضّل إيمانه على مصالحه الذاتية، وحبه لذاته، وعلاقاته الشخصية مع الآخرين، وإلاّ فانه سيكون عرضة لوساوس الشيطان ومكره، فيكون مصيره بالتالي جهنم وبئس المصير.
ولقد أكد الله سبحانه وتعالى على هذه الحقيقة المرة بعد الأخرى، وفي مواضع عديدة من القرآن الكريم كقوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ( (آل عمران/179) فاذا كان في قلب الواحد منا شيء من الخبث، فليحاول أن يخرجه في أسرع وقت ممكن، وإلاّ فان يوماً سيأتي لا يستطيع فيه ذلك، كما قال الإمام علي عليه السلام: "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل". (1) وهذا هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر، وهو يوم القيامة.
وللأسف فان البعض قد يهمل العمل في سبيل الله ظناً منهم أن الله تعالى سيبعث لهم كتاباً، ولكنه عز وجل يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ( (آل عمران/179)، فهو سبحانه لا يطلع الناس أيّاً كانوا على الغيب بشكل مباشر، بل يرسل إليهم رسلاً يبلغون رسالاته، ويتلون عليهم آياته. وهكذا فان القرآن الكريم هو حجة الله علينا نحن البشر.
ثم يقول سبحانه: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ( (النساء/136) مخاطباً المؤمنين الذين لم يكتمل الايمان في قلوبهم بعد، وما تزال الثغرات موجودة فيها، الأمر الذي مكّن الشيطان من دخولها، وايجاد الفساد فيها.
ومن جهة أخرى فان الله تبارك وتعالى يستدرج الكفار، فينزل عليهم بركات من السماء التي هي في الواقع إمتحانات وإختبارات، كما يشير الى ذلك القرآن الكريم في قوله: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( (آل عمران/178)
وقد تكون الفتنة فردية، كأن يمتحن الانسان بأمواله وأولاده، أو بزنا، أو غيبة، أو قطع رحم، أو فساد في الأرض.. ولكن الامتحان الأكثر صعوبة، والذي يشمل جميع أفراد المجتمع بما فيهم الصالح والطالح، هو الامتحان الجماعي؛ ومن أبرز أنواع هذا الامتحان تسلط الظالمين، فاذا ما قاومه المجتمع، وتمرّد عليه، وتمكّن منه، واتّخذ الطريق الى تطبيق الاسلام بكل قوانينه وتشريعاته فقد نجا، وإلاّ فانه سيهلك، وسيكون له الخزي في الدنيا، وسيشمله العذاب بجميع أفراده، كما يقول تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً( (الانفال/25) وفي الآخرة سيكون لهم العذاب المهين.
===============
حصن الإبتلاء
معدن الإستقامة
(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اْلأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ( (آل عمران/137-143)
يتفاوت بنو البشر في ذواتهم وطبائعهم طبقاً لتفاوت معادنهم، ومثلهم في ذلك مثل الأرض التي منها الطيب والخبيث ومنها الخصب والعقيم، فهذه تنبت الطيب والنافع، وتلك لا يخرج منها إلاّ النكد الضار، وقد قال عز اسمه بهذا الصدد: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً( (الاعراف/58). وكذلك هم الناس والأمم، فمنهم من يمتاز بالطيبة والأصالة، ومنهم من معدنه خبيث هجين ورخوٌ لا أساس له ولا استقرار..(4/298)
وكان من الطبيعي أن حوادث الحياة ومستجداتها وطوارئها وما تجره من ظروف وأحوال شاقة ومحن وآلام- وهي بمجموعها تمثل المحك والامتحان الكاشف لحقيقة معدن وشخصية هذا الإنسان وتلك الأمة - لا تزيد المعدن الطيب إلاّ طيبةً وصلابةً ومتانةً، بينما يكاد المعدن الخبيث الضعيف يتلاشى ويضمحل وينصهر، ذائباً في بوتقة ملمات الدهر؛ لأن من طبعه الميل مع كل ريح، والتهاوي لأدنى تحدٍ.
وقد تجد إنساناً ذا مظهر بسيط جداً في أداء ما عليه من فرائض وواجبات دينية ضمن الأجواء التقليدية، ولكنك قد تكتشف معدنه الطيب والأصيل حينما تواجهه بوسط يخالف معتقداته ومبادئه؛ بل لعلك ستراه ملتزماً كل الالتزام ومتمسكاً بكل ما يمليه عليه دينه، فيجاهد في سبيل الله لا تأخذه في ذلك لومة لائم، فضلاً عن إقامته الرائعة لصلاته وصيامه وسائر واجباته الدينية الأخرى.
إن معدن الإنسان العظيم يتجلى لدى الشدائد والملمات وتواتر الفتن والضغوط التي تخلقها ظروف الحياة.. تماماً كما الذهب الذي يتجلى نقاؤه وخلوصه بتعريضه للنار، بينما تتلاشى المعادن الواطئة وتتبدل وتفقد ما كان يعتبر خواص ذاتية لها في السابق.
معدن الإنسان ليس مادياً
إذا كان الذهب ذهباً بذاته، وأنه لم يخلق طبيعته المرغوبة والمتميزة بنفسه، فإن هذا الواقع لا ينطبق على الإنسان عموماً؛ فهو لا يخلق بمعدن أصيل طيب أو بآخر هجين خبيث، رغم صحة ما ورد عن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشريف القائل: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الإسلام خيارهم في الجاهلية، وشرارهم في الإسلام شرارهم في الجاهلية". (1) ورغم صحة تأثير العوامل الوراثية وطبيعة البيئة والتربية والنظم الحياتية المحيطة بالإنسان على طبيعة صياغة شخصيته، فهذه كلها عوامل مؤثرة - وقد يصل مستوى تأثيرها حداً كبيراً جداً في بعض الأحيان - إلاّ أن القرار النهائي يبقى بيد الإنسان دون سواه، حيث يبقى بإمكانه أن يجعل من معدنه ذهباً، وإن شاء جعله معدناً عديم القيمة، فالأمر رهن يديه كما قال ربنا سبحانه وتعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى(. (النجم/39) وهذا السعي الإنساني هو المصدر الحقيقي لوجود القوة أو الضعف، والإيمان أو النفاق، والحيوية أو الخمول، والتطور أو التخلف.. حول الإنسان وحول الأمة اللذين بيدهما قرار ارتقاء سُلّم التسامي، كما بيدهما قرار السقوط والتسافل والانحطاط الى الحضيض.
ومن هذا المنطلق؛ كان محرماً على ابن آدم القنوط من رحمة الله واليأس من روحه المقدس، كأن يحدّث نفسه أو تحدّثه نفسه بأنه - مادام قد ولد في بيئة فاسدة أو فقيرة أو ضعيفة أو متخلفة - تعيس الحظ، ولا فرصة له في التطور، ولا جدوى من بذل سعيه لايجاد التغيير وإصلاح ما حوله من واقع متراجع.. بل الواجب الأول الذي ينبغي له تنفيذه هو الإيمان بوجود رب حكيم وكريم وغني وحميد، حريٌّ أن يتوكل العبد عليه، فيمضي في ارتقاء سلم الجد والاجتهاد والعمل والمثابرة؛ لأن قرار الارتقاء هذا جعله الله رهن إرادته، فكان له أن يصوغ من ذاته معدناً طيباً نقياً ثابتاً جديراً بأن يفتح الله له أبواب الحياة الحقيقية في الدنيا والآخرة. وقد قال تبارك اسمه في آية قرآية كريمة: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ( (آل عمران/179) أي أن حكمته العظيمة وإرادته الجبارة شاءت أن يكون ابن آدم حرّاً مختاراً في انتخاب الحياة والمعدن، رغم الصورة والواقع الأوليين اللذين يولد عليهما وفيهما.
قصة تأريخية حكيمة
نقرأ في قصة النبي نوح عليه السلام مع ابنه الذي أبى الاستماع الى قول الحق والركوب في السفينة، نقرأ أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على هذا الولد الكافر العاق بالهلاك نظراً لما صدر منه من موقفٍ معاند في أخريات حياته وفي تلك الساعات الحاسمة، وهو الموقف الذي كشف عن حقيقة معدنه، رغم كون أبيه من الأنبياء وأولي العزم، إلاّ أن عمله غير الصالح حوّله الى لعنة تاريخية، لأنه كان بإمكانه اختيار طريق الفلاح والنجاة من الغرق في الدنيا والعذاب الأبدي في الآخرة.(4/299)
ومن خلال شيء من التفكير في قوله تبارك وتعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ( (التين/4-6) نعرف إن عملية الخلق خاصة بإرادة الله وحدها. ولكن الاستفادة من نعمة الخلق هذه بوسيلة الإيمان والعمل الصالح رهن بإرادة الإنسان، فهو حينما يخلق، يخلق بفطرة نقية طيبة مثالية، ثم إن طبيعته تبدأ في المسير في طريقين؛ الأول هو طريق التسامي والتكامل، وهو الطريق المنسجم مع فطرته النزيهة ووجدانه وصبغته التي صبغه الله بها. أما الطريق الثاني فهو طريق التسافل والانحطاط بسبب العوامل المضادة لهذه الفطرة، كالشهوات والأهواء وسورات الغضب وسوء التربية وضحالة البيئة وعوامل التاريخ والسياسة والاقتصاد وغير ذلك مما طبيعته التأثير في جوهر الإنسان وتبديل معدنه الأصيل الى معدن زائف. فهو إن لم يسلك سبيل الهدى والرشاد والعمل الصالح وما تمليه عليه الفطرة النزيهة، كان من المحكوم عليه بالانجراف والانحطاط إلى سبيل أسفل سافلين الذي أشارت إليه الآية المتقدمة الذكر. ولكنه إن قاوم العوامل السلبية كان قد أنقذ نفسه فسما وارتقى سلّم التكامل الإنساني، حتى كان بإمكانه أن يسبق الملائكة.
إذن؛ فإن بمستطاع معدني ومعدنك أن يصبحا معدنين أصليين وخالصين بما نعلنه من إرادة خيّرة ونقوم به من عمل صالح، وهما الوسيلتان اللتان يأمر العقل والإيمان بالاستفادة منهما.
إن الله قد حكم على الإنسان وقضى بأن يعرّض للامتحان حتى آخر لحظة من لحظات حياته، لأن حياة الإنسان شيء خلقه الله، وهو ذو إرادة مطلقة في التصرف فيها كيف يشاء، ثم إن الشيطان وجنوده لا ينفكون عن ملاحقة ابن آدم حتى تلك اللحظة الرهيبة التي يفارق عندها الحياة. وها هي النفس الأمارة بالسوء لا يروي غليلها إلاّ وقوع الإنسان الدائم وتعثره، وعليه فإن تعريض الإنسان للامتحان هو الأمر الوحيد والكفيل بكشف معدنه؛ على الأقل كشفه لنفسه ومعرفة من أي الأنواع هو.
ومن هنا؛ فليس محموداً لابن آدم القنوط من رحمة الله واليأس من روحه
فيما لو تنبه إلى واقعه وقد كان من المسرفين على أنفسهم، لأن هذا القنوط يزيده إسرافاً ويغرقه في الكفر ويجرعه كأس الدمار حتى الثمالة.
كما ليس محموداً له أيضاً أن يحدث نفسه - فيما بقي من له من عمر- بأن سفينته قد رست على شاطيء الأمان، باعتبار أن الله قد امتحنه وابتلاه بما فيه الكفاية، فلا داعٍ لابتلاء جديد. كلاّ؛ فالأمر ليس بأُمنيته ورغبته، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدد وقت وكيفية الابتلاء دون غيره. وما يدري ابن آدم أن ضلاله قد يكون بوسوسة شيطانية واحدة ينهار لها في آخر لحظة من حياته، وما يدريه أن الله قد يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بداعي قيامه بعمل صالح يتصوره بسيطاً وهو عند الله كبير. ولهذا ورد في المأثور من الدعاء عن أبي الحسن الأول عليه السلام: "اللهم إني أعوذ بك من العديلة عند الموت"(1) أي الانحراف في آخر لحظة، كما ورد أيضاً: "ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً"(1) نظراً لأن المؤمن مسؤول عن أن يظل في سعيه وجدّه واجتهاده ومثابرته؛ مستقيماً على القيام بالعمل الصالح حتى آخر رمق في حياته، كي يضمن حكم الله بحسن العاقبة عليه، وهي - بلا شك - أهم ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان، لضمان المزيد من الرفعة والسمو الى الدرجات الأعلى ما أمكن.
الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وآله
ولقد بلغ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بذاته وجده واجتهاده وسيرته المباركة مبلغاً جعله حريّاً بسيادة الأنبياء والرسل جميعاً، وقد علا وسما ما تعجز حتى الملائكة عن تصوره؛ ففي ليلة المعراج الى السماء اخترق نبينا الأعظم حجب النور وبحاره وسرادقات العرش حتى وصل موقفاً لم يعد جبرائيل عليه السلام - وهو المرافق له في معراجه - يتجرأ على تخطيه، ولكن النبي دنا ودنا حتى كان قاب قوسين أو أدنى. ولكن رغم هذا الاقتراب النبوي الشديد من العظمة والجبروت الإلهي، إلا أنه ظل ممتلئاً رهبةً وخشية من العلي الأعلى في تلكم اللحظات التي هي أسعد اللحظات وأعظمها بهاءً وروعة في حياة الإنسان على الإطلاق. فيا ترى ما بالنا نحن وما عليه من الإسراف على أنفسنا؟!
سبيل الإستقامة والثبات
إن العامل الوحيد الذي يساعدنا في الحفاظ على خلوص معدننا ونزاهة جوهره هو التنبه الدائم والحذر الشديد والواعي من مكر الشيطان وجنوده من الجن والإنس حتى آخر لحظة نتنفّس فيها، وهو يعني الإستقامة في مسيرة التقوى والخشية من الله عز وجل حتى يأتينا النداء الإلهي الحاسم: (يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً( (الفجر/27-28).(4/300)
قد لا يكون خافياً أن الإنسان عرضةً للإصابة بنوعين من الأمراض؛ النوع الأول، هو الأمراض المادية التي تصيب الجسد، حيث جعل الله سبحانه وتعالى الإحساس بها دليلاً عليها، حتى أضحى هذا الإحساس نعمة إلهية تساعد المريض على الإسراع في المعالجة. أما النوع الثاني، وهو الأخطر والأفتك، فهو الأمراض النفسية والمعنوية. ولعل هذا النوع يعد من أكبر المصائب التي تلم بالإنسان، إذ أن للشيطان اليد الطولى في وجودها، وهي مثل التكبر والغرور والحسد والبخل والحرص، لأنها تحجب المرء عن الإحساس والشعور بسائر الأمراض النفسية الأخرى. وإن ما يجعل الإنسان يحفظ جوهره، هو ثباته واستقامته في حياته وحذره الدائم من وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وتعزيزه لإرادته وتحديه للفتن والبلاء وملمات الدهر.
الإعداد والاستعداد
إن المطلوب من الإنسان أن يضع نفسه في حالة ترويض دائمة، ليزداد صلابةً وأصالةً. أما أن يعمد الى ترويض نفسه في ساعة الإمتحان والفتنة، فهذا ما لن يفيده شيئاً، مثله في ذلك مثل طالب المدرسة الذي يتوجب عليه مطالعة درسه واستيعابه وحفظه قبل أوان الامتحان النهائي، لأنه لن يعود لدى الامتحان بإمكانه استيعاب العلم أو حفظ المعلومات.
ولقد تضمن القرآن الكريم العديد من المفاهيم والتوجيهات والبصائر الواضحة ما لو تم استيعابها واستلهامها لخلق روح التصدي والمقاومة ولحافظ على أصالة المعدن الإنساني ولزاد في نقائه وخلوصه.
ومن جملة تلكم المفاهيم والبصائر في هذا المجال أخذ العبرة والاتعاظ بالتاريخ الإنساني ومجرياته وأحداثه؛ ومنها قول الله جل جلاله: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اْلأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(. فالمراد بالسنة حسب معناها الظاهر الآثار المتبقية من تاريخ الأمم السالفة، وكيف آلت مصائر الشعوب المنحرفة. فالله سبحانه وتعالى يؤكد ضرورة البحث والنظر والتدقيق في ذلك المآل الذي انتهت إليه الأمم المكذبة لتحاشي الوقوع في المصير الأسود نفسه.
والذي أراه أن دراسة التاريخ وسبر أغواره ضرورة حضارية ودينية وثقافية؛ بل إن كل الضرورات قد تجمعت وتكرست في هذه الدراسة والبحث في التاريخ الإنساني، وها هو القرآن الكريم قد أعطانا عصارة التاريخ وبيّن لنا محطاته الاستراتيجية ومنعطفاته المهمة، ونحن بوسعنا الرجوع الى التفاصيل التي تعج بها كتب التاريخ والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام لاستيعاب المزيد من العبر التاريخية.
الزهراء عليها السلام نموذج المعدن الطاهر
لقد اتسمت حياة سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام بالصمود والثبات والاستقامة على الحق، مما جعل سيرتها الذاتية قدوة واسوة، لا سيما بعد وفاة أبيها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والتحاقه بالرفيق الأعلى. فلقد انهالت عليها المصائب والآلام والمحن والمظالم، ولكنها واجهت كل ذلك بالصبر والتحمل حتى فارقت الحياة مظلومة مهظومة. وقد روي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: "نحن حجة الله على خلقه وأُمّنا فاطمة عليها السلام حجة الله علينا".(1) وهذا الحديث الشريف يعكس حقيقة كبرى، إذ أن كل ما اجتمع وتراكم على قلب الزهراء عليها السلام من مصائب وهموم قد توزع وتفرق على أبنائها الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام. ولقد تحدت سيدة النساء الظروف الحالكة والمصاعب الأكيدة، ما لم يكن باستطاعة أقوى الرجال تحملها وتحديها.
وعلى ذلك؛ فإن الأجدر بنا - نحن الذين نأمل شفاعة الزهراء عليها السلام- أن ندرس حياتها من هذه الزاوية؛ زاوية التحدي والصلابة ونقاء المعدن والاستقامة على الحق.
إن إنساناً وأمة يبتني وجودهما ويقوم كيانهما على تضحيات أهل البيت عليهم السلام ودمائهم ودماء الشهداء المقتدين بهم، لابد لهما من أن يكونا صامدين مقاومين يتحديان العالم بطواغيته وجبابرته، وإنّ ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ( .
التراجع يعني الردّة..
يخطأ كثيراً هذا الذي يأسف ويندم على ما قام به من عمل في سبيل الله، مهما كانت أسباب الندم، فالله تعالى ينهى عنه ويعتبره خروجاً عن الإيمان، وهو القائل سبحانه: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ(. فلا يقولنّ أحد: لِمَ جاهدتُ؟ ولأجل من ضحيت؟ وعلامَ هاجرتُ؟ فهذا خطأ وكفر بنعمة الإيمان التي رزق الله، لأن الإنسان مسؤول عن القيام بواجبه في هذا المجال على أحسن وجه ممكن، وليس مسؤولاً عن الانتصار أو جني الثمار. ثم هل كان خيراً لك لو أنك أضعت حياتك وشبابك وطاقاتك في اللهو والمتاهات وإشباع الشهوات الرخيصة في الحانات ومراكز الفساد الاخلاقي؟!(4/301)
إن الأولى بك أن تشكر الله أبداً على ما أنعم عليك من الإيمان والهدى والعمل في سبيله، لأن مجرد التشكيك في ذلك يعقبه التمرد على فرائض الله، وبالتالي سيحبط عملك فتكون من الخاسرين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. فإن كنت تعاني المصاعب؛ فعدوك وعدو الله بدوره يعاني كما تُعاني، ولكنك ينبغي أن ترجو من الله. وقد قال ربنا العظيم: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ(، وقال أيضاً: (وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً( (النساء/104). فهذه هي سنّة الصراع في الحياة، ولا يجدر بك أن تتصور حلول الأذى والقهر والهزيمة والمعاناة بعدوك فحسب، وأن شيئاً من ذلك لن يمسك أو يصل إليك، لأن السنّة الحياتية في الصراع اقتضت أن تكون الدنيا يوم لك ويوم عليك (وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(.
ومن هنا؛ كانت النوازل والمحن والشدائد التي يقع فيها الإنسان ويتعرض لها عبارة عن عملية تطهير لما كان يرتكبه من ذنوب وخطايا، فكان من المفترض به التسليم لأمر الله وقضائه والتعامل مع طبيعة تعرضه للمحن من منظار إيجابي وإيماني ينتهي به إلى الصبر والصمود والاستقامة.
إن المؤمن حينما يدرك حقيقة الحياة وفلسفتها، ويدرك أنه ماثل أمام قانون الموت والفناء، ويدرك حقيقة الحكمة الإلهية بتعريض ابن آدم للمحن والفتن، حينما يدرك ذلك كله سترتفع عنه حجب الخوف والتردد، ولن يعتبر - إذ ذاك - المشاكل والصعاب والمحن عائقاً في طريقه، وهو سيمضي غير مبالٍ بكل ما يلاقيه ويصادفه، لا سيما وأن الله تبارك اسمه سوف يسدد خطاه ويقوي عزيمته.
وإدراك الإنسان لكل هذه الحقائق التي أوضحناها من شأنه دفعه الى صقل ذاته وإظهار أصالة معدنه ونقائه وقوته، وذلك بمواصلة مسيرته في العمل والجد والجهاد والمثابرة، ابتغاء مرضاة الله ونيل العزة والكرامة في الدنيا والآخرة.
إن من مسؤوليات الإنسان الذاتية التي لا يمكنه تبرير التقاعس والتكاسل عن أدائها بسبب من الأسباب هي أن يدرك هذه الحقائق كي يطور شخصه ويصقل جوهره ومعدنه، وذلك ما لا يكون دون التوجه الى بصائر القرآن الكريم وهضمها واستيعابها والإلمام بها. ولعل البصائر التي حوتها الآيات المتقدمة من سورة آل عمران تمثل برنامجاً أساسياً لتطوير المعدن الإنساني ولتحدي الصعوبات والفتن بحول الله وقوته.
نسأله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدامنا، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يصلح كل عيب فيها، لنكون من الصادقين في البأساء والضراء، وأن يجعلنا من الصابرين ويلحقنا بعباده الصالحين محمدٍ وآله الهداة الميامين وأصحابه الغر الميامين والحمد لله رب العالمين.
================
الإستقامة عزة ورفعة
ترى ما هي الجدوى من الإستمرار في الكفاح والجهاد على الرغم من أن الظروف جميعها تعاكسنا، ولماذا نبذل الجهود الكبيرة، ولماذا هذا العطاء الذي يبدو لا نهاية له؟ أوَليس من العبث أن يتعب المؤمنون أنفسهم، ويبلون شبابهم في الدعوة الى الله تبارك وتعالى، والتفرّغ في سبيله، والمثابرة في طلب العلم.. وهم يرون أن أعمالهم تذهب - في الظاهر - سدىً؟ فالكفار والمستكبرون لا يتركون المؤمنين ولو للحظة واحدة يعملون ضدّهم، فهم يلاحقونهم في كلّ مكان، ويطاردونهم أينما ذهبوا.... فلماذا -إذن- الاستمرار في الجهاد والدعوة الى الرسالة الإسلامية مادام الأمر كذلك؟
إن هذه القائمة الطويلة من التساؤلات تمثّل أفكاراً سلبية تبثّها أجهزة الأعلام الظاهرة منها والخفية هنا وهناك، ولا سيّما في هذه الظروف التي يعيش فيها المسلمون الصعاب، وتتراكم السلبيات، وتتواصل الهزائم.
الأيام دول بين الناس
إنّ التأريخ، كل التأريخ، لم يكن في يوم من الأيام خالصاً صافياً بشكل دائم للمؤمنين، وكذلك الحال بالنسبة الى غير المؤمنين، فالله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، وهذه المداولة تمثّل في الدنيا سنّة إلهية أبدية، فالدنيا يومان؛ يوم لنا، ويوم علينا، وعندما يحلّ يوم الشدّة والضعف والانكسار نجد أن هذه الأفكار السلبية تنتشر بسرعة عجيبة.
الإجابات الشافية في القرآن
ولأنّ القرآن الكريم هو علاج لكلّ الأمراض، وإجابة على كلّ الأسئلة التي أثيرت أو من الممكن أن تثار في المستقبل بشأن عمل المؤمنين، وبالصراع الحاد القائم بين جبهة الايمان وجبهة الكفر والضلال، فاننا نجد إجابات شافية عن كل تلك التساؤلات وبالتحديد في سورة هود، هذه السورة التي نستطيع أن نصفها بأنها سورة الاستقامة والجهاد المتواصل رغم الظروف المعاكسة.(4/302)
إننا عندما نقرأ هذه السورة المباركة من بدايتها الى نهايتها، فاننا نطالع فيها صوراً مشرقة من جهاد وكفاح الأنبياء عليهم السلام، وأتباعهم في أكثر الظروف شدة وتأزّماً.
الاستقامة أمر إلهي
وفي نهاية هذه السورة نجد خلاصة للأفكار التي جاءت فيها، فلنحاول معاً أن نستعرض هذه الأفكار الواحدة تلو الأخرى فيما يلي:
الفكرة التي يتضمّنها قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ( (هود/112)، فالله تعالى يخاطب نبيّه صلى الله عليه وآله بأنّه مأمور مادام قد أسلم وآمن وخضع لرب العزة، ولأنه مأمور فلابد من أن يتّبع الأوامر بدون زيادة أو نقصان، وبدون جدل ونقاش. وما دام الله رحيماً بالانسان، ولا يأمره بشيء إلاّ إذا كان من مصلحته، فلماذا تريد - أيها الإنسان - أن تستنبط الأفكار من نفسك، أوَلا تؤمن بأن بصائر القرآن، ورؤى الوحي، وشرائع الدين صحيحة؟ فاستقم - إذن - كما أمرت لأن الاستقامة أمر إلهي، ولا يهمّ في هذا المجال ماذا سيحدث في المستقبل، وماذا ستكون النتائج، بل عليك أن تستقيم.
ثم يقول تعالى موضحاً ان الأمر بالاستقامة لا يقتصر على الرسول صلى الله عليه وآله، بل يشمل أتباعه أيضاً: (فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ( (هود/112) ؛ أي إن القائد عندما يحمل الراية في ظروف الشدة والهزيمة، وعند الصعوبات والمشاكل، فان هذه الراية التي يركزها هذا القائد سوف تكون سبباً لالتحاق المنهزمين مرّة أخرى.
وعلى هذا فان الله سبحانه وتعالى يصرّح بأن أحد أهم النتائج الايجابية للاستقامة توبة المنهزمين، وعودتهم الى الخط الرسالي.
الركون الى الظالمين
ثم يأمر سبحانه المؤمنين بعدم الطغيان قائلاً: (وَلاَ تَطْغَوْا( (هود/112)؛ أي لا تكونوا أيها المؤمنون، يا من أنفقتم أوقاتاً ثمينة من حياتكم، واُبليتم شبابكم وزهرة حياتكم في سبيل الرسالة، لا تكونوا وقوداً للحروب التي يثيرها الطغاة. فنحن إذا ما تركنا معارضة الظالمين جانباً، فربّما سنصبح أداة من الأدوات التي يستخدمها الطغاة.
ويؤكد جل وعلا على هذا المعنى قائلاً: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ( (هود/113)
فأنتم أيها الرساليون إذا تركتم الجهاد وعزّته وكرامته فسوف تضطرّون الى أن تركنوا الى الذين ظلموا، وبالتالي فانكم سوف تحتاجون في هذه الحالة الى حماية، وأن تضطرّوا الى التوسّل بهذا النظام أو ذاك لتطلبوا منهم هذه الحماية. فالانسان الذي لا يمتلك عزة من جهاده، فلابد من أن يبحث عن العزّة عند الظالمين.
والقرآن الكريم يحذّرنا من هذا السلوك موضحاً أننا لو أيّدنا الظالم فان عاقبتنا سوف لن تكون بأحسن منه، حيث عذاب الله ولعنة الناس، دون أن يكون لنا أيّ نصير وشفيع.
قال الله تعالى: (وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ( (هود/113)
فعلى الإنسان أن لا يقول في يوم القيامة أنه كان مجاهداً وعاملاً، فانّ مثل هذه السوابق لا يمكن أن تشفع له بعد أن ركن الى الظالم، وأصبح ذيلاً له، ودائراً في فلكه. فالله تبارك وتعالى لا ينظر الى سوابق الإنسان، بل يحكم عليه حسب الوضع الذي هو عليه الآن.
وبناء على ذلك فانّ الاستقامة تمثّل ضرورة لا غنى للانسان المجاهد عنها، لأن من لا يستقيم لابدّ أن يصبح طاغياً أو أن يخضع للطغاة، ولخط الظالمين ويركن إليهم، وحينئذ سيكون مصيره مصير الظالمين، ثم لكي يستقيم الإنسان، ويستمر على الجهاد فعليه أن يتّصل بروح الإيمان.
الصلاة وقود الاستقامة
والصلاة التي يقول عنها تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ( (هود/114) هي أفضل وسيلة لاستمداد القوة المعنوية عندما يفتقر الإنسان الى القوة المادّية. وأنا لا أستطيع أن أتصوّر مجاهداً لا يستأنس بالصلاة. فهي بالنسبة إليه الركن الركين الذي يأوي إليه، والكهف الحصين الذي يحميه من عاديات الدهر والوساوس الشيطانية. فإذا ما صادف وان اسودّت الدنيا في عينك، وتراكمت المشاكل عليك، وتواصلت الهزائم، فعليك أن تفرّ الى الله الذي تجده في الصلاة. فعندما تصلي تكون قريباً من رب العزة، ويكون تعالى قريباً منك، يربت على كتفك بيد حنانه ورأفته.
ثم يقول تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ( (هود/114)
فعلى الانسان المؤمن أن يلتزم بالصلاة في النهار والليل؛ فاذا ما هجمت عليه الهواجس، وأخذ يفكّر في المشاكل والصعاب التي يواجهها، فعليه أن ينهض من فراشه، ويقف أمام رب العالمين، وحينئذ سيجد برد عفو الله وسكينته، وروح الاطمئنان تغمر قلبه.
الصبر والنظرة البعيدة
ويأمر تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله والمؤمنين بالصبر قائلاً: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( (هود/115).(4/303)
فليس من الصحيح أن نقول إن أعمال المجاهدين تذهب عبثاً، وأنهم ينفخون في رماد، وأنّ جهودهم هي مجرّد هواء في شبك. كلا؛ فاننا إذا عملنا ولو ذرة واحدة، فاننا سنجد هذا العمل أمامنا يوم القيامة ليشفع لنا. فالذي يحفظ الوديعة هو رب العزة الذي لا يمكن أن تضيع عنده الودائع.
فعلينا أن نصبر، وأن لا نستعجل الأمور، لأن هذا العالم الذي نعيش فيه هو عالم الزمن، كما أنّ الخالق تعالى عندما خلق السماوات والأرض فانه لم يخلقهما في لحظة واحدة، رغم أنه كان بامكانه أن يقول كن فيكون ليخلق السماوات والأرضين، ولكنّه عز وجل شاء أن يخلقهما في ستّة أيام، لأنه ركّب هذا الكون على أساس الزمن.
وعلى هذا فانّ علينا أن نصبر خصوصاً وإننا نريد أن نغيّر عالماً بأكمله، وهذا التغيير لا يمكن أن يتمّ من خلال حركة بسيطة. فنحن الآن نعيش مخاض الحضارة الإسلامية، والحضارة تعني تحقيق الوحدة بين الشعوب، والوصول الى الرقي التكنلوجيّ، والتقدم الزراعي والصناعي والاقتصادي. ومن المعلوم أن ليس من السهولة بمكان تحقيق هذه الأهداف الضخمة.
ومع ذلك فاننا نمتلك تاريخاً حضارياً عريقاً ومليئاً بالعطاء، ونمتلك برنامجاً يتمثّل في القرآن الكريم الذي هو هدىً ونور وبصائر. وكلّ هذه الامتيازات التي نتمتّع بها من شأنها أن تختصر لنا الزمن، وتجعلنا نبلغ المستوى الحضاري المنشود في فترة قياسية، قد تكون أقصر بكثير من تلك الفترة التي مرّ بها الغربيون للوصول الى ما بلغوه الآن، ولكن علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار أن علينا أن نبذل الجهود المتواصلة والمكثّفة في هذا المجال، وحينئذ فاننا سوف لا نبلغ ما بلغه الغربيون فحسب وإنما سنتقدم عليهم باذن الله.
التفكير المستقبلي
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً"؛(1) أي إن علينا أن لا نفكّر في أن نحصل على العزة العاجلة من وراء جهادنا، بل علينا أن نبذل لكي ينتفع الجيل القادم من عطائنا. فنحن نسعى من أجلهم في الحقيقة لكي يورثوا منّا المنعة والعزة، ويكونوا أقوياء أمام الأعداء، ولا يكونوا أدوات في أيديهم يستخدمونهم كمادّة للاختبار. فهناك الكثير من الحروب التي أجّجها المستكبرون كان هدفهم من ورائها تجربة أسلحتهم، كما حدث في الحرب التي أثاروها بين العراق وايران، وبين العراق والكويت.. فقد كانوا يحقّقون عدة أهداف من وراء إثارة هذه الحروب؛ الهدف الأول هو أنهم كانوا يبيعون الأسلحة ويصرّفونها، والهدف الثاني أنهم يعملون على تأخير تطوّر حضارتنا، والهدف الثالث يتمثل في إشفاء غيضهم الداخلي من المسلمين، والهدف الرابع إختبار الاسلحة ومن ضمنها الأسلحة الكيمياوية...
ومن أجل أن نحول دون أن يصبح أبناؤنا أدوات طيّعة بيد هؤلاء المستكبرين، فلابد لنا من أن نجاهد، لأنّ جهادنا إنما هو من أجل تحقيق مستقبل مزدهر مشرق لأولادنا.
الاسلام مرهون بالجهاد
وعلينا أن نعلم في هذا المجال أن الانجازات والمكاسب الكبرى التي حقّقها الاسلام لحد الآن، انما هي مرهونة ببقائها ووجودها لجهاد المجاهدين. والى هذا المعنى يشير تعالى في قوله: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ( (هود/116)
فالذين ينهون عن الفساد يكنّ الله تعالى لهم أعظم الحبّ لحكمة يعلمها، وهي أن تبقى في الأمة بقية تدافع عنها، وعن القيم الرسالية المقدّسة.
ثم يشير تعالى الى النتيجة النهائية للجهاد من خلال قوله: (إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ(؛ اي إن فائدة جهادنا وإستقامتنا تتمثل في أنّ البلاء سوف لا يشملها في حالة نزوله، بل إنّ هذا البلاء سوف ينزل على المفسدين فحسب، ومن سكت عنهم، ورضي عن ممارساتهم.
===============
كيف نستقيم في ظروف الإبتلاء؟
قد يكون الانسان في وضع تضحى جميع شؤونه متسقة ومنتظمة حسبما يحب ويرتضي، بحيث ينمو ويترعرع في بيئة مفعمة بعبق الايمان واريج المحبة والاخاء الايماني.
وقد يعيش المرء حياة تصطحبها القسوة والابتلاء، بحيث تحيطه كافة صور المحنة والعذاب. فبالتأكيد ان كلا الوضعين المختلفين لا يمكنهما ان يتساويان على مستوى التجربة والأجر الذي وعد الله تعالى به المؤمنين يوم القيامة.
الفتنة سنة الهية
من مراجعة لآيات الذكر الحكيم نكتشف احدى سنن الباري عز وجل، وهي سنة الفتنة لكافة أبناء البشر الذين يعيشون على هذه البسيطة؛ بل لا مجال لافتراض صورة ما لحياة أحد أبناء البشر وقد خالطتها النشوة المطلقة والرضا اللامتناهي..
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ( (العنكبوت/2)(4/304)
بل من الخطأ أن يتصور المرء أن مجرد اعتقاده القلبي، واقراره بالربوبية الالهية، وايمانه بأركان الدين تكفي ان تحيل حياة المؤمن الموحد الى روضة بهيجة في هذه الدنيا. ان حقيقة الايمان بالشيء تقتضي اثباته في الواقع الخارجي، وجلب المصداقية المفترضة للدلالة عليه.
لذا كانت سنة التاريخ والأمم والحضارات السابقة والحاضرة كذلك الافتتان لاثبات دعوى الايمان. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ( (العنكبوت/3)
فلو افترضنا قبول منطق الادعاء الصرف بالايمان والتوحيد، لتساوت الأمم كما يتساوى أبناء البشر جميعاً في الاعتقاد والأجر والمراتب؛ بل ولإنتفى القبح والحسن، والنار والجنة يوم القيامة. فما أكثر الأمم التي قبلت دعوات أنبياءها ورسلها، ورفضت ما أُمرت به من اصلاح وتغيير ؟
وفي هذا الخضم سقطت أمم واستقامت أخرى على الفتنة، وتميز الكاذب عن الصادق..
( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(
فتبقى الحجة البالغة التي لا يمكن المرء أن يفر منها يوم الحساب. فـ (العلم) الصادق و (العلم) الكاذب، تكشفه (الفتنة) التي تصيب الناس كافة.
وكلما ازداد مستوى الاعتقاد ومراتبه، كلما ازداد مستوى الافتتان ومراتبه كذلك. وهذا ما يفسر جملة من الأحاديث الشريفة التي تؤكد على هذه الحقيقة، منها قول الإمام الكاظم عليه السلام قال: " إنما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في ايمانه زيد في بلائه".(1) ذلك لأنه بقدر حجم الادعاء يكون حجم الافتتان الإلهي. وهذا بدوره لطف إلهي، وذلك لازدياد مراتب الأجر والجزاء في العقبى، وهي ثمرة طبيعية يحصل عليها الانسان المؤمن.
حدّثنا بنان بن بشر، وابن أبي خالد قالا: سمعنا قيساً يقول سمعنا خبّاباً يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو متوسّد برده في ظلّ الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمّر وجهه فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضر موت لا يخاف إلاّ الله عزّ وجل والذئب على غنمه. (2)
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله مرَّ بعمّار وأهله وهم يعذّبون في الله، فقال: أبشروا آل عمّار فإن موعدكم الجنة . (1)
الفتن متعددة
وبالطبع يختلف الابتلاء بأختلاف المؤمنين، وقد يكون الابتلاء من نوعه الجسدي أو النفسي - الذي لا يقل عن الأول - وقد يجتمعا معاً.
الشاب المؤمن يفتتن بغريزته الجنسية وشره الشباب، والتاجر بمعاملات التجارة، والمجاهد في سبيل الله والقائد كذلك، والامام المعصوم عليه السلام أيضاً لا يخرج عن دائرة الافتتان الالهي، رغم قربه ومنزلته عند المولى تعالى.
نقل أحد الأخوة المؤمنين من داخل سجون النظام الصدامي في العراق قائلاً: كنا في زنزانة مع جمع من الرجال المؤمنين، الى أن أخرجونا الى ساحة السجن، ثم جاءوا ببنت أحد الرجال المؤمنين الذين اصطف معنا وبعد أن يأسوا من تعذيبه لانتزاع الاعتراف منه، ادخلواها علينا عارية ! وساقوا بها أمام الحضور يمنة ويسرة، ثم قربوها إلى أبيها، وهددوه بشتى الافعال بها إن لم يعترف !! ولكن البنت المؤمنة هذه توجهت إلى أبيها قائلة: أبي؛ هذا في سبيل الاسلام شيء قليل.
فهذا مشهداً واحد من التعذيب النفسي الذي يلحق بالمؤمنين المجاهدين، وإذا قلبنا أرشيف السجون التي تكتض في أغلب بلدان العالم الاسلامي بالشباب المؤمن، لشاهدنا صوراً مذهلة توضح فداحة القسوة التي يرتكبها الحكام المستبدين ضد رجال الحق ودعاة الاسلام. كذلك عظمة وشموخ صبر هؤلاء الأفذاذ من أجل تحكيم القيم التي يعتقدون بها على أرض الله المترامية الأطراف.
إن هذه الصور البطولية الرائعة لو قارنّاها بصور أخرى تقع هنا وهناك، وهي تحكي عن تساقط أدعياء الايمان في وحل الرذيلة - كما تتساقط أوراق الخريف - مقابل شهوة آنية أو حفنة نقود أو مستمسك رسمي من دولة ما -كما يجري على البعض ممن ينتمي الى بلاد الاسلام وشريعة المسلمين والمقيم في البلاد الاوربية - ليرى فداحة المفارقة الكبرى بين تلك الصور وهذه !
كربلاء؛ الفتنة.. الاستقامة
لقد كان أئمة الهدى المعصومين عليهم السلام وسيرتهم الذاتية خير صورة مباركة ومقدسة، ومثالاً حياً ومتحركاً أمام كافة الأجيال.
إن موقف الإمام الحسين الشهيد عليه السلام في رمضاء كربلاء، وموقف إبنه الإمام زين العابدين عليه السلام وشقيقته الطاهرة الصديقة الصغرى زينب عليها السلام يحكي كذلك قدسية الاعتقاد والايمان بالله، وعظمة استرخاص الغالي والنفيس، واستقبال البلاء والفتنة برحابة صدر في سبيل الله.(4/305)
لنقرأ معاً هذه الرواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام، والتي قال فيها: "إنه لما أصابنا بالطفّ ما أصابنا، وقتل أبي عليه السلام، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وساير أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى، ولم يواروا، فيعظم ذلك في صدري، ويشتدّ لما أرى منهم قلقي فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك منّي عمّتي زينب بنت عليّ الكبرى، فقالت مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرَّعين بدمائهم مرمّلين بالعراء، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرّج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر". (1)
وهنا تتجسّد فداحة الموقف الذي تحمّله أهل بيت الحسين عليه السلام في رمضاء كربلاء، بحيث لم يرحم الأعداء حتى الأجساد الطاهرة؛ بل تعمّدوا في تفريقها تنكيلاً بالحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته!
وهنا يتساءل المرء أنه كيف تقع هذه النوازل والفتن على الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته ونساءه وأطفاله، بل يتجرء أرذل خلق الله (شمر بن ذي الجوشن) في الجلوس على صدر سبط الرسول الحسين عليه السلام ليحتز رأسه الشريف، مع العلم أن الإمام عليه السلام له مرتبة ومنزلة عظيمة عند الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يغير الله سبحانه ما كتب على الحسين عليه السلام من النصر المادي لصالح أهل الحق وأتباعه ؟!
إن الإمام الحسين عليه السلام هو الذي اختار طريق الحق وآمن وسار على ما آمن به وانتهى به الأمر إلى واقعة كربلاء. لقد كان من اليسير جدا على الله سبحانه أن يدفع البلاء عن أتباع الحق في يوم عاشوراء، ويبيد أهل الباطل عن بكرة أبيهم بلحظات وثوان. إلاّ أن مشيئة الله اقتضت كيفما شاءت إرادة الحسين عليه السلام، وأن الله يعطي لعبده ما يريد ويجازيه بقدر ما يريد من تقرب الى المولى عز وجل، فأضحى جسد الحسين عليه السلام وأهل بيته خير قربانٍ في هذا الطريق..
ثم تقول الرواية: "لا يجزعنّك ما ترى فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله الى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّحة وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء عليه السلام لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علواً". (1)
وبالطبع أن تصبح كربلاء قبلة الزائرين وكعبة الثوار والعاشقين، هو أمر طبيعي ونتيجة بديهية لما حمل الإمام الحسين عليه السلام من مسؤولية الأداء العظيم عبر الذبح المقدس له ولأصحابه وأهل بيته. فهذه سنة الله في الحياة أن ترتفع معالم الحق وأصحاب الحق، وتعلوا قباب العظام والهداة، لتكون شاهداً حياً أمام مرأى العالم. وفي المقابل تنطمس آثار وقبور أعداء الله، أمثال يزيد ومعاوية وبني أمية وبني العباس لتكون شاهداً حياً أيضاً على زيف الباطل. فهذه الثمرة يجنيها طلاب الحق في الدنيا، أما في الآخرة فهو أجلّ وأعظم من هذا كله.
وتضيف الرواية على لسان مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام: "فقلت: وما هذا العهد وما هذا الخبر؟ فقالت: حدَّثتني أمّ أيمن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله زار منزل فاطمة عليها السلام في يوم من الأيام، فعملت له حريرة صلى الله عليهما، وأتاه علي عليه السلام بطبق فيه تمر ثمَّ قالت أم أيمن: فأتيتهم بعسّ فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام من تلك الحريرة، وشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وشربوا من ذلك اللبن، ثمَّ أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وآله يده وعليّ عليه السلام يصبّ عليه الماء". (1)
كما يبدوا أنها جلسة عائلية يشاهد فيها حالة السرور، ولكن سرعان ما تتحول الى جلسة حزن واعتصار الألم لما سوف ينقل فيها من صور الافتتان والمصائب التي سوف تنزل على أهل بيت النبوة عليهم السلام.
فتضيف الرواية: "فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ثم نظر إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام نظراً عرفنا فيه السّرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ثم وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خرَّ ساجداً، وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر. فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين، وحزنت معهم لما رأٍينا من رسول الله صلى الله عليه وآله، وهبناه أن نسأله حتى إذا طال ذلك قال له علي، وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول الله؛ لا أبكى الله عينيك، وقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟!(4/306)
فقال: يا أخي سررت بكم سروراً ما سررت مثله قط، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليَّ فيكم، إذ هبط عليَّ جبرئيل فقال: يا محمد؛ إن الله تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنّأك العطية بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة، لا يفرق بينك وبينهم. يحبّون كما تحبى، ويعطون كما تعطى، حتى ترضى وفوق الرضا. على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملتك ويزعمون أنهم من أمتك، براء من الله ومنك خبطاً خبطاً، وقتلاً قتلاً. شتى مصارعهم، نائية قبورهم، خيرة من الله لهم ولك فيهم. فاحمد الله جل وعز على خيرته وارض بقضائه. فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.. " (1)
هكذا نصب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام مأتماً قبل وقوع فاجعة كربلاء العظيمة، بحيث يحضر فيها صاحب الدور العظيم الحسين عليه السلام وأمه وأبيه وأخيه في المأتم.
وهنا تأتي البشارة الكبرى لشيعة الحسين عليه السلام ومحبيه الذين ساروا على نهجه عليه السلام بأن يكون (الرضى) من الله تعالى يوم القيامة في قبالة تحمل العناء والعذاب والوصب في سبيله.
أجل؛ هذا المشهد البطولي لأهل بيت النبوة عليهم السلام في أرض كربلاء، يحكي لنا قوة وصدق الايمان، وعظمة الأداء والبذل والاسترخاص.. ويبين عاقبة مسيرة هؤلاء الأفذاذ الحسنة، وفي المقابل عاقبة أعدائهم طلاب الهوى والدنيا السيئة..
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لأَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(. (العنكبوت/4-6)
===============
الإعداد سبيل الإستقامة
قضية الإعداد وإحراز المقدمة تعتبر إحدى المواضيع المهمة التي تدرس في علم أصول الفقه، وذلك بالنظر إلى أنّ المكلّف يعجز عن تحقيق وأداء الفرائض الملقاة على عاتقه دون إحراز مقدماتها والإعداد لها. وعليه؛ كان من المنطقي لعلماء الأصول والفقه بحث هذا الموضوع لينتهوا عبره الى نتائج عملية ملموسة، تجعل من الإفتاء مهمّة يسيرة إلى حدٍ بعيد.
ولقد عالجت الآيات القرآنية العديدة هذه القضية، لتمثل بدورها نوراً يستضيء العلماء والمفتون به، من قبيل قول الله تبارك وتعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى( (النجم/39-40) إذ السعي والحركة من شأنه إيصال المكلَّف الى تحقيق ما يصبو إليه، دون الجمود والخنوع. وقوله سبحانه: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً( (التوبة/46) نظراً الى أنّ الإعداد أهم بدرجات من المواجهة ذاتها، لأن ساعة المواجهة هي ساعة الصراع، وأيّ عاقل ورشيد لا يدخل الصراع دون أن يهيء نفسه لتلك الساعة. وقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاتَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ( (الانفال/60) فإذا كان الهدف محدّداً فلابدّ من الإعداد له، لإحراز الكثير من الإنجازات، ولتجنب الكثير من أشكال العقبات أو الهزائم..
والفترة التي تستغرقها عملية الإعداد والإيتاء بمقدمة الواجب، هذه الفترة بالذات ما تدعى بالانتظار، إذ الإنتظار لايعني جلوس المرء في بيته متوقعاً أن يحقّق الله له تطلعاته وآماله وأهدافه، إنّما الانتظار يعني سعي الإنسان وتحركه باتجاه إعداد ما ينتظره وما يريد تحقيقه. وإنطلاقاً من هذه القناعة، نقول إنّ قول الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ( (الاحزاب/23) يشير ويؤكد أنّ المنتظر هو الساعي والمتحرك والمعدّ نفسه ومهيّؤها ليوم المواجهة ولحظة الانطلاق.
هذه الآية الكريمة نزلت بحق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حديث طويل مع يهودي، قال فيه: ولقد كنت عاهدت الله تعالى ورسوله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله تعالى، فأنزل الله فينا: (مِنَ المؤمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَليه فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَه وَمِنْهُمْ مَن يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلوا تَبْديلا( حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود، وما بدلت تبديلا". (1)
وبهذا بقي الإمام عليّ ينتظر الشهادة على أحرّ من الجمر، ولن يبدل أو يخلف في انتظاره أو يتراجع عمّا يعتقده ويؤمن به، ولو بمقدار أنملة واحدة.(4/307)
فهل كان الإمام علي عليه السلام ينتظر الشهادة وهو قابع في بيته؟! كلاّ وألف كلاّ؛ فقد كان الإمام أمير المؤمنين لا تفوته فائتة في إثبات ولهه وحبه وعشقه الذي لا يوصف لله ولرسوله وللمؤمنين الصادقين. فهو الأول في كل معركة، والأول في نصرة المظلومين ودعم الفقراء وتوفير الرخاء والسعادة لأبناء دينه، حتى تلك المعارك التي كان يقودها بنفسه، كان ينتظر الشهادة في سوح الوغى، حتى أنّه تنبّه الى رجل من أصحابه في معركة صفين كان يريد حمايته من حيث لا يعلم، فقال له عليه السلام: "ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ قال: لا؛ بل من أهل الأرض. قال: إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلاّ بإذن الله عز وجل من السماء، فارجع، فرجع"(1) وهذا يعني فيما يعني أنّ أمير المؤمنين كان ينتظر الشهادة بشجاعته وبطولاته ومواقفه الرافضة قولاً وعملاً لكل الانحرافات.
ونحن أيضاً ننتظر ظهور الإمام الحجة بن الحسن عجل الله فرجه، ولكن كيف ينبغي أن يكون إنتظارنا؟ هل ننتظره من بيوتنا؟ أم ننتظره بالكلام المجرّد؟
الفريضة الشرعية والعقلية تؤكد علينا أن الانتظار لا يعني سوى الإعداد والتحرك والانطلاق نحو تأدية الواجبات حتى آخر لحظة من لحظات عمرنا. فالانتظار مفهوم أساسي من مفاهيم مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ومن اللازم أن نختزل أبعاده وحقائقه، وأن نحوّله الى قيمة حياتية وسيرة جهادية في حاضر الأمة ومستقبلها.
وليس مفهوم الاستقامة ببعيد عن مفهوم الانتظار، فمن يريد أن يكون فوق السطح، لا يمكنه القفز إليه مرّة واحدة. فالصعود المفاجئ يلحقه سقوط مفاجئ أيضاً، إنما عليه الصعود مرحلة مرحلة. والأمة التي تريد أن تستقيم على الحق وتنتصر له، وتريد أن تكون أمة مجاهدة لها وزنها وثقلها الإيجابي في التأريخ، لابدّ لها من السعي لتحقيق تلك المفردات التي بدورها تحقق الاستقامة. وبتعبير آخر؛ علينا أن نتساءل عن طبيعة الاستقامة؟ وكيف يمكن ان تستقيم الأمة؟ وما هي الثقافة التي لابدّ للأمة من التسلّح بها حتى تستقيم على الطريق؟ وكيف يمكننا تحقيق وتكريس هذه الثقافة في أنفسنا وفي أمتنا؟
وفي معرض الإجابة على هذه التساؤلات المثيرة، أعددت على عجل ثلاث إجابات تمثّلها ثلاث مفردات أساسية؛ فهي بمثابة المراحل أو الدرجات التي ينبغي أن نعرج عبرها لنصل الى قمّة الاستقامة.
المفردة الأولى: الأمل، والنظرة التفاؤلية الى المستقبل؛ باعتبار أن التشاؤم واليأس والقنوط أحد جنود الشيطان، ولا يمكن لهذا الأخير بأيّ حال من الأحوال أن يبثّ ما فيه الخير لابن آدم، فهو - الشيطان - الذي يوسوس في الصدور. ومن هنا كان لزاماً على المسلمين تحديد موقفهم الاعتقادي والعملي من قضية الإحباط، مع تكريس إيمانهم بأن طريق ذات الشوكة هو طريقهم، وبالتالي فإن من الطبيعي للغاية أن تكون الصعاب والتضحيات والتحديات هي المعلم الأوضح في سيرتهم وكدحهم. وهذه هي صفحات التأريخ بين أيدينا وأمام نواظرنا، ومن الممكن لنا التدقيق فيها وتحليلها بوعي، ولن ننتهي إلى نتيجة سوى أنّ الأمل والتحدّي وتقديم التضحيات ونبذ اليأس والإحباط من شأنه النهوض بمستوى الأمة وتوجيه مسيرتها نحو الأفضل، تماماً كما هو واضح من خلال مطالعة السيرة الذاتية والاجتماعية لأهل البيت عليهم السلام وأولادهم الطاهرين الذين حملوا راية الاستقامة والعدل ورفعوا هذه الراية في كل مكان، بدءً بالعراق والجزيرة العربية ومروراً ببلاد المشرق الإسلامي، وعوداً الى بلاد المغرب الاسلامي. ونحن رأينا ولا نزال نرى أنّ الثورات والانتفاضات إنّما تقدح شرارتها باسم الدين وباسم أبطاله العظام وفي مقدمتهم أهل البيت عليهم السلام، ولعلّ كل قطرة من دماء الشهداء الذين حافظوا على الدين أصبحت أساساً للمساجد وبيوت الله التي هي في الواقع الأعمدة المحافظة على الأرض أن تميد بأهلها، وقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه السلام: "فما من مسجد بني إلاّ على قبر نبي أو وصيّ نبيّ".(1) وهكذا تحولت دماء الشهداء إلى مسيرة ايمانية، من طبيعتها ان تعكس مصداقيّة التفاؤل والأمل بالله الكبير الذي له وحده فقط رسم مقدّرات خليقته والقضاء فيهم وعليهم. وهذا الأمل يجسّد عمق الانتظار، وهذا هو معنى التسليم والشكر في العقيدة الإسلامية؛ الشكر الذي يركّز على الجوانب الإيجابية في الحياة ولا ينسى أو يتناسى السعي الواعي الى حلّ وتلافي السلبيّات.(4/308)
المفردة الثانية: أنّ الاستقامة تبنى على أساس الزهد في الدنيا، فمن المصاعب والمشاكل التي تهزّ الإنسان بكل كيانه ولا تترك له مجال الاستقامة على الطريق، هي نيّته المسبقة في البحث عن المراكز والمناصب ومغريات الدنيا الأخرى. وهذا النموذج حينما يدخل حلبة الصراع فيتأخّر عليه الحصول على ما كان يصبو إليه من الماديات سيصاب بمزيد من الإحباط، ويكون عرضة مباشرة لردود الأفعال التي يتّخذها هواه. فهو كان يتصوّر، أو يصوّر لنفسه أنّ عملية الصراع ينبغي تجرّدها عن تقديم التضحيات، بدءً ببذل المهج وإنتهاءً بتقديم الماديات، وهو بين هذا وذاك كان يعتقد بأن السير في عملية الجهاد عبارة عن عملية أخذ لا عطاء.
أما الزاهد بماديات الدنيا؛ كأمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حيث دخل الحرب على بيّنة من أمره؛ دخل وهو يعرف ما عليه وما له. كان يعرف أنّ عليه الاستقامة في المعركة بإخلاص، وأنّ له عظيم الثواب من الله تبارك وتعالى.
إن هناك العشرات من الأحاديث والروايات الشريفة التي عكف علماؤنا الأعلام على تدوينها في كتبهم وموسوعاتهم، والتي تفيد بأن الغرض من الجهاد هو ضمان مستقبل أفضل للأجيال اللاّحقة، من قبيل قول النبي صلى الله عليه وآله: "اغزوا تورّثوا أبناءكم مجداً".(1) وهذا يشير الى لزوم منع المجاهد نفسه عن التفكير المصلحي، وخوض المعارك بمختلف أشكالها وظروفها بنيّة ضمان العزة والعدالة للأجيال اللاّحقة، وأنّ البحث عن الدنيا يتطلب ميادين أخرى، غير ميادين الجهاد وتحدي الطغاة.
وقد شرط الله سبحانه وتعالى الزهد والرغبة عن الدنيا على أئمة المسلمين، كما جاء في دعاء الندبة المأثور، "بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها". ولمّا علم الله أنهم سيكونون أوفياء لهذا الشرط أعطاهم الله ما أرادوا من نصر وعزة وكرامة، "فشرطوا لك ذلك وعَلِمْتَ منهم الوفاء به فقبِلْتَهم وقرّبتهم وقدَّمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ وأهبطت عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة الى رضوانك".(1)
المفردة الثالثة: ضرورة الانفتاح بين الطليعة - الخاصة - بعضها على بعض من جهة، وبين الخاصة والعامّة من جهة أخرى. فإنّ من أعقد الأزمات والمشاكل التي تحطم روح الاستقامة في الأمة هي تناحر الطليعة فيما بين أقسامها وأشكالها. فالطليعة كمنطوق ومفهوم يفترض أن تضم أناساً مؤمنين صالحين صادقين مجاهدين، غير أنّ الشيطان يزرع بذور الفتنة والخلاف والنفاق. ولا يمكن بأي حال من الأحول تصوّر مجاهدين صادقين، هدفهما مرضاة الله تبارك وتعالى وهما يتناحران أو يتظاهر أحدهما أمام الآخر بما لا يبطن.
وليكن في حسبان الجميع أنّ الانسان ككائن مخلوق من طبيعته النفسية أن يصاب في بعض الأحيان بالإرهاق النفسي والذهني والعاطفي، مما قد يعكس على بعضٍ من تصرفاته ما يفهم منه العناد أو الجدال غير الشرعي. ولهذا فإن الدعوة تشمل الجميع، لكي يحملوا أنفسهم على الصبر والتواصي به، حتى تكون ظاهرة حسن الظنّ هي الظاهرة النافذة المفعول في الصف الإسلامي.
وثمة أزمة أخرى، وهي ابتعاد الطليعة عن الجماهير، وهذا لعمري ما يسهل إلى أعلى حدٍّ للعدو في أن يوجّه ضرباته المتتالية والقاتلة للجميع. وعليه فإن من الأهم في هذا الإطار أن تسعى الطليعة الى تكريس روابطها المتنوعة والمتينة بالمجتمع؛ فلا حواجز نفسية من قبيل التعالي والتكبر بداعي الفهم الأكثر أو الإحساس الأشدّ، ولا ضرورة أبداً في أن يتكلم العالم المسلم بلغة علمية غريبة على مستوى فهم وشعور الآخرين، وليكن نموذج علاقة أهل البيت عليهم السلام بالناس هو النموذج الأوّل والأساس في تعامل الطليعة مع الجماهير في واقعنا الحاضر، وليس من رسالة ومهمة العلماء والمفكرين صياغة لغتهم وصياغة ما لديهم من رؤى وبصائر بقوالب غريبة أو جامدة وجافة، بل العكس هو الصحيح تماماً، إذ مهمتهم التي فرضها الله عليهم هي التبيان، وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا؛ قد وصفه الله بأنّه (وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ( (الحجر/1) أي واضح وموضّح في الوقت ذاته، وهذا هو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قد قال: "إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم". (1)
فالأمر المؤكد هو أن تتفاعل الطليعة مع الجماهير وألاّ تتعالى عليها بأيّ شكل من الأشكال، إذ أنّ أيّة حركة استطاعت أن تكون حركة جماهيرية تنطق باسم الناس وتعاني همومهم وتعمل على الأخذ بيدهم نحو إرادة الله ونحو النصر، فإن تلك الحركة حركة لا تموت أبداً؛ لأنّ الفرد الطليعي الواحد إذا كان معرّضاً للإرهاق أو التراجع أو الموت، فإن الأمة إذا نهضت بوعي وتفاعلت مع تطلعات دينها وأوامر ونواهي ربّها، فهي أمة لا ترهق ولا تتراجع ولا تموت أبداً.(4/309)
إذن؛ فهذه ثلاث مفردات إذا وُجدت؛ وجدت الإستقامة، وتوفر في الانتظار الصحيح شروطه، وهنالك يأتي أمر الله ونصره. وليكن في الأذهان أن من المستحيل أن تنال حركة إسلامية ما النصر دون إرادة وفعل غيبي إلهي، ولكنّ الله يريد من المؤمنين به الإعداد؛ لأنّه يريد أن يمحّص ما في القلوب، ويريد للإنسان المؤمن أن يثبت جدارته ليكون أفضل من سائر المخلوقات.
===============
الإستقامة ثمن الأهداف العظيمة
عندما تطمح أمة للوصول الى هدف عظيم، فلابد من الاستعداد لتقديم عمل يساوي ويعادل هذا الهدف العظيم. وعندما تقرر أمة العيش مستقلة ومتقدمة، وتسعى الى قهر الطبيعة، وتستهدف التغلب على نقاط ضعفها من فقر وجهل ومرض وعجز، وتريد التغلب على المشاكل السياسية والاجتماعية، فلابد لها من أن تدفع ثمن ذلك، وهذا الثمن عظيم. فالذين يطمحون طموحات سامية ثم لا يدفعون بإزائها الثمن المناسب، فانما هم يعيشون الأماني التي لا تغني عن العمل شيئاً.
شرط لمرضاة الله
وفي الآيات التالية من سورة (فصلت) يؤكد الله عز وجل على ضرورة توفر الاستقامة من أجل الوصول الى مرضاته، واقامة حكمه:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( (فصلت/30-35)
والآيات الكريمة السابقة تقرر أن في طريقنا ومسيرتنا عراقيل وصعوبات، لابد من أن نستعد لازالتها، والتغلب عليها. وهناك مشاكل لابد من التحصن ضدها، ومصائب من واجبنا الصبر عليها، وهزائم وانتكاسات لابد من استيعابها وتحويلها الى انتصارات.
طريقنا ملئ بالتضحيات
إن في الطريق الذي نسلكه تضحيات ومآسي، ودموعاً ودماء.. ومن أجل ذلك لابد أن نستقيم. فالله تبارك وتعالى لم يقل في آية من آيات القرآن الكريم إن طريق الجنة سالك ومعبّد ومفروش بالزهور والرياحين والورود، بل إنه تعالى أكد المرة بعد الأخرى أن طريقها محفوف بالمخاطر، والعقبات الكأداء التي لا مناص من اقتحامها.
وهكذا فان الذي يقول "ربي الله" لابد أن تعترضه عقبات، وتتحداه مشاكل. فقوله "ربي الله" يعني أن يكفر بما سواه؛ أي يكفر بالطاغوت والمجتمع الفاسد والانحرافات الفكرية، ويرفض الخضوع للأهواء والشهوات. فشرط المربوبية الحقة أن تعيش حراً مستقلاً، وأن لا تخضع لشهواتك وشهوات الآخرين، ولا تستسلم لقانون غير قانون الله عز وجل.
وقد تسأل لماذا إستخدم السياق القرآني كلمة (ثم) ولم يأت بحرف الفاء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا(. وحسب ما يبدو لي، إنّ (ثم) تدل على أن المشاكل ستستمر، فلو كان الله تعالى قد قال: "إن الذين قالوا ربنا الله فاستقاموا" فربما دلّ ذلك على أن عبارة "ربي الله" تحتاج الى استقامة واحدة؛ أي الى لحظات أو ساعات أو أيام من الاستقامة. ولكن السياق القرآني الكريم استخدم (ثم)، وكأن الزمن سيستمر، والاستقامة تتم بشكل تدريجي.
التأييد الإلهي
ثم يقول تبارك وتعالى: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ( ذلك لأن العمل الذي يقوم به المؤمنون تنوء به الجبال، وتثقل به الأرض. فهو عمل عظيم، ولذلك فانهم بحاجة الى الاستقامة والتأييد الغيبي من خلال تنزيل الملائكة عليهم. فالملائكة تهبط عليهم المرة بعد الأخرى، لأن العمل عظيم بعظمة الهدف المراد تحقيقه، ولأن الله عز وجل يعلم أن الانسان خلق من ضعف، فلولا التأييد الغيبي والاتصال بالحق لما استطاع الإنسان المؤمن أن يحقق الانتصار كما يصرح بذلك تعالى قائلاً: (وَلَوْلآ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً( (الاسراء/74)
وعلى سبيل المثال فلو لم يرِ الله النبي يوسف عليه السلام برهانه، لهمّ بها مثلما همّت به. ولو لم يعطِ الله تبارك وتعالى ابراهيم عليه السلام رشده، وموسى عليه السلام تأييده، وآدم وسليمان عليهما السلام التوبة.. لما كانوا قادرين على مقاومة ذلك الزخم الهائل من الضغوط، وتلك الأمواج الهادرة من المشاكل. ولكن الله سبحانه وتعالى تفضّل عليهم بالتأييد، وفي هذا التأييد بشارة لكل أولئك الذين يريدون الجنة. فبالرغم من أن الاستقامة شاقة للغاية إلى درجة تشقق الجبال منها، ولكن تأييد الله يمنحهم الاستمرارية على الثبات والاستقامة.(4/310)
فعلى الإنسان المؤمن أن لا يهن ولا يحزن، فالله جل وعلا يؤيده بنصره مادياً ومعنوياً، وذلك بأن يثبّت قلبه. فالملائكة لم تنزل في معركة بدر إلاّ لتثبيت قلوب المؤمنين، وبثّ السكينة في نفوسهم، وإلى ذلك تشير الآية القرآنية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ(.
والملاحظ أن الآية تقول: "تتنزّل" ولا تستخدم لفظة "تنزل" لأن النزول يحدث مرة واحدة، أما التنزّل فيحدث المرة بعد الأخرى؛ أي إنه يفيد الدوام والاستمرارية. فكلما واجهت المؤمنين مشكلة، نزلت عليهم ملائكة الرحمة والسكينة والاطمئنان والتثبيت القلبي.
البشارة بالجنة
والملائكة توحي لهؤلاء المؤمنين بعدم الخوف والحزن؛ أي بعدم الخوف مما يأتي، وعدم الحزن على ما مضى، ثم تبشرهم بدخول الجنة: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(.
فإذا كانت السلعة الجنة، فالثمن رخيص مهما كان باهظاً، لأن الله سبحانه وتعالى هو وليّ المؤمنين في الدنيا والآخرة، كما وعد بذلك رب العزة إذ يقول: (نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(.
وعندما يدخل الإنسان المؤمن السجن، ويتعرض للتحقيق والتعذيب على أيدي الجلادين، فإنه لا يدخل غرفة التحقيق وحده، وإنما تدخل معه أيضاً الملائكة الحافّة به، الحائمة حوله.
وعندما يكون الضيف هو المؤمن؛ العبد المخلص الذي أعطى كل حياته في سبيل المضيف الذي هو رب العالمين الغفور الرحيم، فكيف تكون إستضافة الله عز وجل لهذا العبد؟ هذه الاستضافة يصفها القرآن في قوله: (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(.
بنود الاستقامة
ثم يذكر لنا السياق الكريم بنود الاستقامة في قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(.
فبنود الاستقامة هي: الدعوة الى الله، والعمل الصالح، والاعلان عن الموقف الصادق الذي هو موقف التسليم لرب العالمين.
والاستقامة هي أيضاً إستقامة السلوك بأن نتعاون مع إخوتنا، وأن لا يصلهم منا سوء حتى وإن كان من ألسنتنا. (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(.
================
الإستقامة ضمان النجاح
ثمة آيات بينات من سورة هود جمعت في تضاعيفها خلاصة تجارب الأنبياء عليهم السلام، وموجز الدروس التي من الممكن إستلهامها من حياتهم، وقد بدأ الحديث عن هذه التحارب والدروس بقوله عز من قائل: (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ( (فصلت/45).
عصمة من الخلاف
فالقرآن هو أفضل ضمان لعدم التفرقة عندما نتمسّك به، ونعتصم بحبل الله الذي فيه، أمّا إذا اتخذناه مادة للاختلاف، وتبريراً للأهواء، فان المعادلة ستصبح في ميزان آخر.
وكتاب الله سبحانه يمثّل دائماً دليل الوحدة ورمزها، وعصمة من الخلاف والضلالة، ولابد أن نرجع إليه ما دام بين أيدينا، ونختلف إليه لا أن نختلف فيه. فهو إطار لكل القيم الإلهية الصائبة التي تعالج مشاكل الإنسان، ومن أبرز المشاكل التي يبتلى بها هذا الإنسان إختلافه، وإختلاف مذاهبه وأهوائه ومصالحه.. ولذلك فانّ القرآن الكريم يمثل القاضي الذي يحسم الخلافات الناشئة بين الناس إذا احتكموا الى قيمه.
ومن الملاحظ أن الانسان يجعل نفسه مرّة محوراً لمواقفه وأفكاره وتقييمه للآخرين، ومرّة أخرى يجعل الحق المحور لما يتخذه من مواقف، وما تصدر منه من أحكام، ويعود الى القرآن كلّما احتار مستفسراً عمّا يجب أن يفعله. وحينئذ يستطيع أن يحصل على الفكر السليم، والخطة الواضحة، والمواقف الصحيحة. أمّا إذا جعل نفسه هي المحور، وقيَّم الأحداث وفق ما تمليه عليه نفسه، واتخذ مواقفه بناءً على أوامرها، فان أفكاره ستكون مهزوزة قلقة؛ فتارة يحكم بصحة وسلامة حدث ما، وتارة يخطّؤه. فمواقفه من الأمور تكون إيجابية مرة، وأخرى سلبية؛ لا لطبيعة التغيير الذي يحدث في الأمر، بل لطبيعة التغيّر فيه.
وهذه المواقف هي السبب الرئيسي للاختلافات، أما المواقف التي تصدر من إتّباع الحق فهي المواقف الصائبة. فهناك فرق كبير بين أن يقول الإنسان: من معي؟ وبين أن يقول : مَن مع الحق؟ لأنّه في المرّة الأولى جعل من نفسه محوراً، وجعل الآخرين يلتفّون حوله، أمّا في المرة الثانية فقد جعل الحق محوره؛ وبالتالي فإنّ رؤيته ستكون سليمة.
الإنسان مسؤول عن أعماله(4/311)
ولابدّ أن يعرف الإنسان أنه مسؤول عما يقوم به من أعمال، ومحاسب عليها إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، ولذلك نرى القرآن يؤكد باستمرار على فكرة المسؤولية، حتى تبدو وكأنها خلاصة لتوجيهات آيات القرآن. والتدبّر في هذه الآيات يفرز توجيهاً عاماً يهدف الى ترسيخ هذه الفكرة في النفس البشرية.
ولكن لماذا كلّ هذا الاصرار على تأكيد فكرة المسؤولية؟
الجواب: إن الإنسان يهرب دائماً من تحمل المسؤولية، ولا يريد أن يوحي الى نفسه أنّه مسؤول، ويرى من الصعب عليه أن يحمّل نفسه هذه الأمانة، فيبعدها عنه حتى أنه ينسب الأخطاء والسلبيات الى ما حوله تخلّصاً من المسؤولية. ولكن القرآن الكريم يقول: (وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (هود/111). ونحن نلاحظ أن في هذه الآية ستة تأكيدات تركّز الكلام، لكي يكرّس القرآن روح المسؤولية في أنفسنا.
إستقم ولا تطغى
ثم يقول تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا( (هود/112)، وهذه الآية تطالب بالاستقامة البعيدة عن التكبر والتعالي والطغيان، وعن المنّة على الله عز وجل، بأننا قد استقمنا. فالاستقامة يجب أن تكون مع التواضع، وهي ليست بالأمر الهيّن اليسير، خصوصاً عندما يشتدّ البلاء، وتزداد المصائب، وتطول المدّة.. حينذاك يجدر بالانسان أن لا يتراجع أو يتخاذل ويتكاسل، بل ينبغي أن يصبر ويستقيم، لأن الاستقامة هي - بحد ذاتها- عامل من عوامل النجاح.
وللأسف فإننا نرى أن نشاطات البعض موسمية تتحكم فيها الأهواء، والأمزجة؛ فهم لا يعملون إلاّ عندما تهوى أنفسهم العمل، ويتوقّفون عندما لا يستسيغون التحرك.. ولا يمكن لهؤلاء أن ينجحوا في حياتهم، لأن الحياة ذات أجزاء متّصلة مع بعضها البعض كالصلاة التي لا يمكن أن تكون صحيحة ومقبولة إذا انعدم جزء منها.
ولأجل أن يستقيم المؤمنون على الطريق السوي والمنهج المرضي، يقول ربنا عز وجل: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ( (هود/113).
وهكذا يجب على الإنسان المؤمن أن يجعل هذه الآية نصب عينيه وخصوصاً في ظروف المصاعب والمحن، وإذا أقبلت عليه الفتن كقطع الليل المظلم، وتوالت عليه الضغوط من كل مكان، وشعر بالضعف، فعليه في هذه الحالة أن لا يستسلم لهذا الضغط أو يركن الى اليمين أو الشمال، بل عليه أن يصمد ويركن الى الله سبحانه وتعالى فالضغوط الشديدة، والمصاعب الأليمة تجعل الإنسان بين طريقين؛ بين أن يركن الى الله جل جلاله، والى قوّته وحصنه الحصين، وبين أن يركن الى الذين ظلموا، وحينئذ سوف لا ينصره الله، ويكله إليهم.
الصلاة زاد روحي
ومن طبيعة الإنسان أنه يغفل، ويصيبه التعب، فهو بحاجة الى زاد روحي، يجده في الصلاة؛ فعليه - اذن- أن يكثر من إقامتها، ويُحبِّبها الى نفسه كما يقول عز من قائل: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ( (هود/114).
فعندما يكون الإنسان في حرج، سواء فيما يتعلّق بالحياة الدنيا أم الآخرة، فانّ الصلاة تكون عامل تفريج لهمّه وغمّه ولذلك فانّ عليه أن يقوّي علاقته بالصلاة، ولا يجعلها مجرّد علاقة ضعيفة. فمن المستحيل على الشيطان أن يخدع الإنسان المرتبط بالصلاة برابطة قوية متينة، لأنه يلجأ إليها كلّما حاول الشيطان إغواءه، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَاسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ( (البقرة/45).
وأداء الصلاة والمواظبة عليها ليست أماناً للمؤمن من عذاب الآخرة، ومؤنسة له في القبر، ومنقذة له من هول المطلع، ومن ظلمة القبر فحسب، بل إن المؤمنين يلجؤون إليها كلّما أشكلت عليهم مسألة شرعية فتنفرج أساريرهم وجميع قضاياهم المعقّدة. فعلى الإنسان المؤمن أن يرتبط إرتباطاً قوياً بالصلاة، وأن يواظب على أدائها في أوقاتها. فالصلاة تمثل حالة روحيّة تشعر الإنسان بقيمة الارتباط مع الخالق، وتسهّل عليه كثيراً من المشاكل النفسية والروحية.
عدم استعجال النتائج
والانسان ينتظر نتيجة ما يعمله بعد إنتهاء العمل مباشرة، ولكنّ القرآن يأمره بالصبر: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( (هود/115) موضحاً له أن ثمار العمل بحاجة الى وقت، وإنّ عليه أن يستغلّ هذا الوقت في أداء الحسنات ويبادر الى عمل الصالحات ليرى نتيجة عمله في المستقبل دون تعجّل للأمور.
==============
الإستقامة ثمرة الجنة
على الرغم من إن الجنة غاية كل مؤمن، غير أنه لا يدخلها طمعاً بملكها والخلود فيها، رغم أن الله تعالى سيمنحه ذلك؛ بل سيدخل الجنة بقلب طاهر نقي، خال من كل شائبة.. كما يقول ربنا عز وجل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ( (الحجر/47)(4/312)
بلى؛ الجنة لا يمكن أن يدخلها الإنسان الحسود، الحقود، الضعيف الارادة؛ بل يدخلها من اُوتي الارادة القوية والشجاعة والإقدام لتحدي عقبات الطريق، ومشاكل الحياة؛ كما قال الله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ( (الاحقاف/13-14).
والقرآن الكريم يعطي للانسان مقياساً واقعياً لتمييز أصحاب الجنة من أصحاب النار؛ فهو يصف أصحاب الجنة بأنهم مستقيمون على إيمانهم رغم قساوة الظروف، وضغط الدنيا، ومصاعب الإستقامة. علماً بأنه ليس كل إنسان لديه القدرة على الإستقامة، فقد يكون والدك هو الذي يخالفك كما خالف أبو النبي إبراهيم خليل الله، وقد يكون عمك هو الذي يعارضك ويقف في وجهك كما فعل ذلك أبو لهب بالنسبة الى النبي صلى عليه وآله، وقد يكون هذا العدو متمثلاً في نظام الحكم الذي تعيش فيه والذي قد يمارس ضدك الضغوط المختلفة.. وفي هذه الحالة فقط سيكون بإمكانك دخول الجنة، كما يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(. (الاحقاف/13-14)
أما إذا بقيت ولو ذرة من سلبيات الدنيا ورواسبها في نفس الانسان، فانه سوف لن يدخل الجنة الا بعد ان تسقط عنه تلك الذرة.
وقد جاء في الدعاء المأثور: "بك أستجير يا ذا العفو والرضوان من الظلم والعدوان، ومن غِيَرِ الزمان، وتواتر الاحزان، وطوارق الحدثان، ومن انقضاء المدة قبل التأهّب والعُدّة ".(1)
فالخطر يكمن في مفاجأة الموت للانسان قبل أن يستعد ويتأهب له.
حتى نكون من أصحاب الجنة
والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو: كيف يتسنّى لنا الحصول على نفسية أصحاب الجنة مع ما نواجه من ضغوط؟ فغواية الشيطان، وأهواء النفس، وإغراءات الدنيا بالاضافة الى ضعف الانسان، كل ذلك يمثل عقبات تقف في طريق الانسان، وتمنعه من أن يكتسب تلك القوة النفسية. فكيف السبيل الى ذلك ؟
إن على الانسان أن لا يكتفي بتغيير النواحي الظاهرية من حياته ولا شكله الخارجي، فمثل هذا التغيير - وان كان مطلوباً - ليس هدفاً، بل هو جسر الى التغيير الأساسي، وهو تغيير النفس.
وللأسف فان البعض يتصور أنه قادر على تحدي الضغوط عندما تواجهه، ولكن على الانسان ان لا يضمن تحقق مثل هذا التصور والإطمئنان إليه من دون إمتحان. فعند الإمتحان يعرف الانسان مدى قدرته على التحمل. فكثيراً ما يكون الإرهاب أو الإغراء سبباً للانحراف ذلك، لأن النفس لم تتلق التربية الصحيحة.
وعلى سبيل المثال فان الانتظار الطويل هو إمتحان للانسان، فقد يتصور أحدنا ان التغيير من الممكن أن يتحقق خلال فترة قصيرة، ولكن الانتظار يطول،فيتعب وينهار، ويوسوس إليه الشيطان قائلاً: متى نصر الله ؟ حتى يصل أخيراً إلى مرحلة اليأس.
وعلى هذا فان القضية الأساسية ليست هي تغيير المظاهر؛ فكل إنسان باستطاعته أن يغير الظاهر، ويعوّد نفسه على الالتزام به. إلاّ أن تغيير الداخل يبقى هو الأساس في رسم شخصية الإنسان.
كيف نضمن الاستقامة؟
ولكن كيف نضمن الاستقامة؟
إن الله تعالى رحيم بالانسان، ويعلم ضعفه وجهله وظلمه لنفسه، وقد أخبر سبحانه عن ذلك في الذكر الحكيم، إذ قال: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً( (الاحزاب/72)، وقال: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً( (النساء/28) و (كَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً( (الكهف/54).
إن الغرور والجهل والظلم الذاتي صفات شائعة في الانسان، ولأنَّ الله رحيم بنا فقد أراد لنا أن نبلغ القمة عبر خطوات ومعارج، ولم يأمرنا أن نقفز الى هذا القمة بشكل مباشر. فهو يعلم إن الانسان لا يستطيع مقاومة هذا الضغط العظيم، ولذلك فانه لا يدخل الانسان في هذا الامتحان العسير قبل أن يكون هناك إمتحان من نوع آخر لِتُعْرَف - بالتالي - درجة ايمانه وتقواه. فهو عز وجل لا يمرّر الانسان اعتباطاً منذ البداية بإمتحان كإمتحان المؤمنين من أصحاب الأخدود، الذين واجهوا ملكاً في غاية الظلم والطغيان، وخيّرهم بين أن يكفروا بالله أو يدخلوا في أخدود النار. فهو لم يكن يريد أن يقتلهم بيده، بل أراد منهم أن يقذفوا بأنفسهم في النار. فالله سبحانه وتعالى لا يواجه الانسان بشكل مباشر، ودون مقدمات بإمتحان كهذا.
ومع ذلك فان هذه الإمتحانات وأمثالها هي أمام الانسان، وليست بعيدة عنه. فإمتحان الإغراء الشديد كالسلطة والملك والذي خدع رجال في التأريخ، وإمتحان الإرهاب الشديد الذي تعرض له أصحاب الأخدود وأمثالهم، ليسا بعيدين عن الانسان. ولكن الله جل شأنه لا يدخلنا في هذا الإمتحان العسير، إلاّ بعد أن يمرّرنا بمجموعة من الإمتحانات اليسيرة.
وعلى سبيل المثال فان الصلاة هي إمتحان، وكذلك الحسد، وتحمل أخطاء الآخرين كما يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً( (الفرقان/20).(4/313)
وهكذا الحال بالنسبة إلى الإهانة التي تلحق بالانسان، والتسليم الذي يجب عليه لقيادته ولو في أمور بسيطة.. فهذه كلها إمتحانات متدرجة متصاعدة حتى يحل يوم الإمتحان العسير. فان كنا نريد حقاً النجاح النهائي، فلا بد من أن نفكر بالنجاح منذ البدء.
وللأسف فإنّ البعض يريد الإمتحانات السهلة، ولكن النتيجة الفاشلة ستظهر في الامتحان النهائي، وهذه هي المشكلة الحقيقة التي يواجهها الانسان. أما المؤمنون فانهم يحبون أشق الأعمال على أنفسهم، لأن كل عمل من هذه الأعمال يستتبع تغيّراً في الجوهر الداخلي للنفس. فكل إمتحان يغيّر جزء من النفس، وفي النهاية يصبح التغيير كلياً. فعلى الانسان أن لا يكتفي بتغيير الجوانب الخارجية، بل عليه أن يغيّر الجوانب الداخلية أيضاً، وأن يفتش عن أسلوب شاق لتغيير نفسه.
إن النفس لا تتغير من خلال أمور ثانوية بسيطة، وهي تشبه الى حد كبير الفولاذ الذي إذا أردت أن تغيره، فلا بد من أن تجعله في بوتقة شديدة الحرارة، وتعرّضه للطرقات الشديدة، لكي يتغير بشكل تدريجي.
وإذا ما وجدنا قلوبنا غير قابلة للتغيير، فلنعلم أنها قاسية، وان قساوة القلب لا تدع الإيمان ينفذ الى أعماق الإنسان، بل يبقى طافياً على السطح. وبهذا الايمان السطحي لا يمكننا أن نقاوم الشيطان، والإغراءات والإرهاب.. ولذلك فان على الانسان ان يفكر في كيفية تعميق الايمان في قلبه، وسيهتدي حتماً إلى ان الطريقة الوحيدة الى ذلك هي التعرض للمشاكل الصعبة، والإمتحانات العسيرة، والخروج منها بسلام.
ولا يغيب عنا إنّ أمامنا درباً طويلاً، ومسؤوليات كبيرة، وتطلعات سامية، وأهداف كبيرة ونحن نؤمن بأن الله عز وجل أنعم علينا بنعمة الإسلام العظيمة. فالمطلوب منا - إذن - أن نجعل تقوية إيماننا وتعميق، وتكريس المفاهيم الإسلامية في عمق واقعنا من أولويات حياتنا. وبهذا الأسلوب وحده سوف يمن الله تبارك وتعالى علينا بالغلبة، ونضمن من خلال التوكل عليه إستقامتنا. وإذا ما ضمنّا إستقامتنا، فاننا سنكون بإذن الله عز وجل أصحاب الجنة التي وعد بها المتقون.
============
الجنة ميراث الإستقامة
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( (فصلت/30-35)
أن تصل القمة فذلك أمر صعب، ولكن أن تبقى فوقها فذلك أمر أصعب؛ وأن تكون إنساناً نشيطاً حيث تتجاوز الكسل والضجر وتتغلب على الوساوس الشيطانية فذلك أمر عظيم، ولكن الأمر الأعظم منه هو الإخلاص في هذا النشاط والعمل.
ومن هنا؛ يحدثنا ربنا سبحانه وتعالى في سورة هود المباركة عن الاستقامة باعتبارها الموضوع الأهم في حياة الإنسان المؤمن، وباعتبار أنها تمثل الذروة في وصول المرء الى السعادة الأبدية. كما يضرب الله لنا الأمثال في ذلك، وأهمها الحديث عن الصعاب الكبيرة التي تعرَّض لها الرسل والأنبياء أثناء تبليغهم رسالة السماء الى أممهم. ففي هذه السورة المباركة حديث مفصّل عن شيخ المرسلين نوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً يدعوهم الى دين الله القويم، حيث عاصر أجيالاً تبعتها أجيال، وكلها كفرت به وبرسالته، وتعرَّض خلالها هذا النبي العظيم إلى ألوان الأذى والشماتة، ولكنه صبر واستقام، بل لم يزده أذى المشركين له ولمن تبعه إلاّ صموداً وإصراراً على تبليغ ما أُمر به.
الاستقامة ثمن الجنة
يقول تبارك اسمه في خطابه لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله: ( فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ( (هود/112) ثم يضيف: ( وَمَن تَابَ مَعَكَ ( ليعلم أنه ليس كل الناس قادرين على الاستقامة، بل فيهم الكثير ممن يسقط.(4/314)
إن الاستقامة أمر في غاية الصعوبة، لأنها بحاجة الى أرضية مسبقة ومخزون تربوي وروحي هائلين. فالإنسان في طفولته بحاجة الى الاستقامة في مواجهة اللعب، وحينما يكبر ويكون مراهقاً تكون إستقامته ضد الشهوات والجنس وتوافه الأمور، وحينما يكون رجلاً لابد له من الاستقامة في الكسب حيث يواجه الربا والغش في التجارة، ويكبر قليلاً فتكون إستقامته على ألا تتناوشه الخطوط السياسية أو الفكرية المنحرفة، وإذا أصبح في سن الخامسة والثلاثين مثلاً واستقرت حالته المعاشية لابد له من الاستقامة لئلاّ يلهيه التكاثر بالأموال والأولاد... وهذه الاستقامة مطلوبة منه حتى آخر لحظة من لحظات حياته، حيث يكون وجوده ساحة للصراع بين الشيطان والأجل.. وقد رأينا أو سمعنا أن هناك من يتقبّل التلفّظ بالشهادتين وهو في حالة الإحتضار، وهناك من يتنكَّر للشهادتين ليستبدل بها أشعار الغزل والهراء وهو يسلِّم روحه لملك الموت!!
إن القسم الأكبر من الناس يرون بأن الجنة ليست في مستوى التضحية، ويتخيلون بأن الجنّة لو جاءت بصورة عفوية فبها، وإلاّ فلا... ويغفلون أو يتغافلون عن أن لدخول جنان الخلد ثمن، وهو الاستقامة والصبر على فتن الدنيا وعلى مكارهها ومصاعبها ومصائبها.
وها هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول مؤكداً في إحدى خطبه: "هيهات! لا يُخْدَعُ الله عن جنّته".(1) أما الإمام السجاد عليه السلام فيقول في كلمة جميلة، عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته (الوسيلة) قال: "ما شرٌ بشرٍّ بعده الجنة، وما خيرٌ بخيرٍ بعده النار".(2) وجاء في الحديث الشريف: "لو أُدخل إنسان الى الجنة لحظةً واحدة، ثم أُخرج وسئل هل رأى شراً؟ لقال كلا"، بمعنى إنصهار المشاكل والأذى في مقابل الجنة.
وهناك آيات كثيرة تشير الى هذا المعنى، من قبيل قوله سبحانه وتعالى: ( لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(. (يونس/62) فمن دخل الجنة لن يخشى النار ولن يخاف الإهانة أو الذل، وهو لا يحزن على ما دفعه في سبيل الله في الدنيا.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى على لسان مؤمن آل يس الذي أنذر قومه فعذّبوه أشد ما يكون العذاب، ثم ذبحوه من الوريد الى الوريد، ثم حرقوا جسده ونشروا رماده في البحر لكي لا يبقى له أثر ولا قبر، ولكنه حينما دخل الجنة رأى ثمن الصبر والاستقامة والإيمان : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ( (يس/26-27)
وأيضاً قوله عز من قائل: (لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ(. (الحشر/20) فالجنة تفوق كل شيء وبصورة مطلقة، لأنها فيها رضوان الله، وفيها الخلود، وفيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولأن الطرف الآخر هو النار؛ النار التي تترجم ارتكاب المعاصي والموبقات، كما تترجم غضب خالقها.
إن ما نستفيده من الآية المباركة القائلة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(. إن الذي يستقم لفترة من الوقت مخلصاً عمله لوجه الله تعالى، سيأخذ الله بيده ولن يتركه ليسقط وينهار، بل سينزل عليه الملائكة لترفده بالسكينة والاطمئنان، وتفتح أمام عينيه الأفق الواسع نحو السعادة وقطف ثمار الاستقامة والإخلاص..
إذن؛ فالاستقامة قد لا تكون إلى الأبد، فإنك قد تستقيم ولكنك تصل الى درجة حيث تتنزّل الملائكة عليك. وإنَّ كثيراً من إخواننا الذين كانوا في سجون الطواغيت ووصلوا الى حافة الإنهيار تنزّلت عليهم الملائكة بمختلف الأشكال، فقسم منهم كان يرى في يقظته أو منامه ولياً من أولياء الله الصالحين يبشّره أو يطمئنه بأنه على مقربة من الجنة، فيعود إليهم إصرارهم على المقاومة والصمود.
----------------
الاستقامة واقع لا خيال
إن الضعف الكبير الذي قد يصيب هذا الإنسان أو ذاك عندما يريد تحقيق فعل شيء تراه يحلم ويتمنى، فيغفل عن التخطيط ومواجهة الواقع بشكل منطقي، وإن كثيراً من الذين سقطوا ويسقطون في حبائل الشيطان إنما بسبب أنهم (وَمِنْهُمْ اُمِّيُّونَ لاَيَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلآَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ(. (البقرة/78) فهم يحلمون ويتمنون، ولا يخلقون واقعهم للوصول الى ما يهدفون.
فإذا أردت أن تبني بيتاً - مثلاً - فإنه لا يكفيك أن تحلم بالاقتراض من هذا أو ذاك، فإنك إذا واجهت الواقع سوف تجد أنك لا تملك شيئاً لبناء هذا البيت المزعوم... وهكذا هي الجنة، لا يمكن الحصول عليها بالتمنّي والتظنّي، بل يسمح بالدخول فيها عبر العمل والتخطيط والاستقامة. يقول تبارك وتعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ ( (التوبة/46) أي إن من يريد الحرب عليه أن يهيء نفسه لها عبر توفير المال والسلاح وسائر الوسائل الأخرى، ولكن المتورط والغارق في أحلامه فإنه ليس بوسعه إلاّ النوم والحلم واليقظة وتكرار ذلك.(4/315)
أما قضية التخطيط لتسيير الحياة وتحديد الهدف، فالقرآن قد وفّر ذلك على الإنسان، حيث بيّن العلاقات مع الزوجة والأولاد والأقارب والأصدقاء والغرباء إلى حدٍ كبير، فقال: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لآ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ( (المنافقون/9) وقال أيضاً: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ ( (التغابن/14) وقال كذلك: (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ( (النور/37)
فإذا كانت لديك تجارة أو مال أو ولد، فاحذر أن يكون ما لديك حجاباً بينك وبين الله، فهذه وغيرها تمثل - في حال اتخاذها هدفاً - حجباً من الظلمات بإمكانها إضاعة المرء وإغراقه، حيث لن يرى نوراً ولا عقلاً ولا إيماناً. وعلى هذا الأساس ينبغي إتخاذ الطريق الوسط في التعامل مع مفردات الحياة، والاستفادة القصوى منها لتكون خير وسيلة نحو الوصول إلى ما أمرنا الله أن نصل إليه.
إن المطلوب من الإنسان في علاقاته مع ذويه أن يتخذ السبيل الوسط ليكون خفيفاً في حياته، وقد جاء في المناجاة: "إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطّوا".(3) وهذا يعني أن القرآن الكريم وسنة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام يأمران الإنسان المؤمن ألاَّ يهجر الدنيا باعتبارها الوسيلة الوحيدة التي أنعم الله بها عليه، وألا يغرق في ظلماتها بعد أن اعتبرها هدفه الأول والأخير، كما يأمرنا بصياغة تصور جديد عن الدنيا والآخرة، وأول آيات ودلائل هذا التصور هو التخفيف من الإقبال على الدنيا والانتقاء منها ما يعتبر وسيلة إعداد للآخرة. قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: "كان أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة إذا صلّى العشاء الآخرة ينادي الناس ثلاث مرّات حتّى يسمع أهل المسجد: أيها الناس تجهّزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل". (4)
وليس التجهيز إلاّ تهيئة الوسائل للرحيل، من قبيل محاسبة النفس ومراقبتها بصورة مستمرة، والتأكد الدائم من صحة الهدف ووضوحه، والاستغفار والتوبة الى الله، وطلب العفو ممن ظلمناهم، والعمل على إسعاد الآخرين وتوفير فرص الخير لهم.
إن الاستقامة بحاجة الى إعداد النفس، وكذلك الجهاد والتضحية والإيثار والإنفاق، ومن دون الإعداد والتخطيط تكون حركة المرء بمثابة حصر الهواء في الشبك، وبمثابة الحلم والسراب.
الاستقامة والتربية الصالحة
التربية الصالحة والفكر الواعي هما وعاء الاستقامة دون شك، ولا يمكن بحال من الأحوال تصور إنفصال التربية الصالحة والفكر الواعي عن أعمال البر والخير، من قبيل الإنفاق في سبيل الله؛ الإنفاق الذي ليس حكراً على الإنفاق بالمال، بل ثَم إنفاق بالجاه وبالعلم وبالوقت لبذله في سبيل الله، ومواجهة السيئة بالحسنة، لكسب أعداء الدين وتحويلهم الى مدافعين عن الدين. ولا شك إن كل هذه المفاهيم وما يتبعها من مصاديق تشكل بمجموعها حياة الإنسان المؤمن المستقيم والصابر.
وأن يكون المرء ذا تربية ووعي صالحين وسليمين فيمارس أعمال البر ويعتنق ما هو الخير من التصورات والقناعات، فإنه سيصل الى الذروة من الحظ والحياة الآمنة في الدنيا والآخرة.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن استعد للرحيل وأعدَّ نفسه للجنة، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، ويجنّبنا السيئات، ويبصّرنا بعيوب أنفسنا، وأن يعيننا عليها كما أعان الصالحين على أنفسهم. ونسأله تبارك وتعالى أن يحيينا حياة محمد وآل محمد وصحبه، وأن يميتنا ممات محمد وآل محمدوصحبه، وأن يحشرنا مع محمد وآل محمدوصحبه.
==============
حكمة الابتلاء
مفاهيم تربوية
حين ننشر بعض أخبار الاعتقالات والابتلاءات التى يتعرض لها الإخوان المسلمون هذه الأيام قد يجزع بعض الأحباب أو يفزع ، ولهم نقدم هذه المقالة ، نقول لهم فيها أن ما يتعرض له إخوانكم هو تكرمة ومنحة ومنة من الله يصطفى لها من يحب من أوليائه ...
وفى المقابل قد يظن بعض الطغاة من زبانية أمن الدولة أن ذلك مما يسوؤنا ، فنجيب عليهم بهذه المقالة ، نقول لهم أن ما تفعلونه بنا يقربنا من ربنا درجات ودرجات ، ويبعدكم عنه ويستوجب غضبه عليكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الله فى الحديث القدسى " من عادى لى ولياً فقد آذنته بالمحاربة " .
حكم الله فى الابتلاء
1- تحقيق العبودية لله رب العالمين
فإن كثيراً من الناس عبدٌ لهواه وليس عبداً لله ، يعلن أنه عبد لله ، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) الحج/11 .
2- الابتلاء إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض(4/316)
قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة ، فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن .
3- كفارة للذنوب
روى الترمذي (2399) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي (2399) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2280) .
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1220) .
4- حصول الأجر ورفعة الدرجات
روى مسلم (2572) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) .
5- الابتلاء فرصة للتفكير في العيوب ، عيوب النفس وأخطاء المرحلة الماضية
لأنه إن كان عقوبة فأين الخطأ ؟
6- البلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل
يطلعك عمليّاً على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف ، لا حول لك ولا قوة إلا بربك ، فتتوكل عليه حق التوكل ، وتلجأ إليه حق اللجوء ، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء ، والعجب والغرور والغفلة ، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه ، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه .
قال ابن القيم :
" فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه " انتهى .
" زاد المعاد " ( 4 / 195 ) .
7- الابتلاء يخرج العجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله .
قال ابن حجر : " قَوْله : ( وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ ) رَوَى يُونُس بْن بُكَيْر فِي " زِيَادَات الْمَغَازِي " عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : قَالَ رَجُل يَوْم حُنَيْنٍ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم مِنْ قِلَّة , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْهَزِيمَة .."
قال ابن القيم زاد المعاد (3/477) :
" واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته " انتهى .
وقال الله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) آل عمران/141 .
قال القاسمي (4/239) :
" أي لينقّيهم ويخلّصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس . وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم. .........ثم ذكر حكمة أخرى وهي ( ويمحق الكافرين ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنّة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم ... وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعاً " انتهى .
8- إظهار حقائق الناس ومعادنهم . فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن .
قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه " .
ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : اُفْتُتِنَ نَاس كَثِير - يَعْنِي عَقِب الإِسْرَاء - فَجَاءَ نَاس إِلَى أَبِي بَكْر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّهُ صَادِق . فَقَالُوا : وَتُصَدِّقهُ بِأَنَّهُ أَتَى الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , إِنِّي أُصَدِّقهُ بِأَبْعَد مِنْ ذَلِكَ , أُصَدِّقهُ بِخَبَرِ السَّمَاء , قَالَ : فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الصِّدِّيق .
9- الابتلاء يربي الرجال ويعدهم
لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذي تتخلله الشدائد ، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال ، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها ، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها .(4/317)
نشأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيماً ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضاً .
والله سبحانه وتعالى يُذكّر النبي صلّى اللّه عليه وآله بهذا فيقول : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ) .
فكأن الله تعالى أرد إعداد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تحمل المسئولية ومعاناة الشدائد من صغره
10- ومن حكم هذه الابتلاءات والشدائد : أن الإنسان يميز بين الأصدقاء الحقيقيين وأصدقاء المصلحة
كما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
11- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها
والله عز وجل يقول : ( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ ) النساء/79 ، ويقول سبحانه : ( وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ ) الشورى/30 .
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ فإنَّ الله تعالى يقول : ( وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ) السجدة/21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر .
وإذا استمرت الحياة هانئة ، فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .
12- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور
وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا ، في حياة لا مرض فيها ولا تعب ( وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ ) العنكبوت/64 ، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ : ( لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ ) البلد/4 .
13- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية
فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة ، ولم تتذوق حلاوتهما ، ولم تقدِّرهما حق قدرهما .
المصائب تذكرك بالمنعِم والنعم ، فتكون سبباً في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده .
14- الشوق إلى الجنة
لن تشتاق إلى الجنة إلا إذا ذقت مرارة الدنيا , فكيف تشتاق للجنة وأنت هانئ في الدنيا ؟
فهذه بعض الحكم والمصالح المترتبة على حصول الابتلاء وحكمة الله تعالى أعظم وأجل .
والله تعالى أعلم .
==============
حكمة الابتلاء بالأمراض المهلكة
أجاب عليه … فضيلة الشيخ أ.د. ناصر العمر
التصنيف …الفهرسة/ الركن العلمي/ العقيدة/الإيمان بالقدر
التاريخ … 19/6/1425
رقم السؤال … 2215
السؤال
س1/مات ابي (الله يرحمه)قبل 8 سنوات بداء السرطان وماتت أختي بنفس المرض (الله يرحمها)قبل شهرين,واخي مريض الان ,فما معنى هذا يا الشيخ الفضيل؟وشكرا........
الجواب
هذا ابتلاء من الله سبحانه، ونسأل الله لأبيك وأختك الرحمة والجنان، ولأخيك الشفاء،
وقد يكون لذلك أسباب خاصة يصعب معرفتها من خلال السؤال والجواب عبر الإنترنت، وقد تعلم عن طريق أحد العقلاء من العلماء أو المختصين،
والمهم أن تتفقدوا أنفسكم، قال سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).
وإذا أصيب المسلم بشيء من هذه الأمراض، فهو كفارة سيئات ورفعة درجات إذا صبر واحتسب، قال سبحانه: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155- 157).
حفظكم الله من كل سوء ومكروه، وألبسكم لباس الصحة والعافية، ورزقكم الصبر واليقين، وجعلكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
================
مثل من ثبات الصحابة على دينهم واعتزازهم به
(خبر سعد بن أبي وقاص وأصحابه )
قال ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب فاستَخْفَوْا بصلاتهم, فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة , إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون , فناكروهم , وعابوا عليهم مايصنعون حتى قاتلوهم, فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحْيِ بعير فشجّه , فكان أولَ دم هُريق في الإسلام ([1]).
هذا الخبر يدل على مقدار ما واجهه الصحابة رضي الله عنهم في مبدأ الإسلام من محاصرة المشركين ومتابعتهم إياهم حتى اضطروهم إلى الاستخفاء بصلاتهم في الشعاب النائية , ومع ذلك وصل إليهم المشركون فناكروهم وعابوهم وقاتلوهم .
إن محافظة هؤلاء الصحابة على دينهم وحماسهم في الدعوة إليه مع ذلك الاضطهاد الشديد من أعدائهم دليل على قوة إيمانهم وهو موقف جليل يكتب في سجلهم الحافل بالمواقف العالية .(4/318)
وهكذا رأينا هؤلاء العظماء الأبطال قد اضطروا إلى الاستخفاء بأبرز شعائر دينهم وهي الصلاة, فأصبحوا يقيمونها في الشعاب والأودية خوفا من سخرية المشركين وبطشهم , ومع ذلك لم يتركوا الصلاة , فكيف بالمسلمين الذين أقيمت لهم المساجد العامرة بالمصلين المزودة بكل وسائل الراحة والنشاط ومع ذلك يهجرها طائفة من المسلمين زهدًا فيها وإيثارًا لمتاع الدنيا ولهوها؟!
إنه أمر منكر عجيب يدل على البون الشاسع بين مستوى إيمان الصحابة رضي الله عنهم وإيمان من جاء بعدهم والتفوق الواضح للصحابة في مجال الفهم والتطبيق .
كما أن هذا النص يدلنا على مستوى العزة التي ارتفع إليها المسلمون آنذاك على الرغم من ضعفهم وقلتهم حيث قام أولئك النفر بمدافعة من داهمهم من المشركين ولم يستخذوا لهم وفي ذلك إعزاز ظاهر للإسلام وتثبيت لوجوده في الأرض .
مثل من الثبات على الشدائد
( إسلام خالد بن سعيد بن العاص )
أخرج الإمام البيهقي بإسناده عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال : كان إسلام خالد - يعني ابن سعيد بن العاص - قديمًا , وكان أول أخوته أسلم , وكان بدء إسلامه أنه رأى في النوم أنه وُقف به على شفير النار , فذكر من سعتها ما الله أعلم به , ويرى في النوم كأن أباه يدفعه فيها, ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بحقويه لايقع , ففزع من نومه فقال : أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق.
فلقي أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه فذكر ذلك له فقال أبو بكر : أريد بك خير , هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه , فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام , والإسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها .
فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد فقال : يامحمد إلام تدعو ؟ فقال: أدعو إلى الله وحده لاشريك له وأن محمدًا عبده ورسوله , وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لايسمع ولايبصر ولاينفع ولايدري من عبده ممن لم يعبده .
فقال خالد : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله , فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه , وتغيب خالد , وعلم أبوه بإسلامه فأرسل في طلبه , فأتي به فأنَّبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه , وقال : والله لأمنعنك من القوت , فقال خالد : إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به, وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويكون معه ([2]).
وهكذا هدى الله تعالى خالد بن سعيد بن العاص بتلك الرؤيا المباركة , فأخرجه بها من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد , وكان يقينه بالإسلام قويّا حيث لم يتزعزع إيمانه لما وبخه أبوه وضربه وهدده بقطع رزقه مع أن أباه كان من سادة أهل مكة الكبار , بل أعلن خالد استغناءه عن أبيه واعتماده الكامل على الله تعالى وحده , وثبت رضي الله عنه على حياة الفقر لأنه أحس بأن الإسلام هو سعادة الروح , وأيقن بأن الحياة الدنيا لاتساوي شيئًا أمام الآخرة , فلتكن الدنيا كما يريد الكفار المتسلطون حياة بؤس وفاقة على المسلمين فإن الموازين ستتبدل في الآخرة فيصبح المسلمون هم أصحاب الحياة السعيدة الخالدة , وقد تتبدل في الدنيا حينما ينتصر المسلمون وتكون لهم الدولة والهيمنة في الأرض .
مثل من الدعوة الناجحة والتضحية الخالدة
( إسلام عمرو بن عبسة السُّلَمي )
أخرج الإمام مسلم بإسناده عن أبي أمامة قال : قال عمرو بن عبسة السلمي : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة , وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا , فقعدت على راحلتي , فقدمت عليه , فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا , جُرَءَاءٌ عليه قومه .
فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له : ما أنت ؟ قال : "أنا نبي" فقلت : ومانبي ؟ قال: "أرسلني الله " فقلت : وبأي شيء أرسلك؟ قال: " أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لايشرك به شيء " قلت له : فمن معك على هذا ؟ قال: " حر وعبد" قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به فقلت : إني متبعك . قال: " إنك لاتستطيع ذلك يومك هذا , ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك , فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني " .
قال فذهبت إلى أهلي , وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة , وكنت في أهلي , فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة , حتى قدم عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة , فقلت: مافعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا : الناس إليه سِرَاعٌ . وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك .
فقدمت المدينة فدخلت عليه , فقلت : يارسول الله ! أتعرفني ؟ قال: " نعم . أنت الذي لقيتني بمكة؟ " .
وذكر بقية الحديث وفيه أنه سأله عن الصلاة والوضوء ([3]).(4/319)
ففي هذا الخبر موقف يذكر لعمرو بن عبسة حيث آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أوائل دعوة الإسلام وفي حال قلة المسلمين وكثرة أعدائهم , ولم يقتصر على ذلك , بل أبدى رغبته في مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والبقاء معه في ذلك الظرف العصيب , ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منه إسلامه , وأبان له بأنه لايستطيع أن يتحمل مشقة الصحبة والاتباع في ذلك الوقت , لما سيتعرض له من الأذى الشديد على يد الكفار ولكون النبي صلى الله عليه وسلم لايستطيع حمايته .
وقد جاء في هذا الخبر أن عمرو بن عبسة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام بعد أن علم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : وبأي شيء أرسلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لايشرك به شيء " وفي هذا دليل على أهمية صلة الأرحام حيث كان هذا الخلق العظيم من أوليات دعوة الإسلام , مع اقترانه بالدعوة إلى التوحيد .
وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوة مع أنها كانت أقدس شيء عند العرب , وفي هذا دلالة على أهمية إزالة معالم الجاهلية , وأن دعوة التوحيد لا تستقر ولا تنتشر إلا بزوال هذه المعالم .
وفي اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم المبكر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت دلالة على أن أمور الدين لايجوز تأخير بيانها للناس بحجة عدم القدرة على تطبيقها , فالذين يبينون للناس من أمور الدين مايستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن , ويحجمون عن بيان أمور الدين التي يحتاج تطبيقها إلى شيء من المواجهة والجهاد .. هؤلاء دعوتهم ناقصة , ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واجه الجاهلية وطغاتها وهو في قلة من أنصاره , والسيادة في بلده لأعدائه .
وجاء في هذا الخبر أن عمرو بن عبسة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أتباعه فقال " حر وعبد" وقد فسر ذلك عمرو بأن المراد أبو بكر وبلال, وهذا يحتمل أمرين :
الأول : أن الكلام على ظاهره وأنه لم يسلم في ذلك الوقت خارج بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وبلال, وبناء على ماسبق من أن أبا بكر هو أول من أسلم يكون بلال ثاني رجل أسلم خارج البيت النبوي .
الثاني : أن هناك مسلمين آخرين ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخفى ذكرهم لكونهم يخفون إسلامهم عن قومهم, بينما كان أبو بكر ظاهر الإسلام , وبلال قد ظهر إسلامه , فذكرهما لكونهما لايتضرران بهذا الذكر , وهذا هو الظاهر لأن عمرو بن عبسة علم عن الإسلام وهو في بلاده , وظهور الإسلام خارج مكة وعلم القبائل به كان بعد الجهر بالدعوة بينما كان المسلمون الأوائل قد دخلوا في الإسلام قبل الجهر بالدعوة كما سبق في إسلام الخمسة على يد أبي بكر .
ومما يدل على تأخر وفادة عمرو بن عبسة قوله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم "جُرءاء عليه قومه" , وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا ترى حالي وحال الناس؟ " فهذا يدل على أن وفادته كانت بعد حدوث الخلاف والعداء من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك بعد أن جهر بنقد الجاهلية التي كان عليها قومه , وهذا النقد كان بعد الجهر بالدعوة , بل إنه قد جاء في هذا الخبر التصريح بكسر الأوثان وهذا كان بعد الجهر بالدعوة .
------------
([1]) سيرة ابن هشام 1/261 , وتاريخ الإسلام للذهبي 1/147 .
([2]) دلائل النبوة للبيهقي 2/172 , وأخرجه أبو عبد الله الحاكم من هذا الطريق وذكر مثله - المستدرك 3/248 .
وذكره الحافظ ابن كثير من رواية البيهقي بإسناده - البداية والنهاية 3/248 .
([3]) صحيح مسلم 569 رقم 832 , كتاب صلاة المسافرين
===== ===========
مثل من ثبات النبي صلى الله عليه وسلم
(شكوى قريش لأبي طالب الأولى)
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله سرًّا في بداية بعثته إلى أن اجتمع حوله عدد من أصحابه، فأمره الله تعالى بأن يجهر بالدعوة (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر : 94)
وأمره بأن يبدأ بإنذار أقاربه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء : 214 ) فأنذر وبشر وجمع بين الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر , الدعوة إلى عبادة الله وحده والتخلق بمكارم الأخلاق, والدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام التي هي أعظم المنكر وكذلك التخلي عن مساويء الأخلاق .
فلما عاب أصنام المشركين وسفه أحلامهم بعبادتها عرفوا أنه لن يَبْقَى على ماهو عليه من دينه ويتركهم على ماهم عليه من المنكر فناصبوه العداء وحاولوا تفريق المؤمنين بدعوته بكل ماأوتوا من قوة وحيلة .
ولما رأوا صلابة إيمان أتباعه وأن أمره صار ينتشر بين جميع طبقات المجتمع بسرعة وقوة حاولوا التأثير عليه ليترك دعوته أو يغير من أسلوبها في النكير عليهم وتسفيه أحلامهم .. حاولوا ذلك بالترغيب أحيانًا وبالترهيب أحيانًا أخرى ولكن حال دون وصولهم إلى أغراضهم صلابته في إيمانه وعطف عمه أبي طالب عليه ودفاعه عنه وتهديده لقريش إن وصلوا إليه بالأذى .(4/320)
فلما رأى كفار قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لن يهون أمام تهديداتهم ولن يلين أمام إغراءاتهم وأن عمه أبا طالب قد قام دونه وحماه , وأن أتباعه يتمسكون بدعوته بقوة ويزيد عددهم بسرعة ذهب بعض أشرافهم إلى عمه أبي طالب لبيان أمره والشكوى منه .
قال محمد بن إسحاق رحمه الله : فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها , فلمافعل ذلك أعظموه ([1]) وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون .
وحَدِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه , ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرًا لأمره لايرده عنه شيء ,فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايُعتبهم ([2])من شيء أنكروه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدبَ عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب-وذكر أسماءهم - فقالوا : ياأبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا , فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل مانحن عليه من خلافه فنكفيكه , فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقًا وردهم ردًّا جميلاً فانصرفوا عنه .
قال : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ماهو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه , ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا , وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذامروا فيه, وحض بعضهم بعضًا عليه ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له : يا أبا طالب إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا , وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا , وإنا والله لانصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يَهلَك أحد الفريقين - أو كما قالوا - ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم , ولم يطب نفسًا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ياابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا , للذي كانوا قالوا له فَأَبْقِ عليّ وعلى نفسك ولاتُحَمِّلني من الأمر مالا أطيق.
قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاء ([3]) وأنه خاذله ومُسْلِمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ياعم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ماتركته .
قال : ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى , ثم قام , فلما ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي , قال:فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لاأسلمك لشيء أبدًا ([4]) .
وأخرجه الأئمة البخاري في التاريخ الكبير والحاكم والبيهقي , وذكره الهيثمي من رواية الطبراني وأبي يعلى بنحوه , كلهم من حديث عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حلَّق ببصره إلى السماء فقال : فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة, فقال أبو طالب : والله ماكذَّبتُ ابن اخي قط فارجعوا .
وقال الحافظ الهيثمي : ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ([5]) وذكره الحافظ ابن حجر وقال: هذا إسناد صحيح ([6]) .
في هذا الخبر بيان لشدة المواجهة وعنف المقاومة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقاها من قومه , حيث استخدم أشراف قومه مختلف الوسائل للتأثير على عمه أبي طالب ليرفع عنه حمايته , فذكَّروه بشرف الآباء والأجداد وهو من المقتنعين بالتمسك بما عليه الأسلاف وذكروه بقدسية الآلهة وهو ممن يعظمونها , ثم هددوه بالحرب بينهم وبينه وهو ممن يكره ذلك , كما حاولوا التلطف معه بالثناء عليه فذكروا شرفه ومنزلته فيهم ليؤثروا عليه فيستجيب لشكايتهم .
ولقد كان موقفًا صعبًا ومحرجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقع عمه الذي ناصره وحماه في هذا المأزق المحرج , حيث بقي أبو طالب في حيرة من أمره فهو لايريد أن يبادىَ قومه بالعداء ولكنه أيضًا لايريد أن يُسْلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا أن يخذله , ولكن إخراج عمه من هذا المأزق يقتضي أن يتنازل عن دعوته وأن يوافق الكفار على تعظيم الأصنام وتفخيم ميراث الآباء وهذا أمر مستحيل , لذلك كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم حازمًا وحاسمًا حينما استدعاه عمه وفاوضه في التنازل عن دعوته الكاملة إبقاء عليه وعلى نفسه , حيث بين لعمه أن هذا مستحيل كاستحالة إنزال الشمس والقمر ووضعهما في يديه صلى الله عليه وسلم .(4/321)
وإن هذا لموقف عظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وقف وهو في قلة من أنصاره يتحدى زعماء قريش وهم في عزهم وغناهم ومكانتهم العالية في العرب , وقد بين صلابته في التمسك بهذا الدين ودعوة الناس إليه مهما تكن الظروف , ومهما وُضع في طريقه من عقبات , وأنه على استعداد كامل لأن يقدِّم نفسه رخيصة في سبيل هذا الدين , فضرب بذلك المثل العالي لأمته والقدوةَ الكاملة للدعاة إلى الله تعالى في تسخير نفسه بكل طاقاتها لخدمة دعوته ولو أدى ذلك إلى هلاكها.
فليسر على دربه المؤمنون المتقون في بذل الجهد في الدعوة وتحمل كل مايواجههم من صعوبات ونكبات فإن لهم فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة .
هذا وإن تلك الدموع الغالية التي تحدرت من عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لنا خطورة الموقف وصعوبة الأمر عليه , حيث كان بين أمرين كل واحد منهما شاق على نفسه , لكن إيقاع عمه في الحرج أهون عليه كثيرًا من التنازل عن دعوته , بل لامقارنة بين الأمرين لأن أحدهما صعب والآخر مستحيل .
وإنه من أجل الخروج من هذا المأزق وإصدار القرار السامي الذي لاخيار له فيه فإنه لابد لصاحب النفس الكريمة التي بلغت نهاية الكمال البشري في السمو الأخلاقي أن يعبر عن أساه واسفه لصاحب المعروف الكبير عليه أن أوقعه في حرج كبير وأدخله في معركة حامية مع قومه, في الوقت الذي كان يتوسل إليه أن لايوقعه في ذلك , فكانت الدموع الزكية أبلغ تعبير عن ذلك الأسى والأسف .
إن دموع فحول الرجال الأشداء غالية , وتكون أشد غلاء حينما تنحدر من عيني من بلغ الكمال في كل معاني الرجولة , وإن غلاء تلك الدموع ليصور لنا جسامة المسؤولية التي تحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهان من أجلها بكل ما تعارف عليه البشر من الأخلاق والأعمال التي تتعارض معها .
-----------
([1] ) أي شق ذلك عليهم .
([2] ) أي لايزيل عتبهم بالرجوع عما أنكروه .
([3] ) أي ظهر له فيه رأي جديد .
([4] ) السيرة النبوية لابن هشام 1/261 - 264 .
([5] ) التاريخ الكبير 7/51 رقم 230 , المستدرك 3/577, دلائل النبوة للبيهقي,2/186 - 187,مجمع الزوائد 6/14.
([6] ) المطالب العالية 4/192 رقم 4278 .
=============
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ "(1)
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 16 / ص 37)(4/322)
قَدْ كَتَبْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } فَمَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ تَارَةً وَعَلَى الصَّبْرِ أُخْرَى . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَمِدَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّوَكُّلِ وَمُجَانَبَةِ الْكَبَائِرِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِرَبِّهِمْ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِوَارِ فِي أَمْرِهِمْ وَانْتِصَارِهِمْ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ وَالْعَفْوُ وَالصَّبْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ضِدَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَ مَحْمُودًا بَلْ مَذْمُومًا فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِعَدَمِ ضِدِّهَا ؛ فَلَوْ كَانَ ضِدُّهَا مَحْمُودًا لَكَانَ عَدَمُ الْمَحْمُودِ مَحْمُودًا وَعَدَمُ الْمَحْمُودِ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ ؛ وَلِأَنَّ حَمْدَهَا وَالثَّنَاءَ عَلَيْهَا طَلَبٌ لَهَا وَأَمْرٌ بِهَا وَلَوْ أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ قَصْدًا أَوْ لُزُومًا وَضِدُّ الِانْتِصَارِ الْعَجْزُ وَضِدُّ الصَّبْرِ الْجَزَعُ ؛ فَلَا خَيْرَ فِي الْعَجْزِ وَلَا فِي الْجَزَعِ كَمَا نَجِدُهُ فِي حَالِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى بَعْضُ الْمُتَدَيِّنِينَ إذَا ظَلَمُوا أَوْ أَرَادُوا مُنْكَرًا فَلَا هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ ؛ بَلْ يَعْجِزُونَ وَيَجْزَعُونَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ وَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . لَا تَعْجِزْ عَنْ مَأْمُورٍ وَلَا تَجْزَعْ مِنْ مَقْدُورٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْمَعُ كِلَا الشَّرَّيْنِ ؛ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِرْصِ عَلَى النَّافِعِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَإِلَّا فَالِاسْتِحْبَابُ . وَنَهَى عَنْ الْعَجْزِ وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ } وَالْعَاجِزُ ضِدُّ الَّذِينَ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْجَزَعِ مَعْلُومٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَمْرٍ أُمِرَ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيَحْرِصَ عَلَيْهِ وَيَسْتَعِينَ اللَّهَ وَلَا يَعْجِزُ وَأَمْرٍ أُصِيبَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ وَلَا يَجْزَعَ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ ابْنُ الْمُقَفَّعِ أَوْ غَيْرُهُ الْأَمْرُ أَمْرَانِ : أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا تَعْجِزْ عَنْهُ وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا تَجْزَعْ مِنْهُ . وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ ؛ لَكِنْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فِيهِ حِيلَةٌ هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ لَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ إلَّا بِمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَهُ إذْ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَقَدْ أَمَرَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ فِيهِ لَهُ حِيلَةٌ وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ هُوَ مَا أُصِيبَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ . وَاسْمُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ فَالْأَفْعَالُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا } وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } وَالْمَصَائِبُ الْمُقَدَّرَةُ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ(4/323)
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . إلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
=============
الدعوة تحتاج إلى صبر ومصابرة وأمل(1)
السؤال
أنا معلمة وللأسف أرى كل يوم أمام عيني ما لا تطيقه من تصرفات الطالبات من تبرج وأمور مخلة بالدين وكلما أحاول النصح 99./. يسخرن مني ولم يعد يشغل الطالبة سوى المسلسلات والأفلام والبرامج المخلة بالدين والاستخدام الخاطئ للإنترنت طبيعة عملي فيها احتكاك مباشر بالطالبات ولكن للأسف كلما أتحدث مع أي طالبة بخصوص أمر معين مثل النمص تقول كيف أقتنع وأمي تعمل كذلك وأنا والله حائرة في أمري أفكر كثيراً بترك المدرسة من كثرة الضغوط النفسية التي أواجهها بسبب هذا الموضوع أرجو الإفادة في هذا الموضوع .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته في سؤالك هو واقع كثير من الفتيات للأسف الشديد، ولكن أيضا هناك فتيات خيرات وصالحات، ويكثرن ولله الحمد، وعلى الفتاة التي منَّ الله عليها بالهداية أن تكون داعية لأخواتها، سواء كانت في المدرسة أو العمل أو غير ذلك، وتستعين بغيرها في ذلك، ولا تضعف وتيأس، فالدعوة تحتاج إلى صبر ومصابرة، فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو قومه، كما قال الله تعالى عنه: [ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ] (نوح:5-9).
واعلمي أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فرب كلمة تهديها لفتاة تؤثر في نفسها وتكون سببا لهدايتها عاجلا أو آجلا، ولذا، فإننا نوصيك بالصبر والدعوة وتذكير أولئك الفتيات بالعفاف والحياء والطهر وعدم تقليد أمهاتهن أو قريباتهن في المنكر، فقد أهلك الله قوما بسبب تقليدهم لآبائهم في الباطل.
قال الله تعالى: [ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ] (الزخرف:24-25).
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
صاحب العين الواحدة مثاب إذا صبر(2)
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
سيدي الفاضل: قرأت حديثاً عن رسول الله صلى الله عيله وسلم عن رب العزة في حديث قدسي: أن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" هل يقصد الله سبحانه وتعالى بفقد البصر كلية أي العينين الاثنتين سيدي الفاضل أنا رجل سني 45 عاماً فقدت عيني اليمنى نهائياً وأصبحت والحمد لله بعين واحدة والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فهل صبري على ما أعطاني بها الله سبحانه وتعالى ينطبق على هذا الحديث أم هذا الحديث ينطبق على الضرير، وهل ما منحه الله سبحانه وتعالى لي هو غضب منه لي، سيدي الفاضل: أستأذنك في الرد على سؤالي هذا؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد جاء الحديث الذي ذكرته في صحيح البخاري وفي مسند الإمام أحمد ، وجاء في الأدب المفرد للبخاري بلفظ: إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت.... وعند ابن حبان من حديث العرباض بن سارية : إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة إذا حمدني عليهما . وأخرج الترمذي : إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة . ووردت روايات أخرى للحديث تفيد كلها الإصابة في العينين معا أي ذهاب البصر بالكلية، فلا يمكن تفسير هذا على أن المقصود به العين الواحدة، لأن مثل ذلك لا يمكن أن يقال بالاجتهاد، ولم يوجد نص يدل عليه.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4386) - رقم الفتوى 45713 الدعوة تحتاج إلى صبر ومصابرة وأمل -تاريخ الفتوى : 24 محرم 1425
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 2643) -رقم الفتوى 53254 صاحب العين الواحدة مثاب إذا صبر -تاريخ الفتوى : 27 رجب 1425(4/324)
وعليه فالحديث إنما يعني الضرير وليس يعني فاقد العين الواحدة، ولكن صاحب العين الواحدة مثاب أيضاً إذا صبر، وليس البلاء دليلاً على غضب الله، بل قد يكون كفارة للذنوب أو علوا في الدرجات، قال ابن حجر في فتح الباري عند شرح الحديث السابق: وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه، بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب، أو لرفع منزلة، فإذا تلقى ذلك بالرضا تم له المراد، وإلا يصير كما جاء في حديث سلمان أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وأن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل، أخرجه البخاري في الأدب المفرد موقوفاً.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
صبر المرأة على محنة طلاقها (1)
السؤال
أرجوكم مساعدتي في محنتي
مررت بظروف جد صعبة طلقت منذ مدة ولم أستطع النسيان حاولت إشغال نفسي بالقراءة والعمل والدعاء إلى الله لإزالة الهم والكرب والذهاب إلى المسجد والمكوث مدة طويلة في قراءة القرآن دون جدوى فذكريات الماضي تطاردني أقول مع المدة سوف أنسى ولكن بالعكس يزداد تأزما مما زاد طين بلة ،عائلتي لا تكترث بي فكل واحد في أشغاله فالوحدة تقتلني وتعصر قلبي، فهذه مدة مرت على طلاقي حاولت وحاولت .... أستغفر الله ليست شكوى ولكن أريد المساعدة كيف أتصر ف؟ أعلم أن بعد كل عسر يسرا والخير فيما اختاره الله ولكن هل أنا سبب تعاستي أم الظروف؟ أرجوكم أحتاج لدعمكم فمعاناتي لا يعلمها إلا الله ما العمل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي رحمك الله أن الدنيا دار بلاء وهم وكدر، وأن الآخرة هي دار النعيم المقيم، وانظري الفتاوى ذات الأرقام التالية: 51946 ، 27082 ، 13849 .
واعلمي أنك إن صبرت ورضيت عن ربك فإنه سبحانه سيصبرك ويرضيك ويمنحك الأجر العظيم فضلا منه، وانظري الفتويين: 8601 ، 32418 .
وإن ما أصابك إنما هو بعلم الله وبقضائه وقدره، قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {البقرة: 216}.
وانظري الفتويين: 15888 ، 2795 .
والذي ننصحك به أن تصدقي في اللجوء إلى الله وتسأليه بذل وإلحاح أن يشرح صدرك ويلهمك رشدك وأن يفرج كربك ويرزقك الصبر واليقين، وأن يمن عليك بالزوج الصالح الذي تقر به عينك فتنسي تلك التجربة الأليمة، وانظري إلى من هو أسوأ منك حالاً من المرضى والمصابين، ولا تنظري إلى من هو أحسن حالاً فإنك لا تدري ما وراء ذلك، هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا حيث قال: انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم . رواه مسلم وغيره.
ولا تخلدي إلى الوحدة واجترار الآلام، بل اتخذي صحبة صالحة من الأخوات الفضليات، وتعاوني معهن على الخير وطلب العلم النافع، واستأنفي حياتك من جديد.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
روائع من صبر الأنبياء(2)
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/1/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، سنّةُ الله ماضية في الابتلاءِ والامتحان، والحقُّ والباطل في هذه الحياة في صراع مرير مستمِرّ، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَن بَيّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:42]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. وليس أحدٌ معصومًا من البلاء، فأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الصالحون الأمثل فالأمثل.
ولهذا البلاءِ حِكمٌ من الله جلّ وعلا، فمنها تمييزُ الخبيث من الطيب، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ [الأنفال:37]، فيظهر صدقُ الصادِق من كذب الكاذب. ومن فوائدِ البلاء رفعُ درجات العبد، وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة:120]. ومنها تكفيرُ الخطايا والسيئات، ((ما يصيب العبدَ من همٍّ ولا نصَب ولا وصب، حتى الشوكة يُشاكها إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه))(1)[1].
وموقفُ المؤمن مِن البلاء الصبرُ والاسترجاع، وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ [البقرة:155، 156]، رضًا بقضاء الله، فلا تسخُّطَ ولا كراهية، في الحديث: ((ليس منَّا من ضرب الخدودَ وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))(2)[2].
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5460) -رقم الفتوى 66538 صبر المرأة على محنة طلاقها -تاريخ الفتوى : 26 رجب 1426
(2) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3116)(4/325)
أيّها المسلم، وممّا يعينك على الصبر عندَ الامتحان والابتلاء مواقفُ أنبياءِ الله وخيرتِه من خلقه، فقد قصَّ الله علينا أنباءَ الماضين للاعتبار والاتِّعاظ: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء [يوسف:111]، وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].
لقد قصَّ الله علينا قصصَ أنبيائه المرسلين، وماذا واجهوا في دعوتهم، وماذا قِيل لهم، وما هو البلاء الذي حلَّ بهم، ثمّ ما هو صبرُهم وتحمُّلهم، كلُّ ذلك في سبيل الله والعاقبة للتقوى.
نوحٌ عليه السلام أوّلُ رسُل الله إلى الخلق، ماذا جرى له؟ مكَث في قومه ألفَ سنة إلاَّ خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله سِرًّا وجهارًا، ليلاً ونهارا، لينقذهم من الضلال، ويصعد بهم إلى طريق الهدى، والله يقول: وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]. سخِروا منه، وسخِروا من أتباعه، وقالوا له: لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ [الشعراء:116]. أنجى الله نوحًا وأتباعَه، وأغرق قومَه. ابتُلي بكفر ابنه وصدودِه عن أبيه، والله يقول له: إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].
إبراهيمُ أبو الأنبياء بعده، بعثه الله لأبيه وقومه، يدعوهم إلى الله، ويبيِّن لهم توحيدَ الله، ويحذِّرهم من عبادة الأصنام، ويبيِّن لهم فسادَ معتقدِهم وباطلَ ما هم عليه، فما كان من أبيه وقومه إلاّ التكذيبُ والإنكار، لقد تلطَّف مع أبيه في دعوته: ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا ياأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا ياأَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:42-45]، وماذا قال أبوه؟ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا [مريم:46]. لقد أقام الحججَ والبراهين العقلية على فسادِ عبادةِ الأصنام وضلالها، وعدم قدرتها على تخليص نفسها، فكيف تُتَّخذ أربابًا وآلهة؟! أوقَدوا نارًا ليحرقوه، فقال الله لها: كُونِى بَرْدًا وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ [الأنبياء:69]. وهَبَ الله له في الكبَر إسماعيلَ وإسحاق، فلما ترعرع إسماعيل وتعلَّقت نفس الأب به أمره الله بذبحه ليبتليَ إيمانه وصدقه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:102-107]، كلُّ ذلك ليظهرَ إيمان الخليل، ولذا اتخذه الله خليلاً، وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125].
يوسف بنُ يعقوبَ بنِ إسحاق، نبيٌّ من أنبياء الله، ابتُلي بما ابتُلي به، ابتُلي بصدودِ إخوته عنه، ومحاولتهم إلحاقَ الأذى به، وأُلقي في البئر، فاشتُري وبيع، وصار عند عزيز مصر رقيقًا وهو الكريم بنُ الكريم بنِ الكريم بن الكريم، فابتُلي بامرأة العزيز، كما ابتُلي بإخوته، ولكن الصبرُ والثبات على الحقّ حال بينه وبين ما أُريد، كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
وأيوبُ يقول الله عنه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83، 84].
التقم الحوتُ يونسَ عليه السلام، فصار في بطنِ الحوت ينادي ويناجي: أَن لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، قال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ [الأنبياء:88]، فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144].(4/326)
سيِّدُ الأوّلين والآخرين، سيّد ولد آدم، أفضلُ خلق الله على الإطلاق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، خاتم أنبياء الله ورسله، بعثه الله على حين فَترةٍ من الرسل واندراس من العلم إلى قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله، وما طرق أسماعَهم نذيرٌ قبلَه، إلى قومٍ غارقين في وثنيَّتهم، غارقين في جهالاتهم وضلالاتهم، بدأهم بدعوةِ إيّاهم إلى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، ليقولوها ويعمَلوا بمقتضاها، ويدَعوا تلك المعبوداتِ الباطلة، فما كان من قومه إلاّ أن وقفوا موقفَ العداء منه، فوصفوه بما هو بَراء منه، وما يعلمون في كنانة أنفسِهم براءته منه، قالوا عنه: الكذّاب والسّاحر والمجنون والشاعر والمفتري، وكلُّ ذاك باطل والله يقول: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
ألحقوا الأذى به وبأتباعه من أقرَب الناس إليه أيضًا، وحاصَروه في الشِعب، وجرى ما جرى. خرج خارجَ مكّةَ عسى أن يجدَ من يسمَع رسالتَه ويقبَلها، فقوبِل بالتكذيب، ورماه سفهاؤُهم بالحجارة، فأدمَوا عقبَه، وملكُ الجبال يأتيه بأمر الله: أَأُطبق عليهم أخشبي مكة(3)[3]؟ فيقول كلمتَه العظيمة: ((أتأنَّى بهم؛ لعلّ الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا))(4)[4]، فحقَّق الله له أمنيّتَه، وحقَّق الله له رَجاءَه، فما مات حتى انقادت له الجزيرة، وآمن به أهلُها، فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
موسى بنُ عمران كليم الرحمن، أحدُ أولي العزم من الرسل، ولِد ذلك النبيّ الكريم في زمنٍ كان فرعونُ يقتُل الذكورَ من بني إسرائيل ويستحوِذ على النساء ويُبقيهن، وكان ذاك بلاءً عظيمًا، لكن قدرة الله فوق قدرة البشر كلِّهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
التقَطه آلُ فرعون حقدًا عليه لكي يقتلوه، وإذا القدرة الربّانيةُ أن ألقى الله في قلب امرأةِ فرعونَ حبَّه ومودَّته، قالت لفرعون: لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [القصص:9]. تربَّى في بيت فرعونَ وعلى فراشه وفي نعمتِه، وفي قضاء الله ما لا يعلمه البشر.
أمره الله وأخاه أن يأتيَا فرعونَ، ذلك الطاغية الذي ادَّعى أنّه الربُّ الأعلى: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ليدعُوَاه إلى الله، وقال لهما: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]. موسى عليه السلام عرف رهبةَ فرعونَ وطغيانَه، فقال الله: إِنَّنِى مَعَكُمَا [طه:46]، فبيَّن الله له أنه معه ناصرُه ومؤيِّده.
ابتدأ دعوتَه لفرعون، يدعوه إلى الله، يدعو ذلك الطاغيةَ المتكبِّر الجبّار إلى الله وإلى توحيده، يدعو من يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ اله غَيْرِى [القصص:38]، ليقول له: الله خالقك وخالق الخلق كلِّهم. استكبر وأبى، طلب آيةً تدلّ على صِدق موسى، فإذا العصا التي يحمِلها تحوَّلت بأمر الله حيَّةً تسعى، وإذا يدُه تنقلب بيضاءَ تحاكي الشمسَ في قوّة إضاءتها، ومع هذا فما ازداد إلاَّ طغيانا وكفرًا.
أقام موسى يدعو إلى الله ويطلب من فرعونَ أن يخلِّص بني إسرائيل من ظُلمه وطغيانه، والآيات والبراهينِ ترِدُ حينًا بعد حين، ولكن ذاك لاجٌّ في طغيانه وضلاله، وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس:101]. في زمنٍ كان السحرة لهم شأنهم، ولهم دورُهم في الدنيا، وفرعونُ يراهم قوَّتَه وجنده، ويراهم مَن يعتمد ويعوِّل عليهم في أموره كلِّها.
دَعا فرعونُ موسى للمناظرةِ والمجادَلة في يومٍ ليظهرَ من كان محِقًّا ممّن كان مبطلاً. جمع فرعونُ سحرتَه على اختلافهم وتنوُّعهم وكثرتهم، فأتوا بحبالهم وعصيِّهم، ومع موسى أخوه فقط. امتلأ الوادي بأولئك السحرة الذين رُغِّبوا ووعِدوا بأن يكونوا خاصَّةَ فرعونَ وجلساءه إن هم تغلَّبوا على موسى وحدَه، فكان أوّلَ الأمر يدَّعي أنه الربُّ الأعلى، والآن يتضعضَع أمره ويهين شأنُه حينما يطلُب المناظرةَ من موسى عليه السلام.
جمع السحرةُ كيدَهم، وجمعوا ما عندهم وما لديهم، فامتلأ الوادي بتلك الحبال والعصيّ التي في مرأى الإنسان أنها حيّاةٌ وأنها وأنها، أوجَس في نفسِه خيفةً موسى؛ بَشرٌ يخاف كما يخافُ سائرُ الناس، لكن اللهَ جل وعلا ثبَّت قلبَه وقوَّى يقينه: لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:68، 69]. نعم، إنّ السحرَ أمام الحقِّ يتضاءل، وإنّ السحرَ أمام الوحي يتضاءل، وإنَّ السحرةَ إنما يعلوُ سِحرهم إذا فُقِد الوحي، وأمّا الوحيُ والإيمان فإنّه ضدٌّ للسَّحَرة وطغيانهم وضلالهم.(4/327)
عصا موسى تحوَّلت حيةً ملأت الوادي والتقمت كلَّ ما فيه، وكادت أن تلتقمَ فرعونَ ومَن معه، فأصيبُوا بالذّهول والإحباط، وتحوّلت تلك القوّةُ إلى ضعفٍ ووهَن، هؤلاء السّحَرة المهرَة في سِحرهم المهرةُ في علمهم وخداعهم رأَوا أمرًا لا طاقةَ لهم به، وآيةً لا استطاعةَ لهم بتحدِّيها، فخرّوا لله ساجدين، ءامَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70]، آمنوا أجمعين لما رأوا تلك الآيات الباهرة. فرعونُ يهدِّد ويتوعَّد، وقالت السحرة: فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَاذِهِ الْحياةَ الدُّنْيَا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72، 73]. آمنوا ساعةً واحدة نالوا بها الجناتِ العالية، وسبحان الحكيم العليم.
بنو إسرائيل كانوا أذلَّةً في أيّام فرعون، فببعثةِ موسى رُفع شأنهم وأعزَّهم الله، وجعل منهم الأنبياءَ والملوك وفضَّلهم على سائل عالم زمانهم، بماذا؟ باتِّباعهم لموسى وإيمانهم وقيامهم بالتَّوراة، ولكن سرعانَ ما تبدَّل أولئك، فعصَوا موسى، وعبَدوا العجل، فجعلهم في التِّيه أربعين سنةً عقوبة لهم. وكان الأنبياء يتعاقبون فيهم، ما مضى نبيّ إلاَّ أتى نبيّ، لكنهم تحوَّلوا عن دينهم، ولجُّوا في طغيانهم، فعاقبهم الله بالعقوباتِ العظيمة؛ ضرب الله عليهم الذلّةَ والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله. ما هي حالهم وأخلاقهم؟ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. حالُ بعضهم من بعض: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:64]. موقفُهم من صفاتِ ربَّهم موقفُ الظلم والعدوان، وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ [المائدة:64]، لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ [آل عمران:181]. أخلاقُ مجتمعِهم: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:79]. تعاملهم مع غيرهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. تلك أخلاقُهم لما انحرفوا عن ملّة الإسلام، وصار لهم من الضلال ما صار.
موسى عليه السلام بعدما أقام داعيًا إلى الله مناضِلاً مجاهدًا خرج من مصرَ فارًّا بأتباعه من ظلمِ فِرعون، فتبعه فرعونُ بقوّته لكي يهلِكه ويقضيَ عليه، انتهى موسى وقومُه إلى البَحر، فرعونُ من ورائهم والبحر أمامهم، فلا محيصَ لهم من عدوٍّ أو غرَق في البحر، قالوا لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فماذا قال لهم؟ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. أمره الله فضربَ بعصاه البحر، فإذا البحر ينشقّ اثني عشر طريقًا يبَسًا، والماء كالحواجز بين تلك الطّرق، يسلكه موسى ومن معه آمنًا، ويأتي فرعونُ فينطبِق البحرُ عليه، ويغرقه ومن معه، وأخرجه الله ليكون عبرةً وعِظة لمن بعده.
أيّها المسلم، تلك سنّةُ الله في الابتلاء والامتحان، فليستقِمِ المسلم على دينه، وليثبُت على الحقّ الذي آمن به، وليعلَم أن البلاءَ والامتحان لأهل الإسلام لا بدّ منه.
إنَّ أمةَ الإسلام ـ وهي تعاني من حملاتٍ شرسة ودعايات وتحدِّيات ـ يجب عليها أن تعلَم حقًّا أنه لا ينجيها من كيد عدوِّها ولن يخلِّصها من مكائد عدوِّها إلا تمسُّكها بدينها واعتصامها بحبل الله واجتماع كلمتها على ذلك، فبهذا تحمي الأمّةُ نفسَها بتوفيقٍ من الله من كيد أعدائها، ويكون لها القوّة، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، وقال جلّ وعلا: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
إنّ قصصَ الأنبياء الماضين عبرةٌ وعِظة لمن اتَّعظ واعتبر. جعلني الله وإيّاكم من المعتبرين المتَّعظين، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
__________
(1) أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر (2563) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز (1297، 1298)، ومسلم في الإيمان (103) عن ابن مسعود رضي الله عنه.(4/328)
(3) الأخشبان بالمعجمتين، قال ابن حجر في الفتح (6/316): "هما جبلا مكّة أبو قبيس والذي يقابله، وكأنّه قعيقعان... وسمّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما, والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكّة, ويحتمل أن يريدَ أنّهما يصيران طبقًا واحدًا".
(4) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبيّ (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
=============
صبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)
عائض بن عبد الله القرني
الحمد لله ربِ العالمين.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
الحمد للهِ حمدا حمدا، والشكرُ لله شكرا شكرا، الحمد لله عبوديةً واعترافا، الحمد لله استخزاءً وذلة.
والصلاةُ والسلام على معلمِ البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزعِ كيان الوثنية، صلى الله وسلم على محمدٍ ما اتصل مرءأ بنظر، وما اتصلت أذنُ بخبر، وما هتفَ ورقُ على شجر، وما نزل مطر، وما تلعلعَ الظلُ على الشجر، وعلى آله وصحبِه وسلمَ تسليما كثيرا.
أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدا عبدُه ورسولُه، أشهدُ أن لا غله غلا اللهث على رغمِ أنفِ من تكبر وكفر، وعلى رغمِ من جحد واستكبر، وعلى رغمِ من بعدَ وتنكر.
أيها المسلمون:
بشرى لنا معشرُ الإسلامِ إن لنا ....... من العنايةِ ركنا غير منهدمِ
لما دعا اللهُ داعينا لطاعتِه ............ بأكرمِ الرسلِ كنا أكرم الأممِ
أخوك عيسى دعا ميتا فقامَ له .........وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
مولاي صلي وسلم ما أردتَ على ... نزيلِ عرشكَ خير الرسل كلهمِ
لا يزالُ الحديثُ عن جانبٍ من جوانبِ عظمتِه (صلى اللهُ عليه وسلم)، وعظمتُه تبهرُ العقول، وتخلبُ الألباب، وتحيرُ الأفكار، إنهُ عظيمُ لأنَه عظيم، وإنه صادقُ لأنَه صادق، بنى رسالةً أرسى من الجبال، وأسسَ مبادئ أعمقُ من التاريخ، وبنى جدارا لا يخترقَه الصوت، إنه (صلى اللهُ عليه وسلم) حيثما توجهتَ في عظمتِه وجدتَ عظمتَه، فهيا بنا إلى جانبِ الصبرِ في حياتِه (صلى اللهُ عليه وسلم).
ذكرَ الصبرُ في القرآنِ في أكثرِ من تسعينَ موضعا، مرةً يمدحُ اللهُ الصابرين، ومرةً يخبرُ اللهُ بثوابِ الصابرين، ومرةً يذكرُ اللهُ عز وجل نتائجَ الصابرين، يقولُ لرسولِه (صلى اللهُ عليه وسلم): فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا رأيتَ الباطلَ يتحدى، وإذا رأيت الطغيانَ يتعدى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قل مالُكَ وكثرَ فقرُكَ وعوزُك وتجمعتَ همومُك وغمومُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قتلَ أصحابُك وقل أصحابُك وتفرقَ أنصارُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا كثُرَ عليك الأعداء، وتكالبَ عليك البُغضاء وتجمعت عليكَ الجاهليةُ الشنعاء: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا وضعوا في طريقِك العقبات، وصنفوا لك المشكلات، وتهددوكَ بالسيئاتِ وأقبحَ الفعلات: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُك وتفرق أقرباءُك وأحباؤكَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فكانَ مثالا للصبرِ عليه السلام، سكنَ في مكةَ فعاداهُ الأقرباءُ والأحباء، ونبذَه الأعمامُ والعمومةَ، وقاتلَه القريبُ قبل البعيد فكانَ من أصبرِ الناس، أفتقرَ وأشتكى، ووضع الحجرَ على بطنِه من الجوع وظمأَ فكان من أصبرِ الناس.
مات أبنَه بين يديه وعمرُه سنتان، فكان ينظرُ إلى أبنِه الحبيبِ القريبِ من القلبِ، ودموعُ المصطفى (صلى الله عليه وسلام) الحارةُ تتساقطُ كالجُمانِ أو كالدرِ على خدِ أبنِه وهو من أصبرُ الناسِ يقول: تدمع العين، ويحزنُ القلب، ولا نقولُ إلا ما يرضي ربَنا، وإنا بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون.
مات خديجةُ زوجتُه وامرأتُه العاقلةُ الرشيدة، العاقلةُ الحازمةُ المرباةُ في بيتِ النبوة، التي كانت تؤيدُه وتنصُره، ماتت وقت الأزمات، ماتت في العصرِ المكي يوم تألبت عليه الجاهليةُ، وقد كانت رضي اللهُ عنها ساعدَه الأيمن.
يشتكي إليه من كثرةِ الأعداء، ومن الخوفِ على نفسِه فتقول: كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا، إنك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلَ، وتعينُ الملهوفَ، وتطعمُ الضيفَ، كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا. فتموتُ في عام الحزنِ فيكونُ من أصبرِ الناسِ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تجمع عليه كفارُ مكةَ، أقاربُه وأعمامُه، نصبوا له كمينا ليقتلوه ويغتالوه، فدخلَ دارَه، وأتى خمسونَ من شبابِ قريش، كلُ شابٍ معَه سيفُ يقطرُ دما وحقدا وحسدا وموتا، فلما طوقوا دارَه كان من أصبرِ الناس، خرج من الدارِ وهم في نعاسٍ وسباتٍ فحثا على رؤوسِهم الترابَ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.(4/329)
ولما حثا الترابَ على رؤوسِهم كانوا نياما قد تساقطت سيوفُهم من أياديهم، والرسول عليه الصلاة والسلامُ يتلو عليهم: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
==============
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى(1)
لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الله في مكة إلى أذى شديد من زعماء الكفار، ولقد كان قوي الشخصية شجاعًا في مواجهة هؤلاء الزعماء على الرغم مما كانوا عليه من قوة معنوية , ومكانة عالية بين العرب , فقد كانوا يقتلون بنظراتهم الحادة وألسنتهم السليطة كل ضعيف خوار,وكان العرب جميعًا يحترمونهم ويقدرون رأيهم لمكانتهم من خدمة بيت الله الحرام وجواره.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجههم بما يكرهون حينما أصروا على باطلهم , وتحداهم بما عجزوا عن مقاومته حتى أسقط سمعتهم الوهمية القائمة على الدجل واستغلال غفلة العقول ، فلم يكن منهم إلا أن ضاعفوا من كيدهم وأذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به .
وقد جاءت روايات في بيان ماتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى , فمن ذلك :
1 - ماأخرجه ابن إسحاق رحمه الله قال : حدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قلت له : ما أكثر مارأيت قريشًا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته ؟ قال : حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجْر , فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر ذلك الرجل قط , قد سفه أحلامنا وشتم آباءنا , وعاب ديننا , وفرق جماعتنا , وسب آلهتنا , لقد صبرنا منه على أمر عظيم , أو كما قالوا .
فبينما هم في ذلك إذا طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن , ثم مر بهم طائفًا بالبيت , فلما مر بهم غمزوه ببعض القول . قال : فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها , فوقف ثم قال: أتسمعون يامعشر قريش ؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح .
قال: فأخذت القوم كلمته حتى مامنهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع , حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك لَيَرْفَؤْه بأحسن مايجد من القول , حتى إنه ليقول : انصرف أبا القاسم, فو الله ماكنت جهولاً .
قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم مابلغ منكم , ومابلغكم عنه , حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه .
فبينما هو في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد , وأحاطوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم , فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم أنا الذي أقول ذلك.
قال : فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بجمع ردائه . قال : فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه, وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ! ثم انصرفوا عنه , فإن ذلك لأشد مارأيت قريشًا نالوا منه قط ([1]) .
وأخرجه أبو يعلى والطبراني بنحوه وفيه أن أبا جهل قال : يا محمد ماكنت جهولاً , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنت منهم " .
ذكره الهيثمي وقال : وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن , وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح ([2]) .
2 - أخرج الحافظ أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها : ما أشدُّ مارأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : كان المشركون قعدوا في المسجد يتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومايقول في آلهتهم فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا إليه وكانوا إذا سألوا عن شيء صَدَقهم فقالوا : ألست تقول كذا وكذا ؟ فقال: بلى فتشبثوا به بأجمعهم .
فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له : أدرك صاحبك فخرج من عندنا وإن له غدائر ([3]) فدخل المسجد وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ قال: فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر , فرجع إلينا أبو بكر فجعل لايمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه , وهو يقول : تباركت ياذا الجلال والإكرام ([4]) .
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى هذه الرواية وقال : ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال:من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت.
قال : أمَا إني مابارزني أحد إلا أنصفت منه , ولكنه أبو بكر , لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش , فهذا يجره وهذا يتلقاه , ويقولون له : أنت تجعل الآلهة إلها واحدا , فو الله مادنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا , ويقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله .(4/330)
ثم بكى عليّ ثم قال : أُنشِدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر ؟ فسكت القوم, فقال علي : والله لساعة من أبي بكر خير منه, ذلك رجل يكتم إيمانه وهذا يعلن إيمانه ([5]) .
وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه فقام أبو بكر فجعل ينادي : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله فقالوا من هذا : فقالوا : أبو بكر المجنون .
ذكره الهيثمي وقال : ورجالهما رجال الصحيح ([6]) .
3 - وأخرج الحافظ ابن سيد الناس من حديث عروة بن الزبير قال : حدثني عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه عثمان بن عفان قال : أكثر مانالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيت يوما- قال عمرو : فرأيت عيني عثمان بن عفان ذرفتا من تذكر ذلك - قال عثمان بن عفان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر , وفي الحجْر ثلاثة نفر جلوس : عقبة بن أبي معيط , وأبو جهل بن هشام , وأمية بن خلف , فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاذاهم أسمعوه بعض مايكره , فعُرِف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم , فدنوت منه حتى وسَطته , فكان بيني وبين أبي بكر, وأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعا , فلما حاذاهم قال أبو جهل : والله لانصالحك ما بَلَّ بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد مايعبد آباؤنا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنَّى ذلك !
ثم مضى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك , حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه فدفعته في صدره فوقع على استه , ودفع أبو بكر أمية بن خلف , ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط , ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف , ثم قال : أما والله لاتنتهون حتى يحل بكم عقابه عاجلا .
قال عثمان : فو الله مامنهم رجل إلا أخذه أَفْكل ([7]) , وهو يرتعد , فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم , ثم انصرف إلى بيته , وتبعناه خلفه حتى انتهى إلى باب بيته, ووقف على السُّدَّة ثم أقبل علينا بوجهه فقال : أبشروا فإن الله عز وجل مظهرٌ دينه , ومُتِمٌّ كلمته وناصر نبيه , إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله بأيديكم عاجلا ، قال : ثم انصرفنا إلى بيوتنا , فو الله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا ([8]) .
وذكر الحافظ ابن حجر في شرح حديث عبد الله بن عمرو السابق من رواية الزبير بن بكار والدارقطني في "الأفراد" من طريق عبد الله بن عروة بن الزبير , عن عروة قال: حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان .. وذكر أوله , ثم قال : " فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد الله بن عمرو هذا , فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند , ولكن سنده ضعيف , فإن كان محفوظًا حمل على التعدد , وليس ببعيد لما سأبينه" ثم قارن بين الروايتين وقال : وهذا يقوي التعدد ([9]) .
وهذا يعني أنه إذا كان خبرًا واحدًا فالمعتبر هو حديث عبد الله بن عمرو لأنه أقوى إسنادًا, وإن حمل على تعدد القصة وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر فإن ضعفه محتمل للتقوية , وهكذا أورده الحافظ ابن سيد الناس على أنه خبر مستقل
4 - وأخرج الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزينًا قد خُضِب بالدماء , ضربه بعض أهل مكة , قال فقال له: مالك؟ قال فقال له : فعل بي هؤلاء وفعلوا , قال فقال له جبريل : أتحب أن أريك آية ؟ قال: نعم , قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال : ادع تلك الشجرة , فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه , فقال: مرها فلترجع , فرجعت إلى مكانها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبي ([10]) .
من هذه النصوص نعرف مدى ماكان المشركون يضمرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عداوة , حيث كانوا يجتمعون على محاربته ويوصي بعضهم بعضا بالوقوف في وجهه , ويلوم بعضهم بعضا على التقصير في مباداته بالعداء .
وحينما يكون العدو متفرقا أمره ويقاوم أفرادُه الدعوة الوافدة وهم فرادى فإن أمره يكون ميسورًا إذ بإمكان صاحب الدعوة أن يصل إلى إقناع بعضهم بدعوته وأن يتفادى عداوة الآخرين بكلمة مودة أو برد حازم يسكت عدوه , فأما حين يجتمع أفراد العدو على صاحب الدعوة فإن موقفه يكون حرجا أمامهم إذ أن السيادة في مثل هذه الاجتماعات تكون للدهماء الذين تحركهم عادةً العصبيةُ القبلية والتمسك بالموروثات وإن كانت تتنافى مع العقل السليم , ولايتمكن صاحب الدعوة - والحالة هذه - من مخاطبة أصحاب العقول المفكرة .(4/331)
وقد كان زعماء قريش الذين تغلب هذه الصفات على أصحاب الرأي منهم هم الذين يحتلون ساحات المسجد الحرام ولايتركون الفرصة لأصحاب العقول المفكرة التي تميل إلى التحرر من الأوهام والخرافات التي لاتنسجم مع العقول السليمة .. لايتركون لهم الفرصة ليلتقي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسمعوا كلامه فقد قاموا بالحجْر الفكري على مجتمعهم وطبقوا ذلك بصرامة فائقة حتى كان من يريد السماع من النبي صلى الله عليه وسلم يضطر إلى التسلل في الخفاء .
ومن هنا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم صعبًا للغاية في معاملتهم وكان لابد له أحيانًا أن يخرج عن حلمه المعهود ليسلك معهم طريق الحزم والمجابهة كما هو الحال في الخبر الأول لأن الذين يواجهونه يخاطبونه بعواطفهم الثائرة الحاقدة ولايخاطبونه بعقول متزنة تدرك مايُلقَى عليها من قول وتفكر فيه، فلما قال لهم : أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح استكانوا وخضعوا له .
لقد كان زعماء الكفار أولئك يحاولون أن يبنوا لأنفسهم مجدا من خلال جرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم وإقدامهم على سبه وإيذائه أمام الجمهور , حيث يظهرون بمظهر الأبطال الذين لايبالون بسخط النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ولا بسخط حماتهم من بني هاشم , فكان من المناسب أن يجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بكلام شديد يهز فيه من شخصياتهم ويسقط فيه من معنوياتهم حتى لايمتدحوا أمام أتباعهم بتلك المواقف الوهمية , ولقد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ما أراد حيث وجموا لسماع ذلك الكلام وتكلموا بكلام يحمل معنى الاعتذار عن موقفهم السيء ذلك .
إن اجتماعهم على الباطل يلغي تفكيرهم السليم ويجعلهم ينطلقون من الحماس المتأجج من العواطف الثائرة , وغالبًا مايكون التفكير والتوجيه من فرد أو أفراد يتزعمون أفراد المجتمع, فيبقى أغلب الأفراد تابعين لهؤلاء الزعماء من غير تفكير في صواب مادعوهم إليه من خطئه ولذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى التفكير المتأمل المتجرد عن فكر الجماعة الذي يهيمن عادة على الأفراد حيث يقول تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ : 46 )
فإذا خلا الإنسان بنفسه ثم تفكر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه سيلغي من حسابه اتهامه بالجنون وغيره مما ألصقه به الأعداء , وكذلك إذا خلا بصاحبه وقَارَنَا بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن عُرف عنهم الإصابة بهذه التهم , لأن الفكر - والحال هذه - ينطلق من العقل المتجرد من العاطفة والتبعية للقوى المهيمنة على العقول فلابد أن يصل إلى النتيجة الصحيحة الموافقة للعقل السليم .
وحينما يخلو الإنسان إلى فكره يخبو نداء العاطفة تدريجيًّا ويرتفع نداء العقل فيصلُ الإنسان إلى الحكم الصحيح العادل .
وفي هذه الأخبار مواقف رائعة لأبي بكر رضي الله عنه,حيث وقف دون النبي صلى الله عليه وسلم ودافع الناس عنه وحماه بنفسه حتى انصرف عنه أعداؤه , وفيها بيان لشدة الأذى الذي تحمله في سبيل ذلك,وهذا دليل على قوة إيمانه وشجاعته النادرة واستهانته بنفسه في سبيل الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي أحد هذه الأخبار شهادة على شجاعة أبي بكر البالغة يقدمها بطل كبير من أبطال الإسلام هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لم تنتكس له راية ولم يقف له أحد في موقف.
وإنما يدرك فضل أهل الفضل من شاركهم في هذا الفضل , حيث شهد له بالإقدام على مدافعة المشركين وإنقاذ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم بينما لم يجرؤ غيره على ذلك , وإن هذا الموقف بقدر مايصور شجاعة أبي بكر وتضحيته فإنه يصور فظاعة المشركين وعنفهم في الانتقام وقوة شخصياتهم التي أوقفت المؤمنين حتى عن الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإن من مزايا هذه الشهادة الكريمة أنها تم إعلانها على ملأ من الناس, وفي وقت بدأ فيه بعض الموتورين والجهال بالغضِّ من شأن بعض كبار الصحابة , فأراد علي رضي الله عنه أن يعدِّل الموازين, وأن ينبئ الناس بأن محبتهم له يجب أن لاتطغى بحيث يترتب عليها التهوين من شأن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين .
وإننا حين نبرز حق أبي بكر وفضله كما أعلنه علي رضي الله عنهما فإننا نقدر لعلي هذا الموقف الكريم المشتمل على التواضع الجمِّ والوفاء الكبير لأخوة له مضوا على درب الجهاد والدعوة.
وفي الخبر الأخير بيان لموقف عثمان رضي الله عنه حيث دفع أبا جهل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوقعه على الأرض . مع ماكان يتمتع به أبو جهل من مكانة عالية بين قومه , فرضي الله عن هؤلاء الصحابة الذين صمدوا - مع قلتهم - لأهل الباطل وهم في أوج عزهم وكثرتهم .
---------
([1] ) سيرة ابن هشام 1/289 , السير والمغازي /229 .
وأخرج الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق وذكره مثله - مسند أحمد 2/218 _ .(4/332)
وذكره الهيثمي وقال : وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح - مجمع الزوائد 6/16 -.
وأخرج الإمام البخاري نحوه مختصرًا - صحيح البخاري رقم 3678 , كتاب فضائل الصحابة - .
([2] ) مجمع الزوائد 6/16 .
([3] ) أي إن شعر رأسه مفرق إلى غدائر .
([4] ) مسند الحميدي 1/155 رقم 324 , وعزاه الحافظ ابن حجر إلى أبي يعلى والحميدي - المطالب العاليه4/192, رقم 4279 - وحسن إسناده - فتح الباري 7/169- ووثق البوصيري رجاله - هامش المطالب العالية 4/193 - .
([5] ) فتح الباري 7/169 .
([6] ) مجمع الزوائد 6/17 .
وأخرجه الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه وقال : صحيح على شرط مسلم , وأقره الذهبي - المستدرك3/67.
([7] ) الأفكل بفتح الهمزة وسكون الفاء الرعدة - القاموس المحيط - .
([8] ) عيون الأثر 1/103 .
([9] ) فتح الباري 7/168 .
([10] ) مسند أحمد 3/113 .
وذكره الحافظ ابن كثير وقال : هذا إسناد على شرط مسلم - البداية والنهاية 6/128 - 129 - وصححه الحافظ الذهبي - تاريخ الإسلام / السيرة 130 - .
=============
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى (2)
5 - أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وإساف ونائلة : لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله .
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك , فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك .
فقال : يابنية أريني وضوءًا فتوضأ , ثم دخل عليهم المسجد , فلما رأوه قالوا : ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدروهم وعُقِروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه رجل .
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه , ثم حصبهم , فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا ([1]) .
في هذا الخبر بلغ الملأ من قريش القمة في التحجر الفكري حيث ضاعفوا من تهديدهم ومحاولتهم القضاء على دعوة الإسلام بالقوة , وذلك بالقضاء على داعيها الأول صلى الله عليه وسلم .
ولكننا نجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل ذلك إصرارًا أكيدا على تبليغ دعوته مهما تكن الحواجز والعوائق .
ونجد في هذا الخبر مثلا على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة , حيث علم من ابنته فاطمة رضي الله عنها عن قعود المشركين له وتهديدهم إياه , ومع ذلك خرج من بيته منفردا ودخل عليهم وهم مجتمعون , وإن هذا الإقدام العظيم مع احتمال وقوع الضرر البالغ يُعدُّ قمة في التضحية والبذل من أجل دعوة الإسلام .
لقد كان الشيء الذي يهيمن على مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم هو التفكير في دعوته وبذل كل الطاقة في محاولة الوصول إلى قلوب الناس , ولقد كان أمر حماية النفس وسلامتها من التعرض للضرر شيئا ثانويًّا لايأخذ له الرسول صلى الله عليه وسلم أي اعتبار إذا تعارض مع الإقدام على تبليغ الدعوة .
6 - وأخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت , وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس , فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعُه في كتفي محمد إذا سجد , فانبعث أشقى القوم - وهو عقبة بن أبي معيط كما جاء مصرحا به في رواية مسلم الثانية - فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه .
قال : فاستضحكوا , وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر , لو كان لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم , والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد مايرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة , فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه , ثم أقبلت عليهم تشتمهم .
فلما قضي النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا , وإذا سأل سأل ثلاثا , ثم قال " اللهم عليك بقريش - ثلاث مرات " فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته , ثم قال : " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عتبة وأمية بن خلف , وعقبة بن أبي معيط " .
قال : وذكر السابع ولم أحفظه - فو الذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر , ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر ([2]) .
في هذه الرواية وما في معناها أمثلة للأذى الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد الكفار في مكة مما يُقصد به الإهانة المادية بإلحاق الأذى الجسماني , والمعنوية بتحطيم المشاعر وإغاظة النفوس, وهي أبلغ من الحسية .
هذا وإن ماجرى من عقبة بن أبي معيط يُعدُّ اعتداء مهينا على أعظم رجل عرفه التاريخ, وهو يؤدي شعائر دينه , مما يدل على تدني مستوى أهل الباطل في معاملة أهل الحق , وهذا علامة على توغل عداوتهم وإفلاسهم في مجال الفكر والحجة البيانية , حيث استخدموا أيديهم وقوتهم المادية .(4/333)
وإن حقد الكفار الدفين يجعلهم يتصرفون بمقتضى عواطفهم لابمقتضى عقولهم , حيث إنهم لو راجعوا أنفسهم بعد ذلك لأنكروا عملهم , بينما أهل الحق لاينزلون أبدا إلى هذا المستوى الهابط.
أما موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه مثال لشدة الإرهاب الذي كان يواجهه المستضعفون في مكة , الذين لم تكن لهم عشائر تحميهم .
فالصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما يحبون أنفسهم ولكن ابن مسعود كان على يقين من أنه لن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو جثة هامدة أو مايشبه ذلك , فلن يتمكن من تخليصه من الأذى .
ومن هذا الخبر نفهم أن للنساء مهمة يقمن بها لايستطيع الرجال أحيانًا أن يقوموا بها فقد استطاعت فاطمة رضي الله عنها أن تزيل الأذى عن أبيها صلى الله عليه وسلم وأن تسب الملأ من قريش دون أن تتعرض للأذى لأن تقاليد العرب تمنعهم من الاعتداء على النساء .
وهكذا في كل زمن ينبغي للدعاة أن يستفيدوا من دور المرأة في الأمور التي تحسنها وقد لايدركها الرجال مستفيدين من الأعراف الاجتماعية التي تخدمهم .
وحنيما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعداء خافوا من دعوته , وهكذا الكفار يخافون من عاقبة الدعاء في الدنيا فقط , حيث إنهم لايؤمنون بالآخرة , فهل يتنبه بعض المسلمين الذين لايرتدعون عن ظلم الناس إلا خوفًا من استجابة دعائهم وحلول العقوبة الدنيوية غافلين عن مواقف الحساب يوم القيامة ؟!
ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تأثر تأثرًا كبيرًا مما حصل له ما جاء في رواية أخرى لهذا الخبر وفيها " ثم خرج - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المسجد فلقيه أبو البَخْتَري بسوط يتخصر به فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلِّ عني , فقال: علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ماشأنك فلقد أصابك شيء , فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مُخَلٍّ عنه أخبره فقال: إن أبا جهل أمر فطُرِح عليّ فرث , فقال أبو البختري : هلمَّ إلى المسجد .
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطُرح عليه الفرث ؟ قال: نعم , قال : فرفع السوط فضرب به رأسه, قال : فثار الرجال بعضها إلى بعض , قال وصاح أبو جهل , ويْحكم هي له , إنما أراد محمد أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه .
ذكره الهيثمي وقال : رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره ([3]) .
وأبو البَخْتَري هو ابن هشام بن الحارث بن أسد , وأمه من بني هاشم , وكان من فريق المعتدلين من الكفار الذي تميزوا بوضوح بعد نقض صحيفة المقاطعة وكان من الذين نادوا بنقضها.
7 - وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عن هبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام وتجهزتُ معهما فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إليه ([4]) فلأوذينه في ربه فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يامحمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك" .
ثم انصرف عنه فرجع إليه ([5]) فقال : أي بني ماقلت له ؟ قال : كفرت بإلهه الذي يعبد. قال فماذا قال لك : قال , قال : اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك , فقال : أي بني والله ما آمن عليك دعوة محمد .
قال : فسرنا حتى نزلنا الشراة وهى مأسدة فنزلنا إلى صومعة راهب, فقال: يامعشر العرب ماأنزلكم هذه البلاد وإنها مسرح الضيغم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم حقي, قلنا: أجل يا أبا لهب فقال : إن محمدًا قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا حوله , فبينما نحن حوله وأبو لهب معنا أسفل , وبات هو فوق المتاع فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد مايريد تقبض ثم وثب فإذا هو فوق المتاع , فجاء الأسد فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففضخ رأسه , فقال: سيفي ياكلب , لم يقدر على غير ذلك, ووثبنا فانطلق الأسد وقد فضخ رأسه فقال له أبو لهب : قد عرفت والله ماكان لينفلت من دعوة محمد ([6]) .
وهكذا استجاب الله تعالى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث على عتبة بن أبي لهب الأسد الذي أصبح جنديًّا من جنود الدفاع عن الحق فأهلكه , ولم تُجْدِ كل الاحتياطات الامنية التي أحاط بها أبو لهب ابنه .
ومن الغريب في الأمر أن أولئك الكفار يوقنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة ومع ذلك يستمرون في مقاومته وإيذائه , ولايحملهم ذلك على الإيمان به والاستجابة لدعوته , وهذه صورة من صور اتباع الهوى المنحرف , حيث يكون الحق واضحا مثل الشمس فيحيد أصحاب الهوى المنحرف عن اتباعه .(4/334)
ولقد حمى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى من أذى الكفار كما أخرج الإمام مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال أبو جهل : هل يعفِّر محمد وجه بين أظهركم ([7]) ؟ قال: فقيل : نعم , فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته - أو لأعفرن وجهه في التراب - قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي , زعم ليطأ على رقبته , قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه , قال: فقيل له : مالك ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا .
قال : فأنزل الله عز وجل - لاندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه-(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى)(أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى)(العلق : 9 )(عَبْداً إِذَا صَلَّى)(أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى)(أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)(أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ([8])(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)(كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ)(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)(فَلْيَدْعُ نَادِيَه)(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)(كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [ العلق : 6 - 19] ([9]) .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أبو بكر الحميدي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد : 1 )
أقبلت العوراء أم جميل ([10]) ولها ولولة ([11]) وفي يدها فهر ([12]) وهي تقول :
مذمما أبينا ([13]) *** ودينه قلينا ([14]) *** وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد , ثم قرأ قرآنًا اعتصم به - كما قال - وقرأ
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً) (الإسراء : 45 )
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر , ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : يا أبا بكر إني أُخبرتُ أن صاحبك هجاني , فقال: لاورب هذا البيت ماهجاك , قال : فولَّت وهي تقول : قد علمَتْ قريش أني بنت سيدها ([15]) .
ومن أمثلة ذلك ماسبق من خبر أبي جهل حينما هدد بفضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر فمنعه الله تعالى منه .
ولكن الله تعالى يمكِّن الكفار أحيانًا - كما في الخبر السابق - من إيصال الأذى لرسوله صلى الله عليه وسلم , وذلك لرفع ذكره في العالمين , وليكون قدوة لأتباعه المؤمنين في الرضا بقضاء الله تعالى , والصبر الجميل على الأذى .
وقد يمكِّن الله تعالى أهل الباطل من أهل الحق برهة من الزمن فيقومون بالتنكيل بأهل الحق ومحاولة إسكات أصواتهم , ولكن سرعان ماينهار بناؤهم أمام تماسك أهل الحق وصدق تمثيلهم لدينهم , كما قال الله (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) (آل عمران : 111 )
---------------
([1] ) الفتح الرباني 20/223 .
وذكره الهيثمي وقال : رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح - مجمع الزوائد 8/228 .
وأخرجه أبو نعيم من طريق ابن عباس رضي الله عنهما دلائل النبوة لأبي نعيم /60 .
وأخرجه الحاكم بنحوه وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه - المستدرك 3/157 .
([2] ) صحيح مسلم رقم 1794 , كتاب الجهاد , صحيح البخاري رقم 2934 كتاب الجهاد
([3] ) مجمع الزوائد 6/18 .
([4] ) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم .
([5] ) يعنى إلى أبيه .
([6] ) دلائل النبوة لأبي نعيم /162 .
وأخرجه أيضًا الحاكم وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي - المستدرك 2/539 - وحسن إسناد الحاكم الحافظ ابن حجر - فتح الباري 4/39 - .
([7] ) يعني هل يلصق وجهه بالعفر وهو التراب ويعني بذلك السجود .
([8] ) يعنى أبا جهل .
([9] ) صحيح مسلم , كتاب المنافقين /رقم 2797 ص 2154 .
([10] ) هي امرأة أبي لهب المذكورة في السورة .
([11] ) أي عويل .
([12] ) أي حجر .
([13] ) تريد محمدًا صلى الله عليه وسلم , وهكذا كان الكفار يسمونه على سبيل السخرية .
([14] ) أي أبغضنا .
([15] ) مسند الحميدي 1/153 / 154 , رقم 323 .
وأخرجه أبو عبد الله الحاكم من طريق الحميدي , وذكر مثله , وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي - المستدرك 2/361 .
=============
مواقف من صبر الصحابة على الأذى (1)
لقد كانت مواجهة زعماء قريش لدعوة الإسلام عنيفة متواصلة . ولقد ساءهم كثيرًا أن دخل في الإسلام عدد من أشرافهم وأبنائهم , فحاولوا فتنتهم بالتأليف أولاً حيث أغروهم بالأموال والجاه إذا هم تركوا دينهم , فلم ينجحوا معهم في ذلك فلجؤوا إلى محاولة حرمانهم من الأموال والمتاع فلم يثنهم ذلك عن عزمهم على التمسك بدينهم الحنيف .(4/335)
عند ذلك تحول الكفار إلى فتنة التخويف حيث قاموا بإيذاء المسلمين وتعذيبهم , وقد يبدؤون بفتنة الترهيب قبل المرور بفتنة الترغيب لإدراكهم بأن المسلمين ليسوا طلاب دنيا وأن أي محاولة في ترغيبهم ستبوء بالفشل , أو انطلاقًا من شدة حنقهم على الإسلام ودعاته .
وقد مر بهذه الفتنة أكثر المسلمين سواء في ذلك الأغنياء والفقراء والأحرار والعبيد.
ومن أمثلة ذلك ماذكره ابن سعد من رواية محمد بن عمر الواقدي بإسناده إلى إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة قال : قال طلحة بن عبيد الله : حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول : سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم ؟ قال طلحة : قلت : نعم أنا . فقال : هل ظهر أحمد بعد ؟ قلت ومن أحمد ؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطلب , هذا شهره الذي يخرج فيه, وهو آخر الأنبياء ومخرجه من الحرم , ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ فإياك أن تسبق إليه.
قال طلحة : فوقع في قلبي ما قال , فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة , فقلت: هل كان من حدث ؟ قالوا نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ , وقد اتبعه ابن أبي قحافة , قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت : أتَبعت هذا الرجل ؟ قال : نعم فانطلق إليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق, فأخبره طلحة بما قال الراهب , فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة , وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك , فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد , ولم يمنعهما بنو تيم , وكان نوفل بن خويلد يُدْعَى أسد قريش فلذلك سُمِّي أبو بكر وطلحة القرينين .
ورواه الحاكم والبيهقي من طريق الواقدي بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير والذهبي من هذا الطريق , وسكت هؤلاء الأئمة عنه ([1]) .
وهذه الرواية من طريق الواقدي وقد حكم علماء الحديث عليه بالترك ولكن العلماء اعتمدوا رواياته في السيرة والمغازي , ويكفي إقرار هؤلاء الأئمة : ابن سعد والحاكم والبيهقي وابن كثير والذهبي لهذه الرواية .
ومن ذلك ماجرى للزبير بن العوام رضي الله عنه من تعذيب عمه له كما أخرج الحاكم عن أبي الأسود عن عروة قال : أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول : ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا .
وسكت عنه الحاكم والذهبي ([2]) .
وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أنه مرسل ([3]) .
وكذلك ماجرى لعثمان بن عفان من تعذيب عمه له كما أخرج ابن سعد بإسناده عن محمد بن إبراهيم بن حارث التيمي عن أبيه قال : لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحَكَم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا وقال : أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث ؟ والله لا أحلك أبدًا حتى تدع ماأنت عليه من هذا الدين , فقال عثمان : والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه , فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه ([4]) .
وهكذا جرى التعذيب والإذلال لهؤلاء الكبراء المعروفين في قبيلة قريش من أصحاب النسب الرفيع , ولم يردوا على قومهم الذين آذوهم لأنهم كانوا في المرحلة الأولى التي أمرهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى وعدم رد الاعتداء بمثله .
ومن أمثلة الثبات على الدين رغم التعرض للمحن ماجرى لسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه مع أمه , وذلك فيما أخرجه أبو يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي قال : إن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت في هذه الآية
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان :15]
كنت رجلاً برًّا بأمي فلما أسلمت قالت : ياسعد ماهذا الذي أراك قد أحدثت ؟ لَتَدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيَّر بي فيقال ياقاتل أمه , قلت : يا أُمَّه لاتفعلي فإني لا أدع ديني هذا لشيء , فمكثت يومًا وليلة لاتأكل , فأصبحت قد جهدت,فمكثت يومًا آخر وليلة قد اشتد جهدها, فلما رأيت ذلك قلت يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ماتركت ديني هذا لشيء فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي,فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية([5]).
وأخرجه الإمام مسلم بنحوه ضمن حديث طويل ([6]) .
وقد ظهر بهذا إيمان سعد القوي حيث ثبت على دينه ولم يخضع لهذا الابتلاء الذي جعله في خيار بين طاعة الله وطاعة أمه , ففضل طاعة الله جل وعلا .
أما المستضعفون منهم كالموالي فإنهم تعرضوا لأذًى شديد متواصل , واتفق زعماء المشركين على الاستمرار في إيذائهم حتى يظفروا بمن يرجع منهم عن دينه فيكون ذلك نصرًا لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/336)
قال ابن إسحاق : ثم إنهم عَدَوا على مَنْ أسلم , واتّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه , فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين , فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش, وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر , من استضعفوا منهم , يفتنونهم عن دينهم , فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يَصْلُبُ لهم , ويعصمه الله منهم .
وكان بلال , مولى أبي بكر رضي الله عنهما , لبعض بني جمح , مُولَّدا من مولديهم , وهو بلال بن رباح , وكان اسمه أُمّه حمامة , وكان صادق الإسلام , طاهر القلب , وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمَح يخرجه إذا حَميت الظهيرة , فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره , ثم يقول له : لا والله لاتزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد , وتعبد اللات والعزى , فيقول وهو في ذلك البلاء : أحَد أحَد ([7]) .
وأخرج الإمام أحمد والحاكم خبر تعذيب بلال وغيره من المستضعفين , وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي . وكذلك صححه الذهبي في تاريخ الإسلام ([8]) .
وقد ذكر ابن إسحاق رحمه الله أن أبا بكر مرَّ به وهو يعذب فاشتراه من أمية بن خلف الجمحي ثم أعتقه لوجه الله تعالى , وذكر أنه أعتق ستة آخرين من المعذبين وهم : عامر بن فهيرة, وأم عبيس , وزنِّيرة , والنهدية وابنتها وجارية بني مؤمِّل ([9]) .
وأخرج الإمام البيهقي بإسناده عن يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه : أن أبا بكر أعتق ممن كان يُعذَّب في الله سبعة , فذكر منهم "الزِّنِّيرة" قال : فذهب بصرها وكانت ممن يعذب في الله على الإسلام , فتأبى إلا الإسلام , فقال المشركون : ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى, فقالت : كلا والله ماهو كذلك , فرد الله عليها بصرها ([10]) .
وفي هذا الخبر دلالة على قوة إيمان الصحابة ووضوح عقيدة التوحيد عندهم وأن ذلك كان حتى على مستوى العامة منهم .
وإن ما أكرم الله تعالى به تلك المرأة المؤمنة من رد بصرها إليها يُعدُّ إرغامًا للكافرين حيث كانوا يعتقدون أن أصنامهم تضر وتنفع من دون الله تعالى .
وهكذا كان أبو بكر ينفق ماله لإنقاذ المسلمين المستضعفين من أيدي الكافرين الطغاة ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة .
وقد أثنى الله تعالى على هذا العمل الصالح بآيات من سورة (الليل) وذلك كما أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق قال حدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : أراك تعتق رقابًا ضعافًا فلو أنك إذ فعلت مافعلت أعتقت رجالاً جُلْدًا يمنعونك ويقومون دونك , فقال أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد ما أريد: لِمَا نزلت هذه الآيات فيه
(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19)إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) [الليل:5-21] .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ([11]) .
وذكره السيوطي ونسبه إلى ابن جرير وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير وذكر نحوه وقال فيه : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى...) الآيات ([12])
وفي هذه المحاورة بين أبي بكر وأبيه ندرك لونًا من ألوان الفرق بين نظرة أهل الجاهلية ونظرة المسلمين بالنسبة لوجوه إنفاق المال وبذل المعروف , فوالد أبي بكر ينظر إلى مستقبل الحياة الدنيا فيشير على ولده بأن يضع المعروف فيمن يستطيعون نفعه في مستقبل حياته , وهذا مبلغ علمه, فهو لايؤمن بالآخرة , وبالتالي فإنه لايتصور معروفًا يُبذل في الدنيا لَيجني باذله نفعه في الآخرة , ولهذا فإن بذل المعروف في ضعاف الناس الذين لايرجو نفعهم في الدنيا يعدُّ في نظره ونظر أهل الجاهلية من ضعف الرأي وضآلة التفكير , بينما يجيبه أبو بكر بقوله :"يا أبت إنما أريد ماأريد" فإذا كان أهل الجاهلية يريدون قبض ثمن معروفهم في الدنيا فإنه لايريد ذلك , وإنما يريده في الحياة الآخرة طلبًا لرضوان الله تعالى والدرجات العُلَى في الجنة .
وحينما يُحشر الخلائق يوم القيامة وتوزن الأعمال ويكون الحساب يذكر العاملون للدنيا فقط أنهم قد خسروا كل شيء , ويوقنون بأن الذين عملوا للآخرة كانوا أكمل عقلاً وأسد رأيًا منهم .(4/337)
وإنه ليشبه عمل هؤلاء الذين يعملون لدنيا هم مايقوم به بعض المسؤولين من المسلمين الذين يقدمون المعروف لكبار الناس ممن يرجون نفعهم في الحياة الدنيا ولايريدون ببذل المعروف وجه الله تعالى والدار الآخرة . بينما يقبضون معروفهم عن ضعفاء الناس الذين لايرجون منهم نفعًا دنيويًّا , وإن كان هؤلاء يختلفون عن أهل الجاهلية بكونهم مسلمين ولهم أعمال صالحة أخرى .
إن الذي ينظر في بذل المعروف إلى الكسب الأخروي لايفرق في ذلك بين كبراء الناس وضعفائهم , ولا بين أصحاب المسؤولية ومن هم خلْوٌ منها لأنه لاينتظر منهم وهو يبذل لهم المعروف أن يبادلوه بمثله وإنما ينتظر الأجر والرفعة في الآخرة , وذلك هو الفلاح الأكبر .
ومما ينبغي التنبيه إليه أن والد أبي بكر قد أسلم يوم فتح مكة رضي الله عنهما .
وممن تعرض للأذى عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم .
قال ابن إسحاق رحمه الله : وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وأبيه وأمه - وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة , فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول - فيما بلغني - صبرًا آل ياسر موعدكم الجنة , فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام ([13]) .
وأخرجه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي ([14]) .
وذكره الهيثمي وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات ([15]) .
وقد بقيت آثار التعذيب على ظهر عمار بعد ذلك كما روى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : أخبرني من رأى عمار بن ياسر متجردًا في سراويل , قال : ونظرت إلى ظهره فإذا فيه حَبَط فقلت : ما هذا ؟ قال: هذا ماكانت قريش تعذبني في رمضاء مكة ([16]) .
وممن تعرضوا للأذى خباب بن الأرَتّ رضي الله عنه , ومن ألوان هذا العذاب ما أخرجه أبو نعيم عن الشعبي قال : سأل عمر خبابًا عما لقي من المشركين , فقال خباب : يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري , فقال عمر : مارأيت كاليوم , قال : أوقدوا لي نارًا فما أطفأها إلا ودك ظهري([17])
وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي ليلى الكندي قال : جاء خباب إلى عمر فقال: ادْنُ فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار , فجعل خباب يريه آثارًا بظهره مما عذبه المشركون .
قال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح ([18]) .
وإنما ذكر عمر عمارًا لاشتراكه مع خباب في التعذيب , والرواية الأولى تبين أن خبابًا أظهر آثار التعذيب بعدما سأله أمير المؤمنين عمر عن ذلك رضي الله عنهم أجمعين .
وأخرج الإمام البخاري بسنده عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة له في ظل الكعبة , فقلنا : ألا تستنصر لنا , ألا تدعو لنا ؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فَيُجَاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه , والله لَيتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضْرَمَوت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ([19]) .
ومن هذه النماذج العالية نعرف كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يضحون بأنفسهم في سبيل هذا الدين ويتحملون أنواع الأذى في سبيل إظهار دعوتهم , حتى ضربوا بذلك أروع الأمثلة لمن جاء بعدهم في الصبر والتضحية , وتقديم مصلحة الدعوة الإسلامية على المصالح الذاتية .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " صبرًا آل ياسر موعدكم الجنة " تحديد للهدف العالي الذي يجب أن يسعى له كل مسلم , فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَعدْهم بقصور الدنيا وبساتينها ونعيمها مع ماكان يعلمه بوحي من الله تعالى من غلبة هذا الدين وانتصار المسلمين على أمم الأرض في المستقبل , لأن هذا ليس هو الهدف السامي الذي شرع الله الإسلام من أجله إنما الهدف السامي هو الذي أثنى الله به جل وعلا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) [الفتح :من 29] وهو ماوُعد به آل ياسر في هذا الحديث لأن المراد بالفضل في الآية الجنة .
إنه لو كان الوعد بمتاع الحياة الدنيا الزائل لما هانت على هؤلاء أنفسهم لأن هذا الهدف يستدعي استبقاءهم لأنفسهم حتى يظفروا به , ولما وُجد الشهداء في سبيل الله تعالى إلا قليلاً ولما حصل النصر والتمكين في الأرض للمسلمين .
إن الإسلام يشد المسلمين إلى الآخرة لتهون عليهم الحياة الدنيا , فإذا عرفوا هذا الهدف وطبقوه انتصروا على أعدائهم لأن وصولهم إلى هذا الهدف يستدعي تسابقهم إلى الموت في سبيل الله تعالى , أما أعداؤهم فإن أهدافهم دنيوية قريبة وإن الوصول إليها يستدعي تنافسهم على البقاء, والمنطق الطبيعي في ذلك أن يحاول كل واحد منهم أن يدرأ الخطر عن نفسه ويتقي بغيره , بينما المنطق الطبيعي بالنسبة للمسلمين الذين يعون الهدف السامي أن يفدي كل واحد منهم إخوانه بنفسه ليسبقهم على الوصول إلى الهدف .(4/338)
ومن هنا كان المسلمون الحقيقيون المدركون لأهداف دينهم المطبقون لمناهجه لايمكن أن يُغلبوا بشكل نهائي وإنما قد يصابون بانتكاسات مؤقتة بسبب أخطاء يرتكبونها ثم يعودون لمحاولة بلوغ الأهداف السامية , كما هو الحال في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
---------------
(1) طبقات ابن سعد 3/214 , المستدرك 3/369 , دلائل النبوة للبيهقي 2/166 , البداية والنهاية 3/28 , تاريخ الإسلام / السيرة / 139 .
(2) المستدرك 3/359 - 360 .
(3) مجمع الزوائد 9/151 .
(4) طبقات ابن سعد 3/55 .
(5)الدر المنثور 5/165 .
(6) صحيح مسلم , فضائل الصحابة 1877 رقم 1748 .
(7)سيرة ابن هشام 1/324 - 325 .
(8) مسند أحمد 1/404 , المستدرك 3/284 , تاريخ الإسلام / السيرة / 217 .
(9) سيرة ابن هشام 1/329 - 326 .
(10)دلائل النبوة للبيهقي 2/282 .
(11) المستدرك 2/525 .
(12) الدر المنثور 6/358 .
(13)سيرة ابن هشام 1/327 .
(14) المستدرك 3/388 .
(15) مجمع الزوائد 9/293 .
(16) سبل الهدى والرشاد 2/360 .
(17) الحلية 1/143 - 144 .
(18) سنن ابن ماجه / المقدمة رقم 153 .
(19)صحيح البخاري رقم 6943 (الفتح 12/315 ) .
============
مواقف من صبر الصحابة على الأذى(2)
لقد تنوعت وسائل الأذى من الكفار للمسلمين وكانوا يعاملون كل مسلم حسب مكانته الاجتماعية وعمله , وفي ذلك يقول ابن إسحاق رحمه الله : وكان أبو جهل الفاسق يغري بهم- يعني بالمسلمين - في رجال من قريش , إذا سمع بالرجل قد أسلم , له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه, وقال : تركت دين أبيك وهو خير منك , لَنُسفِّهن حلمك , ولنُفَيِّلنَّ رأيك ([1]) , ولنَضَعَنَّ شرفك. وإن كان تاجرًا قال: والله لنُكَسِّدَنَّ تجارتك , ولنهلكن مالك , وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به ([2])
وهكذا يقف الكفار في مواجهة المسلمين فيقومون بتشويه سمعتهم وإسقاط مكانتهم في المجتمع بكل الطرق التي يرونها مؤثرة , وهم لعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر لايتورعون عن مأثم ولايخشون عقوبة على أعمالهم السيئة , فلذلك يبيحون لأنفسهم الكذب والتزوير , ويضللون الرأي العام بأقوال وأخبار مختلقة , يقصدون منها إضعاف معنوية المسلمين .
ومن كان ماله من المسلمين يقوم على التجارة ونحوها مما يقوم على التعامل مع الآخرين فإنهم يحاصرونه ويشوهون سمعته التجارية ويضعون العراقيل في وجهه حتى يفلس في تجارته .
هكذا شأن الكفار والمنافقين في حربهم مع المؤمنين في كل زمن , وقد لايملك المسلمون من وسائل المقاومة إلا الصبر والزهد في الدنيا وانتظار الفرج , فإذا تحققت فيهم هذه الصفات كما توافرت لدى الصحابة رضي الله عنهم فإنهم جديرون بنصر الله تعالى والتمكين في الأرض .
هذا ومما استعمله الكفار ضد المسلمين من الأذى جحود حقوقهم المالية حتى يكفروا بالإسلام, ومن ذلك ماجاء في رواية أخرجها الإمام البخاري رحمه الله من حديث خباب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقًّا لي عنده , فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم , فقلت : لا حتى تموت ثم تبعث , قال: وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت: نعم , قال: إن لي هناك مالاً وولدًا فأقضيك , فنزلت هذه الآية (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) ([3]) .
وقول خباب " لا حتى تموت ثم تبعث " ليس على ظاهره بل المراد منه تبكيت ذلك الكافر, يقول الحافظ ابن حجر في ذلك : مفهومه أنه يكفر حينئذ - يعني بعد البعث - لكنه لم يُرد ذلك لأن الكفر حينئذ لايتصور , فكأنه قال : لا أكفر أبدًا , والنكتة في تعبيره بالبعث تعيير العاص بأنه لايؤمن به ([4]) , ويحتمل أنه أراد تهديده بذلك .
هذا ومما يلاحظ من الأخبار السابقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنع المسلمين آنذاك من الرد على عدوان الأعداء ويأمرهم بالصبر على الأذى لأن وضعهم لم يكن يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم بالقوة , ولاشك أن وراء أمرهم بالصبر حكَمًا عظيمة .
ولقد حاولت أن ألتمس شيئًا من هذه الحكم , ولكني وجدت أن ماسطره الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى أبلغ وأشمل مما كتبته بكثير فرأيت اقتباس ماكتبه في هذا الموضوع لأهميته , يقول رحمه الله تعالى :(4/339)
أما حكمة هذا فلسنا في حلٍّ من الجزم بها , لأننا حينئذ نتألَّى على الله مالم يبين لنا من حكمة, ونفرض على أوامره أسبابًا وعللا , قد لاتكون هي الأسباب والعلل الحقيقية , أو قد تكون ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها , ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة .. وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف , أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف, أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف , مما يدركه عقله ويحسن فيه , فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولايجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله- بأن ما رآه هُوَ حكمةً , هو الحكمةُ التي أرادها الله .. نصا .. ,ليس وراءها شيء , وليس من دونها شيء ! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى مابين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة .. نذكر مايتراءى لنا من حكمة وسبب .. على أنه مجرد احتمال .. وندع ماوراءه لله . لانفرض على أمره أسبابًا وعللا , لايعلمها إلا هو .. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب .. اجتهادية .. تخطيئ وتصيب . وتنقص وتزيد . ولانبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان .
"أ" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد , في بيئة معينة , لقوم معينين , وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات , تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه , ويتجرد من ذاته , ولاتعود ذاته ولا من يلوذون به , محور الحياة في نظره, ودافع الحركة في حياته .. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه , فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته .. وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظمًا له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته , ولايتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي , لإنشاء "المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة , المترقي المتحضر , غير الهمجي أو القبلي .
"ب" وربما كان ذلك أيضًا , لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش , ذات العنجهية والشرف , والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة , كثارات العرب المعروفة , التي أثارت حرب داحس والغبراء , وحرب البسوس - أعوامًا طويلة , تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام , فلا تهدأ بعد ذلك أبدا . ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية , وهو في مبدئه فلا تذكر أبدًا !
"ج" وربما كان ذلك أيضًا , اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة , هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد , يعذبونه هم ويفتنونه ويؤدبونه ! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم , في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمدا يفرق بين الوالد وولده , فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد , والمولى بقتل الولي .. في كل بيت وكل محلة ؟
"د" وربما كان ذلك أيضًا , لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم , ويعذبونهم ويؤذونهم , هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص , بل من قادته . ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ؟!
"هـ" وربما كان ذلك , أيضًا , لأن النخوة العربية , في بيئة قبلية , من عادتها أن تثور للمظلوم , الذي يحتمل الأذى , ولايتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعًا على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدَّغِنَّة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة , ورأى في ذلك عارًا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب, بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل , قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة , وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !(4/340)
"و" وربما كان ذلك أيضًا , لقلة عدد المسلمين حينذاك , وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة , حيث كانت القبائل تقف على الحياد , من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها , حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف .. ففي مثل هذه الحال قد تنتهي المعركة المحدودة , إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة , حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم , ويبقى الشرك , وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام , ولا وجد له كيان واقعي .. وهو دين جاء ليكون منهج حياة , وليكون نظامًا واقعيًّا عمليًّا للحياة .
"ز" في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة , لتجاوز هذه الاعتبارات كلها , والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائمًا - وقتها - ومحققا .. هذا الأمر الأساسي هو وجود الدعوة .. وجودها في شخص الداعية - صلى الله عليه وسلم - وشخصه في حماية سيوف بني هاشم , فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم , إذا هي امتدت يدها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان شخص الداعية من ثم محميًّا حماية كافية .. وكان الداعية يبلغ دعوته - إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي , ولايكتمها , ولايخفيها , ولايجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها, في ندوات قريش في الكعبة , ومن فوق جبل الصفا , وفي اجتماعات عامة .. ولايجرؤ أحد على سد فمه ! ولايجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله ! ولايجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله , يعلن فيه بعض حقيقة دينه , ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف . وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يُدْهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه , بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته , لم يدهن .. وعلى الجملة كان للدعوة وجودها الكامل , في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محروسًا بسيوف بني هاشم - وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة .. ومن ثم لم تكن هناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها , مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة ([5]) .
وربما كان من الحِكَم في ذلك أن يظهر للأعداء عظمة هذا الدين , وأنه هو الدين الحق لما يتمثل به أتباعه من الصبر الطويل على الأذى , والمقدرة الفائقة على ضبط النفس, حيث يتساءل الأعداء عن السر الكامن وراء الصبر والثبات , فلا يجدون إجابة على تساؤلاتهم إلا بالتفكير في هذا الدين العظيم الذي كان وراء هذا الصمود العجيب والصبر الجميل .
هذا وقد اضطر بعض المعذبين من الصحابة للاستجابة لفتنة الكفار ظاهرًا وموافقتهم على قول مايطلبونه منهم للتخلص من تعذيبهم , كما قال ابن إسحاق رحمه الله : وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال : قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب مايعذرون به في ترك دينهم ؟ قال: نعم والله , إن كانوا ليضربون أحدهم حتى مايقدر على أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به , حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ([6]) .
وهكذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يتعرضون في ذلك العهد لأنواع من التعذيب هي فوق احتمال البشر , مما حمل بعضهم مع قوة إيمانهم على موافقة المشركين ظاهرًا فيما ألزموهم بقوله مما يتنافى مع الإسلام .
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك المعذبين على اتقاء عذاب المشركين بإظهار مايريدون منهم , ومن أدلة ذلك ما أخرجه الإمام الطبري من حديث أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم ([7]) في بعض ماأرادوا , فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئنا بالإيمان , قال النبي صلى الله عليه وسلم فإن عادوا فعد.
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ([8]) [النحل :106] .
وهذا يعدُّ رخصة للمسلمين الذين يتعرضون للبلاء الشديد على يد الكفار , فمن ثبت وراغم الكفار كما فعل بلال فهو أفضل , ومن أخذ بالرخصة كما فعل عمار فإنه لا إثم عليه مادام قلبه مطمئنًا بالإيمان , ولله الحمد والفضل .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم " كيف تجد قلبك ؟ " دلالة على أهمية صيانة الفكر من أن يتطرق إليه شيء من الشبهات التي يثيرها الكفار .
إن هؤلاء المعذبين قد استطاع الكفار أن يثخنوا في أجسادهم وأن يُلجئوا بعضهم إلى قول مالا يعتقدون , ولكنهم لم يستطيعوا أبدا أن يهيمنوا على عقولهم وأفكارهم .(4/341)
إن الفكر حصن حصين وهبه الله تعالى للإنسان , فلا يستطيع البشر مهما أوتوا من قوة أن يطلعوا على أسراره وخفاياه , ولا أن يهيمنوا عليه فيغيروا من معتقده .
إن الطغاة الجبابرة يستطيعون أن يفعلوا في أجساد المؤمنين المعذبين ماشاؤوا وأن ينتزعوا من بعضهم مايريدون من اعترافات , ولكنهم لا يستطيعون أن يتحكموا في أفكارهم , وهذا من أبرز علامات الفشل والعجز , لأن تغيير الأفكار هو المقصود الأول من وراء ذلك التعذيب .
------------------
([1] ) يعني لنخطئن رأيك .
([2] ) السيرة النبوية لابن هشام 1/328 .
([3] ) صحيح البخاري التفسير , سورة مريم /3 رقم 4732 وتكملة الآيات : (أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا) (80) سورة مريم مريم / 77 - 80 .
([4] ) فتح الباري 8/430 .
([5] ) في ظلال القرآن 2/452 , سورة النساء /77 .
([6] ) سيرة ابن هشام 1/328 .
([7] ) في تفسير الطبري "باراهم" وأثبت مافي تفسير ابن كثير المنقول من الطبري لأنه هو الموافق لسياق الخبر - تفسير ابن كثير 2/637 .
([8] ) تفسير الطبري 14/182 .
================
بين الصبر والنصر
صالح بن محمد آل طالب
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - أيها المسلمون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]. من اتقى الله وقاه وكفاه وآواه، ومن كلّ كربٍ نجّاه. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنكم خُلقتم لأمر عظيم، {فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
أيّها المسلمون، لقد خلَق الله - تعالى - الجنَّ والإنس لعبادته وحدَه، وابتلاهم بحكمتِه فصاروا فرِيقين، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[التغابن: 2]. ولم يزلِ الشيطان يجتهِد في الإبرارِ بقسمه لإغواءِ بني آدم مجلِبًا عليهم بخَيله ورَجلِه ممتطِيًا شياطينَ الجنّ والإنس، وما بعث الله - تعالى - نبيًّا ولا رسولاً إلا عودِيَ وكذّب وأوذِيَ، وهذه سنّة الله - تعالى - الجارِية بحكمتِه في رسلِه وأنبيائه وفي أتباعِ الرّسل، من لدن نوحٍ - عليه السلام - وإلى يومِنا هذا، واقرأ في التنزيل العزيز قصَصَ الأنبياءِ وأتباعِهم، كلُّهم أوذِيَ وطورد، ومنهم من قتِلَ أو أُبعد. ألم يلقَ إبراهيم الخليل في النار؟! ألم يطارَد موسى وقومُه إلى فجاجِ البحار؟! ألم تقتل بنو إسرائيل أنبياءَ الله؟! ألم يجتهِدوا لقتل وصلبِ المسيح عيسى ابنِ مريم، فأنجاه الله ورفعَه إليه وآواه؟! ثم مَاذا لقي سيِّدُ الرسل وأشرَف الخلق محمّد؟! تمالَؤوا على قتلِه، ولحِقوه في دار هجرَته، وحاربوه، وقتَلوا أصحابه، وشجُّوه وكسروا رباعِيته، وخاضوا في عرضِه، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. وفي كلِّ هذه الأحوالِ تكون العاقبةُ الحسنى للمتَّقين، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
بل حتى لمّا أظهرَ الله - تعالى - نبيَّه محمّدًا جاءت جَحافلُ الروم من أقصى أراضِيها مِن غربِ شمال الأرض لتهدمَ الدين الفتيَّ في جزيرة العرب، والذي لم يحارِبهم ولم يدخُل أراضيهم. إنَّ النبيَّ حين تجهّز لغزوةِ تبوك لم يكن مبتدئًا بقتال بقدر ما كان مبتَدئا بالدّفاع، فما الذي أتى بالرومِ من أقصى أراضيهم لوأد الدين الجديد؟! إنه الطغيان والحِقد القديمُ والذي لا زال يتجدَّد على المسلمين إلى اليوم. وأتمَّ الله وعدَه لرسله وأتباعِهم حين نجَحوا في اجتيازِ المحن وأظهَرهم الله على أعدائهم.
ومِن لطائفِ تدبير الله أنَّ النبي لم يتجاوز حدودَ هذه الجزيرةِ حين كان يدافع عن دينهِ، ثم لم تمضِ ستُّ سنين حتى كان خليفته الفاروق - رضي الله عنه - يتسلّم مفاتيحَ بيت المقدس، ويصلي في المسجدِ الأقصى، ويأبَى البطارقة تسليمَ المفاتيح إلا للفاروق - رضي الله عنه -، ويعترِفون بوجود صفتِه في الكتب التي بين أيدِيهم، ويقِرّهم على أموالهم وأملاكهم، ويترك لهم كنائسَهم، ويطوِي عليهم كنفَ رحمة الإسلام وعَدله، ويشملهم بحمايتِه ورعايته.
ثم تدول الدوَل، ويفرِّط بعض المسلمين في عهد الله، فيضيع بيتُ المقدس، بل كثير من بلادِ المسلمين، بل عاثَ الأعداء في الدّماء والأموال والديارِ والتراب على طريقَةِ وحوشِ الغاب.
حكَمنا فكان العدلُ منّا سجيّةً *** فلما حَكمتُم سالَ بالدم أبطَحُ
وصدق الله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 8].(4/342)
عبادَ الله، ولم تواجِه أمّةٌ من الأمَم كما واجهت أمّة لإسلام، خصوصًا في العصر الحاضر، في زمنِ عولمة المبادئ والفكر وهيمنةِ القوّة على القِيَم، تهدَّد أمَمٌ بالذّوبان وشعوب بالضّياع، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
ولقد كانتِ المؤامرات في السّابق تُحَاك ضدَّ الإسلام وأهله، أمّا اليومَ فلا مؤامرات، بل هي حرب معلنةٌ تحرِّكها أحقاد الماضي وأطماعُ الحاضر والمستقبل، في حالٍ وصلت فيه أمّة الإسلام إلى مرحلةٍ واهنة، أصبحَ فيه الصراع صراعَ بقاء أو اضمحلال. وحالُ المسلمين اليوم ليسَ بحاجةٍ إلى شرح أو تصوير، والتباكي على واقع الأمة لن يجديَ شيئا، إنما المجدِي هو التفكير الجادّ في سببِه وعلاجه ودائِه ودوائه، ثم السعيُ الصادق المخلِص لإصلاح النفس والمجتمَع لإصلاحِ الأمة كلِّها.
أيّها المسلمون، إنَّ التنظيرَ للأمة ليس بالأمر الهيِّن، والتطبّب بعلمٍ وبلا علم في جسَد الأمة المثخَن ليس كلأً مباحًا لكلِّ أحد، ولقد خاض في لجّةِ هذا الأمر ألوفُ الأفراد والجماعات، كلُّهم يرى أنه الطبيب المداوِي، فمخطئٌ ومصيب، ومغرِب ومقارب، والحقُّ أنّ أمةً قامت برسالةٍ ذات معالم وحضارَة ذات مبادئ لن تنهَضَ من عثرتها ما لم تعُد لذات الرسالة وتترسَّم السننَ الإلهية والقواعد الربانيّة في قِيام الأمم وتعثُّرها ونهوض الدول وسقوطها، وكلُّ ذلك مبثوثٌ في القرآنِ العظيم.
أيّها المسلمون، لا يجادِل عاقلٌ في أثر الأعداءِ في تحطيم الأمة والنّيل منها والكيدِ لها والتربُّص بها، إلاّ أنَّ هذا في ميزانِ السنَن ليس هو السبَب الرئيس في الوضع التعِيس الذي وَصلت إليه كثيرٌ من أحوال المسلمين. إنَّ هنالك قانونًا إلهيًّا يجب نصبُه أمامَ العين: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
إنَّ الصّحابةَ الأبرارَ الذين يقدِّمون أعناقَهم وأرواحهم في سبيلِ الله ويقاتلون بجِوار رسولِ الله تحوَّل نصرُهم في غزوة أحُد إلى هزيمة؛ بسبَبِ مخالفة قلّةٍ منهم في أمرٍ تأوَّلوا فيه، فنزل الرماةُ من الجبل وقد نهاهم النبي عن النزولِ، لكنّهم ظنّوا المعركةَ قد انتهت. فهل تقيس الأمة اليومَ مخالفاتها بهذا المقياس؟! لقد صدق الله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. إنَّ سنَنَ الله لا تحابي أحدًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج: 40].
عبادَ الله، إن حرثَ الدنيا وعلومَها أمر مشتَرَك بين شعوبِ الأرض من شرقها لغربِها، لكنَّ رسالةَ هذه الأمة من نوعٍ آخر، لا قيام لها بدونه، ولا سعادةَ للبشرية إلا بهديِه، إنها رسالةُ السماء ودين الله الخاتم، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فهل قامت الأمّة اليومَ برسالتها حتى تستحقّ أن تقودَ العالم؟! إنَّ دين الإسلامِ ليس ضمانًا للآخرة فحسب، بل هو سببُ بقاء الأمّة في الأرض وإثبات هويتِها، وإلاّ فليست بشيء دونَه. ومِن خيانة الأمة أن تبردَ عاطفتها تجاه حقوق الله، وأن تجعلَ حبَّها وبغضها مرتبطًا بمصالحها لا بمبادِئها. وإنَّ الأعداءَ كَسبُوا معارِكَهم حين أفلح الغزوُ الثقافيّ في الإبحار بفئامٍ من الأمة بعيدًا عن دينهم، وتهوين قِيَمه ومثُلِه وأحكامِه أمام أعين أبنائِه، وحين أفلح في صنعِ جيلٍ يُقاد من غرائزه ويُغرَى بعبادةِ الحياة الدنيا وينسى ربَّه وآخرتَه.
عبادَ الله، لسنا أوّلَ أمةٍ ابتُلِيت وفُرِض عليها أن تكافحَ لتحيا كما تريد، وإنَّ الهزيمة تجيء من داخلِ النفس قبل أن تجِيء من ضغوطِ الأعداء. ولما أمَرَ الله بني إسرائيل بدخولِ الأرض المقدَّسة ووعدهم بالنصرِ إن هم دخلوا كما أمرَ أبوا وتعلَّلوا بقوّة العدوّ، فلم يستحقّوا دخولَها، بل كتب الله عليهم التّيهَ أربعين سنَة، حتى انقرَض الجيل الواهن الخامِل، ونشأَ جيلٌ جبَلته المعيشةُ بين الجبال أن يكون مثلَها في علوّ همّته وقوّة بأسه وثباتِه.
أيّها المسلمون، إنه يمكن تصوّرُ تضامنٍ إسلاميّ ناجح إذا التفَّ الرعاة والرعية حولَ كتاب الله وسنّة رسوله، وارتَقَى العقل إلى مستوَى الشمول في القرآنِ العظيم، وسارَ علَى هديِ الوحي. والعملُ للوحدة الإسلامية شرفٌ باذِخ ومجد شامخ، لم يفلِحِ الأعداء في النيلِ من الأمة إلا حين تفرَّقت وتمزَّقت. يجب على المسلمين أن يدرِكوا هذه الحقيقة، وأن يستضيئوا في نهضَتِهم بالوَحي، ويلتَزِموا شرائعَ الإسلام وشعائرَه، وعليهم مع ذلِك كلِّه أن لا يغفِلوا الأخذَ بالأسباب المادّيّة، والتي هي من سنَنِ الله في الكون، وأن يستفِيدوا من تجارِبِ الأمم حولَهم، وما أصلَحَ بعضَ جوانب دنياهم يمكِن أن يصلِحَ جوانبَ مِثلها من دنيانا.(4/343)
وثمّةَ جبهاتٌ يقتضيها شمولُ الإسلام تجِب مراعاتُها عند نُشدانِ الرّقيّ، أهمُّها جبهَةُ الأخلاق والسّلوك والتنمِية والعلم والتّعليم.
وأمامَ العامِلينَ المخلِصين لأمّتهم ميدانٌ رَحب للرقيِّ بأمّتهم ودفع السوء عنها، وإنَّ وعد الله حقٌّ آتٍ لا محالة، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفَعنا بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه وبعد: أيّها المسلمون، إنَّ مِنَ المبشِّرات والمحفِّزات أنَّ الأمّةَ مزوَّدَة بدينٍ عصِيٍّ على الفناء، له قدرةٌ على بعثِ الروح الهامِدَة وتجديدِ الأسمالِ البالية، وتِلك وعودُ لله في الكتابِ والسنة، وهي ما زالَت تستَشفي من سقامها، وتنتَقِل في مراحل العافيَة من طَورٍ إلى طور، وتحاول أن تستعيدَ قواها كلَّها، وتستأنفَ أداءَ رِسالتها الأولى، وأُرَاها بإذن الله بالغةً ما تحِبَّ.
ومع تفاقُم المحَن ترى في طيّاتِها المِنَح، وسننُ تقضِي سقوطَ الطغيانِ والاستبداد والاستعلاءِ بالظلم والفساد، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وفي سورَةِ يوسف وفي أَطواءِ فصولٍ مُثيرة منَ الغربة والسّجن والإغرارِ والظّلم يبرُز قانونان جليلان، الأول: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، والثّاني: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. ففي الآيةِ الأولى نهجٌ صارِم في الاستقامة على التّقوى الصبرِ والإحسان، وفي الأخرَى الاستنادُ إلى الله في ارتقابِ مستقبَلٍ أفضل مهما أظلَمَت الآفاق في مرأَى العين، فهل تتِمّ تنشِئَةُ الأمة على هذه القواعدِ؟!
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقال عز شأنه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد...
http://www.alminbar.net المصدر:
===============
ثقافة الصبر .. من لم يصبر فليلزم بيته
من أنواع الصبر: الصبر في دعوة الناس، وهو على نوعين:
* صبر على أذاهم..
* وصبر على استجابتهم.
وأحسن الصبر وأعظمه أجرا ما تعرض له الإنسان اختيارا ورضا، دون ما وقع عليه من غير اختيار، ومثله أن يسلك طريق الإصلاح والدعوة إلى الله - تعالى -، فيناله حينذاك من الأذى ما يناله، بسبب إعراض الناس أو بطئهم في الاستجابة، وبسبب أذاهم وصدهم.
فهذان النوعان من الأذى لازمان لكل من تصدى لدعوة الناس إلى سبيل الله - تعالى -، فعليه أن يوطن نفسه على ذلك، حتى لا يضجر من طول الطريق، وصعوبة الإصلاح، فإن عدم فهم هذا يتولد عنه الاستعجال للنتائج، وإذا لم تتحقق ربما وقع في أشياء تضره وتضر الدعوة، بل ربما خرج عن الاتباع إلى الابتداع، وصار وبالا على الإسلام وأهله، وارتكب أخطاء ونسبها إلى الإسلام، والإسلام منها بريء، كقتل من لا يستحق القتل، من المسلمين، ومن النساء والأطفال والشيوخ ومن ليس بمحارب من الكفار.
يقول الله - تعالى -: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين * وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون}.
هذه الآيات تضمنت أصولا دعوية عدة، هي:
أولا: أن الداعية إلى الله - تعالى -يحزن إذا لم يلق استجابة..
{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون}، قال: يحزن. ولم يقل: يحنق، ويحقد.
وهذا أصل كبير من أصول الدعوة، فإن المبتغي صلاح الناس وهدايتهم، يفرح إذا استجابوا، ويحزن إذا أعرضوا، لأن دعوته قائمة على النصح لهم، والتجرد من حظوظ النفس، ومن كان هذا حاله فإنه يحزن إذا أعرضوا خوفا عليهم، وألماً أن يعصى الله - تعالى -، بخلاف الطالب حظ نفسه، فإنه إذا لم يجد استجابة حنق وحقد. وهذا أمر ينبغي على كل من تحمل هم هذا الدين أن يتنزه عنه، وأن يبحث في خاصة نفسه، فينظر هل عمله ودعوته لله - تعالى -، أم لحظ نفسه؟.(4/344)
قال - تعالى -عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}، وقال: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}..
فحال الأنبياء أنهم كانوا يأسفون ويحزنون إذا لم يلقوا استجابة، وهذه حلية الداعية، فهو رحمة للعالمين، قال - تعالى -: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}..
وهذا الحال يوجب ويفرض على المتصدي للإصلاح ألا ينتصر لنفسه إذا ما أوذي في شيء، بل يصبر ويحتسب، ولا ينتقم، ولو كان مظلوما، فالشفقة والرحمة مقدمة على المعاقبة بالمثل، ولما دخل إلى مكة فاتحا: عفا عن جميع الذين آذوه وطردوه وأصحابه من مكة، وقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)..
وكان بيده أن يقتص منهم، ويؤذيهم كما آذوه، ولم يفعل؛ لأن هدايتهم كانت أحب إليه من القصاص منهم، ولو كان يقصد حظ نفسه لانتقم منهم، لكن هذا يتنافى مع مهام المبتغي صلاح الناس..
فإن كثيرا من الناس لا يعرفون صدق الداعية إلا من خلال تضحيته، وصبره، وتجرده من حظ النفس، فإذا رأوه كذلك عدّوا ذلك من علامات صدقه، فكان سببا في اتباعه..
أما إذا رأوا فيه طلب حظ النفس، ولو كان شيئا حقا له، فإنهم لا يعذرونه، ويعدون ذلك من علامات النفاق والكذب وطلب العاجلة، فمن كان حريصا على هداية الناس، لم يجد طريقا لحصول ما يتمنى إلا بالصبر على ما يلقى، حتى يتبين لهم صدقه، وقاعدة ذلك والمعين عليه أن يكون منطلقه في دعوتهم هو الحرص والشفقة، فهو الذي يتولد عنه الحزن إذا أعرضوا، وإذا صار الحزن يملك قلب الداعي، فلن يجد الحقد وحب الانتقام والمعاملة بالمثل إليه سبيلا.
قال - تعالى -: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
ثانيا: أن التكذيب والأذى هو ما يلقاه كل من يدعو إلى سبيل الله - تعالى -، {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا}..
فهو محتاج إلى الصبر، فيصبر على التكذيب، ويصبر على الأذى، والصبر معناه هنا:
عدم الاستعجال في هداية المكذبين، والنصر على الظالمين..
فإن لله - تعالى -سننا في الكون، وهو عليم بكل شيء، ولو شاء - سبحانه - لهدى الناس جميعا، ولو شاء لانتصر من الظالمين في لحظة، ولو فعل ذلك لما كانت الدنيا محل اختبار وتمحيص. إن التحلي بالصبر المطلق من أخص خصائص المبتغين الإصلاح:
* فيصبرون على إخوانهم الصالحين، إذا عارضوهم أو خالفوهم في رأي أو اجتهاد في مسائل شرعية تتعلق بواقع الأمة، مثل مسائل الجهاد والتعامل مع العدو المعتدي الكافر، ومسائل الدعوة وطرائقها، فيسمعون منهم، وينظرون في أدلتهم، ويطلبون من الله العون أن يهديهم لما اختلف فيه من الحق بإذنه، ولا يستعجلون الحكم، ولا ينساقون وراء العاطفة والكلام الخطابي، بل يتجردون للدليل بفهم سلف الأمة، ويراعون أحوال العصر، فكثير من الأحكام الدعوية والجهادية تتغير وتختلف باختلاف حال المسلمين ضعفا وقوة، فحال تكون فيه الغلبة للمسلمين، ليست كحال الغلبة فيها للكافر، كالفرق الذي كان بين العهد المكي والمدني.
* ويصبرون على إخوانهم المسلمين، إذا ركبوا المعاصي، ويرجون لهم الهداية، ويعلمون أن الأمر بيد الله - تعالى -، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، وأن الهداية من العاصي قريب، كما أن الطائع غير آمن على نفسه الغواية، فإذا علم هذا المصلح أنه معرض للفتنة والوقوع فيما وقع فيه هذا العاصي، حمله ذلك على الصبر على دعوته، ورحمته، رجاء أن يعافيه من المعصية، ورجاء أن لا ينقلب به الحال فيضل مثله.
* ويصبرون على الأمراء إذا أخطؤوا، ولم يعدلوا، ويدعون لهم بالصلاح والهداية، فإن صلاحهم فيه صلاح الناس وعز الحق، وفسادهم وضياع الأمة هلاكها، فمن الحكمة تخصيصهم بالدعاء والنصح، وإغراؤهم بعمل الخير، وحثهم على ذلك، والثناء عليهم إذا أحسنوا، ونصحهم إذا أخطؤوا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه ابن عباس: (من كره من أميره شيئا فليصبر، فإن من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية) [البخاري 6646].
وعن عبادة قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في منشطنا مكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهل، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان) [6647]
فالصبر عليهم خير كله، يجلب المنفعة، ويدفع المفسدة أو يقللها.
* ويصبرون على دعوة الكفار إلى الإسلام، ويقدمون الدعوة على الجهاد، هذا في حال قوة المسلمين، وقدرتهم على الجهاد، أما إذا ضعفوا عن الجهاد بنوعيه: الطلب والدفع. أو ضعفوا عن جهاد الطلب دون الدفع: فما لهم إلا الصبر بدعوتهم إلى الإسلام. كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل في مكة، حيث كان مستضعفا هو ومن معه، فلم يؤمروا بجهاد لا طلبا ولا دفعا، بل أمروا بالصبر، مع ما كانوا عليه من التعذيب والحصار، يروى خباب بن الأرت، قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟.(4/345)
فقعد، وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله) [فتح الباري 7/164، 6/619].
هذه تربية من النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بعدم استعجال النتائج، حتى بالدعاء، بل توطين النفس على الصبر الطويل، فهذا الصحابي ما جاءه يسأله الإذن بقتال أو جهاد أو انتقام، بل الدعاء، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه أن هذا استعجال للسنن، وهذا الطريق لا يصلح له إلا الصبر..
ومن هنا نعلم أن في بعض الأحوال، وفي بعض الأماكن، وفي بعض الأزمان، ليس للمسلمين إلا الصبر، وكف الأيدي مطلقا، والاكتفاء بالدعوة باللسان والقلم، وتأخير خيار الجهاد، لأن الجهاد ولو كان من أفضل أعمال الإيمان، إلا أن له شروطا، من دونها يكون خيار الجهاد خطأ وجناية على الأمة، يفضي إلى كسرها، وإذلالها، ولا يجوز لأحد أن يتسبب في ذلك..
لكن كيف يمكن معرفة الأحوال التي يجب فيها الصبر، والأحوال التي يجب فيها الجهاد؟.
الجواب: ذلك يكون بالرجوع إلى أهل العلم المتبعين للكتاب والسنة على نهج السلف، هم أعلم الناس بذلك، فإن اختلفوا فالحق مع جمهورهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
ثالثا: أن الأصل في البشرية هو الخلاف، وأكثرهم على الضلال، ومع ذلك فهناك من يستجيب، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون}، فالله - تعالى -خلق الناس على هذا الحال، ومعرفة ذلك يوطن النفس على التروي والصبر في الدعوة، والأمل الكبير في استنقاذ الهالكين:
فإن معرفة أنه لا يمكن جمع الناس على الهدى، وأن الله خلقهم مختلفين، وأن كثيرا منهم لن يؤمن، وأن هذا واقع لا يمكن نفيه، يهدئ النفس ويمنحها فرصة التفكير الصحيح والتعامل مع الأمور بقدرة وإيجابية أكبر، فالتعامل عن معرفة ليس كالتعامل عن جهل، والذي يوطن نفسه على أمر ليس كالذي يفاجأ به حينا.
ومعرفة أن هناك من يستجيب ضمن الجموع المختلفة والمخالفة يعطي الأمل في استنقاذ الناس من مصير مظلم، وهذا يدفع للصبر والمصابرة: الصبر في دعوة الناس، والمصابرة في دفع الظالمين بالطرق الشرعية، باتخاذ الحكمة والسياسة، لكسب المواقف وتحصيل النتائج الطيبة.
إن الأمل عنوان كل من يدعو إلى الله - تعالى -، فأحلى شيء على نفسه أن يهتدي إنسان، وأمرّ شيء على نفسه أن يضل إنسان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حُمْر النعم) [البخاري 2847]
ولما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف بعد أن خرج إليها يطلب النصير، لما فقده في مكة، فما لقي إلا التكذيب والإعراض والأذى، سألته عائشة - رضي الله عنها -:
(هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟.
فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشيبن؟.
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)[البخاري3059]
فهذا يقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حق من هم كفار، فكيف بالمسلمين؟.
هذا وإن من الناس من لو جاءه ملك الجبال لدعاه أن يطبق جبال العالم على من فيه مسلمين وغيرهم، ممن لم يكن على نهجه ورأيه??!!..
وهؤلاء هم طلاب حظوظ النفس، والمبتغي للإصلاح لا يمكن أن يكون طالب حظ الدنيا، بل يطلب حظ الآخرة.
نعم قد تأخذ المبتغي الإصلاح الغيرة والغضب لمحارم الله - تعالى -، حتى يعلن البراء من الكافر، كما قال - تعالى -: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده}..
وحينئذ يفرح بهلاكهم، كما قال - تعالى -: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبكم}..
نعم هذا يكون، لكن في حق من تبينت عداوته وجحوده، أما قبل ذلك فالصبر، كما قال - تعالى -عن إبراهيم: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}..
فالتبريء آخر المراتب، وبعد استنفاذ كافة الأعذار، أما قبل ذلك فالصبر والدعوة بالتي هي أحسن..(4/346)
ثم لو أنهم رجعوا وتابوا بعد الكفر والإعراض فلهم ذلك، وعلى المؤمن أن يفرح لهم بذلك، ولو صنعوا ما صنعوا، لما بعث الله يونس - عليه السلام -، إلى أهل قريته، فردوا عليه ما جاءهم به، وامتنعوا منه، أوحى الله إليه: إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم، فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم، فقالوا: ارمقوه، فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم..
فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله، فاستقالوه، فأقالهم، وتنظّر يونس الخبر عن القرية وأهلها..
فلم علم بنجاتهم غضب وقال: والله لا أرجع إليهم كذابا أبدا، وعدتهم بالعذاب في يوم، ثم رُد عنهم، ومضى على وجهه مغاضبا ربه، فأخذه فحبسه في بطن الحوت أربعين ليلة، حتى نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فتداركته رحمة الله، لذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الله له: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} [ابن جرير10/76]
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو على أناس بأسمائهم، فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء}، فتاب عليهم كلهم، وهداهم إلى الإسلام [ابن كثير2/66]..
ولما أصيب النبي صلى الله عليه سلم في معركة أحد، قال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء} [مسلم 3/1417]..
قال عبد الله بن مسعود : كأني أنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
إذن الصبر، الصبر، أيها المسلمون، ويا دعاة الإسلام، وإلا فالنتيجة:
مفسدة لا مصلحة، وهدم لا بناء، وإهلاك لا إحياء!!..
فمن لم يجد من نفسه الصبر، فليلزم خاصة نفسه، ولا يتصدى لأمر لا يصبر فيه.
http://saaid.net المصدر:
================
المفهوم الصحيح للصبر ومتى يكون نافعا للداعية
الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فإنَّ الابتلاء سنةً من سنن الله عز وجل في عباده، بل إنَّ الله تعالى لم يخلق العباد إلاَّ ليبلوهم ويختبر إيمانهم، قال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) (الملك: 2).
ومن رحمةِ الله عز وجل بعباده، أن خلقَ فيهم ما يُدافعون به البلاء، وحثهم على التخلق به، ووفق من شاءَ من عباده إلى التحلي بهذا الخلق العظيم، ألا وهو الصبر، الذي لا يستطيعُ العبد أن يفعل ما أُمِرَ به، ويترك ما نُهِيَ عنه، ويصبر على أقدار الله المؤلمة إلا به.
ويتفاوت الناسُ تفاوتاً عظيمًا في التحلي بهذا الخلق الكريم، ما بين الضعف والقوة، وبه يتباين إيمانُ الناس وثباتهم، لأنَّ الناس في الرخاءِ سواء، ولكنهم يتباينون في الشدة حسب قوة الصبر وضعفه في قلوبهم.
والصبر وإن كان لا غنى عنه لعبدٍ كائنًا من كان، حتى يصح إسلامه لله عز وجل، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والصبر على أقداره المؤلمة، لكنَّه في حقِّ الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل أشدَّ حاجةً، و آكد في حقهم من غيرهم، وذلك لما يتعرضون له من بلاءٍ ومحنةٍ، وصدٍ عن سبيل الله عز وجل من قبل الظالمين وأعداء الدين، وعندما نتحدثُ عن الصبر الممدوح صاحبه، فإننا نتحدثُ عن الصبر الاختياري، الذي يمنعُ صاحبه من التسخط والجزع، ويمنح صاحبهُ الرضا والاطمئنان، وهذا هو الصبر الذي يُثاب عليه العبد، ويصدق عليه قول الله تعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (الزمر: 10).
ولا ينافي هذا مدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره التي أذن بها لعباده.
والصبر كغيره من الأخلاق، يكتنفه خلقان ذميمان، والممدوح منه وسطٌ بينهما، فهو وسط بين طرفين: طرف التفريط المؤدي إلى الضعف والذلة والمهانة، والجزع والتسخط، وطرف الإفراط المؤدي إلى القسوة والتهور، العجلة في الأمور قبل أوانها، وفي الوسط بينهما يقع الصابر المستقيم، الذي لم تدفعهُ المصائب والابتلاءات إلى الضعف والخور والجزع، وفي المقابل لم تدفعهُ بضغوطها وشدتها إلى العجلة والتهور، والقسوة المخالفة لقواعد الشريعة ومقاصدها.
وفي هذا يقولُ الإمامُ ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وكل خلقٍ محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان ذميمان...فإنَّ النفس متى انحرفت عن التوسط، انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا انحرفت عن خلقِ »الصبر المحمود« انحرفت إما إلى جزعٍ وهلع، وجشعٍ وتسخط، وإما إلى غلظةِ كبد، وقسوةِ قلب، وتحجر طبع... « ([1]).
وهُنا سؤالٌ مهمٌ يتعلق بالصبر، ألا وهو:
متى يكون الصبر نافعاً لصاحبه؟! ولماذا يضعفُ صبر أكثر الناس ولا يثبت منهم إلاَّ القليل؟(4/347)
والجوابُ على هذه المسألة المهمة، يمكن أن نفهمهُ من الكلام التالي للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول: وهو أي الصبر على ثلاثة أنواع: صبٌر بالله، وصبر لله، وصبرٌ مع الله.
فالأول: الاستعانةَ به، ورؤيته أنَّهُ هو المصَبِّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)) (النحل: 127) يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.
والثاني: الصبر لله: وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبةُ الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض.
والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مُراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية. صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت ركائبها، وينزلُ معها أين استَقَلَّت مضاربها.
فهذا معنى كونه صابرًا مع الله، أي قد جعلَ نفسهُ وقفًا على أوامره ومحابه، وهو أشدُّ أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبرُ الصديقين. [2] أ. هـ.
من هذا النقل النفيس يتبينُ لنا أنَّهُ لكي يستقيم العبد في صبره، ويثبت ولا يميل عن الصبر الممدوح ذات اليمين أو ذات الشمال، فلا بُدَّ من شروطٍ ثلاثة يجبُ أن تتوفر في الأمر المصبور عليه، حتى يثبت العبد، ويفوز بأجر الصابرين.
وما خذل عبد في أمر من الأمور، وضعف ثباته وصبره فيه، إلاَّ بتخلفٍ واحد أو أكثر من هذه الشروط، وملخصها كما سبق ما يلي:
* أن يكون الصبرُ بالله تعالى: وذلك بالتبرؤ من الحولِ والقوةِ والاعتراف بالضعف والضياع، فيما لو وكلَّ العبد إلى نفسه، وهذا يُؤكدُ الاستعانة التامة بالله عز وجل، وأنَّهُ سبحانه هو المصبِّر ولولاه لم يصبر الصابرون، ويثبت الثابتون، وفي هذا إشارةٌ إلى ضرورة الدعاء والتضرع لله عز وجل، وسؤاله الصبر والثبات. كما قال أصحاب موسى عليه السلام: ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)) (الأعراف: 126).
* أن يكون الصبُر لله عز وجل، وابتغاءَ وجههِ الكريم، لا لغرضٍ من أغراض الدنيا الفانية، ولكن لإرادةِ الآخرة، وتوفيت الأجر من الله سبحانه هنالك.
* أن يكون الأمرُ المصبور عليه مُرضيًا لله عز وجل، وذلك بموافقته لما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم.
---------------
[1] مدارج السالكين 2 / 310 (باختصار).
[2] مدارج السالكين 2 / 157.
4/2/1426 هـ
15/ 03 / 2005 م
http://www.islamlight.net المصدر:
=============
معادن الناس بين الصبر وحوادث الأيام
د. توفيق الواعي
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة والحديد، يخالط الإيمان المعادن النفيسة، فيزيدها لمعاناً وصلابة وجمالاً، وتأتي المواقف العصيبة، والكوارث الشديدة، فتكشف عن أصلها الرائع، ومادتها القيمة، وتمر بها الحوادث الجسام فتظهر أريجها الفواح، وعبقها الندي، وعطرها الجميل، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
فإذا جد الجد، وعزم الأمر، وتلبدت الأجواء، واكفهرت الأيام، تمايزت معادن الناس، وظهر بريق هذا، وخبا لمعان ذاك، وتباينت المواقف، فظهرت رجولات صلبة، وعزائم شامخة، وهامات سامقة، وتوارت رسوم وهياكل لأناس تعجبك أجسامهم، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى" يؤفكون (4) (المنافقون)، وانحدار هذا الصنف يكون لعنة على أمته وزمانه، والمعادن والجواهر الكريمة لها زاد تتغذى عليه، ولها وقود تضاء به، حرص القرآن الكريم والسنة المطهرة على تقديمه للمسلم حتى يظل متوهجاً مضيئاً، وصلباً كريماً، ومفكراً نجيباً.
وأول هذا الزاد: الصبر الجميل الصادق، الذي يوفي بالعهود، ويقف كالطود الراسخ أمام الحوادث، وقد عناه ربنا - سبحانه - في قوله: "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" 177 (البقرة).
والصبر قيمة وزاد، وقوة وعطاء عرفه العلماء بتعريفات عدة كلها تحمل هذه المعاني، فقال المناوي: "الصبر: قوة مقاومة الأهوال والآلام الحسية والعقلية".
وقال الراغب: "الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع". (1)
وقد يطلق الصبر على مسميات عدة بحسب وروده في الأحوال: فإن كان حبس النفس لمصيبة، سمي صبراً، وإن كان في محاربة، سمي شجاعة، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتماناً، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً وإن كان عن شهوة الفرج سمي عفة". (2) هذا، وقد ذكر الله - سبحانه - الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله - تعالى -: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" 45 (البقرة). وجعل الإمامة والريادة موروثة عن الصبر واليقين فقال - تعالى -: "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" 24 (السجدة).(4/348)
وسئل الشافعي - رضي الله عنه - فقال: "يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل، أن يمكَّن فيشكر الله - عز وجل -، أو يبتلى بالشر فيصبر"؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى، فإن الله - تعالى -ابتلى نوحاً وإبراهيم ومحمداً صلوات الله عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة". (3) هذا، وقد أبان القرآن الكريم أن في الصبر الخير الكثير..من ذلك:
1. أنه دلالة استحقاق رضاء الله ودخول جنته، وعلامة على صدق الإيمان، قال - تعالى -: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين" 142 (آل عمران).
"والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار" 22 (الرعد).
2. اختبار وامتحان ليميز الله به الخبيث من الطيب: "لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" 186 (آل عمران).
"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين" 155 (البقرة).
قد يكون الاختبار حصاراً اقتصادياً، وقد يكون حصاراً حربياً، في كل ذلك جوع وخوف ونقص في المال، وفتنة للناس وتأليب لهم على المصلحين، ولكن الصبر هو النجاة.. الصبر والعمل، والكفاح والتعب في وسط هذه الأجواء الصعبة، هو الخلاص.
3. التغلب على كيد الأعداء، بصبر الكفاح والجهاد والعمل قال - تعالى -: "إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط" 120 (آل عمران: 120).
فالقلوب الحاقدة، والتدبير السيء، لا يثبت أمام صبر الرجال وكفاحهم، نعم ستكون جراح وضحايا، ولكنهم يألمون كما نألم، ويخسرون كما نخسر، ولكننا سنربح ولا يربحون، ونفوز ولا يفوزون، وصبر الإيمان لا يحد، وجهاد أصحاب العقائد لا ينكسر، وهذا هو الطريق الذي لا بديل عنه، والذي سار فيه العاملون المخلصون فانتصروا: "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين" 34 (الأنعام)، "فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل" (الأحقاف: 35).
والأمة اليوم تحتاج في تلك الأزمة الشرسة إلى الثبات والصبر الصادق الذي يزلزل الأعداء ويقوي السواعد، ويشد العزائم، ولئن كان المسلم مستباحاً اليوم أمام ترسانة الأسلحة المهولة التي لا قبل له بها، فإن كفاح الصابرين وثبات المجاهدين قد هزَّ كيان الباغي وعصف باستقراره، فصار يهزي ولا يعقل، ويضرب ولا يعي، ويقصف ولا يفكر، كأنه ملتاث أو مجنون، وإن أمة تفتقد إلى كل شيء، وضيعت كل شيء، يخرج منها اليوم قلة من المجاهدين الصامدين لا يهابون ولا يكترثون بهذا العدوان هنا وهناك، ويستطيعون تغيير سياسات دول كبرى، وتبديل مخططات وتوجهات قوى عالمية ويخوضون أعتى الأزمات في ظروف غاية في الصعوبة بكفاءة أربكت كل الأعداء، وكل الحسابات، لهي أمة واعدة إن صبرت وصابرت وائتمرت بأمر ربها، فاصبروا حتى" يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين 87 (الأعراف) صدق الله العظيم.
-------------
الهوامش
(1) مفردات الراغب، ص 527.
(2) بصائر ذوي التمييز 3-383.
(3) الفوائد لابن القيم، بتصرف.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
================
الصبر على مشاق الدعوة إلى الله
الدكتور يوسف القرضاوي
هذا مجال لخلق الصبر في القرآن، وهو الصبر على مشاق الدعوة إلى الله - تعالى -، وما يحفّ بها من متاعب وآلام، تنوء بها الظهور، وتضعف عن حملها الكواهل إلا من رحم الله.
وذلك أن أصحاب الدعوة إلى الله يطلبون إلى الناس أن يتحرروا من أهوائهم وأوهامهم وموروثاتهم ومألوفاتهم، ويثوروا على شهوات أنفسهم، ومعبودات آبائهم، وعادات أقوامهم، وامتيازات طبقاتهم، وينزلوا عن بعض ما يملكون إلى إخوانهم، ويقفوا عند حدود الله فيما أمر ونهى، وأحل وحرم، وأكثر الناس لا يؤمنون بهذه الدعوة الجديدة فلهذا يقاومونها بكل قوة، ويحاربون دعاتها بكل سلاح، مدلين بأنهم أكثر مالاً، وأعز نفرًا، وأقوى نفوذًا، وأوسع سلطانًا.. فليس أمام دعاة الحق إلا أن يعتصموا باليقين، ويتسلحوا بالصبر في وجه القوة الضاربة، والسلطة الطاغية.
فالصبر هنا - كما قال الإمام علي: "سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، وضياء لا يخبو"، وكما جاء في الحديث الصحيح: "الصبر ضياء".
وهذا هو السر في اقتران التواصي بالصبر بالتواصي بالحق في سورة العصر: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 2 - 3). فلا بقاء للحق بغير صبر.(4/349)
هو السر فيما ذكره الله على لسان لقمان الحكيم حيث وصى ابنه بالصبر على ما يصيبه من بلاء وأذى عقب وصيته له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله - تعالى - على لسانه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور) (لقمان: 17).
كأنه يقول له: ما دمت تدعو الناس إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، فوطِّن نفسك على احتمال المكاره منهم، وتقبل الأذى من جهتهم فهم خصوم لمن يأمرهم بالمعروف، لأنه ثقيل عليهم، وينهاهم عن المنكر، لأنه محبب إليهم.
ومشاق الدعوة إلى الله تتمثل في صور شتى، وقد ذكر القرآن منها أنواعًا وأمثلة:
أ- تتمثل في إعراض الخلق عن الداعية، فليس أشق على نفس صاحب الدعوة أن يدعو بملء فيه، ويصيح بأعلى صوته، بشيرًا ونذيرًا، فلا يجد إلا آذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا!
رأينا ذلك مع نوح - عليه السلام -، حيث قال مناجيًا ربه: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا بمؤمنين) (نوح: 5 7).
ورأينا ذلك مع هود - عليه السلام - حين قال له قومه: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (هود: 53).
ورأينا ذلك مع خاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، حيث وصف الله حال قومه معه فقال: (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (فصلت: 1-5)، ولهذا قال الله لرسوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) (النحل: 127).
وأوضح من يمثل هذا النوع من الصبر: نوح - عليه السلام -، حيث لقي من الإعراض والصد ما لم يلقه نبي بعده.
ب- وتتمثل متاعب الدعوة في أذى الناس بالقول أو الفعل، فليس أشد على نفس الرجل المخلص في دعوته، البريء من الهوى، المحب لخير الناس، من أن يمحض لهم النصح، فيتهموه بما ليس فيه، وأن يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة فيردوه بالقوة، ويعظهم بالحسنى، فيستقبلوه بالسوأى، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيقاومونه بالتي هي أخشن، ويدلهم على الخير، فيقذفوه بالشر، ويصدع فيهم بكلمة الحق، فلا يسمع منهم إلا كلمة الباطل.
وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد، فكثيرًا ما يمتد الطغيان إلى الأموال فينهبها، وإلى الأبدان فيعذبها، وإلى الحريات فيسلبها، والحرمات فينتهكها، بل إلى الأنفس فيقتلها، حتى الأرض التي نبتوا منها، وشبوا عليها، ونشأوا في أحضانها، هم وآباؤهم وأجدادهم يخرجون منها إخراجًا.
وهذا ما أقسم القرآن على وقوعه للداعين إلى الله، حيث خاطب بذلك المؤمنين ليوطنوا أنفسهم على الصبر الطويل، فقال: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران: 186)، ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه بمثل قوله - تعالى -: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) (المزمل: 10).
والأنبياء جميعًا يمثلون هذا النوع من الصبر، ولهذا حكى الله على لسانهم هذا القول ردًّا على أقوامهم: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 12)، وعزى الله خاتم رسله بما حدث لإخوانه من قبله فقال: ?وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ? (الأنعام: 34).
ومن أتباع الرسل ذكر لنا القرآن هنا مثلاً رائعًا يتجلى في سحرة فرعون، حين وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فأعلنوا إيمانهم برب موسى وهارون، وعندها قال لهم فرعون: (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف: 123، 124).(4/350)
فماذا كان موقف السحرة إزاء هذا الوعيد الهادر من ملك جبار يقول للناس أنا ربكم الأعلى؟ لقد وقفوا بإيمانهم الجديد كالجبال الشم، متحدين جبروت فرعون، مستعدين لكل ما يرغي به ويزبد، سائلين الله - تعالى - أن يفرغ عليهم صبرًا يتحملون به العذاب راضين، ويستقبلون به المكاره مطمئنين.. ومن هنا قالوا: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ* وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف: 125 126).
جـ- وتتمثل مشاق الدعوة كذلك في صورة أخرى هي طول الطريق، واستبطاء النصر، فقد جعل الله العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة الحق من رسله وأتباعهم وورثتهم المؤمنين، ولكن هذا النصر لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك من الشدائد والمحن المتعاقبة، تزيغ لهولها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن الناس بالله الظنون، هناك يبتلي المؤمنون ويزلزلون زلزالاً شديدًا، كما صور القرآن الحالة النفسية للمسلمين في غزوة الأحزاب.
وكم أكد القرآن هذه الحقيقة في أكثر من موضع، وبأكثر من أسلوب، فهو يخاطب المؤمنين فيقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
يقولون متى نصر الله؟ استبطاءً له، واستعجالاً لمجيئه، فيجيء معه الغوث للملهوف، والفرج للمكروب، ويقول - جل شأنه -: (حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110).
يونيو 25، 2004 - 21:25
http://www.elbehira.com المصدر:
===============
الصبر عدة المؤمنين
ماهر السيد
ما أشد الحاجة إلى الصبر، لاسيما في هذه الأزمان التي اشتدت فيها الغربة، وكثرت فيها الفتن، وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر.
إن هذه الدنيا دار بلاء، والآخرة دار جزاء، فلا يسلم المؤمن في هذه الدار الدنيا من المصائب، فمن فيها لم يصب بمصيبة؟!
المرء رهن مصائب لا تنقضي....... حتى يوسد جسمه في رَمْسِهِ
فمؤجَّلٌ يلقى الردى في غيره....... ومعجَّل يلقى الردى في نفسهِ
تعريف الصبر:
الصبر خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به صاحبه من فعل ما لا يحسن، ولا يجمل.
وقد عرفه بعضهم بأنه: حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم، وشق الجيوب، ونحو ذلك.
فضيلة الصبر والصابرين:
إن الله - تعالى - قد جعل للصابرين ما ليس لغيرهم؛ قال - تعالى -: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155- 157].
والمصيبة كل ما يؤذي الإنسان ويصيبه، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: نعم العدلان، ونعمت العلاوة للصابرين. يقصد بالعدلين: الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الهدى.
وقال - تعالى -: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].
- كما فاز الصابرون بمعية الرحمن، (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]، فهو معهم يثبت قلوبهم ويحوطهم بعنايته وتأييده.
- والصابرون هم أهل الإمامة في الدين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)[السجدة: 24].
- وهم أهل محبة الله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 146].
- ثم هم يفوزون بالجنة و النجاة من النار: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)[المؤمنون: 111].
- وما من مصيبة تصيب العبد إلاَّ كفر الله بها عنه.
وإليك أيها القارئ الكريم هذه الطائفة العطرة من أقوال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في فضيلة الصبر والصابرين:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر". [رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه"[رواه البخاري ومالك] أي صيبه ببلاء.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مصيبة تصيب المؤمن إلاَّ كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يُشَاكُها". [رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"[رواه البخاري وأبو داود].(4/351)
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي. قال: "إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئت دعوتُ الله أن يعافيكِ". فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله لي ألاَّ أتكشف، فدعا لها". [رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله - عز وجل -: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الجنة ثم احتسبه إلاَّ الجنة". [رواه البخاري].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة". [رواه البخاري والترمذي].
وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلاَّ أخلف الله خيرًا منها". فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟! أول بيت هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
السلف الصالح والصبر:
قال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبدٍ نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر، إلاَّ كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه.
وقال يونس بن زيد: سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم يصيبه المصيبة مثل قبل أن تصيبه.
وقال الفضيل بن عياض في قوله - تعالى -: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 24]. قال: صبروا على ما أمروا به، وصبروا عمَّا نهو عنه.
وقالوا: الحيلة فيما لا حيلة فيه الصبر.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لله - عز وجل - إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به.
وقالت رابعة: إن الله - عز وجل - إذا قضى لأوليائه قضاءً لم يتسخَّطُوه.
وقال الحسن: من رضي بما قسم له وسعه وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه ولم يبارك له فيه.
وقال بعضهم: من لم يرضى بالقضاء فليس لحمقه دواء.
وأصبح أعرابي وقد مات له أباعر - جمع بعير - كثيرة فقال:
لاَ والذي أنا عبدٌ في عبادَته....... لولا شمَاتَةُ أعداءٍ ذَوي إِحَنِ
ما سرَّني أنَّ إبليِ في مَبَارِكَها....... وأنَّ شيئًا قضاه الله لم يكُنِ
دوافع تعين على الصبر:
هناك أمور كثيرة تعين على الصبر، وسنسردها سردًا بغير ذكرٍ لأدلتها خشية الإطالة، ومنها:
1- تدبر الآيات والأحاديث الواردة في فضيلة الصبر.
2- اليقين بأنه لا يقع شيء إلا بقدر الله - تعالى -.
3- تذكر كثرة نعم الله عليه.
4- العلم بأن الجزع وقلة الصبر لا ترد المصيبة.
5- استحضار الأجر والثواب، والتفكر في عاقبة الصبر.
6- العلم بأن اختيار الله له أحسن من اختياره لنفسه.
7- استحضار أن أشد الناس بلاءً الأنبياء والصالحون.
8- أن يعلم أن زمن البلاء ساعة وستنقضي.
9- مطالعة سير السابقين من الصالحين، ودراسة مواقفهم المباركة في الصبر ليأنس بهم.
نسأل الله أن يجعلنا من الصابرين..
للاستزادة:
• عدة الصابرين؛ للإمام ابن القيم - رحمه الله -.
• مواقف إيمانية؛ الشيخ. أحمد فريد.
• صلاح الأمة؛ الشيخ. سيد حسين عناني.
• الأخلاق الإسلامية؛ الشيخ. عبد الرحمن حنبكة الميداني.
الخميس:03/06/2004
http://www.islamweb.net المصدر:
===============
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
حفيظ الرحمن الأعظمي
إن سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير اقتضت أن البناء السليم المتين لابد أن يقوم على دعائم أو ركائز قوية وصلبة حتى تضمن صلابة البناء وسلامته، بل توصلت الدراسات العلمية الحديثة عبر التقنية العصرية المتقدمة إلى صناعة طوب للبناء الحديث يتلاءم مع الظروف البيئية، ويقاوم عوامل التعرية ويظل الإنتاج المتطور ثابتاً لأطول فترة ممكنة، شاهداً للإبداع الإنساني على مر العصور... واقتضت سنة الله كذلك أن يكون بناء النفس البشرية وفق قوانين الشريعة الإسلامية قائماً على ركائز أساسية تعمل على استجلاب النفس الإنسانية إلى محور اتزانها الفطري الذي ينبغي أن يدور حول دائرة العدل وهذه الركائز من شأنها أن تنهض بعمارة الكون الفسيح.
والحاجة إلى تلك الركائز تبدو جلية في بعض المواقف البشرية التي ذكرت في القرآن الكريم، ومن ذلك موقف الحواريين مع عيسى - عليه السلام - حيث ينطق ذلك الموقف المثير بطبيعة نفوس هي أحوج ما تكون إلى تلكم الركائز قال - تعالى -: إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) (المائدة).(4/352)
ومن سياق الآية الكريمة نفهم أن نفسية الحواريين تريد أن تتجاوز السنن الكونية في مراحل إنتاج الرزق "الطعام" التي يتذوق الإنسان من خلالها حلاوة الصبر في رعاية النبات وحلاوة اليقين بنزول المطر من السماء وانتظار ثمرة النبات، فعبارات الحواريين في خطابهم تدل على عدم معرفتهم بحقيقة التوحيد وتدل أيضاً على عدم معرفتهم بسنن الله في إهلاك الأمم الماضية من حيث أن بعض الأمم ثمود مثلاً طلبوا الآيات من أنبيائهم فلما نزلت عليهم كفروا وعاندوا فكانت الآيات وبالاً عليهم.
وهذه النفسية المعوجة هي التي يعتريها دائماً الانحراف العقدي والجمود الفكري في مفاعلة الحياة، وما أشبه نفسيتنا المعاصرة بنفسية الحواريين، وأمثال تلك النفسيات لا يمكن بحال أن ترقى إلى ذرى مكارم الأخلاق إلا بعودتها إلى رحاب بناء قاعدة العدل الشامخة، وهذه القاعدة العظيمة "العدل" تعني أن نضع الشيء في موضعه اللائق المناسب، ومن العدل والإنصاف ألا نتجاوز السنن الكونية التي وضعها الباري - جل وعلا - في كل شيء، ومن ذلك عملية الإنبات الزراعي التي تسير حسب ناموس إلهي دقيق يقوم على سنة التدرج المحكمة، قال - تعالى -: فلينظر الإنسان إلى" طعامه 24 أنا صببنا الماء صبا 25 ثم شققنا الأرض شقا 26 فأنبتنا فيها حبا 27 وعنبا وقضبا 28 وزيتونا ونخلا 29 وحدائق غلبا 30 وفاكهة وأبا 31 (عبس)، وهذا الناموس الإلهي الدقيق يتسق تماماً مع النظم والقوانين التي تحكم سير المشاريع الزراعية الحديثة حيث إن استصلاح الأراضي الزراعية وإنشاء الخزانات وإقامة السدود لا يتحقق بين عشية وضحاها إنما يحتاج إلى وقت طويل، ومن هذا المنطلق كانت تلكم القوانين تسير على نفس المبدأ "التدرج" فهي لا تحاول القفز فوق السنن الكونية وإنما تتماشى معها في دائرة المستطاع.
إن ذلك الانسجام الرائع بين السنن الكونية والطاقات البشرية وفق ناموس الله الدقيق الذي يقوم على سنة التدرج يحقق للنفس الإنسانية مبدأ التوازن والاعتدال، وهذا بطبيعة الحال يكفل لها الرفاهية والسعادة والهناء في هذه الحياة، إضافة إلى ذلك فإن تلك القوانين البشرية تكسب الشخص الذي يقوم على تنفيذها وهو المزارع بصفات هي المثل الأعلى في القيم والأخلاق، هذه الصفات هي الصبر واليقين حيث إن المزارع يعتمد على الصبر في متابعة وحماية مزرعته كما أن ظهور ثمار تلك النباتات "يحتاج إلى مدة زمنية وهذا الانتظار بطبيعة الحال يحتاج إلى صبر ونفس طويل، أما اليقين فيكون بانتظار نزول المطر وترقب موعد قطف الثمار حيث يوقن حينها بقدرة الله الفائقة قال - تعالى -: وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم(البقرة: 22) وقال: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة (الحج: 63). وعندما تتحقق هاتان الصفتان في شخص ما يتأهل تلقائياً إلى منصب الإمامة في الدين وصدق الله القائل: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون 24 (السجدة).
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
===============
الصبر على الطاعات
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد
الصبر على الطاعة من أفضل أعمال البرّ: قال الشافعي: "رأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً"الصبر هو نصف الإيمان، وذلك لأن الإيمان نصفه صبر والنصف الآخر شكر، وقد ذُكِر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً في موطن المدح والثناء والأمر به، وهو واجب بإجماع الأمة، وهو أنواع:
1. الصبر على طاعة الله، وهو أفضلها.
2. الصبر عن معصية الله - عز وجل -، وهو يلي النوع الأول في الفضل.
3. الصبر على امتحان الله - عز وجل -.
قال ابن القيم - رحمه الله -: (فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه.
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدَّس الله روحه ـ يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضا، ومحاربة النفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعَزَباً ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريباً والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه مَنْ بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس له وازع كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرَّمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية). [1](4/353)
وما قاله شيخ الإسلام هو الحق، فقد قرن الله بين الصبر والإيمان والعمل، حيث قال في سورة العصر: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، ولهذا قال الشافعي - رحمه الله -: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكانت كافية وحجة على الأمة.
والدليل على ذلك أن كثيراً من الخلق يسهل عليهم الصبر على المصائب والبلايا وعن المعاصي، ولكن قليل منهم من يصبر على طاعة الله - عز وجل -، بل من الناس من يصبر على المعاصي ويتحمل من أجلها ما لا يتحمل معشار معشاره على طاعة الله - عز وجل -.
قال المزني - رحمه الله -: (سمعتُ الشافعي - رحمه الله - يقول: رأيتُ بالمدينة ـ المنورة ـ أربع عجائب، رأيتُ جَدَّة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيتُ رجلاً فلسه القاضي في مدين نَوَى، ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً، ونسيتُ الرابعة). [2]
وشاهدنا في قوله: "ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون.. " إلخ.
وما تعجب منه الشافعي، وحق له أن يعد ذلك من العجائب، مُشاهَد، فإنك تجد البائع واقفاً في سوقه من الصباح إلى المساء لا يفتر ولا يقعد، وكذلك مشجع الكرة يقف على رجل واحدة ويصيح بملء فيه ويدخل الملعب قبل ثلاث ساعات من موعد المباراة، وتجد الفنان يقيم الحفلة إلى مشارف الصبح، والمصلي يخرج من المسجد يقف يتكلم في أمور الدنيا الساعة والساعتين، وغيرُهم كثير، فإذا استغرقت الصلاة ربع ساعة، أواطمأن الإمامُ في ركوعه وسجوده قليلاً، قامت الدنيا ولم تقعد، وتضجَّر الناسُ، واشتكوا، ومنهم من يشكو الإمام إلى المسؤولين وإلى لجنة المسجد، ورفع في وجه الإمام كلمة الحق التي يريدون بها باطلاً: "من أمَّ الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف.. " الحديث.
وكأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كان يؤمهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المغرب أحياناً بالأعراف والصافات، والذين أمهم أبو بكر الصديق مرة بالبقرة كلها في صلاة الصبح، والذين كثيراً ما كان يؤمهم عمر في الصبح بيوسف، وهود، والنحل، ليس فيهم مريض ولا ضعيف؟
وتثريب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على معاذ رضي الله عنه لأنه كان يصلي معه العشاء ثم يذهب ليؤم قومه بعد ذلك، وقد أمهم يوماً بالبقرة في الركعة الأولى من العشاء، وبالقمر في الثانية، وعندما خرج أعرابي من صلاته نال منه معاذ بأنه منافق! ومن أجل ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال.
أين هذا كله مما عليه الأئمة الآن؟! فتبيَّن أن احتجاج البعض بهذا الحديث ليس في موضع النزاع، فمن فعل كما فعل معاذ يكون فتاناً حقاً، ولكن مَنْ مِن الأئمة الآن يستطيع أن يفعل ذلك ولو كان فذاً؟!
أعجب من هؤلاء جميعاً من يحيي ليله بالرقص، والتواجد، والضرب بالأقدام على الأرض، فإذا حان وقت صلاة الصبح تفرَّق جلهم، ومن بقي صُلِّيَ بهم بقصار المفصل من غير اطمئنان ولا خشوع.
لقد صاغ العلامة ابن القيم - رحمه الله - حال هذه الطائفة ـ الصوفية ـ التي أسِّست على الكسل كما قال الشافعي، شعراً، حيث ذكر جدهم واجتهادهم عند السماع، والرقص، والتواجد، الذي هو دين عباد العجل، عندما اتخذ لهم السامري عجلاً جسداً له خوار، فقاموا حواليه يرقصون ويتواجدون حتى يقع أحدُهم مغشياً عليه، فالرقص، والتواجد، والسماع الصوفي ليس من الذكر الذي شرعه الله لعباده على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان هو وأصحابه يذكرون الله وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار والسكينة، مقارناً له بصدودهم عن سماع آي القرآن والعلم، وعن الخشوع والاطمئنان في الصلاة التي هي من أجلِّ العبادات وأفضل القربات، قائلاً[3]:
تُلي الكتابُ فأطرقوا، لا خيفةً *** لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناءُ فكالحمير تناهقوا *** و الله ما رقصوا لأجل الله
دفٌّ، ومزمارٌ، و نغمة شادنٍ *** فمتى رأيتَ عبادةً بملاهي؟
ثَقُل الكتابُ عليهمُ لما رأوا *** تقييده بأوامر و نواهي
سمعوا له رعداً وبرقاً إذ حوَى *** زجراً و تخويفاً بفعل مناهي
ورأوه أعظمَ قاطعٍ للنفس عن *** شهواتها، يا ذبحها المتناهي
وأتى السماعُ موافقاً أغراضها *** فلأجل ذاك غدا عظيمَ الجاه
أين المساعدُ للهوى من قاطع *** أسبابَه عند الجَهول الساهي؟
إن لم يكن خمرَ الجسوم فإنه *** خمرُ العقول مماثلٌ ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه *** وانظر إلى النسوان عند ملاهي
و انظر إلى تمزيق ذا أثوابه *** من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأيُّ الخمرتين أحقُّ *** بالتحريم والتأثيم عند الله؟
وقال كذلك:
ذهب الرجالُ و حال دون مجالهم *** زُمَرٌ من الأوباش والأنذال
زعموا بأنهم على آثارهم *** ساروا و لكن سيرة البطَّال
لبسوا الدَّلوق مرقَّعاً و تقشفوا *** كتقشف الأقطاب و الأبدال
قطعوا طريق السالكين و غوَّروا *** سبل الهدى بجهالة وضلال
عَمَروا ظواهرهم بأثواب التقى *** وحَشَوا بواطنهم من الأدغال
إن قلت: قال الله قال رسوله *** هَمَزوك همزَ المنكِر المتغالي(4/354)
أو قلتَ: قد قال الصحابة والأولى *** تبعوهم في القول والأعمال
أو قلتَ: قال الآلُ آل المصطفى *** صلى عليه الله أفضلُ آل
أو قلتَ: قال الشافعي و أحمدُ *** و أبو حنيفة والإمام العالي
أو قلتَ: قال صحابهم من بعدهم *** فالكلُّ عندهم كشِبه خَيال
ويقول: قلبي قال لي عن سرِّه *** عن سرِّ سرِّي عن صفا أحوالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي *** عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صَفْو وَقْتي عن حقيقة مشهدي *** عن سرِّ ذاتي، عن صفات فعالي
دَعْوَى إذا حققتها ألفيتها *** ألقابَ زُور لفِّقت بمحال
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا *** بظواهر الجهَّال والضلال
جعلوا المِرا فتحاً وألفاظ الخنا *** شطحاً وصالوا صولة الإدلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم =نبْذَ المسافر فضلة الأكَّال
جعلوا السماع مطية لهواهُمُ =وغَلَوا فقالوا فيه كل محال
هو طاعة، هو قربة، هو سنة =صدقوا، لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم، صادهم بتحيُّل =حتى أجابوا دعوة المحتال
هجروا له القرآن والأخبار و الآثار =إذ شهدت لهم بضلال
و رأوا سماع الشعر أنفع للفتى =من أوجهٍ سبعٍ لهم بتوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها *** من مثلهم، واخيبةَ الآمال
نصب الحبال لهم فلم يقعوا بها *** فأتى بذا الشَّرَك المحيط الغالي
فإذا بهم وسط العرين ممزقي الأثـ *** ـواب والأديان والأحوال
لا يسمعون سوى الذي يَهْوونه *** شغلاً به عن سائر الأشغال
و دعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا *** عنها، وسار القوم ذاتَ شمال
خرُّوا على القرآن عند سماعه *** صماً و عُمْياناً ذوي إهمال
و إذا تلا القاري عليهم سورة *** فأطالها عدَّوه في الأثقال
ويقول قائلهم: أطلتَ، و ليس ذا *** عَشْر، فخفِّف، أنت ذو إملال
هذا، وكم لغوٍ، وكم صَخَبٍ، وكم *** ضَحِكٍ بلا أدب، ولا إجمال
حتى إذا قأم السماع لديهمُ *** خشعت له الأصوات بالإجلال
وامتدت الأعناقُ، تسمع وَحْي ذاك *** الشيخ من مترنَّمٍ قوَّال
وتحركت تلك الرؤوس، وهزَّها *** طربٌ و أشواق لنيل وصال
فهنالك الأشواق والأشجان والأح *** ـوال، لا أهلاً بذي الأحوال
اعلم أخي الكريم أن الخشوع في الصلاة هو سرها ومقصودها، وأن الاطمئنان في الركوع والسجود هو فرض في الصلاة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمن لم يطمئن في صلاته حيث كان ينقرها كما ينقر الديك الحب، وكما يفعل ذلك كثير من المصلين اليوم: "صلِّ، فإنك لم تصلِّ" ثلاث مرات، وقد جاء في الأثر: "كم من مصلٍّ سبعين ـ وفي رواية ثمانين ـ سنة، ليس له من صلاته شيء، ربما أكمل ركوعها ولم يكمل سجودها، أو أكمل سجودها ولم يكمل ركوعها".
واللهَ أسألُ أن يرزقنا الصبر على الطاعة، وأن يحبِّب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا وجميع إخواننا المسلمين من الراشدين، ونسألك اللهم حبَّك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ عمل يقرِّبنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://new.meshkat.net المصدر:
================
عشر نصائح لابن القيم للصبر عن المعصية
1- علم العبد بقبح المعصية ورذالتها و دناءتها وأن الله حرمها ونهى عنها صيانة وحماية للعبد عن الرذائل..
كما يحمى الوالد الشفيق ولده عن ما يضره..
2- الحياء من الله... فإن العبد متى علم بنظر الله إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى من الله و مسمع كان حييا يستحي أن يتعرض لمساخط ربه.
.. والحياء أن تنفتح في قلبك عين ترى بها أنك قائم بين يدي الله...
3- مراعاة نعم الله عليك و إحسانه إليك:
فإذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم..
- من أنعم الله عليه بنعمة فلم يشكرها عذبه الله بذات النعمة..
4- الخوف من الله و خشية عقابه.
5- حب الله.. فإن المحب لمن يحب مطيع...
.. إنما تصدر المعصية من ضعف المحبة..
6- شرف النفس وزكاؤها وفضلها وحميتها.. فكل هذا يجعلها تترفع عن المعاصي..
7- قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ منها من سواد الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه.
.. فإن الذنوب تميت القلوب..
8- قصر الأمل ويعلم الإنسان أنه لن يعمر في الدنيا ويعلم أنه كالضيف فيها وسينتقل منها بسرعة فلا داعي أن يثقل حمله من الذنوب فهي تضره ولا تنفعه.
9- مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه المفاضلات؛ ومن أعظم الأشياء ضررا على العبد..
.. بطالته وفراغه...
فإن النفس لا تقعد فارغة
.. إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره..
10- السبب الأخير هو السبب الجامع لهذه الأسباب كلها
.. وهو ثبات شجرة الإيمان في القلب..
فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أقوى.. وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر..
ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط...
http://www.islamhouse.com المصدر:
================
إيمان وصبر قصة ماشطةِ ابنة فرعون(4/355)
المرأة المسلمة التي نذرت نفسها لله، وبذلت حياتها في سبيله، تدرك أن طموحها عظيم ومطلبها ضخم، يتطلب قدراً كبيراً يناسب جلالته، من الصبر والإرهاق والمشاق "ألاْ إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
ومن هنا فإن المؤمنة الصادقة التي وضعت أولى خطواتها في طريق الدعوة، تدرك التبعات التي سوف تتحملها، والأذى الذي قد تتعرض له، والمضايقات التي قد تلاقيها، ومن ثم يتميز الصادق من الكاذب، والصابر من المتبرم الجازع، والماضي من المتردد.
والحديث الذي بين أيدينا اليوم فيه نموذج فذّ رائع للمرأة المسلمة التي تبتلى بسبب تمسكها بدينها وإصرارها عليه، فترضى، صابرة محتسبة، على أن تخرج من الدنيا بالموت، ولا تخرج من دينها. وتمر بمحنة عظيمة جسدية ونفسية تنخلع لها القلوب، فتصبر وتحتسب، وتنال بذلك رضى الله وجنته.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كانت الليلة التي أُسري بي فيها أتتْ عليّ رائحةٌ طيبةٌ، فقلتُ: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها. قال: قلتُ: وما شأنها؟ قال: بينا (أي بينما) هي تمشط ابنة فرعون إذ سقط المدرى (المشط) من يدها، فقالت: بسم الله. فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله. قالت: أخبرُه بذلك؟ قالت: نعم. فأخبرتُه، فدعاها فرعون، فقال: يا فلانة، وإن لكِ رباً غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله. فأمر ببقرة من نحاس (قِدْر كبيرة واسعة) فأحميت، ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها. قالت له: إن لي إليكَ حاجةً. قال: وما حاجتُك؟ قالت: أحبّ أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا! قال: ذلك لكِ علينا من الحق. فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مُرْضَع وكأنها تقاعست من أجله. قال: يا أماه، اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة".
امرأة ضعيفة تعمل خادمة في قصر ملك يصل به الطغيان إلى أن يخطب في قومه، معرّضاًَ بنبي الله موسى - عليه الصلاة والسلام -، قائلاًَ: كما أخبر بذلك القرآن الكريم} أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ {(الزخرف: 51-52).
بل يزداد طغياناً ويعلن بصلف على قومه، كما يحدّث القرآن الكريم: } أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى {(النازعات: 24). ولكن ضعف المرأة الجسمي قوَّاه عمقُ إيمانها، وتدنِّيَ منزلتها الاجتماعية ارتفع به تساميها بعقيدتها. ثم هي لا ترضى أن تترك أمر دينها تستراً؛ بل لا تبالي أن يصل ذلك إلى سمع الملك الطاغية المتأله.
وحين يستدعيها الطاغية تمشي إليه بثقة، وتقف بين يديه بقوة، وحين يسألها باستنكار وغلظة: وإن لكِ رباً غيري؟ لا ينتابها تردد، ولا يعتريها ضعف، فإذا هي تخاطبه بقوة، لا لتخبره بأن ربها الله - سبحانه وتعالى- فحسب، بل لتطأ من كبريائه وتبين زيفه حين تقول: ربي وربك الله.
والماشطة وهي تجيب هذه الإجابة، وتقف هذا الموقف، لم يغب عنها بطشُ الطاغية وجبروته، فهاهو ذا الطاغية لا يفتح مجالاً للمناقشة، أو يبدأ محاولات الإقناع، فهو يخشى أن تكون هذه المرأة الضعيفة بداية خط التحرر من طغيانه، واكتشاف الحقيقة التي طالما حاول تغطيتها بالدعاوى الفارغة.
إنه يدعو بوسائل التعذيب البشعة المُعَدَّة لمن يسخط عليهم. إنها آلة قد جهد هو وزبانيته في تصميمها، لتكون أكثر إيلاماً فتجعل المِيْتة مِيْتات، وهذا هو الصمت المخيّم بين جلب آلة التعذيب الرهيبة (القِدْر النحاسية الواسعة) وبين الأمر بإلقاء المرأة وأولادها، يمر ثقيلاً رهيباً، والطاغية الكبير لا يبالي أن يقتل أحداً بذنب غيره، فهو يأمر بإلقاء الماشطة وأولادها داخل آلة التعذيب المرعبة الحامية.
ولا يكتفي من تلك المرأة الضعيفة أن تنتهي بتلك النهاية الموحشة، بل يحاول أن يوقع عليها كل ما يستطيعه من عذاب، خاصة وهو يرسل رسالة لكل من تحدّثه نفسه بالتوجه إلى غيره. ثم هو بما يحس به من العزة الكاذبة، لا يريد أن يَعْرِض عليها الرجوع، فهي عنده أحقر من ذلك، بل ليدع العذاب وحده بشدته وعنفه يجعلها ترجع ذليلة مهانة لتلثم رجليه، وتطلب مغفرته.
وأمام آلة التعذيب الرهيبة وهي في غاية ما تكون من الحرارة، يأمر بإلقاء أولادها واحداً بعد الآخر.. أمام عينيها.. كم يتقطع قلبها وهي ترى الزبانية يحيطون بالواحد من أولادها بوحشية، ويحملونه بعنف ليلقوه في آلة القتل المتوهجة.. وصراخه لا ينقطع ودموعه تجري أنهاراً.. ولكن الدور ينتهي إلى طفل لها رضيع، ويرق قلب الأم رقة شديدة لهذا الطفل الرضيع، وتكاد تنهار وتتزحزح عن المبدأ، ويدركها الضعف البشري، ولكن الله - سبحانه وتعالى- يُنطِقُ ذلك الصبي، فإذا هو يقول بلسان واضح: يا أماه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.(4/356)
وهنا يعود إليها التماسك كأقوى ما يكون، وإذا هي بخطى ثابتة تقتحم إلى آلة التعذيب والقتل الرهيبة، لتنتهي عظاماً، ويبقى أريج سيرتها يتضوع عبر العصور نموذجاً للمرأة المؤمنة الصادقة الصابرة الثابتة على المبدأ أمام أعتى التحديات.
http://www.jimsyr.com المصدر:
================
الثبات على الطاعة
د ـ علي الرسي
dr-alrasi@hotmail.com
إذا أغلقت الشتاء أبواب بيتك، وحاصرتك تلال الجليد من كل مكان، فانتظر قدوم الربيع وافتح نوافذك لنسمات الهواء النقي، وانظر بعيدا، وانظر بعيدا فسوف ترى أسراب الطيور وقد عادت تغني، وسوف ترى الشمس وهي تلقي خيوطها الذهبية فوق أغصان الشجر، لتصنع لك عمراً جديداً وحلماً جديداً وقلباً جديداً..لا تقف كثيراً عند أخطاء ماضيك لأنها ستحيل حاضرك جحيماً ومستقبلك حطاماً يكفيك منها وقفةُ اعتبار تعطيك دفعةً جديدةً في طريق الحق والصواب، وليست المشكلةُ أن تخطئ حتى لو كان خطؤكَ جسيماً، وليست ميزةً أن تعترف بالخطأ وتقبل النصيحةَ، إنما العمل الجبار الذي ينتظرك حقاً هو أن لا تعود لمثلها أبداً.بهذه الكلمات انطلقت ثالث حلقات برنامج نبض القلوب يوم الأربعاء 14 / 03 / 2007 م وكان عنوان الحلقة الثبات على الطاعة وإليكم الخلاصة ... لا يوجد أجمل من لحظات التوبة لكن .. !!! لحظات جميلة ومؤثرة تلك اللحظات التي يعود فيها العبد إلى ربه ويتوب بعد الغفلة والضياع في درب المعاصي والذنوب ... لحظات لا يمكن أن ينساها كل تائب. أتدرون لماذا السبب لأنه يشعر حينها بالفرق، يشعر بالسعادة والطمأنينة التي لطالما بحث عنها، لكنه اخطأ طريقها، ولم يعرفه إلا بعد التوبة إلى الله... التائب بعد توبته يشغل فكره شيء ليس بالسهل الأ وهو الثبات على الهداية والاستقامة والخوف من الرجوع لحياة المعاصي والتفريط... التوبة أمر جميل ومسعد لكن الأجمل معرفة كيف نحافظ على التوبة.. من أي صنف أنت...
أولا ً / صنف سمعنا في نبض القلوب وعزم أن يلتزم وأقبل علي الله بكل حماس .. ووجد أن التدين شيء جميل للغاية ويعطي لحياته معنى، ولكن خلال الأسبوع الأول تعرض لمشكلة هنا أو هناك ... مثلا يخطئ في حقه شخص ملتزم وعندها يقول هؤلاء هم المتدينون. لا أريدهم كنت أعتقد أنهم طيبون إلى غير ذلك من الكلام الكثير ومن ثم يقر في نفسه أنه لا يريد الالتزام... الأ يحصل ذلك؟ الأ نسمع ذلك.. بلى وللأسف أو مثلا قد يذهب للمسجد ويُسرق حذاؤه الغالي الجديد... فيبتعد ويقول إن الملتزمين يصعب التعامل معهم ومن ثم لا يرجع للمسجد. ويقول أحدهم لقد اشتغلت مع أحد الملتزمين. وبعد معرفتي به لم يعجبني تعامله وسلوكه. ومن حينها لم أعد أريد التدين. أو غير ذلك من المشاكل التي تقع مع الكثير من الناس وبسببها يبتعدوا عن ربهم. ولهؤلاء نقول لكل هؤلاء نقول لا. إياكم يا إخواننا أن تتوقفوا وتتوقف مسيرة إلتزامكم من أجل الناس أو من أجل مشكلة هنا او هناك لا تعبدوا ربكم علي حرف فإن أصابكم خير التزمتم وإن أصابكم ضر ابتعدتم.
ثانياً / صنف آخر يقبل على الله، ويتدين ويزيد طاعته ودعائه وتضرعه، ولكن لماذا كل هذه الأشياء لأنه يريد طلبا من الله تعالى، مثلا عنده امتحان أو يريد أن يتزوج أو عند المصائب، والله تعالى كريم يعطيه.. ويرزقه ما يريد لكن بعد ذلك يسقط ويبتعد عن ربه، ويضعف ارتباطه بالدين وتأخذه مشاغل الحياة، ويفقد الثبات ويعود كما كان، وأيضا رجل قريب منه... رجل أراد أن ينال شيئا (زوجة أو ولدا أو شهادة أو أن ينجيه من كرب) فوعد الله تعالى إن ناله سيزيد من طاعته ويتوب من معاصيه ويثبت على درب التدين... فإن نال ما تمنى... نسي وعده لرب العزة وأيضا تأخذه مشاغل الحياة ويبتعد عن ربه.
ثالثاً / صنف سمع لنا في نبض القلوب فقرر أن يقبل على الله تعالى ويدعو الناس للخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيؤذي، ربما البعض يسأل كيف يؤذي؟ مثلا يبدأ بالتحدث مع الناس بالدين... أو يتحدث مع صديقة من أجل دعوته للصلاة، فيعرض عنه هذا ويؤذيه ذاك ... وربما سخر منه أصحابه... وربما أظهر أقاربه التضايق والانزعاج.. وهنا يتراجع عن ثباته. مثال آخر للفتيات مثلا فتاة سمعت لنبض القلوب وقررت أن تلتزم وتتحجب فتؤذي في عملها بسبب حجابها أو يُستهزئ بها فتتراجع عن التزامها وتتراجع عن ثباتها... لهؤلاء نقول أنسيتم مقدار الأذى الذي لقيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته للناس؟؟ قالوا عنه مجنون وكاهن وساحر... ورغم ذلك لم يتراجع ولم يخمد حماسه وحبه لدين الله ولهداية الناس وكان يقول اللهم إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
رابعاً / أيضا من النماذج ومن أنواع عدم الثبات إنسان مضت سنوات عديدة وهو ملتزم... ملتزم منذ صغره... لكنه لم يعد يتذوق حلاوة الإيمان... أصبحت عباداته فاترة.. لم يعد هناك شعور بالإيمان... لم يعد فيه تلك الروح الجذلة التي كانت تحركه.. لم يعد هناك شعور بلذة ممارسة العبادات... وكأنها أصبحت روتينا باردا. ولذلك نجد كثير ممن يقول أن الملتزم جديد أقوى في إلتزامه من القديم وعلى أية حال الله تعالى خاطب هؤلاء فقال لهم.(4/357)
خامساً / وأيضا حتى لا أطيل عليكم من أمثلة عدم الثبات شخص بدأ متحمسا جدا ومقبلا على الله بقوة ومدافعا عن قضايا الإسلام والمسلمين.. ويعمل لخدمة الإسلام. وربما استمع إلينا في نبض القلوب وعزم أن يسير معنا في قافلة النابضة قلوبهم في نبض القلوب. ثم ماذا.. أصابه الملل... وفتُر حماسه ولم يعد يصبر على المشقات التي تعترضه الخلاصة إلى كل هؤلاء، الذين ساروا في طريق الإيمان ثم توقفوا أو تراجعوا أو ملو ولم يثبتوا.. نقول إياكم يا إخواننا.. يا أخواننا أن تغفلوا... أو تميلوا... أو تيأسوا... نحن مضينا في نبض القلوب برؤية منهجية واتفقنا أننا نريد صناعة الحياة وكذلك اتفقنا على نبدأ مشوارنا في النبض بتوبة صادقة من قلوبنا واليوم نؤكد على أن مشروعنا يحتاج منا لثبات وأمل وعمل.. مسكين يا من ستعيش فقط لتأكل وتشرب وتتزوج وتنجب أولا... ثم ماذا... ثم تموت... ستعيش صغيرا وتموت صغيرا... ولكن من يعيش لقضية الإسلام يبقى مرفوع الراية... سيعيش كبيرا وسيموت كبيرا... وهناك على مر التاريخ أناس أرادوا لأنفسهم أن يعيشوا كبارا ويموتوا كبارا... ونحن في نبض القلوب نريد أن نصنع ممن لا يقبلون إلا أن يعيشوا للإسلام فيعيشوا كبارا ويموتوا كبارا. لكن هل يعقل ألا نعصى الله أبدا بعد كل ذلك السؤال هل نستطيع ألا نعصى الله أبداً خاصة أننا نعيش في زمن كَثر فيه الفساد، والملتزم فيه كالقابض على الجمر.. والرد على هذا السؤال حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جاءه رجل وقال يا رسول الله أرأيت إن فعلت ذنبا أُيكتب علي؟ قال " يُكتب " قال أرأيت إن تبت؟ قال " يمحي "... قال أرأيت إن عدت؟ قال " يكتب "... قال أرأيت إن تبت؟ قال " يمحي " فقال الأعرابي حتى متى يمحى؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لا يمل من المغفرة حتى تملوا من الإستغفار " أحبتنا دعونا نستشعر معا هذا الحديث القدسي " يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم إستغفرتني لغفرت لك ولا أبالي " وفي حديث قدسي آخر " أذنب عبدي ذنبا، فقال: يا رب أذنبت ذنبا فاغفره لي، فقال: قد علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب جميعا... قد غفرت لعبدي. هيا أخواننا توبوا إلى ربكم وإن وقعتم فتوبوا وإن عدتم فتوبوا وإن عدتم مرة أخرى فتوبوا وأعلموا أن الله غفور رحيم.
كيف تثبت على الطاعة(4/358)
الدعاء أول عوامل الثبات الدعاء، الاستعانة بالله بالدعاء... لا تقولوا أهذا ما ننتظره منك بعد كل هذا الكلام؟ نعم.. لا تستهينوا بالدعاء فهو سلاح المسلم.. إن المعونة من عند الله فاطلبها بقلب خاشع ونفس تتضرع.. تريد أن تثبت إيمانك؟ اطلب من الله أن يثبتك تريد أن تثبت اطلبها ممن يهب الثبات من رب العالمين. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن أحد الصحابة وقف على قبره ويقول استغفروا الله واسألوا لأخيكم الثبات فإنه يسأل الآن.... انظر للنبي - صلى الله عليه وسلم - تقول عنه أم سلمه كان أكثر دعاء يدعوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ".. فتقول أم سلمه - رضي الله عنها - فسألته يا رسول الله لماذا هذا الدعاء فأجاب - صلى الله عليه وسلم - إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.. ثم تلا قول الله - تعالى -: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} لن نقدر على فعل شيء من غير استعانة فلنعزم أن ندعوه أن يرزقنا الثبات ومداومة الطاعات فلتنطلق الألسنة والقلوب وتقول يا رب الثبات.. صاحب الصالحين من عوامل الثبات صحبة الصالحين، قل لي من صاحبك أقل لك هل ستثبت وتتوب أم لا المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل... فحاول أن تبحث عن بعض الأصدقاء الملتزمين وتقضي وقتا معهم. فالصديق الصالح هو عنوان الفلاح، وهو سبب للورود على باب الجنة أو سبب للصد عنه، ولو تأملنا تأثير الصداقة في حياة الناس فستجد شبابا وقعوا في طريق المخدرات، وفتيات وقعن في حبائل المعاكسات، وكم من صالح انتكس وكم من مهتد ضل، والسبب في هذا هو صديق السوء.. تمسك بكتاب الله ومن وسائل الثبات التمسك بكتاب الله... القرآن العظيم... كتاب الله المنزل وذكره الحكيم... أكثروا من قراءة القرآن و تلاوته وتعلموه واعرفوا تفسيره.. عيشوا بالقرآن و للقرآن وأدعو الله من شغاف قلوبكم أن يكون لكم دليلا وهاديا.... وأنا أقسم بالله العظيم إذا لجأتم لهذه الوسائل الأربعة لتثبتن على الحق.... ثَبَّتنا الله و إيَّاكم ولتخصصوا وقتا لتلاوة القرآن الكريم والتدبر فيه، ولو كان القدر المتلو قليلاً. وبعد ذلك يا أحبتنا ما من أحد من البشر إلا يخطئ ويصيب، يحسن ويسيء، يجتهد في عمل الصالحات ويتعثر أحيانًا في بعض الآثام، فما أحد من ولد آدم إلا وله حظ من المعصية ونصيب من الخطايا، وهذا ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) وسنطرح عليكم عددا من الأسئلة وليجب كل واحد عنها بصدق ونرجوا أن يكون كل واحد صادق مع نفسه فليس أحد يطلع عليك إلا الله - عز وجل -، واختر من هذه الاختيارات اختيار واحداً فقط فإما أن تجيب بلا أو أحيانا أو دائما هل ينتابك إحساس بالحسرة والندم إذا ما اقترفت معصية؟ هل تشعر بأن الذنب كجبل سيقع فوقي؟ هل تسارع بالإقلاع عن المعصية إذا وقعت فيها ولا أتمادى؟ هل تعزم عزمًا صادقًا عند توبتك على عدم العودة للمعصية أبدًا؟ هل تحرص على أن تتبع توبتي بالاجتهاد في عمل الصالحات؟ هل لك وردا يوميا من الاستغفار؟ هل تحرص علي أداء صلاة التوبة بين الفترة والأخرى؟ هل تلح على الله في دعائك أن يغفر لك ذنوبك كلها؟ هل تسأل من حولك أن يدعو لك بمغفرة الذنوب؟ اللهم اقبل توبتنا واغسل حوبتنا اللهم اغفر الذنوب و أصلح القلوب واستر العيوب واقبل توبة من يتوب يا رب إنا مذنبون يا رب إنا مشفقون يا رب إنا راغبون في جنة فوق السماء.
26-04-2007
http://islamselect.com المصدر:
===============
الثبات على الطاعة
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم، {وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ} [الشعراء: 217-220].
عباد الله، إن في كرِّ الأيام والليالي لعبرةً، والأيام تمر مرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرة، وحساب يأتي على مثقال الذرة، والناس برُمَّتم منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير، ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكِّد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق-صلوات الله وسلامه عليه-[1]. وهذا كله عباد الله يُعدُّ فرصةً عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى، لفعل الخير، والتوبة النصوح، وإسداء المعروف، وترك ما يشين، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62].(4/359)
لقد ظل المسلمون جميعاً شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويورون الله من أنفسهم متقلِّبين في ذلك بين دعاء وصلاة, وذكر وصدقة وتلاوةٍ للقرآن، ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر، أو بلابل روح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير.
أيها المسلمون: إن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجبُ من لبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأنَّ لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله - سبحانه - هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر، ولا غرْو في ذلك عباد الله، فالله - جل وعلا - أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
ومن هنا عباد الله كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها، إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوعَ والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب والسهر، وآكد ما يدل على ذلك حينما يُسائل الناس أنفسَهم: كم مرة قرؤوا القرآن في رمضان؟ وكم سمعوا فيه من حِكَم ومواعظ وعبر؟ ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! ألم يقرؤوا صيحة عاد، وصاعقة ثمود، وخسف قوم لوط؟ ألم يقرؤوا الحاقة, والزلزلة, والقارعة, وإذا الشمس كورت؟! فسبحان الله، ما هذا الران الذي على القلوب؟! {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء: 82]. أفقُدَّت قلوبنا بعد ذلك من حَجَر؟! أمْ خُلقت من صخر صلب؟! ألا فليت شعري، أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً، وللأُنس والقربة خراباً بلقعاً، وحينئذ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوَة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوَة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوَة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين المروة والصفا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ }[محمد: 24، 25].
ألا فاعلموا يا رعاكم الله أن من قارب الفتور والكسل بَعُد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادعى الترويح والتسلية وُكِل إلى نفسه، ومن وُكِل إلى نفسه فقد وُكِل إلى ضيعة، فإياك إياك أيها المسلم أن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان بمقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مُكايد، وكم من صنديد شجاع في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه، واذكروا رحمكم الله حمزة مع وحشي - رضي الله عنهما -.
إن من وقع في التقصير بعد التمام، أو تمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها لهو أبعد ما يكون عن الفوز بالطاعة، ولو غشَّ نفسه بعبادات موسمية ذات خِداج، إلا أنها لا تبرح مكانها بل لربما وجد معها خفيّ العقوبة الرئيس، وهو سلب لذة المناجاة وحلاوة التعبد، إلا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمنات من عبَّاد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، وحينئذ أخْلِقوا بذي الصبر أن يحظى بحاجته، وبمدمن القرع للأبواب أن يلج، ولأجل هذا لم يكن العجب في أن يَغلب الطبع، وإنما العجب في أن يُغلب الطبع، وأمثال هؤلاء هم ولا شك ممن يسيرون على هدي المصطفى في المداومة على الطاعة. نعم لرمضان ميزة وخصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور، بيْد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي جواداً في كل حياته غير أنه يزداد جوده إذا حلَّ رمضان[2]، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي بقوله فيما صح عنه: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور)[3] والله - جل وعلا - يقول: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]. ويؤكد ذلك ما قاله في دعائه المشهور: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير)[4]، إذ لم يُقصر الخير على شهر رمضان فحسب، بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه - جل وعلا - بقوله: {وَعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت.(4/360)
إن مما لا شك فيه أن هناك ضعفاً في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه، وليس مطلوبٌ منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافةً وأسرة وإعلاماً من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدَع بها النفس في موسمٍ ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه بإذن الله من التساقط والتهالك، وتحرسهم من الفترة بعد الشرَّة مهما قلَّت مادامت هي على الدوام، فرسول الله يقول: (يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل) [رواه البخاري ومسلم][5].
ولأجل هذا-أيها المسلمون-، فإن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان، كالصلاة, والزكاة, والصدقة، وكذا الدعاء لنفسك ولمن أوصاك به ولإخوانك في الملة والدين من المعوزين والمستضعفين والمجاهدين، ناهيكم عن ثابت التوبة المطلوبة في كل حين وآن، والتي أمرنا الله بها في قوله: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وكان يتأولها النبي بقوله: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)[6].
إذا عرفت أيها المرء هذه الأمور كلها، فما عليك إلا أن تلزم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علم، ولقد ذقت طعم العبادة في رمضان ولذة القرب من الله، فلا تعكرن هذا الصفو بالكدر، والهناء بالشقاء، والقرب بالبعد.
إن البقاء على الطاعة في كل حين أو التهاون عنها كرات ومرات ليعودان في المرء بإذن الله إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلباً في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى: (إنما سُمِّي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن) [رواه أحمد] [7]، ولأجل هذا كان من دعائه: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك) [رواه الإمام أحمد] [8].
وبعدُ يا رعاكم الله، فإن من حق نفسك عليك أيها المرء أن تفرح بعيدها، فالله - جل وعلا - جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك، وساخط العيش عباد الله هو في الحقيقة كثير الطيش، وكأن الدنيا في عينه سمُّ الخياط، حتى يكون حرضاً أو يكون من الهالكين. والعيد عباد الله مسرح للاستئناس البريء، البعيد عن الصخب والعطب، بيتاً ومجتمعاً وإعلاماً، ومتى تجاوز الناس حدود الله في أعيادهم من لهوٍ محرم، وإيذاء للآخرين بالضجيج والأهازيج فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه، ولقد رأى علي- رضي الله - تعالى -عنه قوماً يعبثون في يوم عيدٍ بما لا يُرضي الله فقال: "إن كان هؤلاء تُقُبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يُتقبل منهم صيامُهم فما هذا فعل الخائفين"[9]، ورحم الله ابن القيم حين قال عن الفرح: "إن الله - عز وجل - سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً، فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5]"[10].
فعلى المسلم إذاً أن لا يكون مفراحاً إلى درجة الإسراف؛ لأن الله لا يحب الفرحين من أمثال هؤلاء، إذ بمثل هذا الفرح يتولد الأشر والبطر، ويدل لذلك قوله - تعالى -: {مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4]. فقد قال بعض المفسرين: إن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، واللهَ اللهَ في الانضباط حال الفرح والسرور والابتهاج، فالمؤمن الصادق لا يفرح إلا فرح الأقوياء الأتقياء، وهو في الوقت نفسه لا يبغي ولا يزيغ، ولا ينحرف عن الصواب، ولا يفعل فعل أصحاب النار الذين قال الله فيهم: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "كل يوم لا يعصي فيه العبد ربه فهو عيد".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الشارع الحكيم قد سنّ لكم صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فقد قال النبي: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر كله) [رواه مسلم] [11].(4/361)
ووجه كون صيام الست بعد رمضان كصيام الدهر هو أن الله - جل وعلا - جعل الحسنة بعشر أمثالها كما في قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. فصيام رمضان يُعدُّ مضاعفاً بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوماً، فيتحصَّل من ذلكم أجر صيام سنة كاملة.
والأفضل في صيام هذه الست أن تكون على الفور بعد يوم العيد، وأن تكون متتالية، ومن فرق بينها فلا بأس، ومن أخرها إلى وسط الشهر أو آخره فلا بأس، وهي ليست واجبة، ولا صحَّة لما يظنه بعض العوام من أن من صامها سنة وجبت عليه في السنين الأخرى، بل هي سُنة، من فعلها أثيب عليها، ومن تركها فلا شيء عليه، ومن كان مواظباً عليها في كل عام ثم مرض أو سافر في عام آخر فإنها تكتب له، وإن لم يصمها، لقول النبي في الحديث الصحيح: (إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً)[12].
كما أنه لا يجوز تقديم صيام الست على أيام القضاء من رمضان؛ لأن من شروط حصول أجر الست من شوال أن يكون المرء قد صام رمضان بأكمله، وبذلك يكون المرء كأنما صام عاماً بأكمله.
ثم إن من أراد الزيادة ومضاعفة الأجر فليحافظ على صيام أيام البيض من كل شهر، وهي يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، فلقد صح في السنن أن النبي جعل صيامها كصيام الدهر[13]، أي كسنة كاملة، والسنة فيها اثنان وأربعون يوماً من الأيام البيض فقط، ويضاف إليها ستة وثلاثون يوماً لرمضان وست من شوال، فيكون صيام ثمانية وسبعين يوماً في السنة يعدل صيام سنتين كاملتين أي أكثر من سبعمائة يوم، {وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
--------
[1] أخرج البخاري في كتاب الجمعة، باب: ما قيل في الزلازل والآيات (1036) واللفظ له، ومسلم في العلم (157) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن)) الحديث.
[2] هو عند البخاري في كتاب: الصوم، باب: أجود ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (1902)، ومسلم في: الفضائل (2308) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[3] أخرجه أحمد (5/83)، والترمذي في: الدعوات، باب: ما يقول إذا خرج مسافراً (3439)، وأصله في مسلم كتاب الحج (1343) من حديث عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه -.
[4] أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (2720) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[5] البخاري في: اللباس، باب: الجلوس على الحصير ونحوه (5862)، ومسلم في: صلاة المسافرين، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (782) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
[6] أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والإكثار منه (2702) من حديث الأغر المزني - رضي الله عنه -.
[7] أخرجه أحمد (4/408) بنحوه، وابن ماجه في: المقدمة، باب: القدر (88)، والبزار (8/50) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (71).
[8] أخرجه أحمد (3/112)، والترمذي في: القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (2140)، وأبو يعلى (6/35-3687) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال الترمذي: "وهذا حديث حسن". وصححه الحاكم (1/707)، والضياء في المختارة (6/211)، والألباني كما في المشكاة (102).
[9] أخرجه البيهقي في الشعب (3/346) من قول وهيب بن الورد، ولم أقف عليه من قول علي - رضي الله عنه -.
[10] مدارج السالكين (1/210).
[11] صحيح مسلم كتاب: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164)، من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -.
[12] أخرجه البخاري في: الجهاد، باب: يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة (2996) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - بنحوه.
[13] أبو داود في: الصوم، باب: في صوم الثلاث من كل شهر (2449)، والنسائي في: الصيام (2431)، وابن ماجه في: الصيام، باب: ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1707)، وأحمد (5/28) من حديث قتادة بن ملحان القيسي - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2139).
6/10/1422
http://www.alminbar.net : المصدر
================
وفي الثبات النجاة
تتلقف المغريات الداعية، وتتزين له الشهوات، وتعترض طريقه الفتن، والشيطان من خلفه يوسوس بصوته القبيح أنِ اترك مشاقَّ الطريق إلى سهلِه، ودع العمل إلى الكسل وطلِّق الجد وانكح الراحة..إليك عن هذا الطريق فإن العواقب وخيمة والمنقلب غير آمن.
ولا يفتأ الخبيث عن ذلك في رمضان فيقعد له في كل مرصد يثنيه عن عزمه ويجاهد ليمحوَ ذلك المعنى عن عقله في رمضان، مؤملاً أن يستجيب له وينساق وراءه.
صعوبة مجهدة(4/362)
والثبات في كل معانيه صعب يقول الإمام ابن القيم: "ليس في الجود شيء أصعب من الثبات والصبر إما عن المحبوب أو على المكروهات وخصوصًا إن امتد الزمان ووقع اليأس من الفرج، وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع بها سفرها، والزاد هنا الثبات على حكم الله وقضائه وابتلائه ".
لكن أيام رمضان تعلِّم مواجهة الصعب، وتعين الداعية؛ علَّها تمده بمدد الثبات الذي يريد، وتعطيه نفحة الثقة واليقين الذي يرجو.. إنه حين يتعلم الثبات على الطاعة في نهار رمضان ويدع المعصية فهو المدد الذي يريد، وحين يتعلم الثبات على أداء النوافل طامعًا في أجرها وجزائها فهو المدد الذي يريد، وحين يتعلم الثبات على نشر دعوته وأداء رسالته وتبليغ دعوته مضحيًا لها لما بين يديه وما خلفها فهو المدد الذي يريد، وحين يتعلم الثبات على حفظ جوارحه وحمايتها من الشرود إلى مواقع المعصية فهو المدد الذي يريد.. حينها يتصبَّر الداعية ويغلب تلك الصعوبة ويثبته الله ويربط على قلبه ويكتب له الإمامة.. {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
طريقنا طويل
وليعلم الدعاة أن طريقهم طويل وشاقّ قد سُفكت عليه الدماء، ودُقَّت فيه الأعناق، وتقطَّعت المفاصل، وزهقت الأرواح، ولعلهم يعلمون ذلك منذ وضعوا أول أقدامهم عليه وبصروا بما هم مقبلون له، واستبانوا الطريق الذي سار عله من سبقهم ولعلهم قرأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم أثرهم.
لا بد من ابتلاء
ولا مفر من الابتلاء على الطريق {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: من الآية 155].. (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء).
وهي سنة الله في الجماعة العاملة "هذا هو الطريق الذي صنعه الله للجماعة المسلمة الأولى وللجماعة المسلمة في كل جيل.. إيمان وجهاد.. ومحنة وابتلاء.. وصبر وثبات وتوجُّه إلى الله وحده ثم يجيء النصر.. ثم يجيء النعيم والبلاء بالخير والشر.. {وَنَبْلُوْكُم بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِتْنَةً}.. فلا يقتصر على السجون وغيابها أو المطاردة ومخاطرها.. كلا.. ابتلاء الخير أشد ألف مرة.. والثبات على الحق عند حضوره أصعب ألف مرة.
القشيري يقسم
علق الإمام القشيري على قول الله - عز وجل -: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].. بقوله: "لم يخلهم من البلاء أو ضده من الضجر وشكرهم في الرخاء أو ضده من الكفر والبطر، وهم في البلاء ضروب، فمنهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء، وهذه صفة الصادقين، ومنهم من يضجُّ ولا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء فهو من الكاذبين، ومنهم من يؤثر في حال الرخاء ألا يستمع بالعطاء ويستروح إلى البلاء فيستعذب مقاساة الضر والعناء وهذا أجلهم ".
والله إنها لأهون
يقول الراشد: "المؤمن الداعية أهون عليه ألف مرة أن يخلع أضلاعه ضلعًا ضلعًا، وأن يأكل تراب الأرض من أن يتخلى عن دعوته وعقيدته أو يتراجع عن قضية آمن بها أو قبل المساومة على فكرته التي بلغت عنده حد اليقين؛ لأن في ذلك تنازلاً عن جوهر نفسه كإنسان؛ ولأن الفكرة التي تتملك بيقينها المؤمن تتحول عنده إلى قيمة الحياة ذاتها ".
ثبات عجيب
حكى أبو أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا عدوه، فحضر فصيح في الناس، فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسه عند عجز فرسه وهو يخاطب نفسه فيقول: أي نفس.. ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلت لي: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد كذا وكذا؟ فقلت لي: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله آخذك أو أتركك، فقلت: لأرمقنه اليوم: فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم: ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا، فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.
الدقائق الغالية
حين يرخي الليل سدوله فيطبق على الدنيا الظلام، وحين تسكن الحياة ويؤوب العباد إلى فرشهم ينامون وحين تتسلى العيون بالمنام وتهيم العقول في بحور الأحلام، وتطمئن الجنوب في المضاجع بعد قيام.. حينها.. يتسلل المقربون إلى محاريبهم، يصفون أقدامهم ويبسطون أيديهم، ويسألون حاجتهم، ويستغفرون من ذنوبهم وزلتهم ويتوبون من خطئهم وعثرتهم ويهتفون بكل شوق: أنْ جئناك فاقبلنا، وآتيناك فلا تردنا، وسألناك فأعطنا، استرحمناك فارحمنا، واسترضيناك فارض عنا.. أنت العزيز ونحن الأذلاء.. أنت القوي ونحن الضعفاء.. أنت الغني ونحن الفقراء.. ولا استغناء يا رب عنك.. فاقبلنا.
وصية البنا(4/363)
ولعظم الأجر الذي حف دقائق الليل الغالية ضمن الإمام البنا في رسائله رسالة سماها المناجاة يتقرب بها الأخ إلى ربه، ومما حوته هذه الرسالة وصية الإمام الشهيد يقول:
يا أخي لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلوَ بربك والناس نيام والخليون هجع، قد سكن الكون كله وأرخى الليل سدوله، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك فنأنس بحضرته ويطمئن قلبك بذكره وتفرح بفضله ورحمته وتبكي من خشيته وتشعر بمراقبته وتلحّ في الدعاء وتجتهد في الاستغفار وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء ولا يشغله شيء عن شيء.. تسأله دنياك وآخرتك وجهادك ودعوتك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وإخوانك.. {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية 126].
داعية بلا قيام؟
وإن أعجب العجاب أن تجد داعيةً يصول ويجول ويروح ويجيء ويقضي طول يومه في حياته ودعوته، ثم إذا جن الليل أتى سريره كأنه خشبةٌ لا تتحرك ولا تجري فيها الحياة، يا للعجب.. كيف يحيا داعية بدون ركعات قيام الليل؟ كيف تطيب نفس داعية أن تظل طول الليل هامدةً؟ كيف تطيع عين الداعية نفسه أن تقضي عرض الليل نائمة؟ لم نترك قيام الليل بنور القيام؟ مَن غيركم يرج سبات الكون بآي القرآن؟ أظننتم أن غيركم يفعل؟ أتظنون أنه وجب على من سواكم؟ من أين الزاد إذن؟ ومن أين استجلاب اليقين والثقة والصبر؟ أتظنون أنها من أداء الفرائض وحسب.
كلا.. و ايم الله إن الزاد في قيام الليل.. فمن أراد أن يحمل هم الدعوة وأن يصيب الفردوس من الجنة فليحضر في الأسحار، فمن هنا تمر القافلة.. حضر أحد مشايخنا لقاءً فقال الدعاة له: حدثنا عن صلاة الفجر، فقال: إذا حضرت مجلسًا من مجالس الإخوان فطالبوني أن أحدثكم عن قيام الليل، فالدعاة في حاجة إلى القيام أما عن صلاة الفجر فلا أحدث فلا داعية بسواها.
هو لأهل الإرادة
يقول ابن رجب: "الليل منهل يرده أهل الإدارة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون، قد علم كل أناس مشربهم، فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلحُّ في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين أحسن الله عزاءَه في حرمانه وفوات نصيبه ".
النبي يبشر
سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: طوال القيام: (إن في الجنة غرفًا ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله - تعالى -لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام).. (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله - عز وجل - ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد).. (أقرب ما يكون الرب جل جلاله من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن).
والسلف يتسابقون
وعند مطالعة سير السلف في القيام يقف المرء مشدوهًا أمام تلك العزائم والهمم فيفتضح ويظهر قلة عمله.. كان عبد الله بن مسعود إذا هدأت العيون قام فيُسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح، وكان علي بن أبي طالب يستوحش الدنيا وزينتها، ويستأنس بالليل وظلمته فإذا جنَّ عليه الليل تململ وبكى وقال وهو يقبض على لحيته: "يا ربنا يا ربنا ثم يخاطب الدنيا ويقول: إليَّ تشوقت؟ غرِّي غيري قد بنتك ثلاثًا فعمرك قصير، ومجلسك حقير وخطرك يسير.. آه آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق ".
وكان شداد ابن أوس إذا دخل فراشه يتلقَّى مثل الحَبِّ في المقلى، وكان يقول: اللهم إن ذكر جهنم منعني النوم ثم يقوم إلى الصلاة، وكان عبد الله بن الزبير يقوم إلى الصلاة بالليل فيقسم الدهر على ثلاث ليال، فليلة هو قائم حتى الصباح، وليلة هو راكع حتى الصباح، وليلة هو ساجد حتى الصباح، وكان لعبد الله بن عمر إناء ماء يقوم من الليل فيتوضأ فيه ثم يصلي ما قدِّر له أن يصلي ثم يصير إلى الفراش فيغفَى إغفاءة الطائر ثم يقوم فيتوضأ ويصلي يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس.. فالحق بركب هؤلاء تنجو، واسلك طرقهم تجد في أخراه جنةً عرضها السموات والأرض.. وأنعم بها.
لا تنس أهلك
يقول النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم _ : (رحم الله رجلاً قام من الليل وأيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء).
فإن منَّ الله عليك بالقيام فلا تنس زوجك ونادهم ليقوموا معك لتنالكم الرحمة وتغشاكم السكينة وتنزل عليكم الملائكة، وليضيء بيتكم في السماء شاهدًا أن هاهنا أسرةً تقوم الليل تتعرض لنفحات الله وتخشى النقمة والغضب، فيؤمِّنها الله مما تخاف ويعطِها ما ترجو ويجعل جزاءها الجنة، وكذلك كانت أسرة أبو هريرة - رضي الله عنها - فكان يقوم هو ثلث الليل وتقوم امرأته ثلث الليل ويقوم ابنه ثلث الليل إذا نام هذا قام هذا.
تشبه بنبيك
عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة: ماذا كان النبي يفتتح به قيام الليل قالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك: كان يكبر عشرًا ويحمد عشرًا ويسبح عشرًا ويقول: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.(4/364)
http://islameiat.com المصدر:
==============
الثبات على الطريق وأثره في حياة الأمة
محمد أحمد سيد طه
إن الله - تعالى - خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويخافوه، ويخشوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على كبريائه وعظمته ليهابوه.
وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن جعل الابتلاء سنة من سنن الله الكونية، وأن المرء بحاجة إلى تمحيص ومراجعة حتى يتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من غيره؛ فالسعيد من اعتصم بالله، وأناب ورجع إلى الله، والمؤمن الصادق ثابت في السراء والضراء. قال - تعالى -: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، وقال - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال - تعالى -: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].
إن في تعاقب الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كشف عن معادن النفوس، وطبائع القلوب؛ حيث يتمحص المؤمنون، وينكشف الزائفون. ومن علم حكمة الله في تصريف الأمور، وجريان الأقدار فلن يجد اليأسُ إلى قلبه سبيلاً، ومهما أظلمت المسالك وتتابعت الخطوب، وتكاثرت النكبات؛ فلن يزداد إلا ثباتاً؛ فالإنسان إلى ربه راجع، والمؤمن بإيمانه مستمسك وبأقدار الله مسلمَّ.
وإن مما حث عليه الإسلام، وعظمة القرآن: الثبات على الدين، والاستقامة عليه؛ ذلك أن الثبات على دين الله والاعتصام به يدل دلالة قاطعة على سلامة الإيمان، وحسن الإسلام، وصحة اليقين، وحسن الظن بالله - تعالى - وما أعده الله - عز وجل - من النعيم المقيم في الآخرة لعباده الصالحين، وفي الدنيا من النصر والتمكين. قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8]، وأعظم الثبات، الثبات على الدين.
إن الثبات على دين الله خلق عظيم، ومعنى جميل، له في نفس الإنسان الثابت، وفيمن حوله من الناس مؤثرات مهمة تفعل فعلها، وتؤثر أثرها، وفيه جوانب من الأهمية الفائقة في تربية الفرد والمجتمع.
إن صفة الثبات على الإسلام والاستمرار على منهج الحق نعمة عظيمة حبا الله بها أولياءه وصفوة خلقه، وامتن عليهم بها، فقال مخاطباً عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74].
وأمر الله - سبحانه - الملائكة الكرام بتثبيت أهل الإيمان، فقال - سبحانه -: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
إن الثبات على دين الله دليل على سلامة المنهج، وداعية إلى الثقة به، كما أن الثبات على الدين ضريبة النصر والتمكين والطريق الموصلة إلى المجد والرفعة.
والثبات طريق لتحقيق الأهداف العظيمة، والغايات النبيلة؛ فالإنسان الراغب في تعبيد الناس لرب العالمين، والعامل على رفعة دينه وإعلاء رايته لا غنى له عن الثبات.
إن الثبات يعني الاستقامة على الهدى، والتمسك بالتقى، وقسر النفس على سلوك طريق الحق والخير، والبعد عن الذنوب والمعاصي وصوارف الهوى والشيطان. إن مما يعين على الثبات أمام الفتن والابتلاءات صحة الإيمان وصلابة الدين؛ فكلما كان الإنسان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع ربه، كلما ازداد ثباته، وقويت عزيمته وثبتت حجته، قال - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَ} [إبراهيم: 27]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»(1).
كما أن الدعاء والافتقار إلى الله - عز وجل - والاستكانة له من أقوى الأسباب لدفع المكروه وحصول المطلوب، وهو من أقوى الأسباب على الثبات إذا أخلص الداعي في دعائه؛ وحسبك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو ربه ويسأله الثبات، فيقول: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»(2).(4/365)
وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو فيقول: «رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ. اللهم اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً ومنيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي»(3).
كما أن اليقين والرضى بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على الثبات. قال علقمة بن قيس في تفسير قوله - تعالى -: {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين»، وقال ابن القيم - رحمه الله -: اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد». وقال ابن تيمية - رحمه الله -: «الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله».
إن المسلمين اليوم، وهم يمرون بمرحلة عصيبة من مراحل تاريخنا المعاصر ـ وتكاد تغلب في هذه المرحلة عوامل اليأس ومشاعر الإحباط ـ بأمس الحاجة إلى التمسك بالدين، والعض عليه بالنواجذ؛ لأن الاستسلام لليأس يقتل الهمم ويخدر العزائم، ويدمر الطموحات، وهذه المعاني هي التي تحرك الإرادات وبذل الجهد.
ورغم تتابع الفتن وتنوعها وتكاثرها فإن نصر الله آتٍ لا محالة إن شاء الله كما وعدنا - سبحانه - شريطة أن نتمسك بديننا ونعتز بشريعتنا ويكون ولاؤنا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال - تعالى -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»(4). وفي حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»(5).
ومع تكاثر أعداء الإسلام، وتكالبهم على هذا الدين، والكيد له ولأهله قال - تعالى -: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]. إلا أن النصر والتمكين بمشيئة الله لحملة هذا الدين المبشرين بالثناء والتمكين كما في حديث ثوبان - رضي الله عنه -: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها»(6).
وكما في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به دين الإسلام، وذلاً يذل به الكفر»(7).
إن عز هذه الأمة، ورفعة أهل الحق لا تتم ولن تكون إلا بالعض على هذا الدين بالنواجذ عقيدة وشريعة، صدقاً وعدلاً، ثباتاً في الموقف وصدقاً مع الله، قال - تعالى -: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال - سبحانه -: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
* العوامل المعينة على الثبات على الدين:
إن الثبات على الدين مطلب عظيم ورئيس لكل مسلم صادق يحب الله ورسوله، ويريد سلوك طريق الحق والاستقامة بعزيمة ورشد، والأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى الثبات خاصة وهي تموج بأنواع الفتن والمغريات، وأصناف الشهوات والشبهات، فضلاً عن تداعي الأمم عليها، وطمع الأعداء فيها. ومما لا شك فيه أن حاجة المسلم اليوم لعوامل الثبات أعظم من حاجة أخيه المسلم إلى ذلك في القرون السالفة؛ وذلك لكثرة الفساد وندرة الإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصح والناصر.
أهم عوامل الثبات ما يلي:
1 - صحة الإيمان وصلابة الدين:
إن الإيمان له قوته الإيجابية التي تعمل على تنمية المشاعر وتنقيتها، وأن القوة الإيمانية تترك بصماتها على الفرد والجماعة، وعلى سائر اتجاهات السلوك الإنساني، ومتى صح الإيمان ورسخت حلاوته في قلب المؤمن رزقه الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وكلما كان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع ربه، كلما ازداد ثباته، وقويت عزيمته. قال - تعالى -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»(8).
2 - تدبر القرآن والعمل به:(4/366)
إن من حق القرآن علىنا أن نتدبر معانيه، وأن نفهم مقاصده؛ ذلك أن القرآن هو كتاب الله الخالد، ومعجزة رسوله الباقية، ونعمته السابغة، وحكمته الدامغة، وهو ينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً، ونجتهد في إقامة أوامره ونواهيه، وعلماً تزداد البصائر فيه تأملاً فيزيدها هداية وثباتاً وتبصراً. قال - تعالى -: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]، وقال - تعالى -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
لقد أنزل الله القرآن ليكون بشيراً ونذيراً، وهادياً إلى ما ارتضى له من دينه، وسلطاناً أوضح به وجهة دينه، ودليلاً على وحدانيته، ومرشداً إلى معرفة عزته وجبروته، ومفصحاً عن صفات جلاله وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله به، عَلَماً على صدقه، وبيِّنة على أنه أمينه على وحيه والصادع بأمره، فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، بيَّن فيه - سبحانه - أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها أو حجة تتلوها، والقرآن الكريم وسيلة التثبيت الأولى للمؤمنين، ولقد أنزل الله القرآن العظيم منجَّماً مفصلاً، وجعل الغاية منه هي التثبيت لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال - تعالى -: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32].
إن القرآن الكريم أعظم مصدر للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله، كما أنه العاصم من الفتن وكيد الشيطان وغوايته، كما أنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع على ضوئها أن يُقوِّم الأوضاع التي من حوله، تقييماً صحيحاً، كما أن القرآن بما اشتمل عليه من أحكام وأصول وقواعد وحكم وقصص، يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين ومن سار على دربهم.
فإن عُلم ذلك كله لزم على من أراد الثبات في الدنيا والآخرة، والفوز بالنعيم المقيم، أن يتخذ القرآن سميره وأنيسه، وأن يجعله رفيقه وجليسه على مر الليالي، وتتابع الأيام، فلا يقتصر على النظر فيه، بل يحمل نفسه على العمل به.
3 - الصبر والتصبر عند نزول المصائب والمحن:
إن الصبر من أجلِّ صفات النفس وأعلاها قدراً، وأعظمها أثراً قال - صلى الله عليه وسلم -: «الصبر ضياء» فالصبر من أعظم الأمور والعوامل المعينة على الثبات؛ ذلك أن الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن التشويش؛ فالصبر إذن أعظم مظهر من مظاهر الثبات، ولقد أمرنا الله - تعالى - به فقال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وقال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
قال ابن تيمية - رحمه الله - قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله - تعالى -: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]؛ فإن الدين كله عِلمٌ بالحق وعمل به، والعمل به لا بد فيه من الصبر، بل وطلب عِلْمِهِ يحتاج إلى الصبر، كما قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «عليكم بالعلم؛ فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد» فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا قال الله - تعالى -: {وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
4 - اليقين، والرضا بقضاء الله وقدره:
اليقين والرضا بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على الثبات؛ ذلك أن اليقين هو جوهر الإيمان، وإن مما لا شك فيه أن اليقين، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره من أقوى الدعائم والعوامل المعينة على الثبات.
5 - التزام شرع الله والعمل الصالح:
قال - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم: 27].(4/367)
قال قتادة: «أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة (في القبر)» وكذلك روي عن غير واحد من السلف. وقال - سبحانه -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] أي على الحق؛ ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة - رضي الله عنها - إذا عملت العمل لزمته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة»(9). وفي الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه»(10).
6 - الذكر والدعاء:
سبق أن تحدثت عن الدعاء وفضله وأثره. أما الذكر فهو حياة القلوب، وشفاء الصدور، وجلاء الأحزان، وأنس المستوحشين، وأمان الخائفين، فضله عظيم، وأثره عميم، وهو من أعظم أسباب التثبيت في الجهاد وغيره. قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45]، وقال - سبحانه -: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه عند التضرع إليه وفي سجوده قائلاً: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»(11).
7 - الاستعانة بالله وحسن الظن به:
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «وتحت قوله - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] كنز عظيم من وُفِّق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه، وأنفق منه فقد غنم، ومن حُرِمَه فقد حرم؛ وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين؛ فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانها، وقد قال - تعالى - لأكرم خلفه: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74]، فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً. والقول الثابت هو قول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكاذب. فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له. وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها؛ فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة، فما مُنح عبد منحة أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكون إليه في قبورهم ويوم معادهم»(12).
وبهذا يتضح أن الاستعانة بالله وحسن الظن به وإخلاص العبادة له، من أقوى الأسباب المعينة على تثبيت الله لعبده بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة(13).
8 - الصحبة الصالحة، والأُخوة الصادقة:
إن الصحبة الصالحة والأُخوة الصادقة من أعظم الأمور المساعدة على الثبات على الدين والاستقامة عليه؛ إذ المؤمن الصادق يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو مرآة له، كما جاء في الحديث، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمصاحبة الطيبين وتخير الصالحين فقال: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي»(14).
وهذا يدل على أثر الأخوة الصالحة في الثبات(15).
---------
(*) مدرس بدار الحديث الخيرية، مكة المكرمة.
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد والنسائي وهو حديث حسن.
(3) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه أحمد والطبراني والحاكم، وقال: حديث صحيح.
(8) رواه مسلم.
(9) رواه الترمذي، 379، والنسائي، 1771، وابن ماجة، 1130، ولفظ الترمذي «بنى الله له بيتاً في الجنة».
(10) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(11) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع الألباني.
(12) أعلام الموقعين، 1/ 76.
(13) انظر: صفة الاستعانة، حسن الظن.
(14) الترمذي، 2318، وأبو داود، 4192، وأحمد، 10909.
(15) انظر: صفة حسن العشرة، حسن المعاملة، النصيحة.
شوال 1424، نوفمبر - ديسمبر 2003.
http://albayan-magazine.com المصدر:
==============
الثبات على دين الله (1)
محمد صالح المنجد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد.
أهمية الموضوع تكمن في أمور منها: -
وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً (القابض على دينه كالقابض على الجمر).
ولا شك عند كل ذي لُب أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر.(4/368)
- كثرة حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات بين المسلمين؛ مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى بر آمن.
- ارتباط الموضوع بالقلب؛ الذي يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنه: (لَقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً) [1].
ويضرب - عليه الصلاة والسلام - للقلب مثلاً آخر فيقول: (إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن) [2]، فسبق قول الشاعر: ما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.
ومن رحمة الله - عز وجل - بنا أن بيّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته وسائل كثيرة للثبات، أستعرض معك - أيها القارئ الكريم - بعضاً منها:
أولاً: الإقبال على القرآن: القرآن العظيم وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.
نص الله على أن وظيفة هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجّماً مفصلاً هي التثبيت، فقال -تعالى - في معرض الرد على شُبه الكفار: (وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان: 32، 33].
كيف يكون القرآن مصدراً للتثبيت؟ !
* لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
* لأن تلك الآيات تنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله.
* لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
* إنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
ما هو أثر قول الله - عز وجل -: (مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى) [الضحى: 3] على نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال المشركون: ودع محمد[3] ؟! ما هو أثر قول الله - عز وجل -: (لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 103] لما ادعى كفار قريش أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومى بمكة؟! ما هو أثر قول الله - عز وجل -: (أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا) [التوبة: 49] في نفوس المؤمنين لما قال المنافق (ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي) [التوبة: 49]؟ ! أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات وإسكاتاً لأهل الباطل.. ؟ بلى وربى.
ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً؛ منه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين مَن جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل.
ثانياً: التزام شرع الله والعمل الصالح: قال الله - تعالى -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].
قال قتادة: أما (في الحياة الدنيا) فيثبتهم بالخير والعمل الصالح (وفي الآخرة) في القبر.
وكذا روي عن غير واحد من السلف [4].
وقال - سبحانه -: (ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً) [النساء: 166]، أي على الحق.
وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهمّ الخطب؟ ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم الله إليه صراطاً مستقيماً ويثبتهم بما ثبتوا به أنفسهم في الدنيا.
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل: والدليل على ذلك قوله - تعالى -: (وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتسلية والتفكه، وانما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفئدة المؤمنين معه.
فلو تأملت - يا أخي! - قول الله - عز رجل -: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ (69) وأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) [الانبياء: 68-70]، قال ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل) [5].(4/369)
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة؟.
لو تدبرت قول الله - عز وجل - في قصة موسى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61، 62]، ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الظالمين، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة؟.
لو استعرضت قصة سحرة فرعون ذلك المثل العجيب للثلة التي تثبت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معانى الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأَبْقَى) [طه: 71] - ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا) [طه: 72].
وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.
رابعاً: الدعاء: من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8]، (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) [البقرة: 250].
ولما كانت (قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) [6] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك) [7].
خامساً: ذكر الله: وهو من أعظم أسباب التثبيت وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) [الأنفال: 45] فجعله الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.
(وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها) [8] بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً.
وبماذا استعان يوسف - عليه السلام - في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها، ألم يدخل في حصن (معاذ الله)؛ فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟ سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً: والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل وسائل نفسك لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين وتحيروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا عليه، أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم؟ فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى عالم الكلام والاعتزال إلى التحريف إلى التصوف والتفويض والإرجاء...
وهكذا أهل البدع يتحيرون ويضطربون وانظر كيف حرم أهل الكلام الثبات عند الممات فقال السلف: أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام.
لكن فكر وتدبر هل رجع أحد من أهل السنة والجماعة عن طريق سخطة بعد إذ وفقهه وسلكه؟ فقد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهة عرضت لعقله الضعيف، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه.
ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبي سفيان عن أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قال هرقل لأبي سفيان: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا.
ثم قال هرقل: (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب) [9].
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع أو هداهم الله فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سمعنا العكس؟ ! فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين.
- يتبع -
(1) رواه الإمام أحمد والحاكم عن المقداد مرفوعاً، صحيح الجامع (5023).
(2) رواه الطبراني عن أبي موسى مرفوعاً، صحيح الجامع (2361).
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/446).
(4) المصدر السابق (2/535).
(5) الفتح (8/229).
(6) رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً.
(7) رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً، صحيح الجامع (7864).
(8) ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم - رحمه الله - في " الداء والدواء ".
(9) رواه البخاري، الفتح (1/31).
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
-================
الثبات على المبدأ
موسى محمد هجاد الزهراني(4/370)
لم أعد أفهم لماذا ترى تساقط بعض أصحاب المباديء الذين كنا نعتز بهم قديماً حتى إننا كنا نرى فيهم تجسيداً لعلاج همومنا، ولحمل همّ الدعوة إلى الله - تعالى - بكل صدقٍ وإخلاصٍ، بل كان أكثرنا مولعاً بتقليدهم حتى في طريقة مشيهم وسعالهم!، ثم تراهم اليوم يتساقطون تساقط أوراق الشجر في الخريف؛ تصفر تلك الورقة حتى يخيل للناظر أن صفرتها أكسبتها جمالاً، فإذا ما اقترب منها وأراد لمسها هوت على الأرض فسقطت من عينيه مثلما سقطت من الشجرة.
يا حسرة على الحماس، كان يُلهب مشاعر الناس، ويداعب فيهم الإحساس، ويظنونه كلَّ الإسلام، فلما عفى عليه الزمن علموا أنه أصبح في خبر كان!، كنا إذا سمعنا أصوات بعضهم على تخوّف - بعد بلوى أصابت بعضهم كتب الله لهم أجرها - ذرفنا الدموع شوقاً إلى الله - تعالى -، ثم اشيتاقاً إليهم، نلمس الصدق في أقوالهم، ونشعر به يسري أثره في أوردتنا وشراييننا!، كنا نحسُّ بهم كما يحسون بنا، يعيشون لنا، يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويغضبون لغضبنا، كنا نرى أنهم نحن، ونحن هم!.
واليوم [1].... اليوم لا أعلم لماذا أصبحوا أو بعضهم حتى نسلم من صغار الفهوم يخاطبنا بمثالية غير واقعية، ولا تمت إلى واقعنا الحقيقي إلا بشيء قليل جداً من الصلة.
يتكلمون من أبراج عالية عاجية، يتكفلون الكلام ليقنعوا العوام أنهم لم يتغيروا ولم يتبدلوا، أما نحن ونحن سوياً في البضاعة.. فهيهات.. القلوب شواهد!. انقلبوا رأساً على عقب.. واتكأوا بكلتا يديهم على شرفة التاريخ؛ ليتفرجوا [2]على الذين صدّقوا أقوالهم السالفات فعملوا بها ظناً منهم بأن هذا هو كل الدين، وأسُّ الجهاد، فدفعوا ثمنها، أرواحاً تُزهق، ورعباً وخوفاً... وأولئك ينظرون إليهم من علوٍّ وكأن الذنب ليس ذنبهم، لا يشعرون بتأنيب الضمير، ولا يعتذرون بصدق عن بعض أخطاء الماضي. حتى ليخيل إليّ أن المباديء أصبحت تتضجر ممن ينطقها؛ لعلمها أنهم لن يثبتوا عليها.. فليسوا بحماة لها، فلا يستحقون حملها، كيلا يحملوا أوزارها!.
تحية إجلال وإكبار، لمن عرف قدر نفسه فحمل مباديء الأمة ونهض بها اعتزازاً وتقديراً لها واستماتةً في سبيل الدفاع عنها بما أوتي من قوة، لأنها حقٌ لا لبس فيه ولا خلاف.. فلم يكن تعاقب السنين ليجعله يتأرجح في مواقفه، ولا الخطوب المدلهمة، والصعاب الملمة، بل كان كالشمس إذا انقشع عنها الغيم عادت أكثر توهجاً، تشرق على الأرض فيفرح بها العباد والبلاد.
تذكرت قصيدة قديمة جداً من روائع أبي أسامة د/ عبد الرحمن العشماوي في رسالة بعث بها إلى الإمام أحمد - رحمه الله -.. جاء فيها:
ابعث إلينا خطاباً منك نرفعه *** مع التحية منا للألى امتثلوا
شيوخ حقٍ كتاب الله منهجهم *** ما غيروا فيه تبديلاً ولا افتعلوا
لولا بصيرتهم فينا لضيعنا *** في زحمة الوقت من باللذة انشغلوا
وثنه بخطاب منك نبعثه *** مع التحفظ منا للألى غفلوا
شيوخ وقتٍ أقاموا في مجالسهم *** يفاخرون بما نالوا وما أكلوا
لو حدثتنا بما تلقى عمائمهم *** من الخضوع لأغضى طرفه الخجل
هم يصعدون وراء القوم إن صعدوا *** وينزلون وراء القوم إن نزلوا
لله درك يا أبا أسامة، واثبت على مبادئك ثبتك الله على دينه.. وإيانا والقارئين الذين قالوا آمين! [3].
17-محرم 1426هـ
----------------
[1] - أرجو الاستماع إلى شريط شيخنا الفاضل / محمد المنجد (التراجع تحت ضغط الواقع).. وشريط (الحجاب أنين وحنين) لتعرف المراد.
[2] - أصل الفرجة: التفصّي من الهمّ. (القاموس المحيط 184/ فرج).
[3] - قرأت بعد كتابة هذا المقال بيوم واحد في إحدى مكتبات القاهرة الضخمة عنواناً كبيراً في جريدة الشرق الأوسط 27 / فبراير / 2005 م التي كانت في زمان مضى تُسمى خضراء الدمن!.. أما اليوم فهي الروضة الخضراء! عجبي.. عنواناً كبيراً جاء فيه (أن فلاناً الداعية (د).. ينفي أنه قال إن اليهود هم أول من بدأ الفتنة في الأرض.. ) ومع كل حبي واحترامي لمن نسب إليه المقال إلاّ أنني أقول:
أما الديار فإنها كديارهم *** وأرى رجال الحي غير رجالها.
والآن نسمع باستضافته لامرأة إعلامية سعودية كاشفة الوجه والشعر، واللجوء لتبرير هذا إلى القول المرجوح: بجواز كشف الوجه! والتراجع عنه تحت ضغط عدد من المشايخ عبر خطبة جمعة. ما هذا التخبط، وأين ذهبت (800) شريط خطب ومحاضرات سابقة؟ أين نضعها الآن، أنحرقها أم ماذا نفعل بها ؟.
http://www.saaid.net المصدر:
================
الثبات في الصف
الدكتور فهد بن علي العندس
الأصل في هذه المسألة قول الله - عز وجل -: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى" فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16) - صلى الله عليه وسلم - الأنفال: 15، 16}.
التحيز إلى فئة: هو أن يولي لينضم إلى طائفة من المسلمين ليعود معهم محارباً(1).(4/371)
التحرف للقتال: هو أن يعدل عن القتال إلى موضع هو أصلح للقتال، بأن ينتقل من مضيق إلى سعة، ومن حزن إلى سهولة، ومن معطشة إلى ماء، ومن استقبال الريح والشمس إلى استدبارهما، ومن موضع كمين إلى حرز، أو يولي هارباً ليعود طالباً(2).
قال الموفق ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف، وتعين عليه المقام وذلك بشرطين:
الأول: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين.
الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة، ولا التحرف لقتال(3).
وهذا الحكم قرره أئمة تفسير آيات الأحكام كالجصاص (8)، وإلكيا الهراسي(4)، وابن العربي(5)، إلا أن الجصاص قال عند قوله - تعالى -: أو متحيزا إلى" فئة "وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً، لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال"، وقال إلكيا الهراسي في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة": "هذا ليس بيان حكم شرعي، إنما هو بيان حكم العرف".
الأدلة: استدل القائلون بذلك وهم الجمهور بالإضافة إلى الآية التي هي أصل المسألة بأدلة منها:
1- قول الله - تعالى -: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" {الأنفال: 45}.
2- قوله - تعالى -: "واصبروا إن الله مع الصابرين" {الأنفال: 46}.
3- قوله - تعالى -: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين" {الأنفال: 66}، وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر، فهو أمر، بدليل قوله: الآن خفف الله عنكم ولو كان خبراً على حقيقته، لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفاً.
4- ولأن خبر الله - تعالى -صدق لا يقع بخلاف مخبره، وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون، فعلم أنه أمر وفرض، ولم يأت شيء ينسخ هذه الآية، لا في كتاب ولا سنة، فوجب الحكم بها.
5- ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفرار يوم الزحف، فعده من الكبائر(6).
الخلاف في المسألة:
اختلف العلماء في قوله - تعالى -: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين" {الأنفال: 66}.
فذهب أبو حنيفة(7) إلى أن هذا إخبار من الله - تعالى -عن حالهم، وموعد منه إذا صابروا مثلي عددهم أن يغلبوا، وليس بأمر مفروض؛ اعتباراً بلفظ القرآن، وأنه خارج مخرج الخبر دون الأمر. والحكم في هذا الباب لغالب الرأي وأكبر الظن دون العدد، فإن غلب على ظن الغزاة أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات، وإن كانوا أقل عدداً منهم، وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم، وإن كانوا أكثر عدداً من الكفرة(8).
قال الحسن البصري(9): هو خارج مخرج الأمر، لكنه خاص في أهل بدر دون غيرهم، وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري(10)، وبه قال نافع وعطاء(11) وقتادة(12)، ويزيد بن أبي حبيب، والضحاك(13).
واستدلوا بقوله - تعالى -: يومئذ فقالوا: هذا إشارة إلى يوم بدر، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف، وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة. واختص به يوم بدر لأنهم لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم. وقال فيهم يوم حنين: "ثم وليتم مدبرين" {التوبة: 25} ولم يقع على ذلك تعنيف.
وذهب مالك(14) إلى أن المسلمين إذا بلغوا نصف عدد عدوهم لم يحل لهم الفرار، وإن كانوا أقل من النصف جاز لهم الفرار إن لم يبلغوا اثني عشر ألفاً، وإلا فلا يجوز يشير بذلك إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة"(15).
وذهب الشافعي(16) إلى اعتبار الضعف إن كانوا لا يرجون الظفر بعدوهم فإن كانوا يرجون الظفر بهم فلا اعتبار للعدد. إلا إن تحقق المسلمون من التلف فعنده فيه وجهان:
الأول: يجب عليهم أن يولوا، ولا يجوز لهم أن يصابروا.
والثاني: يجوز لهم أن يصابروا.
وأما قوله - تعالى -: "ومن يولهم يومئذ دبره"، فهو عند مالك، والشافعي وأكثر العلماء عام باق على عمومه.
ثالثاً: الترجيح:
الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه الجمهور من أنه إذا التقى المسلمون والكفار، فالثبات في هذه الحالة واجب بشرطين:
الأول: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين.
الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة، ولا التحرف لقتال، فإن قصد أحدهما فهو مباح.
وذلك لما يلي:
1- أن قوله - تعالى -: "ومن يولهم يومئذ دبره" ليست ليوم بدر، وإنما هي ليوم الزحف، يدل عليه أن هذه الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب، وذهاب اليوم بما فيه(17).(4/372)
2- قوله - تعالى -: "فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين" {الأنفال: 66} هو خبر بمعنى الأمر، وعليه حمل قوله - تعالى -: "إذا لقيتم فئة فاثبتوا" {الأنفال: 45} إذ لو كان خبراً على ظاهره لم يقع بخلاف المخبر عنه، لأن الخلف في أخبار الله - تعالى -محال(18).
3- ما رواه البخاري عن ابن عباس} قال: "لما نزلت: "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" {الأنفال: 65} شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين" {الأنفال: 66} قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم"(19).
4- قول ابن عباس: "من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة لم يفر"(20).
وأما قولهم في قوله - تعالى -: يومئذ: اختص به يوم بدر لأنهم لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا فيه نظر؛ لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ظنوا أنها العير فلم يخرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد فر الناس يوم أحد؛ لأن العدو أكثر من ضعفهم، ومع ذلك عنفوا، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة" فليس فيه دلالة على أنهم سيغلبون لا محالة، وإنما يدل على أنهم لن يُهزَموا بسبب القلة، وهذا لا ينفي هزيمتهم بسبب آخر غير القلة كالإعجاب وغيره، يدل عليه هزيمة المسلمين يوم حنين وهم اثنا عشر ألفاً، والله - تعالى -أعلم.
------------
الهوامش:
1- الحاوي الكبير: (182/14).
2- الحاوي الكبير: (182/14).
3- المغني: (187/13).
4- أحكام القرآن لإلكيا الهراسي: (154/3).
5- أحكام القرآن لابن العربي: (845/2، 866).
6- أخرجه البخاري (145) ولفظ البخاري: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وماهن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
7- بدائع الصنائع: (98/7)، وتحفة الفقهاء: (296/3).
8- بدائع الصنائع: (98/7).
9- رواه ابن حزم بسنده في المحلى: (239/7).
10- أخرجه أبو داود: (2648) قال الخطابي: "ونسبه المنذري للنسائي أيضاً" معالم السنن مع سنن أبي داود: (107/3).
11- أخرجه عبدالرزاق: (251/5، 253)، رقم: (9519، 9527).
12- أخرجه عبدالرزاق: (251/5)، رقم: (9520).
13- أخرجه عنه عبدالرزاق: (251/5)، رقم: (9521).
14- حاشية الدسوقي: (179/2)، والجامع لأحكام القرآن: (382/7).
15- أخرجه أبو داود (2611)، والترمذي وحسنه (1555)، وابن ماجه (2827)، والدارمي (2443)، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (101/2) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (105/2)، رقم: (1259).
16- مغني المحتاج: (224/4)، والحاوي الكبير: (181/14).
17- الجامع لأحكام القرآن: (382/7) وروح المعاني للألوسي: (182/9).
18- مغني المحتاج: (224/4).
19- أخرجه البخاري (4653).
20- أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2538)، والبيهقي (76/9)، قال الألباني: "وإسناده صحيح، وهو وإن كان موقوفاً، فله حكم المرفوع، بدليل القرآن وسبب النزول الذي حفظه لنا ابن عباس أيضاً}"، إرواء الغليل: (28/5)، رقم: (1206).
http://jmuslim.naseej.com المصدر:
=============
الثبات الثبات .. يا أهل الرباط !
ذكرت بعض المصادر الإخبارية أنَّ الفاتيكان أعلن نداء للفلسطينيين الكاثوليك، وللمنصِّرين الأوروبيين للبقاء في الأرض المقدسة، وعدم التخلي عنها بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة، وأعلن الفاتيكان أن القس الكاثوليكي (بول جوزيف كورديس) ـ مدير الذراع الخيري للفاتيكان ـ قام بتوزيع 400 ألف دولار أمريكي للكاثوليك الفلسطينيين في الضفة الغربية، وداخل فلسطين المحتلة حتى يساعدهم على الثبات والبقاء، ويعوضهم عن الخسائر الفادحة التي أصابتهم بسبب الانهيار الاقتصادي وضعف الحركة السياحية..!
أما المسلمون الفلسطينيون فيمارس عليهم العدو اليهودي أشدّ الضغوط ليهاجروا من أرضهم المباركة، فتُهدم المنازل، وتُحرق المزارع، وتُهدم المدارس والمستشفيات، وتُصب الحمم فوق رؤوسهم صباً، ويُهجَّرون قسراً بعيداً عن أرضهم وأهليهم... ولكنهم لا بواكي لهم..!!(4/373)
من أجل هذا نقول للمرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: إنَّ طريق الفلاح والتمكين هو طريق المصابرة والمرابطة، كما قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. نعم.. نعلم يقيناً أن التضحيات جسيمة، والضغوط عليكم لتتخلوا عن رباطكم، ومصابرتكم تنوء بها الجبال الرواسي، ولكنَّ الظنَّ بكم أن تكونوا أسوة للمرابطين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فبرباطكم وثباتكم سيشع نور النصر بإذن الله وعونه، وما عهدناكم إلا أهل قوة ويقين، وتأملوا قول الله - تعالى -: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، فمن تربى على معين الأنبياء الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لن يتطرق الوهن أو الضعف إلى قلبه؛ بل تراه شامخاً بدينه، معتزاً بعقيدته، صابراً محتسباً، وإن أحاطت به الفتن من كل جانب.
شوال 1423هـ * ديسمبر 2002م
http://albayan-magazine.comالمصدر:
==============
وسائل الثبات أمام المغريات والمتغيرات
د. أنور أبو زيد
إن من خصائص ديننا الإسلامي الثبات في المقومات وفي القيم، فهي لا تتغير ولا تتطور حينما تتغير ظواهر الحياة الواقعية، وأشكال الأوضاع العلمية، بل إن هذه التغيرات تظل محكومة بالمقومات والقيم الثابتة لهذا الدين.
ولا يعني هذا تجميد حركة الفكر والحياة، لكن على أن تكون حركتها داخل الإطار الثابت لهذا الدين، وحول محوره الثابت، بهذا الميزان تضبط البشرية حركتها فلا تمضي شاردة على غير هدى؛ كما وقع في الحياة الأوروبية عندما أفلتت من عروة العقيدة، ووقعت في ظلمات التيه لما تركت البشرية هذا الأصل الثابت، ففلت منها الزمام الذي كان يشدها إلى دينها، وأصبحت أشبه بجرم فلكي خرج من مداره، وفارق محوره الذي يدور حوله فيوشك أن يصطدم فيدمر نفسه، ويصيب الكون كله بالدمار.
والعاقل الواعي الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم، حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وأوضاعها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها، تخبطاً منكراً شنيعاً، يراها تغير أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس، يراها تقضي على الهدف السامي من وجود هذا الإنسان لتحوله إلى آلة تضاعف الإنتاج، وتحقق الربح لزمرة من المرابين، وتجار الشهوات، ومنتجي الأفلام السينمائية، وبيوت الأزياء وغيرهم من النفعيين الماديين.
يهتفون لهذه القطعان البشرية التائهة بالتطور والانطلاق، والتجديد، والحرية، والمساواة، وهي في حقيقتها مجرد شعارات زائفة، تدغدغ بها عواطف الأجيال التائهة.
تواجه المسلم اليوم تحديات معاصرة، وتيارات فكرية، وموجات عاتية، ومغريات وشهوات وشبهات، فلا تزال به حتى تدعه في حيرة من أمره، فأضحى المتمسك بالسنة متساهلاً، والمناصر لها مناوئاً، وتخلت الفتاة المسلمة عن حياتها وحشمتها، واستسلمت للدخيل من الأفكار، وحامت حول الحمى، وأوشكت أن تقع فيه.
لقد أضحى الدين غريباً تجاه هذه الرياح - رياح التغيير الوافدة -، حتى أصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، إنها رياح تغيير عاتية وفدت على المسلمين من وراء البحار، من كل حدب وصوب، تريد تغيير كل شيء: ثوابتنا، وعقيدتنا، وسلوكنا، تريد استقطاب شبابنا، ورجالنا، ونسائنا، واستلاب ثقافتنا، إنها رياح تحمل إلينا الدمار.
وقد زاد من عتو هذه الرياح أن لها أناساً من بني جلدتنا يفتحون لها أبواب بيوتنا، وجامعاتنا، ومعاهدنا، ومدارسنا، بل ويرفعون من شأنها عند الناشئة المسلمة، وهذه الرياح تفد إلينا عبر الإذاعة، والتلفاز، والأقمار الصناعية، وعبر المجلة والجريدة، والكتاب، وعبر رجال الفكر من الوافدين، أو من أبناء المسلمين الذين رضوا بها، ورضعوا ألبانها.
هذه الرياح هي رياح التغريب الوافدة، التي تزين الحضارة الغربية، والسلوك الغربي، والقيم الغربية السافلة القذرة، إنها حضارة الغالب في وجه حضارة المغلوب، تلك سنة الله وحكمته يداول الأيام بين الناس، فهي مرة للمؤمن على الكافر، ومرة للكافر على المؤمن (( وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين )).
إن المؤمن الحق هو من يميز بمعرفته أن هذا البلاء من عدوه الكافر والمنافق والفاسق إنما هو بسبب تمسكه بهذا الدين، وصبره عليه، ودعوته إليه، فما يلقاه المؤمن في سبيل هذا الدين إنما هو أثر من آثار الاستقامة على المنهج، وهنا يكون الناس بين موقفين:(4/374)
الموقف الأول: النكول والتراجع عن هذا الطريق الذي سبب له هذه الآلام والمحن، وعرضه للأذى، وهذا حال صنف من الناس قال الله عنهم في كتابه: ((ومن الناس من يقول أمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ))، وقال فيهم أيضاً: (( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )).
فتراه يقول: لو كان هذا الدين خيراً لما تسبب في حرماني من وظيفتي، أو مصادرة حريتي، أو فراق زوجتي، أو سجني، أو قحط أرضي، فيترك الاستقامة على هذا الدين وينبطح أمام هذه التحديات ليقع فريسة للشهوات والشبهات.
وأما الموقف الآخر: فهو موقف الثبات على هذا الدين مهما تطلب الأمر من جهود وتضحيات، ولا تزيده المحن إلا إيماناً وتسليماً.
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه له أيام السلف، ولا يثبت إلا من ثبته الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياناً".
والإقبال على كتاب الله - عز وجل - تلاوة وتدبراً، وتفهماً وتحاكماً من أعظم وسائل الثبات، فمن تمسك به عصم، ومن اتبعه نجا، فهو حبل الله المتين، والنور المبين، قال الله عنه: (( لنثبت به فؤادك ))، نعم ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )).
ومن وسائل الثبات تمسك العبد بشرع الله، والعمل الصالح قال تعالى: (( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ))، قال قتادة: في الحياة الدنيا تثبيتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة تثبيتهم في القبر، قال تعالى: (( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً )).
ومن وسائل الثبات التأمل في قصص الأنبياء، وأخذ الدروس والعبر منها قال تعالى: (( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ))، تأمل قوله تعالى: (( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ))، قال ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل.
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب؛ يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة.
وهذا موسى - عليه السلام - في وقت ملاحقة الظالمين له يقول أتباعه: إنا لمدركون، قال: (( إن معي ربي سيهدين ))، ثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين.
ومن وسائل الثبات دعاء الله - عز وجل - تثبيت القلوب، ومن دعاء المؤمنين (( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ))، و(( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا ))، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )). وكذا ذكر الله - عز وجل - خير معين على الثبات قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ))، وانظر إلى فارس والروم كيف خانتهم أبدانهم أحوج ما كانوا إليها بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين لله كثيراً، ولما راودت امرأة العزيز يوسف - عليه السلام - التجأ إلى الله فقال: معاذ الله، فتكسرت أمواج الشهوات على أسوار حصن الذكر المنيع.
ومن وسائل الثبات على دين الله سلوك المرء طريق أهل السنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية ذي العقيدة الصافية، والمنهج السليم، واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله، ومفاصلة أهل الباطل، وإذا أردت أن تعرف أهمية ذلك الثبات فانظر في تلك الفرق الضالة لماذا تخبط أصحابها، وتنقلوا في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى الكلام والاعتزال إلى التحريف، إلى التصوف والتفويض والإرجاء، بل إنهم عند الموت من أكثر الناس شكاً وتحيراً، وأما من هو على الجادة - طريق أهل السنة والجماعة - فلا يتركه عقله أبداً لكل هوى أو شهوة أو شبهة عرضت، وقد قال هرقل لأبي سفيان: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا، ثم قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فمن أراد الثبات فعليه بسبيل المؤمنين وهو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين -.
كما أن من عوامل الثبات التربية الإيمانية الواعية، القائمة على الدليل الصحيح، وتعرف سبيل المجرمين، والدراية بخطط أعداء الإسلام، والإحاطة بالواقع علماً، وبالأحداث فهماً وتقويماً، التربية المتدرجة التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً ترتقي به في مدارج كماله، لا ارتجال فيها، ولا تسرع، ولا حماس طائش.
ومن عوامل الثبات الثقة بنصر الله، وأن المستقبل لهذا الدين، وقد كان رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يثبت أصحابه المعذبين، ويخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فيقول: ( ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)، أحاديث كثيرة تبشر بنصرة هذا الدين، فما أشد الحاجة لها في أوقات الفتن، فإنها من أهم عوامل الثبات على الإسلام.(4/375)
إن الجهل بحقيقة الباطل يقود إلى الاغترار به، لذا فإن معرفة المسلم بمكر عدوه وأهدافه ووسائله من عوامل الثبات على هذا الدين، قال الله: (( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ))، وقال تعالى: (( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين )) وما ذاك إلا لأجل ألا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، فكم سمعنا حركات تهاوت، ودعاوى زلت أقدام أصحابها، ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم.
المصدر : http://www.islamselect.com
=============
عوامل الثبات
ما عوامل الثبات على دين الله؟
ندعو الله أن يثبتنا وإياك على دينه - تبارك و تعالى - في الدنيا والآخرة، وبالنسبة لعوامل الثبات فمنها:
1 المداومة على تقوى الله ومراقبته - سبحانه وتعالى- في السر والعلن في كل زمان ومكان؛ لأن هذه التقوى هي خير زاد للمسلم في ظلمات هذه الحياة، كما قال الله - تبارك و تعالى -: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" واتقون يا أولي الألباب (197) (البقرة).
2 لزوم العبادات والمحافظة عليها سواء كانت عبادات يومية كالصلاة أو سنوية كالصيام والزكاة والحج.
3 ملازمة الصالحين والأتقياء ورفقاء الخير والإيمان والتواصل معهم؛ لأنهم عون لك على الثبات على دين الله؛ ومن ثم الابتعاد عن رفقاء السوء والشر وأتباع الشيطان؛ لأنهم عوامل هدم وتثبيط للمسلم عن الثبات على هذا الدين.
4 الإكثار من دعاء الله - تبارك و تعالى - والضراعة إليه بأن يثبتك ويثبتنا والمسلمين جميعاً على الحق؛ لأنه هو الله الذي يثبت على ذلك، كما قال - عز وجل - يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء 27 (إبراهيم).
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
=================(4/376)
تفقد ثباتك على الطريق
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
نحن في حاجة اليوم إلى فقه الثبات على دين الله - تعالى - أكثر من أي مدة مضت، أفواج المنحدرين قد كثرت، ومزامير الشياطين قد علت، والأطباق في كثير من البيوت قد تمكنت.
ما هي أوضاع المسلمين اليوم؟ وما أنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون؟ وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً؟ فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً (القابض على دينه كالقابض على الجمر).
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجةَ المسلمِ اليومَ لفقه الثبات أعظمُ من حاجة أخيه أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر من أي وقت مضى؛ وما ذاك إلا لفساد الزمان، وندرة الإخوان، وضعف المعين، وكيد الفاجر مع قلة الناصر، ولقد كثرت حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاسات إلى الوراء، والانحدار إلى الفساد؛ مما يَحمِل المسلمَ على الخوف من أمثال تلك المصائر، وعلى تلمس أمورٍ يتحصن بها.
ولقد عشنا سنين متطاولةً في هذه البلاد المباركة، ونحن في معزل عن كثير من الفتن، وكان يتقاطر علينا الفساد من بعض الجوانب، ولكنه انهمر اليوم، يمطر بيوتاً كثيرة بوابله المشين، حتى تغيرت بيوتٌ، وانتكست فطرٌ؛ فساء مطر المنذرين.
وألفتِ الفتنُ أمةً لم تتحصن كثيراً بالثبات وفقهه.
وألفتِ الفتنُ بعضاً من القوم لم يتركوا الفساد رغبة مجردة فيما عند الله، وإنما لأنه لم يتوافر لهم، فلما كان الخيار لهم بين طريقين واضحين متاحين، إذا هم لا يمتنعون من الانزلاق، ولا يردون يد لامس، بل يستبيحون محارم الله بأدنى الحيل.
نعم أحبتي... حُذِّرنا من هذه الفتن، وبُينَّت لنا حرمتها، ولم تزدد إلا سوءً، ومع ذلك كثير من الناس ثبتوا زمناً، ثم استباحوا محارم الله بالأهواء والحيل، فلم يكن البعض في سبيل الثبات بأقوياء، ولا في سبيل الأمانة على الأهل والذريات بأوفياء.
ومن رحمة الله - عز وجل - بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته - صلى الله عليه وسلم - وسائلَ كثيرةً للثبات، يلجأ إليه المسلم في مثل هذا الزمان، ويستعين بها حتى يلقى الرحمن، ومن أبرزها أثراً، وأكثرها نفعاً لدين المرء ما يحصل له من الأثر الجميل إذا أقبل على كتاب الله - تعالى - فالقرآن هو وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ولقد نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت، فقال - تعالى - في معرض الرد على شُبه الكفار: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" (الفرقان: 32، 33)، لقد كان القرآن مصدراً للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله، ولأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله، ولأن القرآن يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئُ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقوله باختلاف الأحداث والأشخاص.
ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، ومنه ينطلقون وإليه يفيؤون، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل، ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم، فوالله سيجدون أثره صلاحاً في أعمالهم وثباتاً في قلوبهم.
ومن وسائل الثبات على دين الله ما يحصل للمرء من التزام شرع الله، والعمل الصالح، فمن يلتزم شرع الله يثبته الله، يقول المولى جل وعز في كتابه: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم: 27)، قال قتادة: " أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر "، وكذا روي عن غير واحد من السلف، وقال - سبحانه -: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً" (النساء: من الآية66)، أي: تثبيتاً على الحق، والصراط المستقيم في وقت الفتن، وهذا بيّن ظاهر البيان، وإلا فهل نتوقع ثباتاً على الدين من الكسالى القاعدين عن صلاة الفجر، وعن الأعمال الصالحة، إن هؤلاء هم المسارعون في الفتن إذا ادلهمت، وهم حطبها إذا اتقدت، ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيماُ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته.(4/377)
ومن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم، ويذكرون الله كثيراً وهذان الأمران (الدعاء، وذكر الله)من الوسائل العظيمة في ثبات المسلم، ولقد حكى لنا القرآن دعاء المؤمنين مغرياً بالاقتداء بهم أنهم يقولون: "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا" (آل عمران: من الآية8)، "رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا" (البقرة: من الآية250).
ولما كانت (قلوب بني آدم كلُّها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي عن أنس وصححه الألباني.
وتأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله - عز وجل -: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً" (الأنفال: من الآية45) فجعل ذكر الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.
وهل ثبت يوسف - عليه السلام - في محنته أمام امرأة ذات منصبٍ، وجمالٍ إلا بالذكر والدعاء "قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" (يوسف: من الآية23)، وهذه استعاذة وذكر، وقال - عليه السلام -: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف: 33) وهذا دعاء، قال - تعالى -: "فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (يوسف: 34)، لقد تكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه، وهو الذكر والدعاء، وكذا تكون فاعلية الأدعية والأذكار في تثبيت قلوب المؤمنين.
ومن أعظم وسائل الثبات، أن يتلقى المسلمُ تربية إيمانية وعلمية واعية، وهل كان مصدر ثبات صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة إلا بهذه التربية الواعية؟ كيف ثبت بلال، وخباب، ومصعب، وآل ياسر، وغيرُهم من المستضعفين؟ وحتى كبارُ الصحابة في حصار الشعب وغيره؟ وهل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة، صقلت شخصياتهم، لا شك أن هنالك تربية عميقة من لدن رسول الهدى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وبعض الناس يشعره الشيطان بأنه يسبح ضد التيار، وأن الناس كلَّهم هكذا، ولا بد من الاندماج في المجتمع، ومواكبة العصر، وغير ذلك من الحجج التي لا تعارض بينها وبين الثبات، ولكن الأفهام تختلف، ولهؤلاء نقول: إن الصراط المستقيم الذي تسلكه - يا أخي - ليس جديداً، ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق قد سار فيه من قبلِك الأنبياءُ، والصديقونُ، والعلماء، والشهداء، والصالحون، فإذا عرفت ذلك فهل تشعر بالغربة مع هؤلاء، وهل تستوحش في طريق سلكه الأنبياء، فيا أخي أزل غربتك، وبدل وحشتك، وما يضرك من فساد زمانك إذا وثقت بطريقك أنها موصله، وأنها صراط الذين أنعم الله عليهم، وهؤلاء كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج، فقرَّ عيناً وطب نفساً، فو الله إن قلة السالكين معك اليوم يدل على اصطفائك لا على أخطائك، واللهُ كما يصطفي أنبياءه، يصطفي أولياءه، فبدل شعورك بالغربة شعوراً بالاصطفاء، قال الله - عز وجل -: "الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى" (النمل: من الآية59)، وقال: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا" (فاطر: من الآية32)، ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً، أو دابة، أو كافراً ملحداً، أو داعياً إلى بدعة، أو فاسقاً، أو مسلماً غير معتز بإسلامه، أو غير ذلك؟ ماذا لو خلقك الله من هؤلاء، ألا تشعر بالاصطفاء إذ لم تكن منهم؟ ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك يزيل عنك كثيراً من الغربة، ويزيدك ثباتاً على منهجك وطريقك؟ بلى هو كذلك.
النفس إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس: الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل، ومجال إبراز الطاقات، وإنجاز المهمات، والدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم هي وسيلة من وسائل الثبات، والحماية من التراجع والتقهقر؛ لأن الذي يُهاجِم لا يحتاج للدفاع، وكلنا يستطيع ذلك وليست الدعوة مقصورة على العلماء بل هي عمل الجميع وهمهم فاحرص عليها فإنه لا أحسن منها "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً" (فصلت: من الآية33).(4/378)
يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الناس ناساً مفاتيحُ للخير مغاليقُ للشر" رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني، وهؤلاء صحبتهم والبحث عنهم من أعظم وسائل الثبات، ابحث عن العلماء، والصالحين والدعاة المؤمنين، وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال، ومن ذلك: ما قاله علي بن المديني - رحمه الله تعالى -: " أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة "، وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون، هم معين كبير لك في الطريق، وهم ركن شديد تأوي إليه؛ فيثبتونك بما معهم من آيات الله والحكمة.. الزمهم وعش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
قد ينزلق البعض في الفساد بسبب الإعجاب، والاغترار بما يتظاهر به أهل الباطل، ولقد حذر الله من هذا، وحث المؤمنين على استبانة سبيل المجرمين، فقال - تعالى -: "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ" (آل عمران: 196)، وفي هذا تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم، وفي قوله - عز وجل -: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً" (الرعد: من الآية17) عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له، ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم، قال - تعالى -: "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام: 55) حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، ومن هذا الباب ما يقوم به الدعاة من كشف خطط المفسدين من المغربين، والمنافقين وغيرهم؛ لاستبانة سبيلهم، ومعرفة حالهم، وأنها لا تستحق الاغترار بها أو الإعجاب.
إخوة الإسلام: ومهما يكن من الوسائل المعينة على الثبات فإنه لا محيص من استجماع الأخلاق المعينة على الثبات وعلى رأسها الصبر، لا يمكن أن تفعل شيئاً من الوسائل إذا لم تكن صابراً وفي الحديث قال - صلى الله عليه وسلم -: " وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر" رواه البخاري، ومسلم.
وبعد أحبتي في الله... إن الثبات على دين الله مطلب عزيز، ومرتقى صعب لا يتجاوزه إلا المخفون من الذنوب، والموفقون من عباد الله، فاجعل من محاسبتك لنفسك هذا العام أن تتفقد ثباتك على الطريق الذي تحب أن تلقى الله عليه، تفقد ثباتك على الطريق الذي تحب أن تختم حياتك به، فما أكثر الصالحون المتنسكون في المواسم، وما أقل الثابتون على الخير، وما عساك مستفيد من عمل سبق أن عملته ولكنك طمسته، وما نَفْعُك من خير عملته يوماً، وتركته دهراً إلا نفع قليل، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل.
اللهم اجعل هذا العام عام خير على الإسلام والمسلمين وأطل أعمارنا، ومد آجالنا في حسن طاعتك والبعد عن معصيتك، واجعلنا ممن يتبوأ من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار،
وصلى الله على محمد وآله.
20/2/1425
معيد في قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض
http://www.almoslim.net المصدر:
==============
الثبات على الإيمان
عادل عبد الرحمن محمد
وقت تمر الأمة فيه بمراحل حرجة من حروب وفتن ربما لو فكر فيها الرجل العاقل لشرد ذهنه وانخلع قلبه مما يرى، ولكن اعلم أخي المسلم أن الثبات على الحق والتمسك به من صفات المؤمنين الصادقين، قال - تعالى -: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " وقدوتنا في ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد لاقى ما لاقى ومع ذلك كان أشد ثباتًا حتى بلغ رسالة ربه على أتم وجه.
فاحذر أخي من الانتكاس بنوعيه؛ الكلي: وهو الردة، والجزئي: وهو ترك شيء من الدين ببعض الحجج الواهية، فإن الانتكاسَ مَذْمُوم. قال - تعالى -: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون "{السجدة:}.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين، قلب أبيض كالصفا، وقلب أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبًا) لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا. وهذه صفة أهل النار ويقول - صلى الله عليه وسلم -. "تعس عبد الدينار. تعس عبد الدرهم. تعس عبد الخميصة. تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".
ومن المعروف أن الدينار مملوك والعبد مالك للدينار فكيف يكون الدينار هو المالك والعبد هو المملوك؟
من ذلك يتبين لنا أن العبد إذا انشغل بجمع الدينار وتركَ عبادة الله كان عبدًا للدينار من دون الله ولذلك يدعو الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الصنف فيقول "تعس وانتكس".(4/379)
وأعجب من ذلك أن يكون المال سببًا في الانتكاس الكلي وهو الردة، فقد ثبت عند الإمام مسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل عمر رضي الله عنه لجمع الزكاة فذهب إلى ابن جميل وكان فقيرًا فأغناه الله فطلب عمر منه الزكاة فمنع ولم يعترف بها قال - تعالى -: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون "{التوبة: 55-57}
فاحذر أخي المسلم من هذا المرض الذي أصاب كثيرًا من أبناء الأمة، أما تخشى أن يصيبك قول الله: فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.
لقد ضرب صحابة رسول الله أروع الأمثلة في الثبات فنالوا بذلك الدرجات العلا، فها هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو حبسه أبوه وقيده بالسلاسل وعذبه وهو حديث عهد بالإسلام لكنه ثبت، بل استطاع أن يفك بعض السلاسل وذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية وكان من شروط صلح الحديبية أنه من جاء مسلمًا من قريش ردوه إليها فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع أبو جندل ولم ينتكس بل ثبت على إيمانه حتى لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيرًا وترك كل ماله لأنه عرف الحق فاتبعه.
واعلم أخي أن الانتكاس سبب لسوء الخاتمة، وأهل الباطل يقفون لأهل الحق على طول الطريق يريدون أن ينالوا منهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فلا تنخدع بالشعارات الكاذبة فإنها أوهام، واسأل الله الثبات فقدوتك في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يكثر من قول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وأكْثِر من الدعاء فهو سلاح المؤمن، وعليك بالعلم فهو الحصن الحصين من البدع وكلما ازددت علمًا فازْدَدْ للهِ خشيةً وخوفًا.
قال - تعالى -: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " {فاطر: 28}.
والحمد لله رب العالمين.
http: //www.altawhed.com المصدر:
=============
الثبات حتى الممات
الشيخ محمد العريفي
من الناس.. من يشتاق إلى الهداية.. ولكن يمنعه منها بغضه لبعض الصالحين.. أو مواقف وقعت له معهم.. فحمل في نفسه عليهم.
أو تجده يعلق صلاحه واستقامته بأشخاص يعينونه على الدين.. فإذا فسدت أحوالهم.. أو فرق الدهر بينهم.. انتكس عن الدين.. وعصى رب العالمين.
وهذا حال أولئك المرتدين.. الذين علقوا إسلامهم بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فما داموا يخالطونه.. ويحدثهم ويساكنونه.. فهم ثابتون على الدين.. بل قُوّام في الأسحار.. صُوّام في النهار..
ولكن ما إن فارق سواده سوادهم.. حتى ارتدوا على أدبارهم.. وكفروا بعد إسلامهم..
حتى قال لهم أبو بكر - رضي الله عنه -: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات.. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
نعم.. الله حي لا يموت.. يسمع دعاء الداعين.. ويقبل توبة التائبين..
من لجأ إليه كفاه.. ومن فرَّ إليه قربه وأدناه..
إن ذكره العبد في نفسه ذكره في نفسه.. وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأٍ خير منهم..
من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً.. ومن تقرب إليه ذراعاً.. تقرب إليه باعاً..
ومن استقر في قلبه الإيمان.. ثبت على عبادة الرحمن.. وإن اشتد البلاء..
وانتقل معي إن شئت إلى هناك.. انتقل إلى هناك..
وادخل إلى المدينة..
وانظر إلى النبي - عليه السلام -.. وقد جلس مع أصحابه الكرام..
فحدثهم عن البيتِ الحرام.. وفضلِ العمرة والإحرام..
فطارت أفئدتهم شوقاً إلى ذاك المقام..
فأمرهم بالتجهز للرحيل إليه.. وحثهم على التسابق عليه..
فما لبثوا أن تجهزوا.. وحملوا سلاحهم وتحرزوا..
فخرج - صلى الله عليه وسلم - مع ألف وأربعمائة من أصحابه.. مهلين بالعمرة ملبين.. يتسابقون إلى البلد الأمين..
فلما اقتربوا من جبال مكة..
بركت القصواء - ناقة النبي - عليه السلام -.. فحاول أن يبعثها لتسير.. فأبت عليه..
فقال الناس: خلأت القصواء.. (أي عصت) فقال - عليه السلام -: ما خلأت القصواء.. وما ذاك لها بخلق.. ولكن حبسها حابس الفيل (يعني فيل أبرهة لما أقبل به مع جيش من اليمن يريد هدم الكعبة فحبسهم الله عن ذلك)..
ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله.. إلا أعطيتهم إياها..
ثم زجرها فوثبت.. فتوجه إلى مكة.. حتى نزل بالحديبية قريباً من مكة.. فتسامع به كفار قريش.. فخرج إليه كبارهم ليردوه عن مكة.. فأبى إلا أن يدخلها معتمراً..
فما زالت البعوث بينه وبين قريش.. حتى أقبل عليه سهيل بن عمرو..
فصالح النبي - عليه الصلاة والسلام - على أن يعودوا إلى المدينة.. ويعتمروا في العام القادم..
ثم كتبوا بينهم صلحاً عاماً.. وفيه:
اشترط سهيل: أنه لا يخرج من مكة مسلم مستضعف يريد المدينة.. إلا رُدَّ إلى مكة.. أما من خرج من المدينة وجاء إلى مكة مرتداً إلى الكفر.. فيُقبل في مكة..
فقال المسلمون: سبحان الله!! من جاءنا مسلماً نرده إلى الكافرين!! كيف نرده إلى المشركين وقد جاء مسلماً..(4/380)
فبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم.. شاب يسير على الرمضاء.. يرفل في قيوده.. وهو يصيح: يا رسول الله..
فنظروا إليه.. فإذا هو أبو جندل ولد سهيل بن عمرو.. وكان قد أسلم فعذبه أبوه وحبسه.. فلما سمع بالمسلمين.. تفلت من الحبس وأقبل يجر قيوده.. تسيل جراحه دماً.. وتفيض عيونه دمعاً..
ثم رمى بجسده المتهالك بين يدي النبي - عليه الصلاة والسلام -.. والمسلمون ينظرون إليه..
فلما رآه سهيل.. غضب!! كيف تفلت هذا الفتى من حبسه.. ثم صاح بأعلى صوته: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي..
فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنا لم نقض الكتاب بعد..
قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً..
فقال - صلى الله عليه وسلم -: فأجزه لي.. قال: ما أنا بمجيزه لك.. قال: بلى فافعل.. قال: ما أنا بفاعل.. فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -..
وقام سهيل سريعاً إلى ولده يجره بقيوده.. وأبو جندل يصيح ويستغيث بالمسلمين.. يقول:
أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً.. ألا ترون ما قد لقيت من العذاب.. ولا زال يستغيث بهم حتى غاب عنهم..
والمسلمون تذوب أفئدتهم حزناً عليه.. فتى في ريعان الشباب.. يُشدد عليه العذاب..
وينقل من العيش الرغيد.. إلى البلاء الشديد..
وهو ابن سيد من السادات.. طالما تنعم بالملذات.. وتلذذ بالشهوات..
ثم يجر أمام المسلمين بقيوده.. ليعاد إلى سجنه وحديده..
وهم لا يملكون له شيئاً..
مضى أبو جندل إلى مكة وحيداً.. يسأل ربع الثبات على الدين.. والعصمة واليقين..
أما المسلمون فقد رجعوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة.. وهم في حنق شديد على الكافرين.. وحزن على المسلمين المستضعفين..
ثم اشتد العذاب على الضعفاء في مكة.. حتى لم يطيقوا له احتمالاً..
فبدأ أبو جندل.. وصاحبه أبو بصير.. والمستضعفون في مكة.. يحاولون التفلت من قيودهم..
حتى استطاع أبو بصير - رضي الله عنه - أن يهرب من حبسه.. فمضى من ساعته إلى المدينة.. يحمله الشوق.. ويحدوه الأمل.. في صحبة النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه..
مضى يطوي قفار الصحراء.. تحترق قدماه على الرمضاء..
حتى وصل المدينة.. فتوجه إلى مسجدها..
فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد مع أصحابه.. إذ دخل عليهم أبو بصير.. عليه أثرُ العذاب.. ووعثاءُ السفر.. وهو أشعث أغبر..
فما كاد يلتقط أنفاسه.. حتى أقبل رجلان من كفار قريش فدخلا المسجد.. فلما رآهما أبو بصير.. فزع واضطرب.. وعادت إليه صورة العذاب..
فإذا هما يصيحان.. يا محمد.. رده إلينا.. العهدُ الذي جعلت لنا..
فتذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة..
فأشار إلى أبي بصير.. أن يخرج من المدينة..
فخرج معهما أبو بصير.. فلما جاوزا المدينة.. نزلا لطعام.. وجلس أحدهما عند أبي بصير..
وغاب الآخر ليقضي حاجته..
فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه.. ثم أخذ يهزه.. ويقول مستهزءاً بأبي بصير: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل..
فقال له أبو بصير: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً.. فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به.. ثم جربت..
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه.. فناوله إياه.. فما كاد السيف يستقر في يده.. حتى رفعه ثم هوى به على رقبة الرجل فأطار رأسه..
فلما رجع الآخر من حاجته..
رأى جسد صاحبه ممزقاً.. مجندلاً ممزقاً.. ففزع.. وفرَّ حتى أتى المدينة.. فدخل المسجد يعدو..
فلما رآه - عليه الصلاة والسلام - مقبلاً.. فزعاً.. قال: لقد رأى هذا ذعراً..
فلما وقف بين يديه - صلى الله عليه وسلم - صاح من شدة الفزع.. قال: قُتِل والله صاحبي.. وإني لمقتول..
فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير.. تلتمع عيناه شرراً.. والسيف في يده يقطر دماً.. فقال: يا نبي الله.. قد أوفى الله ذمتك.. قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم.. فضمني إليكم.. قال: لا..
فصاح أبو بصير بأعلى صوته.. قال: أو.. يا رسول الله.. أعطني رجالاً أفتح لك مكة..
فالتفت - عليه الصلاة والسلام - إلى أصحابه وقال: ويل أمه مسعِّر حرب لو كان معه رجال.. ثم تذكر عهده مع قريش فأمر أبا بصير بالخروج من المدينة..
فسمع أبو بصير وأطاع..
نعم.. وما حمل في نفسه على الدين.. ولا انقلب عدواً للمسلمين..
فهو يرجو ما عند الحليم الكريم.. من الثواب العظيم.. الذي من أجله ترك أهله.. وفارق ولده.. وأتعب نفسه.. وعذب جسده..
خرج أبو بصير من المدينة.. فاحتار أين يذهب.. ففي مكة عذاب وقيود.. وفي المدينة مواثيق وعهود..
فمضى إلى سيف البحر قريباً من جدة.. فنزل هناك.. في صحراء قاحلة.. لا أنيس فيها ولا جليس..
فتسامع به المسلمون المستضعفون بمكة.. فعلموا أنه باب فرج انفتح لهم.. فالمسلمون في المدينة لا يقبلونهم.. والكفار في مكة يعذبونهم..
فتفلت أبو جندل من قيوده.. فلحق بأبي بصير.. ثم جعل المسلمون يتوافدون إليه في مكانه.. حتى كثر عددهم.. واشتدت قوتهم..
فجعلت لا تمر بهم قافلة تجارة لقريش.. إلا اعترضوا لها..
فلما كثر ذلك على قريش..(4/381)
أرسلوا إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - يناشدونه بالله أن يضمهم إليه.. فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم أن يأتوا المدينة؟
فلما وصل إليهم الكتاب.. استبشروا وفرحوا..
لكن أبا بصير كان قد ألم به مرض الموت.. وهو يردد قائلاً: ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر..
فلما دخلوا عليه وأخبروه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم بسكنى المدينة.. وأن غربتهم انتهت.. وحاجتهم قضيت.. ونفوسهم أمنت..
فاستبشر أبو بصير.. ثم قال وهو يصارع الموت: أروني كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فناولوه إياه..
فأخذه فقبله.. ثم جعله على صدره.. وقال: أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمداً رسول الله.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمداً رسول الله.. ثم شهق ومات.
http://www. lakii. com المصدر:
===============
وسائل الثبات وأسبابه
الخطبة الأولى:
أما بعد... فاتقوا الله أيها المؤمنون كما أمركم ربكم فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"(1) واعلموا أيها المؤمنون أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك))(2) رواه مسلم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً شدة تقلب قلوب العباد: ((لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً))(3) رواه أحمد بسند لا بأس به وقد قيل:
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم أصبحت وزهرها يابس هشيم فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح ومن أرباب التقى والفلاح قلبه بطاعة ربه مشرق سليم إذا به انقلب على وجهه فترك الطاعة وتقاعس عن الهدى. وبينا ترى الرجل من أهل الخنا والفساد أو الكفر والإلحاد قلبه بمعصية الله مظلم سقيم إذا به أقبل على الطاعة والإحسان وسلك سبيل التقى والإيمان.
أيها الإخوة المؤمنون:
إن تذكر هذا الأمر لتطير له ألباب العقلاء وتنفطر منه قلوب الأتقياء وتنصدع له أكباد الأولياء كيف لا والخاتمة مغيّبة والعاقبة مستورة والله غالب على أمره والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها))(4) متفق عليه، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا عباد الله عليكم أن تجتهدوا في أخذ أسباب الثبات وأن تحتفوا بها علماً بأن المقام جد خطير والنتائج لا تخالف مقدماتها والمسببات مربوطة بأسبابها وسنن الله ثابتة لا تتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
أيها المؤمنون إننا في هذه العصور أحوج ما نكون إلى معرفة أسباب الثبات والأخذ بها، فالفتن تترى بالشبهات والشهوات والقلوب ضعيفة والمعين قليل والناصر عزيز وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سرعة تقلب أهل آخر الزمان لكثرة الفتن فقال: ((إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً))(5).
لكل واحد منكم أيها الحاضرون أذكر بعض أسباب الثبات عسى الله أن ينفعنا بها وأن يثبتنا بالقول الثابت.
فمن أسباب حصول الثبات على الحق والهدى والدين والتقى الشعور بالفقر إلى تثبيت الله - تعالى - وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه: "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً"(6) وقال - تعالى -: "إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا"(7) وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله: ((لا ومصرف القلوب))(8) كما روى ابن ماجه بسند جيد مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
ومن أسباب الثبات على الخير والصلاح الإيمان بالله - تعالى - قال - عز وجل -: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة"(9). والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب وينطق به اللسان وتصدقه الجوارح والأركان فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات قال الله - تعالى -: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً"(10). فالمثابرة على الطاعة المداوم عليها المبتغى وجه الله بها موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.(4/382)
ومن أسباب الثبات على الطاعة والخير ترك المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))(11). وأما الصغائر فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))(12).
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى ***واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
من أسباب الثبات على الإسلام والإيمان الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلماً وعملاً وتدبراً فإن الله - سبحانه و تعالى - أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتاً للمؤمنين وهداية لهم وبشرى قال الله - تعالى -: "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"(13) فكتاب الله هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسك به وعمل.
ومن أسباب الثبات على الصالحات عدم الأمن من مكر الله فإن الله - سبحانه و تعالى - قد حذر عباده مكره فقال - عز وجل -: "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"(14) وقد قطع خوف مكر الله - تعالى - ظهور المتقين المحسنين وغفل عنه الظالمون المسيئون كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعاً بالأمان وقال الله - تعالى -: "أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ` سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ"(15).
يا آمناً معَ قبحِ الفعل منه أهل أتاك توقيعُ أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمناً واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه
أما المحسنون من السلف والخلف فعلى جلالة أقدارهم وعمق إيمانهم ورسوخ علمهم وحسن أعمالهم فقد سلكوا درب المخاوف يخافون سلب الإيمان وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن حتى صاح حاديهم يقول:
والله ما أخشى الذنوب فإنها *** لعلى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من *** تحكيم هذا الوحي والقرآن
فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس فإنه مادام نَفَسُك يتردد فإنك على خطر قال ابن القيم رحمه الله: ((إن العبد إذا علم أن الله - سبحانه و تعالى - مقلب القلوب وأنه يحول بين المرء وقلبه وأنه - تعالى - كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا" فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم.
ومن أسباب الثبات على الهدى والحق سؤال الله التثبيت فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك قال الله - تعالى -: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ"(16). فألحوا على الله - تعالى - بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم فالقلوب ضعيفة والشبهات خطافة والشيطان قاعد لك بالمرصاد ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة فإن من دعائهم: "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ"(17). وما ذكره الله - تعالى - عنهم: "رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"(18). وقد كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))(19).
الخطبة الثانية:
الحمد لله مقلب القلوب والأبصار ومثبت عباده المتقين الأبرار في الدنيا والآخرة دار القرار وأصلي وأسلم على نبينا محمد المختار وعلى آله وأصحابه الأطهار.. أما بعد(4/383)
فمن أسباب الثبات على الإيمان نصر دين الله الواحد الديان ونصر أوليائه المتقين وحزبه المفلحين قال الله - تعالى -: "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"(20). ونصر دين الله - تعالى - وأوليائه يكون بطرائق عديدة لا يحدها حد ولا تقف عند رسم فالدعوة إلى الله بجميع صورها نصر لدين الله وطلب العلم نصر لدين الله والعمل بالعلم نصر لدين الله وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصر لدين الله والرد على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصر لدين الله والبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر نصر لدين الله والذب عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين الله وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة جعلنا الله وإياكم منهم من أوليائه وأنصار دينه ولا تحقرن من هذه الأعمال شيئاً فقاعدة الطريق اتق النار ولو بشق تمرة قال ابن القيم - رحمه الله -:
هذا ونصر الدين فرض لازم *** لا للكفاية بل على الأعيان
بيد وإما باللسان فإن *** عجز ت فبالتوجه والدعاء بجنان.
ومن أسباب الثبات على الهدى الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة الذين هم أوتاد الأرض ومفاتيح الخير ومغاليق الشر فافزع إليهم عند توالي الشبهات وتعاقب الشهوات قبل أن تنشب أظفارها في قلبك فتوردك المهالك قال ابن القيم - رحمه الله - حاكياً عن نفسه وأصحابه: (وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه - أي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة).
ومن أسباب الثبات على الحق والتقى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا وقد أمر الله - تعالى - نبيه بالصبر فقال: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"(21). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وما أعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر))(22).
فالصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل
ومن أسباب الثبات على الدين والصلاح كثرة ذكر الله - تعالى - كيف لا وقد قال: "أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"(23). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))(24). وقد أمر الله - تعالى - عباده بالإكثار من ذكره فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرا ` وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ` هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً"(25) فذكر الله كثيراً وتسبيحه كثيراً سبب لصلاته سبحانه وصلاة ملائكته التي يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله وإحسانه.
ومن أسباب الثبات على الحق والهدى ترك الظلم فالظلم عاقبته وخيمة وقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين والإضلال حظ الظالمين فقال جل ذكره: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ"(26). فاتقوا الظلم أيها المؤمنون اتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصي والذنوب واتقوا ظلم أهليكم بالتفريط في حقوقهم والتضييع لهم واتقوا ظلم من استرعاكم الله إياهم من العمال ونحوهم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
هذه بعض أسباب الثبات على الحق والهدى والدين والتقى من أخذ بها فقد أخذ بحظ وافر ووقاه الله سوء العاقبة والمآل. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
----------
(1) آل عمران: 102.
(2) أخرجه مسلم في القدر برقم 4798.
(3) أخرجه أحمد من حديث المقداد بن أسود برقم 22699.
(4) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء برقم 3058.
(5) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم برقم 3715 ورواه الترمذي في الفتن برقم 2123 وسنده جيد (جامع الأصول 105/9).
(6) الإسراء: 74.
(7) الأنفال: 12.
(8) أخرجه ابن ماجه في الكفارات 2083.
(9) إبراهيم: 27.
(10) النساء: 66.
(11) أخرجه البخاري في الأشربة برقم 5150.
(12) أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة برقم 3627 وسنده جيد (السلسلة 389).
(13) النحل: 102.
(14) الأعراف: 99.
(15) القلم: 39 -40.
(16) إبراهيم: 27.
(17)آل عمران: 8.
(18) البقرة: 250.
(19) أخرجه الترمذي في الدعوات 3444.
(20) محمد: 7.
(21) الكهف: 28.
(22) أخرجه البخاري في الزكاة برقم 1376.
(23) الرعد: 28.
(24) أخرجه البخاري في الدعوات برقم 5928.
(25) الأحزاب: 41-43.
(26) إبراهيم: 27.
http://www.almosleh.com المصدر:
==============
قصة عجيبة ... لثبات امرأة !!!
يقول صاحب القصة:(4/384)
سافرت إلى مدينة جدة في مهمة رسمية.. وفي الطريق فوجئت بحادث سيارة.. ويبدو أنه حدث لتوه.. كنت أول من وصل إليه.. أوقفت سيارتي واندفعت مسرعاً إلى السيارة المصطدمة..
تحسستها في حذر.. نظرت إلى داخلها.. أحدقتُ النظر.. خفقات قلبي تنبض بشدة.. ارتعشت يداي.. تسمَّرت قدماي.. خنقتني العبرة..
ترقرقت عيناي بالدموع.. ثم أجهشت بالبكاء.. منظر عجيب.. وصورة تبعث الشجن..
كان قائد السيارة ملقاً على مقودها.. جثة هامدة.. وقد شخص بصره إلى السماء.. رافعاً سبابته.. وقد أفتر ثغره عن ابتسامة جميلة.. ووجهه محيط به لحية كثيفة.. كأنه الشمس في ضحاها.. والبدر في سناه
العجيب"والكلام ما يزال لصاحب القصة".. أن طفلته الصغيرة كانت ملقاة على ظهره.. محيطة بيديها على عنقه.. ولقد لفظت أنفاسها وودعت الحياة..
لا إله إلا الله.. لم أرى ميتة كمثل هذه الميتة.. طهر وسكينة ووقار.. صورته وقد أشرقت شمس الاستقامة على محياه.. منظر سبابته التي ماتت توحّد الله.. جمال ابتسامته التي فارقت بها الحياة.. حلّقت بي بعيداً بعيداً..
تفكرت في هذه الخاتمة الحسنة.. ازدحمت الأفكار في رأسي.. سؤال يتردد صداه في أعماقي.. يطرق بشدة.. كيف سيكون رحيلي!!.. على أي حال ستكون خاتمتي!!..
يطرق بشدة.. يمزّق حجب الغفلة.. تنهمر دموع الخشية.. ويعلو صوت النحيب.. من رآني هناك ضن أني أعرف الرجل.. أو أن لي به قرابة.. كنت أبكي بكاء الثكلى.. لم أكن أشعر بمن حولي!!..
ازداد عجبي.. حين انساب صوتها يحمل برودة اليقين.. لامس سمعي وردَّني إلى شعوري.."يا أخي لا تبكي عليه إنه رجل صالح.. هيا هيا.. أخرجنا من هناك وجزاك الله خيرا"
إلتفتُ إليها فإذا امرأة تجلس في المقعدة الخلفية من السيارة.. تضم إلى صدرها طفلين صغيرين لم يُمسا بسوء.. ولم يصابا في أذى..
كانت شامخة في حجابها شموخ الجبال.. هادئة في مصابها منذ أن حدث لهم الحدث!!..
لا بكاء ولا صياح و عويل.. أخرجناهم جميعاً من السيارة.. من رآني ورآها ضن أني صاحب المصيبة دونها..
قالت لنا وهي تتفقد حجابها وتستكمل حشمتها.. في ثباتٍ راضٍ بقضاء الله وقدره.."لو سمحتم أحضروا زوجي وطفلتي إلى أقرب مستشفى.. وسارعوا في إجراءات الغسل والدفن.. واحملوني وطفليَّ إلى منزلنا جزاكم الله خير الجزاء"..
بادر بعض المحسنين إلى حمل الرجل وطفلته إلى أقرب مستشفى.. ومن ثم إلى أقرب مقبرة بعد إخبار ذويهم..
وأما هي فلقد عرضنا عليها أن تركب مع أحدنا إلى منزلها.. فردّت في حياء وثبات"لا والله.. لا أركب إلا في سيارة فيها نساء".. ثم إنزوت عنا جانباً.. وقد مسكت بطفليها الصغيرين.. ريثما نجلب بغيتها.. وتتحقق أمنيتها.. إستجبنا لرغبتها.. وأكبرنا موقفها..
مرَّ الوقت طويلاً.. ونحن ننتظر على تلك الحال العصيبة.. في تلك الأرض الخلاء.. وهي ثابتة ثبات الجبال.. ساعتان كاملتان.. حتى مرّت بنا سيارة فيها الرجل وأسرته.. أوقفناهم.. أخبرناه خبر هذه المرأة.. وسألناه أن يحملها إلى منزلها.. فلم يمانع..
عدت إلى سيارتي.. وأنا أعجبُ من هذا الثبات العظيم..
ثبات الرجل على دينه واستقامته في آخر لحظات الحياة.. وأول طريق الآخرة..
وثبات المرأة على حجابها وعفافها في أصعب المواقف.. وأحلك الظروف.. ثم صبرها صبر
الجبال.. إنه الإيمان.. إنه الإيمان.."يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء"
"انتهى كلامه وفقه الله - تعالى -"
الله أكبر.. هل نفروا في هذه المرأة صبرها وثباتها.. أم نفروا فيها حشمتها وعفافها.. والله لقد جمعت هذه المرأة المجد من أطرافه..
إنه موقف يعجز عته أشداء الرجال.. ولكنه نور الإيمان واليقين..
أي ثباتٍ.. وأي صبرٍ.. وأي يقين أعظم من هذا!!!
وأني لأرجو أن يتحقق فيها قوله - تعالى -"وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون"
http://www.saaid.net المصدر:
===============
الإمام أحمد بن حنبل وثباته على الحق
وائل الظواهري(4/385)
للعلماء الربانيين مواقف عديدة يتضح منها مدى ثباتهم على الحق، وتمسكهم به، وعدم تزحزحهم عنه، وبذل أنفسهم في سبيل الله رخيصة، طلباً لمرضاته ومغفرته. ومن هذه المواقف العظيمة موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، عندما تعرض إلى فتنة القول بخلق القرآن، التي دعا إليها الخليفة العباسي المأمون، بناء على مذهب أحمد بن أبي دؤاد ومشورته له بذلك، وقد رفض عدد من العلماء القول بهذه المقولة، فمنهم من قتل ومنهم من سجن، ومنهم من استجاب ظاهراً فقط ليحفظ دمه أخذاً بقوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان... ). أما الإمام أحمد فكان له معهم شأن آخر، فقد رفض الانصياع لمثل هذا القول، وآثر قول الحق مهما كلفه ذلك من عذاب وشدة، فكان نتيجة ذلك أن رفع الله شأنه في الدنيا، وعرف الناس الحق. وكانت بداية المحنة أن أمر المأمون إسحاق بن إبراهيم - وهو صاحب شرطة المأمون على بغداد - أن يمتحن الناس بالقول بخلق القرآن، فمن أبى منهم حبس، فأجابه القوم إلى ذلك إلا أربعة: أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح والقواريري والحسن بن حماد المعروف بسجادة لكثرة عبادته، فدعاهم إلى القول بخلق القرآن فأبى أن يجيبه أحد منهم، فأدخلوا الحبس ثم أجاب إلى هذا القول القواريري والحسن بن حماد، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهم. قال الفضل بن زياد: لما خرج أحمد بن حنبل من عند إسحاق يوم امتحنه - وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة ومائتين - قعد في المسجد فقال له جماعة: أخبرنا بمن أجاب - يعني إلى القول بخلق القرآن - فكأنه ثقل عليه، فكلموه أيضاً فقال: لم يجب أحد من أصحابنا والحمد لله. ثم ذكر من أجاب من العلماء ومن وافقهم على ما أرادوا، ثم قال: امتحنهم مرة، مرة، وامتحنني مرتين، مرتين. فقال: ما تقول في القرآن؟ قلت: كلام الله غير مخلوق. فأقامني وأجلسني في ناحية، ثم سألهم، ثم ردني ثانية، فسألني وأخذني في التشبيه. فقلت: ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) فقال لي: وما السميع البصير؟ فقلت: هكذا قال تعالى. فلما بلغ المأمون رفض الإمام أحمد ومحمد بن نوح القول بأن القرآن مخلوق، أمر بإحضارهما إليه مقيدين، وكان مقيماً بمدينة طرسوس. قال محمد بن إبراهيم البوشنجي: فجعلوا يذكرون أبا عبد الله وهو بالرقة في التقية وما روي فيها من الجواز. فقال: كيف تصنعون بحديث خباب: إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار، لا يصده ذلك عن دينه. فأيسنا منه وعلمنا أن لن يجيبهم إلى ما أرادوا. ثم قال: لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا أخاف قتلاً بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط - يعني الجلد بالسياط - فسمعه بعض أهل الحبس فقال له: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي. فكان ذلك سبباً في التخفيف عنه. وحدث الإمام أحمد قال: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت، عشت حميداً. فقوى قلبي. هذا وقد كان الإمام أحمد يدعو الله كثيراً ألا يجتمع بالمأمون، فاستجاب الله دعاءه فلم يجتمع به، وذلك أنه مات قبل أن يصلا إليه. فلما بلغهم نبأ وفاة المأمون، ردا في قيودهما إلى بغداد، فأما محمد بن نوح فإنه مات في الطريق ففك قيده وصلى عليه الإمام أحمد ودفنه وقال: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير، قال ذات يوم: يا أبا عبد الله، الله، الله، إنك لست مثلي. أنت رجل يقتدى بك. قد مد الخلق أعناقهم إليك، لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله، أو نحو هذا. فلما تولى المعتصم الخلافة بعد المأمون استمر على نفس الأمر، وأمر بسجن الإمام أحمد. حدث صالح بن أحمد قال: قال أبي: كان يوجه إلي كل يوم رجلين أحدهما يقال له: أحمد بن رباح والآخر يقال له: أبو شعيب الحجام فلا يزالان يناظراني حتى إذا قاما دعي بقيد فزيد في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد، فلما كان اليوم الثالث دخل علي فناظرني فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: مخلوق. قلت: كفرت بالله، فقال الرسول- الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم-: إن هذا رسول أمير المؤمنين، فقلت: إن هذا قد كفر. فلما كان في الليلة الرابعة وجه يعني المعتصم ببغا الكبير إلى إسحاق، فأمره أن يحملني إليه، فأدخلت على إسحاق، فقال: يا أحمد إنها والله نفسك إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يقتلك في موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر، أليس قد قال الله ـ تعالى ـ:(إنا جعلناه قرآناً عربياً) أفيكون مجعولاً إلا مخلوقاً؟ فقلت: فقد قال الله ـ تعالى ـ: (فجعلهم كعصف مأكول) أفخلقهم؟ قال: فسكت. فلما صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان أخرجت، وجيء بدابة فأركبت وعلي الأقياد ما معي من يمسكني، فكدت غير مرة أن أخر على وجهي لثقل القيود فجيء بي إلى دار المعتصم فأدخلت حجرة ثم أدخلت بيتاً وأقفل الباب علي في جوف الليل ولا سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا أنا(4/386)
بإناء فيه ماء وطست موضوع فتوضأت وصليت. فلما كان من الغد أخرجت تكتي وشددت بها الأقياد أحملها وعطفت سراويلي فجاء رسول المعتصم فقال: أجب. فأخذ بيدي وأدخلني عليه والتكة في يدي أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالس وأحمد بن أبي دؤاد حاضر، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه، فقال لي المعتصم: ادنه، ادنه فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس فجلست، وقد أثقلتني الأقياد فمكثت قليلاًثم قلت: أتأذن في الكلام؟ قال: تكلم. فقلت: إلى ما دعا الله ورسوله؟ فسكت هنية ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قلت: إن جدك ابن عباس يقول: لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألوه عن الإيمان، فقال: أتدرون ما الإيمان؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم. قال أبي: فقال، يعني المعتصم: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك. ثم قال: يا عبد الرحمن بن إسحاق، ألم آمرك برفع المحنة؟ فقلت: الله أكبر إن في هذا لفرجاً للمسلمين، ثم قال لهم: ناظروه وكلموه، يا عبد الرحمن كلمه. فقال: ما تقول في القرآن؟ قلت: ما تقول أنت في علم الله؟ فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله ـ تعالى ـ: (الله خالق كل شيء) والقرآن أليس شيئاً؟ فقلت: قال الله (تدمر كل شيء) فدمرت ما أراد الله. فقال بعضهم: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) أفيكون محدث إلا مخلوقاً؟ فقلت: قال الله (ص والقرآن ذي الذكر) فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولام. وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين (إن الله خلق الذكر) فقلت: هذا لفظ خطأ حدثنا غير واحد (إن الله كتب الذكر). واحتجوا بحديث ابن مسعود: ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي. فقلت: إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ولم يقع على القرآن. فقال بعضهم: حديث خباب: يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. فقلت: هكذا هو. قال صالح: وجعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب. قال أبي: وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مبتدع، فيقول: كلموه ناظروه فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أقول به. فيقول أحمد بن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة؟ فقلت له: تأولت تأويلاً فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ولا يقيد عليه. قال صالح: وجعل ابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إلي من مئة ألف دينار، ومئة ألف دينار فيعد من ذلك ما شاء الله أن يعد. فقال: لئن أجابني لأطلقن عنه بيدي، ولأركبن إليه بجندي، ولأطأن عقبه. - يعني بذلك إكرامه - ثم قال: يا أحمد: والله إني عليك لشفيق، وإني لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله. فلما طال المجلس، ضجر وقال: قوموا وحبسني عنده وعبد الرحمن بن إسحاق يكلمني. وقال: ويحك أجبني وقال: ويحك ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك، فيقول: والله إنه لعالم وإنه لفقيه وما يسوءني أن يكون معي يرد عني أهل الملل. ثم قال: ما كنت تعرف صالحاً الرشيدي؟ قلت: قد سمعت به. قال: كان مؤدبي وكان في ذلك الموضع جالساً - وأشار إلى ناحية من الدار - فسألته عن القرآن فخالفني فأمرت به فوطئ وسحب, يا أحمد أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي. قلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله. فطال المجلس وقام ورددت إلى الحبس. فلما كان المغرب وجه إلي برجلين من أصحاب ابن أبي دؤاد يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معي، حتى إذا كان وقت الإفطار جيء بالطعام ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل - وكانت ليالي رمضان - قال: ووجه المعتصم إلى ابن أبي دؤاد في الليل فقال: يقول لك أمير المؤمنين ما تقول؟ فأرد عليه نحو مما كنت أرد. فقال ابن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في السبعة. يحيى بن معين وغيره. فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك. ثم قال: إن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضرباً بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس ويقول: إن أجابني جئت إليه حتى أطلق عنه بيدي ثم انصرف. فلما أصبحنا جاء رسوله فأخذ بيدي حتى ذهب بي إليه فقال لهم: ناظروه فجعلوا يناظروني فأرد عليهم، فإذا جاءوا بشيء من الكلام مما ليس في الكتاب والسنة قلت: ما أدري ما هذا؟ قال: فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجهت الحجة علينا ثبت، وإذا كلمناه بشيء يقول: لا أدري ما هذا؟ فقال: ناظروه. فقال رجل: يا أحمد أراك تذكر الحديث وتنتحله. فقلت: ما تقول في قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)؟(4/387)
قال: خص بها المؤمنين. قلت: ما تقول إن كان قاتلاً أو عبداً؟ فسكت. وإنما احتججت عليهم بهذا لأنهم كانوا يحتجون بظاهر القرآن. فحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث اجتججت بالقرآن يعني وإن السنة خصصت القاتل والعبد. فأخرجتهما من العموم، قال: لم يزالوا كذلك إلى قرب الزوال. فلما ضجر قال: قوموا ثم خلا بي وبعد الرحمن بن إسحاق فلم يزل يكلمني ثم قام ودخل، ورددت إلى الموضع. فلما كانت الليلة الثالثة قلت: خليق أن يحدث غداً من أمري شيء، فقلت للموكل بي: أريد خيطاً فجاءني بخيط فشددت به الأقياد ورددت التكة إلى سراويلي، مخافة أن يحدث من أمري شيء فأتعرى، فلما كان من الغد أدخلت إلى الدار فإذا هي غاصة، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع وقوم معهم السيوف وقوم معم السياط وغير ذلك، ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء. فلما انتهيت إليه قال: اقعد ثم قال: ناظروه كلموه. فجعلوا يناظروني يتكلم هذا فأرد عليه ويتكلم هذا فأرد عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم فجعل بعض من هو قائم على رأسي يومئ إلي بيده، فلما طال المجلس نحاني ثم خلا بهم، ثم نحاهم وردني إلى عنده، وقال: ويحك يا أحمد أجبني حتى أطلق عنك بيدي، فرددت عليه نحو ردي. فقال: عليك، وذكر اللعن، خذوه اسحبوه. فسحبت. قال: وقد كان صار إلي شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كم قميصي، فوجه إلي إسحاق بن إبراهيم يقول: ما هذا المصرور؟ قلت: شعر من شعر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وسعى بعضهم ليخرق القميص عني، فقال المعتصم: لا تخرقوه، فنزع فظننت أنه إنما درئ عن القميص الخرق بالشعر. قال صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال: ائتوني بغيرها، ثم قال: للجلادين تقدموا فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ويقوم الآخر فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد قطع الله يدك، فلما ضربت تسعة عشر سوطاً قام إلي - يعني المعتصم - وقال: يا أحمد علام تقتل نفسك إني والله عليك لشفيق، قال: فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك الخليفة على رأسك قائم، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشمس قائم، فقال: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقول به فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، ثم قام الثانية فجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني، فجعلوا يقبلون علي ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم، وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ وجعل المعتصم يقول: ويحك أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله، فيرجع ويقول للجلادين تقدموا فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك، قال أبي: فذهب عقلي فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك، قال أبي: فما شعرت بذلك وأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ، فقلت: لا أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من صلاته قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثغب دماً. قال صالح: ثم خلي عنه فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية عشر شهراً، ولقد أخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه قال: يا ابن أخي ـ رحمة الله ـ على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحداً يشبهه، ولقد جعلت أقول له - في وقت ما يوجه إلينا بالطعام-: يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع تقية فيأبى، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب: ناولني فناوله قدحاً فيه ماء وثلج فأخذه ونظر إليه هنيهة ثم رده ولم يشرب، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وهو فيما هو فيه من الهول. قال: صالح فكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاماً أو رغيفاً في تلك الأيام فلم أقدر. وأخبرني رجل حضره أنه تفقده في الأيام الثلاثة وهم يناظرونه فما لحن في كلمة قال: وما ظننت أن أحداً يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه. قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: ذهب عقلي مراراً فكان إذا رفع عني الضرب رجعت إلي نفسي، وإذا استرخيت وسقطت رفع عني الضرب، أصابني ذلك مراراً، ورأيته يعني المعتصم قاعداً في الشمس بغير مظلة، فسمعته وقد أفقت يقول لابن أبي دؤاد: لقد ارتكبت إثماً في أمر هذا الرجل. فقال: يا أمير المؤمنين إنه والله كافر مشرك قد أشرك من غير وجه، فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد، وقد كان أراد أن يخليني بلا ضرب فلم يدعه ولا إسحاق بن إبراهيم. هذه هي قصة الإمام أحمد وثباته على الحق وعدم تزعزعه عنه، وإن فيها لعبرة لمن أراد الاعتبار، وفيها دليل على زهد العلماء في الدنيا وتضحيتهم في سبيل نشر الحق بين الناس. لقد كان بإمكان الإمام أحمد أن ينطق بما أرادوا على سبيل(4/388)
التقية كما فعل غيره من العلماء الذين كان مستندهم في ذلك قول الله ـ تعالى ـ: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ولكن حرص الإمام على تعليم الناس وإيصال الحق لهم ولمن يأتي بعدهم وعدم مشاركة أهل البدع في بدعهم جعلته يتحمل هذا الأذى وهذا العذاب، ولقد عانى الإمام أحمد بعد ذلك عدة سنوات فظل مطارداً من الحكام حتى تولى المتوكل على الله الخلافة، وأمر برفع الفتنة، ومنع الناس من الخوض والكلام في هذه المسألة، عند ذلك بدأ الأمر يخف عن الإمام أحمد بعد ما يقرب من ثمانية عشر عاماً خرج منها إماماً للمسلمين.
http://www.bab.com المصدر :
=================(4/389)
وسائل الثبات على الدين
محمد بن عبد العزيز الشمالي
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى كما أمركم الله بذلك فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء: 1]، وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) [آل عمران: 102]، وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )[الحشر: 18].
أما بعد: فقد أخبر المصطفى بأنه ستكون في آخر الزمان فتن كما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله أنه قال: ((بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل)) رواه الحاكم (4/485)، وفي زمن تكثر فيه الشهوات والشبهات التي تصرف المرء عن دينه يقول الرسول: ((يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر)) رواه الترمذي (4/526)، وكان - عليه الصلاة والسلام - يقول: ((إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيف يشاء))، ويقول - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم: ((لقلب ابن آدم أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا))، وقال أيضا: ((إنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة ـ أي: بالصحراء ـ تعقلت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهرًا لبطن)).
ويقول الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
وكان - عليه الصلاة والسلام - يكثر من هذا الدعاء: ((اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك)).
ونهج منهجه الصحابة الكرام والأئمة الأعلام من سلف هذه الأمة، فقد كانوا أشدَّ الناس خوفًا على قلوبهم مع حرصهم وكثرة طاعتهم لله - سبحانه وتعالى -؛ لهذا كله ولأننا نعيش هذه الأيام في فتن تلاطمت وشُبَه انتشرت وأنواع من الردّة خرجت حتى أصبح المرء يخشى على نفسه عدم الثبات والخوف من أن ينكص على عقبيه كفرًا والعياذ بالله أو عصيانا أو بعدًا أو جفاءً عن طاعة الله فازدادت الحاجة إلى معرفة عوامل الثبات على دين الله، لأننا جمعنا بين تقصير في طاعة الله وأمن من عقابه وبين مجتمعات انتشر فيها الباطل على أرقى المستويات، أما سلفنا الصالح فإنهم كانوا يجمعون بين طاعة الله ومجتمع صالح يعينهم على ذكر الله، ومع ذلك فقد كانوا يخافون على أنفسهم من الزيغ وعدم الثبات، فهل تبصر المسلمون اليوم بعوامل الثبات على دين الله وأنهم أشد حاجة إلى معرفتها والعمل بها والدعوة إليها؟!
إخوة الإسلام، إن من رحمة الله - عز وجل - بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرة نبيه وسائل كثيرة للثبات لعلنا نتناول بعضًا منها، فمن هذه العوامل:
أولاً: الإقبال على كتاب الله، ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [الفرقان: 32]، لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفوس، ولأنه يزوّد المسلم بالتصوّرات الصحيحة لواقعهم، فيردّ على الشبهات ويفضح المخططات. والإقبال على القرآن يكون بتلاوته وحفظه ومعرفة تفسيره والعمل به، فداوم على تلاوته، ولا تقطع صلتك به، ولا تعرض عنه.
ثانيًا: الالتزام بشرع الله والإكثار من الأعمال الصالحة والسنن الرواتب والنوافل المطلقة، ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ) [محمد: 17]، (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة ) [إبراهيم: 27].
وهذا والله واضح ومرئي رأي العين، وإلا فهل نتوقع ثباتًا من الكسالى القاعدين والعصاة المنافقين إذا أطلقت الفتنه رأسها وادلهم الخطب؟! ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) [الصف: 5].
ثالثًا: ومن عوامل الثبات على دين الله والاستمرار عليه تدبر قصص الأنبياء ودراستها والتأسي بها، وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 12]، فكم نالهم عليهم الصلاة والسلام من الأذى والعذاب والفتن من أقوامهم.(4/390)
رابعا: ومن ذلك أيضا التربية الصحيحة للنفس، تربية إيمانية علمية واعية قائمة على الدليل الصحيح، منافية للتقليد، ولكي ندرك أهمية هذا الأمر لنعُد على سيرة رسول الله، ولنسأل أنفسنا: ما مصدر ثبات صحابته رضوان الله عليهم؟ كيف ثبت بلال وخبيب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب ذلك العقاب الجماعي أو تحت التعذيب الفردي؟ هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة صقلت شخصياتهم؟! فهذا خباب بن الأرت كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عاري الظهر، فلا يطفئها إلا شحم ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله؟! وبلال تحت الصخرة في الرمضاء، وسمية في الأغلال والسلاسل، فهل يتبصر المسلمون مثل هذه الثلة المشرفة والأنوار المضيئة؟!
خامسًا: من عوامل الثبات أيضا الحرص على أن يسلك المسلم في هذه الحياة الطريق المستقيم خالصًا لله ومتبعًا هدي رسول الله بهمة عالية تربي فيها نفسك كما تربي النبته الصغيرة.
والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على *** حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم
سائرًا إلى الله بقصد وتأني، فقليل دائم خير من كثير منقطع، ومع ذلك تقف مع نفسك محاسبًا ولتقصيرها معاتبًا ولإقبالها مشجعًا.
سادسًا: الالتفاف حول من يعينك على الثبات والإقبال على طاعة الله من جليس صالح وجماعة معينة ومنهج مثبّت على الطريق، فإن من الناس أناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر، فابحثوا عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين الذين هم كالنجوم في الليلة الظلماء، بهم يهتدي الضالون، فإخوانكم الصالحون هم العون لكم في الطريق والركن الشديد الذي تأوون إليه، فيثبتونكم بما معهم من آيات الله والحكمة، فألَفوهم وعيشوا في كنفهم، وإياكم والوحدة فتتخطفكم شياطين الإنس والجن.
سابعًا: البصيرة وفهم الواقع وعرض كل صغير وكبير على شرع الله، وأن تعرف الباطل وأن لا تغتر به، ( لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) [آل عمران: 196، 197].
فوالله، إن الباطل وأهله ضعفاء جبناء، أصول مخططاتهم أوهى من بيت العنكبوت، ويتبين ذلك كله لمن رزقه الله بصيرة واعية وحكمة نافذة وعلمًا نافعًا، ومع ذلك كله يجب أن نثق بنصر الله للمؤمنين، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76]، ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) [غافر: 51].
وكذلك العلم بأن المستقبل للإسلام والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا هو العامل الثامن من عوامل الثبات على دين الله.
تاسعًا: تقوى الله ولزوم الاستغفار؛ فإنهما خير معين على الثبات، ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) [الطلاق: 2، 3].
وأخيرًا إخوة الإسلام، إن كل تلك الوسائل فقيرة ومحتاجة إلى الالتجاء إلى الله، فعليكم بالإكثار من الدعاء في كل حين ووقت بأن يثبتكم الله على دينه أن لا يفتنكم، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يكثر من قول: ((اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ )[فصلت: 30-32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أخي المسلم، وصيتي إليك أن تحفظ نفسك، وأن تحفظ من ولاك الله عليهم من أزواج وذرية، وأن تنجو بهم من هذا البحر المتلاطم من فتن الشهوات ومن فتن الشبهات مما نراه في واقعنا من تساهل كثير من أولياء الأمور بإحضار ما فيه فتن إلى بيوتهم من دشوش وغيرها مما يأجج فتن الشهوات ومما يزعزع ركائز الإيمان من فتن الشبهات، وإنه لنذير شؤم وعلامة خطر على مجتمعنا المسلم الذي وجّه الشرق والغرب الكافر على طمس هويته، فاحذروا ـ أحبتي في الله ـ ذلك، وتذكروا قول النبي: ((ما من راع يسترعيه الله رعيه يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب، اللهم احفظنا بالإسلام واحفظ ذرارينا واحفظ مجتمعاتنا من كل كائد ومن كل مفسد، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.(4/391)
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير الخلق أجمعين كما أمركم الله بذلك فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك أجمعين محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسمين، وأذل الشرك والمشركين...
http://www.alminbar.net المصدر:
-=============
- - - - - - - - - - - -
المصادر والمراجع الهامة
أضواء البيان
التحرير والتنوير
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
النكت والعيون
الوسيط لسيد طنطاوي
تفسير الألوسي
تفسير الخازن
تفسير السعدي
في ظلال القرآن
اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
المستدرك على الصحيحين للحاكم
المعجم الأوسط للطبراني
المعجم الصغير للطبراني
المعجم الكبير للطبراني
بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى
تهذيب الآثار للطبري
دلائل النبوة للبيهقي
سنن أبى داود
سنن ابن ماجه
سنن الترمذى
سنن الدارمى
سنن النسائى
شرح معاني الآثار
شعب الإيمان للبيهقي
صحيح ابن حبان
صحيح ابن خزيمة
صحيح البخارى
صحيح مسلم
مجمع الزوائد
مستخرج أبي عوانة
مسند أبي يعلى الموصلي
مسند أحمد
مسند البزار 1-14
مسند الحميدى
مسند الشاميين 360
مسند الطيالسي
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل
معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني
موسوعة السنة النبوية
موطأ مالك
آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي
الزهد لأحمد بن حنبل
الزهد للمعافى بن عمران الموصلي
الزهد لهناد بن السري
الشمائل المحمدية
المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني
دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني
فضائل الخلفاء الراشدين لأبي نعيم الأصبهاني
فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل
مسند أبي بكر الصديق لأحمد بن علي المروزي
مسند إبراهيم بن أدهم الزاهد لابن منده
مسند إسحاق بن راهويه
إبراز الحكم من حديث رفع القلم
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
المنتقى - شرح الموطأ
جامع العلوم والحكم محقق
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود
حاشية السندي على ابن ماجه
حاشية السندي على النسائي
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
شرح ابن بطال
شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
عون المعبود
فتح الباري لابن حجر
فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
موطأ محمد بشرح اللكنوي
الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية
الفتاوى الفقهية الكبرى
الفقه الإسلامي وأدلته
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
فتاوى إسلامية
فتاوى الإسلام سؤال وجواب
فتاوى السبكي
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتاوى من موقع الإسلام اليوم
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
فتاوى يسألونك
لقاءات الباب المفتوح
مجموع فتاوى ابن تيمية
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين
إحياء علوم الدين
موسوعة خطب المنبر
موسوعة فقه القلوب
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
حياة الصحابة للكاندهلوى
سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
سيرة ابن هشام
زاد المعاد
الإستيعاب في معرفة الأصحاب
الإصابة في معرفة الصحابة
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
الطبقات الكبرى لابن سعد
الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة
الكامل لابن عدي
تعجيل المنفعة
تقريب التهذيب
سير أعلام النبلاء
لسان الميزان
ميزان الاعتدال
( علم البيان )
تاج العروس
لسان العرب
المناهل الحسان في دروس رمضان
موسوعة الخطب والدروس
موسوعة الدين النصيحة 1-5
موسوعة المقالات والبحوث العلمية
الشاملة 2
برنامج قالون
كثير من مواقع النت
الفهرس العام
الباب الرابع
مقالات وبحوث وفتاوى في الابتلاء
من الابتلاء إلى عون المسلمين
وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهَا العَاقِبَةُ
استعلاء ثمنه الابتلاء
وقوف العلماء مع الدعاة عند الابتلاء
الابتلاء بالأمراض
من حكمة الله تعالى ابتلاء العباد بالمصائب والفتن ، منها الزلازل
الابتلاء
الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل
الابتلاء بالمرض سنة ماضية
الداعية بين الابتلاء والتمحيص والفتنة
الابتلاء في حياة الدعاة (1- 2 )
محنة وابتلاء
الابتلاء
أسباب الابتلاء وأنواعه
ابتلاء الله لعباده المؤمنين
الابتلاء في سيرة سيد الأنبياء
نِعَم.. ونِقَم.. وابتلاءات
سنة الله في الابتلاء والتمحيص والتداول
الدنيا دار الابتلاء والفتن
فوائد ابتلاء المؤمن
الحكمة من الابتلاءات
الحكمة من ابتلاء الأنبياء
موقف المؤمن من الابتلاء
جواب الإمام عن ورقة أرسلت له في السجن ، مبينا الحكمة من الابتلاء ، وأن النصر لا يكون إلا بعد الامتحان
هل ابتلاء الخلق يعارض الرحمة؟
كثرة الحوادث عقوبة أم ابتلاء؟(4/392)
ابتلاء الله لعباده له حكم وعلى العبد التسليم
تحريم بعض الأمور في الدنيا وإباحتها في الجنة لانتهاء الابتلاء
الأمور المعينة على تجاوز المصائب والابتلاءات
خلق الإنسان للابتلاء
الصبر على الابتلاء خير من العادة السرية
الوسوسة ابتلاء من الله ، لكن لها علاج
الابتلاء تكفير للسيئات ورفع للدرجات
الابتلاء بالحب...العلاج يسير
الحكمة من الابتلاء، وما يشرع فعله عند نزول البلاء
الابتلاء على اختلاف أنواعه خير
ثمرات الابتلاءات والمصائب وفوائدها
الأسوة الطيبة بابتلاء أيوب عليه السلام
تجملي على الابتلاء بالصبر والتقوى
المشكلة ليست في الدعاء إنما هي ابتلاء
الابتلاء يستدعي الصبر والاحتساب
الأرض هي ميدان الاختبار والابتلاء
الحكمة من الابتلاء
الفرق شاسع بين الابتلاء والمصيبة
الثبات على المبدأ بالصبر على الابتلاء
لا تعارض بين وعد الله بالحياة الطيبة للمؤمنين وبين الابتلاءات
هذا ابتلاء واطلب النجاة
أنت بين نعمة وابتلاء
مضايقات أصدقاء السوء ابتلاء من الله
الفرق بين البلاء والابتلاء
الابتلاء تارة يكون بالخير وتارة يكون بالشر
الابتلاء دليل الحب
الفرق بين ابتلاء التمحيص وابتلاء العقوبة
الابتلاء بين رفعة الدرجات والعقوبة وتكفير السيئات
الابتلاء يكون تارة بالخير وتارة بالشر
ابتلاء المؤمن بوساوس الشيطان ووسوسة الكفر التي يضيق بها صدره
سبب الابتلاء بالمصائب، وآثار البعد عن الله
من حكم ابتلاء بعض العباد بالفقر وضيق ذات اليد
الابتلاء من سنن الله في خلقه
الدنيا دار ابتلاء
من حِكَم الامتحان بالابتلاء
قد ينال العبد منزلته عند الله بالابتلاء
الابتلاء بالخير والشر
موقف المؤمن تجاه الابتلاء
الاحتلام نعمة أم ابتلاء وهل يطلب من الله ؟
الفرق بين الابتلاء من الله والعيش الضنك
المصائب والعقوبة والابتلاء
الأمراض التناسلية بين العقوبة والابتلاء
الجنة ليست دار ابتلاء
الابتلاء لا يدل بالضرورة على سخط الله على العبد
البلاء والابتلاء وقول القائل أستعين بالله وبك
وضعك يدور بين الوسواس والابتلاء
الابتلاء من سنن الله في خلقه
للمؤمن أسوة حسنه في الأنبياء والصالحين في مواجهة الابتلاء
ليس كل ابتلاء عقوبة
لا يهولنك تتابع الابتلاءات
الابتلاء بين تكفير الذنوب ورفع الدرجات
ليس كل ابتلاء عقابا
مقام النبوة لا يتعارض مع الابتلاء
بعض الحكم من الابتلاء بالمصائب
بعض الحكم من الابتلاء بالمصائب
الابتلاء امتحان للصبر والعبودية
الابتلاء بالنفع وبالضر
فوائد ابتلاء المؤمن
الابتلاء في الدنيا
دعوته صلى الله عليه وسلم وصبره على الابتلاء
ثمرات الابتلاء
ابتلاء المؤمن
حقيقة الابتلاء
ابتلاء النعم
الابتلاء في حياة الدعاة
الابتلاء وحكمته
الابتلاء بالأمراض
حِكم الابتلاء
الابتلاء
سنة الابتلاء
الابتلاء والصبر
ابتلاء الرسول والصحابة قبل الهجرة
سنة الابتلاء
الابتلاء بالمعاصي
أهمية فقه سُنة الابتلاء
ابتلاء ومحاسبة
الابتلاء بالأمراض
الدنيا دار ابتلاء واختبار
أصول جامعة في النصر والهزيمة وفقه الابتلاء
الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [2/5]
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [3/5]
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [4/5]
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [5/5]
سبل مواجهة التحديات الثقافية
الابتلاء طريق الأنبياء
الابتلاء وطريق السلامة
الابتلاء
الصبر على الابتلاء
الصبر على المحن سلاح المؤمن
سنة الابتلاء
أصول جامعة في النصر والهزيمة وفقه الابتلاء
الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين
الابتلاء سنّة الله في خلقه
الفتنة والابتلاء
الجهر بالدعوة وأساليب المشركين في محاربتها
فقه الإبتلاء
فقه الابتلاء في ضوء حديث خباب بن الأرت-رضي الله عنه -
الابتلاء
ابتلاء تأخر الإنجاب.. احذروا "الدجل"
لقمة العيش".. هل تتحكم في الداعية؟
الذنوب.. زلازل القلوب
المرض.. وقفات إيمانية
التعيير بالذنب.. ذنب أكبر
الزلزال... ظاهرة طبيعية.. أم رسالة ربانية؟
هل الذنوب وراء زلازل الأرض؟
في الزلازل دعوة للتوبة
الذنوب.. زلازل القلوب
سنة الابتلاء ! وقصة أبي قلابة العجيبة في الصبر على الابتلاء
فلسفة الابتلاء في الإسلام
ما الحكمة من الابتلاء..!؟
الحكمة من الابتلاء
للابتلاء حكم عظيمة منها :
خطبة استسقاء
خمس طرق يستخدم فيها الله المصاعب
حكمة الإبتلاء
الضراعة هدف الابتلاء
تزكية النفوس مراد الإبتلاء
الثبات ثمرة الإبتلاء
الثمار الإيجابية للإبتلاء
سبيل العودة الى الفطرة
حكمة الحياة
حكمة الوجود
مصنع الرجال
حصن الإبتلاء
الإستقامة عزة ورفعة
كيف نستقيم في ظروف الإبتلاء؟
الإعداد سبيل الإستقامة
الإستقامة ثمن الأهداف العظيمة
الإستقامة ضمان النجاح
الإستقامة ثمرة الجنة
الجنة ميراث الإستقامة
حكمة الابتلاء
حكمة الابتلاء بالأمراض المهلكة
مثل من ثبات الصحابة على دينهم واعتزازهم به
مثل من ثبات النبي صلى الله عليه وسلم
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ "
الدعوة تحتاج إلى صبر ومصابرة وأمل
صاحب العين الواحدة مثاب إذا صبر
صبر المرأة على محنة طلاقها(4/393)
روائع من صبر الأنبياء
صبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى(1)
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى (2)
مواقف من صبر الصحابة على الأذى (1)
مواقف من صبر الصحابة على الأذى(2)
بين الصبر والنصر
ثقافة الصبر .. من لم يصبر فليلزم بيته
معادن الناس بين الصبر وحوادث الأيام
الصبر على مشاق الدعوة إلى الله
الصبر عدة المؤمنين
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
الصبر على الطاعات
عشر نصائح لابن القيم للصبر عن المعصية
الثبات على الطاعة
الثبات على الطاعة
وفي الثبات النجاة
الثبات على الطريق وأثره في حياة الأمة
الثبات على دين الله (1)
الثبات على المبدأ
الثبات في الصف
الثبات الثبات .. يا أهل الرباط !
وسائل الثبات أمام المغريات والمتغيرات
عوامل الثبات
تفقد ثباتك على الطريق
الثبات على الإيمان
الثبات حتى الممات
وسائل الثبات وأسبابه
قصة عجيبة ... لثبات امرأة !!!
الإمام أحمد بن حنبل وثباته على الحق
وسائل الثبات على الدين(4/394)