إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّيْسَابُورِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ سَرِيعٍ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا ، وَذَكَرَ فِيهِ دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِفْظِ ، وَذَكَرَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ نَادَى : يَا عَامِرُ ، إِنَّ الرِّيحَ قَاتِلَتِي وَأَنَا عَلَى ظَهْرٍ ، وَأَخَذَتْهُمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَصَاحَ أَصْحَابُهُ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ أَمَرَهُمْ فَتَحَمَّلُوا ، وَلَقَدْ تَحَمَّلُوا وَإِنَّ الرِّيحَ لَتَغْلِبُهُمْ عَلَى بَعْضِ أَمْتِعَتِهِمْ . فَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ : عَنْ عَطِيَّةَ الْكَاهِلِيِّ قَالَ : قَدْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ : إِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ حُذَيْفَةُ مَرَّ بِخَيْلٍ عَلَى طَرِيقِهِ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَخَرَجَ لَهُ فَارِسَانِ مِنْهُمْ ، ثُمَّ قَالَا : ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ بِالْجُنُودِ وَالرِّيحِ ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ يَرَوْهَا " هَكَذَا أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ ، فِيمَا أَدَّى مِنَ الْحَدِيثِ بِالْيَاءِ(1)
و عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ رَجُلٌ لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ الأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ « أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ « أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ فَقَالَ « قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ». فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِى بِاسْمِى أَنْ أَقُومَ قَالَ « اذْهَبْ فَأْتِنِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَىَّ ». فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِى فِى حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِى ظَهْرَهُ بِالنَّارِ فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِى كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَىَّ ». وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِى فِى مِثْلِ الْحَمَّامِ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ فَأَلْبَسَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّى فِيهَا فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ « قُمْ يَا نَوْمَانُ ».(2)
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ >> بَابُ إِرْسَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ >> برقم( 1335 ) حسن
(2) - صحيح مسلم برقم(4741 )-قررت : بردت وارتعدت(3/403)
و عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ، قَالَ : قَالَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبْتُمُوهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي ، قَالَ : فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالَ : " وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُهُ ، قَالَ : وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ ، وَلَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : " يَا ابْنَ أَخِي ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيًّا ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ : " مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ ، يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ ، وَأَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ " فَمَا قَامَ مِنَّا ، رَجُلٌ ثُمَّ صَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ : مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ ؟ " يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجْعَةَ ، وَأَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ ، فَمَا قَامَ مِنَّا رَجُلٌ ثُمَّ صَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ : " مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ ، فَيَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجْعَةَ ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ " فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي فَقَالَ : " يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ ، وَلَا تُحَدِّثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ ، مَا يُقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا ، وَلَا نَارًا ، وَلَا بِنَاءً ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، لَيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي كُنْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقُلْتُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ ، وَلَقِيَنَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ ، وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ ، وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ ، وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلَاثٍ ، فَمَا أُطْلِقَ مِنْ عِقَالِهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ ، وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ لَا أَتَحَدَّثَ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ، ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ قَالَ حُذَيْفَةُ : فَرَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَامَ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَجِّلٍ ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إِلَى رَحْلَيْهِ ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ، وَإِنِّي لَفِيهِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ وَسَمِعَتْ غَطَفَانَ بِمَا صَنَعَتْ قُرَيْشٌ فَاسْتَمَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ " (1)
===============
تحمُّل الجراح والأمراض في الدعوة إلى الله
قصة رجلين من بني عبد الأشهل يوم أُحد
__________
(1) - تعظيم قدر الصلاة برقم(191 ) صحيح لغيره(3/404)
عَنْ أَبِي السّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ أَنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، كَانَ شَهِدَ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللّهِ قَالَ شَهِدْتُ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَا وَأَخٌ لِي ، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ فَلَمّا أَذّنَ مُؤَذّنُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوّ قُلْت لِأَخِي أَوْ قَالَ لِي : أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَاَللّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابّةٍ نَرْكَبُهَا ، وَمَا مِنّا إلّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُنْت أَيْسَرَ جُرْحًا ، فَكَانَ إذَا غُلِبَ حَمَلْته عُقْبَةً وَمَشَى عُقْبَةً حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ الْمُسْلِمُون(1)
و عَنْ أَبِي السَّائِبِ ، مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَانَ شَهِدَ أُحُدًا ، قَالَ : " شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا أَنَا وَأَخٌ لِي ، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ ؛ فَلَمَّا أَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ ، قُلْتُ لِأَخِي ، أَوْ قَالَ لِي : أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا وَمَا مِنَّا إِلَّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ ، فَكُنْتُ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عُقْبَةً وَمَشَى عُقْبَةً ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا : الِاثنينَ وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ " (2)
=============
قصة عمرو بن الجَمُوح وشهادته يوم أُحد
عَنْ أَشْيَاخٍ ، مِنْ بَنِي سَلَمَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ ، كَانَ رَجُلًا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ فَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ أَمْثَالَ الْأُسْدِ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ وَقَالُوا لَهُ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْخُرُوجِ مَعَكَ فِيهِ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ فَلَا جِهَادَ عَلَيْكَ " ، وَقَالَ لِبَنِيهِ : " لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ " فَخَرَجَ مَعَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ (3)
و عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِى سَلَمَةَ قَالُوا : كَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنُونَ شَبَابٌ يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا غَزَا فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَجَّهُ إِلَى أُحُدٍ قَالَ لَهُ بَنُوهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكَ رُخْصَةً فَلَو قَعَدْتَ فَنَحْنُ نَكْفِيكَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ فَأَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَنِىَّ هَؤُلاَءِ يَمْنَعُونِى أَنْ أَخْرُجَ مَعَكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ أُسَتَشْهَدَ فَأَطَأَ بِعُرْجَتِى هَذِهِ فِى الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ ». وَقَالَ لِبَنِيهِ :« وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ؟ ». فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا.(4)
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 2 / ص 101)صحيح
(2) - الطبري في تفسيره برقم( 7511 ) و دلائل النبوة لبيهقي برقم(1213 ) صحيح
(3) - معرفة الصحابة برقم(4444 ) حسن -جهالة الأشياخ لا تضر
(4) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 9 / ص 24) برقم(18277) حسن(3/405)
و عَنْ أَبِى قَتَادَةَ أَنَّهُ حَضَر ذَلِكَ قَالَ أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِى بِرِجْلِى هَذِهِ صَحِيحَةً فِى الْجَنَّةِ وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ ». فَقُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلًى لَهُمْ فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِى بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِى الْجَنَّةِ ». فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِهِمَا وَبِمَوْلاَهُمَا فَجُعِلُوا فِى قَبْرٍ وَاحِدٍ.(1)
==============
قصة رافع بن خديج
عن يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِى جَدَّتِى يَعْنِى امْرَأَةَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ عَفَّانُ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ امْرَأَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَافِعاً رَمَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ أَوْ يَوْمَ خَيْبَرَ - قَالَ أَنَا أَشُكُّ - بِسَهْمٍ فِى ثَنْدُوَتِهِ فَأَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْزِعِ السَّهْمَ قَالَ « يَا رَافِعُ إِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَالْقُطْبَةَ جَمِيعاً وَإِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَتَرَكْتُ الْقُطْبَةَ وَشَهِدْتُ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ شَهِيدٌ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلِ انْزِعِ السَّهْمَ وَاتْرُكِ الْقُطْبَةَ وَاشْهَدْ لِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنِّى شَهِيدٌ. قَالَ فَنَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السَّهْمَ وَتَرَكَ الْقُطْبَةَ. (2)
و عن يَحْيَى بن عَبْدِ الْحَمِيدِ بن رَافِعِ بن خَدِيجٍ ، عَنْ جَدَّتِهِ وَهِي امْرَأَةُ رَافِعٍ ، أَنَّ رَافِعًا رُمِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَوْ يَوْمَ خَيْبَرَ شَكَّ عَمْرٌو بِسَهْمٍ فِي ثَنْدُوَتِهِ , فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ انْزِعِ السَّهْمَ ، قَالَ : يَا رَافِعُ إِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَالْقُطْبَةَ جَمِيعًا ، وَإِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَتَرَكْتُ الْقُطْبَةَ وَشَهِدْتُ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ شَهِيدٌ ، قَالَ : فَنَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّهْمَ وَتَرَكَ الْقُطْبَةَ ، فَعَاشَ بِهَا حَتَّى كَانَ فِي خِلافَةِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَانْتَقَضَ بِهِ الْجُرْحُ ، فَمَاتَ بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَأَتَى ابْنُ عُمَرَ ، فَقِيلَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَاتَ رَافِعُ بن خَدِيجٍ ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ ، قَالَ : إِنَّ مِثْلَ رَافِعٍ لا يُخْرَجُ بِهِ حَتَّى يُؤْذَنَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرَى ، فَلَمَّا خَرَجْنَا بِجَنَازَتِهِ ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ ، جَاءَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ ، فَصَرَخَتْ مَوْلاةٌ لَنَا ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَا لِلسَّفِيهَةِ مِنْ أَحَدٍ ؟ لا تُؤْذِي الشَّيْخَ فَإِنَّهُ لا يَدِينُ لَهُ بِعَذَابِ اللَّهِ .(3)
و عن يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ يَعْنِي ابْنَ رَافِعٍ ، عَنْ جَدَّتِهِ ، أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رُمِيَ . قَالَ عَمْرَةُ : لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ - يَوْمَ أُحُدٍ أَوْ يَوْمَ حُنَيْنٍ - بِسَهْمٍ فِي ثُنْدُوَتِهِ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنْزِعُ السَّهْمَ ؟ فَقَالَ لَهُ : " يَا رَافِعُ , إِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَالْقُطْبَةَ جَمِيعًا ، وَإِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَتَرَكْتُ الْقُطْبَةَ , وَشَهِدْتُ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ شَهِيدٌ " ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , انْزِعِ السَّهْمَ وَدَعِ الْقُطْبَةَ ، وَاشْهَدْ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنِّي شَهِيدٌ ، قَالَ : فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ خِلَافَةُ مُعَاوِيَةَ انْتُقِضَ ذَلِكَ الْجُرْحُ , فَمَاتَ بَعْدَ الْعَصْرِ (4)
================
تربية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة على الصبر على الإيذاء والإعراض عن الجاهلين
__________
(1) - مسند أحمد برقم(23218) حسن
(2) - مسند أحمد برقم(27889)حسن
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 4 / ص 319)برقم(4122)حسن
(4) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ برقم(2796 ) حسن
هكذا وقع في هذه الرواية. والصحيح: أنه مات بعد خلافة معاوية. كذا في البداية. قال في الإِصابة : ويحتمل أن يكون بين الإنتقاض والموت مدة(3/406)
لم يكن تغيير الواقع الجاهلي وتحويله إلى واقع مسلم بالأمر اليسير، إنه يحتاج إلى الجهد الكبير، والإرادة القوية.
وهذا الجهد لا يمكن المضي في بذله إلا إذا تدربت إرادة صاحبه على التحمل، وعلى الصبر فهو العدة دائماً في بلوغ الأهداف الكبيرة.
والصبر ليس موعظة تستمع، أو درساً يحفظ، إنه مواقف تختبر بها صلابة الإرادة، وقوة تحملها في الميادين المختلفة.
ولذلك كان التدريب عليه يحتاج إلى فترة من الزمن، ينتقل الإنسان فيه من موقف إلى آخر أشد منه وهكذا...
وهذا ما يفسر لنا تأكيد القرآن المكي على الأمر بالتزام الصبر في وقت مبكر: " ذلك أن الله - سبحانه - يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، الذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات.. لا بد من الصبر في هذا كله، لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض.. "
(ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ماكانوا به يستهزءون)
إنه طريق النبوات ولا بد من النصر.
وإذا كان الاستهزاء لم يعرقل سير الدعوة، فقد لجأ الكفر إلى اتخاذ وسائل أخرى تعتمد على التأثير النفسي من الوصف بالسحر والجنون والشعر.. وكانت الآيات الكريمة تنزل لتسليته - صلى الله عليه وسلم -، ودعوته إلى الصبر على ما يقولون.. ولكثرة هذه الأقوال وتداولها بين الكافرين... تكرر التذكير بالصبر على ذلك مرة بعد مرة:
(فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك.. ) (ق: 39)
(اصبر على ما يقولون واذكُر عبدنا داوُد.. ) (ص: 17)
(فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك.. ) (طه: 130).
وكلما طالت المعركة مع الكفر نزلت الآيات لتطمئن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنهم على الحق، وأن عليهم الصبر على متابعة الطريق..
(واتبع ما يُوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين... ) (يونس: 109)
(فاصبر إن العاقبة للمتقين) (هود: 49).
(فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نَعِدهُم أو نَتوفينك فإلينا يرجعون)غافر: 77.
(واصبر لحكم ربك فإنك بأعيُننا) (الطور: 48).
(فاصبر إن وعد الله حقٌّ ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) (الروم: 60).
وآيات.. وآيات تحث المؤمنين على الصبر، وتجعله صفة لازمة لهم ينالون عليها الأجر عند الله - تعالى -. ففي سورة الفرقان بعد وصف عباد الرحمن: (أُولئك يُجزون الغُرفة بما صبروا ويُلقّون فيها تحية وسلاماً) (الفرقان: 75) وفي سورة العصر (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) العصر: 3. وفي سورة البلد (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) البلد: 17.
وفي سورة الزمر: (إنما يُوفيّ الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر: 10).
لقد امتد نزول آيات الصبر على طول الفترة المكية يقود خطوات المؤمنين خطوة بعد خطوة، فتدربوا على تحمل المشاق وتحمل الأذى، وضبط الإرادة، وألا تكون تصرفاتهم ردود فعل، كما تدربوا على الالتزام بما يرد عن الله - تعالى -... والانضباط مع أوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي ضوء ما سبق تظهر حكمة من حكم منع القتال في مكة " إنه كان يراد تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالاً للأمر، وخضوعاً للقيادة، وانتظاراً للإذن، وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم.. وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية، وتطويعها للقيادة التي تقدر، وتدبر، وتطاع فيما تقدر وتدبر، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة، والخفة للهيجاء عند أول داع.. من ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل، أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة، وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم: (كُفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (النساء: 77)... ومن ثم وقع التوازن في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم.
ولما كانت القضية قضية تربية وإعداد فإن المربي هو الذي يستطيع تقدير مقياس النجاح، وإلى أي مستوى وصل تلاميذه.(3/407)
وفي ضوء ذلك نستطيع فهم حديث خباب - رضي الله عنه - قال: (شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: [قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع فوق رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون] (رواه البخاري برقم 3612).
إن خباباً - رضي الله عنه - كان واحداً من الطليعة التي عذبت في الله، وفي البخاري أنه كان اكتوى سبعاً في بطنه. فهو يشكو من مرراة البلاء، ولكن المربي الكريم - صلى الله عليه وسلم - كان واضحاً لديه أن الأمة لم تستكمل عملية الإعداد له، وأنه ما زالت اختبارات على المؤمنين أن يمروا بها. ثم طمأنه إلى النتيجة وهي تمام ذلك الأمر الذي هو قيام الإسلام، بعد أن هون عليه من مصابه إذا قيس بما ذكره النبي الكريم عن مصاب الدعاة في الأمم السابقة.
أما الإعراض عن المشركين في قوله - تعالى -: (فاصْدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين) (الحجر: 94).
قال الأستاذ / منير الغضبان: إن الإعراض عن المشركين يعني فكرتين في وقت واحد.
الفكرة الأولى: المسيرة بالدعوة من الداعية وإيضاح معالمها غير عابئ بغضب خصومها أو مشاعرهم أو آرائهم.
الفكرة الثانية: عدم مواجهة أذاهم المادي والمعنوي ومحاولاتهم تجريحه والنيل منه والهزء به، ممثلاً في قوله - عز وجل -: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) (القصص: 55).
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) (الفرقان: 63).
إنه لا ينبغي إغفال عامل الزمن في أي عملية تربوية، يضاف إلى ذلك مقدار التجارب المطروحة على مسرح الأحداث، ونوعية هذه التجارب.
----------------
المراجع:
1- وقفات تربوية مع السيرة النبوية. (الشيخ أحمد فريد)
2- السيرة النبوية (صالح أحمد الشامي)
http://www.islamweb.net المصدر:
==============
مثل من ثبات النبي صلى الله عليه وسلم
(شكوى قريش لأبي طالب الأولى)
د. عبد العزيز بن عبد الله الحميدي.
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سرًّا في بداية بعثته إلى أن اجتمع حوله عدد من أصحابه فأمره الله - تعالى - بأن يجهر بالدعوة (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94).
وأمره بأن يبدأ بإنذار أقاربه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) فأنذر وبشر وجمع بين الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر، الدعوة إلى عبادة الله وحده والتخلق بمكارم الأخلاق، والدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام التي هي أعظم المنكر وكذلك التخلي عن مساويء الأخلاق. فلما عاب أصنام المشركين وسفه أحلامهم بعبادتها عرفوا أنه لن يَبْقَى على ما هو عليه من دينه ويتركهم على ما هم عليه من المنكر فناصبوه العداء وحاولوا تفريق المؤمنين بدعوته بكل ماأوتوا من قوة وحيلة. ولما رأوا صلابة إيمان أتباعه وأن أمره صار ينتشر بين جميع طبقات المجتمع بسرعة وقوة حاولوا التأثير عليه ليترك دعوته أو يغير من أسلوبها في النكير عليهم وتسفيه أحلامهم..حاولوا ذلك بالترغيب أحيانًا وبالترهيب أحيانًا أخرى ولكن حال دون وصولهم إلى أغراضهم صلابته في إيمانه وعطف عمه أبي طالب عليه ودفاعه عنه وتهديده لقريش إن وصلوا إليه بالأذى.
فلما رأى كفار قريش أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لن يهون أمام تهديداتهم ولن يلين أمام إغراءاتهم وأن عمه أبا طالب قد قام دونه وحماه، وأن أتباعه يتمسكون بدعوته بقوة ويزيد عددهم بسرعة ذهب بعض أشرافهم إلى عمه أبي طالب لبيان أمره والشكوى منه.قال محمد بن إسحاق - رحمه الله -: فلما بادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه فيما بلغني حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلمافعل ذلك أعظموه ([1]) وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله - تعالى -منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون.(3/408)
وحَدِب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله مظهرًا لأمره لايرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لايُعتبهم ([2])من شيء أنكروه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدبَ عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالبو ذكر أسماءهم فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقًا وردهم ردًّا جميلاً فانصرفوا عنه. قال: ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضًا عليه ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يَهلَك أحد الفريقين أو كما قالوا ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسًا بإسلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ولا خذلانه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له فَأَبْقِ عليّ وعلى نفسك ولا تُحَمِّلني من الأمر مالا أطيق.
قال: فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاء ([3]) وأنه خاذله ومُسْلِمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته قال: ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى، ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا ([4]).
وأخرجه الأئمة البخاري في التاريخ الكبير والحاكم والبيهقي، وذكره الهيثمي من رواية الطبراني وأبي يعلى بنحوه، كلهم من حديث عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- حلَّق ببصره إلى السماء فقال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب: والله ما كذَّبتُ ابن أخي قط فارجعوا. وقال الحافظ الهيثمي: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ([5]) وذكره الحافظ ابن حجر وقال: هذا إسناد صحيح ([6]).
في هذا الخبر بيان لشدة المواجهة وعنف المقاومة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقاها من قومه، حيث استخدم أشراف قومه مختلف الوسائل للتأثير على عمه أبي طالب ليرفع عنه حمايته، فذكَّروه بشرف الآباء والأجداد وهو من المقتنعين بالتمسك بما عليه الأسلاف وذكروه بقدسية الآلهة وهو ممن يعظمونها، ثم هددوه بالحرب بينهم وبينه وهو ممن يكره ذلك، كما حاولوا التلطف معه بالثناء عليه فذكروا شرفه ومنزلته فيهم ليؤثروا عليه فيستجيب لشكايتهم.
ولقد كان موقفًا صعبًا ومحرجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقع عمه الذي ناصره وحماه في هذا المأزق المحرج، حيث بقي أبو طالب في حيرة من أمره فهو لا يريد أن يبادىَ قومه بالعداء ولكنه أيضًا لايريد أن يُسْلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ولا أن يخذله، ولكن إخراج عمه من هذا المأزق يقتضي أن يتنازل عن دعوته وأن يوافق الكفار على تعظيم الأصنام وتفخيم ميراث الآباء وهذا أمر مستحيل، لذلك كان موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - حازمًا وحاسمًا حينما استدعاه عمه وفاوضه في التنازل عن دعوته الكاملة إبقاء عليه وعلى نفسه، حيث بين لعمه أن هذا مستحيل كاستحالة إنزال الشمس والقمر ووضعهما في يديه - صلى الله عليه وسلم-.
وإن هذا لموقف عظيم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث وقف وهو في قلة من أنصاره يتحدى زعماء قريش وهم في عزهم وغناهم ومكانتهم العالية في العرب، وقد بين صلابته في التمسك بهذا الدين ودعوة الناس إليه مهما تكن الظروف، ومهما وُضع في طريقه من عقبات، وأنه على استعداد كامل لأن يقدِّم نفسه رخيصة في سبيل هذا الدين، فضرب بذلك المثل العالي لأمته والقدوةَ الكاملة للدعاة إلى الله - تعالى - في تسخير نفسه بكل طاقاتها لخدمة دعوته ولو أدى ذلك إلى هلاكها. فليسر على دربه المؤمنون المتقون في بذل الجهد في الدعوة وتحمل كل ما يواجههم من صعوبات ونكبات فإن لهم فيه - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة.(3/409)
هذا وإن تلك الدموع الغالية التي تحدرت من عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبين لنا خطورة الموقف وصعوبة الأمر عليه، حيث كان بين أمرين كل واحد منهما شاق على نفسه، لكن إيقاع عمه في الحرج أهون عليه كثيرًا من التنازل عن دعوته، بل لا مقارنة بين الأمرين لأن أحدهما صعب والآخر مستحيل.
وإنه من أجل الخروج من هذا المأزق وإصدار القرار السامي الذي لا خيار له فيه فإنه لابد لصاحب النفس الكريمة التي بلغت نهاية الكمال البشري في السمو الأخلاقي أن يعبر عن أساه وأسفه لصاحب المعروف الكبير عليه أن أوقعه في حرج كبير وأدخله في معركة حامية مع قومه، في الوقت الذي كان يتوسل إليه أن لا يوقعه في ذلك، فكانت الدموع الزكية أبلغ تعبير عن ذلك الأسى والأسف.
إن دموع فحول الرجال الأشداء غالية، وتكون أشد غلاء حينما تنحدر من عيني من بلغ الكمال في كل معاني الرجولة، وإن غلاء تلك الدموع ليصور لنا جسامة المسؤولية التي تحملها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واستهان من أجلها بكل ما تعارف عليه البشر من الأخلاق والأعمال التي تتعارض معها.
-----------
([1]) أي شق ذلك عليهم.
([2]) أي لا يزيل عتبهم بالرجوع عما أنكروه.
([3]) أي ظهر له فيه رأي جديد.
([4]) السيرة النبوية لابن هشام 1/261 264.
([5]) التاريخ الكبير 7/51 رقم 230،
المستدرك 3/577، دلائل النبوة للبيهقي، 2/186
187، مجمع الزوائد 6/14.
([6]) المطالب العالية 4/192 رقم 4278
http://www.dawahwin المصدر:
================
صور من ثبات النبي ما أشد حاجتنا إليه
د. حمدي شلبي
الثبات خلق من الأخلاق الإسلامية، فالمؤمن مطمئن الإيمان، ثابت الجنان، لا تهزه الرياح، ولا تحركه العواصف، ولا تغيره نوائب الدهر، لأنه واثق بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما أنه على يقين من أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن يضروه بشيء لن يضرره إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف.
هذا بالنسبة للمؤمنين من أتباع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -فما بالنا بمعلم هذه الحقائق، وبمن هو قدوة لغيره بقوله - تعالى -: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) (الأحزاب)، هذا النبي الذي أنزل عليه قوله - تعالى -: قتل أصحاب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5) إذ هم عليها قعود (6) وهم على" ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذي له ملك السموات والأرض والله على" كل شيء شهيد (9) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق 10 (البروج).
وهو الذي قصَّ قصة الغلام والساحر والراهب كما ورد في الصحيح من قول الغلام لأمه: "قعي ولا تقاعسي، فإنك على الحق يا أماه".
وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -الذي خاطبه ربه بقوله: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى" للمؤمنين 120 (هود). وبقوله: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا 32 (الفرقان).
فهذه الآيات تدل على أن الله ربى محمداً تربية خاصة تتناسب مع العبء الذي سيتحمله، والمشاق التي ستواجهه من أهل مكة إيذاء لا نظير له، ومن أهل الطائف، بسبب أنه يقول: ربي الله، مما جعله يدعو ربه: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَنْ تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملَّكته أمري؟، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". ويمضي على ثباته واستعانته بالله - تعالى - حتى يأتي فرج الله ونصره لدينه.
وإليك بعض صور ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم -في دعوته:
أولاً: اشتد إيذاء الكفار للنبي - صلى الله عليه وسلم -بعد موت عمه أبي طالب وزوجته خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - فكان يستهزئ به السفهاء، ويؤذونه بألوان شتى من الإيذاء، وكان يتحمل ويصبر وينشر كلمة التوحيد، بالليل والنهار، ولم يزده إيذاء المشركين إلا ثباتاً وبذلاً لمزيد من الجهد في تبليغ الدعوة، وهو في كل ذلك يُسفه آلهتهم، ويفضح سفاهة عقولهم.
ثانياً: حصار النبي وصحبه في شعب من أبي طالب:
تعاهد أهل مكة على أن يقوموا بحصار النبي وصحبه، فكانوا لا يبيعون ولا يشترون ولا ينكحون ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -أو حتى لو بقي على كفره، واستمر ذلك ثلاث سنوات، فما زاد ذلك النبي إلا ثباتاً على الحق الذي يدعو إليه، والهدى الذي يجب أن يسير في ظلاله كل عاقل، إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم -واثقاً بنصر الله له، ولدينه.
ثالثاً: ثباته يوم حنين:(3/410)
أخرج الإمام مسلم من حديث أبي إسحاق السبيعي قال: "جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -ما ولَّى،... الحديث.. " وفي آخره: "فأقبل القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول:
أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب
اللهم نزِّل نصرك، قال البراء: كنا والله إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -(صحيح مسلم، الجهاد 1776، والبخاري، 4317).
هذا الثبات في الجهاد ناتج من إيمان راسخ ويقين عميق ملأ أقطار نفسه - صلى الله عليه وسلم -وكان لذلك أكبر الأثر في انطلاق والتفاف الناس حوله، وإيمانهم بأنه رسول الله، فقد كان شعاره في هذه المعركة: أنا النبي لا كذب.
وما أكثر المواقف والمعارك والابتلاءات التي ثبت فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -.. فكانت العاقبة نصر الله وتأييده وفرجه.. وما أحوجنا الآن إلى ذلك الخلق الذي يعد أهم أسباب النصر مهما كانت قوة الباطل وجبروته.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثالث
صور من الثبات في القرآن والسنة
أولا- في القرآن الكريم
1- ثبات الأنبياء والمرسلين أمام المحن والشدائد حتى آخر لحظة من حياتهم
ثبات النبي نوح عليه السلام أمام قومه
ثبات النبي هود عليه السلام مع قومه
قصة هود - عليه السلام -
مشاهد من قصة النبي هود عليه السلام مع قومه
الأسوة الحسنة بالنبي إبراهيم عليه السلام ومن معه
قصة إبراهيم عليه السلام وما فيها من فتن ومحن
دعوة إبراهيم عليه السلام في القرآن
مع قصة إبراهيم - عليه السلام - ( 1 - 2 )
مع قصة إبراهيم - عليه السلام - ( 2 - 2 )
الاقتداء بالأنبياء والمرسلين
بضاعة الأنبياء
منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله
تاريخ الدعوة زمن الأنبياء
الأمر بالصبر والثبات عند المحن
صبر المؤمنين على أذى المشركين
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى ( 1 )
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى (2)
الأمر بالصبر كما صبر أولو العزم
الصبر على المصائب
الصبر واليقين أساس السعادة في الدرارين
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين
الصبر في القرآن
ثبات السحرة أمام بطش فرعون وجبروته
ثبات صاحب ياسين
صبر موسى عليه السلام وقومه على فتنة فرعون
قصة أصحاب الأخدود
رمي النبي إبراهيم عليه السلام بالنار
ثانيا- صور من الثبات عند الأمم السابقة
ثبات ماشطة بنت فرعون
الإسراء وقصة ماشطة
ثبات أصحاب الأخدود
بعض الدروس من القصة
قصة أصحاب الأخدود
ِأصحاب الأخدود في القرن الحادي والعشرين
أصحاب الأخدود
أصحاب الأخدود
قتل أصحاب الأخدود
أصحاب الأخدود
قصة أصحاب الأخدود
صاحب جريج
حب الصحابة الكرام وحب جريج العابد
قصتي جريج العابد وأويس القرني
قصة جريج العابد
قصة جريج العابد
الأبرص والأقرع والأعمى
قصة الأبرص والأقرع والأعمى
قصة الأبرص والأقرع والأعمى
ثالثا- تحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الشدائد في الله
قول المقداد في الحال التي بعث عليها النبي عليه السلام
قول حذيفة في هذا الباب
تحمل النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد والأذى في الدعوة إلى الله قوله صلى الله عليه وسلم
ما قاله صلى الله عليه وسلم لعمِّه حين ظنَّ ضعفه عن نُصرْته
تحمَّله عليه السلام من الأذى بعد موت عمه
ما لقيه عليه السلام من الأذى من قريش ما أجابهم به
قول علي في شجاعة أبي بكر رضي الله عنهما في خطبة له
طرح رؤساء قريش الفَرْث عليه صلى الله عليه وسلم وانتصار أبي البختري له
إيذء أبي جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضب حمزة على أبي جهل
إيذاء أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم وانتصار طليب بن عمير له
إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم من جارَيه: أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط
ما تحمّله عليه السلام من الأذى في الطائف
دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الرجوع من الطائف
ما لقيه عليه السلام من الأذى يوم أُحد
تحمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه الشدائد
إبتلاء المسلمين وخروج أبي بكر إلى الحبشة مهاجراً وقصته مع ابن الدغنة
تحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشدائد
تحمل عثمان بن عفان رضي الله عنه الشدائد
تحمل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الشدائد
تحمل الزبير بن العوام رضي الله عنه الشدائد
أذى من أظهر إسلامه أولاً معه عليه السلام
ما لقي بلال من الأذى في الله
تحمل عمّار بن ياسر وأهل بيته رضي الله عنهم الشدائد
سمية أم عمّار أول شهيد في الإِسلام
إشتداد الأذى على عمَّار حتى أكره على قول الكفر وقلبه مطمئن بالإِيمان
تحمل خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه الشدائد
تحمل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الشدائد
تحمل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة أخت عمر رضي الله عنهما الشدائد
تحمل عثمان بن مظعون رضي الله عنه الشدائد
تحمل مصعب بن عمير رضي الله عنه الشدائد
تحمل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه الشدائد(3/411)
تحمل عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد
خبره عليه السلام وأصحابه في المدينة بعد الهجرة
غزوة ذات الرِّقاع وما لقيه عليه السلام وأصحابه من الأذى
ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه يوم أحد
تحمل الجوع في الدعوة إلى الله ورسوله
جوعه صلى الله عليه وسلم
وضعه عليه السلام والصحابة الحجر على بطونهم من الجوع
جوعه عليه السلام وأبي بكر، وعمر وخبرهم مع أبي أيوب
جوع علي، وفاطمة رضي الله عنهما
أمره عليه السلام أمَّ سليم بالصبر على الجوع
جوع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
جوع المقداد بن الأسود وصاحبيه رضي الله عنهم
جوع أبي هريرة رضي الله عنه
جوع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
ما أصاب الصحابة من الجوع والقرّ ليلة الخندق
وقوع بعض الصحابة من قيامهم في الصلاة في الجوع والضعف
أكل الصحابة الورق في سبيل الله وبعض قصصهم في تحمل الجوع
تحمل أبي عبيدة وأصحابه الجوع في السفر
تحمله عليه السلام والصحابة الجوع في غزوة تِهامة
قصة المرأة التي كانت تطعم بعض الصحابة يوم الجمعة
أكل الصحابة الجراد
أكل الخبز بالسمن
تحمُّل شدة العطش في الدعوة إلى الله
ما أصاب الصحابة رضي الله عنهم من شدّة العطش في غزوة تبوك
تحمُّل الحارث، وعكرمة، وعيّاش العطش يوم اليرموك
تحمُّل أبي عمرو الأنصاري العطش في سبيل الله
تحمل شدة البرد في الدعوة إلى الله
تحمل قلة الثياب في الدعوة إلى الله
تحمّل أبي بكر قلّة الثياب
تحمل علي، وفاطمة قلة الثياب
تحمّل الصحابة لباس الصوف والمداومة على تناول التمر والماء
تحمل أصحاب الصفة قلة الثياب
تحمّل الصحابة شدة الخوف والجوع والبرد في ليلة الأحزاب
تحمُّل الجراح والأمراض في الدعوة إلى الله
قصة رجلين من بني عبد الأشهل يوم أُحد
قصة عمرو بن الجَمُوح وشهادته يوم أُحد
قصة رافع بن خديج
تربية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة على الصبر على الإيذاء والإعراض عن الجاهلين
مثل من ثبات النبي صلى الله عليه وسلم
صور من ثبات النبي ما أشد حاجتنا إليه(3/412)
فقه الابتلاء في القرآن والسنة (4)
الباب الرابع
مقالات وبحوث وفتاوى في الابتلاء
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
الباب الرابع
مقالات وبحوث وفتاوى في الابتلاء
من الابتلاء إلى عون المسلمين
تجربة واقعية
الهيثم زعفان
10/10/1427هـ
تجربه واقعية نسوقها لكل قارئ عن شاب يعيش في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية - أبى ذكر اسمه ووافق فقط أن نذكر قصته -، ابتلاه الله وهو في ريعان شبابه بمرض عضال في شرايين القلب, مرت به أزمات قلبية كان في حينها لا يستطيع أن يتنفس أو يتحدث أو يتحرك, ظن أن الموت قد حان موعده، وأنه يطرق بابه, عاد إلى ربه، وندم على تقصيره فيما مضى من أيام أكثر فيها الغفلة عن يوم الحساب, وعاهد ربه لئن نجاه الله - سبحانه - ليكونن عوناً لكل مريض.
استلزم مرضه إجراء عملية قلب مفتوح على أثرها دخل غرفة العمليات مصاحباً باحتمالات وتقديرات طبية أقرب للموت منها إلى النجاة, لكنها - رحمة الله - التي شاءت أن يخرج هذا الشاب من تلك العملية ناجياً من ذلك المرض الشديد، عندها وقف الشاب مع نفسه ليتأملها وينظر في حالها, ها هو الموت قد اطل عليه، وكان قاب قوسين أو أدنى من القبر والحساب، وسأل نفسه ماذا أعددت لهذا اليوم؟ وهل سأفي بعهدي مع ربي بعد تماثل الشفاء؟ هل سأساعد كل مريض؟
قرر هذا الشاب أن يعمل عملاً ايجابياً في ذات الطريق الذي ابتلي به ألا وهو مساعدة المبتلى بمرض مزمن، ويحتاج إلى عملية جراحية كبرى، لكن كيف كانت المساعدة؟
أخذت المساعدة الفردية من هذا الشاب ثلاث مراحل هي:
* المرحلة الأولى:
أخذ هذا الشاب في البحث عن الحالات المرضية المزمنة التي بحاجة إلى عمليات جراحية كبيرة، ولا يمكنها إجراءها لضيق ذات اليد؛ ليقوم بتصنيف الحالات وفقاً لتشابه المرض، وبالتالي تقسيمها إلى مجموعات لتبدأ المرحلة الثانية.
* المرحلة الثانية:
في هذه المرحلة يصطحب الشاب الحالات إلى المستشفيات المتخصصة لتحديد ظروف العملية الجراحية، وخطتها وكلفتها الكلية، وإعداد تقرير بذلك؛ ليتبقى بعد ذلك أهم ما في الموضوع وهو تمويل نفقات العملية الجراحية، وهذا ما يتم في المرحلة الثالثة.
* المرحلة الثالثة:
وتنقسم إلى شقين:
الشق الأول: إدارة المستشفى، وفيه يلتقي الشاب بإدارة المستشفي المتخصصة والمتميزة في علاج تلك الحالات، ليحصل على تخفيض لإجراء العملية الجراحية، وبفضل من الله تحقق له ما لم يكن يتوقعه "فإنك إن تصدق الله يصدقك"، حيث فاجأته كثير من إدارات المستشفيات التي طرق بابها بعطائها السخي، والمتمثل في تحمل المستشفي نصف كلفة العملية الجراحية، ليتحمل ذاك الشاب ربع النفقة، ويتحمل المريض الربع الآخر إن استطاع، أو لا يتحمل شيئاً إن لم يستطع.
ولما كان غالب المرضى من الفقراء، ولا يستطيعون تحمل النفقات؛ كان الشاب يشارك بماله قدر ما يستطيع, ولما ازدادت عدد الحالات المرضية التي تحتاج لعمليات جراحية بدأ الشاب في الشق الثاني من المرحلة الثالثة.
الشق الثاني: الميسورون وهنا خاطب الشاب عدداً من معارفه وأقربائه من الميسورين الصالحين كي يشاركونه مشروعه الطيب، بعد أن عرض عليهم الملفات الطبية للحالات المتطلب لها العملية الجراحية، مصحوبة بالتقدير المادي والقيمة التي ستتحملها المستشفى، ولم يكن ذلك الشاب أبداً يتسلم من أحد مالاً بيديه، بل يبلغه باسم الحالة المريضة وباسم المستشفى والطبيب ليتعامل المنفق معها مباشرة، وكان هدفه من ذلك مشاركة الناس شعور المريض، وزيادة ثقتهم بالمشروع، ومشاركتهم له في ذلك.
الآن وبعد مرور عدة سنوات على بداية المجهود الفردي لهذا الشاب وبعد ذياع صيته، وتدفق المرضى غير القادرين عليه، فإن متوسط العمليات الجراحية التي تجريها المستشفيات السعودية عن طريق هذا الشاب هي مئة حالة شهرياً، بمتوسط اثنين مليون ريال بعد تخفيض المستشفيات، نحسب أنهم في ميزان حسنات هذا الشاب والمنفقين معه أضعافاً مضاعفة - إن شاء الله -.
والآن لنا وقفة:
إذا كان هذا النشاط يقوم به شخص واحد بمجهوداته الفردية فكيف سيكون الحال عندما يكون المجهود مؤسسي أي يقوم من خلال مؤسسة؟
أعلم أنه قد تكون هناك بعض الهيئات الخيرية التي تقوم بهذه المراحل الوسطية في عدد من المدن والبلاد، لكنه نشاط غير ذائع الصيت مثل المشروعات الشهيرة للجمعيات على أهميتها وتنوعها.
لكن يبقي أن المؤسسات الخيرية الإسلامية المسجلة والمنتشرة الآن على ساحة القطاع الخيري محلياً ودولياً يمكنها إنشاء شعبة أو لجنة من أعضائها تكون مهمتها مثل هذا النشاط, ولا تتردد أو تتخوف من أية صعوبات مستقبلية، فالشاب الذي معنا اليوم بدأ من لا شي، توكل على الله، وجعل عمله لله وفقط، وأحسن السعي فصاحبه التوفيق.(4/1)
كما أن كل فرد يجد في نفسه الإمكانات والمؤهلات الشخصية التي تؤهله لأن يحذو حذو هذا الشاب المبارك يمكنه أن يقوم بدور الوسيط الجراحي في منطقته أو مدينته بصورة رسمية تبعاً لجمعيات خيرية مشهرة رسمية أو مؤسسة عامة أو غيره، خاصة وأن مجتمعاتنا بحاجة شديدة لهذه المجهودات في ظل الوضع الاقتصادي السيئ لبعض الدول الإسلامية، وكذا وجود آلاف من الحالات المرضية قعيدة الفراش منتظرة للموت، لأنها لا تملك الإمكانات المالية اللازمة لإجراء تلك العمليات، في وقت يحتاج فيه كل عبد معافى إلى تحقيق إنسانيته وإرضاء ربه، يقول الشيخ شلتوت - رحمه الله -: " إغاثة الملهوف خلق فاضل كريم تغرسه في الإنسان مجموعة من الخلال الفاضلة هي الرحمة، والمروءة، والشهامة، وبهذه الصفات الثلاث ينبغي أن يكون الفرق بين الإنسان والحيوان، فإذا كان المرء رحيم القلب، شهم الفؤاد، ذا مروءة ونجدة؛ ينبعث إلى إغاثة الملهوف، وتفريج كربة المكروب، وقضاء حاجة المحتاج؛ فذلك هو الإنسان".
يروي الذهبي في السير أن زين العابدين بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم أجمعين - كان يتفقد المعسرين والفقراء والمحتاجين، ويحمل لهم أحمال الدقيق والزيت على ظهره في جوف الليل، ويقول: "صدقة الليل تطفىء غضب الرب", ولم يكن أحد يعرف عمله ذلك, فلما مات افتقد مئة بيت في المدينة أجولة الدقيق والزيت والتمر، وبينما الناس يغسلونه إذا بآثار ما كان يحمله قد أثر في ظهره، فعرفوا أنه هو رحمه الله.
كما أن كل مسلم عنده نبتة طيبة هي نبتة البذل، وهي مؤهلة للإثمار، إذا رويت فالشاب الذي عرفنا قصته قد وفقه الله لري تلك النبتة في نفسه أولاً، ثم في عدد من الأشخاص المؤثرين من أطباء وأصحاب مستشفيات وأثرياء، وقد ظن بالله خيراً فكانت العاقبة خيراً، واستطاع أن يمسح دمعة الألم من عين كل مكلوم، فلماذا لا يروي كل واحد منا تلك النبتة ليجد بإذن الله حصادها وثمارها في الدنيا والآخرة، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة إذ يقول: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
http://www.almoslim.net:المصدر
==============
وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهَا العَاقِبَةُ(1)
لم تزل تكابدني آلام الأمة المحزونة، لم تزل تفارقني أشباح الأمة المطعونة، أمة المجد العظيم والشرف الكريم، سامتها أيدي الغدر ألوانا من الشر المهين؛ فتوسدت لحاف الذل والمهانة، وتجرعت كؤوس القهر والخيانة، وأُقعدت عن واجباتها ومهامها، وحجبت عن أحلامها آمالها.
وبات المرض يعوث أركان الجسد، ثم طرح أرضاً وشدت أركانه إلى وتد، وتكالبت عليه وحوش الأرض مع الذئاب، وغدت أوصاله مقطعة بين المخالب والأنياب؛ فذاك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأُمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها)، قال: قلنا يا رسول الله: أمن قلة بنا يومئذ؟! قال: (أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن)، قال: قلنا: ما الوهن؟! قال: (حب الحياة وكراهية الموت)، وفي رواية أخرى لأحمد: (وكراهيتكم القتال).
فلتعلموا أهل الإسلام؛ أن الابتلاء تاريخ وقصة طويلة منذ أن نزلت "لا إله إلا الله" على هذه الأرض، فابتلي الأنبياء والصادقون، وكذلك الأئمة الموحدون.
فمن جرد نفسه لحمل كلمة "لا إله إلا الله" ونصرها وإقامتها في الأرض عليه أن يدفع تكاليف هذا التشريف من تعب ونصب وبلاء.
فأين أنت؛ والطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمِيَ في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيعَ يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشِرَ بالمنشار زكريا، وذُبِحَ السيد الحصور يحي، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم... وتزهى أنت باللهو واللعب؟!
والله تعالى يبتلي بعض الخلق ببعض، ويبتلي المؤمن بالكافر، كما يبتلي الكافر بالمؤمن، وهذا النوع من الابتلاء هو قاسم مشترك بينهم جميعاً، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1-2].
روى مسلم عن نبينا صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: (إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك).
والذي علمناه من القرآن والسنة أن من الأنبياء من قتله أعداؤه ومثلوا به كيحيى، ومنهم من هم قومه بقتله ففارقهم ناجياً بنفسه كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام، وعيسى الذي رفع إلى السماء.
ونجد من المؤمنين من يُسام سوء العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد... فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا وقد طردوا أو قتلوا أو عُذبوا؟!
__________
(1) - أبو مصعب رحمه الله(4/2)
الابتلاء هو قدر الله في جميع خلقه، ولكنه يزداد ويعظم في شدته على الأخيار الذين اجتبتهم عناية الله، وخاصة المجاهدين منهم لابد لهم من مدرسة الابتلاء.. لا بد لهم من دروس التمحيص والتهذيب والتربية.
ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة).
وروى البيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في المعجم الكبير، وابن سعد في الطبقات، عن عبدالله بن إياس بن أبي فاطمة عن أبيه عن جده قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يصح ولا يسقم؟)، قلنا: نحن يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مه؟!)، وعرفناها في وجهه، فقال: (أتحبون أن تكونوا كالحمير الصيّالة؟)، قال، قالوا: يا رسول الله لا، قال: (ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله إن الله ليبتلي المؤمن وما يبتليه إلا لكرامته عليه، وإن له عنده منزلة ما يبلغها بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما يبلغ به تلك المنزلة).
وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء).
وعن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه يؤتى يوم القيامة بأنعم الناس كان في الدنيا، فيقول الله عز وجل: اصبغوه في النار صبغة، ثم يؤتى به فيقول: يا ابن آدم هل أصبت نعيماً قط؟ هل رأيت قرة عين قط؟ هل أصبت سروراً قط؟ فيقول: لا وعزتك! ثم يقول: ردوه إلى النار. ثم يؤتى بأشد الناس كان بلاء في الدنيا، فيقول تبارك وتعالى: اصبغوه في الجنة صبغة ينصبغ فيها، ثم يؤتى يه فيقول: يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت شيئا قط أكرهه).
قال شقيق البلخي: (من يرى ثواب الشدة لا يشتهي الخروج منها).
والله عز وجل شرع الجهاد تكملة لشرائع الدين ورفع منزلته عالياً حتى صار في ذروة التكليف الرباني، وجعل فيه شدة وبلاء تكرهه النفوس وتجبن عنده الطباع، ثم حببه وقربه من جوهر الإيمان ومكنون التوحيد، فلا يطلبه إلا صادق الإيمان قوي البرهان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات:15].
فحقيقة الجهاد؛ قائمة على صقل النفس وتجريدها لربها وخالقها بفعل أوامره، والإقدام على وعوده، وهذا لا يكون إلا إذا حُف هذا الطريق بالشدائد والمحن، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4-6]، ويقول: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} [البقرة:253].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي لابد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيه وليه، ويفضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم، وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به استار المنافقين فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم).
وتأملوا يا عباد الله قوله سبحانه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
روى البغوي في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن الرجل من الأعراب كان يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ولد له بعد الإسلام غلام وتناسل فيه وكثر ماله، قال: هذا دين حسن، هذا دين جيد، فآمن وثبت، أما إذا لم يولد له غلام ولم يتكاثر خيله، ولم يكثر ماله، وأصابه قحط أو جدب، قال: هذا دين سيئ، ثم خرج من دينه وتركه على كفره وعناده).(4/3)
يقول سيد رحمه الله: (فلا بد من تربية النفوس بالبلاء ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد وبالجوع ونقص الأموال والأنفس الثمرات، لابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة كي تقر على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف لا يعُز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى، فالتكاليف هنا هي الثمن النفيس الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تَعُز في نفوس الآخرين، وكلما تألموا في سبيلها وكلما بذلوا من أجلها كانت أعز عليهم وكانوا أحق بها، كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها وصبرهم على بلائها ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى، ومدخور الطاقة، وتفتح في القلوب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن إلا تحت مطارق الشدائد) انتهى كلامه رحمه الله.
سئل الشافعي رحمه الله؛ أيهما خير للمؤمن أن يبتلى أم يمكن؟ فقال: (ويحك! وهل يكون تمكين إلا بعد بلاء؟).
وعن صفوان بن عمر أنه قال: كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه فقال: (يابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالا).
ألا من يحبه الله يبتليه..
صبراً على شدة الأيام إن لها *** عقبى وما الصبر إلا عند ذي حسب
سيفتح الله عن قربٍ يعقبه *** فيها لمثلك راحات من التعب
ويقول سيد رحمه الله: (إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفي أن يقول الناس "آمَنَّا" وهم يتركون لهذه الدعوى؛ حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم؛ كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وهذا هو أصل الكلمة اللغوي، وله دلالته وظله وإيحائه، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب، هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله سبحانه؛ {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]
وإن الإيمان أمانة الله في الأرض، لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، وإلا الذين يؤثرون على الراحة والدعة وعلى الأمن والسلامة وعلى المتاع والإغراء، وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله وتحقيق كلمته في عالم الحياة. فهي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء) انتهى كلامه رحمه الله.
فإن على الفئة المقاتلة التي سلكت طريق الجهاد في سبيل الله أن تعي طبيعة المعركة ومتطلباتها نحو هدفها المنشود وطريقها الذي لابد أن يعبد بدماء الصالحين من أبنائها، وأن تدرك أن هذا الطريق فيه فقد للأحباب والأصحاب، وترك للخلان والأوطان؛ كما قاسى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم خير الخلق بعد الأنبياء مرارة الهجرة وفقد المال والأهل والدار كله في سبيل الله... فأين نحن منهم؟!
وما على هذه الفئة إلا ان تصبر في طريقها الذي سلكته، وأن تحتسب عند الله ما قد يقع لها من فقد بعض القيادات والأفراد، وأن تمضي على دربهم وتعلم أن هذه سنة الله عز وجل، وأن الله يصطفي من هذه الأمة من عباده الصالحين، وألا تتعجل النصر فإن وعد الله آت لا محالة.
وينبغي أن يعلم المسلم؛ أن اتباع الحق والصبر عليه هو أقصر طريق إلى النصر وإن طال الطريق وكثرت عقباته وقل سالكوه، وأن الحَيدة عن الحق لا تأتي إلا بالخذلان وإن سهل طريقها وظن سالكه قرب الظفر فإنما هي أوهام.
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام:153].
هذا هو الجهاد؛... قمة... وثمرة... يأتي بعد صبر طويل ومكوث مديد في أرض المعركة انتظاراً لجلب الأعداء واصطباراً لشرورهم مكوث يستمر شهور وسنوات متتالية، وإن لم تتجرع هذه الآلام لن يفتح الله عليك بالنصر لأن النصر مع الصبر.
وقد قال شيخ الإسلام: (إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين).
إن مفاهيم الحق وصدق العقيدة والتوحيد تبقى دُمى في عالم الأشباح لا تجري فيها روح الحياة إلا إذا حملها أناس صادقون صابرون يتحملون تبعات هذا الطريق ولأوائه ويستعذبون العذاب ويستحلون النصب ولا يرضون إلا بالموت من أجل إحياء هذه المفاهيم على أرض الواقع تطبيقاً عملياً، لا كما يتمنى البعض هذه المفاهيم ويزركشونها ضمن قوالب نظرية فلسفية، وخطب رنانّة بعيدة عن روح العمل والصدق والتنفيذ.(4/4)
وإن الإسلام اليوم بأمس الحاجة إلى رجال صادقين صابرين ينزعون إلى الجد ويستعذبون التعب ويرتاحون بالنصب، فيترجمون بصمت متطلبات المرحلة... رجال النفوس الصادقة والهمم العالية والعزائم القويّة، التي لا تعرف إلا سمت التلقي للتنفيذ فتأبى أن يعقدها الكلل، أو يدركها الملل، أو تنفق آمالها في المرا والجدال.
فشمر عن ساعد الجد والعمل واصبر على لأواء الطريق ووعورته، فقد قيل: (قد عجز من لم يعد لكل بلاء صبرا، ولكل نعمة شكرا، ومن لم يعلم أن مع العسر يسرا).
يا ويح نفسي وما ارتفعت بنا همم *** إلى الجنان وتالي القوم أوابُ
إلى كواعب للأطراف قاصرة *** وظل طوبى وعطر الشدو ينسابُ
إلى قناديل ذهب علقت شرفاً *** بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا
يقول تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [التوبة:121].
روى الطبري عن قتادة في تفسير هذه الآية قوله: (ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعداً، إلا ازدادوا من الله قرباً).
فالأمر لله من قبل ومن بعد، ولسنا سوى عبيد له سبحانه، نسعى لتحقيق عبوديته، ومن كمال العبودية؛ أن نعلم ونوقن يقيناً جازماً لاشك فيه؛ أن وعد الله متحقق لا محالة، ولكننا قد لا ندرك حقيقة الأمر لحكمة يعلمها الله، وقد يتأخر النصر ابتلاءً وامتحاناً، وصدق الله العظيم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} [الروم:47].
وقد وعد سبحانه عباده الموحدين بالنصر، وجعل التمكين للصابرين وأخبر أن ما حل للأمم السالفة من الظفر والثبات والتمكين على الأرض كان لجميع صبرهم وتوكلهم عليه، كما قال سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُون} [الأعراف:137].
وجعل الله تعالى ما حصل لنبيه يوسف من العزة والتمكين في الأرض بعد الغربة وماجرى له في قصر العزيز إنما هو بصبره وتقواه؛ {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين} [يوسف:90].
وعلق سبحانه الفلاح بالصبر، لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [آل عمران:200].
وذكر سبحانه أن حسن العاقبة في الدنيا هي للصابرين الأتقياء؛ {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين} [هود:49].
نحن نعلم يقيناً أن وعد الله لا يتخلف أبداً ومنشأ السؤال والإشكال، أننا قصرنا النظر على نوع واحد من أنواعه؛ وهو النصر الظاهر، ولا يلزم أن يكون هذا هو النصر الذي وعد به أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين يتجلى في صور أخرى لا تلمحها النفوس المهزوزة الضعيفة.
ومن بعض هذه الصور؛
أن قبائل قريش قد أجمعت قديماً على محاصرة المؤمين ومقاطعتهم في شعب أبي طالب ومعهم بنو هاشم، ثلاث سنوات لا يبيعونهم ولا يشترون منهم؛ حتى لم يجدوا ما يأكلونه إلا ما يلتقطونه من خشاش الأرض، وأوشك المؤمنون على الهلاك لولا أن رحمة الله أدركتهم.
أصحاب الأخدود يلقون في النار ولا يقبلون المساومة على دينهم، ويفضلون الموت في سبيل الله، ثم يحفر الطاغوت أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجاة المذهلة؛ بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، لا تسجل الرواية أن احداً منهم تراجع أو جبن أو هرب، بل نجد الإقدام والشجاعة وذلك بالتدافع إلى النار، وكأن الغلام قد بث فيهم الشجاعة والثبات، وهاهم يجدون في اللحاق به وكانهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم؛ فكانوا هم المنتصرين، بل سماه الله عز وجل (فَوْزاً كَبِيرا)ً؛ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11].(4/5)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النظر عن قتال بدر، فقال: (يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع)، فلما كان يوم أحد وأنكشف المسلمون فقال: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-)، ثم تقدم فأستقبله سعد بن معاذ، فقال: (يا سعد بن معاذ؛ الجنة ورب النظر.. الجنة ورب النظر.. إني أجد ريحها دون أحد)، قال سعد: فما استطعت يارسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمج أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، فقال أنس: كنا نرى أو نظن، أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث الذي رواه خباب عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعوا لنا؟)، قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ما يصده ذلك عن دينه).
ومن أنواع النصر الخفي الذي لا يراه إلا المؤمنون؛
أن عدو الحق مهما كان متجبراً مسرفاً في معاملة خصمه إلا أنه يتجرع ألواناً من الأذى المعنوي والعذاب النفسي قبل أن يقدم على إيذاء خصمه، بل وأحياناً بعد أن يفعل فعلته فإنه لا يجد للراحة مكاناً، ولا للسعادة طعماً.
ولذا؛ فإن الحجاج بن يوسف عندما قتل سعيد بن جبير ذاق ألوان العذاب النفسي، حتى كان لا يهنأ بنوم، ويقوم من فراشه فزعاً ويقول: (مالي ولسعيد؟) حتى مات وهو في همه وغمه.
هذا ما نستيقنه في حربنا مع حامل لواء الصليب الطاغوت الأمريكي المتبجح.. فمع بطشه وتجبره بالعتاد والسلاح؛ إلا أنه يلقى من الهوان النفسي والكسر المعنوي ما لو صب على الجبال لتصدعت.
وقد جاء القرآن معبراً عن هذه الحقيقة كما في سورة آل عمران، فقال سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:119-120]، وقال سبحانه: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].
ومن الصور التي تخفى على مطموسي البصائر؛
ترقب الحياة الكاملة التي أعدها الله لأوليائه وأصفيائه، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران:169].
من لم يمت بالسيف مات بغيره *** تنوعت الأسباب والموت واحدُ
ومن خلال ماسبق يتضح لنا المفهوم الشامل للانتصار؛ وأنه لا يجوز لنا أن نحدد نوع الانتصار الذي نريده.
وإن من دواعي الثبات والاستبسال - ما رأيناه على أرض الفلوجة- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من علامات انتصار دين الإسلام أنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تهلك جميع المؤمنين، كما كان يخشى في عهد نوح أو في أول الرسالة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن الجهاد سيبقى قائماً عاملاً في الأرض، كما ورد في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
إن النصر ومصير هذا الدين بيد الله سبحانه، فقد تكفل به ووعد به فإن شاء نصره وأظهره وإن شاء أجله وأخره، فهو الحكيم الخبير بشؤونه، فإن أبطأ فبحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله، وليس بأحد بأغير على الحق وأهله من الله، {َيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:4-6].
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
فإن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعزت عظمته يمن على المؤمنين بالنصر أحيانا ويبتليهم منه أحياناً أخرى فيحرمهم من هذه النعمة ويذيقهم طعم الابتلاء لحكم يقدرها ويعلمها.
قد ينعم الله في البلوى وإن عظمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ
وقد عدّ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد نُبذاً من هذه الحكم، فقال:
(منها: أن هذا من أعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال يدال علينا مرة وندال عليه أخرى، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.(4/6)
ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المسلم والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخابتهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وأنقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم وهو معهم، لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم.
ومنها: لو نصر الله سبحانه وتعالى المؤمنين دائماً وأظفرهم بعدوهم في كل موطن، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبداً، لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء فيما يحبون وفيما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة العبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا، فاستوجبوا منه العزة والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والإنكسار، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة} [آل عمران:123]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، فهو سبحانه إذا اراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولاً، ويكون جبره له وانكساره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.
ومنها: أن الله سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة، لاستخراج الأدواء منه ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عند الله من أعلى مراتب أولياؤه، الشهداء هم خواصه والمقربون من عباده وليس بعد درجة الصدّيقيّة إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دمائهم في محبته ورضائه، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسلط العدو). انتهى كلامه رحمه الله.
يقول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [البقرة:216].
قال الإمام ابن القيم في الفوائد: (في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه؛ لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد، أوجب له ذلك أمورا.
منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء، لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شي أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه، فإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب، وخاصية العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل.
ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضى بما يختاره له ويقضيه لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئاَ، بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه إذا فوض أمره إلى ربه ورضي بما يختاره له، أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له مالم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.(4/7)
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، لأنه مع اخياره لنفسه، ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه المقدور مع العطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدره. إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحاً كالميتة؛ فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف) انتهى كلامه رحمه الله.
باتت تذكرني بالله قاعدة *** والدمع يهطل من شأنيهما ما سبلا
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني *** كرهاً وهل أمنعن الله ما فعلا
فإن رجعت فرب الخلق أرجعني *** وإن لحقت بربي فابتغي بدلا
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني *** أو ضارعاً من ضنا لم يستطع حولا
روى الطبري في تاريخه عن ابن اسحاق: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (شهدت أُحداً مع رسول الله صلى الله عيه أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله لى الله عليه وسلم؟ والله مالنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحا، فكان إذا غلب حملته عقبة.. ومشى عقبة.. حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون).
قال أبو الدردا: (ذروة سنام الإيمان؛ الصبر للحكم والرضى بالقدر).
وبهذا الدواء نستشفي من جراحنا المنبعثة هنا وهناك.
فبعد تفهم هذه الحقائق؛ ندرك المعنى المطلوب من وراء تشييد معركة الفلوجة وثباتها وانتصابها بكل ما أوتيت من قوة، لأنها اليوم هي المعركة الوحيدة على ثغر الإسلام الأول، والثبات فيها والرباط على خطوطها يعني الحفاظ على الثغر الأول الذي نطاعن منه الكفر والعدوان.
ولا يعني أن نرى العدو قد دخل إلى العمق وتجول في ساحات المدينة وتمركز على الأطراف أنه قد حقق أهدافه في الانتصار، فمعركتنا مع العدو هي حرب شوارع ومدن تتنوع في تكتيكاتها وأساليبها الدفاعية والهجومية، والحروب الضارية لا تحسم نتائجها من أيام ولا أسابيع بل تأخذ وقتها ريثما يحين موعد إعلان الفوز لأحد الطرفين.
ويكفينا قبل حسم النتيجة أن قرت عيوننا برؤية أبناء الإسلام يثبتون كالجبال الرواسي على خطوط الفلوجة المباركة، ويلقنون الأمة دروساً جديدة في الجلد والصبر واليقين.
ولعلنا نلقي نظرة حول بعض من هذه الدروس والنتائج العظام التي تمخضت عن تلك المعركة الشامخة، فأقول:
أولاً: أحيت المعركة من جديد معاني العزة والكرامة والإباء: وأيقنت الأمة أن هناك ثلة من أبنائها قادرين على مواجهة الأخطار الكالحة بكل جرأة وثبات وعزيمة، وأن هذه الثلة صدقت مع أمتها في خططها ومشاريعها التي أعدتها لانبعاث الأمة من جديد وبذلت من أجل ذلك كثيراً دماء أبنائها وقادتها.
ثانياً: تعلمت الأمة - وهي في ذلتها وانكسارها - أنها تستطيع أن تواجه وترابط وتعارك أسياد الأرض وطغاتها بعصابة قليلة من أبنائها، وبعتاد خفيف من السلاح.. تستطيع بذلك أن تلحق بالعدو خسائر جسيمة أليمة وتجبره على تجرع كأس الهزيمة المر.
ثالثاً: فتحت الفلوجة أرض المعركة على مصراعيها، فألهبت همم أبناء الإسلام داخل العراق وخارجه، ودفعت بدمائها الطاهرة التي أريقت على أرضها بالكثير من أبناء الإسلام لينهضوا بتكاليف الجهاد وينفروا للتصدي للحملة الصليبية العالمية، فاشتعلت المعارك والملاحم في أنحاء متفرقة من أرض العراق وتشكلت الكتائب والمجاميع وانبرى المجاهدون يتلقفون أرتال العدو ويصطادون دورياته ويغيرون على مواقعه، وقد شهدنا بفضل الله خسائره الكثيرة التي تكبدها على أرض العراق كلها، فكان من مفاخر هذا الفتح أن تعظم نفوس أبناء الجهاد وتنهار أمامها أساطير الآلات الحربية الحديثة فهممهم الآن قد تحررت من أوهام العجز والخوف وانطلقت إلى ميادين الجد والعمل.
رابعاً: أحرزت معركة الفلوجة نصراً عسكرياً استرتيجياً مهما، فالجميع على دراية بتفوق الآلة العسكرية الأمريكية وتطور جيوشها ونظامها الحربي الذي يعتمد على ضرب الأهداف عن بعد دون التحام واشتباك، والذي يفترض أن يؤمن سلامة الجندي الأمريكي دون أن يستهلك في معارك خطرة تكلفه روحه، ولكن الفلوجة استدرجت هذه الآلة الضخمة - وفق خطة مدبرة - استدرجتها إلى حرب شوارع قاسية غير منتظمة تستنزف جهدها وطاقتها وعتادها، وأصبح الجندي الأمريكي يواجه الموت والهلاك من حيث لا يحتسب، وأرغم الأمريكان على النزول إلى الأزقة والشورع والدخول إلى البيوت والأبنية، فانكشف العدو لنيران المجاهدين وكمائنهم وفاجأته قدرتهم على المناورة والكر والفر، واضطر لخوض معارك قريبة لم يعهدها، تكبد فيها خسائر عظيمة في الأرواح والآليات تزيد على المئات والعشرات.(4/8)
خامساً: تجرعت الإدارة العسكرية الأمريكية الهزيمة النفية الكبرى؛ فقد بدى واضحاً لعرابي هذه الحرب ومخططيها؛ أن المجاهدين لا يوقفهم أي نوع من أنواع الردع، ولو كلف ذلك خوض حرب إبادة شاملة يستأصلون فيها جميعاً، فالعقلية الجهادية أصبحت المعضلة الكبرى أمام خطط الحرب الأمريكية والعالمية، وما حدث في الفلوجة من مفاخر والثبات أوهن نفوس قادة العدو وجلب لهم الكآبة والضجر النفسي والإرباك المعنوي، وما ينتظرهم أدهى وأمر بعون الله تعالى.
سادساً: أسهمت الفلوجة بثباتها ورباطة جأشها بكشف اللثام عن وجوه الردة والنفاق والعمالة، وخلعت ثوب الدجل الذي تسربلت به حكومة علاوي المرتدة، وكشفت الزيف الذي تردده من أنها تريد مصلحة العراقيين وتقوم على حقن دمائهم وتجنيبهم الحروب والويلات وتشقى في كسب رضاهم، ثم يراها الناس كلهم وهي تسارع في إنفاذ قرار الحرب على الفلوجة وتغمس يديها في دماء أبناء المدينة الطاهرة، وتقتل الآلاف منهم وتشرد عشرات الألوف وتشرف على عمليات التدمير والتخريب وهتك الأعراض وسلب الأموال تحت اسم محاربة الإرهاب والمصلحة الوطنية.
سابعاً: أسقطت المعركة القناع الزائف عن قبائح السحنة الرافضية الهالكة، فقد أوغلوا بحقدهم في هذه المعركة، وبلؤم ظاهر شاركوا في الحملة العسكرية على الفلوجة بمباركة من إمام الكفر والزندقة السيستاني، وكان لهم طول كبير في عمليات القتل والنهب والتخريب، واستباحة أرواح العزل من الأطفال والنساء والشيوخ، بل استزلتهم نفوسهم الكريهة إلى جرائم عظام، فجعلوا يقتحمون بيوت الله الآمنة ويدنسونها، ويعمدوا إلى تعليق صور شيطانهم السيستاني على الجدران ويخطون عليها بحقد: (اليوم أرضكم وغداً عرضكم).
وللعلم؛ فإن 90% من الحرس الوثني هم من الروافض الحاقدين و10% هم من قوات البشمرقة الكردية.
وصدق من قال من العلماء في الرافضة: (أنهم بذرة نصرانية، غرستها اليهودية، في أرض مجوسية).
ثامناً: انكشاف الخطوط الخفية لأعداء الجهاد في هذه المعركة، فقد برز فيها مشاركات عسكرية عدة لصفوف خلفية معادية؛ فقد اتضح مشاركة 800 جندي إسرائيلي في المعركة، وقد رافقهم 18 حاخاماَ قضى الكثير منهم كما تناقلت ذلك صحفهم ووسائل إعلامهم. كما ظهرت مشاركة أردنية عسكرية من قبل ضباط أردنيين شاركوا في التخطيط والاقتحام العسكري للمدينة. وذلك يدل على تحقق الجميع من أن الفلوجة هي قاعدة جهادية تؤرق ليل أعداء الدين من الكفار والمرتدين.
تاسعاً: من نتائج المعركة الشامخة؛ تجدد الدماء في عروق أبناء الجهاد، وتزايد حرصهم على الارتقاء بالعمل الجهادي نحو أهدافه المنشودة وخططه الموعودة، فقد أفرزت المعركة جيلا من القادة والطاقات والخبرات التي تعتبر بالأحداث، وتتأمل في التجارب والممارسات والمكتسبات وتمعن بعزم في الطريق المرسوم وقد صقلتها شدائد المعركة، وأخرجتها في قالب قوي متين.
يقول سيد رحمه الله في "الظلال": (ففي معاناة الجهاد في سبيل الله والتعرض للموت في كل جولة ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف الذي يكلف الناس كثيراً من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه، وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته سواء سلم منه أو لاقاه والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح، ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها.. عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها، وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه.
وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد ويصبح عزيزاً على هذه الأيدي أن تسلم راية القيادة للكفر والضلال والفساد وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله.
ثم هو بعد هذا كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسن لينالوا رضاه وجزاؤه بغير حساب وتيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم السوء ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وفق ما يعلمه من سره ودخيلته) انتهى كلامه رحمه الله.
عاشراً: شهادة الاصطفاء؛ فقد تشرفت هذه العصابة من المؤمنين أن يكون طريقها مرسوماً بدماء أبنائها من الشهداء، وأن يكون كبار قادتها وكوادرها على الخط الأول، فإن دل ذلك على شيء دل على صدق أبناء هذا الجهاد وتجرد هممهم وعزائمهم لتحقيق مطالب التوحيد والعقيدة والتوحيد بتفان وإخلاص، وبشارتهم الأخرى أن الله اصطفى أخيارهم ونجبائهم للقائه وموعده، فكتب لهم الشهادة والفوز بالرضوان على ما كانوا يرجون ويطلبون، فحقق لهم الوعد وأنجز لهم السؤال.
فتلك أحوال سلفهم الصالح يحرصون على الموت كحرص خلفهم على الحياة، فقد كانت الشهادة أغلى أمانيهم وكانوا يسارعون إلى الميدان حباً في القتل في سبيل الله، فقد بلغت نسبة الشهداء من الصحابة في مجموع الحروب 80%.(4/9)
وكان شهداء المهاجرين والأنصار أكثر من نصف الشهداء في معركة اليمامة، فقد استشهد منهم من سكان المدينة المنورة يومئذ 360 ومن المهاجرين من غير أهل المدينة 300، وكان شهداء المهاجرين والأنصار وشهداء التابعين لهم بإحسان - الذين كانوا 300 شهيد تابعي في تلك المعركة -80% من مجموع الشهداء، إذ يبلغ عدد شهداء المهاجرين والأنصار والتابعين 960 شهيداً من مجموع 1200 شهيد. ويكفينا أن نذكر أن عدد الشهداء من القراء، حاملي القرآن وعلماء المسلمين حين ذاك - في معركة اليمامة - 300 شهيد، وفي رواية 500، أي أن نسبة القراء من الشهداء في معركة واحدة فقط 25% في رواية، و 45% في رواية أخرى، وهي نسبة عالية جداً.
والذين يبحثون في مصادر الصحابة رضي الله عنهم؛ يجدون واحداً من كل خمسة منهم مات على فراشه وأربعة استشهدوا في ميادين الجهاد، فلا تعجب من سرعة الفتوح المذهلة في القرن الأول الهجري وثباتها ودوامها.
ويجدر بنا في هذا المقام أن نشيد بثبات مجاهدينا الأبطال، وأن نذكر طرفاً بسيطاً من نعم الله عز وجل عليهم من الكرامات واللطائف الربانيّة التي حفتهم في معركتهم مع الأمريكان وأعوانهم في الفلوجة، فكانت تثبيتاً لهم وجبراً لحالهم.
ومنها: أنه في اليوم الثالث من المعركة وبعد قصف شديد وعنيف لأحياء الفلوجة، استيقظ المجاهدون من ليلهم فرأوا الآليات والدبابات الأمريكية في الشوارع والطرق والأفرع، فبرز لهم سادات أهل الإسلام في المعمعة، بقيادة الأخ أبي عزام وعمر حديد و أبو ناصر الليبي وأبو الحارث؛ محمد جاسم العيساوي... وغيرهم وغيرهم من الأبطال، فطردوا الغزاة إلى أطراف الفلوجة، وكان سلاحهم في المعركة البيكا والكلاشنكوف.
وقد حصل للأمريكان مقتلة عظيمة كبيرة، حتى أن كثيراً منهم كانوا قد فروا من المعركة واختبئوا في بعض بيوتات المسلمين، وكان المجاهدون يتحرجون بداية من اقتحام تلك البيوت خوفاً على أذى المسلمين، ولما تأكدوا من وجود الجنود الأمريكان دخلوها فوجدوهم خانسون مختبؤون، فجعلوا يقتلونهم قتل الخنافس والذباب، ولله الفضل والمنة.
وبعد أيام من المعركة؛ عرض أحد القادة على للأخ عمر حديد والأخ أبي الحارث جاسم العيساوي أن يحلقوا لحاهم ويخرجوا من الفلوجة بعد أن يسر لهم طريقا آمنا للنجاة ويبدأون بالعمل من الخارج، فرفض البطلان وقالا: (والله لا نخرج مادام في المدينة مهاجر واحد ثابت)، فقاتلا حتى اسشهدا رحمهما الله تعالى وتقبلهما في عباده الشهداء.
ومنها: أن بعض الأخوة قد قاسوا الجوع أياماً عديدة، وبعد رجاء وحسن يقين بالله عز وجل عثروا على بطيخة كبيرة، فلما فتحوها إذا بها حمراء كأحسن ما تكون، فأكلوا منها أياماً يشبعون ويحمدون ويتعجبون، حتى جزموا أنهم لم يتذوقوا طيب مأكلها في الدنيا، ومعلوم أن البطيخ ليس هذا أوانه ومكانه الذي يعرف به.
ومنها أيضاً: أن الإخوة قد عانوا الكثير من مأكلهم ومشربهم، حتى أنهم فقدوا مياه الشرب وشحت لديهم شحاً عظيماً، فأخذت الفطور تنبت على أفواههم وشفاههم، ولما هموا بالبحث عن بضع قطرات من الماء تروي شيئاً من أجوافهم العطشة دخلوا بيتاً فوجدوا فيه ثلاث قرب من الماء قد اصطفت بجانب بعضها على نمط غريب، فلما رأوها تعجبوا إذ لم يعهد في الفلوجة ولا في العراق أن يرى الماء موضوعاً في مثل هذه القراب الجميلة الغريبة، فلما تذوقوا الماء علموا أنه ليس من ماء الدنيا، فشربوا حتى ارتووا، ويقسموا بعدها أنهم لم يشربوا مثله في هذه الحياة الدنيا.
ومنها أيضاً: أن أخاً من جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم قد أصيب في دماغه بطلقة قناص فدخلت من جبهته وخرجت من قفاه، فتناثرت أشلاء دماغه على كتفه الأيمن، فهرع إخوانه إليه وأخذوا ما تناثر من الأشلاء وضموها إلى مكانها ثم ربطوا مكان إصابته وتركوه، وقد تعافى بعدها بأيام، وهو حي الآن ما به من بأس إلا أن لسانه صار به بعض الثقل، نسأل الله أن يتقبل منه ومن إخوانه.
وأما عن روائح المسك.. وما أدراك ما روائح المسك؟! فقد أبصحت من قبيل النقل المتواتر عند جمهور المجاهدين، فقد حدث الكثير من إخواننا عن الروائح الطيبة التي تنبعث من الشهداء والجرحى تقبلهم الله جميعاً.
ومن ذلك ما جرى للأخ البطل أبي طلحة البيحاني؛ فقد أصيب رحمه الله إصابة بليغة وجعلت رائحته الطيبة تفوح في كل مكان، حتى انتشرت ببعض الطرقات واشتمها كثير من الإخوة ثم قضى شهيداً - نحسبه والله حسيبه ولا نزكيه على الله -
ومما يبعث على الثبات والطمأنينة؛ ما رواه كثير ممن حضر تلك الملحمة من أنهم سمعوا صهيل الخيول وصليل السيوف تشتبك عند احتدام المعارك واشتدادها، فتعجب الإخوة من ذلك مراراً، وراحوا يسألون إخوانهم الأنصار إن كان هناك خيول قريبة من الفلوجة، فجزم الأنصار بالنفي وأكدوا أن المنطقة لا يوجد فيها مثل هذه الخيول، فلله الحمد أولاً وآخراً.
روى أحمد في المسند والحاكم في المستدرك عن أبي بردة بن قيس أخي أبي موسى قال: قال رسول الله عليه وسلم: (اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون).(4/10)
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169-170].
عش ملكاً أو مت كريما فإن تمت *** وسيفك مشهور بسيفك تعذرُ
هذه لمحة سريعة توجز ثمار ونتائج الثبات والصمود على أرض الفلوجة المباركة، والإنجازات الحاصلة كثيرة المنافع جليلة التوابع، يدركها ويفهمها المنصف المتأمل في الأحداث والمواضع.
ويا أُمة الإسلام؛
قد توالت عليك الجراح والطعنات، وأمراضك وأدوائك المقعدات لا تداوى إلا بالتوحيد المعقود على ألوية الجهاد.
فمتى تقرري قرارك الصحيح بالنفير والإنفكاك من الجلّاد، ومعارك اليوم لا هدأة لها ولا سكون، وقد أحب نبينا صلى الله عليه وسلم ألا يقعد خلاف سرية تغزو في سبيل الله بل كان من فعله أن يديم الغزو والجهاد على مدار الأوقات.
وأذكركم بحديث جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب الذي يرويه البخاري قال: فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يكن إلا أن وضع سلاحه فجائه جبريل فقال: (أوضعت السلاح؟! والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فانهض بمن معك إلى بني قريضة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب)، فسار جبريل في موكبه من الملائكة ورسول صلى الله عليه وسلم على إثره في موكبه المهاجرين والأنصار.
كيف هان عليكم يا مسلمون أن ترون إخوانكم من أبناء دينكم وقد نزل بهم ألوان من العذاب والقتل والدمار وأنتم آمنون في دياركم سالمون في أهليكم وأموالكم... كيف ذاك؟!
مزجنا دمانا بالدموعا السواجمِ *** فلم يبق منا عرضة للمراجمِ
وشر سلاح المر دمع يريقه *** إذا الحرب شبت نارها بالصوارمِ
فإيهاً بني الإسلام إن ورائكم *** وقائع يلحقن الذرى بالمناسمِ
وكيف تنام العين ملء جفونها *** على هفوات أيقظت كل نائمِ
وإخوانكم بـ "العراق" أضحى مقيلهم ** ظهور المذاكي أو بطون القشاعمِ
يسومهم الروم الهوان وأنتم *** تجرون ذيل الخفض فعل المسالمِ
=============
استعلاء ثمنه الابتلاء
( ضحايا الإنترنت ) . .يكشف الكثير مما يجري في دهاليز الشبكة العنكبوتية! ( 3 )
كان يا مكان:
يحكى أنه في زمان قريب.. تخاله النفس لتبدل الأحوال.. سحيقاً كان هناك شاب ملتزم اسمه: فلان!
يبدأ يومه بصلاة الفجر مع الجماعة، وقد أرهف السمع لآيات الحكيم العليم رق قلبه لآيات ربه ونزلت الآيات على محل قابل وسمع شهيد فلما سلم من الصلاة.. وكأنه فارق الحياة.. فقد انتهى لقاء مولاه ظل يمني نفسه بأنه عما قريب تشرق الشمس ويمر وقت الكراهة فيدخل على من لا قرار لنفسه.. ولا راحة لقلبه إلا بذكره.. - سبحانه - يبدأ رحلته اليومية مع الأذكار.. هذه رحلته في الغداة.. وله أخرى في العشي رحلة (أولي الألباب).
يتفكر في خلق السماوات والأرض.. ويذكر الله.. ويدعوه خوفاً وطمعاً فيجد من الفتوحات الربانية.. ما الله به عليم.(4/11)
كأنه يرى الجنة والنار رأي عين يشهد قلبه معاني وآثار صفات من له الأسماء الحسنى والصفات العلى.. سبحان الله ويحمده.. مئة مرة.. لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.. مئة مرة، سيد الاستغفار، رضيت بالله رباً.. الخ.. يخرج مع إخوانه يمشون في الطريق وقد بدأت نسمات البكور تداعبهم.. قلوبهم مطمئنة، وقد ذابت عنها كل شحوم الغفلة يتجاذبون أطراف الحديث وكأن كل واحد منهم ينتقي أطيب الثمار.. ليقدمها لأخيه أعذب الكلمات.. وأصدق الوداد، كل منهم خافض جناحيه للآخر.. فإن أحداً منهم لا يريد مجد نفسه وإنما الجميع يريد مجد الله. ولا يبتغي أحد منهم مدحاً.. بل الكل يردد: الحمد لله، يشحذ هذا همة هذا للعمل الدعوي، يصبر هذا أخاه على ابتلائه، يدعون للمسلمين في أنحاء الأرض بقلوب مهتمة مغتمة.. واثقة في نصر الله. يرجع صاحبنا فلان إلى البيت يغلق بابه، فهذا وقته الذهبي للطلب فبركة هذه الأمة جعلت في بكورها وهو يحتسب في طلبه هذا أن يرفع الجهل عن نفسه وأن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يذب به عن المؤمنين ويقوم به لله - سبحانه -.. لا يخشى فيه لومة لائم.. لا تذهبوا بعيداً.. فتظنوا أنه يطلب العلم ليستطيل به على العالمين.. فذاك عصر لم يأت بعد!! اصبروا هو في عمله شعلة في الدعوة إلى اله الكل يحبه.. لأنه رقيق لطيف.. هاش باش لأنه فعلاً يشفق على المسلمين، ويرجو لهم الهداية والصلاح.. لا يسكت على منكر، ولكنه ينكره بحكمة وفطنة فتخرج الثمرات مباركة طيبة، هو في عمله تقي نقي لأنه قد ألقى الدنيا وراء ظهره لأنه يطلب الحلال.. ويعلم يقيناً أن البركة فيه غاض لطرفه.. حافظ لجوارحه عن كل ما يسخط ربه وهو في بيته صبور! يصبر على أهله ودود معطاءً، إذا بدر منه خطأ وكل ابن آدم خطاء لا يستنكف عن الاعتذار إذا رأى نقصاً.. أو وجد خللاً غض الطرف ما لم تنتهك محارم الله أتدرون من العاقل؟ الفطن المتغافل هو في بيته صاحب القلب الكبير يستمع إلى مشكلات أخته وأخيه، وأمه وأبيه، وزوجه وولده، ويسعى في حلها، يذكرهم بالله ويدعوهم إليه.. مسابقات وكلمات وموائد قرآنية واصل لرحمه.. مكرم لجيرانه داعِ إلى ربه حسبما تيسر له متواصل مع المشايخ والدعاة وقته وقف لله إذا أخذ قسطاً من النوم قام يتأهب.. يتطهر ويتعطر.. هذا السواك.. وهذا المصحف يدخل مدرسة رهبان الليل التي خرجت على مر العصور: فرسان النهار. يناجي ربه.. ويتلو كتابه وتضيق العبارة عن وصف حاله.
هكذا كان.. صاحبنا فلان والزمان غير الزمان أما الآن فقد باتت هذه اليوميات.. ذكريات لأنه! @@@ قد دخل عصر الإنترنت @@@ صلاة الفجر.. كم ينام عنها؟ لماذا؟ إنه عصر الإنترنت.. كان يجاهد في سبيل الله! بالرد على أبي فلان.. وأم علان، أذكار الصباح والمساء كل عام وأنتم بخير!! لم يعد لها نصيب؟ المئة أصبحت عشرة؟ والثلاث تقال مرة ولربما قالها وهو بين المواقع والصفحات يتفكر في عجائب الماسينجر والتشات! أنسيتم؟! هذا عصر جديد.. عصر الإنترنت، إخوانه قلاهم.. وأهله جفاهم تنادي أمه عليه.. أي فلان تعال! فيردد المسكين: (رب أمي والإنترنت؟! أمي والإنترنت؟!) ويؤثر الإنترنت!! وماذا عن صبره؟ وتحمله للقاصي والداني؟ وبذله الندى في سبيل أحبابه؟
ذاك عهد مضى فالآن.. إذا وجد المتحدث بطيئاً بدأ يحدثه! (ريفرش) بتأففات وتبرمات، وعلامات الملل الظاهرات، وهات من الآخر وقتي ضيق! وما حصله من العلم في عصر ما قبل الإنترنت.. سخره الآن.. في الجدل، مع أن العلم يهتف بالعمل لا بالجدل!
صار بطلاً مفحماً كبيراً خانه الطرف الجموح وتراكمت الذنوب الصغيرة حتى أصبحت ذنباً كبيراً وتكرر الذنب الكبير وعلا الران قلبه ولم يعد يحس بألمه هجر الكتاب وترك القيام، فترت همته وضعف عزيمته، أما عن الحب في الله وسلامة الصدر وحفظ اللسان وتجنب الوقوع في المسلمين فليبك من أراد البكاء.
اليوم يحقد على فلان.. ويحسد علاناً وبينه وبين هذا من الخصومات ما تخر له الجبال، وتقلصت الحياة والطموحات والجهود في دائرة صغيرة.. لا تسمن ولا تغني من جوع، كان حريصاً على كل دقيقة.. في عصر ما قبل الإنترنت أما الآن.. فتمضي الساعات وكأنها لا تعنيه! فقده أهل بيته اشتاق إليه أولاده! أين أبونا؟ نريده!! نريد أن يجلس معنا يعلمنا ويداعبنا يربينا فنحن الأمانة! أين الأوقات الجميلة؟ في ظلال القرآن.. ورياض السنة؟ أيحب الإنترنت أكثر منا؟ أم أنه عنه سيسأل يوم القيامة.. لاعنا؟! بكى عليه الجميع، وافتقدوه، حتى مصلاه وكتبه كلها تقول: كما نحبه وأصبح صاحبنا فلان.. منظراً! ليس له من التزامه إلا الكلام.. الذي فقد بهجته ووقعه في النفوس تراكمت الذنوب واشتدت الغفلة وقست القلوب وابتعد عن مصدر الهدى وأقبل على الإنترنت فرط في الصلاة وهجر القرآن وغفل عن الذكر وترك الدعوة وأغلق الكتب وفتح الإنترنت ليت شعري ما دهاه؟(4/12)
كان فينا غيمة تروي الحياة إنا لله وإنا إليه راجعون، يا ترى يا فلان هل ستعود يوماً هل سترجع.. أم ننفض أيدينا منك؟ لو أن لي بك قوة! لو أني أخلص إلى الذي غير أحوالك فأمسك هراوة كبيرة! وأنقض عليه ضرباً باليمين.. الإنترنت نعمة فاشكر الله يزدك من فضله ولا تغفل عنه فلا يبالي في أي واد هلكت وأتبع السيئة الحسنة تمحها واتخذ الشيطان عدواً فإنه متربص بك واحفظ قلبك ولحظك ولسانك وقلوب إخوانك واحفظ وقتك ردك الله سالماً، فقد اشتقنا إلى فلان الذي يملأ الدنيا بهجة.. بنوره وتقواه(1). (1) شبكة أنا المسلم.
صرخة فتاة من ضحايا ((الشات)):
هذه قصة حقيقية، ورسالة تقطر أسىً، وصلتني عبر البريد تقول الفتاة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرجو منكم إفادتي في مشكلتي هذه:
أنا فتاة أبلغ من العمر 17 عاماً من بلد عربي، ما زلت في الدراسة الثانوية.. للأسف تعلمت استخدام الإنترنت لكني أسأت استخدامها، وقضيت أيامي في محادثة الشباب، وذلك من خلال الكتابة فقط، ومشاهدة المواقع الإباحية، رغم أني كنت قبل ذلك متدينة، وأكره الفتيات اللواتي يحادثن الشباب. وللأسف فأنا أفعل هذا بعيداً عن أعين أهلي، ولا أحد يدري.
ولقد تعرفت على شاب عمره 21 عاماً من جنسية مختلفة عني.. لكنه مقيم في نفس الدولة، تعرفت عليه من خلال (الشات).. وظللنا نلتقي على الماسنجر أحببته وأحبني حباً صادقاً لا تشوبه شائبة.
كان يعلمني تعاليم الدين، ويُرشدني إلى الصلاح والهدى، وكنا نُصلي مع بعض في أحيان أخرى، وهذا طبعاً يحصل من خلال الإنترنت فقط؛ لأنه يدعني أراه من خلال (الكاميرا) كما أنه أصبح يريني جسده، فأدمنت ممارسة العادة السرية.
ظللنا على هذا الحال مدة شهر، ولقد تعلمت الكثير منه وهو كذلك، وعندما وثقت فيه جعلته يراني من خلال (الكاميرا) في الكمبيوتر، وأريته معظم جسدي، وأريته شعري، وظللت أحادثه بالصوت، وزاد حُبي له، وأصبح يأخذ كل تفكيري حتى أن مستواي الدراسي انخفض بشكل كبير جداً. أصبحت أهمل الدراسة، وأفكر فيه؛ لأنني كلما أحاول أن أدرس لا أستطيع التركيز أبداً، وبعد فترة كلمته على (الموبايل) ومن هاتف المنزل أخبرته عن مكان إقامتي كما فعل هو ذلك مسبقاً، ولقد تأكدت من صحة المعلومات التي أعطاني إياها.. طلب مني الموافقة على الزواج منه فوافقت طبعاً لحبي الكبير له رغم أني محجوزة لابن خالي لكني أخشى كثيراً من معارضة أهلي، وخصوصاً أنه قبل فترة قصيرة هددني بقوله: إن تركتني فسوف أفضحك! وأنشر صورك! وقال: سوف أقوم بالاتصال على الهواتف التي قمت بالاتصال منها لأفضح أمرك لأهلك.
وعندما ناقشت معه الأمر قاله: إنه (يسولف) لكن أحسست وقتها بأنه فعلاً سيفعل ذلك، وأنا أفكر جدياً بتركه، والعودة إلى الله.
وكم أخشى من أهلي، فأنا أتوقع منهم أن يقتلوني خشية الفضيحة والسمعة، لا أقصد القتل بذاته بل الضرب والذل؛ لأن أبي وأمي متدينان ومسلمان، وإذا عرفا بأني أحب شاباً وأكلمه فسوف يقتلانني! أنا لا أعرف ماذا أفعل؟ أنا خائفة جداً. أريد الهداية. أريد العيش مطمئنة وسعيدة. مللت الخوف والتفكير.
أرجوكم ساعدوني، وبسبب هذه المشكلة تركت الصلاة، وتركت العبادة؛ لأني يئست من الحياة، مللت منها، أود الموت اليوم قبل الغد، لو ظللت عائشة على هذه الحياة فسوف يتحطم مستقبلي، ومستقبل أخواتي، وتشوه سمعتهن.
أريد تركه لكني أخشى من فضحه لي؛ لأنه سيُعاود الاتصال؟ كيف أمنعه من ذلك؟
أريد العودة إلى الله فهل سيغفر لي ربي؟ كيف التوبة وما شروطها؟
ومتى أتوب؟ أخشى أن أعود إلى ما فعلته سابقا. ما الحل؟
كيف أتخلص من إدمان العادة السرية خصوصاً أني أصبت ببرود جنسي؟ كيف أعالج ذلك من غير علم أهلي؟ ماذا أفعل؟ أرجوكم ساعدوني. لا أعرف ما أفعل، لا أستطيع أن أُخبر أحداً بهذا الأمر. أرجوك أجبني، وأرحني، فما زلت أحمل هذه المشكلة كهم كبير لا يقوى ظهري على حمله، فأنا ألتمس الجواب منكم. أرجوكم ساعدوني. ما الحل؟ أرجوكم بسرعة فلقد يئست.. ساعدوني لا أجد أحداً ينصحني! فساعدوني، ولا ترموا رسالتي، فأنا بأمس الحاجة أرجوكم.
انتهت رسالة الأخت التي تفيض بالعظات والعبر. فهل من مُعتبر؟
سوف أقف مع قولها:
أحببته وأحبني حباً صادقاً لا تشوبه شائبة. وقفت طويلاً عند قولها: (ولوجه الله) لا تشوبه شائبة).
المشكلة أن كل فتاة تتصور أن الذي اتصل بها مُعاكساً أنه فارس أحلامها، ومُحقق آمالها! وإذا به فارس الكبوات! وصانع الحسرات، ومُزهق الآمال، وصانع الآلام!
حُباً صادقاً لا تشوبه شائبة!! هكذا تصورته في البداية، ولكن تبين عفنه قبل أن ترسم النهاية! ثم تبين أنه نسخة من آلاف نُسخ الذئاب البشرية! الذين لا يهمهم سوى إشباع رغباتهم. هاهو يُلوّح بعصا (الصوت والصور)! إن لم تُحبيني فسوف أفضحك، وأنشر صورك!! وحُب على طريقة الإدارة الأمريكية!! أهذا حب صادق؟!
ومع قولها: (أنا خائفة جداً أريد الهداية أريد العيش مطمئنة وسعيدة، مللت الخوف والتفكير) سبحان الله ألم تكن في سعة من أمرها قبل أن تطأ أقدامها أرض جحيم (الشات)؟ فما بالها اليوم خائفة؟(4/13)
ألم تكن في يوم من الأيام على طريق الهداية؟ فهاهي اليوم تبحث عنها!
ألم تكن عابدة في مصلاها؟ فما بالها تركت العبادة؟ إنه شؤم المعصية الذي حُرمت بسببه لذة الطاعة.
ألم تكن تعيش في سعادة غامرة؟ فعن أي شيء بحثت في سراديب (الشات)؟
بحثت عن السعادة، ولكنها خرجت تصيح من الجحيم: (أريد العيش مطمئنة وسعيدة) بحثت عن السعادة فعادت بالندامة تتمنى الموت اليوم قبل الغد! كل هذا تم في غفلة الوالدين! وعجيب قولها:
(وكم أخشى من أهلي، فأنا أتوقع منهم أن يقتلوني خشية الفضيحة والسمعة، لا أقصد القتل بذاته بل الضرب والذل؛ لأن أبي وأمي متدينان ومسلمان، وإذا عرفا بأني أحب شاباً وأكلمه فسوف يقتلانني!).
لقد فرطا كثيراً، وأهملا أكثر، وضيعا الأمانة. إنها الثقة العمياء المُطلقة يوم تُعطى للبُنيات على وجه الخصوص، فتؤتي أُكلها حنظلاً وعلقماً.
يوم يقول الأب: أنا أثق ببناتي!! أو بمحارمي عموماً! ثقة عمياء مطلقة!
وهل هن خير أم أمهات المؤمنين؟
ومع ذلك قال الله - عز وجل - في أدب أمهات المؤمنين: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) وقال في أدب المؤمنين معهن: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) لماذا؟ (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) فهل من مُعتبر؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ).
الرسالة وصلتني عبر البريد، فرددت عليها، واستأذنت الأخت في نشرها فأذنت، ونشرتها كما هي، إلا أني حذفت اسم بلدها(1). (1) الشيخ عبد الرحمن السحيم.
لعنة الإنترنت!!:
عائلة صغيرة ومتحابة تجمعها الألفة والمودة لا تفرقهم الظروف يعملون سوياً لأجل أن يبقوا معاً!!
هذه العائلة مكونة من سعد ذلك الشاب اليافع الذي يبلغ 22 سنة ويدرس في آخر مستوى تخصص إعلام وعنده أخته الهنوف وتبلغ 20 سنة وتدرس في كلية التربية وأخوهما الصغير فيصل 16 سنة وهذه العائلة فاقدة للحنان بعد وفاة والدتهم قبل ست سنوات في حادث سيارة مع خالهم!!
كانت الهنوف أشبه بالوردة اليانعة.. فتاة ودودة.. حنونة.. مؤدبة.. كانت باختصار حلم كل الشباب، حدثت للهنوف بعض المشاكل في دراستها واضطرت أن تنسحب قليلاً من الدراسة والجلوس في البيت لفترة مؤقتة ربما تطول وربما لا!!
هدى ابنة خالة الهنوف فتاة متهورة قليلاً متفتحة كثيراً على العالم الخارجي وليست مثل الهنوف. استكانت الهنوف لابنة خالتها هدى وخالطتها كثيراً لقضاء فترة الفراغ التي تحيط بها خصوصاً بعد حذف الترم والجلوس في المنزل.
ارتبطت الهنوف بهدى كثيراً وأصبحت تقضي معها أغلب أوقاتها ومرت الأيام والساعات والاثنتان أمام بعضهما البعض وبدأت عندها هدى بتسميم أفكار الهنوف ودس السم في تلك الزهرة اليانعة لإفسادها.. دعونا نقول من دون قصد!!
مرت الأيام وانتشرت لعنة الإنترنت في المجتمع وبدأ الناس يتحدثون كثيراً عن هذا المدعو إنترنت! هذا الضيف الغريب المخيف نوعاً ما. زرعت هدى أول لغم فتاك في رأس الهنوف وذلك بإدخال الإنترنت عنوة في حياة الهنوف.
يوماً وراء يوم وهدى تتكلم عن هذا الإنترنت أمام الهنوف.. ومن باب حب الاستطلاع أرادت الهنوف الغوص في غمار هذا الإنترنت لمعرفة المزيد عنه ربما من باب المعرفة لا أكثر ولا أقل ولكنها لم تعلم أن هذا الإنترنت هو بداية النهاية بالنسبة لها.
سعد أخ الهنوف كان شاباً مثالياً لا يرد أخته في أي طلب وكان واثقاً منها كل الثقة. ذهبت الهنوف لسعد وخاطبته قائلة إنها تريد أن تشغل نفسها بشيء يقضي وقت فراغها عوضاً عن الذهاب لبنت خالتها هدى!! عندها استغرب سعد وسأل سؤالاً عاماً مثل ماذا يا الهنوف؟ أجابت: الإنترنت!!
لم يكن سعد يعلم شيئاً عن مخاطر الإنترنت ولم يكن يريد أن يرد أخته في أي طلب خصوصاً بعد أن تركت الدراسة مؤقتاً لأنه لا يريد أن يشعرها بالنقص!!
ذهب سعد مسرعاً وأحضر كل المستلزمات المتطلبة من جهاز كمبيوتر واشتراك إنترنت وكل ذلك لأجل عيون أخته الهنوف.. فرحت الهنوف لذلك كثيراً ولم تستطع أن تتمالك نفسها فذهبت إلى الهاتف وهاتفت هدى وهي فرحة مسرورة لتخبرها بأن الإنترنت أصبح بين يديها وهي لا تعلم أنها بدأت بحفر قبرها للتو!!
ضحكت هدى قليلاً ثم قالت للهنوف اصبري أنا قادمة إليك.. الآن سوف نعيش فعلاً!! تلك الكلمة المخيفة والتي تحمل بين طياتها الكثير من المعاني الموجسة!!
أتت هدى وأخذت تغوص في بحور الإنترنت ومعها الهنوف كمتفرجة فقط!! بدأت بالشاتات مروراً بالمسنجر وانتهاء بالمحادثة الصوتية.. والهنوف ما زالت متفرجة!!
تركتها هدى وذهبت وبقيت الهنوف وحدها مقابلة للجهاز!! في ليل أظلم!! لا تعلم ماذا تفعل.(4/14)
عادت بها الذكريات قليلاً وقالت لم لا أفعل كما فعلت هدى ولكن بحذر!! دخلت الهنوف أحد الشاتات التي دخلتها هدى. وهناك وبينما هي تتفرج فوجئت بتركي أحد زوار الشات يطلب التحدث معها.. لم تمانع لأنها لا تعلم ماذا يخفي!!
تحدثت الهنوف معه وأعجبها أسلوبه ولباقته وجمال كلامه.. بدأ تركي يتغلغل إلى أعماق الهنوف وبدأ يعمل كملهمها الأول في الإنترنت.. يوماً ما! طلب تركي من الهنوف أن تضيفه مسنجر؟ لم تكن الهنوف تعلم ما هو المسنجر فما كان منه إلا أن عمل لها واحداً وأضاف نفسه فيه وأهداها إياه.
فرحت الهنوف لذلك كثيراً.. وبدأت تدخل يوماً وراء يوم بحثاً عن المدعو تركي!! مرت الأيام والهنوف وتركي يومياً يغوصان سوية في بحر الإنترنت!! وفي يوم من الأيام سأل تركي الهنوف سؤالاً غريباً!
الهنوف هل لديك سكانر؟ كان هذا سؤاله الغريب والذي يطمع من ورائه للكثير والكثير.. فأجابت الهنوف بكل عفوية ما هو السكانر؟.. فأخبرها وبدأ بمدحه أمامها إلى أن فرحت الهنوف لذلك كثيراً ووضعته كهدف جديد تريد تحقيقه وامتلاكه.
ذهبت الهنوف لأخيها سعد وأخبرته بأنها تريد سكانر! فلم يمانع لأنه يثق بها ثقة عمياء وجلب لها سكانر. لم يكن سعد يعلم بأنه قد جلب لأخته رصاصة الرحمة التي سوف تقتلها.
جلبت الهنوف السكانر ودخلت لتجد الذئب البشري تركي أمامها جاثماً ينتظر فريسته على أحر من الجمر! فأخبرته فأخبرها كيف تستطيع أن تستخدمه. وطلب منها أن تجلب لها صورة لكي تجرب لترى إن كان السكانر يعمل أم لا!
صدقت الهنوف وجلبت إحدى صورها واستخدمتها بالسكانر.. وقتها كان تركي يحاول الغوص في أعماق جهاز الهنوف ليحصل على مراده! وفعلاً استطاع ذلك لقلة خبرة الهنوف! دخل جهازها ووجد الصورة فتفاجأ من جمالها الأخاذ وقرر أن يلعب لعبته الدنيئة.
أكمل تركي يومه معها كالمعتاد ولم يفعل شيئاً ونامت الهنوف تلك الليلة وفارس أحلامها تركي في بالها ولم يفارقه دقيقة.
في اليوم التالي دخلت الهنوف ولم تجد تركي!! استغربت ذلك فتحت بريدها لتجد رسالة من تركي توقعتها اعتذاراً منه أو توضيحاً لأمر ما فتحت الرسالة ولم تصدق ما ترى!
وجدت صورتها أمام أعينها وتحتها رقم جوال المدعو تركي! اتصلي أو سأنشر الصورة هكذا عنوان رسالته الحقيرة!!
خافت الهنوف وضاقت الدنيا بها ولم تستطع أن تفكر في الأمر مجرد التفكير حتى لم تصدق أن تركي ذلك الشاب النقي الصالح يفعل ذلك!!
عرفت أنها وقعت ضحية لصياد متمرس خافت من الفضيحة تذكرت أخاها سعداً التقطت الجوال واتصلت بتركي! وحادثها وأملى عليها شروطه ولكنها لم ترضخ له قاومته كثيراً بكل ما تستطيع وتركته.
عملت كل ما تستطيع لنسيان ذلك! غيرت رقم جوالها وقررت أن تترك الإنترنت للأبد لتبدأ حياتها من جديد تذكرت أن لها ابن عم يدعى عبد العزيز يحبها أيما حب!! تذكرته الآن بعد فوات الأوان! تمنت أن يتقدم لخطبتها، تمنت أن تتزوج! طلبت من سعد أن يسأل عبد العزيز ليرى إن كان ما زال يريدها أم لا؟
لم يصدق عبد العزيز وفعلاً أتى لخطبتها وتم زواجهما، زواج الهنوف على عبد العزيز في ليلة بهيجة وفرح بهيج!
مرت الشهور شهراً وراء شهر والهنوف تعيش أحلى حياة مع عبد العزيز. حياة لا تشوبها شائبة. حياة سعيدة حقاً! أخلصت لعبد العزيز. وسخرت حياتها كلها له، وتفانت في خدمته وإسعاده أحبته كثيراً وأحبها كثيراً!!
كان عبد العزيز ميسور الحال وفي وظيفة مرموقة ويوماً من أيام الوظيفة العادية والمعتادة. دخل عليهم موظف جديد!! تقرب عبد العزيز من هذا الموظف كثيراً بصفة أنهم في مكتب واحد ويوماً بعد يوم أصبحوا أصدقاء! أحب عبد العزيز هذا الموظف كما أحبه ذلك الموظف كثيراً! وعندما توطدت علاقتهما بدأ ذلك الموظف بفتح قلبه لعبد العزيز ومصارحته بكل شيء.
وفي يوم من الأيام وذات صباح.. أتى هذا الموظف لعبد العزيز وقال له يا أبا سعود هل تريد أن ترى أجمل فتاة رأتها عيني في يوم من الأيام؟
من باب طيش الشباب لم يمانع عبد العزيز وقال أجل أرني إياها وليته لم يرها ليت عمره توقف قبل أن يراها، ليت عقارب الساعة أعلنت رحيلها قبل أن تحدث هذه اللحظة، سكت عبد العزيز ولم يستطع الحركة، ووقع من هول الصدمة، لم يفهم تركي ماذا يحدث!! وقع عبد العزيز ولم يقف على أرجله بعدها!! نعم لقد أصابه شلل رباعي كامل من هول الصدمة.
عندما أفاق عاد إلى بيته هذه المرة على كرسي متحرك، كانت الهنوف بانتظاره ولم تكن تعلم أنها تنتظر طلاقها، طلاقها!! وتركها وحيدة!! تصارع أمواج الحياة العتية! كان ذلك الموظف تركي، رسم نهاية أسعد عائلة بيده وفرق بين حبيبين لم يتصورا يوماً أن هذا سيحدث بعد عشر سنوات!!
توفي عبد العزيز! الهنوف مريضة نفسية في أحد المصحات، وتركي رئيس في مجال عمله وموظف ناجح!!
حكايتي مع الماسنجر:(4/15)
عندما تنعدم النَّخوة والشهامة في النفوس فتوقع أن الدناءة ستُسيطرُ على البشرية فتجعل منها وكراً للرذيلة وانعدام الأخلاق.. قبل أن أتحدثُ عن هذا الموضوع سأذكر لكم قصة حدثت لإحدى الفتيات وما زالتْ دموعها على خديها إلى هذا اليوم وسأذكرها لكم وبعد ذلك لي تعليقات على هذه القصة وأتمنى من كل فتاة قراءتها ونشرها.
أنا فتاة أبلغ من العمر عشرين عاماً سمعتُ عن الإنترنت في الجامعة بين زميلاتي اللاتي قمن بذكر قصصهن، فأخذني الفضول لمعرفة هذا العالم الجديد بالنسبة لي.
بعد ذلك أخذتُ عنوان دليل المواقع فقمتُ بتصفحه فدخلتُ أحد المواقع بعد أن قمتُ بتصفحها، وسجلتُ في المنتدى وأخذتُ أتعلقُ به شيئاً فشيئاً حتى أصبحتُ لا أستطيعُ الابتعاد عنه أبداً.
فجأة راسلني أحد الأشخاص وقال لي: أنا معجب بأسلوبك فهل تتكرمين بإضافتي لديك في الماسنجر؟!!
بعد ذلك فرحتُ كثيراً خصوصاً أن هذه الرسالة من فلان فقد كان مثالاً للأخلاق والاتزان، وكان محبوباً في المنتدى فالكثير من الفتيات يحاولن التعرف عليه لأسلوبه.. لمنطقه.. لأخلاقه العالية.. لقلمه الجذاب.. الخ.
بعد ذلك كتبتُ له رداً على رسالته وقد كانت هذه أولُ رسالة أتلقاها في حياتي وكتبتُ له: أني لا أعرف ما هو الماسنجر أساساً.
أخبرني عن الطريقة وأعطاني عنوان إيميله ثم بعد ذلك قمتُ بعمل البريد والماسنجر وأضفته وليتني ما أضفته فقد كُنتُ على موعد مع الموت قال لي: يا فلانة أتوقعُ أنك شاب ولست بفتاة؟! استغربت من كلماته هذه فقلتُ لماذا هذه الشكوك؟! فقال: هل بإمكاني أن أسمع صوتك حتى أتأكد؟ قلت له: آسفة فأخلاقي لا تسمح لي بذلك. ولست كغيري من الفتيات اللاتي بعن شرفهن!
فقال حسناً سأتصلُ عليك وأرجو منك الرد حالاً!! بعد ذلك فاجأني باتصاله فقال: ألو هل أنت فلانة؟! ارتعش قلبي، لا أعلم كيف علم برقم هاتفي؟ سألته: كيف استطعت التعرف على رقم هاتفنا؟
فقال: أنا أعرفُ عنك كل شيء وسأفضحك أمام أهلك لو لم تستجيبي لطلبي! وأخبرني أنه أخذ رقمي عن طريق الماسنجر حيثُ كتبتُ غباءً مني رقم هاتف منزلنا، وبعد أن ضغط على اسمي وجد رقم منزلنا.
قلت لنفسي وأنا مصدومة هل حقاً هذا فلان الذي يدعي الأخلاق؟! انصدمتُ وبكيتُ بمرارة وحسرة.
فقلت له: ما هو طلبك يا من تدعي الأخلاق؟
فقال أرسلي إلي صورتك وإلا أقسم بالله أن أفضحك أمام أهلك!!
بكيت ولا أعلم ماذا أفعل، وقلت له لا أعرف الطريقة لوضع صورتي على الجهاز، فأخبرني عنها وسط تهديده فاشتريتُ سكانر (الماسح الضوئي) خصيصاً لذلك. بعد ذلك أرسلتُ له صورتي بعد أن وعدني بحذفها!! أخذ يتصل بي ويسجل صوتي حتى تقدم لي أحد الشباب وتزوجته وفرحتُ كثيراً علَّ هذه المشكلة تنتهي.
بعد ذلك ذهبتُ إلى منزلنا وقالت لي والدتي: هناك فتاة تتصل وتسألُ عنك، وأخذت تُزعجنا بكثرة اتصالاتها! بعد عشر دقائق اتصلت الفتاة نفسها فقالت: ألو هل أنت فلانة؟! فقلت لها: نعم ما خطبك؟! ومن أنت؟!
فقالت: أنا من طرق فلان الذي معك في الماسنجر!! وقد طلب مني الاتصالُ عليك لتوصيل رسالته إليك.
فقلت لها: ما يُريد مني؟!
فقالت: سوف يفضحك أمام زوجك وسوف يُرسلُ صورتك مع صوتك إليه إذا لم يجدك على الماسنجر الليلة!!
بعد ذلك بكيتُ بمرارة وحسرةٍ واستجبتُ لطلبه ولم يتوقف ذلك على الاتصال، بل طلب رؤيتي ووسط تهديده استجبت لندائه وبعتُ شرفي وأعز ما أملك، وهكذا انتهت حكايتي مع هذا الذئب الكاسر الذي انعدمت رجولته.
اغتصب فتاة في الـ11من العمر.. بواسطة النت:
الرذيلة تنتقل عبر شبكة الإنترنت في غفلة من حراس الحدود والقيم والأخلاق، ولأن الجرسون الآسيوي (س. أ) 26 سنة، استطاع توظيف هذه الثغرة بذكاء مدفوعاً بنوازعه الشيطانية، فقد تسنى له خداع طفلة قاصر لا يتجاوز عمرها 11 عاماً، من خلال بناء علاقة (صداقة) معها عبر الإنترنت، لتنتهي به الحال إلى ما وراء القضبان بتهمة الاغتصاب بانتظار أن تبت المحكمة المختصة في دبي بالحكم النهائي بشأنه.
تفصيلات الحكاية أن الطفلة التي تقيم مع عائلتها في دبي، حيث يعمل والدها مدير شركة، تعرفت من خلال إحدى غرف الدردشة على شخص استطاع إقناعها بأنه عطوف ومحب ومهتم بها أيما اهتمام دون أن يخطر ببال الطفلة المسكينة أن مصيرها سيكون كالفريسة بين أنياب وحش كاسر.(4/16)
وذات يوم عاد والد الطفلة إلى البيت ليفاجأ بوجود شاب غريب في المطبخ، ولدى سؤاله للشاب عن غرض وجوده، بادرت الطفلة إلى القول إن الشاب هو عامل صيانة أرسله صاحب البناية لتفقد التمديدات الصحية، وللوهلة الأولى اقتنع الرجل بالأمر، لا سيما أنه لم يلاحظ ارتباك ابنته، غير أن الشك تسلل إلى نفسه بعد ذلك، فنزل إلى ناطور البناية ليسأله عن أمر عامل الصيانة، ففوجئ بأن الناطور لا علم له بوجود عمال في المبنى، وعندها اتصل بالشرطة التي جاءت على الفور واعتقلت الشاب، ليتضح لاحقاً أن الشاب قام باغتصاب الطفلة عدة مرات خلال لقاءات عديدة لهما ليس في المنزل فحسب، بل في أماكن عدة كان يحددها لها من خلال الدردشة عبر الشبكة، واعترف الشاب بأنه تمكن من استدراج الفتاة من خلال إرسال رقم هاتفه النقال لها، وإبرام أول لقاء معها في أحد المراكز التجارية القريبة من منزلها، وبعد ذلك قام باغتصابها في أحد الأماكن التي استدرجها إليها، وبعد أن امتصت الطفلة الصدمة الأولى أصبحت أكثر تقبلاً لإعادة الكرة معه بل أصبحت تبادر إلى الاتصال به وتحديد المواعيد التي كان بعضها يتم في البيت أثناء غياب الأهل!!
امرأة تعاكس زوجها في أحد مقاهي الإنترنت!!:
تمكنت إحدى الزوجات عن طريق ابنها من الوصول إلى الاسم المستعار لزوجها الذي يقبع في أحد مقاهي الإنترنت وفي إحدى الساحات دخلت إليه من جهازها المنزلي باسم مستعار لفتاة وتمكنت من الانفراد به في خصوصية الحوار لتبادله الحديث كتابة وتستميله وتطلب التعرف عليه وعلى أسرته حتى تيقنت منه تماماً أنه زوجها بأم عينه، وعند مطالبته لرقم هاتفها فوجئ برقم منزله مكتوباً ورقم هاتفه النقال!! ليعود مسرعاً إلى منزله في ذهول ولم يكتف بذلك، بل إن الزوج أصدر الشكوك والاتهامات للزوجة التي بادلته الحديث وأشار بالبنان إلى أن ما حدث من محض الصدفة وأنها وقعت هي في الفخ، ولو لم يشهد لها شاهد من أهلها ويخلصها هي الأخرى من الورطة لحدث ما لا يحمد عقباه، حيث أكد الابن البالغ من العمر 16 عاماً لوالده أنه ارتكب خطأ إبلاغ والدته من باب المزاح والمداعبة التي كادت أن تصل إلى الطلاق(1)! (1) جريدة الرياض.
زوجات وفتيات قادهن الإنترنت إلى الضياع:
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) وما يحصل من خلوة من النساء مع الرجال في غرف المحادثة هو مما نهى عنه الشرع وأمر بالابتعاد عنه وحذرنا منه لكن الناس في سبات عميق!!
0الفراغ والإنترنت أسقطاني في الوحل:
تقول هذه.. عيني لا تعرف النوم منذ عدة شهور فالكوابيس والهواجس تطاردني في أحلامي.. وضميري يؤنبني بعد أن أخطأت في حق زوجي وأولادي الصغار.. وسرت وراء نزواتي العاطفية ونسيت في لحظة أنني زوجة وأم، كل ذلك من أجل إرضاء غروري والشعور بأنني امرأة مرغوب فيها بعد أن أهملني زوجي وتركني وتفرغ لعمله.
الفراق جعلني مدمنة على الإنترنت وتعرفت من خلاله على عشرات الشباب!! إلى أن وقعت بحب أحدهم وحصل ما حصل من الخزي والعار ورجعت أجر أذيال التعاسة والشقاء كرهت نفسي حتى أنني لا أستطيع النظر إلى المرآة لأنني أشاهد صورة شيطانة.
هذه قصة مخزية مختصرة جداً لإحدى النساء نشرتها جريدة الحدث وهي طويلة تروي من خلالها مأساتها وأنها وقعت بالوحل والخيانة بسبب الإنترنت من خلال إعجابها بأحد الشباب الذي هو في الواقع ذئب مفترس ينتظر متى ينقض على فريسته وعندما يشبع نهمه ويروي غليله منها يتركها محطمة مدمرة ويجعلها تكره نفسها وتكره الحياة، بعد أن عصت ربها وخانت زوجها ودمرت حياتها.
كتبنا من قبل عن قصص وكوارث ومآسي النساء مع الإنترنت وما جره على النساء والفتيات من ضياع لشرفهن ودمار لبيوتهن وتشتيت لأسرهن وذكرنا كثيراً من الوقائع التي نشرت في الصحف ومن ذلك المرأة التي كانت تعيش بسعادة وهناء مع زوج كريم صالح وأبناء كالورود وبيت يعمه الفرح والسرور ثم عندما تعرفت ربة البيت على الإنترنت وأدخلته بيتها.. وبعد فترة تعرفت على أحد الشباب الذي تقول لقد أسرني بأسلوبه وجمال منطقه وخفة دمه!! إلى أن جاء يوم وأقنعني بالخروج معه ثم ذهب بي إلى إحدى المزارع وتناوب علي مع أصدقائه ثم رماني على قارعة الطريق إنسانة مدمرة محطمة خائنة.. لقد كرهت نفسي ولم أستطع أن أعيش مع زوج كريم وثق بي ولكنني خنته فطلبت الطلاق وأصررت عليه وأنا الآن أعيش كالميتة بين الناس فلقد قتلني ذلك السافل ودمرني وضيع حياتي وهدم أسرتي.
أطفال تجارة الجنس وإنترنت الغرائز الشاذة:
في ربيع عام 2002 أدين جيرالد، وهو شاب بريطاني لم يبلغ الثلاثين، بالتحرش جنسياً بشقيقين دون العاشرة. استغل جيرالد موقعه كقائد كشاف ليكسب ود الصبيين، ووجد خلال رحلات كشفية فرصاً للتحرش بهما.
بعد اعتقاله تحدث جيرالد عن نفسه معتبراً أن انحرافه نابع من تعرضه هو شخصياً للاعتداء الجنسي حين كان طفلاً من قبل قريب له.(4/17)
كان لذلك أثر مباشر في نفسي، فقد بدأت ومنذ عمر الثامنة أو التاسعة أستهدف أطفالاً آخرين، فكنت أميل نحو السريعي التأثر، وأبحث عن الأطفال الصغار ممن كانوا يتعرضون للعنف. لقد قدمت نفسي كحامٍ لهم وكنت قادراً على الارتباط بهم عاطفياً لأنني تعرضت أيضاً للعنف في المدرسة فكنت أفهم ذلك الشعور.
تجربة جيرالد تُعتبر مساراً كلاسيكياً للذين يتحرشون جنسياً بالأطفال، لكنه ليس المسار الوحيد، فقد أصبح التحرش الجنسي بالأطفال أو ((البيدوفيليا))، هوساً مستحدثاً في بعض المجتمعات، وبات يبرز عبر عوالم الفضاء الافتراضي على شبكة الإنترنت، ما يشكل ظواهر تسبق في انتشارها وتأثيرها القدرة على احتوائها والحد منها، بل وحتى إمكانية فهم أسبابها ونتائجها.
فقبل سنوات قليلة انتشرت ظاهرة ترويج الصور الإباحية للأطفال عبر الإنترنت، وكان كثيرون ربما يعتقدون أن هذا ضرب من المبالغة، لكن للأسف تبين أن هذه التجارة موجودة فعلاً وأن هذا النوع من الصور يجذب الملايين على امتداد العالم.
في أحد مواقع الإنترنت المخصصة لمن لديهم ميول جنسية تجاه الأطفال دعوة ورد فيها: ((هذه المجموعة هي لأولئك الذين يحبون الأطفال)). يمكن أن تطبع أي رسالة تريد توجيهها أو أي نوع من الصور والفيديو أيضاً. آلاف الذين تجاوبوا مع الدعوة للانضمام إلى هذا الموقع الإلكتروني، هم الآن عرضة لأوسع تحقيق من نوعه في عالم يتعلق بجرم التحرش الجنسي بالأطفال من خلال شبكات تم كشفها في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة إلى درجة أن التحقيق اتخذ اسم الموقع، وقد تم اعتقال عشرات المتورطين.
بدأت التحقيقات في هذه الشبكة، حين كشف مكتب البريد الأمريكي عن موقع يعرض صوراً إباحية للأطفال، وتبين أن مقر الموقع في ولاية تكساس ويديره زوجان جنيا ملايين الدولارات سنوياً من قبل أكثر من 52 ألف مشترك حول العالم.
ألقت الشرطة الأمريكية القبض على توماس ريدي الذي كان يدير الموقع، وكان المشتركون يدفعون له مبالغ تتراوح بين 15 إلى 30 دولاراً شهرياً، بواسطة بطاقاتهم الائتمانية.
وما بين العامين 1997 وحتى صيف عام 2001 وزع ريدي وزوجته آلاف الصور الجنسية للأطفال، وحالياً يقضي ريدي حكماً بالسجن المؤبد، فيما حكم على زوجته جانيكا بالسجن أربعة عشر عاماً. كان الزوجان يجنيان من هذا الموقع مليوناً وأربعمائة ألف دولار شهرياً.
وقد أبقت الشرطة الأمريكية على الموقع مع وعود بصور إباحية للأطفال للإيقاع بالمتورطين فيها، وما أن قال المشاركون ((نعم)) حتى باتوا عرضة للملاحقة عبر مذكرات تفتيش واعتقال في حملة كبيرة شنها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي.
وفي بريطانيا تلقت السلطات معلومات عن أرقام لبطاقات ائتمانية وعناوين بريد إلكتروني لأكثر من 7300 شخص مقيم في بريطانيا، كانوا من ضمن المشتركين في الموقع الإلكتروني Candyman. ويعيش 1100 شخص من هؤلاء في لندن، وقد اعتقلت الشرطة 1300 شخص في عملية كبرى مستمرة تعرف بعملية Operation Ore.
والمفاجأة أن الأشخاص الذين تم اعتقالهم في بريطانيا، بينهم معلمون وأطباء وقضاة وجنود وفنانون، ومن بينهم أيضاً 5 ضباط في الشرطة، أحدهم برايان ستيفنس الذي شارك في التحقيق في جريمة سوهام الصيف الماضي التي قتلت فيها الطفلتان هولي ويليس وجيسيكا تشابمان.
وكان ستيفنس قرأ مقطوعات عشرية مؤثرة خلال مراسم دفن الطفلتين، أما اليوم فهو يواجه تهماً بتسويق صور إباحية للأطفال عبر الإنترنت.
بعد الكشف عن الشبكة، تم إدراج أربعين طفلاً في إطار مؤسسات الرعاية الاجتماعية كان بعضهم تعرض للتحرش والاعتداء الجنسي، فيما هناك خشية على بعضهم الآخر من أن يتعرض لذلك إما من قبل الأهل أو من قبل أخصائيين. كما تم توجيه تهم لعشرة أشخاص بالتحرش بالأطفال بمن فيهم أب لثلاثة أطفال، اكتشف البوليس أنه التقط صوراً من كاميرا بولارويد للطفل الذي تحرش به.
رجال الشرطة البريطانيون الذين بدأت تحقيقاتهم قبل سبعة أشهر، فوجئوا بحجم العمل الذي ينتظرهم بسبب كبر لائحة المشتبه فيهم، لذلك عمدوا إلى تقسيم اللائحة إلى ثلاث فئات وفقاً للأهمية بهدف تسريع التحقيقات. أما الفئة الأكثر أهمية فهي تلك التي تشمل كل من له صلة مباشرة بأطفال، سواء من معلمين أو أخصائيين اجتماعيين، أما الفئة الثانية فهم أولئك الذي لديهم مناصب ذات سلطة مثل رجال الشرطة والقضاة. ويندرج تحت هاتين الفئتين 90% من بين الـ1300 شخص الذين تم اعتقالهم.
في كانون الأول (ديسمبر) الماضي أعلنت الشرطة البريطانية أنها قد تحتاج تسعة أشهر أخرى للتحقيق مع السبعة آلاف وثلاثمائة مشتبه. هذا وتمتد الحملة ضد شبكة استغلال صور إباحية للأطفال عبر شبكة الإنترنت لتطال كندا، حيث تلاحق الشرطة 2300 مشتبه استعملوا بطاقاتهم الائتمانية للاشتراك في هذه المواقع.
وتعتبر الشرطة أن هناك نقصاً في التعاون بين الأجهزة الأمنية المختلفة في كندا، إذ لم يتم التمكن من القبض سوى على 5% من المشتبه فيهم فقط.(4/18)
أما في تايلاندا فقد ألقت السلطات بالتعاون مع الشرطة البريطانية هذا الشهر القبض على البريطاني روبرت أيرول (24 عاماً) واتهمته باستغلال الأطفال وبتوزيع صور إباحية لهم عبر الإنترنت. وتم اعتقال أيرول في مطار بانكوك الدولي فيما كان مسافراً إلى دبي، وصادرت الشرطة كاميرات ومعدات كومبيوتر من غرفته في الفندق. وكانت الشرطة البريطانية أخطرت السلطات التايلاندية بأنها تلاحق أيرول بتهمة توزيع صور إباحية للأطفال عبر الإنترنت، وهو قد يواجه حكماً بالسجن لخمسة عشر عاماً إذا ثبتت التهمة. كما تزايدت في الفترة الأخيرة عمليات اعتقال أشخاص معروفين لارتكابهم مثل هذا الأمر آخرهم المغني الأمريكي آر كيلي الحائز على جائزة غرامي الموسيقية. اعتقل كيلي في ميامي أواخر شهر كانون الثاني (يناير) 2003، ودين لحيازته صوراً إباحية للأطفال وما زال قيد المحاكمة.
لقد حصلت شركة ((غوغل)) الإلكترونية في نيسان إبريل 2001، في عملية بحث حول استخدام الأطفال في الأعمال الإباحية على 524 ألف لقطة، ما يؤكد أن حجم تجارة الأعمال الإباحية المتعلقة بالأطفال لا يستهان به.
كيف يفكرون؟
لفهم كيف يفكر الشخص المستغل جنسياً للأطفال أو ((البيدوفيل))، دخلت راشيل أوكنيل، من مركز الأبحاث الخاص بالشبكة الإلكترونية في جامعة Central Lancashire غرفة محادثة على موقع خاص بمجموعة ذات ميول جنسية نحو الأطفال، وقدمت راشيل نفسها على أنها واحد منهم من خلال المحادثات عبر الإنترنت. ((الأشخاص الذين تحادثت معهم عبروا بحرية عن هواياتهم وعن علاقاتهم الجنسية مع الأطفال. إنه أمر رهيب، فعلى رغم أنهم كانوا يتحادثون معي بصفتي شخصاً يشاركهم هيامهم فقد كانوا دائماً بحاجة إلى تبرير تصرفاتهم. لذا حين يزعم أحدهم أنه مارس الجنس مع شقيقة صديقه غير البالغة، يضيف لاحقاً أنها تعرضت للتحرش من قبل أبيها وكأن ذلك يبرر أو يصحح الأمر. إنهم لا يريدون أن يظهروا كوحوش حتى فيما بينهم)).
وتظهر الأرقام في بريطانيا أن 70% من الذين شاركوا في المواقع التي تعرض صوراً جنسية للأطفال عبر الإنترنت ليست لديهم سجلات إجرامية، وربما مارس بعضهم تحرشاً بالأطفال لكن الأمر لم يصل إلى الشرطة، لكن ما برز للمتابعين فجأة هو أن هناك مجموعة كاملة من الأشخاص الذين يفكرون بالطريقة نفسها، فمقولة أن شخصاً يتصرف على هذا النحو تعد نزعة خاصة وفردية بات أمراً غير صحيح لأن الحالة باتت شعوراً مشتركاً بين كثيرين.
في دراسة أجراها مركز الخدمات البريدية في الولايات المتحدة، ظهر أن 1000 شخص تم ضبطهم وفي حيازتهم صور جنسية لأطفال، وكانت صورة واحدة من كل ثلاث من تلك الصور تظهر استغلالاً جنسياً كاملاً للأطفال.
البريطاني دونالد فيندلاتر، عالج على مدى سنوات مئات الأشخاص من ذوي الميول الجنسية المنحرفة تجاه الأطفال، وهو يقول: ((تفسر الذنوب الجنسية بأنها محاولة تجاوز الحدود إلى ما وراء ما هو مقبول اجتماعياً، والإنترنت يقدم للشخص المستغل جنسياً للأطفال، أي ((البيدوفيل))، لمحة عما سيحدث له لاحقاً، وأي شكل من التصرفات المنحرفة سيصل إليها. بهذه الطريقة، يمكن تسريع الطاقات العدوانية الكامنة، وحين يزور الشخص هذه المواقع الإلكترونية يومياً يصبح خطراً نوعاً ما)).
ويعتقد فيندلاتر أن التحقيقات التي تجريها الشرطة غير مجدية وغير فعالة، إذ برأيه هناك حاجة إلى أساليب أخرى في احتواء القضية، أساليب تكون أكثر خيالاً مما يجري حالياً فقد سمعت أن المسؤولين في أحد مراكز البوليس لا يملكون الوسائل اللازمة لإجراء مقابلات مع كل الذين وردت أسماؤهم على لائحة المطلوبين في منطقة عملهم، لذا أرسلوا رسائل تقول: ((نحن نعرف ما كنت تنوي فعله. توقف وإلا تم اعتقالك)).
يزعم بعضهم أن صور الاستغلال الجنسي للأطفال الموزعة عبر الإنترنت ليست نتاج اعتداء على الأطفال بقدر ما هي نتاج تقنيات وخلق صور غير حقيقية. فقد أتاحت التكنولوجيا الرقمية المجال لإنتاج أعمال إباحية متعلقة بالأطفال من دون أن يكون الطفل حاضراً، من دون أن ينفي ذلك وجود آلاف الصور الحقيقية التي جرى فيها استغلال فعلي للأطفال. وتبين أن غالبية الأطفال الذين جرى تصويرهم هم من القوقازيين والعديد منهم من الولايات المتحدة وما زالت صورهم متداولة.
كان هناك بعض الأطفال من الهند والمكسيك وإفريقيا. وشهدت السياحة الجنسية التي تستهدف الأطفال خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين صوراً متزايدة لأطفال من آسيا وأوروبا الشرقية.(4/19)
ويقول الخبراء إن المشتركين الذين تم ضبطهم من خلال بطاقات الائتمان هم (الساذجون) فقط، ولكن يبقى هناك أشخاص أكثر خطورة، تعلموا كيف يخفون أثرهم وهم يمارسون هوسهم من دون أن تلاحقهم الشرطة. ويرى تينك بالمر من مركز بارناردو لحماية الأطفال أنه يجب تركيز مزيد من الاهتمام على حماية الأطفال، لدينا أدلة على استغلال مراهقات عبر الإنترنت للعمل في الدعارة في هذا البلد. لقد تم التلاعب بوجوههن على شاشة الكومبيوتر لإظهارهن أكبر عمراً. لدينا أدلة على استغلال أطفال دون سن البلوغ عبر صور جنسية تبث مباشرة عبر الإنترنت. في العديد من الحالات يتم التحرش بالأطفال في غرف نومهم، ما يعني أننا نتحدث عن أشخاص مقربين من العائلة.
لقد أسهمت التقنيات الرقمية في تعزيز قدرة المتحرشين على تسجيل مجموعات كبيرة من الأعمال الإباحية للأطفال وتخزينها واسترجاعها وتبادلها. وتشير التقارير إلى أن تبادل الأعمال الإباحية للأطفال مع أناس من المزاج التفكير نفسه، من مستغلي الأطفال جنسياً، يعطي المستغلين عبر شبكة الإنترنت حساً بالانتماء إلى المجموعة واحترام الذات.
الإنترنت قلب حياتي!!:
الإنترنت قلب حياتي رأساً على عقب.. لقد كنت قبل الإنترنت فتاة اجتماعية جداً.. جداً، كثيرة الزيارات والخرجات كنت أخرج في الأسبوع (على الأقل أربع مرات أو خمساً في أيام العطل) أزور فيها الأهل والمعارف والصديقات أحضر المناسبات ويبادلونني أيضاً الزيارات وأخرج مع أهلي لقضاء نهاية الأسبوع في الحدائق والمنتزهات وإن جلست في البيت (أمارس العديد من الهوايات التي لا حصر لها بالنسبة لي ولا داعي هنا لتعدادها).
وكثيراً أيضاً ما كان التواصل بيني وبين جاراتي في جميع أوقات اليوم يعني أريد أن أقول إني كنت لا أترك مناسبة تفوتني.
أيضاً كنت كثيرة القراءة للأدباء الإنجليز (بحكم دراستي للأدب الإنجليزي) والجرائد باللغة الإنجليزية حتى لا أنسى ما درسته، أيضاً كنت من المتابعات للأخبار بدقة متناهية وبشكل دائم حتى إني كنت أعرف الخبر قبل أن ينتشر، لكن بعد الإنترنت تغير الحال وصدق الذي قال ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال.
لقد أصبحت أقضي الساعات الطوال (وأنا أمامه لا بارك الله فيه) انعدمت زياراتي للصديقات ولكي أكون واقعية (قلت بدرجة ملحوظة) حتى إن إحدى قريباتي تخبرني قبل يومين حين كانت في سابع تقول إن هناك العديد من المعارف يسألون عنك ويتساءلون أين هي؟ ولماذا لم تعد كما كانت؟ يعني بالمختصر المفيد قلت زياراتي للجيران والأهل والصديقات.. وبصراحة لي سنة تقريباً ما أمسكت كتاباً واحداً يعينني على تذكر ما درست (والإنجليزي إذا ما انتبه له ينسى بسرعة) كما أني اقتطعت ساعتين من فترة نومي لأجل خاطر عيون النت لأن الساعات التي أقضيها ما تكفي.. وما أقول إلا لا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله أن يعينني إن شاء الله وأرجع كما كنت لأني فعلاً لست راضية عن حالي في شيء كما نسيت أن أقول إنني قبل النت استطعت أن أحفظ حوالي 17 جزءاً من القرآن الكريم في ظرف سنة والآن لي سنة ما قدرت أحفظ آيتين.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخ ينشر صورة أخته عبر الإنترنت:
لا تعرف الإنترنت ولم تدخله نهائياً بل تستخدم الجهاز.. لغرض شخصي وعائلي.. وبعد إدخال صورها وكتابة ملفاتها الخاصة لطباعتها.. إذا أخوها الصغير يأخذ الجهاز خلسة ويركب فاكس مودم.. ويدخل الإنترنت.. وما هي إلا لحظات حتى استقبل الباتش وأصبح فريسة!
وإذا بالشخص الذي يحدثه في الشات.. يضحك ويرسل إليه رسالة يقول له أنت بنت ولست ولداً كما تقول وصورك عندي كلها.
لقد سحب جميع صور العائلة.. وسحب جميع البيانات للفتاة وأهلها وهو يظن أن من يخاطبه في الطرف الآخر هي البنت صاحبة الصورة!
وما هي إلا لحظات حتى يتأكد.. ويصدم الولد ويخبر أخته بالقصة.. فتتصل بقريب لها يعرف الإنترنت.. فيأتي ويفحص الجهاز ويخبرها بوجود المودم.. فتستغرب.. وتعرف الحقيقة من الأخ.. ويواجهون الحقيقة فيبحثون عن حل!! ويدخل هذا الخبير قريبهم في الإنترنت وينتظر حتى يدخل الهكرز مرة أخرى.. ويبادله الحديث في إحدى الغرف بكلام ودي.. ولكن لا فائدة.. ويحاول معه بشتى الطرق وكأنك تخاطب حائطاً لا إحساس ولا حياء.. فيرد المخترق فيقول أريد مبلغاً من المال وإلا سوف تفضح وأضع صورها وهي متعرية في جميع المواقع.. ويفعل ما وعدهم به ويفضحها.. ويتم اكتشاف هذه الفضيحة.. ويعلم بها الزوج فيطلقها.. بعد علاقة زواج مدتها ست سنوات.. ويهدم عائلة بأكملها ويراسلني قريبها فأغلقت الموقع والحمد لله والمنة.. وأغلقت جميع مواقعه المجانية.. وتم التعرف عليه وتم اختراق جهازه.. واكتشفت أنه متزوج ولديه بنت بعمر وسن المراهقة.
فاستغربت ألم يخف على عرضه؟ ألم يتذكر أن لديه بنتاً ويخاف على شرفه؟ وأنه سهل التلاعب بصورة ابنته وعرضها كما فعل؟!(4/20)
والله ثم والله إنه شيء محزن.. بعد أن هدم عائلة.. ودنس شرف أم أولاد.. ويرد قريبها لي ويقول.. إن ما حدث من قدر الله ولكن إذا كبر الأولاد ماذا ستجيبهم إذا سألوها عن سبب طلاقها؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
عندما فتحت الباب على زوجي:
لم أكن أتصور أن زوجي ذا الأربعة أطفال الذي دائماً ما كان يُغلق الباب على نفسه ويجلس أمام الكمبيوتر كان غارقاً في النظر إلى الصور والأفلام الجنسية؟!
كم أصبت بخيبة أمل عندما دخلت عليه في تلك الغرفة التي نسي أن يحكم إقفالها ذلك اليوم المشؤوم! الذي أحسست فيه بدوار شديد كدت أسقط على الأرض بسببه!!
يا له من منظر محزن ومخز عندما وجدته متلبساً بذلك العمل المشين! فلم أكن أتصور أن الجرأة تصل به إلى هذا الحد الذي يضعف فيه أمام إرادته فيقلب بصره في الحرام على مرأى من ربه الذي رزقه هاتين العينين اللتين ينظر بهما إلى ذلك الحرام.
كم خارت قواي عندما رأيت المعلم الأول لأبنائي.. يقوم بهذا العمل القذر! الذي يرسم في عقله الجنس على أنه هو الحياة!! وبعده يضيع من بين يديه كل شيء وقد لا يؤمن على من هم تحت يده من الأبناء ولا يحسن تربيتهم لأن فاقد الشيء لا يعطيه!!
خرجت هذه الكلمات من امرأة بائسة بأحرف متقطعة ممزوجة بشيء من العبرات.. تفوهت بها تلك المرأة بعد أن انكشف لها زوجها بلباس غير الذي عهدته منه.
هذه حقيقة ينبغي ألا نغفلها ولا نتهرب منها.. فقد كثر الكلام من النساء عن تورط أزواجهن بتلك المواقع النجسة المؤثرة على العقول والقلوب.. فأصبحوا يتهربون من مسؤولياتهم وما وكل إليهم من تربية وتعليم لمن هم تحت أيديهم.. بل هجروا النساء على الفرش بسببها ولا حول ولا قوة إلا بالله! فكيف يهرب من العفاف إلى الإسفاف والسقوط والانخراط في المواقع الإباحية التي تفتك بلب الصغير قبل الكبير.
كيف يجرؤ ذلك الأب على أن يغيب عن بيته في بيته.. ويستقبل المخازي في عقر داره.. حيث يقبع أمام تلك الشاشة التي تنقله من سوء إلى أسوأ.. كيف يفعل ذلك وقد لاح في عارضيه الشيب؟! أم أنه الفشل في امتحان المراقبة للرب العليم؟
إنها كارثة عُظمى أن يصاب الهرم الأكبر في البيت بذلك الداء؟! إنها كارثة مخزية يوم أن يعلم الأبناء وتعلم الزوجة أن رب البيت بين المومسات وبين المواقع التي تطرد الملائكة وتستقبل الشياطين؟! إنها مصيبة عظمى يوم أن يهجر الزوج زوجته في الفراش ويلجأ ربما للعادة السرية المضرة المغضبة لربه؟!
إنها نقطة تحول خطرة يوم أن يسمح لنفسه بمعرفة المشبوهين والساقطين من أجل تحقيق تلك الرغبة المنحرفة؟!
فما قيمة الزواج والعفاف إذاً؟ وما موقف هذا الزوج لو رأى تلك الزوجة تقوم بما يقوم به؟ هل يغض الطرف أم يفتل عضلاته أمامها؟ ويتستر بالنقاء والصفاء؟
أيها الزوج الفاضل:
قد يكون لسهول الوصول إلى ذلك الفساد دور كبير في جرك إلى ذلك العمل المشين.. وقد يكون ثمة سبب أو أسباب ساهمت في دفعك إلى ذلك، لكن إلى متى ستستمر على تلك الحال؟! وإلى متى وأنت تواصل في جمع أكبر رصيد من الآثام من أجل تحقيق ما تطلبه نفسك؟! ألا تخشى أن ينتهي مشوار حياتك الدنيا وأنت على تلك الحال المخزية؟! ألا تخشى أن يفضح أمرك بأي طريقة تناسب الحال التي أنت عليها؟! ألا تستحي من رب ينظر إليك وأنت على تلك الحال؟!
فالله الذي خلقك وركبك ونعمك مطلع على كل ما تقوم به في ذلك المكان البعيد المستور إلا من عين الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد؟
أيها الأب الكريم..
ألا تعلم أنك بفعلك هذا تساهم مساهمة فعالة في تفعيل دور الفساد في المجتمع!! نعم وإلا من كان يصدق أنه في يوم من الأيام سيقوم فلان بن فلان الرجل الرزين العاقل الذي لا يذكره الناس إلا بالخير ليجعل بيته الحصين نواة لاستقبال أكبر حجم من الفساد الأخلاقي، ومن ثم يشربه عقله وتفكيره فيطغى على همته وعزمه فيضعف عن الإصلاح والمتابعة والتفرغ لمن هم تحت يده ومن هم سبب في دخوله النار إن قدم لهم الغش بدل النصح، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))، فأسألك بالله هل ما تقوم به من تغذية منحرفة لروحك ونفسك سيكون له أثر إصلاح ومنفعة لرعيتك؟! لا أظن ذلك، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
أيها الزوج الكريم..
فقط اجلس مع نفسك لحظات وتمعن بصدق فيما تفعله أمام الجهاز من أعمال، وقس حجم الخير فيها من الشر، وكم هي الإيجابيات من السلبيات.. وهل تأثر من خلالها مستوى تدينك وإيمانك أم لا؟ عندها ستنكشف لك نفسك وتراها رأي العين، ولا أعتقد بعد ذلك أنك ستغفل أمر النتائج إن لم تكن إيجابية وتستمر في مسيرة الانحطاط، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، رزقنا الله وإياك الخشية في السر والعلن.. وجعلنا من التقاة الصادقين.. وأعاننا على حمل أمانة النفس والأنفس.
يتبع >>>
http://www.saaid.net المصدر:
===============
وقوف العلماء مع الدعاة عند الابتلاء(4/21)
جاء شباب من أحد الدول إلى صاحب الفضيلة محمد الصالح العثيمين - رحمه الله - وقالوا: يا شيخ نريد منك اتصالا هاتفيا تلقي من خلاله محاضرة وإذ بالشيخ محمد يفعل ذلك ثم يبتلى أولئك النفر الذين كانوا سببا في هذه المحاضرة يبتلوا بأن يسجنوا..
فقال الشيخ محمد لأحد طلابه الذين هم من تلك الدولة: فلان سلم على الشيخ ابن باز (رحم الله الجميع), وقل له: يسلم عليك محمد العثيمين ويقول لك: يا شيخ كلم الشيخ فلان في الدولة الفلانية عن الشباب فقد حصل كذا وكذا.
فجاء هذا الشاب من القصيم إلى الرياض وقال: أحسن الله إليك يا شيخ عبد العزيز يسلم عليك الشيخ محمد العثيمين ويقول: لعلك تشفع عند الشيخ فلان يكلم المسئولين في تلك الدولة لعلهم أن يخرجوا فلان وفلان وفلان الذين سجنوا الآن.
فقال الشيخ عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: ما عندي مانع أكتب ولكن أخشى عليهم أن يزيد أمرهم بلاء وأن يكثر عليهم الهم والغم وأن تكبر المسألة قال: فما العمل يا شيخ؟
قال الشيخ: هذه سنة الله للدعاة كما كانت للأنبياء من قبل عليهم - الصلاة والسلام - لكن الصبر والدعاء.
قال: أجل أحسن الله إليكم ادعوا الله لهم.
قال: فدعا الشيخ ابن باز لهم ثم دعا ثم دعا قال: فخرجت من مجلس الشيخ ابن باز واتصلت بتلك الدولة وأريد أن أقول أن الشيخ - رحمه الله - دعا لكم..
قالوا: نبشرك نبشرك لا تكمل تراهم طلعوا الآن الآن قال: والله ما سكت الشيخ من الدعاء إلا وقد خرج أولئك الدعاة من السجن..
الله أكبر.. انظر كيف استجاب الله لدعاء الشيخ ابن باز... وانظر في وقوف العلماء مع طلابهم..
من شريط أسباب الشفاء للشيخ عصام العويد.
http://www.denana.com المصدر:
================
الابتلاء بالأمراض
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عز وجل - التي هي معتصَم عند البلايا، وسلوان في الهمّ والرزايا.
واعلموا ـ حفظكم الله ورعاكم ـ أنّ الابتلاء سنّة ربّانية ماضية، هي مِن مقتضيات حكمةِ الله - سبحانه - وعدله، متمثِّلاً وقعُه بجلاء في الفقر والغنى والصحّة والمرض والخوف والأمن والنقص والكثرة، بل وفي كلّ ما نحبّ ونكرَه، لا نخرج من دائرة الابتلاء، يقول الله - تعالى -: ( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [الأعراف: 168]، ويقول - سبحانه -: ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) [الأنبياء: 35]، يقول ابن عباس رضي الله - تعالى -عنهما: (نبتليكم بالشدّة والرخاء، والصحّة والسّقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطّاعة والمعصية والهدى والضلالة)[1].
عبادَ الله، العاقل الحصيفُ يجب عليه حتمًا أن يوقنَ أنّ الأشياء كلَّها قد فُرِغ منها، وأنّ الله - سبحانه - قدّر صغيرها وكبيرَها، وعلم ما كان وما سيكون وأن لو كان كيف يكون، ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَيء) [الأنعام: 38]، يقول الرسول: ((أوّلَ ما خلق الله القلمَ قال له: اكتب، قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقاديرَ كلّ شيء حتى تقوم الساعة)) رواه أبو داود[2].
فالمقاديرُ ـ عبادَ الله ـ كائنة لا محالة، وما لا يكون فلا حيلةَ للخلق في تكوينِه، وإذا ما قدِّر على المرء حالُ شدّة وتنكَّظته الأمورُ فيجب عليه حينئذٍ أن يتّزرَ بإزار له طرفان: أحدهما الصبر والآخر الرّضا، ليستوفيَ كمالَ الأجر لفعله ذلك، فكم من شدّة قد صعُبت وتعذّر زوالها على العالَم بأسره ثمّ فُرِّج عنها بالسّهل في أقلَّ من لحظة، قيل للحسن: يا أبا سعيد، من أين أُتي هذا الخلق؟ قال: من قلّة الرضا عن الله، قيل: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: مِن قلة المعرفة بالله.
ولمّا جيء بسعيد بن جبير إلى الحجّاج ليقتلَه بكى رجلٌ فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: لِما أصابك، قال سعيد: فلا تبكِ إذًا؛ لقد كان في عِلم الله أن يكونَ هذا الأمر ثمّ تلا: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ) [الحديد: 22][3].
وما يصيب الإنسانَ إن كان يسرّه فهو نعمةٌ بيّنة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة أيضًا؛ إمّا مِن جهة أنه يكفِّر خطاياه ويُثاب بالصّبر عليه، وإمّا من جهة أنّ فيه حكمةً ورحمة لا يعلمها إلا الله، ( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 216]، وصدق رسول الله إذ يقول: ((عجبًا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) رواه مسلم[4].
أيّها النّاس، إنّ البشرَ قاطبةً مجمعون إجماعًا لا خِداج فيه على أنّ الصحّة تاجٌ فوق رؤوس الأصحّاء لا يراه إلا المَرضى، وأنّ الصحّة والعافية نعمةٌ مغبون فيها كثيرٌ من النّاس.(4/22)
الأمراض والأسقامُ ـ عبادَ الله ـ أدواء منتشرةٌ انتشارَ النّار في يابِس الحطَب، لا ينفكّ منها عَصر، ولا يستقلّ عنها مِصر، ولا يسلم منها بشرٌ ولا يكاد إلاّ من رحم الله؛ إذ كلّها أعراض متوقّعة، وهيهات هيهاتَ أن تخلوَ الحياة منها، وإذا لم يصَب أحدٌ بسيلِها الطامّ ضربَه رشاشها المتناثرُ هنا أو هناك، وثمانيةٌ لا بدّ منها أن تمرَّ على الفتى، ولا بدّ أن تجريَ عليه هذه الثمانية: سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة ويسر وعسرٌ ثمّ سقم وعافية.
الأمراضُ والأسقام هي وإن كانت ذاتَ مرارةٍ وثقل واشتدادٍ وعرك إلا أنّ الباريَ جلّ شأنه جعل لها حكمًا وفوائدَ كثيرة، علمها من علمها وجهِلها من جهلها، ولقد حدّث ابن القيم - رحمه الله - عن نفسه في كتابه شِفاء العليل أنّه أحصى ما للأمراض مِن فوائدَ وحكم، فزادت على مائة فائدة، وقال أيضًا: "انتفاعُ القلب والرّوح بالآلام والأمراضِ أمر لا يحسّ به إلا مَن فيه حياة، فصحّة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها" انتهى كلامه - رحمه الله -[5].
إنّ الابتلاءَ بالأمراض والأسقام قد يكون هبةً من الله ورحمة، ليكفّر بها الخطايا ويرفعَ بها الدرجات، فلقد استأذنتِ الحمّى على النبيّ فقال: ((من هذه؟)) قالت: أمّ ملدم وهي كنية الحمى، فأمر بها إلى أهلِ قباء فلقوا مِنها ما يعلم الله، فأتوه فشكَوا ذلك إليه، فقال: ((ما شئتم؟ إن شئتم أن أدعوَ الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكونَ لكم طهورًا))، قالوا: يا رسول الله، أوَتفعل؟ قال: ((نعم))، قالوا: فدَعها. رواه أحمد والحاكم بسند جيد[6]. وقال: ((ما مِن مسلمٍ يصيبه أذًى من مرض فما سواه إلاّ حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشجرة ورقَها)) رواه البخاري ومسلم[7]. وقال رجل لرسول الله: أرأيتَ هذه الأمراضَ التي تصيبنا، ما لنا بها؟ قال: ((كفارات))، قال أبي بن كعب: وإن قلَّت؟! قال: ((وإن شوكةً فما فوقها)) رواه أحمد[8]. ولقد عادَ رسول الله مريضًا من وَعكٍ كان به، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ((أبشِر فإنّ الله - عز وجل - يقول: هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكونَ حظَّه من النار في الآخرة)) رواه أحمد وابن ماجه[9]، والوعك هو الحمّى.
فمِن هنا ـ عبادَ الله ـ نعلم النتائجَ الإيجابيّة التي يثمِرها المرض، ونعلم أنّ مذاقه كالصّبِر، ولكنّ عواقبه أحلى من الشّهد المصفى، فعلامَ إذًا يمذُل[10] أحدُنا من المرض يصيبه، أو يسبّه ويشتُمه، أو يعلّل نفسَه بليت وليت، وهل ينفع شيئًا ليت؟!
ألا فاعلموا أنّ رسولَ الله دخل على أمّ السائب فقال: ((ما لك ـ يا أمّ السائب ـ تُزَفزفين؟)) قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبِّي الحمّى، فإنّها تذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبثَ الحديد)) رواه مسلم[11]. ولقد أصابَ أحدَ السلف مرضٌ في قدمه، فلم يتوجّع ولم يتأوّه، بل ابتسمَ واسترجع، فقيل له: يصيبك هذا ولا تتوجّع؟! فقال: إنّ حلاوةَ ثوابه أنستني مرارةَ وجعه.
وبعدُ عبادَ الله، فلا يُظنّ ممّا سبق أنّ المرضَ مطلَب منشود، لا وكلاّ، فإنّه لا ينبغي للمؤمن الغرّ أن يتمنّى البلاء، ولا أن يسألَ الله أن ينزلَ به المرض، فلقد قال رسول الله: ((سلوا اللهَ العفوَ والعافية، فإنّ أحدًا لم يعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية)) رواه النسائي وابن ماجه[12]. وقال مطرّف: "لأن أُعافى فأشكُر أحبُّ إليّ من أن أبتلى فأصبر"[13].
ومِن هنا نعلمُ جيّدًا أنّ المرض ليس مقصودًا لذاته، وإنّما لما يفضي إليه من الصّبر والاحتساب وحُسن المثوبة وحمدِ المنعم على كلّ حال، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه الله -: "المصائبُ التي تجري بلا اختيار العبدِ كالمرض وموتِ العزيز عليه وأخذِ اللصوص مالَه إنّما يثاب على الصّبر عليها لا على نفسِ ما يحدث مِن المصيبة، لكنّ المصيبةَ يكفَّر بها خطاياه، فإنّ الثواب إنّما يكون على الأعمالِ الاختيارية وما يتولّد عنها" انتهى كلامه[14].
ومِن هذا المنطلَق ـ عباد الله ـ اجتمع الكافر والمسلم والبرُّ والفاجر في مصيبة المرض على حدّ سواء، وافترقا في الثمرةِ والعاقبة، ولا يسوّي بينهما في ذلك إلا أليغ[15] أرعن واقع فيما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (إنّكم ترونَ الكافرَ من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتلقون المؤمن من أصحِّ النّاس قلبًا وأمرضِهم جسمًا، وايْمُ الله لو مرضَت قلوبُكم وصحَّت أجسامكم لكنتم أهونَ على الله مِن الجعلان)[16]. ودخل سلمان الفارسيّ - رضي الله عنه - على مريضٍ يعوده فقال له: (أبشِر فإنّ مرضَ المؤمن يجعله الله له كفّارة ومستعتبًا، وإنّ مرضَ الفاجر كالبعير عقله أهلُه ثمّ أرسلوه، فلا يدري لم عُقل ولم أرسِل)[17].(4/23)
عبادَ الله، إنّ الإسلامَ حينما يرغّب في الصبر على البلوى ويبيّن ما تنطوي عليه الأسقام من آثارٍ شافية وحكمٍ كافية فلا يفهم مخطِئ أنّه يمجّد الآلام ويكرِّم الأوجاعَ والأوصاب، إنّما يحمَد الإسلام لأهلِ البلوى وأصحابِ الأسقام رباطةَ جأشِهم وحسنَ يقينهم، ( مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) [النساء: 147].
اشتكى عروة بنُ الزّبير الآكلةَ في رِجله، فقطعوها من ركبته وهو صامِت لم يأنّ، وفي ليلته تلك سقَط ولدٌ له مِن سطحٍ فمات، فقال عروة: "اللهمّ لك الحمد، كانوا سبعةً مِن الولد فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ستّة، وكان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثًا، فإن كنتَ قد أخذتَ فلقد أعطيتَ، ولئن كنتَ قد ابتليتَ لقد عافيتَ"[18]، فرحمَ الله عروة وغفر له، فلقد كان بعضُ المرض عندَه أهونَ من بعض، وبلاؤه أهونَ من بلاء غيره، فهان عليه مرضه، وهانت عليه بلواه، وهذا هو ديدنُ المؤمن، ينظر بعين بصيرته، فيحمد الله على أمرين: أوّلهما دفعُ ما كان يمكن أن يحدثَ من هُنيزةٍ[19] أكبر حيث علِم أنّ في الزّوايا خبايًا، وفي البَرايا رزايا، وثانيهما بقاءُ ما كان يمكِن أن يزولَ من صحّةٍ غامرة وفضلٍ جزيل، فهو ينظر إلى النّعمة الموجودة قبلَ أن ينظرَ إلى النّعمة المفقودة.
عباد الله، إنّ الأسقامَ إذا استحكمَت وتعقّدت حبالُها وترادفت حلقاتُها وطال ليلُها فالصّبر وحدَه هو العاصِم بأمر الله مِن الجزع عند الرّيَب، وهو الهداية الواقية من القنوط عند الكُرَب. فلا يرتاع المؤمن لغَيمة تظهر في الأفق ولو تبِعتها أخرى وثالثة، بيد أنّ الإنسان إبّان لَهيعته[20] يتجاهل الحقائقَ، فيُدهَش للصّعاب إذا لاقته، فيُنشِئ له مِن طبعه الجزوع ما يبغِّض إليه الصبرَ، ويجعله في حلقه مرَّ المذاق، فيتنَجنَج[21] ويضيق ويحاوِل أن يخرجَ من حالته على نَكَظ[22]، فينسى قولَ خالقِه: ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ )[الأنبياء: 37].
واستمِعوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى ما قصّه رسولنا عن مرَض أيّوبَ - عليه السلام -، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((إنّ أيّوب نبيَّ الله لبثَ في بلائه ثماني عشرةَ سنة، فرفضه القريب والبعيد إلاّ رجلين من إخوانه، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدُوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَم والله، لقد أذنبَ أيّوب ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرةَ سنة لم - يرحمه الله - فيكشف ما به، فلمّا راحا إليه لم يصبِر الرّجل حتّى ذكر ذلك له، فقال أيّوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أنّ الله يعلم أنّي كنتُ أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجِع إلى بيتي فأكفِّر عنهما كراهيةَ أن يُذكَر الله إلاّ في حقّ، ـ قال: ـ وكان يخرجُ إلى حاجتِه، فإذا قضى حاجتَه أمسكتِ امرأته بيده، فلمّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيّوب في مكانِه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42]، فاستبطأته فبلغته، فأقبلَ عليها قد أذهبَ الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلمّا رأَته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبيَّ الله هذا المبتلى؟ والله على ذلك ما رأيتُ أحدًا كانَ أشبهَ به منك إذ كان صحيحًا، قال: فإنّي أنا هو، وكان له أندران[23]: أندر القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلمّا كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتّى فاض، وأفرغت الأخرى على أندرِ الشعير الورق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه الذهبي[24].
فانظروا عبادَ الله، وانظروا ـ أيّها المرضى ـ إلى أيّوب وصبره، فلقد صدقتِ الحكمة ولقد صدق قائلها: الصبرُ صبرُ أيّوب، ثماني عشرة سنة وهو يتقلّب في مرضه لتكونَ عاقبة صبره يسرًا، وكثيرًا ما تكون الآلام طهورًا يسوقه الله بحكمتِه إلى المؤمنين الصّادقين لينزعَ منهم ما يستهوِي ألبابَهم مِن متاعِ الدنيا، فلا يطول انخداعُهم بها أو ركونهم إليها، ورُبّ ضارّة نافعة، بل كم من مِحنة محويّة في طيِّها مِنَح ورحماتٌ مطويّة.
اللهمّ إنّا نسألك العفوَ والعافية والمعافاةَ الدائمةَ في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ ثمّةَ أمورًا يجب أن يعرفَها المرضى.
فمنها البشرَى لكلّ مريض أعاقه مرضُه عن القيام بالسّنن والنوافل التي كان يواظِب عليها إبّان صحّته بأنّها مكتوبة له لا يضيع أجرُها، فقد قال رسول الله: ((إذا مرض العبد أو سافر كتِب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري[25].(4/24)
كما ينبغي التنبّه إلى ما يقع فيه بعضُ المصابين ببعضِ الأمراضِ لا سيّما النفسية منها من العلاج بالمعازف والغِناء الذي حرّمه الله ورسوله، فإنّ شفاء الأمّة لم يكن قطّ فيما حرّمه الله عليها، ومعلومٌ أنّ الأدوية ثلاثة: دواء مشروع كالرّقية والعسل وزمزم ونحو ذلك، ودواء مباح وهو ما لم يحرّمه الشارع ولم يأمر به، وأدوية محرّمة لا يجوز التداوي بها، وإنّ لكل داء دواءً، علمه من علمه وجهله من جهله.
ثمّ ليعلم المرضى أنّه لا ينبغي التهاونُ بالصلاة حالَ المرض، فيجب أن تصلَّى في وقتها إن استطاع، فإن لم يستطِع جمع بين الظهر والعصرِ وبين المغرب والعشاء رخصةً من الشارع الحكيم. كما يجِب عليه أن يتطهّر للصلاة التطهّرَ الشرعي، فإن لم يستطع فإنّه يتيمّم، فإن لم يستطع فإنّه يصلّي على حاله، ولا يدع الصلاة تفوت عن وقتها؛ لأنّ الله يقول: فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، ويقول - سبحانه -: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 233].
ثمّ ليعلمِ المرضى أنّ الأنين والتوجّع له حالتان: الأولى أنين شكوى فيكرَه، والثانية أنينُ استراحة وتفريج فإنّه لا يكره، بذلك قال ابن القيّم وغيره من المحقّقين.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأذكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عزّ من قائل عليم: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا ) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد. اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين...
---------------
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/25) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/629) لابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة.
[2] سنن أبي داود: كتاب السنة (4700) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا الطيالسي (577)، وأحمد (5/317)، والترمذي في التفسير (3319) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وهو في صحيح سنن أبي داود (3933).
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/264)، وأسلم بن سهل في تاريخ واسط (ص90)، وأبو نعيم في الحلية (4/289).
[4] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2999) من حديث صهيب - رضي الله عنه -.
[5] شفاء العليل (ص250).
[6] مسند أحمد (3/316) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، وأخرجه أيضا أبو يعلى (1892)، والبيهقي في الشعب (9967)، وصححه ابن حبان (2935)، والحاكم (1280)، وقال المنذري في الترغيب (4/153) والهيثمي في المجمع (2/306): "رواة أحمد رواة الصحيح"، وهو في صحيح الترغيب (3442).
[7] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5647، 5648، 5660، 5661، 5667)، صحيح مسلم: كتاب البر (2571) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.
[8] مسند أحمد (3/23) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (7489)، وأبو يعلى (995)، والبيهقي في الشعب (9971)، وصححه ابن حبان (2928)، والحاكم (7854)، والحافظ في الإصابة (1/27)، وقال الهيثمي في المجمع (2/302): "رجاله ثقات"، وهو في صحيح الترغيب (3433).
[9] مسند أحمد (2/440)، سنن ابن ماجه: كتاب الطب (3470) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (2/440)، والترمذي في الطب (2088)، والطبراني في الأوسط (10)، وأبو نعيم في الحلية (6/86)، والبيهقي في الكبرى (3/381)، وصححه الحاكم (1277)، وهو في السلسلة الصحيحة (557).
[10] أي: يضجر ويقلق.
[11] صحيح مسلم: كتاب البر (2575) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -
[12] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجه في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849) من حديث أبي بكر - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا الطيالسي (5)، وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558)، والبزار (75)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (1938)، والضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3104).
[13] أخرجه هناد في الزهد (1/254)، وأبو نعيم في الحلية (2/200)، والبيهقي في الشعب (4/105).
[14] مجموع الفتاوى (10/124).
[15] أي: أحمق.
[16] أخرجه هناد في الزهد (1/247)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/135).
[17] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (473).
[18] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/179)، والبيهقي في الشعب (9978) بنحوه.
[19] أي: أذية.
[20] أي: فترته وكسله وغفلته.
[21] أي: يضطرب.
[22] أي: على استعجال.
[23] الأندر هو البيدر: المكان الذي توضع فيه الحنطة.(4/25)
[24] أخرجه ابن حبان (2898)، والحاكم (4115)، وكذا أبو يعلى (3617)، والطبري في تفسيره (23/167)، وأبو نعيم في الحلية (3/374-375) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع"، وصححه الضياء في المختارة (2616، 2617)، وقال الهيثمي في المجمع (8/208): "رواه أبو يعلى والبزار ورجال البزار رجال الصحيح".
[25] صحيح البخاري:كتاب الجهاد (2996) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -.
7/8/1424
http://www.alminbar.net المصدر:
==============
من حكمة الله تعالى ابتلاء العباد بالمصائب والفتن ، منها الزلازل (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى كافة إخواني المسلمين وفقني الله وإياهم لفعل ما يرضيه وجنبني وإياهم أسباب سخطه وعقابه ، آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فلقد أنعم الله علينا معشر المسلمين بنعم كثيرة وخيرات وفيرة أهمها وأعظمها نعمة الإسلام تلكم النعمة الكبرى التي لا يعادلها شيء ، من عقلها وشكرها واستقام عليها قولا وعملا فاز بسعادة الدنيا والآخرة يقول الله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ويقول سبحانه وتعالى : وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ فالواجب على الجميع شكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم والحذر من عدم الشكر ، قال تعالى ممتنا على عباده : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فشكر الله على نعمه جملة وتفصيلا قيد لها ووسيلة لدوامها وسبب للمزيد منها قال الله تعالى : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وقال تعالى : بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وقال تعالى : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ وقال تعالى : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يدعو بهذا الدعاء في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وبشكر الله على نعمه واستعمالها فيما يرضيه تستقيم الأمور وتقل الشرور .
وإن من خير ما تحلى به أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم من الصفات الفاضلة هو شكرهم للنعمة وطلبهم التوفيق لذلك ، قال الله تعالى عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وقال مثنيا على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام : إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا
مقال صدر من مكتب سماحته برقم 91 في 14/3/1402هـ
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 9 / ص 126)(4/26)
ومن علامات شكر النعمة استعمالها في طاعة الله سبحانه وتعالى وعدم الاستعانة بها على شيء من معاصيه ، وكذا التحدث بها على وجه الاعتراف بها لله والثناء عليه ، لا تطاولا وفخرا على من حرمها ، ولا رياء وسمعة ، وعلى العكس من ذلك كفران النعمة وعدم شكرها فهو نكران للجميل وجحد لفضل المنعم وعامل من عوامل زوالها عمن أنعم الله بها عليه وهو ظلم للنفس يجر عليها أسوأ العواقب قال الله سبحانه وتعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أي دنسها بالمعاصي ، وبتقوى الله سبحانه وتعالى وطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه تحصل الخيرات وتندفع الشرور والمكروهات وتدوم النعم ، قال الله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وقال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه يختبر عباده فيبتليهم بالخير تارة وبالشر أخرى فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم وتعلقا بالله ولجوءا إليه سبحانه وتعالى ويصبرون على ما قدره الله وقضاه ليتضاعف لهم الأجر والثواب من الله وليخافوا من سوء عاقبة الذنوب فيكفوا عنها ، قال الله سبحانه وتعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وقال سبحانه وتعالى : الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ وقال تعالى : وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وقال تعالى : وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وكل هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى فيها أنه لا بد أن يبتلي عباده ويمتحنهم كما فعل بالذين من قبلهم من الأمم فإذا صبروا على هذا الابتلاء وأنابوا إلى الله ورجعوا إليه في كل ما يصيبهم عند ذلك يثيبهم الله رضاه ومغفرته ويسكنهم جنته ويعوضهم خيرا مما فاتهم ، وما يحصل في هذا الكون من آيات تهز المشاعر والأبدان كالصواعق والرياح الشديدة والفيضانات المهلكة للحرث والنسل والزلازل وما يسقط بسببها من شامخ البنيان وكبار الشجر وما يهلك بسببها من الأنفس والأموال وما يقع في بعض الأماكن من البراكين التي تتسبب في هلاك ما حولها ودماره وما يقع من خسوف وكسوف في الشمس والقمر ونحو ذلك مما يبتلي الله به عباده هو تخويف منه سبحانه وتعالى وتحذير لعباده من التمادي في الطغيان وحث لهم على الرجوع والإنابة إليه واختبار لمدى صبرهم على قضاء الله وقدره ولعذاب الآخرة أكبر ولأمر الله أعظم .(4/27)
ولما كذبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر الله نبيه أنه قد أهلك الأمم المكذبة للأنبياء والمرسلين السابقين عليه في قوله تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ وأنزل بعدها قوله تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله ويراقبوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وإذا ما حلت بهم نازلة من النوازل فعليهم أن ينيبوا إلى الله ويرجعوا إليه ويفتشوا في أنفسهم عن أسباب ما حصل لأن الله يقول : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وعليهم أن يتوبوا إلى الله مما حصل منهم من نقص في الطاعات أو اقتراف للسيئات فإن التوبة من أسباب رفع المصائب ، وعليهم أن يصبروا ويحتسبوا أجر ما حصل لهم من مصائب عند الله قال تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وقال تعالى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ المعنى من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه لليمين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويؤمن أن الله سيعوضه عما فاته في الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا ، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه ، وكون بعض الحقائق قد تبين أن شيئا من الكسوف أو الخسوف وما أشبههما يعرف بالحساب أو ببعض الأمارات قد يحصل ، فهذا لا ينافي قدرة الله سبحانه وتعالى وتخويف عباده فهو يوقعها متى شاء ، قال الله تعالى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وحينما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بأصحابه صلاة الكسوف ، خطب فيهم خطبة بليغة أخبرهم فيها أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يرسلهما يخوف بهما عباده ، وأمرهم بالصلاة والصدقة والتكبير والذكر والاستغفار والعتق ، وقال في خطبته : يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ويا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا الحديث ، وإن واقع أكثر المسلمين اليوم يدل على استخفافهم بحق الله وما يجب من طاعته وتقواه والمتأمل يسمع ويرى كثيرا من العقوبات للأمم والشعوب ، تارة بالفيضانات وتارة بالأعاصير وتارة بالهزات الأرضية وتارة بالمجاعات وتارة بالحروب الطاحنة التي تأكل الرطب واليابس ، كما بين سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بعض أنواع العقوبات التي أنزلها بالعاصين والمنحرفين عن الصراط المستقيم من الأمم السابقة المكذبين لرسلهم ليتعظ الناس ويحذروا أعمالهم ، قال تعالى : فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وإن للمعاصي والذنوب من الآثار القبيحة المضرة بالقلب والبدن والمجتمع والمسببة لغضب الله وعقابه في الدنيا والآخرة ما لا يعلم تفاصيله إلا الله تعالى ، فهي تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في الماء والهواء والثمار والمساكن ، قال تعالى : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقال تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وإن فيما يقع من هذه الكوارث عظة وعبرة ، والسعيد من وعظ بغيره ، وبالجملة فإن جميع الشرور والعقوبات التي يتعرض لها العباد في الدنيا والآخرة أسبابها الذنوب والمعاصي ، وإن من علامات قساوة القلوب وطمسها والعياذ بالله أن يسمع الناس قوارع الآيات وزواجر العبر والعظات التي تخشع لها الجبال لو عقلت ثم يستمرون على طغيانهم ومعاصيهم مغترين بإمهال ربهم لهم عاكفين على اتباع أهوائهم وشهواتهم غير عابئين بوعيد ولا منصاعين لتهديد قال تعالى : وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ كما أن الاستمرار على معاصي الله مع حدوث(4/28)
بعض العقوبات عليها دليل على ضعف الإيمان أو عدمه ، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وقال تعالى : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ وقال تعالى : كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أيها الإخوة في الله لقد حدث في الأيام القريبة الماضية حدث عظيم فيه عظة وعبرة لمن اعتبر ومن واجب المؤمنين أن يعتبروا بما يحدث في هذا الكون قال تعالى : فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ما حدث هو ما سمعنا عنه في الإذاعة وقرأنا عنه في الصحف والمجلات وما شاهده الناس على شاشة التلفاز وتحدث به القريب والبعيد ذلك هو ما تعرض له اليمن الشمالي من الزلازل والهزات التي اجتاحت كثيرا من مدنه وقراه ، وما نتج عن ذلك من ذهاب كثير من الأنفس والأموال والممتلكات وخراب الكثير من المساكن وجرح الكثير وبقاء أسر كثيرة فاقدة أموالها ومساكنها .
وأبناءها وأزواجها ، فترمل الكثير من النساء وتيتم الكثير من الأطفال وكل هذا حصل في وقت قصير وهو دليل على عظمة الله وقدرته ، وأن العباد مهما تمكنوا في هذه الدنيا وكانت لهم قدرة وقوة وعظمة ضعفاء أمام قدرة الله تبارك وتعالى . .
وإن من الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا العظة والعبرة مما حصل وأن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويحذروا أسباب غضبه ونقمته ، وندعو الله لموتى إخواننا اليمنيين بالمغفرة والرحمة ولأحيائهم بالسكينة وحسن العزاء وأن يجعل الله ما حصل لهم مكفرا لسيئاتهم ورافعا لدرجاتهم وموقظا لقلوب الغافلين منا ومنهم ، كما يجب علينا أن نواسيهم بالتعاون معهم والعطف عليهم ببذل ما ينفعهم من أموالنا إحسانا إليهم وصدقة عليهم جبرا لمصيبتهم وتخفيفا من عظمها عليهم ، قال تعالى : وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وقال تعالى : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وقال سبحانه : وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وقال صلى الله عليه وسلم : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه رواه مسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته وقال صلى الله عليه وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وقال صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى متفق عليه ، فعلينا جميعا المبادرة إلى مد يد العون لإخواننا في اليمن وبذل ما نستطيع ليتحقق معنى الأخوة الإسلامية التي أشار إليها الرسول في هذه الأحاديث الصحيحة ، ولنحصل على الأجر العظيم الذي وعد الله به المنفقين والمحسنين ، وفق الله المسلمين عموما وإخواننا في اليمن خصوصا للصبر والاحتساب ، وضاعف لنا ولهم الأجر والثواب ، وأنزل على المصابين السكينة والطمأنينة وحسن العزاء ، ومن على الجميع بالتوبة النصوح والاستقامة على الحق والحذر من أسباب غضب الله وعقابه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
=============
الابتلاء
{قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ. وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}(4/29)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اليوم وبعد أن أقيمت صلاة العشاء في المسجد الذي بجوار منزلي، إذ بشاب في أوائل العشرينيات من عمره يمشي عن طريق (عكازين) حيث أن قدمه اليسرى مبتورة من أعلاها، ووضع العكازين في زاوية من زوايا المسجد، ثم جاء ووقف بجواري في الصف، وحين كنا نسجد أو نرفع من السجود الثاني إلى القيام، كان هذا الشاب تقريباً يقفز لكي يستطيع أن يسجد، وكذلك يقفز لكي يستطيع أن يهب واقفاً مرة أخرى، وطوال فترة وقوفه كان معتمداً على قدمه اليمنى فقط، ولم يجلس قط رغم أن الشرع أباح له هذا، وكان يترنّح يميناً ويساراً بين الفينة والفينة، لكي يحافظ على اتّزانه. لقد شغلني صبر هذا الشاب، وإصراره على إتمام الصلاة دون أن يثقل على أحد من المصلين، أو حتى يطلب المعونة من أحد، ولو فعل لوجد الكثير ممن تتهافت نفوسهم لمساعدته.
بعد الصلاة، لم أتمالك نفسي، فسلّمت عليه، والتزمته وقبلته، بل وبكيت..لست وحدي وإنما كل من رأوه بكوا. كذلك لقد شعرت بمشاعر مختلطة من الشفقة والفخر والخجل؛ لقد أشفقت عليه، وعلى حرصه على الصلاة، وعلى إتمامها وكأنه سليم معافى، دون أن يستعين بمقعد أو أن يجلس على الأرض مثلاً، عجبت من حرصه على الوقوف في الصلاة، وهو المعذور المريض، وغيره من الأصحاء تجدهم واقفين أيضاً ولكن في طوابير السينمات والمسارح، وإن قلت لأحدهم تعال إلى المسجد وصلِّ لله وقم له خمس دقائق فقط، لتركك وولّى عنك مدبراً!!
وشعرت بالفخر به، فهو مفخرة لكل مسلم.. كم ديننا عظيم، وإنما تنتقل عظمة هذا الدين لمن يلتزم به، وشعرت بالخجل من نفسي، فنحن لو أصابنا خدش بسيط في أقدامنا لحنقنا، ولسخطنا ولتأففنا، ولو حاول أحدنا أن يقف على قدم واحدة لمدة خمس دقائق لما استطاع ذلك، فما بالك بمن يقيم كل صلاة على هذا الحال؟؟ لقد نظرت في عيني هذا الشاب، ولم أجد إلا الرضى بقضاء الله، والرضوخ لحكمه - سبحانه وتعالى -. وعندما تحدثت إليه، قال أن ذلك ابتلاء، وأنه لفخر لي أن أُبتلى من الله - تعالى -، وأن ذلك الابتلاء كفارة للذنوب، فأنا في نعمة ولست في نقمة، فقلت له: صدقت، ولو أدرك الناس المعنى الذي أنعم الله عليك بفهمه، لتغيّر حال المسلمين..
إن هذا الإنسان مثال مشرف بحق، يستحق أن نقف عنده، ونتدبّر لما فيه من عبر وصور فلنحمد الله جميعا على نعمة الصحة. وأنت يا من ابتلاك الله بأي بلاء، سواء في نفسك، أو في مالك، أو في زوجتك، أو في أولادك.. يا من ابتلتِ بعدم الإنجاب، أو بفرقة الأحباب، أو فقد الأصحاب، فلتصبر ولتصبري؛ فإن الابتلاء هي سنّة الله في خلقه، فلقد قال الله - تعالى -في سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، وقال الله - تعالى -في مطلع سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}، فتلك سنّة الله حتى يميز الخبيث من الطيب، الصالح من الطالح، الباكي من المتباكي..
فلنرجع إلى الله، ولنصبر، ولنعتبر..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
10-05-2005
http://www.asunnah.net المصدر:
===============
الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
فلا ريب أنّ الأمة تمر بظروف عصيبة مؤلمة، وتعاني ويلات فتن خطيرة في دينها وعقيدتها وأخلاقها، وتواجه تحدياً حضارياً عالمياً بل حرباً صليبية صهيونية تستهدف في كيانها ووجودها.
ومن الخطأ الجسيم أن نتغافل أصل الصراع بين المسلمين وأعدائهم من يهود ونصارى، وأنه في أصله صراع عقدي ديني سيما وقد صرّح العدو نفسه بدوافع الصراع ومنطلقات الحرب في أكثر من مناسبة.
ومن الخطأ البيِّن كذلك أن يتناول هذه القضية الخطيرة بشيء من الارتجالية والاستعجال أو بدوافع من العاطفة والحماس غير المنضبط.
لا بد أن نعترف أن ما يمارس اليهود والصليبيون كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها هو استفزاز خطير لمشاعر الأمة المسلمة بعامة ولشبابها الغيور على وجه الخصوص.
ولا يمكن أن نتصور بقاء الشباب المسلم مكتوفي الأيدي إلى الأبد أمام تلك الممارسات الدموية الظالمة وتلك الحرب "الصهيوصليبية" فمن حقه أن يغار، بل من واجبه أن يغار لدينه ودماء إخوانه، بل من وأحق أن يهتم لنصرة دينه، وإعلاء كلمة لله بكل وسيلة مشروعة أسُّها ورأسها الجهاد في سبيل...بيد أن الجهاد في سبيل الله قد لا يتيسر لكل أحد سيما والأبواب مؤصدة والموانع كثيرة.
فما العمل إذاً والحالة هذه؟ هل نكتفي بسبّ اليهود وشتم النصارى؟ أم يكون الحل ببث الأحزان، وسكب العبرات، وندب الزمان؟!.
إنَّ الحلَّ العملي الواقعي لمشكلاتنا وصراعاتنا مع أعدائنا يجب أن يتضمن في نظري الأمور التالية:(4/30)
(1) العودة الجماعية الجادة إلى الدين عودة صادقة، وتحكيم شريعته - تعالى -تحيكماً فعلياً في سائر الأقطار الإسلامية بلا مساومة أو مزايدة، فالدساتير الوضعية وإقصاء الوحيين الشريفين هي أعظم النوازل وأكبر المصائب التي آلت بالمسلمين إلى ما ترى وهي التي جرأت العدو على استباحة أرضهم والعبث بقيمهم وإملاء مشروعه الحضاري عليهم.
(2) لا بد أن نعترف بوجود مظاهر كثيرة تصادم الإسلام في جوهره وروحه، وفي أخلاقه وقيمه في معظم ديار المسلمين، فبنوك الربا وحانات الخمور وملاهي الليل، ودور الفاحشة تعمر كثيراً من بلاد الإسلام، وهذه المظاهر الآثمة لا بد أن تظهر منها بلاد المسلمين وإلا من أين سينزل النصر؟ قال - سبحانه -: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
(3) إنَّ على علماء الأمة الصادقين كسر حاجز النفرة بينهم وبين شباب الأمة على وجه الخصوص واسترجاع ثقتهم المفقودة من خلال ممارسة دور إيجابي فاعل في قيادة الصحوة وترشيدها، ومن خلال صدعهم بكلمة الحق وتحذير أمتهم من الويلات المحدقة بها وتنفير مجتمعاتهم من كل المظاهر المنافية والمصادمة لشريعة الله - سبحانه -.
إن على العلماء دوراً، وأي دور، في احتضان الشباب والرفق بهم، وتهدئة روعهم، وتلمس احتياجاتهم العلمية والتربوية وإشباعها بالعلم الصحيح والتربية الجادة مصطحبين تقوى الله فيما يأتون ويذرون ويفتون ويوجهون، وبغير هذا سيبحث الشباب عمن يستقل حماسهم، ويستوعب قدراتهم في غير إطارها المشروع.
(4) إن على الجميع أن يدركوا أن الجماهير المسلمة لا ترضى أن تُمَسَّ ثوابتها أو تهمش أصولها، فالجهاد في سبيل ذِروة سنام الإسلام، والبراءة من الكفار أصل عظيم من أصول الملة الإبراهيمية والمحمدية، فلا مجال لتمييع هذه الأصول وإلا كانت ردة الفعل كافية في تشتيت جهود الأمة وبعثرة أوراقها وإغراقها في دوامة جديدة من الصراع الذاتي، يعيقها عن مسيرة بناء نفسها، إعداد كوادرها للبناء الحضاري بكافة مجالاته.
(5) علينا جميعاً أن نسعى جاهدين لوحدة الصف وتأجيل خلافاتنا الهامشية والفرعية التي لا تمس الأصول والثوابت، لنتأهب لمواجهة العدو بكل قوة متاحة، وعلينا ألا ننشغل عن إعداد العُدة الجادة لمواجهة أي أخطار محدقة، وأن نستوعب أن أقوياء العالم لا يرحمون الضعفاء، وأن المراهنة على جمعيات حقوق الإنسان والهيئات الدولية مجازفة ذات ثمرات مرة لا زلنا نتجرع غصصها في أفغانستان والشيشان وفلسطين والعراق.
أيها الشباب: إننا نثمن لكم غيرتكم ونخوتكم الإسلامية الشريفة، ونقدّر أنفتكم من تلك الأوضاع النشاز التي تعيشها مجتمعات المسلمين، كما نحيّ شجاعتكم ورغبتكم بالبذل والعطاء والثأر لدماء إخوانكم في البلاد الإسلامية المحتلة، بَيْدَ أنَّ ثمة موانع كثيرة قد تحول بينكم وبين الجهاد في سبيل الله لا ذنب لكم فيها.
فنصيحتي ألا نبقى أسرى الأحزان، وبث الأشجان؛ بل علينا أن نبذل الوسع والطاقة في تعلم العلم الشرعي حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وكيف نحددُّ مسارنا الصحيح وسط هذه البحار المائجة من الفتن.
ثانياً: وبعد العلم الشرعي يأتي واجب الدعوة إلى الله، فإنَّ ثمة جموعاً هائلة من أبناء الأمة يعيشون حياة اللهو والعبث، وتتخطفهم الأهواء والسبل، فمن يستنفذ هؤلاء ويعيد لهم هويتهم الإسلامية؟ ومن يبصرهم بدينهم، ويعرفهم بالأخطار المحدقة بهم؟ إن لم تقوموا بالمهمة أنتم أيها الشباب على علم وبصيرة وبتوجيه من علماء الأمة العالمين؟
(3) علينا كذلك أخيراً أن نثق بوعد الله تعالى- وأن هذه الأمة منصورة بحول الله وقوته مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما كادوا لها وبكروا بها شريطة أن تنصر ربها، وتعظم سنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - مع الأخذ بالأسباب المادية اللازمة والممكنة وعلى رأسها إعداد الجيوش المسلمة المجاهدة المتسلحة بسلاح الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه المتطلع للشهادة في سبيله - تعالى -فضلاً عن أخذ زمام المبادرة في النهضة الاقتصادية والعمرانية والثقافية وغيرها بعيداً عن تأثير الكفار واستغلالهم؛ قال الله جل ذكره: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، وقال - سبحانه -: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
14/9/1425 هـ
http://www.islamlight.net المصدر:
=============
الابتلاء بالمرض سنة ماضية
أبو عبد العزيز سعود الزمانان
حكم المرض وفوائده:
1. استخراج عبودية الضراّء وهي الصبر:
- إذا كان المرء مؤمناً حقاً فإن كل أمره خير، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراّء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراّء صبر فكان خيراً له " [1]
2. تكفير الذنوب والسيئات:
- مرضك أيها المريض سبب في تكفير خطاياك التي اقترفتها بقلبك وسمعك وبصرك ولسانك، وسائر جوارحك.
- فإن المرض قد يكون عقوبة على ذنب وقع من العبد، كما قال - تعالى - {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.(4/31)
- يقول المعصوم - صلى الله عليه وسلم -: " ما يصيب المؤمن من وَصب، ولا نصب، ولا سقَم، ولا حزن حتى الهمّ يهمه، إلا كفر الله به من سيئاته " [2].
3. كتابة الحسنات ورفع الدرجات:
- قد يكون للعبد منزلة عظيمة عند الله - سبحانه وتعالى-، لكن العبد لم يكن له من العمل ما يبلغه إياها، فيبتليه الله بالمرض وبما يكره، حتى يكون أهلاً لتلك المنزلة ويصل إليها.
- قال - عليه الصلاة والسلام -: " إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبّره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله - تعالى - " [3]
4. سبب في دخول الجنة:
- قال - صلى الله عليه وسلم -: " يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرِّضت بالمقاريض " صحيح الترمذي للألباني 2/287.
5. النجاة من النار:
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً ومعه أبو هريرة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أبشر فإن الله - عز وجل - يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة " السلسلة الصحيحة للألباني 557.
6. ردّ العبد إلى ربه وتذكيره بمعصيته وإيقاظه من غفلته:
- من فوائد المرض أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه، ويذكره بمولاه بعد أن كان غافلاً عنه، ويكفه عن معصيته بعد أن كان منهمكاً فيها.
7. البلاء يشتد بالمؤمنين بحسب إيمانهم:
- قال - عليه الصلاة والسلام -: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" حسنه الألباني في صحيح الترمذي 2/286.
- * بشرى للمريض:
- ما كان يعمله المريض من الطاعات ومنعه المرض من فعله فهو مكتوب له، ويجري له أجره طالما أن المرض يمنعه منه.
- قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً " رواه البخاري 2996.
- * الواجب على المريض:
- الواجب على المريض تجاه ما أصابه من مرض هو أن يصبر على هذا البلاء، فإن ذلك عبودية الضراء.
- والصبر يتحقق بثلاثة أمور:
1. حبس النفس عن الجزع والسخط
2. وحبس اللسان عن الشكوى للخلق.
3. وحبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر. [4]
- * أسباب الصبر على المرض:
- 1. العلم بأن المرض مقدر لك من عند الله، لم يجر عليك من غير قبل الله.
- قال - تعالى - {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، وقال - تعالى - {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}
- قال - عليه الصلاة والسلام -: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " مسلم 2653.
- 2. أن تتيقن أن الله أرحم بك من نفسك ومن الناس أجمعين:
- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيٌ، فإذا امرأة من السبي وجدت صبياً فأخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها " البخاري 5999.
- 3. أن تعلم أن الله اختار لك المرض، ورضيه لك والله أعلم بمصحتك من نفسك:
- إن الله هو الحكيم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فما أصابك هو عين الحكمة كما أنه عين الرحمة.
- 4. أن تعلم أن الله أراد بك خيراً في هذا المرض:
- قال - عليه الصلاة والسلام -: " من يرد الله به خيراً يصب منه "[5] أي يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها.
- 5. تذكر بأن الابتلاء بالمرض وغيره علامة على محبة الله للعبد:
- قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم " صحيح الترمذي للألباني 2/286.
- 6. أن يعلم المريض بأن هذه الدار فانية، وأن هناك داراً أعظم منها وأجل قدراً:
- فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
- قال - صلى الله عليه وسلم -: " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم: هل رأيت خيراً قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط "[6] الصبغة أي يغمس غمسة.
- 7. التسلي والتأسي بالنظر إلى من هو أشد منك بلاء وأعظم منك مرضاً:
- قال - عليه الصلاة والسلام -: " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " [7]
وأسأله - سبحانه - أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
------------------
[1] رواه مسلم (2999).
[2] البخاري 5641.
[3] صحيح أبي داود للألباني 2/597.
[4] عدة الصابرين لابن القيم ص 13.
[5] البخاري 5645
[6] مسلم 2807.(4/32)
[7] مسلم 2963.
http://saaid.net المصدر:
============
الداعية بين الابتلاء والتمحيص والفتنة
د• عدنان علي رضا النحوي
الداعية المسلم حامل رسالة الله إلى الناس كافة، حامل أشرف رسالة، يقوم بأكرم مهمة، ويمضي على أعز نهج، على صراط مستقيم مشرق بالحق، جلي الدرب، قوي الثقة بالله، وحسبه شرفاً أنه يقوم بتكليف من الله - سبحانه وتعالى-، وتكليف لكل مسلم قادر، لا يعذر إلا من عذره الله،
وحسبه كذلك أنه يحمل دعوة ورسالة هي حاجة كل إنسان، وهي حاجة البشرية كلها على مدى العصور والأجيال، إنها دعوة الناس إلى الله ورسوله، إلى الإيمان والتوحيد، دعوة وبلاغ وبناء، وتعهُّد وتدريب وإعداد.
والداعية أول ما يدعو نفسه، من خلال التذكير المستمر، والمحاسبة الدائمة، ومجاهدة النفس حتى تستقيم على أمر الله، والشعائر والدعاء وتلاوة كتاب الله وتدارس منهاجه وتدبره، ثم الدعوة إلى الله ورسوله، دعوة الناس وتعهدهم حتى يستقيموا على أمر الله وينجوا من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة• هذه كلها تكاليف ربانية.
وحين يبلِّغ الداعية رسالة ربه إلى الناس استجابة لأمر الله، ووفاء بالأمانة التي يحملها، والخلافة التي جُعِلَتْ له، والعبادة التي أُمِرَ بها، فإن عليه أن يتعهد من يدعوه كما أمر الله، والدعوة والتعهد رفقة ومصاحبة ولقاء• إنها مدرسة تقوم على منهاج الله، تنطلق من مدرسة النبوة الخاتمة، لتظل ممتدة مع الدهر كله، إنها دعوة وبلاغ، وتعهد وبناء، وتدريب على الممارسة الإيمانية وإعداد، حتى تتدافع أجيال الإيمان تملأ العصور لتنقذ الناس وتخرجهم من الظلمات إلى النور، إلى مسيرة على الصراط المستقيم ممتد إلى الهدف الأكبر والأسمى لكل مؤمن صادق ـ الجنة والدار الآخرة ورضوان الله ـ على صراط مستقيم يجمع المؤمنين.
الدعوة إذن: بلاغ وتذكير، ومصاحبة ولقاء، وتربية وتعهد وبناء، وأهداف ربانية، تكليف من الله - سبحانه وتعالى-، مضت بها سنَّة النبوة الخاتمة ومدرستها الخالدة، وسيرة الصحابة والأئمة الأعلام.
وقضت سنَّة الله - سبحانه وتعالى- أن تكون الدنيا دار ابتلاء وتمحيص للناس بعامة وللمؤمنين بخاصة.
وأن يكون المؤمن أشد بلوى، والمؤمن الداعية الصادق أشد ابتلاء وتمحيصاً، حتى يظل الصف المؤمن نقياً من المنافقين والضعفاء، وحتى يحمي الله المؤمنين من الفتنة وأبوابها، وحتى ترتفع درجة المؤمن بذلك عند ربه.
(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) العنكبوت: 10.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل الكافر كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح يشتد البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما له خطيئة من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النارإنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليهما تركت بعد في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به) (رواه مسلم)(5).
وفي كتاب الله وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمثلة كثيرة من آيات وأحاديث تكشف أبواب الفتن ومسالك النفاق ودروب الشيطان ليحذرها المؤمن لا ليقع فيها.
لقد كان بين المؤمنين أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - منافقون، يسعون لدفع المؤمنين إلى الانحراف عن الصراط المستقيم، فرد الله كيدهم في نحورهم وأخزاهم، وقد عرف المؤمنون أساليبهم ومكائدهم، فحذروا منهم أشدَّ الحذر، حتى صار المنافق يعرف بسمات النفاق ولو لم يعرف اسمه: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) محمد: 30.
فكيف حالنا اليوم؟! وقد اختل الميزان بأيدي الناس، واضطربت المكاييل، وامتدت الفتن بكل أشكالها: حب السمعة والجاه، وطلب المركز ذي السلطة والنفوذ، والجري اللاهث وراء المال ووراء النساء.
لابد أن يصدق الميزان اليوم بأيدي المؤمنين، حتى لا تصب جهودهم في ساحة المنافقين أو أعداء الله وهم لا يشعرون• وقد يكتشفون ذلك بعد عشرات السنين، وفوات الفرصة ووقوع البلاء وغلبة الأعداء!.
فَلْنُغَيِّرْ ما بأنفسنا كلنا أيها المسلمون حتى ننجو من الفتنة والابتلاء، وحتى يغير الله حالنا إلى النصرة والعزة والتمكين.
____________
الهوامش
1 ـ الفتح الرباني: أحمد: 19/127، الترمذي: 37/56/2398، النسائي: في الكبرى الطب، ابن ماجه: الفتن ـ باب الصبر على البلاء.
2 ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته: (ط: 3) (رقم: 6382، 6383)• 3 ـ المصدر السابق: (رقم: 4292).
4 ـ مسلم: 48/26/274•
5 ـ مسلم: 53/5/2986•
http://muslema.com المصدر:
===============(4/33)
الابتلاء في حياة الدعاة (1- 2 )
د. أحمد بلوافي
1 - توطئة:
لله سنن في هذا الكون يجريها على واقع المجتمعات البشرية وحركة سيرها وتغيرها وتبدلها كما يجري قوانين ثابتة مثل الجاذبية في عالم الجمادات. هذا الأمر يؤكد لنا حقيقة بديهية نحن المسلمين وهي أن هذا الكون بعالميه المتحرك والجامد يسير وفق تدبير الحكيم العليم، الذي لم يخلق كل هذا من أجل العبث أو الترفيه وإنما من أجل غايات بينها في الوحي المنزل للبشر من خلال الرسل، وفي آفاق هذا الكون الفسيح.
لكن كيف ندرك هذه السنن وكيف نستنبطها لنهتدي بمعالمها؟ ندرك ذلك من خلال قصص المتقدمين وأخبارهم وسيرهم وخاصة صراع الأنبياء مع أهل الجاهلية والمبطلين من اليوم الذي أهبط فيه آدم - عليه السلام - إلى يوم الناس هذا، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -[1]: "والسّنة: هي العادة في الأشياء المتماثلة، و(سنة) هنا تجري على (سنه) هذا في الاشتقاق الأكبر، و(السنن) و (أسنان المشط) ونحو ذلك بلفظ (السنة) يدل على التماثل، فإنه - سبحانه وتعالى- إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم فإن ذلك لا ينقض ولا يتبدل ولا يتحول، بل هو - سبحانه - لا يفوت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل، كما أن من سننه التفريق بين المختلفين كما دل على ذلك القرآن، قال الله - تعالى -: [أفنجعل المسلمين كالمجرمين][القلم: 35] ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسننه لم يصح الاعتبار بها والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة" اهـ.
ويقول الدكتور محمد السلمي[2]: "والتاريخ بما يحتوي من الحوادث المتشابهة والمواقف المتماثلة يساعد على كشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات" اهـ.
ولهذا نجد أن القرآن الكريم أطال الحديث حول قصص الأنبياء والمرسلين، وخاصة في الفترة المكية فترة الاستضعاف التي مر بها المسلمون الأوائل، ليلفت نظرهم لهذه الحقائق حتى لا يستوحشوا الطريق، فيملوا ويتخلوا عن الدين الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخلال الحديث عن الوقائع التي مرت بهم نجد أن الله - سبحانه - و- تعالى - يذكر ذلك ويربطه بحوادث مشابهة وقعت لمن سبقهم، ليخلص بعد ذلك إلى القانون العام الذي يحكم الحدث الذي يعيشونه والأحداث التي عاشها من سبقهم، يقول عز من قائل: [قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين][آل عمران: 137]، ويقول جل ذكره: [وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيء، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً. أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة، وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً][فاطر: 42 44]. وفي سورة الأعراف بعد أن ذكر - سبحانه - كوكبه من المرسلين وما حدث بينهم وبين أقوامهم، فابتدأ الحديث بقوله: [والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً][الأعراف: 58]، وختم تلك الجولة بقوله: [وما أرسلنا في قرية من نذير إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذنهم بما كانوا يكسبون. أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً أو هم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبنهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون. تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين]الأعراف: [94 - 102].
إن إدراك هذا الأمر يمثل المفتاح الرئيس الذي سنلج من خلاله إلى موضوعنا المطروح للنقاش وبسط القول، وما سنذكره خلال ما تبقى لا يخرج عن هذا الإطار العام الذي عند العودة إلى كتاب الله ودراسته دراسة متأنية نستخلص منه تلك السنن والقوانين والأطر العامة التي تفسر لنا حركة سير المجتمعات البشرية ورقيها أو نزولها، نذكر من ذلك:
• الصراع بين الحق والباطل والتدافع بين الناس.
• تداول الأيام.
• العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين.
• أساس التغيير يبدأ من واقع الأنفس.
• عاقبة المكذبين بالإهلاك والدمار.
• الملأ يمثلون الخط الأول في التصدي لدعوة الأنبياء والمصلحين.
• الابتلاء أمر لازم.
2 بيان معنى أو حقيقة الابتلاء وأقسامه.(4/34)
جاء في لسان العرب لابن منظور[3]: بلوت الرجل بلواً وبلاءً وابتليته، اختبرته، وبلاه يبلوه بلواً إذا جربه واختبره، وابتلاه الله: امتحنه والبلاء يكون في الخير والشر. اهـ.
هذه المعاني اللغوية التي تدور حولها حقيقة الابتلاء وهي: الاختبار، والامتحان، والتجريب، هي كذلك المعاني التي لا يخرج عنها المفهوم الشرعي للابتلاء من كونه امتحاناً واختباراً للناس لصقل معادنهم بشكل عام، وللذين آمنوا ويدعون الناس إلى طريق الهدى والخير بشكل أخص، وإن كانت نتائج ذلك الامتحان والاختبار وصعوبته تختلف باختلاف المنهج والطريق الذي يختاره كل أحد، إلا أن الحقيقة التي لا مفر منها هي أن كل إنسان مدرك نصيبه من ذلك لا محالة. يقول ابن القيم - رحمه الله -[4]: "فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين، إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما ألا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا، امتحنه ربه، وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا، فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه، فإنه إنما يطوي المراحل في يديه" اهـ. وقد ساق ابن القيم هذا الكلام بعد ذكره للآيات من 1 إلى 11 في سورة العنكبوت.
وعلى ضوء ما تقدم فإنه يمكن تقسيم أنواع الابتلاء إلى ثلاثة:
1 ابتلاء عام، يشمل جميع البشر مؤمنهم وكافرهم، قال - تعالى -: [إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه[[الإنسان: 2]، وقال عز من قائل: ]فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه][الفجر: 15]، ]ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون[[الأنبياء: 35].
2 ابتلاء خاص بالمؤمن، [أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين]، [ليبلوكم أيكم أحسن عملاً[، ]وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً].
3 ابتلاء أشد خصوصية، وهو يتعلق بالذين يدعون الناس إلى اتباع الوحي الذي أنزله لهداية البشر، وهو ما وضحه النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل: "أي الناس أشد بلاءً؟، فقال: " الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" الحديث[5]. وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه[6] عن العياض بن حمار رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذ يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك" اهـ.
وعندما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع خديجة - رضي الله عنها - إلى ورقة بن نوفل بعد أن جاءه الوحي، قال له ورقة: "هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، ياليتني كنت فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك!
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو مخرجي هم؟ ".
قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" اهـ.
قال - سبحانه -: [ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين][آل عمران: 152]، وقال جل ثناؤه: [هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً][الأحزاب: 11].
وقبل أن أختم هذه النقطة أود التنبيه إلى أن لفظة الابتلاء قد يعبر عنها بمدلولات أخرى مثل الفتنة، وهذا اللفظ الأخير معناه أشمل من الابتلاء [7]، جاء في لسان العرب[8]: جماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميز الردئ من الجيد، وجاء فيه عن ابن الأعرابي: الفتنة الاختبار، والفتنة المحنة، والفتنة المال، والفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة الإحراق بالنار، وقيل الفتنة في التأويل الظلم، يقال: فلان مفتون يطلب الدنيا قد غلا في طلبها.
3 - الابتلاء في حياة الأنبياء والمرسلين ومن سار على نهجهم.
• قال - تعالى -: [وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون][الأنعام: 113].
• [وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً][الفرقان: 31].
• [وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا][إبراهيم: 16].
• [وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً][الإسراء: 76 77].
• [وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه][غافر: 5].
• [ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا][الأنعام: 34].
• [فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك][آل عمران: 184].
• [وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك][فاطر: 4].
• [إن كل إلا كذب الرسل][ص: 14].(4/35)
• [قل ما كنت بدعاً من الرسل][الأحقاف: 9]، [ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك][فصلت: 43].
• [ولو يشاء لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض][محمد: 4].
ما سبق ذكره من آيات بينات يبين أن كل من جاء بدعوة إصلاحية تجديدية توضح فساد الواقع الذي عليه المجتمع وتبين طريق الخلاص، يتعرض لعقبات كثيرة تمثل مواد الامتحان التي يبتلى بها أثناء قيامه بمهمة الإصلاح هذه.
وإذن فلا مفر ولا محيص من الابتلاء لصاحب كل دعوة إصلاح، بل ولكل صاحب دعوة جادة تحاول تبيان العورات التي عليها القوم وخاصة المتنفذون، حتى وإن كان الداعية لم يشهر السلاح، ولم يدع إلى "قلب" نظام الحكم، أو عدم السمع والطاعة، بل بمجرد أن يشعر من بيده مقاليد الأمور أو حتى من اعتاد على أعراف وعادات معينة أن الرجل جاد في دعوته ومخلص لها، وأن الناس بدأت تتأثر بما يقول. فلينتبه لهذا الأمر الطيبون من الناس وإلى السموم التي ينفثها أعداء الدعاة عندما يقولوا: فلان تسرع، وفلان هيج الناس وغيرها من الأمور حتى يركن الناس إلى وضع لا يرضاه الله ولا رسوله، فليكن مقياسنا الشرع والشرع وحده، لا ما يردده المرجفون والمبطلون لبث الرعب والخوف للحيلولة بين الحق الذي عند الدعاة وبين قطاعات كبيرة من الناس. يقول ابن القيم - رحمه الله -[9]: "ولما صدع [رسول الله]، بأمر الله، وصرح لقومه بالدعوة، وناداهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذه سنة الله - عز وجل - في خلقه كما قال - تعالى -: [ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك][فصلت: 43]" اهـ. وقال العلياني - حفظه الله -[10]: "ابتلاء دعاة الحق من الرسل صلى الله عليهم وسلم، وأتباعهم أمر لازم لا محيص عنه، يدل على ذلك كتاب الله الكريم وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.. " اهـ.
ولهذا عندما سئل الشافعي - رحمه الله -: أيما أفضل للرجل، أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله عليهم أجمعين -، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبته" [11] فلا تمكين بدون ابتلاء، ولا إصلاح بدون أذى، ولا جنة بدون صعاب]أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب[[البقرة: 214].
ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - معلقاً على الحكم من إيراد قصص المتقدمين[12]: "وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم؛ فإنهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فيتيقن المرتاب، ويتوب المذنب، ويقوى إيمان المؤمنين، فبها يصح الاتساء بالأنبياء" اهـ.
-----------------
[1] فبهداهم اقتده للشيخ عبد العزيز الجليل، ص: 204.
[2] نفس المصدر، ص: 203-204.
[3] المجلد الرابع عشر، ص: 83-84.
[4] - زاد المعاد
[5] - إسناده حسن. انظر الفتنة وموقف المسلم منها للسحيباني، ص 40.
[6] ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، الشيخ سفر الحوالي [1/42].
[7] الفتنة وموقف المسلم منها في ضوء القرآن، عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني، ص 24.
[8] المجلد الثالث عشر، ص 317.
[9] - زاد المعاد، المجلد الثالث.
[10] أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص 94.
[11] - الفوائد لابن قيم، ص 269.
[12] - فبهداهم اقتده، ص 20.
جمادى الأولى - 1420 هـ - سبتمبر (أيلول) - 1999 م
http://www.alsunnah.org المصدر:
==============
محنة وابتلاء
هذه قصة وصلت لفريق الموقع، وتم الرد عليها، ونضعها هنا للفائدة والعبرة، بعد أن حذفنا منها ما يشير لصاحبتها.
نص الرسالة التي وصلتنا:
السلام عليكم..
لي مشكلة - وهى أنني تعرفت على شخص للزواج - تطورت العلاقة لتصبح علاقة غير مشروعة - أكتشف بعدها أنني لست عذراء، حيث أنني قد جرحت في الطفولة بجرح فض بكارتي - وللأسف خضت في شبابي في بعض العلاقات الآثمة، إنني لم أخبره بكل ذلك، لكنه اكتشف بنفسه مما جعل صورتي أمامه بالطبع غير مناسبة.
ولكن المشكلة أنه يحبني جداً ولا يستطيع الاستغناء عنى، مما جعل العلاقة تسير في طريق الحرام على مدى عام كامل، كما أنه شخص ليس بسهل - فأخاف اتخاذ موقف حاسم فيبدأ في الانتقام منى، أو التشهير بي، الأمر الذي يؤرقني كثيراً هذه الأيام هو أنني تبت إلى الله، وندمت وتحجبت، وبقلب خالص وصادق -، ولكنه لا يريد أن يتركني حيث إنه يحبني كثيراً، وفى نفس الوقت لا يستطيع قرار الزواج، وهو يتعذب كثيراً لذلك، وأنا أيضاً ولا نعرف ما العمل؟
اضطررت تحت ضغوط منه وإلحاح أن أعود أمارس معه العلاقة المحرمة مرات بعد قرار التوبة - وما زلت أصلى، وأدعو الله أن يزيح عنى هذه المحنة.. ولكن أرجع ثم أتوب، ثم ارجع ثم أتوب.. وهكذا.. فما العمل وما المخرج؟
وقد رد فريق مسلمة بالرد التالي:
الأخت المسلمة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:(4/36)
نود بداية أن نشد على يدك، ونحثك على الالتزام بتعاليم دينك، ونسأل الله أن يعصمك وييسر لك سبيل الرشاد إنه على كل شيء قدير.
مشكلتك هذه واضح أنه من بداياتها كان فيها نوع من التساهل، والذي جر ما بعده من تطورات، ومن الواضح أنك قد اقتنعت بأن هذا التصرف خاطئ وتسعين للانفكاك منه، وفي مثل هذه الحالة ننصحك بموقف حازم من هذه العلاقة، فإما علاقة في الحلال أو لا داعي لهذه العلاقة تماماًً، وسيعوضك الله خيراً منها، وخوفك من أن تستغل هذه العلاقة من قبل هذا الرجل ويهددك بالفضيحة، فينبغي أن لا يعيقك عن هذا الموقف الحازم، وإلا ستعيشين حياتك كلها تحت هذا الخوف، وربما تطور الأمر مستقبلاً تطورات أخطر بكثير، لذا لابد من إيقاف هذه العلاقة من اللحظة ودون تواني، والاستعانة بالله، والإكثار من ذكره، وقراءة القرآن، وصحبة الصالحات، وبإذن الله لن يقف في طريقك أي معوق من معوقات الشيطان، يقول الله - تعالى-: ((قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً ))، نسأل الله أن يجعل توكلنا وملاذنا عوننا منه سبحانه، وأن يكسر شيطاننا، ويأخذ بنواصينا للحق والخير.. اللهم آمين.
نسأل الله لنا ولها الثبات على الحق، اللهم آمين.
http://www.muslema.com المصدر:
==============
الابتلاء
محمد العبده
إن كان الله - سبحانه وتعالى - قد ابتلى بني إسرائيل بنهر ألاّ يشربوا منه إلا قليلاً، فقد ابتليت الأمة الإسلامية بأنهار، ولكنها أنهار من دماء سفكها المغول المتوحشون القادمون من الشرق.
كان بلاء عظيمًا حلَّ بالعاصمة بغداد، وكانت المدن القريبة تتوقع المصير نفسه، أو تدافع عن نفسها حتى الموت، وفي مدينة حران الواقعة في إقليم الجزيرة بين الشام والعراق كانت أسرة علمية مشهورة قد قررت ترك موطنها والهجرة إلى دمشق بعيدًا عن الزحف المغولي إنها أسرة آل تيمية التي وصلت دمشق عام 667هـ، وفي دمشق نشأ الطفل أحمد بن عبد الحليم بن تيمية وتعلم في مدارسها، وأخذ عن علمائها، وكان منذ صغره مشغوفًا بالعلم، ولا عجب في ذلك فوالده عبد الحليم من العلماء وكذلك جدُّه عبد السلام، وما إن بلغ ابن تيمية العشرين من عمره حتى أفتى ودرّس في المدرسة التي كان فيها والده، وفي سن الثلاثين أصبح عالمًا مشهورًا، ولم يكن من العلماء الذين يحصرون أنفسهم بالتدريس والكتب والتلامذة، ولكنه من النوع الذي يشغله هموم الأمة وواقع الناس وحل مشكلاتهم، كما يشغله محاربة الظلم والبدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقوم بنفسه بإزالة المنكرات ويساعده أصحاب له، فأحبته العامة ووثقوا به والتجؤوا إليه في المهمات الصعبة، وقد برز كزعيم للأمة في المواجهات مع التتار (أحفاد هولاكو وجنكيزخان)، فإن غاراتهم توالت على بلاد الشام، ومع أنه قد أسلم بعض ملوكهم الذين يحكمون إيران والعراق مثل السلطان أحمد بن هولاكو والسلطان محمود قازان الذي أسلم عام 694هـ ولكنه كان إسلامًا سطحيًا، فغاراتهم وعيثهم في الأرض فسادًا استمرت، ولم يغيروا في عاداتهم وتقاليدهم وتعظيمهم لجنكيزخان وللدستور الذي وضعه لهم والمسمى بـ (الياسا) وقد قابل ابن تيمية قازان هذا خارج أسوار دمشق، تكلم معه كلامًا شديدًا، وقال له: أبوك وجدك كانا كافرين ولم يفعلوا ما فعلت من إيذاء المسلمين، وقازان يستمع له ويقول: يا شيخ ادع لنا!! ورجع في هذه المرة ولم يدخل دمشق.(4/37)
وفي سنة 702هـ بدأت أخبار وصول التتار (هكذا تسميهم المصادر الإسلامية، وهم المغول) إلى شمال بلاد الشام تصل إلى أسماع أهل دمشق، فتهيأ الناس للهرب، وسيطر الذعر والخوف عليهم، وفكروا في الذهاب إلى مصر أو إلى اليمن، ولكن ابن تيمية كان يدور عليهم ويثبتهم، ويطلب منهم البقاء، ويشجعهم ويقول لهم: سننتصر هذه المرة، ويذهب إلى سور المدينة يشجع الجنود ويقرأ عليهم آيات الجهاد، ويقول للمسؤول عن القلعة: لو سقطت حجرًا حجرًا فلا تسلمها، وأجمع قادة المدينة وعامتها على أن يذهب ابن تيمية إلى عاصمة الدولة (القاهرة) للطلب من السلطان محمد بن قلاوون النصرة والدفاع عن بلاد الشام، وفعلاً توجه ابن تيمية إلى مصر وأقنع السلطان بضرورة المواجهة مع التتار واجتمعت الجيوش المصرية والشامية في جنوبي دمشق، ولكن برزت مشكلة فقهية. إذ قال الناس (وبعض الفقهاء) كيف نحارب هؤلاء التتار وهم مسلمون؟ فقال لهم ابن تيمية: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ - رضي الله عنه - ـ وقال لهم: إن كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه ـ يجب قتالها، وإن تكلموا بالشهادتين ـ وقال: لقد شاهدنا عسكرهم (التتار) فرأينا جمهورهم لا يصلي وهم يقاتلون على ملك جنكيزخان ويقدسون تعاليمه، وإذا رأيتموني والمصحف على رأسي في ذلك الجانب (مع التتار) فاقتلوني، فاطمأن الناس وتشجعوا، ووقعت المعركة في مكان يسمى (شقحب) يبعد عن دمشق جنوبًا حوالي (36 كم) وخرج ابن تيمية وأصحابه للجهاد، وحضروا المعركة وطلب السلطان من الشيخ أن يكون معه أثناء القتال (مع الجيش المصري) فقال له: السنة أن يكون المرء تحت راية قومه (أهل الشام) وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، وتمزق الجيش المغولي، ودخل ابن تيمية ومعه أصحابه دمشق واستقبل الأبطال، ولكن الشيخ يعلم أن الأمر لم ينته بهزيمة التتار، فهناك الأعداء في الداخل، الذين كانت لهم صلة بالتتار وكانوا جواسيس لهم، وهم من الفرق المنشقة عن الإسلام، لا يقيمون صلاة ولا صيام ولا يخضعون للدولة الإسلامية، فقرر الشيخ مهاجمتهم في دارهم، فأخذ فرقة من الجيش واتجه نحو جبال كسروان (ما يسمى جبل لبنان اليوم) لتأديب هؤلاء الخونة الباطنيين، ولحقه بعد ذلك نائب السلطان في دمشق مع فرقة أخرى، وانتصر الشيخ مرة ثانية وتاب عدد من هؤلاء، وألزمهم بإقامة الصلاة وبناء المساجد ولكن هل استراح الشيخ بعد هذا الجهاد؟ ليس من طبيعته ذلك، فالإصلاح الداخلي هو الأهم.
http://www.almuhayed.com المصدر:
==============
أسباب الابتلاء وأنواعه
صالح آل الشيخ
(1) يُصيبُ اللهُ - جل وعلا - أمةَ الإسلام بما يصيبُها بسببِ ذنوبها تارةً، وابتلاءً واختبارًا تارةً أخرى.
(2) يُصيب اللهُ - جل وعلا - الأُممَ غيرَ المسلمةِ بما يصيبُها إما عقوبةً لما هي عليه من مخالفةٍ لأمرِ الله - جل وعلا - وإما لتكون عبرةً لمن اعْتَبَرَ، وإما لتكونَ ابتلاءً للناس، هل يَنْجَوْنَ أو لا يَنْجَوْنَ؟ قال اللهُ - تعالى -: (فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وهذا في العقوباتِ التي أُصِيبَتْ بها الأُممُ، العقوباتِ الاستئصاليةِ العامةِ، والعقوباتِ التي يكونُ فيها نكايةٌ، أو يكونُ فيها إصابةٌ لهم.
(3) تُصاب الأمةُ بأن يبتليَها اللهُ بالتفرُّقِ فِرَقًا، بأن تكونَ أحزابًا وشِيَعًا؛ لأنها تركتْ أمرَ الله - جل وعلا -.
(4) تُصاب الأمةُ بالابتلاء بسببِ بَغْيِ بعضِهم على بعضٍ، وعدمِ رجوعِهم إلى العلمِ العظيمِ الذي أنزله اللهُ - جل وعلا -. قال الله - تعالى - فيما قصَّه علينا من خبر الأُمَمِ الذين مَضَوْا قبلَنا: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ). وقال - سبحانه -: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). عندَ أهلِ الكتابِ العلمُ النافعُ، ولكن تَفَرَّقُوا بسببِ بَغْيِ بعضِهم على بعضٍ، وعدمِ رجوعِهم إلى هذا العلمِ العظيمِ الذي أنزلَه اللهُ - جل وعلا -، تَفَرَّقُوا في العملِ، وتركُوا بعضَه.(4/38)
(5) يُصاب قومٌ بالابتلاءِ بسببِ وجودِ زيغٍ في قلوبهم، فَيَتَّبِعُونَ المتشابِه. قال اللهُ - جل وعلا - في شأنهم: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ). فليس وجودُ المتشابه سببًا في الزيغ، ولكنَّ الزيغَ موجودٌ أولاً في النفوسِ. فاللهُ - سبحانَهُ - أثبتَ وجودَ الزيغِ في القلوبِ أوَّلاً، ثم اتباعِ المتشابه ثانيًا، وقد جاءت (الفاءُ) في قوله - جل وعلا - : (فَيَتَّبِعُونَ) لإفادةِ الترتيبِ والتعقيبِ. ففي النصوصِ ما يَشْتَبِهُ، لكن مَنْ في قلبه زيغٌ يذهبُ إلى النصِّ فيستدلُ به على زَيْغِهِ، وليس له فيه مُسْتَمْسَكٌ في الحقيقةِ، لكن وَجَدَ الزيغَ فذهبَ يتلمَّسُ له. وهذا هو الذي ابْتُلِيَ به الناسُ - أي: الخوارجُ - في زمنِ الصحابةِ، وحصلتْ في زمن التابعينَ فتنٌ كثيرةٌ تَسَبَّبَ عنها القتالُ والملاحِمُ مما هو معلومٌ.
فوائد الابتلاء:
الأمةُ الإسلاميةُ والمسلمون يُبْتَلَوْنَ.
وفائدةُ هذا الابتلاءِ معرفةُ مَنْ يَرْجِعُ فيه من الأمةِ إلى أمرِ اللهِ - جل وعلا - معتصِمًا بالله، متجرِّدًا، متابعًا لهدي السلفِ ممّن لا يرجعُ، وقد أصابته الفتنةُ، قلّتْ أو كَثُرَتْ.
http://www.islamspirit.com المصدر:
============
ابتلاء الله لعباده المؤمنين
عبد الله بن حسن القعود
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله ولي المتقين وناصر المؤمنين، أحمده - تعالى - وأشكره، على ما أولانا من النعم وصرف عنا من النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. روى البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ".
أما بعد - فيا عباد الله - لقد جرت سنة الله في عباده المؤمنين أن يبتليهم ابتلاء يقوى بقوة الإيمان ويضعف بضعفه، يقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً زيد له في البلاء " ويقول: "من يرد به الله خيراً يصب منه". رواه البخاري. يبتليهم - تعالى - ابتلاءً ليس ابتلاء إهانة وتعذيب، فحاشا حكمة الله وعدله ولكنه ابتلاء تمحيص وتهذيب {ويمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين }، وذلكم الابتلاء لأسرار وحكم بالغة منها ما في قوله - سبحانه -: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً }، { ونبلوكم بالشر والخير فتنة }، والفتنة هنا بمعنى الامتحان والاختبار اللذين يظهران حقيقة من يدعي الإيمان على وجه الحق والصدق، ومن يدعيه تقية ونفعاً ليحصل على ما لأهله في صف المسلمين من حرمة وتقدير. يقول الله - تعالى -: {الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} ويقول: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم}. والله جلت قدرته وتعالت أسماؤه يعلم عباده أن الإيمان ليس مجرد دعوى أو أمنية فحسب، ولكنه حقيقة ذات تكاليف وأمانة ذات أعباء وجهاد وصبر وتحمل لا يحملها إلا من في قلوبهم تجرد لها وإخلاص، فلا يكفي أن يقول الناس آمنا ويتركوا لهذه الدعوى.. حتى لا يتعرضوا للفتنة فيثبتوا لها ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خاصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب فتفصل بينه وبين العناصر العالقة به.
أيها المسلمون - مما تقدم يعلم أن عبء الإيمان لكبير وإن تكاليفه لشاقة إلا على النفوس المؤمنة بالله إيماناً راسخاً، والمتقبلة لتكاليفه بطواعية ورغبة فيما عند الله وما وعد به المؤمنين من نصر وعز في الدنيا وثواب مضاعف في الآخرة يقول - تعالى -: { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره)، رواه الشيخان.
نعم، عبء الإيمان شاق وكبير ولكنه سهل ويسير على من يسره الله عليه، على النفوس التي تعرف أن العبء عندما يكون كبيراً يكون جزاؤه ومثوبته أكبر وأجل عند الله الذي يجزي على الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف فوق ذلكم والذي يقول: { إن الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أو لياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم } إلى أن قال - تعالى -: { وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} ولا غرابة فكلما عظم الثمن المقدم عظم المثمن المستوفى بدله، فالشهيد الذي قدم نفسه باع حياته لله عوض عنها بحياة أفضل ونعيم أكمل.(4/39)
فيا أيها الأخ المؤمن إنك وأمثالك من المؤمنين في هذه الحياة معرضون لألوان من الابتلاء والاختبار بخير أو بشر، بخير كالمال والصحة والولاية ليرى هل تؤدي حق الله فيما أعطيت من مال بأداء ما أوجب الله عليك فيه من إنفاق وغير ذلك، وهل قصرت النفس حال الصحة؟ والابتلاء على المأمورات وكبح جماحها عن ارتكاب المنكرات، وهل أديت حق الله فيما استخلفت عليه من مصالح المسلمين؟ {ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}، {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}.
وكما يبتلي - تعالى - عباده بالخير يبتليهم بالشر كالمرض وتسليط الأعداء وليس ذلكم - كما أسلفت - لإهانة أو تعذيب، ولكنه لتقوية الإيمان الحق والحصول على مثوبة الصبر على البلاء كما حصل لنبي الله أيوب - عليه السلام - من الابتلاء بالمرض الذي بلغ به أن تخلى عنه جميع أهله، وأبينا إبراهيم - عليه السلام - من تسليط قومه وإلقائهم إياه في النار، ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأذى والمضايقة والتآمر ضده. المؤامرة التي فضحها القرآن{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، وماذا كان.. فأيوب كشف الله ضره وآتاه أهله ومثلهم معهم رحمة من الله وذكرى لأولي الألباب، وإبراهيم، يقول الله للنار التي أججت لإحراقه: {كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} ويجعله أمة يقتدى به {إن إبراهيم كان أمة} ويجعل له لسان صدق في الآخرين، ومحمد الذي أفلت من المؤامرة الدنيئة وخرج من مكة مختفياً مطارداً يعود يطل عليها من أعلى طريق فيها فاتحاً بل يطل على الدنيا على الأمة جميعها موجهها إلى رب واحد، وقبلة واحدة، وقيادة واحدة، ويصبح هو إمامها بما بلغها عن الله إلى يوم القيامة، بل وفرطها على الحوض وشفيعها عند الله وفاتح باب الجنة لها.
فاتقوا الله - أيها المسلمون - اتقوه تقوى المؤمن الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: (عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). اتقوا الله وأثبتوا على إيمانكم الذي جاء من عند الله، واصبروا على ما قد تبتلون به وما كلفتم به من الله، وأدوا حق الله فيما أعطاكم وولاكم ولا يطغينكم عز ورخاء أو صحة وثراء، ولا تضعفنكم الأحداث والشدائد والمضايقات فما هي إلا برهة قليلة ثم يأتي فرج الله ونصره ومثوبته لمن قام بأمره، كما جاء لأيوب وإبراهيم ومحمد عليه - الصلاة والسلام - ، وأتباعهم ممن ابتلو وأوذوا في الله وستكون العقبى لأتباعهم كما كانت لهم من قبل - إن شاء الله - {فإن مع العسر يسراً إن مع اليسر يسراً} { سيجعل الله بعد عسر يسراً }. أقول قولي هذا، وأسأل الله - تعالى - أن يثبت أقدامنا، وينصرنا على القوم الكافرين.
http://www.alsalafyoon.com المصدر:
==============
الابتلاء في سيرة سيد الأنبياء
عبد القادر أحمد عبد القادر
"عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه خطيئة"(1).
شدتني أخبار ابتلائه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لشدة الابتلاءات التي نزلت به دفع شديد لأتعرف على كل بلاء قرأت عنه في القرآن الكريم أو في سيرته، فوجدته القدوة، مثلما هو في جميع أعماله ومكوناته! وأحسبني بهذا البحث، قد وقعت على كنز من أثمن كنوز سنته وسيرته! ولقد طالعت نيفاً وعشرين ابتلاء، حدث له، وعاناه، فاستحسنت أن أخصها بمتابعة، عسى الله أن ينفع بها الأحبة السائرين في طريق دعوته، وعلى دربه، راجياً أن يكون ذلك عوناً للدعاة والمجاهدين، بل للمبتلين.
ولنبلونكم:
بالتأمل في كلمة "ولنبلونكم"، التي وردت في سورة البقرة، الآية 155، وفي سورة محمد، الآية 31، وفي كلمة "لتبلون"، التي وردت في سورة آل عمران، الآية 186، نجد الفعل المضارع، الذي يفيد الاستمرار والاستقبال، ونجد تعدد المؤكدات مع كل فعل - اللام والنون الثقيلة في الأفعال - هذا التوكيد المتكرر، لا يتركنا حيارى أمام هذا الواقع، الذي يعيشه المؤمن المبتلى أو الجماعة المبتلاة، ولا نبقى حيارى أمام كثرة الابتلاءات النازلة بعباد الله الصالحين، (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)(2)، (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)(3)، (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).(4/40)
فإذا استحضرنا حديث مصعب بن سعد مع هاتين الآيتين، برقت الأبصار، وسطعت البصائر أمام وضوح الحديث القرآني والنبوي في تبيان السنة الإلهية الماضية بحق العبد الصالح، "فإن كان دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه خطيئة".
تحدثت عن ابتلاء العباد الصالحين هاهنا، والموضوع في ابتلاءات سيد المرسلين كحديث الفرع بعد الأصل.
الابتلاء الأول: محمد اليتيم:
إن حاجة المولود إلى أبيه لا تخفى على أحد، لاسيما في البيئة العربية ونظام المراضع، اللواتي يحظين بالعطاء الجزيل، في مقابل إرضاع المولود شكل من أشكال العز، الذي يحيط بالمولود، ثم يبقى مع سيرة الولد، فيقال: المسترضع في بني فلان أو بني فلان، يبقى حديث الرضاعة جزء من سيرة الرجل، فإذا ما صار للرجل شأن، كان ذلك من مفاخر المرضع وقبيلتها!
لم يشعر المولود بهذا الحرمان، ولكن مثله حينما يتذكر أيامه في المهد على هذه الحال، غالباً ما يتأثر، خاصة إذا توالت عليه النوائب.. كموت الأم، ثم موت الجد، ثم التواجد التكافلي في بيت العم، رغم حنو هذا العم، ورغم تتابع السنين في بيت عطوف، إلا أننا لا ندري ماذا عانى محمد مما يعانيه الأطفال في مثل سنه، وفي غير بيته؟!
إن الضعف النفسي والانكسار الوجداني لليتيم، ثم اللطيم(4)، كان من إرادة الله بهذا الطفل، الذي يعده الله لأمر عظيم، على خلاف أحوال الأطفال، الذين قد يعدون في نعمة الآباء، ونعيم الأمهات لشؤون دنيوية، بل على خلاف أحوال أنبياء سابقين، أُعدوا بين آبائهم وأمهاتهم.
روى عدد من كتاب السيرة والمحدثين الثقات أن عبد المطلب أرسل محمداً ذات مرة في طلب إبل له، ضلت، فغاب وقتاً، فحزن عليه جده حزناً شديداً، وعندما عاد محمد بالإبل، أقسم عبد المطلب ألا يبعثه في حاجة له أبداً، ولا يفارقه بعد هذا أبداً!
ولما مات جده، اعتنى به عمه أبو طالب، فكان لا ينام إلا ومحمد إلى جنبه، ولا يخرج إلا معه، ويخصه بالطعام، ولا يأكل إلا عندما يحضر محمد، وظل يحوطه بعنايته إلى ما بعد البعثة، حين حاربه جميع قومه...
أسأل القارئ: هل يعوض ذلك كله عن عطف الأب وحنان الأم؟
لقد صنع الله للطفل محمد اليتيم شيئاً من عطاء الأبوة والأمومة في قلوب الجد والعم وتوابعهما (ألم يجدك يتيماً فآوى)، ولكن من أعطف من الأب؟ ومن أحن من الأم؟؟ اللهم إلا أنت، يا خالق العطف، والرب العطوف، ويا خالق الحنان، وأنت الذي أسميت نفسك الحنّان.
لقد طلب - صلى الله عليه وسلم - من ربه أن يزور قبر أمه، فأذن له.. فعلام يدل طلب هذه الزيارة؟
روى مسلم في صحيحه: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي". وعند النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: زار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت..." الحديث. إنه حتى بعد أن غمرته - صلى الله عليه وسلم - أنوار النبوة، هاهو ذا يعيش لوعة الشوق إلى الأم والتعلق بها، إنها الفطرة السوية وما يتعلق بها من حنين، وما أصابه وبقي في نفسه بسبب فقد حنان الأم حيناً من الدهر في طفولته.
------------------
(1) حسن صحيح: الترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي.
(2) البقرة: 155.
(3) محمد: 31.
(4) الذي فقد أبويه.
http://www.islamtoday.net المصدر:
=============
نِعَم.. ونِقَم.. وابتلاءات
د. جمال المراكبي
إن ما يمر به عالمنا الإسلامي الآن يجعلنا نتساءل: لماذا أصبح المسلمون هدفًا للمصائب والكوارث والحروب؟ فالمسلمون هم أكثر الشعوب معاناة على وجه الأرض، فهم وقود للحروب والصراعات، وضحايا للاعتداءات الوحشية في كل بقاع الأرض، ثم تأتي الكوارث الطبيعية لتقف هي الأخرى ضدهم، لنجد أكثر ضحايا الزلازل والفيضانات والأعاصير والمجاعات والأمراض والأوبئة الفتاكة من المسلمين!!
سؤال يتردد على ألسنة الكثيرين، هل هو غضب الله على المسلمين؟ ولماذا لا نجد مثل هذه الابتلاءات في غير المسلمين؟ ولماذا ينعم الله عز وجل بصنوف كثيرة من النعم على غير المسلمين؟
والسؤال يتضمن الكثير من المغالطة، فالمصائب والكوارث ليست حكرًا على المسلمين دون غيرهم، ولكن آثارها السلبية تكون أكثر ظهورًا بين المسلمين المصابين بأمراض الجهل والتواكل والسلبية والتخلف، بينما تخفّ هذه الآثار في المجتمعات المتقدمة وأغلبها من غير المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والبلاء يعمُّ المسلم والكافر، ويكون بالنعمة والنقمة، قال - تعالى -: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور" {الملك:2}.
وقال - تعالى -: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن (16) كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المال حبا جما" {الفجر: 15- 20}.(4/41)
فليس كل من أكرمه الله في الدنيا بصنوف من النعم هو في الحقيقة مُنعم عليه، وليس كل من قُدِر عليه رزقه مهانًا عند الله، بل إن الله - عز وجل - يبتلي الإنسان بالنعم كما يبتليه بالمصائب، والإنسان يتقلب في الدنيا بين صنوف من النعم وصنوف من المصائب.
والنعم التي ينعم بها المولى على عباده كثيرة: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" {النحل: 18}، وكلها من الله - سبحانه وتعالى -: "وما بكم من نعمة فمن الله" {النحل: 53}، والعباد فيها بين شاكر وكافر؛ فالشاكر يبارك له الله في النعم، ويزيده من فضله "لئن شكرتم لأزيدنكم" {إبراهيم: 7}، والكافر يزيل الله عنه كل أثر للنعمة، ولا يبقى له إلا المصائب والمحن في الدنيا والآخرة: "ولئن كفرتم إن عذابي لشديد" {إبراهيم: 7} .
وذلك لأن النعم على قسمين: نعم مطلقة، ونعم مقيدة.
فالنعم المطلقة: هي المتصلة بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي التي لا تزول ولا تنقطع، وتمامها يكون بالخلود في الدرجات العليا من الجنة، وقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو يسأل ربه تمام النعمة، فقال له: "هل تدري ما تمام النعمة؟ تمام النعمة أن يرزقك الله الجنة ويحول بينك وبين النار".
قال - تعالى -: "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" {آل عمران: 185}.
وهذه النعمة المطلقة هي نعمة الإسلام والسنة، وأهلها هم أهل الرفيق الأعلى، أهل الهداية، ولهذا أمرنا الله "تعالى" أن نسأله في صلواتنا الهداية إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين: "اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" {الفاتحة: 6، 7}.
فالمغضوب عليهم: الذين عرفوا الحق وأعرضوا عنه، والضالون: الذين ضلوا سبيل الرشاد، ليس لهم من هذه النعمة نصيب وإنما هي للمطيعين وحدهم: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" {النساء: 69}.
وهذه النعمة المطلقة هي التي أسبغها الله وأتمها على عباده المؤمنين بإكمال دينه وإتمام شريعته وإرسال رسوله: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" {المائدة: 3} .
وهذه النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" {يونس: 58}، وفضل الله ورحمته في الإسلام والسنة جعلنا الله من أهلها.
والنعم المقيدة: هي ما يتفضل به الله على عباده في الدنيا مما يحبون؛ كالصحة والفراغ والغنى والعافية في البدن والزوجة والولد، وهي شهوة وزينة، وهي مشتركة بين المؤمن والكافر، والبَّر والفاجر، وهي مناط الاختبار والابتلاء: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد" {آل عمران: 14، 15}.
قال ابن كثير: "يخبر الله - تعالى - أنه زيَّن للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال - تعالى -: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها" {الكهف: 7}، فلما زينت لهم هذه المذكورات تعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم جعلوها هي المقصود فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خُلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصَّلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فكانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاءً وامتحانًا لعباده، ليعلم من يُقدِّم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم، وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، علموا أنها متاع الحياة الدنيا فجعلوها معبرًا إلى الدار الآخرة، فصارت زادًا لهم إلى ربهم". اه.
إن لله عبادًا فطنًا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لُجَّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
وفي الآيات تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترِّين بها، وتزهيد لأهل العقول بها، لذا أخبر الله عن دار القرار، ومصير المتقين الأخيار، وأنها خير من هذه الدار الفانية والنعيم الزائف الزائل، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الزائلة الحقيرة ثم اختر لنفسك أحسنها، واعرض على قلبك المفاضلة بينهما.(4/42)
والمصائب التي يبتلي الله بها عباده كثيرة؛ من فقر ومرض وتعب وعنت وموت، وهي قدر محتوم يعم المؤمن والكافر والبر والفاجر، والقصد منها الاختبار والابتلاء ليميز الله الخبيث من الطيب.
قال - تعالى -: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" {الحديد:22،23}.
المصائب المكفرة
1- المصائب بسبب الذنوب: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير {الشورى: 30}، من يعمل سوءا يجز به {النساء: 123}.
2- المصائب قدر محتوم ينبغي التسليم له: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" {الحديد: 22-23}. "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم" {التغابن:11}.
3- وجوب الصبر على المصائب لأنها ابتلاء من الله - تعالى -: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" {البقرة: 153- 157}.
4- المصائب كفارات للذنوب: عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكُها". (البخاري 5640).
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكُها، إلا كفر الله بها من خطاياه". {البخاري 5641}.
والكفارة: صيغة مبالغة من التكفير، وأصله التغطية والستر، والمعنى أن ذنوب المؤمن تتغطى بما يقع له من ألم المرض، وسائر المصائب.
قال - تعالى -: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا" {النساء:123-124}.
والمعنى أن كل من يعمل سيئة يجازى بها إما في الدنيا أو الآخرة، والمرض والمصائب يكون جزاءً للسيئات، وكفارة لها. ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن معنى الآية أن المسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها.
أخرج أحمد وابن حبان عن عائشة أن رجلًا تلا هذه الآية، فقال: إنا لنجزى بكل ما عملناه؟ هلكنا إذن. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في جسده مما يؤذيه.
وأخرجا أيضًا عن أبي بكر قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال: "غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تحزن؟" قال: بلى. قال: "هو ما تجزون به".
وروى مسلم عن أبي هريرة: أن هذه الآية لما نزلت بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها".
هل المصائب كفارة بنفسها أم بالصبر عليها؟
قال العز بن عبد السلام: "إن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا". وقال القرطبي في المفهم مثل ذلك.
وقال القرافي: "المصائب كفارات جزمًا، سواءً اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا كان التكفير أعظم".
وقال ابن حجر: والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصائب ذنب عُوِّض عن ذلك من الثواب بما يوازنه.
وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفكُّ غالبًا عن ألم بسبب مرض أو همّ أو نحو ذلك، وإن الأمراض والآلام والأوجاع؛ بدنية كانت أو قلبية تكفر ذنوب من تقع له، وقد ورد في الحديث: "ما من مسلم يصيبه أذى- شوكة فما فوقها- إلا كفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها". (البخاري 5648).
هل المصائب تكفّر جميع الذنوب؟
ظاهر النصوص يفيد ذلك، ولكن أكثر العلماء جعلوا ذلك خاصّا بالصغائر، أما الكبائر فلا بد فيها من التوبة النصوح، واستدلوا بحديث: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر".
والراجح أن الحسنات الماحية ومنها الصبر على القضاء والرضا به توضع في كفة الحسنات، وذلك في مقابلة الذنوب التي توضع في كفة السيئات، فإما أن ترجح بها وإما أن تعادلها.
والحسنات توضع متضاعفة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئات توضع منفردة.
وربما تعظم الحسنة الواحدة فتطيش بها سجلات عظيمة من الذنوب كما في حديث البطاقة عند أحمد والترمذي.
والله أعلم.
http://www.altawhed.com المصدر:
==============
سنة الله في الابتلاء والتمحيص والتداول(4/43)
وقفات مع بعض الآيات من سورة آل عمران
من قوله تعالى:(قد خلت من قبلكم سننٌ فسيروا في الأرض ...) الآية 137
إلى قوله تعالى:(ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ...) الآية 143
سيد قطب
بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة إنما هو حادث عابر وراءه حكمة خاصة ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها حكمة تمييز الصفوف وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ; ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ثم في النهاية محق الكافرين بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة . (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون). لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة وأصابهم القتل والهزيمة أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير قتل منهم سبعون صحابيا وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم أنى هذا وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور فهم ليسوا بدعا في الحياة ; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافا إنما هي تتبع هذه النواميس فإذا هم درسوها وأدركوا مغازيها تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين لينالوا النصر والتمكين ; بدون الأخذ بأسباب النصر وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول والسنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه أبصارهم إليها هي عاقبة المكذبين على مدار التاريخ ومداولة الأيام بين الناس والابتلاء لتمحيص السرائر وامتحان قوة الصبر على الشدائد واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال والمواساة في الشدة والتأسية على القرح الذي لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم كذلك وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا وأهدى منهم طريقا ومنهجا والعاقبة بعد لهم والدائرة على الكافرين . (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) . إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ولم تكن معارفهم ولم تكن تجاربهم قبل الإسلام لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة لولا هذا الإسلام وكتابه القرآن الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ; فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان إنما حملتها إليهم هذه العقيدة بل حملتهم إليها وارتقت بهم إلى مستواها في ربع قرن من الزمان على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ; ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية إلا بعد أجيال وأجيال فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية وأنه إلى الله تصير الأمور فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان بعد هذا إلى مشيئته(4/44)
الطليقة . (قد خلت من قبلكم سنن) ، وهي هي التي تحكم الحياة وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله بمشيئة الله في زمانكم وما انطبق منها على مثل حالكم
فهو كذلك سينطبق على حالكم ، (فسيروا في الأرض) ، فالأرض كلها وحدة والأرض كلها مسرح للحياة البشرية والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر ، (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان ، (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) ، هذا بيان للناس كافة فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى وتجد فيه الموعظة وتنتفع به وتصل على هداه طائفة المتقين إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل وبالهدى والضلال إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل إنما تنقص الناس الرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ولا يحفظهما إلا التقوى ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ومن هدى ومن نور ومن موعظة ومن عبرة إنما هي للمؤمنين وللمتقين فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة واحتمال مشقات الطريق وهذا هو الأمر وهذا هو لب المسألة لا مجرد العلم والمعرفة فكم ممن يعلمون ويعرفون وهم في حمأة الباطل يتمرغون إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت ، (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) ، لا تهنوا من الوهن والضعف ولا تحزنوا لما أصابكم ولما فاتكم وأنتم الأعلون عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ودوركم أعلى فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص ، (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) ، وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله قد يكون إشارة إلى غزوة بدر وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد حتى رفعته لهم امرأة فلاذوا بها وتجمعوا عليها ثم كانت الدولة للمشركين حينما خرج الرماة على أمر رسول الله ص واختلفوا فيما بينهم فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض وهي مداولة الأيام بين الناس وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون كما تتكشف الأخطاء وينجلي الغبش ، (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا) ، إن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ودرجة الغبش فيها والصفاء ودرجة الهلع فيها والصبر ودرجة الثقة فيها(4/45)
بالله أو القنوط ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن مؤمنين ومنافقين ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم ويزول
عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعا في حياة الناس وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم ومداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء محك لا يخطىء وميزان لا يظلم والرخاء في هذا كالشدة وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله وقد كان الله يربي هذه الجماعة وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة ولتزيد طاعة لله وتوكلا عليه والتصاقا بركنه ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف وعلم الله للمؤمنين ، (ويتخذ منكم شهداء) ، وهو تعبير عجيب عن معنى عميق إن الشهداء لمختارون يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه سبحانه فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه سبحانه ويخصهم بقربه ثم هم شهداء يتخذهم الله ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس يستشهدهم فيؤدون الشهادة يؤدونها أداء لا شبهة فيه ولا مطعن عليه ولا جدال حوله يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق وتقريره في دنيا الناس يطلب الله سبحانه منهم أداء هذه الشهادة على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به وتجردوا له وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال وكل من ينطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يقال له أنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض كما بلغها محمد ص فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس والذي بلغه عنه محمد ص هو المنهج السائد والغالب والمطاع وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله فهو إذن شهيد أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها واتخذه الله شهيدا ورزقه هذا المقام هذا فقه ذلك التعبير العجيب ويتخذ منكم شهداء وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومقتضاه لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع ، (والله لا يحب الظالمين) ، والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك بوصفه أظلم الظلم وأقبحه وفي القرآن إن الشرك لظلم عظيم وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" ، وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ; فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد لها مناسبتها الحاضرة فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه وهذا هو مقام الاستشهاد وفي هذا تكون الشهادة ; ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين وستارا لقدرته في هلاك المكذبين ، (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق(4/46)
الكافرين) ، والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز التمحيص عملية تتم في داخل النفس وفي مكنون الضمير إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية وتسليط الضوء على هذه المكنونات تمهيدا لإخراج الدخل والدغل
والأوشاب وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها وحقيقة ما استكن فيها من رواسب لا تظهر إلا بمثير وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص ثم إذا هو يكشف على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية إن في نفسه عراقيل لم تمحص وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ليعاود المحاولة في سبكها من جديد على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة والله سبحانه كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض فمحصها هذا التمحيص الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها ويمحق الكافرين تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق وخلص من الشوائب بالتمحيص وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات وفي النصر والهزيمة وفي العمل والجزاء ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره وزاده الصبر على مشاق الطريق وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص ، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) ، إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان أسلمت وأنا على استعداد للموت فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان إنما هي التجربة الواقعية والامتحان العملي وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ثم الصبر على تكاليف الجهاد وعلى معاناة البلاء وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى ، (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) ، فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ويختبر بها الإيمان إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي معاناة الاستقامة على أفق الإيمان والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني في النفس وفي الغير ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها في الطريق المحفوف بالمكاره طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان ، (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) ، وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ووزن الحقيقة يواجهها في العيان فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها ألسنتهم ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم وبذلك يقدرون قيمة الكلمة وقيمة الأمنية وقيمة الوعد في ضوء الواقع الثقيل ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة إنما هو تحقيق الكلمة وتجسيم الأمنية والجهاد الحقيقي والصبر على المعاناة حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس ولقد كان الله سبحانه قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى وبلا كد من المؤمنين ولا عناء وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم أو بدونهم وتدمر على المشركين كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط ولكن المسألة ليست هي النصر إنما هي تربية الجماعة المسلمة التي تعد لتتسلم قيادة البشرية البشرية بكل ضعفها ونقصها ; وبكل شهواتها ونزواتها ; وبكل جاهليتها وانحرافها وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق وثبات على الحق وصبر على المعاناة ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ووسائل العلاج ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة وصبر على الشدة بعد الرخاء وطعمها يومئذ لاذع(4/47)
مرير وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق الذي ينوطه بها في هذه الأرض وقد شاء سبحانه أن يجعل
هذا الدور من نصيب الإنسان الذي استخلفه في هذا الملك العريض وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه بشتى الأسباب والوسائل وشتى الملابسات والوقائع يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة فتستبشر وترتفع ثقتها بنفسها في ظل العون الإلهي وتجرب لذة النصر وتصبر على نشوته وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء وعلى التزام التواضع والشكر لله ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة فتلجأ إلى الله وتعرف حقيقة قوتها الذاتية وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله وتجرب مرارة الهزيمة ; وتستعلي مع ذلك على الباطل بما عندها من الحق المجرد ; وتعرف مواضع نقصها وضعفها ومداخل شهواتها ومزالق أقدامها ; فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ; الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة على نحو ما نرى في هذه الآيات وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .
موقع الخيمة
===============
الدنيا دار الابتلاء والفتن
سؤال:
ما هي الدنيا ؟.
الجواب:
الحمد لله
الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء والجزاء سيكون بالجنة للمؤمنين والنار للكافرين .
ولما كانت الجنة طيبة . ولا يدخلهما إلا من كان طيباً والله طيب لا يقبل إلا طيباً لذا جرت سنة الله في عباده الابتلاء بالمصائب والفتن , ليعلم المؤمن من الكافر ويتميز الصادق من الكاذب كما قال سبحانه : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) العنكبوت/2- 3 .
ولن يتم الفوز والنجاح إلا من بعد امتحان يعزل الطيب عن الخبيث ويكشف المؤمن من الكافر كما قال سبحانه ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) آل عمران/197 .
ومن الابتلاء الذي يبتلي الله به عباده ليتميز به المؤمن من الكافر ما ذكره الله بقوله : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) البقرة/154-156 .
فالله يبتلي العباد ويحب الصابرين و يبشرهم بالجنة .
ويبتلى الله عباده بالجهاد كما قال سبحانه : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) آل عمران/142 .
والأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده ليعلم من يشكره عليها ومن ، يشتغل بها عنه ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) الأنفال/28 .
ويبتلي الله بالمصائب تارة وبالنعم تارة ليعلم من يشكر ومن يكفر ومن يطيع ومن يعصى ثم يجازيهم يوم القيامة ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) الأنبياء/35 .
والابتلاء يكون حسب الإيمان فأشد الناس بلاءً الأنبياء , ثم الأمثل فالأمثل قال عليه الصلاة والسلام ( إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ) أخرجه البخاري/5648 .
والله سبحانه يبتلي عباده بأنواع من الابتلاء .
فتارة ً يبتليهم بالمصائب والفتن امتحاناً لهم ليعلم المؤمن الكافر والمطيع من العاصي والشاكر من الجاحد .
وتارة يبتلى الله عباده بالمصائب ، إذا عصوا ربهم فيؤدبهم بالمصائب لعلهم يرجعون كما قال سبحانه : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) الشورى/30 .
وقال سبحانه : ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) المؤمنون/76 .
والله رحيم بعباده يكرر الفتن على الأمة لعلها ترجع وتنيب إليه وتهجر ما حرم الله , ليغفر الله لها كما قال سبحانه : ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) التوبة/126 .
ومن رحمة الله , أن تكون العقوبة على المعاصي في الدنيا لعل النفوس تزكو وتعود إلى الله قبل الموت ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ) السجدة/21 .
وتارة يبتلي الله عباده بالمصائب لرفع درجاتهم وتكفير سيئاتهم كما قال عليه الصلاة والسلام : ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب , ولا هم ولا حزن , ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) متفق عليه ، أخرجه البخاري/5641 .
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري .
==============
فوائد ابتلاء المؤمن
سؤال:
لماذا يثقل الله على المؤمنين الذي يكثرون العبادة بالأمراض والبلايا في حين أن العصاة يتمتعون بكل مطايب الحياة ؟.
الجواب:
الحمد لله(4/48)
هذا السؤال يَرِد على وجهين أحدهما اعتراض والثاني استرشاد ، فأما وقوعه على سبيل الاعتراض فإن دليل على جهل السائل ، فإنّ حكمة الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تبلغها عقولنا والله عز وجل يقول : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )
فهذه الروح التي هي بين جنبينا والتي هي مادة حياتنا نحن لا نعرفها وقد عجز النظار والفلاسفة والمتكلمون عن تحديدها وكيفيتها ، فإذا كانت هذه الروح التي هي أقرب مخلوق إلينا لا نعلم منها إلا ما وُصف في الكتاب والسنة فما بالك بما وراء هذا ؟ فالله عز وجل أحكم وأعظم وأجل وأقدر ، فعلينا أن نسلم بقضائه تسليماً تاماً : قضائه الكوني وقضائه القدري ، لأننا عاجزون عن إدراك غايات حكمته سبحانه وتعالى ، وعليه فالجواب عن هذا الوجه من السؤال أن نقول : الله أعلم وأحكم وأقدر وأعظم .
وأما الوجه الثاني وهو سؤال استرشاد فإننا نقول لهذا السائل : المؤمن يبتلى وابتلاء الله له بما يؤذيه له فائدتان عظيمتان : الفائدة الأولى اختبار هذا الرجل في إيمانه . هل إيمانه صادق أو متزعزع ، فالمؤمن الصادق في إيمانه يصبر لقضاء الله وقدره ، ويحتسب الأجر منه وحينئذ يهون عليه الأمر ، ويذكر عن بعض العابدات أنه أصيب أصبعها بقطع أو جرح ولكنها لم تتألم ولم تظهر التضجر فقيل لها في ذلك فقالت : إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها ، والمؤمن يحتسب الأجر من الله تعالى ويسلم تسليماً . وهذه فائدة .
أما الفائدة الثانية : فإن الله سبحانه أثنى على الصابرين ثناءً كبيراً وأخبر أنه معهم وأنه يوفيهم أجرهم بغير حساب ، والصبر درجة عالية لا ينالها إلا من أبتُلي بالأمور التي يُصبر عليها فإذا صبر نال هذه الدرجة العالية التي فيها هذا الأجر الكثير ، فيكون ابتلاء الله للمؤمنين بما يؤذيهم من أجل أن ينالوا درجة الصابرين ، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أعظم الناس إيماناً واتقاهم لله وأخشاهم لله كان يوعك كما يوعك الرجلان وشُدد عليه صلى الله عليه وسلم عند النزع كل ذلك لأجل أن تتم له منزلة الصبر فإنه عليه الصلاة والسلام أصبر الصابرين ، ومن هذا يتبين لك الحكمة من كون الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمن بمثل هذه المصائب ، أما كونه يعطي العصاة والفساق والفجار والكفار العافية والرزق يدره عليهم فهذا استدراج منه سبحانه وتعالى لهم ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر . فهم يُعطون هذه الطيبات لتُعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ويوم القيامة ينالون ما يستحقونه من جزاء ، قال الله تعالى : ( ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) فالحاصل أن هذه الدنيا هي للكفار يُستدرجون بها وهم إذا انتقلوا إلى الآخرة من هذه الحياة الدنيا التي نعموا بها وجدوا العذاب والعياذ بالله ، فإنه يكون العذاب أشد عليهم لأنهم يجدون في العذاب النكال والعقوبة ، ولأنه مع فوات محبوبهم من الدنيا ونعيمهم وترفهم ، وهذه فائدة ثالثة يمكن أن نضيفها إلى الفائدتين السابقتين فيما سينال المؤمن من الأذى والأمراض ، فالمؤمن ينتقل من دار خير من هذه الدنيا فيكون قد انتقل من أمر يؤذيه ويؤلمه إلى أمر يسره ويفرحه ، فيكون فرحه بما قدم عليه من النعيم مضاعفاً لأنه حصل به النعيم وفات عنه ما يجري من الآلام والمصائب .
من فتاوى الشيخ ابن عثيمين في كتاب فتاوى إسلامية 1/83.
==============
الحكمة من الابتلاءات
سؤال:
أسمع كثيرا عن أن هناك حِكَماً عظيمة لوقوع الابتلاء على الناس ، فما هي هذه الحكم ؟.
الجواب:
الحمد لله
نعم للابتلاء حكم عظيمة منها :
1- تحقيق العبودية لله رب العالمين
فإن كثيراً من الناس عبدٌ لهواه وليس عبداً لله ، يعلن أنه عبد لله ، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) الحج/11 .
2- الابتلاء إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض
قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة ، فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن .
3- كفارة للذنوب
روى الترمذي (2399) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي (2399) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2280) .(4/49)
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1220) .
4- حصول الأجر ورفعة الدرجات
روى مسلم (2572) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) .
5- الابتلاء فرصة للتفكير في العيوب ، عيوب النفس وأخطاء المرحلة الماضية
لأنه إن كان عقوبة فأين الخطأ ؟
6- البلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل
يطلعك عمليّاً على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف ، لا حول لك ولا قوة إلا بربك ، فتتوكل عليه حق التوكل ، وتلجأ إليه حق اللجوء ، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء ، والعجب والغرور والغفلة ، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه ، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه .
قال ابن القيم :
" فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه " انتهى .
" زاد المعاد " ( 4 / 195 ) .
7- الابتلاء يخرج العجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله .
قال ابن حجر : " قَوْله : ( وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ ) رَوَى يُونُس بْن بُكَيْر فِي " زِيَادَات الْمَغَازِي " عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : قَالَ رَجُل يَوْم حُنَيْنٍ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم مِنْ قِلَّة , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْهَزِيمَة .."
قال ابن القيم زاد المعاد (3/477) :
" واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته " انتهى .
وقال الله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) آل عمران/141 .
قال القاسمي (4/239) :
" أي لينقّيهم ويخلّصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس . وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم. .........ثم ذكر حكمة أخرى وهي ( ويمحق الكافرين ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنّة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم ... وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعاً " انتهى .
8- إظهار حقائق الناس ومعادنهم . فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن .
قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه " .
ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : اُفْتُتِنَ نَاس كَثِير - يَعْنِي عَقِب الإِسْرَاء - فَجَاءَ نَاس إِلَى أَبِي بَكْر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّهُ صَادِق . فَقَالُوا : وَتُصَدِّقهُ بِأَنَّهُ أَتَى الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , إِنِّي أُصَدِّقهُ بِأَبْعَد مِنْ ذَلِكَ , أُصَدِّقهُ بِخَبَرِ السَّمَاء , قَالَ : فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الصِّدِّيق .
9- الابتلاء يربي الرجال ويعدهم
لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذي تتخلله الشدائد ، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال ، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها ، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها .
نشأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيماً ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضاً .
والله سبحانه وتعالى يُذكّر النبي صلّى اللّه عليه وآله بهذا فيقول : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ) .
فكأن الله تعالى أرد إعداد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تحمل المسئولية ومعاناة الشدائد من صغره
10- ومن حكم هذه الابتلاءات والشدائد : أن الإنسان يميز بين الأصدقاء الحقيقيين وأصدقاء المصلحة
كما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي(4/50)
11- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها والله عز وجل يقول : ( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ ) النساء/79 ، ويقول سبحانه : ( وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ ) الشورى/30 .
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ فإنَّ الله تعالى يقول : ( وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ) السجدة/21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر .
وإذا استمرت الحياة هانئة ، فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .
12- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا ، في حياة لا مرض فيها ولا تعب ( وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ ) العنكبوت/64 ، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ : ( لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ ) البلد/4 .
13- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية
فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة ، ولم تتذوق حلاوتهما ، ولم تقدِّرهما حق قدرهما .
المصائب تذكرك بالمنعِم والنعم ، فتكون سبباً في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده .
14- الشوق إلى الجنة
لن تشتاق إلى الجنة إلا إذا ذقت مرارة الدنيا , فكيف تشتاق للجنة وأنت هانئ في الدنيا ؟
فهذه بعض الحكم والمصالح المترتبة على حصول الابتلاء وحكمة الله تعالى أعظم وأجل .
والله تعالى أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
==============
الحكمة من ابتلاء الأنبياء
سؤال:
نعرف أن المصائب تكون بسبب الذنوب ، وأنها تكفر الذنوب ، لكن ما الحكمة من المصائب التي كانت تصيب الأنبياء ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
من أسباب المصائب : الذنوب ، ولكنها ليست السبب الوحيد ، فقد يبتلي الله تعالى بعض عباده الذين لم يذنبوا ، لينالوا أجر الصابرين ، وترتفع بذلك درجاتهم ، كما قد يبتلي الله بعض الأطفال ، وهم لا ذنب لهم . وانظر لمعرفة الحكمة من حصول الابتلاءات جواب السؤال رقم (35914) .
ثانياً :
أشد الناس بلاء الأنبياء
روى الترمذي (2398) عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : الأَنْبِيَاءُ , ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ , فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ , وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ . صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143) .
وقد ذكر الله تعالى في كتابه صوراً من الابتلاء الذي تعرض له الأنبياء :
قال تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) البقرة/87 .
وقال تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ) البقرة/91 .
وقال تعالى : ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ) آل عمران/184 .
وقال تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصف/5 .
وقال تعالى : ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) التوبة/61 .
وابتلي إبراهيم عليه السلام بمعاداة أبيه وقومه له ، وبالإلقاء في النار .
قال الله تعالى : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ ) الأنبياء/68-70 .
وابتلي بالأمر بذبح ابنه إسماعيل
( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) الصافات/102-107 .
قال ابن القيم في الفوائد ص (42) :(4/51)
" الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورُمي في النار الخليل ، وأُضْجع للذبح إسماعيل ، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشر بالمنشار زكريا ، وذُبح السيد الحصور يحيى ، وقاسى الضرَّ أيوب ... وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى .
وأُخبر نبيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالابتلاء في أول يوم من النبوة :
قال ورقة بن نوفل : ( يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا , لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ , لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ , وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ) رواه البخاري (4) .
ثالثاً :
وأما الحكمة في ابتلاء الأنبياء ؛ فقد قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (2/452) :" فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم :
1- ليستوجبوا كمال كرامته .
2- وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم .
3- ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم .
فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم ، وله الحكمة البالغة ، والنعمة السابغة ، لا إله غيره ، ولا رب سواه " انتهى .
وقال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (1/299-301) :
" وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان . . . وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين الكرامة في حقهم ، فصورته صورة ابتلاء وامتحان ، وباطنه فيه الرحمة والنعمة ، فكم لله مِن نعمة جسيمة ومنَّة عظيمة تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان .
فتأمل حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة . . .
وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه وسلم وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها حتى أقر الله عينه ، وأغرق أهل الأرض بدعوته ، وجعل العالم بعده من ذريته ، وجعله خامس خمسة وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل , وأمَر رسولَه ونبيه محمَّداً أن يصبر كصبره ، وأثنى عليه بالشكر فقال : ( إنه كان عبداً شكوراً ) فوصفه بكمال الصبر والشكر .
ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وعمود العالم وخليل رب العالمين من بني آدم ، وتأمل ما آلت إليه محنته وصبره وبذله نفسه لله ، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلاً لنفسه . . . وضاعف الله له النسل وبارك فيه وكثر حتى ملؤوا الدنيا ، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة ، وأخرج منهم محمَّداً صلى الله عليه وسلم وأمَره أن يتبع ملة أبيه إبراهيم . . .
ثم تأمل حال الكليم موسى عليه السلام وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره حتى كلَّمه الله تكليما ، وقرَّبه منه ، وكتب له التوراة بيده ، ورفعه إلى أعلى السموات ، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره ، فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسرت ، وأخذ بلحية نبي الله هارون وجرَّه إليه ، ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينه ، وخاصم ربه ليلة الإسراء في شأن رسول الله ، وربه يحبه على ذلك كله ، ولا سقط شيء منه من عينه ، ولا سقطت منزلته عنده ، بل هو الوجيه عند الله القريب ، ولولا ما تقدم له من السوابق وتحمل الشدائد والمحن العظام في الله ومقاسات الأمر الشديد بين فرعون وقومه ثم بنى إسرائيل وما آذوه به وما صبر عليهم لله : لم يكن ذلك .
ثم تأمل حال المسيح صلى الله عليه وسلم وصبره على قومه واحتماله في الله وما تحمله منهم حتى رفعه الله إليه وطهره من الذين كفروا وانتقم من أعدائه ، وقطَّعهم في الأرض ومزَّقهم كل ممزق وسلبهم ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر . . .
فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتأملت سيرتَه مع قومه وصبره في الله ، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله ، وتلون الأحوال عليه مِن سِلْم وخوف ، وغنى وفقر ، وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه وتركه لله وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه ، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان ، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله يدعو إلى الله فلم يؤذ نبي ما أوذي ، ولم يحتمل في الله ما احتمله ، ولم يعط نبي ما أعطيه ، فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه ، وجعله سيد الناس كلهم ، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة ، وأعظمهم عنده جاهاً ، وأسمعهم عنده شفاعة ، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته ، وهي مما زاده الله بها شرفا وفضلا ، وساقه بها إلى أعلى المقامات .(4/52)
وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل كلٌّ له نصيب من المحنة ، يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له " انتهى .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
===========
موقف المؤمن من الابتلاء
سؤال:
إذا أصيب المسلم بمصيبة في نفسه أو ماله أو غير كذلك ، كيف يكون تصرفه صحيحاً موافقا للشرع ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً :إن المصائب والبلاء امتحانٌ للعبد ، وهي علامة حب من الله له ؛ إذ هي كالدواء ، فإنَّه وإن كان مُرًّا إلا أنَّك تقدمه على مرارته لمن تحب - ولله المثل الأعلى - ففي الحديث الصحيح : ( إنَّ عِظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي ( 2396 ) وابن ماجه ( 4031 ) ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .
ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة ، وكيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة ) رواه الترمذي ( 2396 ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي .
وقال الحسن البصري رحمه الله : لا تكرهوا البلايا الواقعة ، والنقمات الحادثة ، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك ، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطبك - أي : هلاكك - .
وقال الفضل بن سهل : إن في العلل لنعَماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها ، فهي تمحيص للذنوب ، وتعرّض لثواب الصبر ، وإيقاظ من الغفلة ، وتذكير بالنعمة في حال الصحة ، واستدعاء للتوبة ، وحضّ على الصدقة .
والمؤمن يبحث في البلاء عن الأجر ، ولا سبيل إليه إلاَّ بالصبر ، ولا سبيل إلى الصبر إلاَّ بعزيمةٍ إيمانيةٍ وإرادةٍ قوية .
وليتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999) .
وعلى المسلم إذا أصابته مصيبة أن يسترجع ويدعو بما ورد .
فما أجمل تلك اللحظات التي يفر فيها العبد إلى ربه ويعلم أنه وحده هو مفرج الكرب ، وما أعظم الفرحة إذا نزل الفرج بعد الشدة ، قال الله تعالى : ( وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ) .
وروى مسلم (918) عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله " إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها " إلا أخلف الله له خيراً منها ) . قالت : فلما مات أبو سلمة قلت : أي المسلمين خير من أبي سلمة ؟! أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إني قلتها فأخلف اللهُ لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً :وهناك أمور إذا تأملها من أصيب بمصيبة هانت عليه مصيبته وخفت .
وقد ذكر ابن القيم في كتابه القيم " زاد المعاد " (4/189-195) أموراً منها :
1- " أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه ، وادَّخر له إن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .
2- أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة ؟ وأنه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى ، إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأن شرور الدنيا أحلام نوم ، أو كظل زائل ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً ، وإن سرَّت يوماً ساءت دهراً ، وإن متَّعت قليلاً منعت طويلاً ، ولا سرته بيوم سروره إلا خبأت له يوم شرور ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : لكل فرحة ترحة ، وما مليء بيت فرحاً إلا مليء ترحاً . وقال ابن سيرين : ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء .
3- أن يعلم أن الجزع لا يردها - أي : المصيبة - بل يضاعفها ، وهو في الحقيقة من تزايد المرض .
4- أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة .
5- أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه ، وإذا صبر واحتسب وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه ، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور .(4/53)
6- أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك " بيت الحمد " الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظر أي المصيبتين أعظم : مصيبة العاجلة ، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد ، وفي الترمذي مرفوعاً : ( يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ) ، وقال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس .
7- أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكين ، وأرحم الراحمين ، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحا ببابه ، لائذاً بجنابه ، مكسور القلب بين يديه ، رافعا قصص الشكوى إليه .
8- أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا ، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يفتقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء ، وحفظا لصحة عبوديته ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحان من يرحم ببلائه ، ويبتلي بنعمائه ، كما قيل :
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
9- أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة ، يقلبها الله سبحانه ، كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك ، فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : ( حُفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ) " انتهى باختصار .
ثالثاً :كثير من الناس إذا أحسن تلقي البلاء علم أنه نعمة عليه ومنحة لا محنة
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله " .
وقال سفيان : " ما يكره العبد خير له مما يحب ، لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء ، وما يحبه يلهيه " .
وكان ابن تيمية رحمه الله يعد سجنه نعمة عليه تسبب فيها أعداؤه .
قال ابن القيم : " وقال لي مرة - يعني شيخ الإسلام - ما يصنع أعدائي بي !! أنا جنتي وبستاني في صدري ، أنى رحت فهي معي لا تفارقني ، إنّ حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة .
وكان يقول في محبسه في القلعة : لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هده النعمة أو قال : ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا .
وكان يقول في سجوده وهو محبوس : اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله ، وقال لي مرة : المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى ، والمأسور من أسره هواه ، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال : فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط ، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش ، وخلاف الرفاهية والنعيم ، بل ضدها ، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق ، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً ، وأشرحهم صدراً ، وأقواهم قلباً ، وأسرهم نفساً ، تلوح نضرة النعيم على وجهه ، وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت منا الظنون ، وضاقت بنا الأرض ، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله ، وينقلب انشراحاً وقوة ويقينا وطمأنينة ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه ، وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها " انتهى .
"الوابل الصيب" (ص 110) .
الإسلام سؤال وجواب
===============
جواب الإمام عن ورقة أرسلت له في السجن ، مبينا الحكمة من الابتلاء ، وأن النصر لا يكون إلا بعد الامتحان(1)
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ : أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة فِي " جَوَابِ " . وَرَقَةٍ أُرْسِلَتْ إلَيْهِ فِي السِّجْنِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 211)(4/54)
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ : أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَمَّا بَعْدُ قَدْ وَصَلَتْ " الْوَرَقَةُ " الَّتِي فِيهَا رِسَالَةُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ الْعَالِمَيْنِ النَّاسِكَيْنِ الْقُدْوَتَيْنِ . أَيَّدَهُمَا اللَّهُ وَسَائِرَ الْإِخْوَانِ بِرُوحِ مِنْهُ وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَدْخَلَهُمْ مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرَجَهُمْ مُخْرَجَ صِدْقٍ وَجَعَلَهُمْ مِمَّنْ يُنْصَرُ بِهِ السُّلْطَانُ : سُلْطَانُ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ . وَسُلْطَانُ الْقُدْرَةِ وَالنَّصْرِ بِالسِّنَانِ وَالْأَعْوَانِ . وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ : لِمَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ الْأَقْرَانِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ : الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الصَّبْرِ وَالْإِيقَانِ ؛ وَاَللَّهُ مُحَقِّقٌ ذَلِكَ وَمُنْجِزٌ وَعْدَهُ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ ؛ وَمُنْتَقِمٌ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ : لِعِبَادِ الرَّحْمَنِ . لَكِنْ بِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَمَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ . مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ . الَّذِي يُخَلِّصُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ ؛ إذْ قَدْ دَلَّ كِتَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفِتْنَةِ لِكُلِّ مِنْ الدَّاعِي إلَى الْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَةِ لِذَوِي السَّيِّئَاتِ وَالطُّغْيَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } . { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } . فَأَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ السَّيِّئَاتِ يُفَوِّتُونَ الطَّالِبَ وَأَنَّ مُدَّعِي الْإِيمَانِ يُتْرَكُونَ بِلَا فِتْنَةٍ تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ ، وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الصِّدْقَ فِي الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلَى قَوْلِهِ { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِخُسْرَانِ الْمُنْقَلَبِ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ الْجَانِبُ وَالطَّرْفُ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بَلْ لَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ مَا يَهْوَاهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرْتَدِّينَ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ الْمُجَاهِدِينَ فَقَالَ { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } الْآيَةَ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الشَّاكِرُونَ لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ الصَّابِرُونَ عَلَى الِامْتِحَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا(4/55)
وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } . فَإِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ : كَانَ جَمِيعُ مَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ مِنْ الْقَضَاءِ خَيْرًا لَهُ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ } " وَالصَّابِرُ الشَّكُورُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ . وَمَنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فَهُوَ بِشَرِّ حَالٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي حَقِّهِ يُفْضِي إلَى قَبِيحِ الْمَآلِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مِحَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَفِيهَا تَثْبِيتُ أُصُولِ الدِّينِ ، وَحِفْظُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ مِنْ كَيْدِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْبُهْتَانِ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ . وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ وَسَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُتِمَّ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ وَيَنْصُرَ دِينَهُ وَكِتَابَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ : الَّذِي أُمِرْنَا بِجِهَادِهِمْ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ . وَأَنْتُمْ فَابْشُرُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ بِمَا لَمْ يَخْطِرْ فِي الصُّدُورِ . وَشَأْنُ هَذِهِ " الْقَضِيَّةِ " وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَكْبَرُ مِمَّا يَظُنُّهُ مَنْ لَا يُرَاعِي إلَّا جُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ . وَلِهَذَا كَانَ فِيمَا خَاطَبْت بِهِ أَمِينَ الرَّسُولِ عَلَاءَ الدِّينِ الطيبرسي أَنْ قُلْت : هَذِهِ " الْقَضِيَّةُ " لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِي بَلْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى مَغْرِبِهَا ؛ وَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُبَدِّلَ الدِّينَ وَلَا أُنَكِّسَ رَايَةَ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا أَرْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ .(4/56)
نَعَمْ يُمْكِنُنِي أَنْ لَا أَنْتَصِرَ لِنَفْسِي وَلَا أُجَازِيَ مَنْ أَسَاءَ إلَيَّ وَافْتَرَى عَلَيَّ وَلَا أَطْلُبُ حَظِّي وَلَا أَقْصِدُ إيذَاءَ أَحَدٍ بِحَقِّي وَهَذَا كُلُّهُ مَبْذُولٌ مِنِّي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَنَفْسِي طَيِّبَةٌ بِذَلِكَ وَكُنْت قَدْ قُلْت لَهُ الضَّرَرُ فِي هَذِهِ " الْقَضِيَّةِ " لَيْسَ عَلَيَّ ؛ بَلْ عَلَيْكُمْ . فَإِنَّ الَّذِينَ أَثَارُوهَا مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ : الَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ وَيُبْغِضُونَ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُجَاهِدِينَ عَنْهُ وَيَخْتَارُونَ انْتِصَارَ أَعْدَائِهِ مِنْ التَّتَارِ وَنَحْوِهِمْ . وَهُمْ دَبَّرُوا عَلَيْكُمْ حِيلَةً يُفْسِدُونَ بِهَا مِلَّتَكُمْ وَدَوْلَتَكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى بُلْدَانِ التَّتَارِ وَبَعْضُهُمْ مُقِيمٌ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ ؛ وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَسْرَارٌ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَذْكُرَهَا وَلَا أُسَمِّيَ مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى تُشَاوِرُوا نَائِبَ السُّلْطَانِ فَإِنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ ذَكَرْت لَك ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لَهُ وَمَا أَقُولُهُ فَاكْشِفُوهُ أَنْتُمْ فَاسْتَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ يَا مَوْلَانَا : أَلَا تُسَمِّي لِي أَنْتَ أَحَدًا ؟ فَقُلْت : وَأَنَا لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ . لَكِنْ تَعْرِفُونَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا فَسَادَ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ . وَجَعَلُونِي إمَامًا تَسَتُّرًا ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنِّي أُوَالِيكُمْ وَأَسْعَى فِي صَلَاحِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ وَسَوْفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْكَشِفُ الْأَمْرُ . قُلْت لَهُ وَإِلَّا فَأَنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَخَافُ إنْ قُتِلْت كُنْت مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَكَانَ عَلَيَّ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ عَلَى مَنْ قَتَلَنِي اللَّعْنَةُ الدَّائِمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ لِيَعْلَمَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنِّي إنْ قُتِلْت لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ وَإِنْ حُبِسْت فَالْحَبْسُ فِي حَقِّي مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ ووالله مَا أُطِيقُ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيَّ فِي هَذَا الْحَبْسِ وَلَيْسَ لِي مَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْهِ لَا أَقْطَاعِي وَلَا مَدْرَسَتِي وَلَا مَالِي وَلَا رِيَاسَتِي وَجَاهِي . وَإِنَّمَا الْخَوْفُ عَلَيْكُمْ إذَا ذَهَبَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَفَسَدَ دِينُكُمْ الَّذِي تَنَالُونَ بِهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا كَانَ مَقْصُودُ الْعَدُوِّ الَّذِي أَثَارَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ . وَقُلْت : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِمِصْرِ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْمَشَايِخِ : إخْوَانِي وَأَصْحَابِي ؛ أَنَا مَا أَسَأْت إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ وَمَازِلْت مُحْسِنًا إلَيْهِمْ فَأَيُّ شَيْءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَلَكِنْ لَبَّسَ عَلَيْهِمْ الْمُنَافِقُونَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ . وَأَنَا أَقُولُ لَكُمْ - لَكِنْ لَمْ يَتَّفِقْ أَنِّي قُلْت هَذَا لَهُ - إنَّ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ وَيُطِيعُهُمْ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } . وَالنِّفَاقُ لَهُ شُعَبٌ وَدَعَائِمُ ؛ كَمَا أَنَّ لِلْإِيمَانِ شُعَبًا وَدَعَائِمَ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ } وَفِيهِمَا أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : " { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَإِذَا ائتمن خَانَ } ".(4/57)
وَقُلْت لَهُ : هَذِهِ الْقَضِيَّةُ أَكْبَرُ مِمَّا فِي نُفُوسِكُمْ ؛ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ ذَهَبُوا إلَى بِلَادِ التتر . فَقَالَ : إلَى بِلَادِ التتر ؟ فَقُلْت نَعَمْ . هُمْ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى تَحْرِيكِ الشَّرِّ عَلَيْكُمْ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى لَا يَصْلُحُ أَنْ أَذْكُرَهَا لَك . وَكَانَ قَدْ قَالَ لِي : فَأَنْتَ تُخَالِفُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ ؛ وَذَكَرَ حُكْمَ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ فَقُلْت لَهُ : بَلْ الَّذِي قُلْته عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذَاهِبُ وَقَدْ أَحْضَرْت فِي الشَّامِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ كِتَابًا : مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالْمُتَكَلِّمِين وَالصُّوفِيَّةِ كُلُّهَا تُوَافِقُ مَا قُلْته بِأَلْفَاظِهِ ؛ وَفِي ذَلِكَ نُصُوصُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَلَمْ يَسْتَطِعْ الْمُنَازِعُونَ مَعَ طُولِ تَفْتِيشِهِمْ كُتُبَ الْبَلَدِ وَخَزَائِنَهُ أَنْ يُخْرِجُوا مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَسَلَفِهِ . وَكَانَ لَمَّا أَعْطَانِي الدُّرْجَ . فَتَأَمَّلْته فَقُلْت لَهُ : هَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ ؛ إلَّا كَلِمَةً وَاحِدَةً . وَهِيَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً ؛ لَكِنْ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ . قُلْت وَهَذَا هُوَ فِي " الْعَقِيدَةِ " بِهَذَا اللَّفْظِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ . فَقَالَ : فَاكْتُبْ خَطَّك بِهَذَا . قُلْت : هَذَا مَكْتُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فِي " الْعَقِيدَةِ " وَلَمْ أَقُلْ : بِمَا يُنَاقِضُهُ ؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِ الْخَطِّ . وَقُلْت : هَذَا اللَّفْظُ قَدْ حَكَى إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَمَا فِي عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا هَؤُلَاءِ الْخُصُومُ .(4/58)
قُلْت : فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَا فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ يُدْعَى وَلَا فَوْقَ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ ؛ وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالنَّفْيُ الصِّرْفُ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَلَكِنْ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ وَنَزَلَ . وَأَنَّ الدَّاعِيَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى اللَّهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ ؛ وَأَنَا اللَّهُ ؛ وَأَنْتَ اللَّهُ ؛ وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْعَذِرَةُ وَيَقُولُ : إنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِي ذَلِكَ . فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَهَالَهُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا . فَقَالَ " هَؤُلَاءِ " يَعْنِي ابْنَ مَخْلُوفٍ وَذَوِيهِ فَقُلْت : هَؤُلَاءِ مَا سَمِعْت كَلَامَهُمْ وَلَا خَاطَبُونِي بِشَيْءِ ؛ فَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَقُولَ عَنْهُمْ مَا لَمْ أَعْلَمْهُ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلُ الَّذِينَ نَازَعُونِي بِالشَّامِ وَنَاظَرُونِي وَصَرَّحُوا لِي بِذَلِكَ وَصَرَّحَ أَحَدُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُخَالِفُهُمْ . وَجَعَلَ الرَّجُلُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يُصْغِي لِمَا أَقُولُهُ وَيَعِيهِ : لَمَّا رَأَى غَضَبِي وَلِهَذَا بَلَغَنِي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ خَرَجَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِمَا سَمِعَهُ مِنِّي . وَقَالَ : هَذَا عَلَى الْحَقِّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ ضَيَّعُوا اللَّهَ وَإِلَّا فَأَيْنَ هُوَ اللَّهُ ؟ وَهَكَذَا يَقُولُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ . كَمَا قَالَهُ : جَمَالُ الدِّينِ الْأَخْرَمُ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ لَمَّا خَاطَبَهُ الْمَلِكُ الْكَامِلُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَهُ الْأَخْرَمُ : هَؤُلَاءِ قَدْ ضَيَّعُوا إلَهَك فَاطْلُبْ لَك إلَهًا تَعْبُدْهُ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ حَقِيقَةً عَلِيمٌ حَقِيقَةً قَدِيرٌ حَقِيقَةً سَمِيعٌ حَقِيقَةً بَصِيرٌ حَقِيقَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ الْفَلَاسِفَةُ الْبَاطِنِيَّةُ . فَيَقُولُونَ : نُطْلِقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا حَقِيقَةٌ . وَغَرَضُهُمْ بِذَلِكَ جَوَازُ نَفْيِهَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا حَيَّ حَقِيقَةً وَلَا مَيِّتَ حَقِيقَةً وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ وَلَا قَادِرَ وَلَا عَاجِزَ وَلَا سَمِيعَ وَلَا أَصَمَّ . فَإِذَا قَالُوا إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَجَازٌ : أَمْكَنَهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْمَجَازِ صِحَّةُ نَفْيِهِ . فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً لَزِمَهُ جَوَازُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ صِحَّةُ نَفْيِهِ . فَيَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِأَسَدِ وَلَا بِحِمَارِ وَلَكِنَّهُ آدَمِيٌّ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَهُمْ لَا يَسْتَوِي اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ . كَقَوْلِ إخْوَانِهِمْ لَيْسَ هُوَ بِسَمِيعِ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ . فَيَأْتُونَ إلَى مَحْضِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُقَابِلُونَهُ بِالنَّفْيِ وَالرَّدِّ ؛ كَمَا يُقَابِلُهُ الْمُشْرِكُونَ بِالتَّكْذِيبِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَنْفُونَ اللَّفْظَ مُطْلَقًا . وَقَالَ الطلمنكي أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - قَبْلَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ والباجي وَطْبِ قتهما - فِي " كِتَابِ الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ " : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ : أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَيْفَ شَاءَ . وَقَالَ أَيْضًا : قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ : فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } إنَّ الِاسْتِوَاءَ مِنْ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " - شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَهُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي فَنِّهِ - لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ(4/59)
الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ؛ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ . قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ : أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَقَالَ { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ } وَقَالَ { يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ } وَذَكَرَ آيَاتٍ . إلَى أَنْ قَالَ : وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا خَالَفَهُمْ فِيهِ مُسْلِمٌ . وَهَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الهمداني أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالَ : " كَانَ اللَّهُ وَلَا عَرْشَ " فَقَالَ : يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ . أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي نَجِدْهَا فِي قُلُوبِنَا مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ يَا اللَّهُ إلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً . فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : حَيَّرَنِي الهمداني ، حَيَّرَنِي الهمداني : أَرَادَ الشَّيْخُ أَنَّ إقْرَارَ الْفِطَرِ بِأَنَّ مَعْبُودَهَا وَمَدْعُوَّهَا فَوْقَ : هُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ عَقْلِيٌّ فِطْرِيٌّ لَمْ تَسْتَفِدْهُ مِنْ مُجَرَّدِ السَّمْعِ بِخِلَافِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ - بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - فَإِنَّ هَذَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ . وَلِهَذَا لَا تُعْرَفُ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّينَ بِالنُّبُوَّاتِ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كَالتُّرْكِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ أَسْمَاءُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ . وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اجْتِمَاعِ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْأُسْبُوعِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْيَوْمَ لَنَا ، وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى } " . وَبَسَطَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ . إلَى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ : قَالَ أَبُو عُمَرَ : أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ ؛ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ : الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا ؛ وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ - عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا - نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ وَالْحَقُّ مَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ .(4/60)
وَقَالَ أَيْضًا الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ : فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا : الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ وَتَرْكُ التَّحْدِيدِ وَالْكَيْفِيَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . وَقَالَ السجزي فِي " الْإِبَانَةِ " وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ والْفُضَيْل وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ : مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى وَيَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ . فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ . وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي " الغنية " أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ - عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ - فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ . إلَى أَنْ قَالَ : وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ . قَالَ : وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ؛ بَلْ يُقَالُ : إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ . قَالَ : وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا تَكْيِيفٍ . وَذَكَرَ الشَّيْخُ " نَصْرٌ المقدسي " فِي " كِتَابِ الْحُجَّةِ " عَنْ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ : سَأَلْت أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ ؟ فَقَالَا أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ : حِجَازًا وَعِرَاقًا وَمِصْرَ وَشَامًا ويَمَنًا ؛ فَكَانَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ : أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَالْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ ؛ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِجَمِيعِ جِهَاتِهِ إلَى أَنْ قَالَ : وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا كَيْفٍ . أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا . وَقَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ إنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ ذَكَرْت مَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ : مِنْ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَالْعُلَمَاءُ . فَاذْكُرْ مَذْهَبَهُمْ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . فَالْجَوَابُ : أَنَّ الَّذِي أَدْرَكْنَا عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَمَنْ بَلَغَنِي قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِهِمْ . فَذَكَرَ مُجْمَلَ " اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّة " وَفِيهِ : وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . كَمَا قَالَ : فِي كِتَابِهِ . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي " قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ " :
عَقِيدَتُهُمْ أَنَّ الْإِلَهَ بِذَاتِهِ * * * عَلَى عَرْشِهِ مَعَ عِلْمِهِ بالغوائب(4/61)
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ - فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } قَالَ هَذِهِ " مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ " وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا كَلَامٌ . فَذَكَرَ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ . ثُمَّ قَالَ : كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ . بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ ، كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ . قَالَ : وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ . فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ . ثُمَّ قَالَ : بَعْدَ أَنْ حَكَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا - وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْآيُ وَالْأَخْبَارُ وَالْفُضَلَاءُ الْأَخْيَارُ : أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ بِلَا كَيْفٍ . بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ . هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيمَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ عَنْهُمْ . وَلَمَّا اجْتَمَعْنَا بِدِمَشْقَ وَأَحْضَرَ فِيمَا أَحْضَرَ كُتُبَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ : مِثْلَ " الْمَقَالَاتِ " وَ " الْإِبَانَةِ " وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ فورك وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ . وَأَحْضَرَ كِتَابَ " الْإِبَانَةِ " وَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِ " تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا نُسِبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ " وَقَدْ نَقَلَهُ بِخَطِّهِ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ . وَقَالَ فِيهِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ : فَعِّ رفونا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ . قِيلَ لَهُ : قَوْلُنَا : التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ . وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ ، لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ .
===============
هل ابتلاء الخلق يعارض الرحمة؟(1)
المجيب د. محمد بن عبدالله الخضيري
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التاريخ 18/05/1426هـ
السؤال
كيف نربط بين علم الله الأول بخلقه ورحمته وعدله وعذابه ؟ وكيف نفسِّر رحمة الله وعدله، وهو إنما خلق العباد ليبتليهم، وهل الرحمة تعارض ابتلاء الخلق؟.
الجواب
يا أخي: ينبغي أن تعلم أصولاً في هذه المسألة:
الأول: أن كل ما يقع في هذا الكون من أفعال الله -تعالى-، ومن أفعال العباد، والتي هي بمشيئة الله -تعالى- جميع ذلك مرتبط بالحكمة التامة، فمشيئته تابعة لحكمته، فهو سبحانه أحكم الحاكمين، وهو يحكم لا معقب لحكمه.
الثاني: أن الله -تعالى- عدل يحب العدل، وعدله تعالى تام في أحكامه وأفعاله وقضائه، ولا يظلم ربك أحداً لكمال عدله سبحانه.
الثالث: أن أفعال الله -تعالى- لها غايات، وحكم، وعلل لا تعود إلى ذات المخلوق، ونظره وقياسه، بل هي عائدة وراجعة إلى علم الله -تعالى-، لم يوجب العباد عليه شيئاً، ولا يقاس الخالق بخلقه، لا قياس شمول ولا قياس تمثيل، وبالتالي فمنتهى رحمته هو منتهى علمه، قال تعالى: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً"[غافر:7]،
ووجه رحمته كما يكون في من يثيبهم يكون أيضاً فيمن يعذبهم بعدله، ولا منافاة بين الرحمة والعدل، ألا ترى أن إيقاع العذاب والقصاص في الدنيا على من يستحقه هو عدل وكمال، وهو أيضاً رحمة له بالتطهير، ولغيره بكف شره، واستيفائهم حقهم منه، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (ومسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة، لعلها أجل المسائل الإلهية). منهاج السنة (3/39).
ويقول ابن قتيبة -رحمه الله-: (وعدل القول في القدر أن تعلم أن الله عدل لا يجور: كيف خلق؟ وكيف قدَّر؟ وكيف أعطى؟ وكيف منع؟ وأنه لا يخرج من قدرته شيء، ولا يكون في ملكوته من السماوات والأرض إلا ما أراد، وأنه لا دين لأحد عليه ولا حق لأحد قبله، فإن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل).الاختلاف في النظر لابن قتيبة (ص 35).
الرابع: أن منشأ ضلال الخائضين في القدر هو التسوية بين الإرادتين الكونية والشرعية، حيث اعتقدوا أن كل ما شاءه وقدَّره فقد أحبه ورضيه، فنفت الجبرية لذلك أفعال العباد، وسلبتهم الحرية والاختيار.
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 2 / ص 345(4/62)
ونفت القدرية قدرة الله، وتقديره لأفعال العباد؛ لئلا يقع ويصدر منه تعالى الشرور والمعاصي التي هي أفعال العباد، وهذا غاية التحريف والانحراف في هذه المسألة الجليلة. وأهل السنة قاطبة على أنه تعالى خلق الأشياء كلها وقدَّرها، وأرادها، فأحب الطاعات والإيمان، والخير، وكره الكفر والفسوق والعصيان، قال تعالى: "إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم"[الزمر:7]، وقال: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن"[التغابن:2].
الخامس: أن أصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الرب بعلل وحكم راجعة إليهم يحكمونها بآرائهم وأقيستهم العقلية، فما يرونه مجانباً للعدل في عقولهم يعللون؟ بوجوبه على الله تعالى، وأن عليه أن يفعل الأصلح، ومن هنا صار عامة القدرية الخائضين في القدر على طريقة التعليل صاروا مشبهة في الأفعال، يقول ابن تيمية - رحمه الله- في تائيته المشهورة: (وأصل ضلال الخلق من كل فرقة، هو الخوض في فعل الإله بعلّة).
السادس: أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة، فمن كان أعلم وأقدر كانت أفعاله أحكم وأكمل، والرب -تعالى- منفرد بكمال العلم والقدرة، فحكمته متعلِّقة بكل ما تعلّق به علمه وقدره، كما سبق ذلك في الأصل الأول.
السابع: أنه لا يلزم من أثبت تعليل أفعال الله بالحكم والمصالح أن يعلم علة كل فعل وأمر، بل عليه أن يعتقد أن لله -تعالى- في جميع أفعاله حكماً جليلة - ظهرت لنا أو خفيت- فالله -تعالى- لم يطلع خلقه على جميع حكمه، بل أعلمهم بما شاء، وما خفي عليهم أكثر مما علموه.
ومن هذه الأصول وغيرها يتبين لك - أخي- أنه لا تضاد بين علم الله وقدره، وبين رحمته وعدله، وكون هذا من الغيب أو لا - كما في سؤالك-، فأقول لك: رحمة الله وعدله آثارها وأسبابها ودلائلها ليست غيباً، بل هي معلومة لنا في القرآن والسنة، وهي داخلة ضمن ما أمرنا بتدبره، وكذلك أسماء الله وصفاته ما يتعلق بمعانيها ودلالاتها، ومعرفة الله وعبادته بمقتضاها هي من الوجه المعلوم لنا، والمذكور في دلائل القرآن والسنة.
أما الكيفيات لما سبق وتفاصيل الحكم والعلل والغايات، فهو ما لم نؤمر بمعرفته وتطلبه، بل بالعكس جاءت الأدلة بالمنع من ذلك، لا لأن العقل يحكم باستحالته وانتفائه وامتناعه، ولكن لأن العقل يحار فيه ولا يدركه ولا يطيقه، كما قال تعالى: "ولا يحيطون به علماً"[طه:110]، فلا نحيط علماً بالله لا بذاته ولا بأسمائه، ولا بصفاته، ولا بأفعاله، ولا بأقداره، ولا بحكمه، يقول تعالى: "لا يُسأل عما يَفعل وهم يُسألون"[الأنبياء:23]، وجاء النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الخوض بالقدر كما في قوله: "... وإذا ذكر القدر فأمسكوا" أخرجه الحارث بن أبي أسامة (742-بغية) والطبراني في الكبير (10448)، وحسَّنه العراقي وابن حجر والسيوطي، وصحَّحه الألباني، ولما خرج -صلى الله عليه وسلم- على الصحابة - رضي الله عنهم- يوماً وجد بعضهم يتنازعون في القدر، غضب غضباً شديداً حتى احمرّ وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان فقال: "أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم، إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه" أخرجه الترمذي (2133) من حديث أبي هريرة، وحسَّنه الألباني، وله شاهد من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- بلفظ: "لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم" أخرجه أحمد (206)، وأبو داود (4710)، والحاكم (1/159).
وهذه الأدلة وغيرها محمولة عند أهل العلم على النهي عن الخوض بالقدر بلا علم، وثانياً: على الاعتماد في معرفة أسرار القدر على العقل البشري، وثالثاً: على البحث عن الجانب الخفي في القدر الذي هو سر الله في خلقه، ورابعاً: على الأسئلة الاعتراضية التي دافعها التعنُّت والتحكم على الله تعالى.
وأخيراً: أسأل الله لي ولك العلم النافع، واليقين الصادق، ولعلك تقرأ مزيداً من ذلك في رسالة ابن تيمية: (أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة، والتعليل)، وكتاب ابن القيم (شفاء العليل)، والقضاء والقدر للمحمود، ومثله الدسوقي، وشرح تائية ابن تيمية وغيرها. وفقك الله.
==============
كثرة الحوادث عقوبة أم ابتلاء؟(1)
المجيب د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -سابقا-ً
التصنيف الفهرسة/ الاستشارات/ استشارات دعوية وإيمانية/ قضايا إيمانية/الصبر
التاريخ 09/09/1425هـ
السؤال
رجل يعمل سائقاً على سيارته منذ عام 94، وركب عدَّة سيارات، وكلما اشترى سيارة إما أن يحدث له حادث أو جميع الدخل من السيارة يصرف في تصليحها، علماً بأن بيته لا ينتفع منه بشيء، فهل هذا غضب من الله أم ابتلاء؟ نرجو الإفادة، وكيف التصرُّف؟.
الجواب
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 20 / ص 85)(4/63)
ما ذكرته من تكرر المصائب على هذا الشخص الذي يعمل سائق سيارة ودائماً تتعطل، فنقول: إن تكرر المصائب على الإنسان لا يدل على غضب الله -عز وجل- عليه، بل إذا كان هذا الرجل مستقيماً فربما يكون هذا ابتلاء من الله -عز وجل- يرفع به درجاته ويمحو به ذنوبه، كما في الحديث: أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً أشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجة (4023).
فانظر كيف وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان مع توالي البلاء عليه.
وعندما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" قالوا: يا رسول الله ذلك أن لك أجرين قال: "أجل" صحيح البخاري (5648)، وصحيح مسلم (2571).
أخي الكريم: هذه المصائب والكوارث يصاب بها الأخيار والفجار والصالحون والأشرار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، ولا يمكن الجزم بأنها دلالة على غضب الله، ولا رضاه، ولكنها أقدار من الله -عز وجل- يبتلي بها عباده ويختبرهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.
ولكن ننصح هذا الرجل الذي تكرر له الإخفاق في هذا المجال أن يبحث عن مجال آخر، فربما كان السبب أنه دخل في عمل لا يناسبه ولا يحسنه، وأنه لو توجه إلى مهنة أخرى وعمل آخر فربما فتح عليه فيه، وتيسَّر أمره ووجد العمل الذي يناسبه.
نسأل الله -عز وجل- له التوفيق والسداد والصلاح، وأن يهديه للخير. والصلاة والسلام على نبينا محمد.
===============
ابتلاء الله لعباده له حكم وعلى العبد التسليم(1)
رقم الفتوى 2795 ابتلاء الله لعباده له حكم وعلى العبد التسليم
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
السؤال
السلام عليكم
تزوجت قبل سبع سنوات ورزقني الله بنتين مصابتين بمرض التخلف العقلي والحمد الله على كل حال، علماً بأني أجريت فحوصات الوراثة علها تكون السبب لكن أجمع الأطباء على نفي ذلك، ونصحني بعض كبار السن بتجديد العقد بيني وبين زوجتي عله يكون حسدا أو عينا فما الحكم؟
وفقكم الله والسلام.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
إن الله جل وعلا يبتلي عباده بما شاء لحكمة عظيمة، وعلى العبد أن يسلم أمره لمولاه ويرضى بما قضى له، ذكر أن عثمان رضي الله عنه لما ضرب جعل يقول والدماء تسيل على لحيته: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعين بك عليهم، استعينك على جميع أموري وأسألك الصبر على ما ابتليتني". وليعلم المؤمن أن هناك من هو أعظم منه ابتلاء وأشد اختباراً. قال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) [محمد: 31] وكما قال الشاعر:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وأما ما ذكر من تجديد العقد بينك وبين زوجتك فغير صحيح بالمرة، والأمر لا يتعلق بهذا بل إن كان عيناً فعليك برقية نفسك ورقية امرأتك بالمعوذتين مثلاً وبالرقى الشرعية.. هذا والله نسأل أن ينعم عليك بالخلف الصالح.. هذا والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
تحريم بعض الأمور في الدنيا وإباحتها في الجنة لانتهاء الابتلاء (2)
رقم الفتوى 4295 تحريم بعض الأمور في الدنيا وإباحتها في الجنة لانتهاء الابتلاء
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
السؤال
لماذا حرمت أشياء في الدنيا وهي في الجنة حلال؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاعلم أن التحليل والتحريم إلى الله تعالى، وأنه ما من شرع إلا وراءه حكمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
والابتلاء بالتحريم والتحليل يظهر العبودية والامتثال، فالعبد المؤمن يقول: سمعنا وأطعنا. والعبد الخاسر يقول: سمعنا وعصينا. وليس للمؤمن فيما قضى الله و رسوله خيرة، كما قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبيناً. ) [الأحزاب:36 ]
وليس للعبد أن يعترض على مولاه، ولا أن يتقدم بين يديه بالسؤال: لم حرم هذا ؟ ولم أبيح ذاك؟ فالله تعالى: ( لا يسأل عن ما يفعل وهم يسألون)[الأنبياء:23]
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1028)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1868)(4/64)
وإذا دخل أهل الجنة الجنة انقطع التكليف، وزال الابتلاء، وحل عليهم الرضوان، وأعطاهم الله ما يشتهون من ألوان النعيم،ومن ذلك أن يبيح لهم بعض ما حرم عليهم في الدنيا، جزاء صبرهم وامتثالهم، مع أنه لا مقارنة بين ما في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى عن خمر الجنة: ( يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم) [الطور:23] وقال تعالى: ( بيضاء لذة للشاربين* لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) [الصافات: 46،47] وقال تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق وكأس من معين*. لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) [الواقعة: 17-19] قال القرطبي رحمه الله في تفسير آية الطور: ( لا لغو فيها ولا تأثيم): أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ، أي: هذيان، ولا إثم، أي: فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا، قال ابن عباس: اللغو: الباطل، والتأثيم: الكذب.
وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون.
وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان، فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا و أذاها، كما تقدم، فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ، الفارغ من الفائدة، المتضمن هذياناً وفحشاً، وأخبر بحسن مظهرها وطيب طعمها ومخبرها فقال: (بيضاء لذة للشاربين* لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ). انتهى.
وقال في تفسير آية الصافات: قال زيد بن أسلم: خمر بيضاء، أي لونها مشرق حسن بهي لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدرة إلى غير ذلك مما ينفرمنه الطبع السليم. انتهى.
وقوله تعالى: ( ولا هم عنها ينزفون ) أي: لا تذهب عقولهم.
قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء ،والبول، فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الأمور المعينة على تجاوز المصائب والابتلاءات (1)
رقم الفتوى 5249 الأمور المعينة على تجاوز المصائب والابتلاءات
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
السؤال
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أما بعد إخوتي الأعزاء لم أرد أن أرسل هذا السؤال إلا لحاجتي لمعرفة ما إذا كان ربي جل جلاله سيؤجرني على ما ابتلاني من مصيبة هي التي دفعتني إلى ذلك. أعاني من مشكلة ليست جسدية والحمد لله. أنا اعلم بأن حلها بسيط جدا على الكثيرين ولكنها أثارت جميع أنواع المشاكل في حياتي. مشكلتي أنني لا أستطيع التحاور والكلام مع الآخرين. و قد زادت مشكلتي و مصيبتي و شقائي عندما أتيت إلى الولايات المتحدة فرقها الله. و لم آت هنا سوى للدراسة فقط. وأنا أحس بأن وحدتي قد زادت بستين ألف ضعف. أنا والحمد لله لا أسعى إلى شفقة أي مخلوق على وجه الأرض. إنما سؤالي هو عما إذا كان هناك من الأحاديث النبوية الشريفة أو كتاب الله عز و جل ما يساعدني ويشد من أزري. أنا آسف على الإطالة و جزاكم الله كل خير .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الله جلت قدرته يبتلي عباده بما شاء من أنواع البلاء، قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) [الأنبياء: 35].
وعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وأنت إن شاء الله مع صبرك على تلك البلوى مأجور من المولى تبارك وتعالى، فما من عبد يبتلى ببلوى أو مصيبة فيصبر عليها إلا كان ذلك خيراً له، كما في الحديث الصحيح: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له". رواه مسلم
وعليك أخي الكريم أن تسعى في معرفة سبب هذا الأمر. أيرجع ذلك إلى ضعف في لغتك؟ أو أن ذلك بسبب عدم معرفتك لأصدقاء يساعدونك في دفع ألم الغربة أو غير ذلك من الأسباب الاجتماعية أو الثقافية ونحوها. فاسع في معرفة السبب الذي أدى إلى ذلك، وحاول معالجته واستعن بالله.
ومما يعين على مجاوزتك هذا الأمر المحافظة على أركان الإسلام وواجباته لا سيما الصلاة وأدائها جماعة بالمسجد، ومخالطة إخوانك المسلمين في المراكز الإسلامية.
وعليك باللجوء إلى الله والتضرع إليه والتوبة الصادقة، حيث أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالإنابة إليه والتوبة، قال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [النور: 31] قال العباس رضي الله عنه: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يكشف إلا بتوبة.
وأكثر أخي الكريم من ذكر الله تعالى، فبذكره جل وعلا تطمئن قلوب المؤمنين، قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد:28 ].
ومن الأدعية النافعة إن شاء الله.
- (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2220)(4/65)
-( حسبي الله ونعم الوكيل) ففي سنن أبى داود عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يلوم على العجر ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
- (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلاً) رواه ابن السني عن أنس بن مالك. وصححه الحافظ ابن حجر
- (رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين).
هذا والله نسأل أن ييسر لك أمورك وأن يوفقك للحق والخير. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
خلق الإنسان للابتلاء(1)
رقم الفتوى 5492 خلق الإنسان للابتلاء
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
السؤال
إن الله يعلم مصير كل إنسان قبل أن يخلقه، هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار. فلماذا خلق الله الإنسان إذن؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذه الحياة هي دار ابتلاء حيث يبتلي الله عباده بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فمن صدق بالرسل وعمل بما في الكتب كان من أهل الجنة ومن أهل السعادة ومن كذب كان من أهل الشقاء وأهل النار. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يعمله الناس أهو أمر قد قضي وفرغ منه أم أمر مستأنف ، فقال بل أمر قد قضي وفرغ منه ، فقالوا : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وقد قال الله تعالى: (إنَّ سعيكم لشتّى، فأمّا من أعطى واتّقى وصدَّق بالحُسنى فسنيسّره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسّره للعُسرى) [الليل: 4-10]. فعلى كل أحد أن يعمل ويبحث عن مواطن الهداية ويدعو الله أن يرزقه الثبات على الدين، وأن يعلم أن الله تعالى قد خلق الخلق وهو يعلم أرزاقهم وآجالهم وماهم عاملون، ونحن نرى أكثر الناس يستشكلون أمر السعادة والشقاوة، ولايستشكلون أمر الرزق ونحوه، وهي من باب واحد من جهة خفائها عن الخلق وأن علم الله قد سبق فيها.
وأما الاحتجاج بكونه سبحانه يعلم مصير كل فرد من مخلوقاته فهذا أمر طبيعي للإله القادر العليم.
وكيف يكون رباً للأشياء وهو لا يعلم مصيرها ولا ما تؤول إليه: فالإله الذي يجهل مستقبل مخلوقاته ولا يدري هل سيعصونه أم سيطيعونه،
ولا يدري من الذي سيعذب منهم ولا من سيرحم، لا يستحق أن يكون إلها، لعدم إحاطة علمه بما خلق، والله سبحانه وتعالى علمه محيط بكل شيء من مخلوقاته ولذا قال: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك: 14].
وهو الذي يفعل ما يشاء كيف يشاء لا دخل لأحد من خلقه في فعله جل وعلا، قال تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) [الأنبياء: 23].
وقد أخبرنا سبحانه أنه خلق الجن والإنس لعبادته وطاعته ، فقال " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "[الذاريات:56].
وفي إيجاد الإنس والجن ، وابتلائهم بالتكاليف ، ثم مجازاتهم على أعمالهم ظهور لآثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ، فهو الخالق الرازق المحيي المميت ، وهو الرحمن الرحيم ، والحكيم العليم ، وهو ناصر المؤمنين ومخزي الكافرين ، وهو الديان الذي يحاسب عباده ويجازيهم على أعمالهم ، وهو المنتقم الجبار ، الذي ينتقم لأوليائه من أعدائه ، وهو الموصوف بكمال العدل والإحسان جل وعلا .
ثم إن هذا اللون من الأسئلة لا ينبغي للمؤمن التشاغل به، فالمتشاغل بذلك لا يأمن أن يتساقط إيمانه شيئاً فشيئاً، والواجب أن نثق بحكمة الله وعدله، وأنه لايعذب أحدا بغير ذنب استحقه وأنه يعفو عن كثير. وقاعدة ذلك التسليم لأمر الله ، مابلغته عقولنا وما قصرت عن فهمه، وأن العجز والقصوروالخلل فينا لافي حكمة الله تعالى، بل هو سبحانه : (لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسئَلون) [الأنبياء: 23]. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الصبر على الابتلاء خير من العادة السرية (2)
رقم الفتوى 8996 الصبر على الابتلاء خير من العادة السرية
تاريخ الفتوى : 13 ربيع الثاني 1422
السؤال
أنا شاب خطبت ابنة خالتي ولم أعقد نكاحها، وقمت ذات يوم بتقبيلها والنظر إلى بعض مفاتنها حاولت أن أمتنع عن ذلك واستطعت، ولكني بعدها بدأت بممارسة العادة السرية فماذا أفعل ولا أستطيع تركها وإن تركتها سأرجع لشهوتي مع مخطوبتي فأفيدونا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2316)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4371)(4/66)
فإن الحرام لا يعالج بالحرام، فلا يندفع تقبيل الأجنبية والنظر إليها بشهوة بالاستمناء، ولا العكس، بل يُدفع كل ذلك بمجاهدة النفس والهوى والشيطان، وبصبرك عن المعاصي، وامتثال أوامر الله تعالى، والخوف من عقابه، وإظهار الرجولة في ترك سفاسف الأفعال، ورذائل التصرفات، والدنيا دار عمل وابتلاء، وابتلاؤك في هذه الفترة من الزمان بهذا الأمر، فأحسن العمل، واثبت على الحق، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2].
فليس لك إلا أن تسارع بالزواج ممن خطبت إن كانت ذات دين وخلق، وقبل ذلك عليك أن تصبر، ولا تلقاها، ولا تحادثها حتى يكتب لك نكاحها، واترك حالاً كل فعل محرم من استمناء، أو ملامسة ونظر محرم، واحتسب كل ذلك عند الله، واشغل نفسك بأعمال مفيدة، دينية أو دنيوية، ولا تسترسل مع الهواجس وخيالات الزواج، واترك ذلك لحينه فهو آت -إن شاء الله- وكل آت قريب.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الوسوسة ابتلاء من الله ، لكن لها علاج(1)
رقم الفتوى 10355 الوسوسة ابتلاء من الله ، لكن لها علاج
تاريخ الفتوى : 28 جمادي الثانية 1422
السؤال
السلام عليكم:
أرجو إفادتي في مشكلة الوسواس التي أعاني منها فأنا عند الوضوء يصعب علي التسمية فأشعر كأني لم أنطقها فأعيدها عدة مرات كما أني أنسى أثناء الوضوء إذا كنت غسلت الأعضاء السابقة أم لا فأعيد الوضوء من جديد .
2)عند الصلاة أشعر باني لم أنوي الفرض الذي سأصليه فأشعر بأني سأ نوي النافلة وليست الفريضة مما يجعلني آخذ وقتا طويلا قبل الصلاة لأنوي مما يجعلني أرتبك أثناء التكبير فأنطقها بتكلف كما أني أشعر بأني سأقطع الصلاة عند أي خطأ أو عند سماع صوت فهل يبطلها أم لا
أرجو إفادتي بحلول عملية للتخلص من الوسواس
وهل إذا نسيت الفرض الذي أصليه ثم تذكرته أثناء الصلاة هل يبطلها أم لا ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز للمسلم أن يستسلم لهذه الوسوسة التي تعرض له في وضوئه ، أو في صلاته ، أو في ذكره، أو غير ذلك. لأنها من كيد الشيطان ليصرف الصالحين عن عبادتهم ، ويقطعهم عما يقربهم من ربهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره ، فينبغي للعبد أن يثبت ، ويصبر ، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ، ولا يضجر ، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان: (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) وكلما أراد العبد توجهاً إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوساوس أمور أخرى ، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق ، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه ، ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا ، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب؟!
وإذا استسلم الشخص للوساوس ولم يقطعها ، فقد تجره إلى ما لا تحمد عقباه -والعياذ بالله- ومن أفضل السبل إلى قطعها والتخلص منها : الاقتناع بأن التمسك بها اتباع للشيطان ، وقد نقل الشيخ محمد عليش المالكي عن بعض المشايخ أن الوسوسة بدعة أصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل.
ويستعين الإنسان بدفعها بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، وبالدعاء ، واللجوء إلى الله ، وبالانصراف عنها ، وإلزام النفس بذلك.
وقد سئل ابن حجر الهيتمي عن داء الوسوسة هل له دواء؟ فأجاب:( له داوء نافع ، وهو الإعراض عنها جملة كافية -وإن كان في النفس من التردد ما كان- فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت ، بل يذهب بعد زمن قليل ، كما جرب ذلك الموفقون ، وأما من أصغى إليها ، وعمل بقضيتها ، فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين ، بل وأقبح منهم ، كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها ، وأصغوا إليها ، وإلى شيطانها … وجاء في الصحيحين ما يؤيد ما ذكرته وهو أن من ابتلي بالوسوسة فليعتقد بالله ولينته.
فتأمل هذا الدواء النافع الذي علمه من لا ينطق عن الهوى لأمته.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 192)(4/67)
واعلم أن من حُرِمَهُ حُرِمَ الخير كله ، لأن الوسوسة من الشيطان اتفاقاً ، واللعين لا غاية لمراده إلا إيقاع المؤمن في وهدة الضلال ، والحيرة ، ونكد العيش ، وظلمة النفس وضجرها ، إلى أن يخرجه من الإسلام ، وهو لا يشعر أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً … ولا شك أن من استحضر طرائق رسل الله سيما نبينا صلى الله عليه وسلم وجد طريقته وشريعته سهلة ، واضحة ، بيضاء بينة ، سهلة لا حرج فيها ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ومن تأمل ذلك وآمن به حق إيمانه ذهب عنه داء الوسوسة والإصغاء إلى شيطانها … وذكر العز بن عبد السلام وغيره نحو ما قدمته فقالوا: داء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني ، وأن إبليس هو الذي أورده عليه ، وأن يقاتله فيكون له ثواب المجاهد ، لأنه يحارب عدو الله ، فإذا استشعر ذلك فرَّ عنه ، وأنه مما ابتلي به نوع الإنسان من أول الزمان ، وسلطه الله عليه محنة له ، ليحق الله الحق ، ويبطل الباطل ولو كره الكافرون… وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تسلط إلا على من استحكم عليه الجهل والخبل ، وصار لا تمييز له ، وأما من كان على حقيقة العلم والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع ، ولا يميل إلى الابتداع .. ونقل النووي عن بعض العلماء أنه يستحب لمن بلي بالوسوسة في الوضوء أو الصلاة أن يقول: لا إله إلا الله. فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس ، أي تأخر وبعد ، ولا إله إلا الله رأس الذكر).انتهى
وأما شعورك بقطع الصلاة عند أي سهو ، أو عند سماع صوت ، فلا شك أنه من الوسوسة التي يجب الإعراض عنها ، وعدم الالتفات إليها ، إذ أن السهو في الصلاة لا يبطلها باتفاق ، وكذلك مجرد سماع الصوت وأنت فيها.
وأما قولك (وهل إذا نسيت الفرض الذي أصليه ثم تذكرته أثناء الصلاة هل يبطلها أم لا ؟) فنرجو مراجعة الجواب رقم 9487 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء تكفير للسيئات ورفع للدرجات(1)
رقم الفتوى 10454 الابتلاء تكفير للسيئات ورفع للدرجات
تاريخ الفتوى : 05 رجب 1422
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
إنني امرأة متزوجة ولي أولاد ومنذ فترة تحدث لي ولعائلتي في البيت أمور لانجد لها تفسيراً ، مثال: أمراض متتالية أو حوادث لزوجي وأولادي وسرقة أشياء من منزلنا وعدم توفيق زوجي في أي عمل يقدم عليه ، ماتفسير هذه الأمور وإن المحيطين بنا يقولون ربما يكون سحرا أو عين حاسد،
نرجوا إفادتنا بهذا الموضوع وهل هناك آيات قرآنية محددة لمثل هذه الأمور جزاكم الله كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذه الأمور التي تحل بكم هي ابتلاء من الله سبحانه وتعالى ، وقد يكون الابتلاء لرفع الدرجات وتكفير السيئات ، وقد يكون عقوبة على أشياء قد اقترفتموها ، ولابد من الرضا بقضاء الله وقدره في جميع الأحوال ، مع تجنب الأسباب المؤدية إلى هذه المصائب -إن أمكن ذلك- ومن هنا فإننا ننصح بأمرين:
الأول: المحافظة على طاعة الله سبحانه وتعالى ، وخاصة الفرائض من صلاة ، وزكاة ، وصوم… إلخ مع ترك الكبائر واجتنابها ، فربما تلحقكم هذه المصائب بسبب وجود منكرات في المنزل ، أو مداومة أفراد الأسرة على منكر من ترك أو منع زكاة ، أو ارتكاب فواحش ، أو غير ذلك ، وبمعنى آخر عليكم بتحسين الصلة بالله.
ثانياً: ربما كان ذلك بسبب سحر ، أو حسد. وعلاج ذلك يكون بالرقية الشرعية ، وقد تقدمت أجوبة مفصلة بخصوص السحر والعين وعلاجهما ، وبخصوص الرقية الشرعية وصفتها ، نحيلك عليها رغبة في الاختصار وعدم التكرار ، وهي تحت الأرقام التالية:5433 5531 10012 4310والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
الابتلاء بالحب...العلاج يسير(2)
رقم الفتوى 11069 الابتلاء بالحب...العلاج يسير
تاريخ الفتوى : 05 شعبان 1422
السؤال
هل الحب حرام أم حلال وهل له حدود خاصة من جانب المرأة وكيف للمسلمة العاقلة أن تتصرف؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالتصرف الذي ينبغي لمن ابتلي بالحب سواء كان رجلاً أو امرأة هو تقوى الله تعالى، وغض الطرف حتى يجد سبيلاً إلى الزواج بالمحبوب، وإلا صرف قلبه لئلا يضيع حدود الله وواجباته، ولكيفية التصرف في الحب قبل الزواج يراجع الجواب رقم: 4220
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=================
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 243)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 496)(4/68)
الحكمة من الابتلاء، وما يشرع فعله عند نزول البلاء (1)
رقم الفتوى 13270 الحكمة من الابتلاء، وما يشرع فعله عند نزول البلاء
تاريخ الفتوى : 20 ذو القعدة 1422
السؤال
إذا كان الله قد كتب علينا بلاء أو مشقة فلماذا يترك ذلك ينزل بنا هل لأن الله يريد اختبار ثقتنا به وتوكلنا عليه أم هل ذلك أمر لا يعلمه إلا الله؟ هل حقاً أن أمر المسلم كله له خير إن اصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن اصابته ضراء صبر فكان خيرا له، فهو يثاب على توكله على الله وعلى ثقته في الله تحت كل الظروف.
ماذا يجب على الشخص فعله إن اصابته ضراء هل يمكنكم أن تخبروني بكل ما يجب على المسلم فعله كالصبر والصلاة... الخ. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين عندما. مثلاً: تهب رياح قوية، فكيف تصلى تلك الركعتان؟ هل هما كركعتي الفجر؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإننا سنلخص لك الإجابة على أسئلتك في عدة نقاط:
أولاً: عليك أن تعلم أن الله لا يُسأل عما يفعل، قال تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23].
ثانياً: أن ما يصدر عن الله في كتابه العزيز، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أحكام وتشريعات لا يخلو عن حكمة، وعلى المسلم القبول بها والتسليم، سواء أدرك الحكمة أم لم يدركها.
ثالثاً: أن الابتلاء تارة يكون:
1/ لتكفير الخطايا، ومحو السيئات، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من هم، ولا حزن، ولا وصب، ولا نصب، ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" رواه مسلم.
2/ وتارة يكون لرفع الدرجات، وزيادة الحسنات، كما هو الحال في ابتلاء الله لأنبيائه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل... فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" رواه البخاري. قال العلماء: يبتلى الأنبياء لتضاعف أجورهم، وتتكامل فضائلهم، ويظهر للناس صبرهم ورضاهم فيقتدى بهم، وليس ذلك نقصاً ولا عذاباً.
3/ وتارة يقع البلاء لتمحيص المؤمنين، وتمييزهم عن المنافقين، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2-3]. فيبتلي الله عباده ليتميز المؤمنون الصادقون عن غيرهم، وليُعرف الصابرون على البلاء من غير الصابرين.
4/ وتارة يعاقب المؤمن بالبلاء على بعض الذنوب، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر" رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وحسنه السيوطي.
رابعاً: على المؤمن أن يصبر على كل ما يصيبه من مصائب وبلايا لينال أجر الصابرين الشاكرين، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم. فالمؤمن الذي تصيبه السراء والنعمة فيشكر ربه يحصل الخير، وذلك لأن الله يحب الشاكرين، ويزيدهم من نعمه، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]. والمؤمن الذي يصبر على الضراء ينال أجر الصابرين، كما قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من يصبر على فقد (موت) ولده ولا يجزع، بل يسترجع، ويحمد الله، أن الله يبني له بيتاً في الجنة جزاءً على صبره وشكره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد" رواه الترمذي، وقال حديث حسن.
ومعنى استرجع: قال: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فعلى المؤمن أن يقول ذلك إذا أصابته مصيبة من المصائب، وعليه أن يرجع إلى الله، وأن يكثر من ذكره ومن الصلاة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يفزع إلى الصلاة.
ومعنى حزبه: نزل به أمر مهم.
ومن الأمور التي تهون المصائب: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والوضوء، وتلاوة القرآن الكريم، وتوثيق الصلة بالله سبحانه، والتوبة من كبائر الذنوب...إلخ.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 1792)(4/69)
وأما ما يشرع للمسلم عند هبوب الريح فهو أن يدعو بما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به" رواه البخاري ومسلم، وهذا موضع اتفاق فيما نعلم.
وأما الصلاة فموضع خلاف بين العلماء، فمنهم من أجازها، ومنهم من منعها، ودليل الجواز هو دخولها في عموم مدلول حديث حذيفة رضي الله عنه حيث قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى" روه أحمد وأبو داود.
ومن العلماء من قال بأنه يشرع للمسلم أن يسجد عند هبوب الريح، أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم آية فاسجدوا" رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس، وحسنه الألباني.
قال الطيبي: وقوله: "إذا رأيتم آية فاسجدوا" مطلق، فإن أريد بالآية كسوف الشمس والقمر، فالمراد بالسجود الصلاة، وإن كانت غيرها كمجيء ريح شديد وزلزلة، فالسجود هو المتعارف، ويجوز الحمل على الصلاة أيضاً لما ورد: "كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة" انتهى. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود. كتاب الطهارة. باب السجود عن الآيات.
وعلى كل، فإن الدعاء محل اتفاق من الجميع كما تقدم، وأما السجود والصلاة فإن على كل واحد منهما جمعاً من أهل العلم، فأي ذلك فعل الشخص كان له فيه سلف صالح من الأمة.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الابتلاء على اختلاف أنواعه خير(1)
رقم الفتوى 14836 الابتلاء على اختلاف أنواعه خير
تاريخ الفتوى : 18 محرم 1423
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا شاب مسلم أعمل على تحسين وضعي الاجتماعي وعندما أقوم بأي مشروع أو أي عمل تغلق كل الأبواب عليّ ومنذ سنوات كل مشاريعي أخفقت ولم أنجح فيها على غرار أصدقائي حتى أصبحت أشك في أنني مسحور أو شيء من هذا النوع لست أدري هل هذا ابتلاء أم عقاب من الله؟.
أرجوكم أنصحوني ماذا أفعل وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن كل شيء بقضاء وقدر، فما عليك إلا أن تعمل بالأسباب ثم ارض بما قضاه الله، ومن رضي فله الرضاء، ومن سخط فله السخط، ولا تيأس من فضل الله تعالى وفتحه، فالله تعالى يقول: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:6] .
واعلم أن الله يبتلي عباده لينظر صدق إيمانهم وتوكلهم عليه، وليختبر إيمانهم بالقضاء والقدر وصدق ألتجائهم إليه عند الشدائد والكرب.
كما يجب عليك أن تتفقد نفسك وتحاسبها، فلعل عندك من الذنوب ما سبب لك هذا.
وعلى العموم، فسواء كان ابتلاءً أو كان عقاباً، فإن في كلٍ خير لأن فيه تكفيراً للذنوب والسيئات لمن صبر ورضي.
ولا تدخل نفسك في أوهام السحر، وعليك بتحصين نفسك بقراءة القرآن، وذكر الله في المناسبات كالصباح والمساء، والنوم والاستيقاظ، والدخول والخروج، واجعل لسانك رطباً بذكر الله، وألح عليه في الدعاء ليفرج كربتك، فما فتح لعبد باب دعاء إلا فتح له باب إجابة، وإياك ثم إياك من القنوط من رحمة الله، فإنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الخاسرون.
فنسأل الله أن يصلح حالنا وحالك، وأن يفتح علينا وعليك.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
ثمرات الابتلاءات والمصائب وفوائدها (2)
رقم الفتوى 16766 ثمرات الابتلاءات والمصائب وفوائدها
تاريخ الفتوى : 09 ربيع الأول 1423
السؤال
الحمدالله والسلام عليكم ورحمةالله وبركاته
أنا عندي عيب خلقي منذ الصغر ( أعرج ) فهل هذا يعتبر بلاء من عند الله تبارك وتعالى وهل هذا يخفف الحساب يوم القيامة علي ؟
وجزاك الله ألف خير
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ رواه البخاري و مسلم وغيرهما.
الوصب: المرض.
فكل ما يصيب المسلم في هذه الدنيا كفارة لذنوبه إذا هو قابل ذلك بالصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى، قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الأسوة الطيبة بابتلاء أيوب عليه السلام (3)
رقم الفتوى 19002 الأسوة الطيبة بابتلاء أيوب عليه السلام
تاريخ الفتوى : 03 جمادي الأولى 1423
السؤال
أريد أن أعرف حقيقة قصة سيدنا أيوب عليه السلام ولو باختصار وجزاكم الله خيرا عني
حياكم الله
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2648)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3806)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5404)(4/70)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأنبياء عليهم السلام هم خيرة الله من خلقه اصطفاهم لحمل رسالته إلى الناس، وجعلهم القدوة لأتباعهم من المسلمين.
فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا آمن بجميعهم. قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]. وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]. فكان هذا أمراً لنبينا صلى الله عليه وسلم ولنا من بعده.
وقد قص الله تعالى علينا في محكم كتابه كثيراً من قصص الأنبياء وغيرهم.. لنأخذ منها الدروس والعظات والعبر..... قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111].
وتعقيباً على قصة أيوب قال "وذكرى للعابدين" وقال "وذكرى لأولي الألباب" وأيوب عليه السلام هو من هؤلاء الذين ينبغي أن نقتدي بهم ونتعظ.....
قال ابن كثير نقلاً عن ابن إسحاق : هو أيوب بن موص بن رازح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان رجلاً من الروم، وقد اشتهر بالصبر على البلاء وشكر النعم... قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84]. وقال أيضاً: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ*ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [صّ:41-42-43].
قال علماء التفسير والتاريخ: كان أيوب كثير المال من صنوفه وأنواعه.... وكان له أولاد كثيرون وأهلون، فسلب منه ذلك جميعه، وابتلي في جميع جسده بأنواع البلاء ولم يسلم منه عضو، سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما، وهو مع ذلك صابر محتسب، وطال مرضه حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس حتى أخرج من بلده وألقي بعيداً، ولم يبق معه أحد يحنو عليه سوى زوجته التي كانت ترعى حقه وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد عليه وتصلح شأنه... حتى ضعف حالها وقل مالها... فكانت تخدم الناس بالأجر لتطعمه وتقوم بحاله -رضي الله عنها وأرضاها- وهي صابرة على ما حل بهما من فقدان الأهل والمال والولد، وما يختص بها من المصيبة بزوجها وضيق ذات يدها، وخدمتها للناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والاحترام والشرف.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت:
"يا رسول اللّه، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وان كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ولم يزد أيوب ذلك كله إلا صبراً واحتساباً وحمداً وشكراً حتى أصبح يضرب به المثل، وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال: أقلها ثلاث سنين.. وأكثرها ثمان عشر سنة.
فدعا الله تعالى قائلاً: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ
وقال الله له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فركض برجله فنبع الماء فشرب منه واغتسل فبرئ وعاد إلى حاله وجماله الذي كان عنده، فرد الله تعالى إليه ماله ومثله معه، ورزقه من الولد ضعف ما كان عنده وعاش بعد ذلك مدة طويلة.
قال تعالى عن أيوب تنويها بصبره: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب [صّ:44]. وقال تعالى: وذكرى لأولي الألباب أي تذكرة لمن ابتلي في جسده وماله وولده، فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم فصبر واحتسب.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
تجملي على الابتلاء بالصبر والتقوى (1)
رقم الفتوى 19969 تجملي على الابتلاء بالصبر والتقوى
تاريخ الفتوى : 16 جمادي الأولى 1423
السؤال
أنا أحب ديني وأحاول أن أرضي الله ولكن أهلي يمنعونني من ذلك فماذا أفعل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 6113)(4/71)
فإن الواجب على المسلم أو المسلمة الالتزام بفرائض الله تعالى وترك محرماته، كما قال سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 13-14].
وإذا كان الأمر واجباً على المسلم يتعلق به نجاته أو هلاكه، فلا يجوز له حينئذ المجاملة فيه لقريب أو صديق، ومن المقرر شرعاً أنه: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم بإسناد صحيح.
فالواجب على المسلم الصبر على الابتلاء، وليستحضر دائماً الحديث الذي رواه الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
المشكلة ليست في الدعاء إنما هي ابتلاء(1)
رقم الفتوى 20857 المشكلة ليست في الدعاء إنما هي ابتلاء
تاريخ الفتوى : 05 جمادي الثانية 1423
السؤال
عند دعائي برضا والدي عليّ في الصلاة لابد أن تحدث مشكلة كبيرة بعد الدعاء وقد حدث لي هذا الأمر عدة مرات فهل أتوقف عن الدعاء برضاهما علي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن رضا الوالدين من رضا الله، فاحرص على ذلك، واتخذ له الوسائل، ومن وسائله الإلحاح على الله في الدعاء بأن يسهل لك ذلك.
وما ذكرته من مشاكل بعد الدعاء ليس بسبب الدعاء قطعاً، وإنما هو ابتلاء لك من الله، فإياك أن يوسوس لك الشيطان حتى تترك الدعاء برضا الوالدين، بل واصل الدعاء بذلك، واسأل الله أيضاً العافية، والسلامة من كل سوء أو بلاء.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء يستدعي الصبر والاحتساب (2)
رقم الفتوى 22942 الابتلاء يستدعي الصبر والاحتساب
تاريخ الفتوى : 19 رجب 1423
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عندما أقرأ آيات التحصين والأذكار يرتعد جسدي ويختنق صوتي وأنفجر في البكاء حتى أني أكملها بصعوبة شديدة وأرى احلاما كلها ( كلاب شرسة- ثعابين- عقارب- حشرات) مع العلم أني ملتزمة بصلاتي وأنام على وضوء دائما والحمد لله.
السلام عليكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فما دمت ملتزمة بصلاتك وتنامين على وضوء فما أصابك هو ابتلاء من الله تبارك وتعالى يستدعي منك الصبر والاحتساب والاستمرار في المحافظة على قراءة القرآن والأذكار الإسلامية مع اليقين في الله تبارك وتعالى والتوكل عليه وسؤاله أن يشفيك، وعليك بالاستقامة على دين الله تعالى، وذلك بالتزام أوامره، واجتناب نواهيه، واعتقاد أنه لا ينفع ولا يضر إلا هو سبحانه وتعالى، واعلمي أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وأن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. نسأل الله تبارك وتعالى أن يعجل بشفائك إنه على كل شيء قدير، ولمزيد من الفائدة تراجع الفتوى رقم:11014 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الأرض هي ميدان الاختبار والابتلاء (3)
رقم الفتوى 24499 الأرض هي ميدان الاختبار والابتلاء
تاريخ الفتوى : 24 شعبان 1423
السؤال
لماذا جعل الله حياتنا في الأرض وليس في الجنة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فذلك فعل الله تعالى، وهو سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لأنه هو الذي خلق الخلق أجمعين، وهو رازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ورافعهم، وخافضهم، ومعزهم، ومذلهم.
وعقيدة المسلم في ربه سبحانه أنه أحكم الحاكمين، وأن أفعاله كلها تجري على مقتضى الحكمة، وقد أخبرنا الله تعالى أنه ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدوه، وابتلاهم واختبرهم، وجعل الأرض هي ميدان الاختبار، وفيها الفقر والغنى والظالم والمظلوم والضعيف والقوي، وكلٌ مبتلى بحسب ما أعطاه الله تعالى.
أما الجنة دار النعيم المقيم والخير العميم، فجعلها الله من نصيب أهل الإيمان الذين أفلحوا في الأرض دار الامتحان والابتلاء، وانظر الفتوى رقم: 12222 ، والفتوى رقم: 4295 ، والفتوى رقم: 723 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الحكمة من الابتلاء (4)
رقم الفتوى 25165 الحكمة من الابتلاء
تاريخ الفتوى : 12 رمضان 1423
السؤال
ما سبب ابتلاء المؤمن في الدنيا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 946)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2938)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4492)
(4) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 5233)(4/72)
فإن الله تعالى لا يخلق شيئاً في الكون إلا لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قال عز وجل ( والله خلقكم وما تعملون ) كما أن ما ينزل على العباد من بلاء مخلوق لله، ولا يقضي ولا يشاء عبثاً، بل كل ذلك لحكمة بالغة، فهو سبحانه العليم الحكيم، وقد سبق بيان الحكمة من الابتلاء في الجواب رقم 13270
كما سبق بيان ما يعين على تجاوزها بالصبر عليها في الجواب رقم 19002 والجواب رقم 5249
ولمعرفة ثواب الصابرين على الابتلاء راجع الجواب رقم 3499 والجواب رقم 10454
ولمزيد من الفوائد راجع الفتاوى التالية أرقامها: 9803 19686 22830 والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الفرق شاسع بين الابتلاء والمصيبة (1)
رقم الفتوى 27585 الفرق شاسع بين الابتلاء والمصيبة
تاريخ الفتوى : 16 ذو القعدة 1423
السؤال
كيف يمكن التوفيق بين الآية الكريمة
(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)
وبين الحديث الشريف: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ...
فأنا تصيبني المصائب ولست بعاص ومجاهر مع أنه لدي من المعاصي ما يعلم به الله فهل ما أنا فيه هو بلاء نسبة للمقربين من الله أم أنه كما ذكرت الآية الشريفة بما كسبت أيدينا وكيف التوفيق بين الأمرين
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا تعارض بين الآية والحديث المذكورين حتى يُوَفَق بينهما، فكلاهما سيق لمعنى غير المعنى الذي سيق له الآخر، ويتضح ذلك بتفسير كل منهما على حدة.
فقد قال المفسرون في تفسير الآية الكريمة : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]
ما يحل بكم من مصائب الدنيا فإنما تصابون به عقوبة لكم على ما اجترحتم من السيئات والذنوب والآثام، وما عفا الله عنه في الدنيا، أو أخذ به فإنه لا يعاقب عليه في الآخرة، ولذلك فإن الله تعالى اتصف بالرحمة وتنزه عن الظلم.
وقال ابن عطية في تفسيره : روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى أكرم من أن يُثَنِّيَ على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا مصيبة بما كسبت يداه . رواه أحمد وقال: وقال الحسن : معنى الآية في الحدود: أي ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى.. فإنما هي بكسب أيديكم، ويعفو الله سبحانه وتعالى عن كثير، فيستره على العبد حتى لا يحد عليه .
وأما الحديث: فهو حديث صحيح، قال البخاري في صحيحه: باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه...
والابتلاء معناه الاختبار والامتحان كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] فالأنبياء هم أكثر ابتلاء واختباراً، وذلك لعلو منزلتهم، وقوة إيمانهم ورفعة مستواهم..
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي : لأنهم يتلذذون بالابتلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء، ولأنهم لو لم يبتلوا لَتُوُهِّم فيهم الألوهية، ولِيُتَوَّهَنَ (يضعف) على الأمة الصبر على البلية، لأن من كان أشد بلاء، كان أشد تضرعاً والتجاء إلى الله تعالى.
وعلى هذا؛ فلا تعارض بين الآية والحديث، لأن معنى الآية أن من ارتكب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا بإقامة الحد عليه أو مصيبة تصيبه، فهذا من كسب يده، أي بسببه هو، ولن يعاقب عليه مرة أخرى في الآخرة، لأنه نال جزاءه في الدنيا.
وأما ما أصاب الأنبياء فهو للابتلاء وزيادة الأجر، ولتأُسي المؤمنين بهم.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الثبات على المبدأ بالصبر على الابتلاء (2)
رقم الفتوى 29380 الثبات على المبدأ بالصبر على الابتلاء
تاريخ الفتوى : 25 ذو الحجة 1423
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أريد أن أسأل عن مصافحة المرأة للرجل الغير محرم عنها ونحن نعيش في الغرب ونتعرض لذلك كثيراً ويكون من الصعب علينا في أحيان كثيرة أن نعتذر حتى أن ذلك يبعدنا ويجنبنا أن نخلتط معهم ويتقربوا منا أي أن تكون المصافحة في حالة الضرورة؟ وجزاكم الله كل خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبق بيان حكم مصافحة المرأة الأجنبية في الفتوى رقم:1025 ، والفتوى رقم: 2412 .
وما ذكرته السائلة لا يعتبر ضرورة تبيح لها هذا المحظور؛ لأن الضرورة المعتبرة شرعاً هي خوف الإنسان على نفسه أو ولده أو ماله المحتاج إليه أو نحو ذلك.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 7847)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 9834)(4/73)
وما تجده السائلة من صعوبة في ذلك لا يخرج عن دائرة الابتلاء الذي يجب مقابلته بالصبر، فإن عاقبة هذا الصبر التمكين والنصر، إذ أن تثبيت المبادئ بالصبر على البلاء أدعى للإقبال على الدين من المداهنة والتنكر للمبادئ، فنصيحتنا للأخت السائلة وغيرها أن تتجنب مخالطة الرجال والأجانب ما أمكن، فإن عرض لقاء بهم فإن عليها التمسك بتكاليف دينها.
ثم إننا ننصح من لم تلجئه الضرورة للإقامة في بلاد الكفر أو كان غرضه القيام بواجب الدعوة بأن يهاجر منها إلى ديار المسلمين حفظاً لدينه وبعداً عن أسباب الفتن، إذ أن الإقامة في بلاد الكفر لا تجوز إلا لضرورة.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
لا تعارض بين وعد الله بالحياة الطيبة للمؤمنين وبين الابتلاءات (1)
رقم الفتوى 31444 لا تعارض بين وعد الله بالحياة الطيبة للمؤمنين وبين الابتلاءات
تاريخ الفتوى : 01 ربيع الأول 1424
السؤال
السلام عليكم كيف يوفق المسلم التقي بين ابتلاءات الله له للتمحيص وبين قول الله تعالى للمؤمن: (فلنحيينه حياة طيبة) (يجعل له مخرجا) (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن ابتلاء المؤمن بالمصائب لا يتنافى مع تكريم الله له، ولا يتعارض مع ما وعده الله تعالى به من الحياة الطيبة، وكثرة الخير، وذلك لأن ابتلاء الله تعالى لخلقه له حكمة، كما أن إكثار الخير بين أيديهم له حكمة، وحكمة الله لا تتعارض أبداً وإن اختلفت محالُّها، إذ لو حصل تعارض بينها لكان علامة على نفي اسم من أسماء الله تعالى وهو (الحكيم) أو على الأقل اتصافه بالنقص فيه، والله تعالى منزه عن النقص، فقد قال عن نفسه: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:60].
وقال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180].
وقد مضى بيان الابتلاء مع حكمة الله منه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10454 ، 12222 ، 13849 ، 13270 ، 17831 ، 25165 ، 29463 .
كما أن الحياة الطيبة المذكورة في الآية لا تنحصر في الطعام والشراب واللباس ونحوها من الأشياء، بل قال بعض المفسرين: الحياة الطيبة هي حلاوة الطاعة، وقال بعضهم: هي المعرفة بالله.
والصواب من ذلك -والله أعلم- أن الحياة الطيبة هي العيش في طاعة الله، والبعد عن معصيته، لأن ذلك يحقق له السعادة وانشراح الصدر، والحياة لا تكون طيبة بدون سعادة، ولا سعادة إلا في ذلك، قال الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
وأمامنا أعظم مثل وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وكثير من أصحابه كانوا فقراء، فهل كان هذا بسبب عدم طاعتهم وتقاهم؟ أم كان بعدم حب الله لهم؟ والحق أن الأمر ليس كذلك، لأن إغداق النعم ليس دليلاً على التكريم، كما أن منعها ليس دليلاً على الإهانة، قال حافظ الحكمي في السبل السوية في فقه السنن المروية:
لو كان في الفقر ازدراء لم ير ====== آلُ النبي والصحاب فقراً
كما أن قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
لا يُحَدُّ في الزينة الظاهرة للدنيا، بل يعم النعم الظاهرة والباطنة، قال صديق خان في فتح البيان: والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات، وجميع ما فيها، وكل ذلك من فضل الله وإحسانه، وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء. انتهى.
وبهذا القدر نكتفي في بيان المقصود، وبرجوع السائل إلى تفسير الآيات التي ذكر في كتب التفسير المعتمدة يتبين له الأمر أكثر من ذلك.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
هذا ابتلاء واطلب النجاة (2)
رقم الفتوى 33126 هذا ابتلاء واطلب النجاة
تاريخ الفتوى : 03 ربيع الثاني 1424
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته... أما بعد:
أنا شاب مغربي مسلم، في سن 27 سنة غير متزوج، صاحب مشروع متوسط ''نادي للإنترنيت''، أصبحت مؤخرا أعاني من مشكلة أثقلت كاهلي، ألا وهي: " نقص كبير في عدد الزبائن بعدما كان مشروعي في البداية ناجحا نسبيا، أي حركة ونشاط تجاري لا بأس به"، مما جعلني مؤخرا أشعر بعدم الارتياح وتراودني وساوس كأن أشك مثلا وأعوذ بالله من الظن العين؟
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 1612)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 3281)(4/74)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا شك أن الإنسان يبتلى في نفسه وأهله وماله، لتكون في ذلك كفار ة لسيئاته ورفعة لدرجاته، إذا صبر على هذا الابتلاء، وما ذكره السائل لا شك أنه نوع من هذا الابتلاء، وكون ذلك بسبب العين أو الحسد فهو أمر وارد. وحينئذ عليه بقراءة القرآن، والأدعية والأذكار، ودعاء الرب الغفا ر، لعله أن يرفع عنه هذا البلاء، ولمزيد من الفائدة في ما يتعلق بأمر العين نحيله ع لى الفتوى رقم: 7151 ثم إن الابتلاء قد يكون بسبب عادي مما يتعلق بأمر الأسواق من حيث ربح التجارة أو كسادها أو كثرة المنافسين ونحو ذلك، فعليه حينئذ بذل الجهد في إزال ة هذا السبب إن كان ذلك ممكنا وأن لا ينسى الاستعانة بربه دائماً ودعائه أن ييسر له أمره، وعليه أن لا يسلم نفسه لتلك الوساوس التي ذكرها في سؤاله لأنها قد يترتب علي ها ما لا تحمد عقباه. وفي ختام هذا الجواب ننبه إلى أن ف تح مقاهي الإنترنت يحتاج إلى مراعاة بعض الضوابط لتسلم من مخالفة الشرع، وليكون كسب الإنسان منها حلالاً، وقد سبق لنا بيان هذه الضوابط في الفتوى رقم: 3024 والفتوى رقم : 6075 والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
أنت بين نعمة وابتلاء (1)
رقم الفتوى 33788 أنت بين نعمة وابتلاء
تاريخ الفتوى : 27 ربيع الثاني 1424
السؤال
أعيش في أسرة غير متدينة، وقد أرتديت الحجاب منذ فترة قريبة.. ولكني عندما أخرج مع أقاربي فإنهم ينظرون إلي بنظرات غريبة لارتدائي الحجاب وعدم رغبتي في الجلوس مع الفتيان والابتعاد عن الأغاني، أتضايق كثيرا من تصرفاتهم والأسوأ أني كثيرا ما أتراجع إلى السؤال لماذا ارتديت الحجاب.. وإني لا أستطيع أن أنجو من المحرمات إن جلست معهم كسماعي للأغاني ومخالطة الرجال النساء من دون حدود الشرع.. هل الابتعاد عنهم يعتبر قطعاً للرحم؟؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن من أعظم نعم الله عليك أن وفقك إلى معرفة الحق ولزوم طريقه، وقد حُرِمَ ذلك من حُرِمَ من أمثالك من الفتيات، ولا شك أن النعمة تستوجب الشكر، ومن أهم ما يشكر به الرب في هذا المقام هو دوام الطاعة، والاستمرار على هذا النهج، ثم إن من سنن الله الكونية التي لا تتبدل سنة الابتلاء، قال الله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].
والابتلاء دواؤه الصبر، فأنت الآن بين نعمة تستوجب شكراً، وابتلاء يستوجب صبراً، ولعل من أعظم ما يعينك على ذلك علمك أن هذا طريقك إلى الجنة وهو طريق محفوف بالمكاره كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه.
ويعينك على ذلك أيضاً يقينك بأن هذا سبيل أمهات المؤمنين الطاهرات، وغيرهن من الصحابيات المبرورات، فاثبتي على هذا النهج وسلي الله تعالى العون والصبر والثبات كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. رواه ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه.
ثم اعلمي أن بإمكانك اجتنابهم وصلتهم في آنٍ واحد، ولا شك أن هذا أولى وأفضل، مع استغلال هذه الصلة في دعوتهم إلى الخير، وحيث خشيت أن يترتب على صلتهم ضرر في دينك، فالأولى الابتعاد عنهم مع صلتهم بوسائل أخرى مثل الاتصال بالهاتف أو السؤال عنهم أو الإهداء إليهم ونحو ذلك، ولمزيد من الفائدة نحيلك على الفتوى رقم:16620 ، والفتوى رقم: 17037 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
مضايقات أصدقاء السوء ابتلاء من الله (2)
رقم الفتوى 34467 مضايقات أصدقاء السوء ابتلاء من الله
تاريخ الفتوى : 08 جمادي الأولى 1424
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 3825)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 4419)(4/75)
السيد الفاضل والأستاذ الكريم: أرجو إفادتي بما يلي: أولاً: عندما أنشغل بشيء من أمور الدنيا أقوم بعمل صلاة استخارة وبالفعل يرتاح قلبي للشيء الذي أستخير الله فيه، المهم بعد أن يرتاح قلبي من ناحية هذا الموضوع يأتينى شعور بأن أبتعد عنه علماً بأنني قد قررت صلاة الاستخارة أكثر من عدة مرات وتأتني راحة في القلب فيه ولكن يحدث في كل مرة أن يأتيني نفس الشعور بالابتعاد عنه. ثانياً: منذ فترة من الزمن كنت كأي شاب يتعرف على فتيات كثيرات ثم قررت عدم العودة إلى هذه العلاقات مرة أخرى وبالفعل قمت بعمل عمرة إلى بيت الله الحرام ومنذ ذلك الوقت ارتاح قلبي ولم أعد لمثل هذه الأشياء مرة أخرى وداومت على الصلاة في المسجد. ثالثاً: تأتيني المشاكل في كل حين وفي كل وقت وخصوصاً في العمل لدرجة أن زملائي لا يتركوني وحالي ودائماً يتذكرون العلاقات القديمة وينسون أنني بدأت المداومة على الصلاة وليس لي شأن بأي شيء لا يخصني وبالتالي ينتابني الهم والحزن لدرجة أنني لا أريد أن أرى أحداً فماذا أفعل لكي أرى رضا الله عني؟ وماذا أفعل مع زملائي لكي يعرفوا بأنني قد سلكت طريق الله وتبت عن أي عمل أساء إلى من قبل؟ توجهت إلى الله بالدعاء وبكثرة الاستغفار عما بدر مني وطلبت منه أن يرفع الهم والحزن عن قلبي نظراً لأن لي زوجة وأطفالاً وهذه الهموم والأحزان تشغلني عنهم. أرجو أن تخبرني ماذا أفعل وكيف أرى رضا الله عني؟ جزاكم الله عنا خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فأما جواب الشق الأول من السؤال فقد سبق في الفتويين، رقم: 19343 ، ورقم: 1775 ، فلتراجعا. وأما جواب الشقين الثاني والثالث، فنقول لك: الحمد لله الذي وفقك للتوبة، ونسأل الله لك الثبات على الاستقامة، واعلم أن الله تعالى أراد بك خيرًا، وإلا لما وجهك إلى التوبة. قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام:125]. فاحرص على الثبات على ما أنت عليه واستعن بالله ولا تعجز، ولعلَّ ما يصيبك من مضايقات أصدقاء السوء ابتلاء من الله ليرى صدق توبتك وإمضاء عزيمتك. قال تعالى: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ[العنكبوت:1، 2]. ولا ينبغي لهذه المضايقات أن تنغص عليك حياتك وتكدر علاقاتك مع أهلك وولدك. قال تعالى عن عباده المؤمنين: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ[القصص:55]. فلتكن هذه الآية قانونًا تسير عليه، وأعرض عن الجاهلين، وقل لهم قولاً يؤدي إلى السلامة، وعاملهم بالرفق، وادعهم إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وتذكر قول الله تبارك وتعالى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ[النساء:94]. ثم لا عليك بعد ذلك استجابوا أم تولوا، قال تعالى: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ[النحل:127]. وأما سؤالك كيف تعرف رضا الله عنك، فننصحك بمراجعة الفتويين رقم: 21885 ، ورقم: 20634 وستجد فيهما جواباً لما تسأل عنه. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الفرق بين البلاء والابتلاء (1)
رقم الفتوى 37968 الفرق بين البلاء والابتلاء
تاريخ الفتوى : 02 شعبان 1424
السؤال
كيف يمكن التفريق بين البلاء والابتلاء؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيقول الإمام البخاري في صحيحه: الابتلاء والتمحيص من بلوته ومحصته أي استخرجت ما عنده، يبلو يختبر، (مبتليكم) مختبركم، وأما قوله بلاء عظيم (فهو) النعم، وهي من أبليته، وتلك من ابتليته. انتهى.
قال الحافظ في الفتح: والمراد به الاختبار، ولهذا قال: هو من بلوته إذا استخرجت ما عنده، واستشهد بقوله نبلو أي نختبر، ومبتليكم أي مختبركم، ثم استطرد فقال: وأما قوله: بلاء من ربكم عظيم أي نعيم، وهو من ابتليته إذا أنعمت عليه، والأول من ابتليته إذا امتحنته.. إلى أن قال: وتحرير ذلك أن لفظ البلاء من الأضداد، يطلق ويراد به النعمة، ويطلق ويراد به النقمة، ويطلق أيضاً على الاختبار، ووقع ذلك كله في القرآن، كقوله تعالى: بلاء حسناً فهذا من النعمة والعطية، وقوله بلاء عظيم فهذا من النقمة، ويحتمل أن يكون من الاختبار، وكذلك قوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم، والابتلاء بلفظ الافتعال يراد به النقمة والاختبار أيضاً. انتهى كلام الحافظ، ومنه يعلم المراد.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء تارة يكون بالخير وتارة يكون بالشر (2)
رقم الفتوى 39081 الابتلاء تارة يكون بالخير وتارة يكون بالشر
تاريخ الفتوى : 24 شعبان 1424
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 7257)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 8137)(4/76)
السؤال
ما الفرق بين العبد الذي يقوم بجميع العبادات، ولكنه يعيش عيشة صعبة وبين العبد الذي يقوم بجميع العبادات ولكنه يعيش عيشة هانئة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمن عبد ربه سبحانه وتعالى وأخلص له الدين موعود من الله رب العالمين بجنات عرضها السماوات والأرض، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:108].
هذا بالنسبة للآخرة، أما الدنيا، فإن الله تعالى يبتلي فيها العباد، والابتلاء تارة يكون بالخير وتارة يكون بالشر، قال الله عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الانبياء:35].
ولا يمكن لنا نحن كبشر أن ندرك كل الحكمة من هذا الابتلاء، من حيث تنوعه إلى ابتلاء بالخير وابتلاء بالشر، والله وحده هو الذي يعلم تمام الحكمة من ذلك، قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220].
وقال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى:27].
وقال الله تعالى: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152].
فها هي الآيات تدل على أن سعة الرزق وبسطه أحياناً تكون سبباً في طغيان صاحبها، فيكون الفقر خيرا له في دينه، وكذلك العكس، ولتعلم أيها الأخ الكريم أن القبض والبسط من الله تعالى يجب أن يقابل من العباد بالصبر والشكر، فمن شكر الله على نعمة فاز، ومن صبر على ابتلائه نال الدرجات العلى، قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
ومن المعلوم أنه لا يوجد بشر خلقه الله أحب إليه من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنه كان أفضل العابدين، ومع هذا اختار صلى الله عليه وسلم أن يحيا حياة الفقر، ولذا قال الشاعر:
لو كان في الفقر ازدراء لم ير === آل النبي الصحاب فقرا
وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 27585 ، 27048 ، 27468 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء دليل الحب (1)
رقم الفتوى 43362 الابتلاء دليل الحب
تاريخ الفتوى : 27 ذو القعدة 1424
السؤال
أنا شاب أصوم وأصلي وأقرأ القرآن وأذكر الله قياما وقعودا وفي السراء والضراء ولكن كل ما يجري معي في الحياة الدنيا سلبا حتى أصبحت لدي عقدة جعلتني دائم التفكير ولم اعد اطيق ذلك
* تقدمت لامتحان الثانوية العامة (التوجيهي ) وسلط علي جماعة لا تخاف الله فاتهموني بالسرقة وبقيت في السجن ما يقارب الأسبوع على ذمة التحقيق وبعد ذلك تم الدوام على حضور جلسات القاضي لمدة شهرين فالمستقبل أمامي ضاع في سبيل إثبات براءتي وتمت البراءة بحمد الله
* تقدمت لكليات المجتمع ولمدة عامين ولم يحالفني الحظ على الرغم من قبول من هو دوني في المعدل
تقدمت للعمل في المصانع ولم يتم قبولي وقبل من هو دوني مؤهلات
أرجو منكم الإفادة ولا أريد أن أثقل عليكم فالأمور التالية كالسابقة والله الموفق وجزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يصلح حالك وأن يسهل أمرك وأن يختار لك ما فيه الخير.
واعلم أن الله سبحانه يبتلي العبد ليعلم صدق إيمانه، فمن رضي وصبر، كان البلاء كفارة له، ورفعه في الدرجات وسيعقبه خير بإذن الله، ومن سخط وجزع كان البلاء وبالا عليه وعقابا له، ولا يمنع البلاء ولا يرفعه، ولذا، فإننا ننصحك أخانا الكريم بأن تصبر وتحتسب وتحمد الله وتلجأ إليه وتتضرع إليه ولا تيأس، بل اعمل بالسبب ثم كِلِ الأمر لله وارض بما يقسمه لك، واعلم أن البلاء دليل حب الله للعبد بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم . رواه الترمذي .
وراجع الفتاوى التالية: 13270 ، 13849 ، 25165 ، 35559 ، 10454 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
الفرق بين ابتلاء التمحيص وابتلاء العقوبة (2)
رقم الفتوى 45184 الفرق بين ابتلاء التمحيص وابتلاء العقوبة
تاريخ الفتوى : 16 محرم 1425
السؤال
كيف نميز بين الابتلاء والعقاب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالبلاء تارة يكون عقاباً، وتارة يكون تمحيصاً واختباراً، كما بينا في الفتوى رقم: 13270 .
ويمكن لمن نزل به البلاء أن يميز بينهما بالنظر إلى حاله، فإن كان صحيح الإيمان مستقيماً متحرياً للخير فإن هذا البلاء للتمحيص، وإن كان حاله بخلاف ما ذكرنا فإن هذا البلاء قد يكون عقوبة.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 2396)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3934)(4/77)
الابتلاء بين رفعة الدرجات والعقوبة وتكفير السيئات(1)
رقم الفتوى 45317 الابتلاء بين رفعة الدرجات والعقوبة وتكفير السيئات
تاريخ الفتوى : 18 محرم 1425
السؤال
فضيلة الشيخ أرجو منكم توجيهي في مسألة تخصني، شاركت جماعة من الناس من أصحاب الإدارة في ميدان الهندسة المعمارية والعمران، فأصبحت تابعاً لهم دون إرادتي، ورغم أن مكتب الدراسات يحمل اسمي لم تكن له أية قدرة على التسيير، فاستعملوني في المهمات الصعبة، علماً بأن المشاريع التي تحصلت عليها وهم شركائي بالكلمة فقط تفوق قيمتها المادية الملايين من الدينارات، ولما طلبت منهم حقي وأجر تعبي الذي لم يقيموه حاصروني وضايقوني وشتموني وهددوني بالقتل، ورفعوا دعاوى قضائية ضدي (7 قضايا) فشلوا فيها كلها، رغم أنهم بددوا في لذلك الأموال الطائلة ومنحوا وأعطوا لإيذائي واتهموني بتبديد الأموال، رغم أنهم على علم بعوزي، والحمد لله فشلوا في كل ضروبهم، ورفضت التعامل معهم لتيقني من بطلان ما صنعوا، سؤالي فضيلة الشيخ هو: هل أنا في ابتلاء من عند الله سبحانه وتعالى، إذ ابتلائي بنقص في المال، إذ أعاني الفقر حتى أنه ولدت لدي بنت أحببتها كثيراً، لم أستطع أن أعق عنها، وهم يتمتعون ويفرحون... أم ما حدث لي من نقص في المال ولمدة ثلاث سنوات لمعصية اقترفتها ولا أعلمها.. الحمد لله
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالابتلاء منه ما يكون رفعة للدرجات ومنه ما يكون عقوبة على بعض المعاصي، وما كان عقوبة على بعض المعاصي فهو تكفير للسيئات أيضاً، فاصبر واحتسب.
وعموماً فنصيحتنا لك مذكورة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10454 ، 6074 ، 29463 .
وكن مجدداً للتوبة والاستغفار دائماً، وأما عن العقيقة فإنها سنة لمن قدر عليها وليست واجبة.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء يكون تارة بالخير وتارة بالشر (2)
رقم الفتوى 46724 الابتلاء يكون تارة بالخير وتارة بالشر
تاريخ الفتوى : 15 صفر 1425
السؤال
فتاة غير متزوجة وتعيش مع عائلتها والوالدين لا يطبقان الشريعة الإسلامية، والفتاة تحاول خلق البيئة الإسلامية للعيش ، والأخطر هو بوجود إخوة هذه الفتاة والذين يقومون بعمل المعاصي بشكل متكرر وغير محدود. مما سبب التفكك الأسري الواضح وعدم الالتزام والظلم المتفشي بين أفراد الأسرة .
ما السبيل لهذه الفتاة بأن تنجو بنفسها والعيش بما يرضي الله، (غير الزواج) لأن الزواج نصيب من عند الله، ولم يكتب الله لها نصيبا لليوم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يجعل لنا ولك من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ولتعلمي أن هذه الحياة دار ابتلاء واختبار، فتارة يكون الابتلاء بالخير، وتارة يكون بالشر، كما قال الله سبحانه وتعالى: [ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ] (الانبياء:35)
وعلى المسلم أن يصبر فيها ويصابر ويتقي الله تعالى، حتى يجعل الله له مخرجا، كما قال تعالى: [ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ] (الطلاق: 2). وقال صلى الله عليه وسلم: ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر.
ولتعلمي أن دوام الحال من المحال، فلا بد أن يأتي يوم يتغير فيه الحال وتنفرج الأمور، وعليك أن تنصحي أبويك بالرفق واللين، وتذكريهما بالله والدار الآخرة، وأن عليهما أن يتقيا الله تعالى في أنفسهما وفي بيتهما وأولادهما، وأن عليهما أن يوجها أولادهما إلى الخير، ويربيانهم على الاستقامة والطاعة، وأن في ذلك استقرار الأسرة وسعادتها في الدنيا والآخرة، لعل الله تعالى يشرح صدورهما للخير ويهديهما على يديك.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. رواه البخاري ومسلم .
وبإمكانك أن تطلعي على المزيد من الفائدة في الفتوى رقم: 12767 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
ابتلاء المؤمن بوساوس الشيطان ووسوسة الكفر التي يضيق بها صدره (3)
رقم الفتوى 48325 ابتلاء المؤمن بوساوس الشيطان ووسوسة الكفر التي يضيق بها صدره
تاريخ الفتوى : 15 ربيع الأول 1425
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4041)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 5264)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 956)(4/78)
عمري 21 سنة طالب جامعي طيلة الـ 10 سنوات الأخيرة لم تفتني صلاة بنسبة 80 من 100 في المائة مع الجماعة أعرف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم نسبياً، لكني لم أذق طعم السعادة أبداً نتيجة اضطرابي الداخلي خسرت كثيراً بسبب هذا خاصة أنني كنت تلميذا متفوقا رغم كل ذلك الاضطراب لكن الآن استفحلت الأمور، وأعاني من العديد من الخطرات السيئة في بعض الأوقات يقول لي الشيطان اكفر وحاولت التوبة النصوح ولم أفلح، والله إن عيني تذرف الآن أثناء الكتابة أدركوني.... أدركوني يا شيخ والله إن جداً محتاج إلى نصائحك وأنا مستعد لفعل كل ما تأمرني به، الجواب في أقرب وقت ممكن؟ وجزاكم الله خيراً، معلومات إضافية لا أرافق البنات لا أدخن ولا أشرب الخمر ولا أذهب مع أهل السوء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالوساوس التي يجدها المسلم في صدره قد تكون ابتلاء من الله تعالى، فمدافعة هذه الخواطر والوساوس وكراهيتها دليل على قوة الإيمان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وكثيراً ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق ثم يتوب الله عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق ويدفعه الله عنه، والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قال الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخرُّ من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك صريح الإيمان. وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به، قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة.
أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص كاللبن الصريح، وإنما صار صريحاً لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها فخلص الإيمان صريحاً، ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فيصير كافراً ومنافقاً، ومنهم من غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا وإما أن يصير منافقاً . انتهى.
وننصح لعلاج هذه الوساوس بما يلي:
1- الاستعاذة بالله تعالى من كيد الشيطان.
2- الإكثار من ذكر الله فإنه سبب لانشراح الصدر وطمأنينة الناس، قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
3- الإكثار من تلاوة القرآن.
4- ملازمة الصلاة في المسجد جماعة.
5- مرافقة الصالحين الذين يذكرون بالخير ويدلون عليه.
6- الإعراض عن هذه الخواطر ومدافعتها وعدم التفكير فيها.
7- المواظبة على أذكار الصباح والمساء لتحصن نفسك بها.
إدامة التفكر في مخلوقات الله العظيمة كالسماء وما فيها، فإن هذه المخلوقات تدل دلالة واضحة على خالقها، ثم عليك بمواصلة التوبة النصوح متى صدر منك ذنب، فإن الله تعالى يقبل توبة التائبين ويفرح لها، وراجع الفتوى رقم: 1909 .
ولا مانع من أن تعرض نفسك على من يوثق بدينه وورعه من العارفين بالرقية الشرعية، مع الحذر كل الحذر من كل دجال مشعوذ، وراجع أيضاً الفتوى رقم: 16790 ، والفتوى رقم: 29559 .
وأخيراً نسأل الله تعالى أن يفرج همك ويشرح صدرك ويمنَّ عليك بالشفاء العاجل ويوفقك لما يحب ويرضى، وراجع الفتوى رقم: 23914 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===========
سبب الابتلاء بالمصائب، وآثار البعد عن الله (1)
رقم الفتوى 49228 سبب الابتلاء بالمصائب، وآثار البعد عن الله
تاريخ الفتوى : 11 ربيع الثاني 1425
السؤال
بحثت كثيرا في النت لأجد من يساعدني وربنا وفقني ووجدت هذا الموقع !
أنا فتاة من عرب 48 ( أو بما يسمى عرب اسرائيل ) ولست بالتحديد ممن يعيش تحت الاحتلال !
أنا فتاة مسلمة لأبوين مسلمين
لم أترب على الدين يمكن القول توجد محافظة نوعا ما لكن الوالدين لم يطبقوا تعاليم الدين ولم أكن مجبورة على صيام رمضان مثلا !!
ترعرت على الحرية وبالنسبة للدين مجرد انتماء لا أكثر ولم أعرف شيئا في الدين !
عند دخولي الجامعة كنت كأي بنت أوروبية بكل معنى الكلمة !! ربما هذا بسبب اختلاطي مع اليهود ! بالنسبة لي لا يوجد عندي حدود لأي شيء إلى أن وقعت في مصائب تلو المصائب !
في الجامعة تعرفت على شاب أحببته وأحبني والأمر تطور إلى علاقة جنسية كاملة !! وفي إحدى المرات حتى أنني حملت ولكن أجهضت الجنين !!
وفي يوم بدأ يتغير هذا الشاب ( وهو مسلم مثلي ) وإحدى صديقاتي دلتني على يهودية تعمل الحجاب لأجل العشاق والتزويج .. ( للتذكير فقط أن ممارسة الجنس قبل الزواج عندنا عادي )
وللأسف غرني الشيطان وعملت لهذا الشاب حجاب ليعود لي لكنني تركته
تركته بعد أن حلمت حلمين في نفس الليلة !!
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1673)(4/79)
الأول كان : أنني عمياء ولا أرى جيدا وعندما فسرت الحلم في تفسير ابن سيرين تبين أن التفسير جهل في الدين والابتعاد عن الله والحلم الآخر صحوت على أذان الصبح بعد هذا الحلم حلمت في الرسول صلى الله علية وسلم .. وكان وجهه عابس وهو ينظر إلي ورويدا رويدا بدأ يبتسم قلت له أنت الرسول ؟ قال نعم تبسم واختفى !!
فقررت العودة للدين ولربي، لكن لم يكن سهل بدأت في الصلاة من رمضان الفائت لكن إلى اليوم لم أصل مع قلب يرتعش أشعر أنه مجرد واجب أؤديه وانتهي ولا أشعر أنني بين يدي ربنا هذا عدا أنني أحيانا أنسى ما أتلوه أو أنسى عدد الركعات أو أنسى ما أقول عند السجود لكن ما يزعجني أنني حتى لما رجعت لربي طلب هذا الشاب مقابلتي ولم أرفض لأنني كنت مشتاقة له ومرة أخرى نمت معه
ليلتها لم أعرف أنام وعذاب الضمير أكلني والبكاء الندم حرق خدودي !!
أنا لي شهر تاركة الصلاة ولست قادرة على أن أصلي أحب أن أصلي لكنني لست قادرة نفسيتي تعبانةأريد أن أرضي ربي ولكن لا أعرف كيف !!
ويبدو أن عقاب ربي طالني أنا غارقة في الديون بسبب تعليمي وحتى البنك يدق الباب ولا يرحمني !!
يائسة ولا أعرف كيف أنهض على قدمي كيف أقوي إيماني أنا صحيح لا أصلي الآن لكني أنا كل لحظة أدعو ربي وكل لحظة أذكره مع ذلك لا أقدر على أن أصلي !!
كل ما أجي أصلي أشعر أن الهم سيخنقني وكأن صخرة على صدري لا أستطيع التنفس أرجو الرد على مشكلتي وهل ربنا غفر لي ذنبي رغم أنني أعدت الفاحشة مرة أخرى !!
وبالنسبة للجنين الذي أجهضت ماذا يمكن أن أعمل حتى ربنا يغفر لي !!
الرجاء الرد سريعا فأنا لا أنام الليل أبداً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نشكرك على اهتمامك بموقعنا ونسأل الله تعالى أن يهديك إلى الحق ويثبتك عليه.
ثم اعلمي وفقك الله تعالى، أن ترك الصلاة واقتراف الزنا وإجهاض الحمل وإتيان الساحر أمور كلها في غاية الحرمة، لأنها من أعظم الكبائر التي توعد المولى جل جلاله أصحابها بالوعيد الشديد يوم القيامة إذا لم يتوبوا, ففي شأن المضيع للصلاة يقول الله تعالى : [ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا إِلَّا مَنْ تَابَ ] (مريم:60)
وقوله : [ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ](الماعون:5)
وإذا كان هذا جزاء المتهاون، فما بالك بالتارك، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تضييع الصلاة كفرا حيث قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر . رواه أحمد وأصحاب السنن . ويقول صلى الله عليه وسلم : من ترك الصلاة متعمدا برئت منه ذمة الله ورسوله .
أما الزنا فهو من قبائح الذنوب، وقد قرن الله بين فاعله وصاحب الشرك بقوله: [ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ](الفرقان:69)
وفي كيفية هذا العذاب ورد قوله صلى الله عليه وسلم من حديث سمرة من جندب، وفيه: رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسلفه واسع يتوقد تحته نارا، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا وإذا أخمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة .
وفي لفظ: وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا . وفي آخر الحديث سأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني . رواه البخاري .
ولا شك أن الذنوب سبب قوي ومباشر لما يحل بالانسان من المصائب والقلاقل وضيق الصدر والاكتئاب أو ما شابه ذلك، ومصداق ذلك قول الحق سبحانه: [ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ] (الشورى:30)
وقوله: [ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ] (طه:124)
وعلى هذا؛ فالواجب عليك أيتها الأخت أن تبادري إلى التوبة النصوح، وهي الإقلاع عن الذنب والندم على ما فات منه وعقد العزم الأكيد على عدم العود اليه. واعلمي أن الله تعالى بمنه وكرمه وعد التائب الصادق بقبول توبته وبمحو ذنوبه بالغة ما بلغت، فقال سبحانه: [ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ](الزمر:53)
بل إن من عظيم فضل الله وإحسانه على عباده أنه وعد التائبين بتبديل سيئاتهم حسنات كما قال سبحانه: [ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ] (الفرقان: 70)(4/80)
وروى الترمذي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأ تيتك بقرابها مغفرة ، فاقبلي على ربك وتقربي إليه بالأعمال الصالحة فإنه القائل: [ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً] (طه: 82) . وقال سبحانه: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ](هود: 114). واعلمي أنك إن فعلت ذلك أذهب الله عنك كل ضيق وعشت في دنياك عيشة طيبة وسعادة هنية، وإن مت كنت مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ومما يقوي التوبة كثرة ذكر الله تعالى والتزام طاعته والبعد عن معاصيه ومصاحبة الخيِّرات ومجانبة أهل الشر والعصيان فهم شر مستطير، وبخصوص ذلك الشاب الذي ذكرت فيجب عليك قطع الصلة به تماما كما هو الحال مع جميع الرجال الأجانب، وأخيرا نؤكد عليك بالمبادرة بالتوبة إلى الله عزوجل قبل مفاجأة الموت على هذه الحالة المشينة. والله أعلم
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
من حكم ابتلاء بعض العباد بالفقر وضيق ذات اليد (1)
رقم الفتوى 51063 من حكم ابتلاء بعض العباد بالفقر وضيق ذات اليد
تاريخ الفتوى : 25 جمادي الأولى 1425
السؤال
أنا شاب عمري 27 عام عربي ليبي الجنسية أحمل بكالوريس حاسوب تخصص برمجة ولم أعثر على أي وظيفة في بلدي والحياة صعبة والظروف قاسية والمتطالبات كثيرة والإيمان ضعيف فساعدوني حتى ولو بنصيحة .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإننا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لك من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، وأن يوسع عليك أبواب الرزق الحلال، وأن يعينك على الشكر.
واعلم أن الله سبحانه وتعالى لحكمة بالغة قد يبتلي بعض عباده بالفقر وضيق ذات اليد ليمتحن صبرهم، فالواجب على العبد الصبر واحتساب ذلك عند الله عز وجل. قال تعالى: [ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ] (البقرة: 177).
قال المفسرون: البأساء الفقر والشدة، قاله ابن مسعود رضي الله عنه .
فعليك أخي بالصبر ولا تيأس؛ بل اطرق الأبواب لعل الله سبحانه وتعالى أن ييسر لك عملا يكفيك به حاجتك. كما عليك أن تتقي الله سبحانه وتعالى، فإن التقوى سبب كل خير في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: [ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ] الطلاق: 2- 3 وقال تعالى: [ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (الطلاق: 4- 5).والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء من سنن الله في خلقه (2)
رقم الفتوى 51363 الابتلاء من سنن الله في خلقه
تاريخ الفتوى : 04 جمادي الثانية 1425
السؤال
الإخوة الأفاضل من علماء الشبكة الإسلامية، وبعد: هو ليس بسؤال ولكن قد لازمني عدم التوفيق وعدم الكسب في أي عمل أعمله مهما كان بسيطاً ومضمون النجاح لكن يفشل دون أي سبب ظاهر بعض الناس قالوا (عين)، يعني حسد وقد قرأت على نفسي وقرأ علي شيوخ أجلاء وعلماء دون فائدة وقد رأيت رؤيا منذ 4 سنوات وهي الآن تتحقق بحذافيرها عن عدم التوفيق هذا أفيدوني أفادكم الله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الدنيا دار بلاء، قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، وقال سبحانه: ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-2-3].
ولو كانت الدنيا تصفو لأحد لصفاها الله لنبيه، ولكنه -وهو خليل الرحمن- كانت حياته مليئة بالمشقة والشدة والبلاء، والذي يطالع سيرته صلى الله عليه وسلم يعلم تفاصيل ذلك، ولقد صبر نبينا صلى الله عليه وسلم على ما ابتلي به من الجوع والإخراج من بلده والفقر وغير ذلك رغبة فيما عند الله، لأنه يعلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وراجع الفتوى رقم: 13849 ففيها مزيد بيان.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 838)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 1089)(4/81)
وقد يكون سبب ما أنت فيه من فشل راجع إلى أسباب غير السبب الذي ذكرته، ولذا فالواجب عليك أن تراجع تفريطك في جنب الله سبحانه فلعل ذلك هو السبب الرئيسي في ذلك، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال صلى الله عليه وسلم: .... وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. وراجع لزاماً الفتوى رقم: 4188
وعليك أن تجتهد في تحصيل أسباب سعة الرزق، ومن ذلك التوكل على الله والبكور في العمل وغير ذلك، وراجع الفتوى رقم: 29607 ، والفتوى رقم: 6121 ففيهما أسباب سعة الرزق.
وأما بالنسبة للعين والإصابة بها، فراجع الفتوى رقم: 39136 والفتاوى الملحقة بها، ففيها أسباب الوقاية من العين.
والحذر كل الحذر من اتباع خطوات الشيطان، والاستسلام لإحزانه لك، فلا تقعن في التشاؤم ولا يضعفن توكلك على الله، واعلم أن رضاك عن الله سبب لرضاه عنك، قال تعالى في صفة المؤمنين: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، وإن من أهم ما يريح قلبك ويرضيك عن ربك إيمانك أن كل ما يكون في هذا الكون إنما هو بقضاء الله وقدره، وما عليك إلا الأخذ الجاد بالأسباب، ثم الله المرجو أن يأخذ بيدك ويقيل عثرتك.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الدنيا دار ابتلاء (1)
رقم الفتوى 51946 الدنيا دار ابتلاء
تاريخ الفتوى : 25 جمادي الثانية 1425
السؤال
أغيثوني، الإخوة الكرام في الشبكة الإسلامية، جزاكم الله خير الجزاء:
أرجو من حضراتكم أن تقدموا لي النصيحة في سبيل الله عز وجل فأنتم أهل والله لذلك، لأني والله أتخبط وضاقت بي الدنيا وأرجو أن لا تؤاخذني إن أطلت عليكم، فلقد ابتليت منذ صغر سني بتشوهات في قوامي (ظهري وأكتافي)، ولم أنتبه لنفسي فقد كنت صغيراً ولم أجد من يهتم بي أيضاً وأنا الآن قد أنهيت دراستي الجامعية وأعمل منذ فترة طويلة في إحدى المؤسسات ولكني أعيش حياة صعبة لا يعلمها إلا الله، ولا أدري ما الذي جعلني أصل إلى أقصى درجات اليأس في مرحلة متقدمة من العمر، خاصة أني أصبحت أبحث عبر الإنترنت عن حالات مشابهة تم علاجها لكني تعبت ولم أجد، فأنا والله دائم الهم والتفكير وشارد الذهن وأعيش حالة شديدة من الاكتئاب عندما أنظر للناس الأصحاء من حولي وأشعر بحرج دائم، مع أني والله مؤمن كل الإيمان بقضاء الله وقدره وأنا محافظ على الصلاة وتلاوة القرآن والدعاء إلى الله أن يشفيني مما ألم بي فكما تعلمون أن الدعاء لا ينافي الإيمان بالقدر فربنا عز وجل يقول: "وإذا مرضت فهو يشفين"، ونبي الله أيوب دعا ربه فقال: "رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين"، ودائماً ما أحاول الهروب من حالة الاكتئاب التي أعيشها بالصلاة وتلاوة القرآن ولكني مع ذلك ما إن أبدأ حتى أهم بالبكاء، ولقد أصبح دعائي في الآونة الأخيرة، "رب اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" فهل أنا بهذا الدعاء يائس من رحمة الله (والعياذ بالله) اعتقد أني يائس من حياتي ليس أكثر... ماذا علي أن أفعل كرجل مسلم ومؤمن بالله الذي خلق لكل داء دواء، أغيثوني بارك الله فيكم فحياتي جحيم لا يطاق؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم رحمك الله أن هذه الدنيا دار ابتلاء، وهذا الابتلاء لا ينجو منه أحد حتى من اصطفاهم الله من عباده وهم الأنبياء، وأكثرهم بلاء في هذه الدنيا نبيناً محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك هو أرفعهم درجة وأعلاهم درجة والابتلاء كما يكون في أمور الدنيا من فقد مال أو موت ولد أو تأخر في الزواج أو مرض أو غير ذلك، فإنه أيضاً يكون في الدين، فهناك من يبتلى بفعل الكبائر أو ترك الصلاة أو نحو ذلك.
فاحمد لله أن جعل مصيبتك في أمر من أمور الدنيا ولم يجعل مصيبتك في دينك، واعلم أن من ابتلاه الله في الدنيا فصبر فسيعوضه الله في الآخرة، والآخرة خير وأبقى، والآخرة خير من الأولى، وما عند الله خير للأبرار، فإذا صبرت على قدر الله فلك من الله أجر عظيم، قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10}.
ومن يتصبر يصبره الله حتى يتكيف مع ما ابتلاه الله به، ولذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: وجدنا خير عيشنا بالصبر.
والدنيا ساعة أو ساعات معدودة محدودة، ثم نلقى الله، وغمسة واحدة يغمسها المؤمن في الجنة تنسيه كل شقائه في الدنيا، فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب!!! ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط !!. رواه مسلم .
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 1581)(4/82)
ولمعرفة ثمرات الابتلاء وفوائده راجع الفتوى رقم: 16766 ، والفتوى رقم: 13270 ثم إن البلاء البدني الذي ابتليت به لا ينبغي أن يمنعك عن ممارسة الحياة بصورة طبيعية، بل عليك أن ترضى بقضاء الله وقدره رضا حقيقياً ظاهراً وباطناً ففي ذلك سعادة الدنيا والآخرة والراحة والطمأنينة ولذة الحياة التامة وامتثل وصية الناصح الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم. رواه مسلم وأحمد وغيرهما.
فهناك من ابتلي في بدنه بلاء لا يستطيع معه النوم، وهناك من تعطلت كليتاه فيحتاج إلى الغسيل الكلوي دورياً، وهناك من شُلَّت قدماه ويداه فلا يستطيع الحركة إلا بمساعد وهناك من أصيب بالعمى وهناك من أصيب بالجذام وتساقط لحمه وقذره الناس وفروا منه حتى لا تصيبهم العدوى، وهناك من جُنَّ وضحك منه الصبيان وطاردوه في الشوارع ورموه بالحجارة، فأين أنت من هؤلاء؟ والله أنت في نعمة وسيزيد شعورك بها إذا قارنت نفسك بمن هو أشد بلاء منك وبمن هو أدون منك في أمور الدنيا.
فلا تستسلم لإحزان الشيطان لك، وثق بالله، وأر الله منك صبراً جميلاً واشكره على ما أنت فيه، واحمده حمداً كثيراً، ولا تتمن الموت فإن في حياتك شاكراً صابراً محتسباً رفعا لدرجاتك وتكفيرا لسيئاتك وفي موتك قطعا لذلك كله، ولا تغفل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي . متفق عليه.
وهذا الدعاء أولى بك من الدعاء الذي ذكرت أنك تدعو به، وحذار من اليأس من رحمة الله، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف:87}، وقال تعالى: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ {الحجر:56}.
وإن كان لهذه التشوهات علاج، فالتمسه، ولقد تقدم الطب الطبيعي والعلاج عن طريق التمرينات وجلسات الكهرباء وما أشبه ذلك، والتزم الدعاء خاصة في الأوقات الشريفة التي ترجى فيها الإجابة كالأسحار وبين الأذان والإقامة وآخر ساعة من العصر يوم الجمعة وفي السجود وبعد الآذان ونحو ذلك.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
من حِكَم الامتحان بالابتلاء (1)
رقم الفتوى 52075 من حِكَم الامتحان بالابتلاء
تاريخ الفتوى : 28 جمادي الثانية 1425
السؤال
أود من حضرتكم الاستفتاء في أمر ما، حيث إنه قبل يومين حصل أن أمي كانت ذاهبة إلى إمارة عجمان وكان إخواني معها، فطلب أخي منها الوقوف عند الجامع لقضاء حاجة، وكانت أمي غير منتبهة على أن الراديو كان مفتوحاً على الأغاني بصوت غير عال، وفجأة وحيث إن أمي كانت جالسة لوحدها في السيارة أحست بارتطام أشبه بارتطام سيارة لها من الخلف، فأمي أغلقت الراديو ونظرت إلى الخلف لكن كان لا يوجد أثر لأي شيء، ولم يكن هناك أناس حتى، فهل يمكن أن يكون هذا من فعل الملائكة لتنبيه أمي بأن هذا حرام، وهل الملائكة تنزعج، لأنه على ما اعتقد أن الملائكة تؤدي فرائض الصلاة ككافة البشر، وللعلم أمي متأكدة أنه لا يوجد هناك خلل في السيارة، فما تفسيركم في هذا الشأن، وهل يمكن للملائكة أن تؤذي؟ ولكم جزي الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
لا شك أن الغناء المصحوب بالمعازف محرم، وراجع فتوى الشبكة رقم: 669 .
وقد يعاقب الله العبد على ارتكاب المحرم في الدنيا رحمة منه سبحانه لينتهي الإنسان ويعود إلى ربه، قال الله تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {الأنعام:42}، قال الطبري : أي امتحناهم بالابتلاء ليتضرعوا إليّ ويخلصوا لي العبادة ويفردوا رغبتهم إليّ دون غيري بالتذلل ليّ بالطاعة، والاستكانة منهم إليّ بالإنابة.
لكن ما تذكره أمكم أمر غيبي لا نستطيع تفسيره بالتحديد، ولكن المهم أن يعلم أن ما حرم الله تعالى يجب تجنبه والتوبة مما وقع فيه المكلف منه وعدم العود إليه في المستقبل.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
قد ينال العبد منزلته عند الله بالابتلاء (2)
رقم الفتوى 52762 قد ينال العبد منزلته عند الله بالابتلاء
تاريخ الفتوى : 15 رجب 1425
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 1691)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 2220)(4/83)
أود أن أطرح عليكم هذه المعاناه لتنظروا فيها عسى أن نجد الدواء الشافي بإذن الله تعالى, والحالة كالتالي: نحن من عائلة مكونة من 9 أفراد 5 ذكور و4 إناث, كنا نسكن في بلدة صغيرة حياة هادئة جميلة, دون أي معاناة أو مشاكل أو مرض, ولا يوجد ما يعكر علينا عيشتنا وحياتنا الهنيئة، إلى أن بنينا بيتا جديدا في منطقة أخرى وانتقلنا إليه, وهنا بدأت المعاناة, بدأت الشكوى وبدأ الأنين, بدأ الألم والمرض والشقاء والجفاء وكأن ظلمة الليل تسطو من كل جانب, ليس السبب المنطقة أوالجيران, فعلى العكس المنطقة التي سكنا مجددا أفضل بكثير من الأولى لتوفر الخدمات وجمال المنطقة وحسن الجوار وغيره، لغاية الآن لنا فيها 10 سنوات لم نر فيه يوما واحدا هنيئا, لم ننم ليلة قريري العين, لم نجد حلاوة الحياة ولذتها, فأنا لم أذكر أني ذهبت إلى الطبيب إلا لزكام أو مغص أو أي مرض طبيعي يشكو منه كل الناس ولكن هنا فالأمر مختلف وكذلك الحال مع بقية الأسرة فأنا أعاني منذ6 سنوات من آلام حادة في المفاصل والفخذ تعجزني أحيانا عن المسير وماتركت طبيبا ولا صورة شعاعية ولا فحصا مخبريا إلا وعملته ولم يتبين أي شيء، وقد أصبت أيضا بضعف البصر وانحرافا بصريا علما أن عمري لم يتجاوز الآن24 سنة، وقد ألم بي عدة انتكاسات في الدراسة سببت لي المشاكل الكثيرة مع الأهل رغم أني من المتفوقين، أما بقية أفراد الأسرة فالأب أجرى عملية الديسك للظهر, وآلام أجرت لغاية الآن 3 عمليات جراحية وهي الآن تعاني من آلام المفاصل والغدة الدرقية وضعف البصر والأزمة الصدرية, وشقيقي 22 سنة يعاني من تورمات في قدميه مع آلام حادة أوعزها الأطباء إلى مرض (النقرس) رغم أنه لا يصيب إلا كبار السن ويعاني من ضعف البصر كذلك, وشقيقي الآخر يعاني من آلام في المعدة وغيره في الكبد وشقيقتي تعاني ضعف البصر والأخرى تعاني من آلام في المعدة والقدمين، هذا عدا عن الهم والغم وعدم وجود الألفة بيننا, مع
العلم بأننا عائلة محافظة متدينة وملتزمة ومثقفة حيث تخرجنا من الجامعات بتقديرات جيدة جدا وممتازة وهناك من يواصل مرحلة الماجستير والحمد لله تعالى.
ملاحظة: هناك من يشير علينا بالفدو أي نذبح شاة, ما حكم ذلك وهل تدفع البلاء؟ ولكم جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الذبح إذا كان تقرباً لله سبحانه وتعالى بنية إطعام المساكين ونحو ذلك، فهو جائز كالتقرب إلى الله تعالى بسائر العبادات، وراجع الفتوى رقم: 9124 .
واعلم أن البلاء الذي يصيب العبد قد يكون بذنوبه وتقصيره، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ { الشورى:30}، فتكون كفارة لذنوبه وتذكرة له للأوبة إلى ربه.
وقد يكون الابتلاء لرفع الدرجات كما قال أهل العلم: إن العبد تكون له المنزلة عند الله لا ينالها بالعمل فينالها بالابتلاء . وقال صلى الله عليه وسلم: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . رواه أحمد وصححه شعيب الأرناؤوط . وقال صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يصب منه . رواه البخاري عن أبي هريرة .
واعلم أن أعظم ما يرفع به البلاء الدعاء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد من العمر إلا البر . أخرجه الترمذي عن سلمان، وقال حديث حسن، وصححه ابن حبان والحاكم .
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء، وكان يدعو في الوتر ويقول صلى الله عليه وسلم: فقني شر ما قضيت . رواه أبو داود .
وقد يكون ما أصابكم بسبب عين أو سحر أو نحو ذلك، وعلاج ذلك كله هو الالتجاء إلى الله تعالى أولاً والأخذ بالرقية الشرعية، وقد بيناها في الفتوى رقم: 4310 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
الابتلاء بالخير والشر(1)
رقم الفتوى 53602 الابتلاء بالخير والشر
تاريخ الفتوى : 04 شعبان 1425
السؤال
إنا فتاة مسلمة، لقد تبت إلى الله ولكنني منذ مدة طويلة وأنا أعيش عدة صعوبات والمصائب ترف على رأسي عندما تزوجت حصلت لي وما زالت تحصل لي المشاكل، أضف إلى ذلك أعاني من مشاكل صحية لم أستطع الإنجاب ماذا أفعل حتى يرضى عني الله. ولماذا يوجد نساء في بلادنا لم يتبن ولكن يتمتعن بجميع الخيرات.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 2923)(4/84)
فما دمت تبت إلى الله تعالى واستقمت على طريق الحق فلتبشري بذلك ولتهنئي، واعلمي أن ما قدر الله تعالى عليك إنما هو خير لك إن رضيت واحتسبت ذلك عند الله تعالى. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . رواه مسلم . وهذه الحياة مرحلة امتحان وابتلاء واختبار من الله تعالى، والامتحان يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء: 35}، ولهذا ننصحك بالصبر والرضى بقدر الله تعالى وقضائه، وستجدين أثر ذلك طمأنينة في قلبك وسعادة في نفسك. قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {البقرة: 155}، وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر: 10}، ولا يغرنك ما ترين مما يرفل العصاة فيه من النعيم فإنه سرعان ما يزول ذلك كله، والذي يبقى هو تقوى الله تعالى وطاعته. قال الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى {طه:131}.
والمسلم مطلوب منه أن يتداوى من الأمراض ويسعى في تحسين حاله وحل مشالكه، ولكنه إذا أصيب بمصيبة أو فشل في حل مشكلة فإنه يرضى بقضاء الله تعالى وقدره، ويصبر على ذلك احتسابا عند الله تعالى. ولمزيد من الفائدة نرجو الاطلاع على الفتويين: 8601 ، 31702 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
موقف المؤمن تجاه الابتلاء (1)
رقم الفتوى 53980 موقف المؤمن تجاه الابتلاء
تاريخ الفتوى : 13 شعبان 1425
السؤال
إنني أكتب لكم اليوم بعدما ضاقت بي السبل ولم أجد ما أفعل ولا كيف أتصرف أحاول بكل اختصار أن أضعكم في الصورة حتى تساعدوني. وأخبركم بأنها المرة الثالثة التي أعيد كتابة الرسالة فيها حيث في كل مرة أكتبها لا أوفق في إرسالها ومع ذلك صممت على مراسلتكم لثقتي فيكم وسبق أن راسلتكم بخصوص علاقتي بجاري ونصحتموني بالابتعاد وأنه مجرد ذئب وبالفعل وفقت في ذلك وهاهي مدة تزيد عن 5 أشهر أبعدته عني رغم أنه ما زال لحد اليوم يحاول. طلبت من الله أن يرزقني بالحلال لكن لا يبدو لي أمل لا أكذب عليكم لم أعد أستطيع التحمل ولا أقدر على الحياة لوحدي إني أفكر جديا في الارتباط برجل متزوج وله 5 أطفال ومقتدر طلبني من قبل لكني رفضت على أمل أن أرزق بخير منه واليوم وبعدما بدأت أفقد توازني فبعدما كنت أصلي بانتظام حتى صلاة الفجر وأتضرع لله وأدعوه وأستغفره وأدخل للمواقع الإسلامية لأتعلم وأسال عن أمور ديني وجدت نفسي اليوم ومنذ حوالي أسبوعين أدخل مواقع إباحية وأمارس العادة السيئة وعندما أنتهي أبكي وأستغفر لقد أخذت بنصيحتكم بتسجيل نفسي في مواقع الزواج لكن لم أوفق وقد استخرت الله قبل أن أسجل نفسي لا أدري لماذا لا أحد يريدني زوجة رغم أني جميلة ومؤدبة لا أدري لماذا يحصل معي هذا وكذلك نصحتموني بأن أطلب من أحد الصالحين أو الصالحات أن يجد لي زوجا وهذا أمر مستحيل لم يبق أمامي سوى هذا الرجل إن كان ما يزال يريدني فسأقبل لأنني أخاف على نفسي مما هو أكثر بالفعل أصبحت لا أحترم نفسي وأرى أني انسانة منافقة مع الله تستغفر وتصلي ثم ترتكب الذنوب مشكلتي شيخي الفاضل ليست في هل سيغفر الله لي أم لا فقد قرأت مقالة في موقعكم بعنوان (لو بلغت ذنوبك عنان السماء) المهم هو التوبة الصادقة ومن أين لي بها مأساتي أنني لم أعد أستطيع العيش لوحدي فعمري اليوم اثنان وثلاثون عاما ولا أرى شخصا يريد الارتباط ممن هو في مثل سني سوى إذا كان متزوجا بصراحة فقدت الأمل خاصة بعدما وقعت في الذنوب إني في حالة نفسية مزرية ولا أحد يحس بي أعاني لوحدي أحيانا كثيرة لا أجد إلا الحديث مع الله لكن سرعان ما أحس بأنه عقاب أو ابتلاء لم أوفق فيه إني أتحسر على حالي وأعلم جيدا بما ستنصحونني لكني يائسة فرجائي ياشيخي أن تدعو الله لي أن يهديني و يرزقني بالحلال ويغنيني بحلاله عن حرامه أرجو أن يسع صدركم الكريم لكل ما قلت وأن أكون قد وضعتكم في الصورة .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3225)(4/85)
نسأل الله أن يوفقك للخير، ونذكرك أيتها الأخت الكريمة بأن هذه الدنيا هي دار ابتلاء واختبار يمر فيها الإنسان بأنواع من الاختبارات، فهذا يبتلى بالفقر، وهذا بالمرض، وهذا بموت القريب والحبيب. والعاقل من عرف قيمة الدنيا وأنها دار عبور وممر، ومهما كثرت منغصاتها وعظمت مصائبها فإنها مع ذلك لا تستحق أن يتألم الإنسان من أجلها، وعلى العاقل أن ينظر إلى حال غيره ممن هو أشد بلاء منه، ويحمد الله على حاله. وتذكري حال عروة بن الزبير، فقد ذكر المزي - رحمه الله تعالى- في تهذيب الكمال في ترجمته أنه وقعت الآكلة في رجله، فقيل له: ألا ندعو لك طبيبا، قال: إن شئتم، فجاء الطبيب، فقال: أسقيك شرابا يزول فيه عقلك، فقال: امض لشأنك، ما ظننت أن خلقا يشرب شرابا ويزول فيه عقله حتى لا يعرف ربه، قال: فوضع المنشار على ركبته اليسرى ونحن حوله فما سمعنا له حسا، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. وما ترك حزبه من القراءة تلك الليلة .
فانظري إلى هذا الصبر على البلاء، وتذكر النعم وهو في تلك الحال، وعموما فنقول لك: إن بيدك سلاحا فعالا وإن تأخر أثره ألا وهو الدعاء، فأكثري من الدعاء، وتجنبي الذنوب وتوبي إلى الله منها. وننصحك بأن تقبلي بالزوج الصالح وإن كان متزوجا، فليس الزواج عيبا، ولذا فلا نرى مبررا لرفض الرجل المتزوج، واشغلي أوقاتك بفعل الطاعات وتلاوة القرآن ومطالعة الكتب النافعة ومجالسة النساء المؤمنات التقيات، فإن غفلت ذكرنك، وإن ذكرت كن عونا لك .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
الاحتلام نعمة أم ابتلاء وهل يطلب من الله ؟(1)
رقم الفتوى 54612 الاحتلام نعمة أم ابتلاء وهل يطلب من الله ؟
تاريخ الفتوى : 04 رمضان 1425
السؤال
أنا لم أكن أصلي ولكن أصبحت أصلي والحمدلله ..و لكن لا يمكنني ترك الاستمناء..حيث إن عمري 15 عاما وأنا في مرحلة صعبة، حيث إني لن أتزوج قبل 25..فكيف سأحفظ فرجي طوال هذه المدة!!!!!!! و هل يجوز أن أدعو الله أن يجعلني أحتلم؟ لكي أفرغ طاقاتي..و هل الاحتلام نعمة أم ابتلاء؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد حرم العلماء الاستمناء، وانظر أدلة ذلك في الفتوى رقم: 7170 . ولا تيأس من إعانة الله لك على ترك هذا الفعل وثق بالله: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف: 87}. واحذر من تخذيل الشيطان وتثبيطه لهمتك عن ترك هذه العادة السيئة وتذكر قول الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاء ِ {البقرة: 268}. فإن من تأمل حال التائبين وجد أن أكثرهم قبل التوبة يقولون: لا نستطيع التخلص مما نحن فيه، ولكن الله من عليهم بها لما رأى اجتهادهم في ترك الحرام، وانظر الفتويين: 9195 ، 52466 . أما الاحتلام، فهو من تلاعب الشيطان كما يذكر ذلك أهل العلم ولذلك قالوا بأنه مستحيل على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا سلطان للشيطان عليه، ولو دعوت الله أن يرزقك العفاف وأن يحصن فرجك لكان خيرا لك وأنفع، وانظر الفتوى رقم: 24741 . والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الفرق بين الابتلاء من الله والعيش الضنك (2)
رقم الفتوى 56863 الفرق بين الابتلاء من الله والعيش الضنك
تاريخ الفتوى : 02 ذو القعدة 1425
السؤال
سؤالي دقيق نوعا ما
كيف يفرق المسلم بين الابتلاء من الله والعيش الضنك في ما أصابه
بحيث إذا قدر عليه رزقه مثلا فهناك من الآيات ما توضح إن قدر الرزق من الله يعد بلاء من الله للمسلم ليختبره الله (والآيات كثيرة بهذا المجال) وبنفس الوقت قد يكون قدر الرزق من الله هو من ضمن المعيشة الضنكة التي وعدها الله لمن اعرض عن ذكره أو لينال المسلم وبال أمره من أمر معين أو جزاء وفاقا لسيئة ارتكبهافكيف لنا أن نفرق بين الاثنين
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المؤمن المستقيم على الطاعة يعتبر ما يحصل من ضيق الرزق ابتلاء من الله له، وبصبره عليه يعظم الله أجره ويعطيه الخير الكثير. ففي الحديث: عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ * {البقرة: 155-157}.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3764)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5702)(4/86)
وأما العاصي، فإنه قد يضيق عليه ويحرم من الرزق بسبب المعاصي، كما في الحديث: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد وصححه الألباني .
وكما حصل لأصحاب الجنة المذكورة قصتهم في سورة القلم، فقد حرموا منها بسبب همهم بحرمان الفقراء منها.
وقد يوسع الله على العاصي استدراجا له، ثم يعاقبه بعد ذلك، كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا {الأنعام: 44-45}.
وبهذا نعلم أنه قد يحصل الابتلاء للمؤمن المستقيم بتقليل الأشياء المادية في يده، ولكنه يكون سعيدا مع ذلك، كما يدل له قول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً {النحل: 97}. وفي الحديث: قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه. رواه مسلم.
كما أنه قد يعاقب الفاجر بقلتها في يده، وقد تكثر في يده أيضا استدراجا ويعاقب بالقلق النفسي والأزمات القلبية، نعوذ بالله. ويشهد لهذا قوله تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {التوبة: 55}. وراجع للمزيد في الموضوع الفتاوى التالية أرقامها: 21400 ، 32533 ، 47005 ، 51953 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
المصائب والعقوبة والابتلاء (1)
رقم الفتوى 57255 المصائب والعقوبة والابتلاء
تاريخ الفتوى : 10 ذو القعدة 1425
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال هو: كيف يمكن للمسلم إذا وقعت عليه مصيبة أو فاجعة أن يميز أو يعرف ما إذا كانت ابتلاء لرفع درجاته أو عقوبة له تمهيداً لعقوبة الآخرة، وكيف يكون الصبر الحقيقي عليها؟ وجزاكم الله عني وعن المسلمين كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان العبد قائماً بأمر الله، متمسكاً بشرعه، مستقيماً على دينه، فنرجو أن يكون ما أصابه من مصائب رفعة له في الدرجات، ومثقلاً لموازين حسناته.
وأما إن كان العبد مقيماً على معصية الله، مفرطاً في دينه، لاهياً عابثاً، فقد تكون المصائب والآفات التي يبتلى بها تنبيهاً له من الله ليتوب ويرجع قبل فوات الأوان، وقد تكون عقوبة له في الدنيا نظير ظلمه لنفسه. وكل ما سبق لا نقطع به، ولكن نستشرفه من قرائن الأحوال.
هذا، وإن الواجب على العبد أن إذا أصيب بمصيبة أن يقابلها بالصبر الجميل، فلا يسخط ولا يجزع؛ فإنه غانم على جميع الاحتمالات إن هو صبر واحتسب، وانظر أنواع الابتلاء، والحكمة منه، وأسباب كشفه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 13270 ، 19810 ، 25874 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الأمراض التناسلية بين العقوبة والابتلاء (2)
رقم الفتوى 59536 الأمراض التناسلية بين العقوبة والابتلاء
تاريخ الفتوى : 22 محرم 1426
السؤال
هل الأمراض التناسلية عقوبة إلهية ؟
مع الشرح
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كانت الأمراض التناسلية ناشئة عن الزنا أو اللواط أو الشذوذ ونحوه فلا شك أنها عقوبة إلهية من الله الحكم العدل، فقد أخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذي مضوا ... الحديث، وهو حديث حسن حسنه الألباني رحمه الله، وأما إذا كانت تلك الأمراض غير ناشئة عن الزنا ونحوه مما سبق ذكره فهي والحالة هذه ابتلاء من الله للعبد، وقد يكون رفعة لدرجاته أو كفارة لسيئاته، فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الجنة ليست دار ابتلاء (3)
رقم الفتوى 60676 الجنة ليست دار ابتلاء
تاريخ الفتوى : 25 صفر 1426
السؤال
هل توجد عبادات في الجنة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 6049)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 7898)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 579)(4/87)
فالعبادات في الجنة تسبيح وتحميد، ولكن بغير تكليف، لأن الجنة دار جزاء ونعيم، وليست دار ابتلاء، وقد روى مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس، وذلك بيين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته . قال الحافظ في الفتح: ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه ولا بد له منه، فجعل تنفسهم تسبيحا وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب سبحانه وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره . اهـ.والله أعلم
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء لا يدل بالضرورة على سخط الله على العبد (1)
رقم الفتوى 62617 الابتلاء لا يدل بالضرورة على سخط الله على العبد
تاريخ الفتوى : 21 ربيع الثاني 1426
السؤال
أنا سيدة متزوجة منذ عامين أجهضت ولم أ ستطع أن أنجب بعد ذلك. أنا متعبة جدا من الناحية النفسية خاصة وأن كل المحيطين بي قد حظوا بهذه النعمة.أنا أحظى برضا الوالدين وحماتي، أخاف أن يكون الله غاضب عني.أرجو المساعدة .جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنيئا لك رضا والديك عنك ورضا حماتك، وينبغي كذلك أن تسعي في رضا زوجك، فإن حقه عليه عظيم.
وأما ما ذكرتِه من الإجهاض فإن كان بفعلك دون عذر شرعي يقتضي ذلك فهو محرم وجرم كبير يجب عليك التوبة منه والندم عليه والعزيمة أن لا تعودي إليه؛ لما ذكرناه في الفتوى رقم: 2143 ، وراجعي للأهمية الفتوى رقم: 17939 .
وأما إذا كان سقط بنفسه فلا إثم عليك في ذلك ولا حرج، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا { البقرة:286}
وننبهك إلى أن مجرد تتابع نعم الله على عبده ليس دليلا محضا على رضاه عنه، كما أن مجرد ابتلائه إياه ليس دليلا على سخطه عليه، وقد بينا ذلك مفصلا في الفتوى رقم: 31702 فلا تظني بربك إلا خيرا، ولتصبري على ما أصابك فإن الله تعالى قد أعد للصابرين أجرا عظيما، ومن ذلك الصبر على حرمان الولد لما ذكر في الفتوى رقم: 56479 .
كما ننصحك بالتقوى، فقد قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. والإكثار من الاستغفار. قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {نوح: 10-12}.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
البلاء والابتلاء وقول القائل أستعين بالله وبك (2)
رقم الفتوى 63679 البلاء والابتلاء وقول القائل أستعين بالله وبك
تاريخ الفتوى : 16 جمادي الأولى 1426
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم..
رزقكم الله تعالى رضوانه والجنة.. عندي سؤالان بارك الله تعالى فيكم..
أولاً: كيف يمكن التفريق بين البلاء والابتلاء والمصيبة، هل من تأصيل دقيق لذلك وهل يمكن أن يعرف المرء في أي قسم ما أصابه، وهل في كل الحالات يعتبر مأجورا إن صبر واستعان بالله، حتى لو كان ما أصابه جراء معصية ارتكبها مثلا، وكذلك هل يجوز القول أستعين بالله وبك، أم هذا لا يجوز، ويجب القول أستعين بالله ثم بك، وإن كنت قاصدا في الكلام أستعين بالله (إجمالا معتمدا عليه) وبك (أي كسبب من الله جل وعلا) أم أصلا لا يجوز التلفظ بهذا، وجزيتم خيراً؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالبلاء والابتلاء معناهما الاختبار والامتحان، قال في النهاية: والمعروف أن الابتلاء يكون في الخير والشر معا من غير فرق بين فعليهما، ومنه قوله تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً... {الأنبياء:35}، ومنه الحديث: من أبتلي فذكر فقد شكر ... والابتلاء في الأصل الاختبار والامتحان، يقال بلوته وأبليته وابتليته.
ومنه حديث كعب بن مالك: ما علمت أحداً أبلآه الله أحسن مما أبلاني. ومنه الحديث: اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن أي لا تمتحنا ....
وفي فتح القدير للشوكاني ، عند تفسير قول الله تعالى: إن هذا لهو البلاء المبين قال: البلاء والابتلاء: الاختبار والمعنى: إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده...
والمصيبة تقال لكل ما أصاب الإنسان من نوائب الدهر، قال في لسان العرب: والصابة والمصيبة: ما أصابك من الدهر .
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2174)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3071)(4/88)
وقد تبين من هذه التعريفات أن البلاء والابتلاء أعم من المصيبة، لأنهما يكونان في الخير والشر، وأما المصيبة فلا تكون إلا في الشر، والمرء إذا اختبر بنعمة أنعم الله عليه بها لتبين ما سيكون حاله من شكر لتلك النعمة أو كفران لها، فهذا إنما يوصف بأنه بلاء وابتلاء، ولا يمكن وصفه بأنه مصيبة، وأما إذا اختبر ببعض الفواجع والدواهي لتبين ما سيكون عليه حاله من الصبر أو الجزع، فهذا يمكن أن يوصف بأنه مصيبة وبلاء واختبار.
ولا شك أنه في كل الحالات يعتبر مأجوراً إن شكر النعم التي وقع الاختبار بها، بصرفها فيما يرضي الله، أو صبر واستعان بالله في حالة ما إذا كان الاختبار ببعض المصائب، ولا يتغير هذا الحكم بما إذا كان ما أصابه هو بسبب معصية ارتكبها وتاب منها، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الصحيح، ولا يجوز قول أستعين بالله وبك، ولو كان المتكلم لا يقصد التشريك، لأن هذا اللفظ مما نهى عنه الشارع، وفيه سوء أدب مع الله، ففي زاد المعاد لابن القيم عند الكلام على الحديث الشريف: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان... قال: وفي معنى هذا الشرك المنهي عنه قول من لا يتوقى الشرك: أنا بالله وبك، وأنا في حسب الله وحسبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، والله، وحياتك، وأمثال هذا من الألفاظ التي يجعل فيها قائلها المخلوق ندا للخالق، وهي أشد منعاً وقبحاً من قوله: ما شاء الله وشئت.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
وضعك يدور بين الوسواس والابتلاء (1)
رقم الفتوى 63844 وضعك يدور بين الوسواس والابتلاء
تاريخ الفتوى : 20 جمادي الأولى 1426
السؤال
ماهو الابتلاء في الدين الذي يحمد الناس عليه الله أن سلمهم منه؟ وهل المبتلى في دينه هو شخص غضب الله عليه وإن كان يحب الله ويتمنى أن يحسن طاعته ويدعو الله أن يفرج عنه؟ كل الأمور التي ترتبط بعبادتي كصلاتي وصيامي أعاني فيها بشكل كبير وتسبب لي مشقة أحيانا لا يمكن وصفها ...ليس الأمر مرتبطا بالشيطان وشهوات النفس ولكن الأمر متعلق بأمراض تعرقل عبادتي وتجعلها شاقة ومؤلمة!!! أضرب مثلا على ذلك: أعاني من خروج الريح في أيام معينة وأوقات معينة . وكلما قررت الصلاة يشتد خروجها أوإن كنت في بيت ناس ويحرجني إعادة الوضوء مرارا وتكرارا اوإن كنت أريد الصلاة والخروج فوراً...وليس الأمر وسوسة فأنا أجد لهل ريحا وصوتا ...والأدهى والأمر هو أنه عندما أقرر أن لا أعيد صلاتي حتى وإن خرج الريح ... تتوقف الغازات ولا تخرج مطلقا إلا بعد خروج الوقت مما يؤلمني والأعجب إن قررت عكس ذلك وأعدت الوضوء فأنه بمجرد وقوفي أمام المصلى ينتقض وضوئي... وقد أضطر لإعادة الوضوء أحيانا 3 و4 مرات قبل أن أصلي على طهارة ...وإن قررت الانتظار حتى تخرج معدتي كل الغازات فإنها تتوقف ولا يخرج شيء ...وكأني كنت أكذب ......أقسم بالله العظيم رب العرش العظيم أن هذا يحدت وإني لا أوسوس لأني أجد لها صوتا وأحيانا ريحا ....معدتي تتصرف كأنها سلطت علي أو كأنها تنال مني إن قمت للصلاة بدأت.. وإن توقفت توقفت عن ذلك ...كأن أحدا سلطها علي!! .. مع العلم أنني إلى الآن أتمكن من الصلاة على طهارة ولكن بعد ألم نفسي لا يعلمه إلا الله أضف إلى ذلك أنني أعاني من وساوس تسب الذات الإلهية وكل الناس ولا أملك الخشوع في صلاتي مطلقا كلما قررت القيام بعبادة عرقلت أمامي بشكل كبير ...فإن قررت الصيام مثلا فذلك اليوم لا يتوقف فمي عن نزف الدم مع العلم أنه قد يكون له شهر لم ينزف دما !!.... وهكذا تجري الأمور ولا تقل لي إن للشيطان علاقة بنزف الدم هذا كذلك الذين تقدمو لخطبتي
وكانو متدينن أو محبين للالتزام ذهبوا ولم يتم الارتباط للأسباب في أغلبها عادية!! وعلى العكس تماما فكل باب للمعصية ميسر لي ومفتوح بشكل رائع فقط أشترك!! المشكلة هي أنني لم أجد تفسيرا منطقيا لهذا وبدأت أصلي وأقرأ القرآن ولكن بدون رغبة ..مجرد فرض أؤديه كما أنني بدأت أؤخر صلاتي .هل تصدق أن استعدادي للصلاة يستغرق ساعة بينما صلاتي لا تستغرق أكثر من 10 دقائق ....نظراً للغازات والإفرازات التي أعانيها نتجية التهابات وهذه قصتها طويلة ولا رغبة لي في خوضها!! أحيانا أشعر أن الله أغلق الباب فى وجهي وأنه لا يريد أمثالي بدأت أصاب بالقنوط ولم أعد أهتم كثيراً أو أتاثر إن عصيت الله!! والغريب أن صورتي أمام الناس لا زالت جميلة...فتاة مصلية متدينة ...ودائما أي عمل جيد أقوم به يصادف أن يراني شخص حتى ولو بدون علمي ليزداد ألمي هل هذ غضب أم ابتلاء محبة مع العلم أني إلى الآن أحاول الحفاظ على صلاتي وقراءة قرآني ...حتى وإن ضاعت مني صلوات فإني أستغفر وأعود من جديد.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالبلاء الذي يصيب العبد على قسمين:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3214)(4/89)
الأول: رفعة له في الدرجات وتطهيراً من الذنوب، وذلك إذا كان المصاب مستقيماً على طاعة الله تعالى.
الثاني: عقوبة وزجراً وفضيحة، وذلك إذا كان المصاب عاصياً متمرداً، وما دمت ملتزمة بالصلاة، فنسأل الله جل وعلا أن يجعل ما أصابك رفعة لدرجاتك ومحوا لذنوبك، ونوصيك بالصبر واللجوء إلى الله بالدعاء والمحافظة على الذكر والطاعات، وأما ما يعتريك من الشعور بنزول رائحة منك إذا أردت القيام إلى الصلاة وعدم الشعور بشيء إذا لم تقومي إليها، والمكث ساعة للطهارة والاستعداد لها وعدم الخشوع بعد الدخول فيها، وكذا الشعور بنزول الدم من الفم إذا نويت الصيام وعدم نزوله إذا لم تنوي الصيام، وكذا الوسوسة في سب الله جل جلاله، وما يتبع ذلك مما ذكر في السؤال كل هذا يدل على أن هناك وسوسة واضحة.
وأصبح هذا الإحساس كالحقيقي، لأن الوهم عند الموسوس قد يصبح حقيقة لا ريب فيها عنده، ولو قدر أن ما ذكر حقيقة لا مراء فيها فهو ابتلاء وامتحان من الله جل جلاله، فاصبري واحتسبي، والتزمي بالرقية الشرعية والمحافظة على الصلاة حسب الاستطاعة، لأن ما بك إما سلس ريح إذا كان مستمراً في الوقت بحيث لا ينقطع وقتاً يسع الصلاة، وإما وسواس فتطهري ثم صلي ولا تلتفتي إلى خروج الريح، وكذا صومي ولا تلتفتي لخروج الدم من الفم، وإذا أحسست به فالفظيه واعلمي أنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وأحسني الظن بالله ولا تيأسي من رحمة الله، فإنه لا ييأس منها إلا الكافرون.
ولا بأس بأن تعرضي نفسك على شيخ صالح يرقي الرقية الشرعية أو طبيب نفساني عسى الله أن يكتب إزالة ما تعانين منه على يدي واحد منهما.
وهناك فتاوى مهمة ننصحك بقراءتها والاستفادة منها، وهي بالأرقام التالية: 27048 ، 25874 ، 51601 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الابتلاء من سنن الله في خلقه (1)
رقم الفتوى 64120 الابتلاء من سنن الله في خلقه
تاريخ الفتوى : 26 جمادي الأولى 1426
السؤال
أرجو المساعدة من أصحاب الشهامة، أ كتب إليكم قصتي لعلي أجد من يساعدني بينكم.. أنا اسمي جوني من مواليد 1976.. الجنسيه عراقي من بغداد مسيحي أتكلم اللغه المسيحية الكلدانيه بتاريخ 22- 6- 1997 من يوم الأحد الساعة 10 مساء قبل صلاة العشاء بالضبط جدا أعلنت إسلامي على يد الشيخ بكر السامرائي في الحضرة القادرية، وقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما... بدأت معاناتي مع الأهل حين عرفوا بإسلامي وعرفو عشيرتي ثم أصدقائي وبدأوا يهددوني بالقتل ويهددوني بإيذائي وحاولو ايذائي ثم بدأوا بي حين أثبت بأني مسلم عذبوني جسديا ونفسيا عذبوني حتى أجريت 4 عمليات جراحية الأولى قرحة في المعدة كان طعامي فطورا وغداء وعشاء كل الأطعمة الحارة ثم أجريت عملية الزائدة الدودية ثم أجريت عملية البواسير مع خراج وبعدها مرت الأيام وقلت لهم بأني لست مسلما وتركت الإسلام.... لكن بقيت في قلبي والحمد لله أخرج إلى مكان بعيد جداً لأصلي وأخرج إلى الصلاة...... لذا حاولت الكنيسه إيذائي وحاول أصدقائي قتلي لولا تدخل أحد المسلمين بجانبي........ والكل الآن لا أحد يحبني والكل يكرهني لا أحد يحبني ولا أحد يمشي معي... لذا أرجو المساعدة منكم أريد أن أكون مسلما حرا في الصلاة أذهب إلى الجامع دون خوف أو مراقبه من الأهل والأصدقاء أو العشيرة أريد أن أكون مسلما حرا حالي حال أي مسلم يذهب إلى الجامع أو يذهب لقراءة القرآن الكريم دون خوف أو مراقبه أتمنى أن أحج إنها أمنيه حياتي وقلبي وعقلي لذا أرجو منكم المساعدة لإيجاد عمل لي، أي عمل أعيش وأصبح حرا مسلما ، إني أناشدكم بالله ورسوله قال الله في كتابه الكريم... بسم الله الرحمن الرحمن فمن يعمل مثقال ذره خيرا يره صدق الله العظيم......... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.... من ستر مسلم ستره الله في الدنيا والآخره، لذا أرجو منكم المساعدة يا أمة الإسلام
أنا لا أريد منكم المال ولا أريد منكم بيتا أو امرأة كل ما أريد هو العيش مسلما حرا وإيجاد عمل شريف لي، ..... وهذا الإيميل أرجو إرسال الجواب
Cone_hotmail@hotmail.com .
أرجو الرد لأني متلهف جداً والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3448)(4/90)
فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبك بعد إذ هداك ويهب لك من لدنه رحمة ويهيئ لك من أمرك رشداً، كما نسأله سبحانه أن يفرغ عليك صبراً وليثبتك في وجه تلك الفتن والمحن إنه سميع مجيب، ولك في بلال وصهيب وخبيب أسوة حسنة؛ بل في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه فقد أوذوا في سبيل الله بكل أنواع الإذاية والإهانة بالضرب والشتم والسب والكراهة والمقاطعة، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، لقد كان بلال يوضع في بطحاء مكة وعلى ظهره وبطنه الحجارة الحارة فيقول: أحد أحد، وقتل خبيب ومزق إربا إربا فما ثناه ذلك عن إيمانه بل قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً*** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ***** يبارك على أوصال شلو ممزع
وتلك سنة من سنن الله أن يبتلي عباده المؤمنين حتى يتبين من بكى ممن تباكى، ومن هو صادق في إيمانه ولو كلفه ذلك بذل مهجته، قال الله تعالى: ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:1-2-3}، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا، قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه.
فننصحك بالصبر على ما أنت فيه، واعلم أنك مأجور فما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم حتى الشوكه يشاكها يكفر الله بها من سيئاته، كما في الحديث عند مسلم وغيره، واعلم أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا، فتمسك بإيمانك واثبت عليه ثبوت الجبال الراسيات، وإن أمكنك الهجرة عن القرية التي أنت فيها إلى غيرها فهو أولى لك، ولن يضيعك الله، فقد قال: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:100}، وإن كنت لا تستطيع إقامة شعائر دينك في ذلك المكان فيجب عليك مغادرته والهجرة عنه إلى حيث تستطيع إقامة شعائر دينك بحرية تامة، وذلك لقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا {النساء:97}.
وأما والداك إن جاهداك على أن تكفر بالله وتشرك به ما ليس لك به علم فلا تطعهما، كما قال الله تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {لقمان:15}، وقد رخص الله سبحانه وتعالى لمن أكره أن يقول كلمة الكفر إذا لم يعتقد ذلك وكان قلبه مطمئنا بالإيمان؛ كما في قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ {النحل:106}، ولكن حيث أمكنه ترك الكفار والهجرة عنهم فلا عذر له، قال البغوي : والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية وعدم إمكان الفرار وهي رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم.
ولا ينبغي للمسلم أن يجعل فتنة الناس كعذاب الله، فيستسلم لذلك ويترك إيمانه لكره الناس أو إذايتهم له، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ {العنكبوت:10}، فعليك بالصبر والدعاء وراجع الفتوى رقم: 32179 .
وأما العمل فنسأل الله تعالى أن ييسره لك ، ونعتذر إليك لأن ذلك ليس من اختصاصنا فجهد الشبكة ينصب على تبصير الناس بأمور دينهم وإجابة الأسئلة ذات الفتاوى الشرعية والاستشارات الطبية والنفسية ونحو ذلك من الأمور الدعوية والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===========
للمؤمن أسوة حسنه في الأنبياء والصالحين في مواجهة الابتلاء(1)
رقم الفتوى 64559 للمؤمن أسوة حسنه في الأنبياء والصالحين في مواجهة الابتلاء
تاريخ الفتوى : 03 جمادي الثانية 1426
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3809)(4/91)
اللهم لك الحمد بأن وجدت من أبوح له بسري ويوجهني فيما أعمل... وأرجو المعذرة لكثرة الأسئلة، ولكن لارتباط الموضوع ولتعقيده نوعا ما (لملازمته لي منذ الصغر)، أنا ابن لعائلة من غير السنة... ولكن ولله الحمد أنا سني، تقريبا منذ الصغر، والآن أنا أبلغ من العمر 28 سنة أهلي لا يعلمون عن ذلك وتقريبا لا أحد سوى الرحمن جل في علاه، ومدرس في الابتدائية ثم أنتم والله أعلم على كل حال، لديّ تقريبا ثلاث مشاكل بسبب هذا التوجه الصحيح...
1- أعلم أن الواجب علي نصح أهلي ودعوتهم إلى السنية ولكن أواجه صعوبة في ذلك الأمر، حيث إني منذ صغري وأنا مزعج أهلي بكثرة مشاكلي ووقوفهم بجانبي بشكل صحيح أو غير صحيح لجهل منهم في هذا المجال لأنها قد تكون مشاكل جديدة بالنسبة لهم، ولدي إحساس قوي بأني إذا أعلنت لهم عن حقيقة الأمر قد يصاب أبي وأمي بمشاكل صحية كبيرة إن لم تصل إلى السكتة القلبية والعياذ بالله، اللهم احفظهم وعافهم في الدنيا والآخرة ولمن يقرأ هذه المقال، أو يبتعد عني أهلي وربعي وجميع قبيلتي يتجنبني إن لم يصل الأمر إلى إيذائي أو قتلي (وأتوقع أن الأمر لن يصل إلى هذا بإذن الله)... مع أن أهلي وربعي هم أقرب الناس إلي والحياة بدونهم ستكون صعبة لأني تربيت وعشت معهم طول عمري (مع العلم بأن العائلات غير أهل السنة نوعا ما منعزلة بشكل كبير عن المجتمعات الأخرى لكي تكون التربية نوعا ما أقوى)، أرجو التوجيه.
2- من ناحية الزواج أهلي يريدون مني الزواج من بنت عمي ويضغطون علي في ذلك، وهي جميلة ومهذبة وتنتمي إلى نفس القبيلة، أي تفهم العادات والتقاليد والأساليب التي تربيت عليها منذ صغري... ولكني أخاف على أولادي حيث إني أحلم وأتخيل وأتمنى أطفالاً ملتزمين أقوياء في دينهم وطائعين لله ويبتغون مرضات الله في كل شيء في حياتهم وحافظين لكتاب الله وسنة نبيه من صغر سنهم... لكن من بنت عمي أخاف أو لا أعلم ما قد يحدث، حيث ستكون صلتي بعائلتي أكبر وسيكون وقع الحدث أقوى وأكبر، فقلت لأهلي بطريقة غير مباشرة لخوفي عليهم أنني لا أستطيع الزواج من بنت عمي لسبب لا داعي لذكره... فبدا الحزن والغضب إلى اليوم في العائلة... وأفكر في الزواج من بلد آخر حيث إن زواجي من قبيلة أخرى لن يكون سهلا مع مشاكلي المذكورة وبدون وجود والدي ووالدتي أو أهلي على الأقل، أرجو الإفادة ما العمل.
3- أنا أنتمي إلى عائلة أو قبيلة مشهورة ولله الحمد بالكرم والمروءة وكل الصفات الحميدة ولكن عيبها الوحيد المذهب الذي ينتمون إليه (ويا ليته عيب فقط من وجهة نظري) ولكي لا أفقد أصدقائي ولتكوين علاقات جديدة جيدة، لا أبلغهم عن اسم قبيلتي ولا إلى اسم المنطقة التي أنتمي إليها لكي لا يعلموا أن أهلي من غير أهل السنة أو ظنهم أني من غير أهل السنة ويفرون مني أو يتجنبوني وإلى غير ذلك... وهذه الطريقة التي اتبعتها لها تاثير على ظهوري في المجتمع أيضا حيث عدم إحساسي بالانتماء له تأثير واضح على أسلوب تفكيري وحياتي... أرجو التوجيه على ذلك، أ رجو المعذرة على هذه الأسئلة المعقدة والغريبة... مع العلم بأني اختصرت فيها بشكل كبير ولم أذكر بعض الأحداث لتوقعي عدم تأثيرها الكبير على الإجابات بشكل واضح أو جذري، ولكن هذه القصة حدثت لي منذ صغري وهي متراكمة الأحداث ومعقدة في التفاصيل وحلولي المؤقته الخاطئة لصغر سني أو لجهلي عقدة الموضوع أكثر... وكذلك أسلوبي في الكتابة (زاد الطين بله!!!)؟ ولكم جزيل الشكر والتقدير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنيئاً لك نعمة الهداية إلى الحق وهي نعمة تستوجب الشكر، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياك على الحق حتى نلقاه.
ولا شك أنك في ابتلاء عظيم، ومن شأن المؤمن الصبر على البلاء، روى مسلم عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. فنوصيك بالصبر، فعاقبة الصبر خير الدنيا والآخرة.
واعلم أن هذه الحياة الدنيا دار فانية، وأن الآخرة هي الدار الباقية، ومن شأن المؤمن أن يؤثر الباقية على الفانية، وأن يؤثر الحق على الخلق، ولك أسوة حسنه في الأنبياء والمرسلين والفضلاء الصالحين، والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فنوصيك بقراءة سيرتهم، لمعرفة ما بذلوه من جهد مع قومهم، وما واجهوا من مصاعب في دعوتهم، وصبرهم على أذاهم، ونصر الله تعالى إياهم وجعله العاقبة لهم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا {الأنعام:34}، بل ومنهم من ترك الديار والأوطان والأموال وخرج مهاجراً فراراً بدينه، قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {الحشر:8}.(4/92)
ومن أهم ما نرشدك إليه في هذا الصدد أن تتعلم العلم النافع المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتسلم من غوائل الشبهات، وأن تحرص على مصاحبة من هم على المنهج الحق الذي أنت عليه ليكونوا عوناً لك في سبيل الحق والسلامة من فتن الشهوات، ونوصيك بالتعاون معهم في القيام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر على ما قد تجد من أذى في هذا السبيل، وإذا تعينت الهجرة سبيلاً للنجاة من الفتنة وجبت عليك الهجرة إلى بلد تأمن فيه على دينك ونفسك، ولك في رسول الله الأسوة الحسنة، فقد خرج من مكه مهاجراً وهي أحب البلاد إليه، روى أبو يعلى في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال: أما والله لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي، وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.
وأما الزواج فاعلم أولاً أن رفضك الزواج ممن لا ترغب في الزواج منها ليس فيه عقوق لوالديك، ثم إن لك الحق في أن تتزوج من قبيلة أخرى أو بلد آخر، ولا شك أن موافقة والديك وأهلك وحضورهم هذا الزواج لو تم لكان أمراً حسناً، ولكن لا تترك الزواج لأجل عدم حضورهم أو عدم موافقتهم.
وأما عدم إظهارك الانتماء لهذه القبيلة لئلا تعير من قبل أصدقائك فلا حرج عليك فيه، وإذا سئلت عن شيء من ذلك فيمكنك الانتماء إلى القبيلة الأم والتي هي أصل لقبيلتك أو أن تستخدم شيئاً من التورية، دون أن تقع في الكذب الصريح أو الانتماء إلى قبيلة أخرى.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
ليس كل ابتلاء عقوبة (1)
رقم الفتوى 64586 ليس كل ابتلاء عقوبة
تاريخ الفتوى : 07 جمادي الثانية 1426
السؤال
توفي ابن أخي وعمره 21 سنة في حادث بالسيارة, فهل تعتبر هذه الطريقة البشعة التي توفي بها عقابا له ولوالديه من الله تعالى لأجل ذنوبهم ؟
كيف نساعد الميت, نحن عائلته, حتى تكون له حياة أفضل حيث هو موجود ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن لله تعالى حكما فيما يقدره من الأمور والابتلاءات على عباده، وقد لا يكون هذا الحادث عقوبة للوالدين، بل قد يكون سببا في تكريمهم إذا صبروا ورضوا بقضاء الله تعالى كما قد يكون الشاب شهيدا بسبب هذا الحادث، وعليكم أن تسعوا في تعزيتهم وحضهم على الصبر على البلاء، وتذكروهم بما يعطيه الله للصابر على فقد الولد من الثواب الجزيل، وقد قدمنا بعض الأدلة على هذا في الفتوى رقم: 14321 والفتوى رقم: 59259 .
وعليكم أن تستغفروا للميت وتقضوا عنه دينه، ويشرع أن تتصدقوا عنه وتقرؤوا القرآن وتهبوا له ثوابه على الراجح، ولا يسوغ أن تقولوا: إن هذا عقوبة ربانية، ويتعين عليكم أن تستخدموا ما أمكن من الوسائل في حضهم على التوبة إن كانوا ممن يظهرون المعاصي، وراجعي الفتاوى التالية أرقامها للمزيد في الموضوع: 683 ، 11599 ، 25874 ، 13270 ، 44952 ، 56783 ، 8042 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
لا يهولنك تتابع الابتلاءات (2)
رقم الفتوى 65294 لا يهولنك تتابع الابتلاءات
تاريخ الفتوى : 21 جمادي الثانية 1426
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر 31 سنة أغلقت كل الأبواب في وجهي وقد سألتكم من قبل عن العمل في مجال تركيب الدش وفك شفرات القنوات الفضائية فأجبتم فضيلة الشيخ أن علي الابتعاد عن الشبهات والحمد لله تركت العمل فورا بعد تلقي رسالتكم والآن أنا عاطل عن العمل ولم أجد عملا في جميع المجالات ولم يتبق إلا قرض من البنك وهو بفائدة ولكن أعرف أن أصحابى عندما أخذوا القرض سمح لهم بكامل المبلغ بدون فائدة وبدون إرجاع المبلغ ويصعبوا في ملف القرض لعدم اكتظاظ الملفات فقط الرجاء إفادتى بأمر هذا القرض آخذه أم لا والحمد لله على كل حال فأنا صابر ومتوكل على الله ولتقدم سني أريد أن أتزوج بالحلال إذا تيسر أمري وكذلك أمر مهم أبي يطالبني دائما بأن أعمل وأقنعته بأن الأمر صعب جدا وبأن العمل في مجال تركيب الدش ليس طريقي وفيه شبهات وإن الله لا يضيع أحداً من عباده وخاصة الذين يريدون طريق الحلال.
وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجزاك الله خيراً على اجتناب العمل في مجال تركيب الدش، ونسأل الله تعالى أن يعوضك خيراً مما تركت تعلقاً بوعد النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه . رواه أحمد وغيره وصححه الأرناؤوط.
ولتعلم أيها الأخ السائل أن ضيق العيش الذي يعتري حياة المرء أحياناً إنما هو من البلاء الذي يثاب عليه، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {البقرة: 155}.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3829)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 4415)(4/93)
فمن صبر على البلاء نال الجزاء الأوفى، وحصلت له البشرى قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر: 10}. وقال: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {النحل: 96}.
وما ذكرت من إمكانية الاقتراض بالربا إنما هو بلاء جديد ابتلاك الله به، ليرى ما سيكون منك، فاحرص على إرضاء الله تعالى والعمل بطاعته، ولا يهولنك ما يحصل لك من ابتلاءات، فإنها ما كانت ولا جرت إلا بعلم الله تعالى وقضائه وقدره، ولمعرفة حكم الاقتراض بالربا راجع الفتوى رقم: 4546 .
وننبه الأخ السائل أننا لم نفهم قصده من قوله عن البنك أنه: سمح لهم بكامل المبلغ بدون فائدة أو إرجاع.
ولذا، فإنه لا يمكننا الإجابة عليه، لأنه لا يوجد بنك ربوي يقرض بدون فائدة في حدود علمنا.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
الابتلاء بين تكفير الذنوب ورفع الدرجات (1)
رقم الفتوى 65354 الابتلاء بين تكفير الذنوب ورفع الدرجات
تاريخ الفتوى : 25 جمادي الثانية 1426
السؤال
أريد أن أعرف من حضرتكم كيف أستطيع ان أدرك أنني أسلك في حياتي طريقا مستقيما وأن ما أعانيه من شدائد ليس إلا ابتلاء من عند الله سبحانه وتعالى والأهم من هذا كله كيف أدرك أنني أصبر. أرجوكم ساعدوني فإني أخشى عذاب يوم شديد. جزاكم الله كل خير و شكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن سلوك الطريق المستقيم يكون بالاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديهما وتقديمهما على مراد العقول وهوى النفوس، ومن أراد أن يعلم مدى استقامته فليعرض نفسه على هذا الميزان، وانظري الفتوى رقم: 1208 .
وأما الدقة في تمييز البلاء الواقع على العبد هل هو عقوبة لتكفير الخطايا ومحو الذنوب والسيئات أم أنه ابتلاء لتمحيص العبد ورفع درجاته وزيادة حسناته فإن هذا ليس لابن آدم عليه سبيل لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وانظري الفتوى رقم: 13270 .
واعلمي أن الصبر الواجب على العبد إنما يكون بمجاهدة النفس وكفها عن التسخط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه.
هذا، وإن الواجب على العبد أن يتفقد نفسه ويتعاهدها وأن ينظر في مدى استقامته على أمر الله وتمسكه بدينه تعالى حتى يعلم من أين يؤتى، وقد كان من يقظة السلف أنهم كانوا يحصون عثراتهم وتضييعهم لحق الله تعالى ويربطون ذنوبهم بما يصيبهم من البلاء، فقال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي، وهذه اليقظة مدعاة للتوبة والاستغفار من الذنوب.
وللفائدة طالعي وسائل الثبات على منهج الله تعالى والاستقامة على أمره في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800 ، 16610 ، 21743 ، 12744 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
ليس كل ابتلاء عقابا (2)
رقم الفتوى 65816 ليس كل ابتلاء عقابا
تاريخ الفتوى : 06 رجب 1426
السؤال
جزاكم الله على أجوبتكم لاستفساراتنا وجعل الله دلك في ميزان حسناتكم ، سؤالي نعلم أن الله حكيم رحيم وعادل في قضائه وقدره ولكن تأتيني شبهات وشك فأنا مثلا عمري الآن تجاوز الثلاثين ولا أملك شخصية سليمة، أعاني من الجبن والخجل والعبوس والسلبية ولست أدري لماذا؟ ولقد هتك عرضي وأنا طفل أكثر من مرة وكان هذا بموافقتي فلا شهامة ولاعزة
ومازلت أعاني بسبب ذلك فهل هدا عقاب من الله لي؟ولماذا يسبق العقاب الدنب مادام الطفل مرفوع عنه القلم؟
بارك الله فيكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا غرابة في أن ينتاب الإنسان في بعض أحيانه شيء من الخوف والشك، وتضعف شخصيته لتلبسه بأمر معين، وقد يرجع ذلك إلى حالة نفسية يعاني منها، وقد يكون لظروف اجتماعية، وقد يكون لأسباب مادية، وقد يكون لغير ذلك.
وعلى أية حال، فخير ما يعين على هذه الأمور هو تقوية الإيمان والثقة بالله، وترك الوساوس والخيالات الفاسدة، والمحافظة على الفرائض والإكثار من الأعمال الصالحة، ولا سيما الصدقة وقيام الليل والدعاء والذكر.
وما ذكرت من أنك وقعت فيه من هتك عرضك وأنت طفل أكثر من مرة، وإن ذلك كان بموافقتك، ليس دليلا على أنه لا شهامة لديك ولا عزة، لأنك لم تكن مخاطبا حينذاك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يبلغ . رواه أحمد وأبو داود من حديث علي رضي الله عنه.
أما الآن وقد بلغت سن الخطاب والتكليف، فينبغي أن تعلم أن فتح الباب لمثل هذه الأسئلة على نفسك قد يزيد ما أنت فيه من الشكوك والحيرة.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 4468)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 4848)(4/94)
فالله تعالى حكيم رحيم وعادل في قضائه وقدره، ولا يتنافى ذلك مع ما يمكن أن يلحقه ببعض عباده من المصائب والنكبات، فإن ذلك يكون تارة لتكفير الخطايا ومحو السيئات عنهم، وتارة يكون لرفع درجاتهم، وتارة يقع لتمحيص المؤمنين وتمييزهم عن المنافقين.
وتارة يعاقب المؤمن في الدنيا على بعض الذنوب التي اقترفها، وفي هذه الحالة فإن العقاب لا يسبق الذنب، وإنما يعاقب على ما اكتسبت يده، ويعفى عن كثير منه، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
فأبعد عنك هذه الشكوك، وهون على نفسك، واعلم أن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
مقام النبوة لا يتعارض مع الابتلاء (1)
رقم الفتوى 65933 مقام النبوة لا يتعارض مع الابتلاء
تاريخ الفتوى : 10 رجب 1426
السؤال
نحن كمسلمين نؤمن بأن الله تعالى رفع المسيح عليه السلام إلى السماء و لم يسمح بصلبه كما نجده عند النصارى أي أن الله تعالى قد حفظه. و لكن سؤالي هو : متى رفعه الله تعالى هل قبل تسليمه لليهود أم قبل الصلب بقليل خصوصا أنه في طريقه إلى الصلب تلقى الإهانات بالضرب و غيره مما لا يليق بإنسان فما بالك بنبي وبما أنه نبي فمن المؤكد أنه لن يسمح مولانا بأن يهان عبده و نبيه ؟ و جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا تفسير قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ {النساء: 157} في الفتوى رقم: 6238 وذكرنا هناك كيف ألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على غيره من عدة وجوه، ليس في واحد منها أن اليهود قد ساقوا عيسى عليه السلام إلى الصلب بل فيها كلها أن الله تعالى قد أنجاه عليه السلام ورفعه قبل أن يصل إليه اليهود، وأن الذي ساقوه إلى الصلب هو الذي ألقي عليه شبه عيسى عليه السلام.
وللمزيد من الفائدة راجع الفتوى رقم: 53029 والفتوى رقم: 10326 .
وننبه الأخت السائلة إلى أن مقام النبوة لا يتعارض مع الابتلاء بل إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الناس أشد بلاء فقال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة . رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي في السنن الكبرى، وصححه الترمذي والألباني.
وقد ابتلي معظم الأنبياء وأوذوا من قبل الكفار ومنهم عليهم السلام من قتل كزكريا ويحيى عليهما السلام، وغيرهما.
قال الله تعالى عن بني إسرائيل: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ {البقرة: 87} وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {آل عمران: 21}
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
بعض الحكم من الابتلاء بالمصائب (2)
رقم الفتوى 69389 بعض الحكم من الابتلاء بالمصائب
تاريخ الفتوى : 21 شوال 1426
السؤال
والدي تاجر يملك بعض العقارات ويعمل عنده عمال مسلمون وبعضهم غير مسلم وتعود علينا هذه العقارات بالنفع الكثير والحمد لله.. وكان الحال طيبا منذ أكثر من سنتين تقريباً... ولكن قبل حوالي خمسه أشهر بدأت بعض الأمور تسوء وتخترب الكثير من المعدات إلى أن أتى صباح يوم وجاءت الأخبار أن أحد سائقي الشاحنات توفي وهذا السائق باكستاني مسلم وتم عمل الإجراءات وتسفير جثمانه... وكذلك كان سائق شاحنة آخر مسلم أيضاً ذاهباً بالمواد إلى مدينة أخرى وحصل له حادث مع سيارة صغيرة (وكان الخطأ على السيارة الصغيرة) وتوفي رجل من هذه السيارة.. ولكن حدث ضرر كبير في الشاحنة... وإلى هذه اللحظة تحصل الكثير من المشاكل في هذه العقارات.. مع العلم بأن والدي ووالدتي يحافظون على الفرائض والسنن ويتصدقون ويعملون الخير دائما.. والحمد لله، لكن بالنسبة لوالدي فرغم أنه يعمل الخير إلا أنه في بعض الأحيان يشرب الخمر... أما في شهر رمضان فهو لم يقرب الخمر أبدا.. حتى هذا اليوم الذي كتبت فيه هذه الرسالة... ادعو له بالهداية... أثابكم الله أفتوني في هذا جزاكم الله خيراً، لأننا تحيرنا كثيراً فلا نعرف أهذه عين أم حسد أم ابتلاء من الله سبحانه وتعالى أم ماذا؟ أجيبوني جزاكم الله كل الخير... ودلوني على الحل الأمثل, بارك الله فيكم وأحسن إليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمصائب التي تصيب الناس في الدنيا لها حالات:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 4942)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 7903)(4/95)
فإن كان العبد قائماً بأمر الله، متمسكا بشرعه، مستقيما على دينه، فيرجى أن يكون ما أصابه من مصائب رفعة له في الدرجات، ومثقلا لموازين حسناته، ففي الحديث الشريف: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.... فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. رواه البخاري .
وإن كان العبد مقيما على معصية الله، مفرطا في دينه، لاهيا عابثاً، فقد تكون المصائب والآفات التي يبتلى بها تنبيها له من الله ليتوب ويرجع قبل فوات الأوان، وقد تكون عقوبة له في الدنيا نظير ظلمه لنفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.... رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وحسنه السيوطي .
وعليه.. فلا يبعد أن تكون تلك الابتلاءات التي لحقت بكم، والمشاكل التي تصيب عقاراتكم وأملاككم هي من جراء ما ذكرته عن أبيك من شرب الخمر، فإن الخمر أم الخبائث وشربها من كبائر الذنوب والآثام، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {المائدة:90}.
وفي معجم الطبراني الأوسط عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخمر أم الخبائث، فمن شربها لم تقبل صلاته أربعين يوماً، فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية. والحديث حسن.
فعليك أن تنصحي أباك بالابتعاد عما حرمه الله، فإن ما ذكرت أنكم فيه من النعم يستوجب عليكم الشكر لله بصرف نعمه فيما يرضيه، لا أن يستعان بها في معصية الله، فإن ذلك كفران للنعم، وإن كنت تظنين أن الذي ألمَّ بكم هو من الحسد والعين، فلك أن تراجعي في علاج ذلك فتوانا رقم: 32262 ، ونسأل الله الهداية لأبيك ولعامة المسلمين.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
بعض الحكم من الابتلاء بالمصائب (1)
رقم الفتوى 69389 بعض الحكم من الابتلاء بالمصائب
تاريخ الفتوى : 21 شوال 1426
السؤال
والدي تاجر يملك بعض العقارات ويعمل عنده عمال مسلمون وبعضهم غير مسلم وتعود علينا هذه العقارات بالنفع الكثير والحمد لله.. وكان الحال طيبا منذ أكثر من سنتين تقريباً... ولكن قبل حوالي خمسه أشهر بدأت بعض الأمور تسوء وتخترب الكثير من المعدات إلى أن أتى صباح يوم وجاءت الأخبار أن أحد سائقي الشاحنات توفي وهذا السائق باكستاني مسلم وتم عمل الإجراءات وتسفير جثمانه... وكذلك كان سائق شاحنة آخر مسلم أيضاً ذاهباً بالمواد إلى مدينة أخرى وحصل له حادث مع سيارة صغيرة (وكان الخطأ على السيارة الصغيرة) وتوفي رجل من هذه السيارة.. ولكن حدث ضرر كبير في الشاحنة... وإلى هذه اللحظة تحصل الكثير من المشاكل في هذه العقارات.. مع العلم بأن والدي ووالدتي يحافظون على الفرائض والسنن ويتصدقون ويعملون الخير دائما.. والحمد لله، لكن بالنسبة لوالدي فرغم أنه يعمل الخير إلا أنه في بعض الأحيان يشرب الخمر... أما في شهر رمضان فهو لم يقرب الخمر أبدا.. حتى هذا اليوم الذي كتبت فيه هذه الرسالة... ادعو له بالهداية... أثابكم الله أفتوني في هذا جزاكم الله خيراً، لأننا تحيرنا كثيراً فلا نعرف أهذه عين أم حسد أم ابتلاء من الله سبحانه وتعالى أم ماذا؟ أجيبوني جزاكم الله كل الخير... ودلوني على الحل الأمثل, بارك الله فيكم وأحسن إليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمصائب التي تصيب الناس في الدنيا لها حالات:
فإن كان العبد قائماً بأمر الله، متمسكا بشرعه، مستقيما على دينه، فيرجى أن يكون ما أصابه من مصائب رفعة له في الدرجات، ومثقلا لموازين حسناته، ففي الحديث الشريف: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.... فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. رواه البخاري .
وإن كان العبد مقيما على معصية الله، مفرطا في دينه، لاهيا عابثاً، فقد تكون المصائب والآفات التي يبتلى بها تنبيها له من الله ليتوب ويرجع قبل فوات الأوان، وقد تكون عقوبة له في الدنيا نظير ظلمه لنفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.... رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وحسنه السيوطي .
وعليه.. فلا يبعد أن تكون تلك الابتلاءات التي لحقت بكم، والمشاكل التي تصيب عقاراتكم وأملاككم هي من جراء ما ذكرته عن أبيك من شرب الخمر، فإن الخمر أم الخبائث وشربها من كبائر الذنوب والآثام، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {المائدة:90}.
وفي معجم الطبراني الأوسط عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخمر أم الخبائث، فمن شربها لم تقبل صلاته أربعين يوماً، فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية. والحديث حسن.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 7903)(4/96)
فعليك أن تنصحي أباك بالابتعاد عما حرمه الله، فإن ما ذكرت أنكم فيه من النعم يستوجب عليكم الشكر لله بصرف نعمه فيما يرضيه، لا أن يستعان بها في معصية الله، فإن ذلك كفران للنعم، وإن كنت تظنين أن الذي ألمَّ بكم هو من الحسد والعين، فلك أن تراجعي في علاج ذلك فتوانا رقم: 32262 ، ونسأل الله الهداية لأبيك ولعامة المسلمين.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
الابتلاء امتحان للصبر والعبودية (1)
رقم الفتوى 71484 الابتلاء امتحان للصبر والعبودية
تاريخ الفتوى : 08 محرم 1427
السؤال
قال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها}، وقال تعالى: {وما أصابتكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه" هذا تناقض، فكيف لنا أن نعرف إن كانت المصيبة هي محبة من الله أم عقاب على ذنوبنا، أحس أن الله قد ظلمني، منذ بداية حياتي وأنا غير مكلف والله سلط علي ما لا أطيقه من المشاكل والهموم صراع والدي ووالدتي شبه اليومي الذي وصل حد الضرب المبرح والشرطة، صراع أقربائي الحقودين، الكل يهينني ويكيد لنا، نشأت معقدا نفسيا، لا أريد أن أسرد كل ما حدث معي ولكني أحس أن الله يكرهني إذ سلط علي من لا يرحمني، كلما أسعى لتحقيق هدف في حياتي أفشل، كبرت ودخلت الجامعة ولم يتركوني بحالي جيراننا يؤذوننا بشكل شبه يومي، فشلت في دراستي سنة واحدة مع العلم أنني أسعى للتميز ولا أعلم إلى أين سيصير بي الحال، طبعا ستقولون لي صل، ادع الله وسيذهب عنك الهم، جربت ذلك ولم ينفع، أصلا أنا لا أستطيع أن أركز في كلمة واحدة من صلاتي بسبب الهم وعندما أفرغ من الصلاة أحس كأنني لم أصل وأنا موقن أنها لم تقبل فتركت الصلاة، طبعا ستقولون لي ذنوبك هي السبب، لكني أرى من حولي وهم ينجحون في كل ما يقدمون عليه من أهداف في الحياة مع أن ذنوبهم أكبر من ذنوبي ويسبون الذات الإلهية وكأن الله يحبهم ويكرهني، أنتم هكذا دائما يا رجال الدين (صل رحمك حتى وإن أهانوك، أطع والدك حتى وإن آذى أهل بيته)، (تحمل أذى جارك) وإلا ستخسر الجنة، أليس هذا ظلما، لم أعد أريد الجنة، قد كرهتهم جميعا ولا أفكر بشيء غير الانتقام، أنا إنسان فاشل محطم منهار مدمر ضعيف، فكرت
بالانتحار ولكني لم أجرؤ على ذلك، سببت الذات الإلهية أكثر من مرة، تراودني أفكار إلحادية كثيرة، ما العمل، أرجو أن تكون الإجابة منطقية، فأنتم دائما تتحججون بأن الإسلام دين منطقي فأين المنطق في ذلك، وأرجو أن لا تكثروا من الاقتباس من أقوال ابن تيمية وغيره لأنها تحتوي على الكثير من المفردات العربية التي يستعصي علي فهمها، أو على الأقل أرفقوا معها شرحا مختصرا لبعض الكلمات؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقبل الجواب عما سألت عنه، نريد أولاً أن ننبهك إلى أن مركز الفتوى في الشبكة الإسلامية إنما يختص بالرد على الأسئلة والاستفسارات في الأمور الشرعية التي ترد على الشبكة من كافة أنحاء العالم، وليس في استطاعته أن يهدي من لم يقدر الله هدايته، فالله تعالى هو الذي بيده هداية الخلق، وقد خاطب نبيه وأفضل خلقه بقوله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {القصص:56}.
واعلم أنه قد وردت في سؤالك أخطاء كبيرة منها:
- قولك: أحس أن الله قد ظلمني.
- وقولك: وأنا موقن أنها (أي الصلاة) لم تقبل فتركت الصلاة.
- وقولك: لم أعد أريد الجنة.
- وقولك: سببت الذات الإلهية أكثر من مرة، تراودني أفكار إلحادية كثيرة إلى غير ذلك مما كتبته وفصلته.
وكل هذا ليس لسبب أنك قد فشلت في دراستك أو في بعض أمور حياتك، أما الآن فإذا كنت تريد العقلانية والفكر المصيب، فاعلم أنه ليس أضر على الإنسان من أن يتسرب اليأس إلى نفسه أو يصيبه الوهن والضعف بسبب محنة أو ابتلاء قد مر به، فإن ذلك مرض خطير حذر الله منه، فقال سبحانه مخاطباً للصحابة رضي الله عنهم أجمعين بعد غزوة أحد التي قاسوا فيها ما قاسوا: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {آل عمران:139}، فإن من سنة الله في العبد أن يبتليه بالمصائب والمحن ليمتحن صبره وعبوديته، كما قال تعالى: ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:1-2-3}، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {البقرة:155-156}.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1295)(4/97)
فمن الخطأ العظيم إذاً أن تُظلم الحياة في عين الفرد لأجل محنة أو مشكلة تعرض لها، لذا ندعوك إلى التوبة من هذا الكفر الصريح الذي نطقت به، ومما اقترفته من الآثام التي يكفي في بشاعتها أن من بينها ترك الصلاة. واعلم أن جميع ما في هذه الدنيا من النعيم أو الجحيم لا يمكن أن يقاس بلحظة واحدة مما في الآخرة، ثم اعلم أنه لا تناقض بين قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ {آل عمران:165}، وقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ {الشورى:30}، وبين الحديث الذي أشرت إليه، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 64831 ، لتعرف الحكم من الابتلاءات التي يبتلي بها الله خلقه، والفتوى رقم: 8652 لتعرف عدل الله تعالى في جميع أفعاله وتقديراته، وأنه لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
ثم ما ذكرته من أن بعض الناس ينجحون في كل ما يقدمون عليه، وهم مع ذلك يسبون الذات الإلهية، ويرتكبون الذنوب الكثيرة، فذلك إنما هو استدراج لهم، ولك أن تراجع في ذلك الفتوى رقم: 36643 .والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===========
الابتلاء بالنفع وبالضر (1)
رقم الفتوى 74300 الابتلاء بالنفع وبالضر
تاريخ الفتوى : 15 ربيع الثاني 1427
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم وسدد الله خطاكم
لدي صديق عزيز ابتلي بالظلم والحبس في قضية لا ناقة له فيها ولا جمل ولا أجد من الكلمات ما أقوله فأرجوكم أن ترسلوا لي مقالا أو الموقع الذي أجد فيها ما يصبره على مصابه.
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يجعل لكم من كل هم فرجا, ومن كل ضيق مخرجا, ولتعلموا أن هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، وعلى المسلم أن يرضى بقضاء الله تعالى وقدره, ويلتجئ إليه بالدعاء في سره وعلانيته, فهو وحده الذي يستجيب دعوة الداعي إذا دعاه, ويكشف الضر عن من ناداه.
ومن أساسيات عقيدة المسلم أن يعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن عليه أن يرضى بما قدر الله تعالى له.
ففي صحيح مسلم مرفوعا أن الله تعالى قدر مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, وعرشه على الماء.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء, وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم, فمن رضي فله الرضى, ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم: عجبا لأمر المؤمن, إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . رواه مسلم .
والابتلاء يكون بالخير وبالشر وبالنفع وبالضر كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} فمن ابتلي بشر فليحمد الله أنه لم يكن في دينه ولم يكن أعظم.
وعلى هذا الأخ أن يصبر ويرضى بقضاء الله وقدره, فما هو أول من سجن ظلما وعدوانا, فقد سبقه لذلك الأنبياء والعلماء والدعاة والمصلحون عبر التاريخ, فكان ذلك رفعا لدرجاتهم.
وعليه أن يكثر من الدعاء لله عز وجل كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ {البقرة:186} وقال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ {النمل:62} ودعوة المظلوم مستحابة ليس بينها وبين الله حجاب كما في الصحيحين.
وعليه أن يجعل تعلقه وأنسه وصلته بالله عز وجل وذلك بأداء العبادة وتلاوة القرآن فقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {الطَّلاق:4}
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
فوائد ابتلاء المؤمن (2)
س لماذا يثقل الله على المؤمنين الذين يكثرون العبادة بالأمراض والبلايا في حين أن العصاة يتمتعون بكل مطايب الدنيا ؟
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3745)
(2) - فتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 87)(4/98)
هذا السؤال يَرِد على وجهين أحدهما اعتراض والثاني استرشاد ، فأما وقوعه على سبيل الاعتراض فإنه دليل على جهل السائل ، فإنّ حكمة الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تبلغها عقولنا والله عز وجل يقول { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } فهذه الروح التي هي بين جنبينا والتي هي مادة حياتنا نحن لا نعرفها وقد عجز النظار والفلاسفة والمتكلمون عن تحديدها وكيفيتها ، فإذا كانت هذه الروح التي هي أقرب مخلوق إلينا لا نعلم منها إلا ما وُصف في الكتاب والسنة فما بالك بما وراء هذا ؟ فالله عز وجل أحكم وأعظم وأجل وأقدر ، فعلينا أن نسلم بقضائه تسليماً تاماً قضائه الكوني وقضائه القدري ، لأننا عاجزون عن إدراك غايات حكمته سبحانه وتعالى ، وعليه فالجواب عن هذا الوجه من السؤال أن نقول الله أعلم وأحكم وأقدر وأعظم . وأما الوجه الثاني وهو سؤال استرشاد فإننا نقول لهذا السائل المؤمن يبتلى وابتلاء الله له بما يؤذيه له فائدتان عظيمتان الفائدة الأولى اختبار هذا الرجل في إيمانه . هل إيمانه صادق أو متزعزع ، فالمؤمن الصادق في إيمانه يصبر لقضاء الله وقدره ، ويحتسب الأجر منه وحينئذ يهون عليه الأمر ، ويذكر عن بعض العابدات أنه أصيب أصبعها بقطع أو جرح ولكنها لم تتألم ولم تظهر التضجر فقيل لها في ذلك فقالت إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها ، والمؤمن يحتسب الأجر من الله تعالى ويسلم تسليماً . هذه فائدة . أما الفائدة الثانية فإن الله سبحانه أثنى على الصابرين ثناءً كبيراً وأخبر أنه معهم وأنه يوفيهم أجرهم بغير حساب ، والصبر درجة عالية لا ينالها إلا من ابتُلي بالأمور التي يُصبر عليها فإذا صبر نال هذه الدرجة العالية التي فيها هذا الأجر الكثير ، فيكون ابتلاء الله للمؤمنين بما يؤذيهم من أجل أن ينالوا درجة الصابرين ، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أعظم الناس إيماناً وأتقاهم لله وأخشاهم لله كان يوعك كما يوعك الرجلان وشُدد عليه صلى الله عليه وسلم عند النزع كل ذلك لأجل أن تتم له منزلة الصبر فإنه عليه الصلاة والسلام أصبر الصابرين ، ومن هذا يتبين لك الحكمة من كون الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمن بمثل هذه المصائب ، أما كونه يعطي العصاة والفساق والفجار والكفار العافية والرزق يدره عليهم فهذا استدراج منه سبحانه وتعالى لهم ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر . فهم يُعطون هذه الطيبات لتُعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ويوم القيامة ينالون ما يستحقونه من جزاء ، قال الله تعالى { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } . فالحاصل أن هذه الدنيا هي للكفار يُستدرجون بها وهم إذا انتقلوا إلى الآخرة من هذه الحياة الدنيا التي نعموا بها وجدوا العذاب والعياذ بالله ، فإنه يكون العذاب أشد عليهم لأنهم يجدون في العذاب النكال والعقوبة ، ولأنه مع فوات محبوبهم من الدنيا ونعيمهم وترفهم ، وهذه فائدة ثالثة يمكن أن نضيفها إلى الفائدتين السابقتين فيما سينال المؤمن من الأذى والأمراض ، فالمؤمن ينتقل من دار خير من هذه الدنيا فيكون قد انتقل من أمر يؤذيه ويؤلمه إلى أمر يسره ويفرحه ، فيكون فرحه بما قدم عليه من النعيم مضاعفاً لأنه حصل به النعيم وفات عنه ما يجري من الآلام والمصائب .
الشيخ ابن عثيمين
=============
الابتلاء في الدنيا(1)
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون: شر ما منيت به النفوس يأسٌ يميت القلوب، وقنوطٌ تظلم به الدنيا وتتحطم معه الآمال.
إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع. كم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوامٍ. يشكو علة وسقماً، أو حاجة وفقراً. متبرمٌ من زوجه وولده، لوامٌ لأهله وعشيرته. ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.
إن من العجائب أيها المؤمنون: أن ترى أشباه الرجال قد أتخمت بطونها شبعاً ورياً، وترى أولي عزمٍ ينامون على الطوى(1)[1]. إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهدون دفاعاً عن الحق وأهل الحق.
تلك هي الدنيا، تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت. شدةٌ ورخاءٌ، وسراءٌ وضراءٌ. دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها. إنها دار صدقٍ لمن صدقها، وميدان عملٍ لمن عمل فيها: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:23].
تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، ويبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [الأنبياء:35].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 27)(4/99)
ولكن إذا استحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق، فلا مخرج إلا بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وحسن الصبر. ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط.
إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه، وطَّن نفسه على احتمال المكاره وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمَّل فيه جميل العواقب وكريم العوائد. كل ذلك بقلبٍ لا تشوبه ريبةٌ، ونفسٍ لا تزعزعها كربةٌ، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتيةٌ: وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [آل عمران:186].
إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل. لا ينهض بأعبائها إلا العمالقة الصبَّارون أولو العزم من الناس. أصحاب الهمم العالية.
((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه))(2)[2] حديثٌ أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله قال: ((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك، حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عزَّ وجلَّ))(3)[3].
أيها المؤمنون: كم من محنة في طيها منحٌ ورحماتٌ. هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً، بعده صبرٌ أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة في الأمل يقول لأبنائه في حاله الأولى: بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18].
ثم يقول في الحال الثاني وهو أعظم أملاً، وبربه أكثر تعلقاً بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم [يوسف:83].
كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوجيع، ثم يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون [يوسف:86].
ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87].
إن المؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، وإن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد.
أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفره من الصبر، ويضيِّق عليه مسالك الفرج إذا نزلت به نازلةٌ أو حلت به كارثةٌ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتعجَّل في الخروج متعلقاً بما لا يضرُّه ولا ينفعه.
إن ضعف اليقين عند هؤلاء يصدهم عن الحق ويضلهم عن الجادة، فيخضعون ويذلون لغير ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب، يتملقون العبيد ويتقلبون في أنواع الملق ويكيلون من المديح والثناء ما يعلمون من أنفسهم أنهم فيه كذَبةٌ أفَّاكون، بل قد يرقى بهم تملقهم المقيت أن يطعنوا في الآخرين ويقعوا في البرآء من المسلمين. إن أي مخلوق مهما بلغ من عزٍّ أو منزلة فلن يستطيع قطع رزقٍ، أو ردَّ مقدورٍ، أو انتقاصاً من أجلٍ: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم [الروم:40].
وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا تردُّه كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط))(4)[4].
إن من فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمُّل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم.
أيها الإخوة في الله: هذه هي حال الدنيا، وذلك هو مسلك الفريقين، فعلام الطمع والهلع؟ ولماذا الضجر والجزع؟!.
أيها المسلم: لا تتعلق بما لا يمكن الوصول إليه، ولا تحتقر من أظهر الله فضلك عليه، واستيقن أن الله هو العالم بشؤون خلقه، يعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء. يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، هو أغنى وأقنى، وهو أضحك وأبكى، وهو أمات وأحيا.
إن المؤمن لا تُبطره نعمةٌ، ولا تُجزعه شدةٌ.
((إن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا لمؤمنٍ))(5)[5] ، بهذا صحَّ الخبر عن المصطفى .
فاتقوا الله يرحمكم الله واصبروا، واثبتوا، وأمِّلوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون، ولا تطغينَّكم الصحة والثراء، والعزة والرخاء، ولا تضعفنَّكم الأحداث والشدائد ففرج الله آتٍ ورحمتُه قريبٌ من المحسنين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى. وأحسن اللهم عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون [فاطر 2-3].(4/100)
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله جعل لكل شيءٍ قدراً، وأحاط بكل شيءٍ خبراً، أحمده سبحانه وأشكره، فنعمه علينا تترى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله خُص بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا ((أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط))(6)[1]، ((وإذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة))(7)[2]. بهذا جاءت الأخبار عن المصطفى المختار .
الابتلاءات في هذه الدنيا مكفراتٌ للذنوب، حاطةٌ للخطايا، تقتضي معرفتها الإنابة إلى الله، والإعراض عن خلقه. وهي رحمةٌ وهدى وصلواتٌ من المولى الكريم: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:157].
فاتقوا الله ربكم وأحسنوا الظنَّ به، وأمِّلوا فيما عنده، واعملوا صالحاً، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير.
__________
(1) الطوى: الجوع.
(2) أخرجه الترمذي (4/520-ح2398)، والنسائي في الكبرى (4/352-ح7481)، وابن ماجه (2/1334-ح4023)، وأحمد (1/172، 174).
(3) أخرجه أبو داود (3/183-ح3090)، وأحمد (5/272)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/374)، والطبراني في الكبير (22/318-ح801)، وأبو يعلى في مسنده (10/482،483-ح6095)، وابن حبان في صحيحه .انظر الإحسان (7/169-ح2908).
(4) حلية الأولياء لأبي نعيم (5/106) وإسناده ساقط : فيه محمد بن مروان السدي متهم بالوضع.
(5) أخرجه مسلم (4/2995-ح2999).
(6) أخرجه الترمذي (4/519-ح2396)، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه (2/1338-ح4031)، وأحمد (5/427).
(7) أخرجه الترمذي (4/519-ح2396)، وقال: حديث حسن غريب.
============
دعوته صلى الله عليه وسلم وصبره على الابتلاء(1)
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
الخطبة الأولى
أما بعد:
فعبد الله ورسوله ونبيه ومصطفاه وحبيبه وخليله فضله على أنبيائه ورسله وجعله سيد ولد آدم واتخذه الله خليلا واجتباه وفضله علي الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كله لما قام صلى الله عليه وسلم بأمر ربه يدعو إلى عبادة الله وحده ابتلاه فكاد الناس يكونون عليه لبدا وتحمل صلى الله عليه وسلم كل ما أصابه من ابتلاء شديد ومحنة أثناء دعوته إلى الله عز وجل.
فلماذا كان ذلك الابتلاء الشديد لخليل الرحمن وحبيب رب العالمين؟ إنها سنن ربانية لا تتغير ولا تتبدل, أن المؤمن يبتلى بالشدائد والمحن تمحيصا له وزيادة لدرجاته عند ربه وأشد المؤمنين بلاء الذين قاموا بواجب الدعوة لله عز وجل وأشد هؤلاء بلاء الأنبياء والمرسلون, فما بعث نبي وما أرسل رسول إلا أوذي في ذات الله عز وجل فليست هناك دعوة بغير ابتلاء, قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع منه خبر الوحي الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم : ليتني كنت حيا إذ يخرجوك قومك. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أومخرجي هم؟)). قال ورقة: نعم لم يأت رجل بمثل ما أتيت به قط إلا عودي(1)[1], إلا أوذي. نعم لقد أوذي صلى الله عليه وسلم وابتلي ابتلاء شديدا, آذاه قومه وابتلوه وتحمل صلى الله عليه وسلم كل ذلك في ذات الله.
وهنا في هذه اللمحة من سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم نتعلم درسين جليلين علينا أن نتأملهما ونستفيد منهما ونتعظ بما فيهما من العظة والدروس:
الدرس الأول: أن الأصل في البلاغ , أنه إنذار وتبشير قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين [النساء:165]. فأمر هذه الدعوة مبني علي الإنذار والتبشير أخذا من قوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين, تأمل أيها المسلم كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ في دعوته تنفيذا للأوامر الإلهية في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء:21]. وقوله في صدر سورة المدثر: قم فأنذر وأول ما قام به صلى الله عليه وسلم هو إنذار قومه, فعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فقعد عليه ونادى: يا صباحاه وا صباحاه )) فاجتمع إليه الناس بين رجل يأتي بنفسه وبين رجل يبعث رسوله فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو أخبرتكم بأن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني. قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا. فأنزل الله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب ))(2)[2]. أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 251)(4/101)
فتأمل أيها المسلم قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين وقوله: قم فأنذر ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذا لهذه الأوامر الإلهية قوله لقومه إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. تعلم أن هذا كله هو من باب الإنذار والترهيب وليس من باب الترغيب والتبشير, فأمر الدعوة مبني علي الاثنين علي التبشير والترغيب والترهيب والوعد والوعيد ولكنه صلى الله عليه وسلم لما بدأ دعوته بدأ بالإنذار ولكننا نسمع اليوم من بعض المتفلسفين تذكيرا علي التبشير والترغيب ويعتبرون استعمال الترهيب في الدعوة تنفيرا, هكذا نسمع من بعض المتفلسفين اليوم حتى ميعوا دين الله عز وجل وجعلوا الدعوة إليه أشبه بأحوال الرهبان, رهبان البوذية أو رهبان النصارى.
الدرس الثاني: هذه اللمحة من سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم أبلغ وأعظم وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يتنبه إليه ويستحضره في حياتهما فقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل هذه الدعوة أذى شديدا كما أشرت إلى ذلك وتحمل من قومه البلاء الشديد حتى إنه صلى الله عليه وسلم سجد يوما وهو يصلي فجاء بعض سفهاء المشركين فوضعوا فرث جزور وسلاها بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل ساجدا لا يرفع رأسه حتى أقبلت ابنته فاطمة تسعى رضى الله عنها وأرضاها فألقت عنه ذلك الأذى وهي تسب أولئك السفهاء من المشركين.
وأقبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يطوف بالبيت وطواغيت المشركين وكبراؤهم في الحجر مجتمعون فلما مر بهم صلى الله عليه وسلم غمزوه وسخروا منه فعرف ذلك في وجهه أي من الغضب حتى إذا مر بهم الثالثة وغمزوه صلى الله عليه وسلم غضب فوقف وقال لهم: ((أتسمعون يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح. فخافوا وقال بعضهم لبعض: تعلمون أن محمدا لا يكذب. ثم أقبلوا عليه يتلطفون به صلى الله عليه وسلم ويقولون له يا أبا القاسم ما كنت جهولا فانصرف راشدا)).
وفي يوم أخر أقبلوا إليه وهو عند البيت واجتمعوا عليه فوثبوا عليه صلى الله عليه وسلم وأخذوا بمجمع ردائه وكادوا يخنقونه وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدفعهم عنه صلى الله عليه وسلم ويقول لهم وهو يبكى: ((أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)). وهكذا تحمل أكرم الخلق خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم تحمل كل ذلك البلاء الشديد والمحن والأذى في ذات الله عز وجل حتى إذا اشتد بلاء المشركين عليه وعلى أصحابه دعا عليهم, دعا على طواغيت المشركين ثلاثا فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم عليك بقريش, اللهم عليك بعمرو بن هشام, اللهم عليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد)). دعا على هؤلاء الطواغيت ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم.
قال عمرو بن العاص رضى الله عنه وقد كان شهد ذلك: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر قد غيرتهم الشمس في يوم حار وسحبوا إلى قليب بدر فألقيت جيفهم فيه.
كل أولئك الطواغيت من مشركي قريش الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, لقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم كل تلك الشدائد والمحن في سبيل الله وفي ذات الله وقدم التضحيات في سبيل الله وفي ذات الله. وأنت يا أيها المسلم ماذا أصابك في ذات الله؟ وماذا قدمت من تضحيات في سبيل الله ولدين الله عز وجل؟ تعيش اليوم في رغد وبحبوحة من العيش في نعم تبقى ولا تنفذ ثم تبخل بالقليل من جهدك ووقتك ومالك ونفسك أن تقدمه لله عز وجل, بل إنك حتى لا تضحي بشهواتك ورغباتك من أجل الله تعالى. ما أبخلك أيها الإنسان وما أشد جزعك. ما أبخلك إذا طلبك ربك واستقرضك وما أشد جزعك إذا أصابك ما أصابك, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم علي صلاتهم دائمون [سروة المعارج:19-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
(1) إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.(4/102)
يابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين علي وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن ابي هريره رضي لله عنه.
(2) البخاري :ك:التفسير (4492).
============
ثمرات الابتلاء(1)
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
5/8/1415
جامع الجردان
الخطبة الأولى
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل والإستعداد في هذه الدنيا لما أمامنا والتزود والمسارعة إلى الخيرات، فلا نجاة ولا فلاح إلا لمن جاهد نفسه وراغمها وصابر، وتذوق مرارة مخالفة النفس، وصبر محتسباً راضياً بقضاء الله وقدره.
أيها المسلمون: إن هذه الدنيا هي دار المصائب والشرور وليس فيها لذةُ إلا وهي مشوبة بالكدر، فإن عمارتها وإن حسنت فهي إلى الخراب، وإقبالها إلى أدبار، فهل ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير والموجود إلا العدم.
وقيل: العجب كل العجب لمن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وقد قيل:
طبعت على كدر وأنت ……تريدها صفواً من الأكدار
ومكلف الأيام فوق طباعها ……متطلب في الماء جذوة نار
فتبارك الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، نجعل للذين أحسنوا الدرجات وللذين أساءوا الدركات، على ذا مضى الناس إجتماع وفرقة، ميت ومولود، وبشر أحزان، فالدنيا لاتخلوا من بلية ولاتصفو من محنة وزرية قال تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال القرطبي رحمه الله: المصيبة هي كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، وقد جعل الله عز وجل كلمات الإسترجاع انا لله وانا إليه راجعون جعلها ملجأً وملاذاً لذوي المصائب وعصمة للممتحنين من الشيطان لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، قال عمر بن الخطاب : (نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين، ويعني بالعدلين: الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى)، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما آمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها)) فلما مات ابوسلمة قلت أي المسلمين خير من ابي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسوله .
عباد الله: قال ابن القيم: ومما يتسلى به المصاب الصبر على البلوى فإن الصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند غالباً لا يهزم وحصن حصين لا يهزم، فالنصر والصبر أخوان شقيقان، وقد مدح الله في كتابه الصابرين فقال تعالى: انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وأخبر أنه معهم فقال: واصبروا إن الله مع الصابرين، وأخبر أن الصبر خير لأهله ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون المحتسبون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون .
وعن أبي سعيد الخدري إن رسول الله قال: ((ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر))، وعن أبي هريرة إن رسول الله قال: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)).
ومما يتسلى به المصاب أن يعرف ما كان يفعله الصحابة والسلف الصالحون إذا نزلت بهم المصائب، فهذا ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فأسترجع ثم تنحى عن الطريق، فأناخ ثم صلى ركعتين، فأطال فيها الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: وأستعينوا بالصبر والصلاة ومات لرجل من السلف ولد فعزاه الناس وهو في حزن شديد حتى جاءه الفضيل بن عياض فقال: ياهذا لوكنت في سجن أنت وإبنك فأفرج عن إبنك قبلك أما كنت تفرح؟ قال: بلى، قال: فإن إبنك خرج من سجن الدنيا قبلك فسري عن الرجل.
ولما أرادوا قطع رجل عروة بن الزبير قالوا له: لو سقيناك شيئاً كي لا تنفر قال: إنما ابتلاني ليرى صبري.
ومما يتسلى المصاب عن ألم المصيبة أن يتذكر نعم الله وهي أكثر من أن تحصى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
ومن أعظم هذه النعم أن يتذكر كيف هداه الله للإسلام وجعله من أمة خير الأنام قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ثم يتذكر نعمة السمع والبصر والسلامة من العلل والآفات.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1132)(4/103)
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم إن الدنيا دار بلاء وامتحان وهي سجن المؤمن وجنة الكافر، قال ابن الجوزي رحمه الله: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تخلق الأمراض والأكدار ولم يضيق العيش على الأنبياء والأخيار، ولقد لزق بهم البلاء وعدموا الراحة، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، وابراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب يبكي حتى ذهب البصر، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى لا مأوى له إلا البر، في العيش الضنك، ومحمد يصابر الفقر وفرق الزوجة وقتل من يحبه.
فلا تجزع من البلوى فأنت في وطنها، فالصبر الصبر، ولكن ليس صبر البهائم، بل صبر بدون جزع وضجر، ولكن صبر احتساب وتسليم والرضا بقضاء الله متطلعاً إلى العوض من الله إلى الجزاء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، قال علي بن أبي طالب : (من رضي بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله)، فقضاء الله نافذ وأمره واقع، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه، فالرضا هو باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين، والجزع لايرد المصيبة بل يضاعفها حيث يشمت به أعداؤه ويسوء اصدقاءه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه، وفي الترمذي مرفوعاً إلى النبي : ((يود ناس لو أن جلودهم كانت تقرص بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء)).
ومما يتسلى به المصاب أن يجعل مكان الأنين والشكوى إلى الخلق ذكر الله تعالى والإستغفار والشكوى إلى الله الواحد القهار، وقد رأى أحد الصالحين أخاه يشكو إلى الخلق فقال له: يا هذا مازدت على إن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. والشكوى إلى الله لاتنافي الصبر قال تعالى: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقال عنه أيوب: رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .
ومما يتسلى به المصاب أن يوطن نفسه على أن كل مصيبة تأتيه فإنما هي بإذن الله عز وجل وقضائه وقدره فيرضى لها ويسلم قال تعالى: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى، وقال : ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)).
ثم ليعلم العبد إن الله لم يقدر عليه المصائب ليهلكه بها ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكره وابتهاله ودعاءه، فإن وفق لذلك ربح ربحاً عظيماً، وإن خذل خسر خسراناً مبيناً، والمصيبة كير العبد الذي يسبك بها حاصله، فإما أن يخرج ذهباً أحمر أو خبثاً كله، فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم: نار الله الحامية يوم القيامة، ولاشك أن كير الدنيا خير له من ذلك الكير، وإنه لابد من أحد الكيرين فليعلم المصاب قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل، وقد أقتضت حكمة الله في خلقه أن يعرضهم للاختبار حباً بهم ورعايته لهم، فيسوق إليهم الرحمة في أثناء المصيبة ليهتدي الضال وينتبه الغافل وتقوم الحجة على الكافرين قال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين قال ابن القيم رحمه الله: إذن فالاختبار ليس عن جهله سبحانه بعبده، ولكن حكمة ذلك في كشف من يدعي الإيمان لنفسه وتجربته أمام عينيه، فيسقط الوهم في أنه عميق الإيمان.
أما الكاذبون فيختبرهم سبحانه ليعيدهم إلى الإيمان تائبين متذكرين نادمين، فإن لم يتوبوا ولم يتذكروا عراهم أمام الناس وخلص صفوف المؤمنين منهم، فالإبتلاء يزيد رجال الإيمان نضوجاً وصلابة، والدعاةَ الصادقين عمقاً وثباتاً، فهو ليس شراً بالمؤمنين أبداً لأنه خير يسوقه الله لعباده ليعودوا إليه بعزة الإيمان، ويعودوا إلى ربهم ضارعين يلجأون إليه بقلوب مرتبطة به تذكره وتشكره وتلهج بذكره قوية بالله ثابتة على دينه واعية إليه، لأن الله جل جلاله يريد ذلك منهم، عن صهيب بن منان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [رواه مسلم].
اللهم اجعلنا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، اللهم ارزقنا الرضا بقضائك وقدرك، وأجرنا على مصائبنا وارزقنا الاحتساب إبتغاء لوجهك الكريم يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأتوب إليه، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات فتوبوا إلى ربكم واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأذكره سبحانه وأوحده تعظيماً لشأنه.(4/104)
عباد الله: إن الله سبحانه ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً ولم يضمن نصر الباطل ولو أعتقد صاحبه أنه محق، والعزة والعلو لأهل الإيمان والتقوى الصابرين المحتسبين قال تعالى: فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال: ولا تهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، والله ولي المؤمنين ولكن لنعلم جميعاً أيها المسلمون أن مدافعة الله عن عبده وكفايته له وتوليه ومعينته له ونصره وإعزازه له كل ذلك بحسب ما مع العبد من الإيمان، فإن فاته شيء من العزة والتأييد والنصر فهو في مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان وتمسكه بحبل الله، فمن نقص إيمانه نقصت عنه هذه المعاني، ومن زاد إيمانه تحققت له بحسب إيمانه، وإذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بتسلط عدوه عليه فإنما حصل له ذلك بسبب ذنوبه قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي مرفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً.
عباد الله: ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصائب والشدائد تمنع من الفخر والخيلاء والتكبر والعجب والتميز، فإن النمرود لو كان فقيراً سقيماً فاقد السمع والبصر لما حاج إبراهيم في ربه، لكن حمله بطر الملك على ذلك، ولو ابتلي فرعون بمثل ذلك لما قال: أنا ربكم الأعلى فمن رحمته أرحم الراحمين أنه يرعى عبده كل حين بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من أدواء العجب والتكدر حفاظاً لصحة عبوديته واستفراغاً للمواد الفاسدة المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهّله لأشراف المراتب في الدنيا، وهي العبودية الحقيقية ورقاه إلى أرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته في الجنة.
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصيبة تفتح على العبد أبواباً من العبادات الظاهرة والباطنة كالدعاء والإخلاص والإنابة وفعل الخيرات وترك السيئات وإذا مس الإنسان ضرٌ دعا ربه منيباً إليه وكذلك تكون المصائب تكفيراً للذنوب ورفعاً للدرجات، قال رسول الله : ((ومايزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) [رواه الترمذي]. حسن صحيح، قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه علم أن نعم الله على عبده المؤمن في البلاء أعظم من نعمه عليه في الرخاء لما قاله : ((لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)) [رواه مسلم].
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن سرور الدنيا وشرورها كأحلام نوم أو كظل زائل، واللبيب بمثلها لا يخدع، فهي إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وأن سرت يوماً أحزنت شهوراً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، فلا يبقى لها حبور ولا يدوم فيها ثبور قال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، وقال النبي : ((ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)) [رواه الترمذي بسند حسن].
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصائب تتفاوت، فأعظم المصائب مصيبة المسلم في دينه وتحوله عنه، ورجوعه إلى المعصية بعد الطاعة، وإلى الغفلة بعد الذكر، ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت، فما من مصيبة فيها إلا ويوجد ماهو أكبر منها.
وإذا رأيت انساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من إرتكاب الذنوب والخطايا وفوات الجمعة والجماعات وأوقات الطاعات فأعلم أنه ميت لايحس بألم المصيبة قال شريح: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عز وجل أربع مرات أحمده إذا لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو منه من الثواب، وأحمده إذا لم يجعلها في ديني.
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن الله يبتلي عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وصبره ورضاه بما قضاه الله عليه.
وليتدبر المصاب عز الربوبية وذل العبودية وقد ذم سبحانه من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ، وليعلم المصاب أن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا قال رسول الله : ((أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان دينه رقه ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) [رواه أحمد والترمذي وقال: صحيح].
ومن حكمة الإبتلاء والمصيبة أنها تذكر العبد بذنوبه وتزيل قسوة القلب وترجع العبد إلى الله ليقف ببابه ويتضرع إليه ويستكين، وتقطع قلب المؤمن عن الإلتفات إلى المخلوقين والإقبال على الله وحده، وأن المصيبة تعرف المصاب قدر نعمة العافية لأن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.(4/105)
عباد الله: إنه لا يمر يوم من أيام هذه الحياة إلا ويحل في الخلق من المصائب الكبيرة والصغيرة ما الله به اعلم، كالفقر والمرض والموت والهموم والمشاكل والظلم والضوائق النفسية والإجتماعية فعلينا إن نستقبل ذلك راضين محتسبين ليبرد مر المصيبة ولترفع بها عند الله الدرجات وتحط السيئات.
أما من استقبل المصائب بالسخط والضجر ولم يحتسب ويصبر فإن مصيبته لايرفعها الله عنه لضجره وتأففه، وسيكون موقفه هذا وبالاً عليه في الدنيا والآخرة.
عباد الله: وأولادنا غداً سيختبرون وقد أحاطت به المخاوف هيبة للامتحان وخوفاً من الرسوب فهل هيئأناهم نفسياً وغرسنا فيهم التوكل على الله وقلنا لهم إن العون من الله والتوفيق بيده، فلا يطلب ما عند الله بسخطه، وهل ذكرناهم باللجوء إلى الله والتضرع إليه، وهل راقبناهم أثناء مذاكراتهم وعرفنا أصحابهم وجلساءهم، وهل حرصنا عليهم في تطبيق أوامر الله والإبتعاد عن نواهيه وتابعناهم في ذلك مثل متابعتنا لهم في دروسهم وإختباراتهم، وهل تذكرنا محافظتهم على المساجد وحضورهم لصلاة الفجر هذه الأيام، هل تذكرنا إعراض الكثير منهم عن الصلوات مع الجماعات، وهل تذكرنا وإياهم أن المرء عند الإمتحان يكرم أو يهان، هل تذكرنا امتحان الآخرة وحسابها في ذلك اليوم الذي ليس فيه رجعة لإعادة الكرة والإجتهاد مرة ثانية، ذلك الإمتحان الذي ليس فيه دور ثاني، فالحساب الحساب قبل يوم الحساب، وهل إستشعرنا نحن وأبناؤنا مغبة الذنوب وإثمها التي نحن واقعون فيها وراجعنا وإياهم حساباتنا لنعود إلى الله ونتخلص مما يسخطه، وهل دفعنا الحرص عليهم ومحبتهم والحنان عليهم والإشفاق من الرسوب في الإختبار هل دفعنا ذلك الحرص إلى المسارعة في وقايتهم من نار الله الحامية بالعمل بطاعته واجتناب معاصيه.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد سيد الآولين والآخرين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين.
============
ابتلاء المؤمن(1)
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/6/1415
النور
الخطبة الأولى
أما بعد:
إن من سنة الله تعالى في عباده المؤمنين أن يبتليهم جل وتعالى ،ابتلاءً يقوى بقوة الإيمان ،ويضعف بضعفه ،يقول رسول الله في الحديث الصحيح: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ،يُبتلى الرجل على حسب دينه ،فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)). إنه ما من أحد في هذه الدنيا إلا وهو مُبتلى ،إما بمصائب وبلايا ،وإما بمحن ورزايا ،وإما بآلام تضيق بها النفوس ،أو بمزعجات تورث الخوف والجزع ،فكم ترى في الدنيا من شاكي ،وكم تسمع من لواّم ،وآخر يشكو علة وسقما ،ورابع ،يشكو حاجة وفقرا ،وهذا متبرم من زوجة وأولاده ،وذاك لواّم لأهله وعشيرته، وإذا قد كسدت تجارته وبارت صناعته. وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه ،وهكذا.
لكن المؤمن من بين كل هؤلاء ،ذلك الذي قد توجه بكليته إلى ربه ،وضع أمامه هدفاً سامياً يسعى لتحقيقه ،هذا المؤمن ابتلاءه يختلف عن غيره ،فليس ابتلاءه ابتلاء إهانة وتعذيب ،لكنه ابتلاء تمحيص وتهذيب ،ابتلاء تربية وتقويم وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
إن هذا الصنف من المؤمنين ،ممن جعلوا غايتهم رضى الله رب العالمين ،قد وطنوا أنفسهم على احتمال المكاره ،ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، إنهم قد أحسنوا ظنهم بربهم ،وأمّلوا فيه جميل العواقب وكريم العوائد ،كل ذلك بقلب لا تشوبه ريبة ،ونفس لا يزعزعها كربة ،مستيقنين ،معتقدين ،اعتقاداً جازماً بأن بوادر الصفو والفرح لابد آتية. كاستيقانهم بأن غداً بعد اليوم، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور.
إن هؤلاء المؤمنين يعلمون بأن الإيمان ليس مجرد دعوى أو أمنية فحسب ،لكنهم يعلمون بأنها حقيقة ذات تكاليف ،وأمانة ذات أعباء ،وجهاد وصبر وتحمل لا يحملها إلا من في قلوبهم تجرد وإخلاص. إنهم يعلمون بأن أثقال الحياة ،وصعوبة الطريق ،ووعورة المسار ،لا يطيق حملها الضعاف المهازيل ،لا ينهض بأعبائها إلا العمالة الصابرون ،أولو العزم من الناس ،أصحاب الهمم العالية. إنه لا يكفي أن يقول الناس: آمنا ويتركوا لهذه الدعوى. حتى لا يتعرضوا للفتنة فيثبتوا لها ويخرجوا منها ،صافية عناصرهم ،خالصة قلوبهم.
أيها المسلمون: إن عبء الإيمان لكبير ،وإن تكاليفه لشاقة إلا على النفوس المؤمنة بالله إيماناً راسخاً ،والمتقبلة لتكاليفه بطواعية ،والراغبة فيما عند الله وما وعد به المؤمنين من نصر وعز في الدنيا ،وثواب مضاعف في الآخرة ،قال الله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1266)(4/106)
نعم ،إن عبء الإيمان شاق وكبير. ولكنه سهل ويسير على من يسّره الله عليه إنها سهلة على تلك النفوس التي تعرف أن العبء عندما يكون كبيراً ،يكون جزاؤه ومثوبته أكبر وأجل عند الله: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون نزلاً من غفور رحيم.
إنه لا غرابة ،فكلما عظم الثمن المقدم ،عظم المثمن المستوفى ،فالشهيد الذي قدم نفسه ،وباع حياته لله ،عوضه الله بدلاً من هذه الحياة بحياة أفضل ونعيم أكمل. كم من محنة تحمل في طياتها منح ورحمات ،وكم من بلية ،يكون بعدها فرج وكرامات ،إن المؤمن الواثق بربه ،لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان ،إن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد ،بل يقف أمام كل عاصفة بيقين أرسى من الجبال ،وعلم بالله لا يرقى إليه شك.
أما ضعيف الإيمان ،ذلك الإنسان الجزوع المتردد الخائف فإن ضعف إيمانه ويقينه ،يُنفّره من الصبر أمام الابتلاءات ،ويضيق عليه المسالك إذا نزلت به نازلة ،أو حلت به كارثة ،ضاقت عليه الأرض بما رحبت ،وتعجل الخروج فيما دخل ،متعلقاً بما يضره ولا ينفعه.
إنه لو استشعر قول الله تعالى: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم استشعاراً حقيقياً ،وأيقن بأن الخلق والرزق والإحياء والإماتة كله بيد الله ،ما خاف من أي مخلوق مهما بلغ من عز أو منزلة ،لأنه لا أحد يستطيع قطع رزق أو رد مقدور أو انتقاص أجل: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم.
إن من فقد الثقة بربه ،اضطربت نفسه ،وساء ظنه ،وكثرت همومه ،وضاقت عليه المسالك ،وعجز عن تحمل الشدائد.
أما أمر المؤمن فكله خير ،إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ،ولا يكون ذلك إلا للمؤمن ،بهذا صح الخبر عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فيا أيها الأخ المؤمن: إنك وأمثالك من المؤمنين في هذه الحياة ،معرضون لألوان من الابتلاء بخير أو بشر ،بخير كالمال والصحة والولاية ،وبشر كالمرض والآفات وتسلط الأعداء ،أما ابتلاء الخير ليرى هل تؤدي حق الله فيما أعطيت من مال بأداء ما أوجب الله عليك فيه.
وهل قَصَرْت النفس حال الصحة على المأمورات وكبحت جماحها عن ارتكاب المنكرات. وهل أديت حق الله فيما استُخلفت عليه من مصالح المسلمين قال الله تعالى: ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وقال عز وجل: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر هذا شيء من صور وألوان ابتلاء الخير.
أما ابتلاء الشر ،فكما قلت ليس لإهانة أو تعذيب ،لكن لتقوية الإيمان وحصول على المثوبة بالصبر على البلاء. كما حصل لنبي الله أيوب عليه السلام من الابتلاء بالمرض الذي بلغ به أن تخلى عنه جميع أهله.
وكما حصل لأبينا إبراهيم عليه السلام من تسلط قومه عليه وإلقائهم إياه في النار.
وكما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأذى والمضايقة والتآمر ضده تلك المؤامرة التي فضحها القرآن في قوله: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
فماذا كان بعد ذلك؟ ماذا كان؟ أما أيوب عليه السلام ،فكشف الله ضره وأتاه أهله ومثلهم معه رحمة من الله وذكرى لأولي الألباب ،وأما إبراهيم عليه السلام فإن الله تعالى قال للنار التي أُججت لإحراقه: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وجعله أمة يقتدى به إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين بل وجعل له لسان صدق في الآخرين.
وأما نبينا ورسولنا محمد فقد نجاه الله جل وتعالى وأفلته من تلكم المؤامرة الدنيئة ،وخرج من مكة مختفياً مطارداً ،ثم يعود إليها بعد بضع سنوات ،تعد قليلة في عمر الزمن ،يعود ليطل على مكة من أعلى طريق فيها ،فاتحاً لها ،بل عاد ليطل لا على مكة وحدها ،بل ليطل على الدنيا كلها ،وعلى هذه الأمة جميعها ،يوجهها إلى رب واحد ،وقبلة واحدة ،وقيادة واحدة ،ويصبح هو إمامها وقائدها المبلغ عن الله إلى يوم القيامة. بل وفرطها على الحوض وشفيعها عند الله ،وفاتح باب الجنة لها.
أيها الأحبة في الله ،أيها المؤمنون المبتلون شئتم أم أبيتم ،اتقوا الله تعالى ،اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم الذي جاء من عند الله واصبروا على ما قد تبتلون به ،وما كلفتم به من الله ،وأدوا حق الله فيما أعطاكم وفيما حملكم من أمانة ،ولا يطغينكم عزٌ أو رخاءٌ أو صحة أو ثراء ،ولا يضعفنكم الشدائد والأحداث والمصائب والمضايقات، فما هي إلا برهة من الزمن قليل ثم يأتي فرج الله ونصره ومثوبته لمن قام بأمره ،وإن استغرق ذلك وقت الدنيا كلها فإنها لا شيء في حساب وعمر الآخرة.
كما جاء وحصل لأيوب وإبراهيم ومحمد عليهم السلام ولأتباعهم ممن ابتلوا وأُوذوا في الله ،وستكون العقبى لأتباعهم كما كان لهم من قبل: فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً وقال سبحانه: سيجعل الله بعد عسر يسراً.(4/107)
أقول هذا القول وأسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء ،ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة ،وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ،اللهم وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
قال الله تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، وقال تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب. وقال رسول الله كما في البخاري: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له حفرة في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه ،والله ليتمن هذا الأمر - حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)).
إن الدنيا من مبتداها إلى منتهاها دار ابتلاء وغاية وجود المؤمن فيها إرضاء الله تبارك وتعالى ،ولمثل هذا فليعمل العاملون ،وعلى مثل هذا فلينافس المتنافسون.
فالمسلم لا يحزن لدنيا ولا تذهب نفسه حسرات ولا يستسلم إذا رأى من على غير الجادة هم أهل صولة وجولة في الدنيا ،في الوقت الذي يرى فيه إخوانه المؤمنون ،قلة في العدد والعدة والمال ،فإن كل هذا من الابتلاء.
وإن مما يزيد طمأنينة المؤمن ويقوي صبره إذا علم هذه النقاط الست:
1 - أن الابتلاء فيه تكفير للسيئات: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ،عن النبي قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ،حتى الشوكة يشاكها ،إلا كفر الله بها من خطاياه)) [متفق عليه].
2 - رفع المنزلة والدرجة عند الله تعالى ،المؤمن إذا ابتلاه الله فصبر على بلواه ،لا تكفر عنه سيئاته فحسب بل يجزل الله له أيضاً في الثواب ويرفع مكانته عند الناس وفي الجنة.
3 - المكافأة في الدنيا ،وذلك بأن يعوضهم الله ما فقدوه ،ومن هذا القبيل ما حدث لأيوب عليه السلام.
4 - إخلاص النفوس لله ،فإن الابتلاء من شأنه أن ينقي النفوس من الشوائب والقلوب من الرياء والعمل من الشرك ويوجهها نحو الإخلاص.
5 - إظهار الناس على حقيقتهم. فمن الناس من يدعي الصبر وليس بصابر ،ويدعي الزهد وليس بزاهد، فإن الابتلاء لا تطيقه كل النفوس. ومن هنا كان الابتلاء لتمييز أصحاب الهمم العالية والنفوس القويمة والعزائم الفتية المؤمنة ،من أصحاب الهمم الضعيفة والنفوس الساقطة والعزائم الخائرة.
6 - الإقتداء بالصابرين: وفي هذا حافز للمؤمن أن يصبر ويصابر ويتحمل كما صبر أولئك الصابرون المؤمنون، فينال ما نالوا من الرضا والقبول والنعيم المقيم في الآخرة والعزة في الدنيا.
================
حقيقة الابتلاء(1)
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى، عظموا أمر الله وعظموا نهي الله باستجابتكم لأوامر الله وبالبعد عن مناهي الله فبذلكم تكون التقوى.
أيها المؤمنون: إن الله جل جلاله بيده ملكوت السموات والأرض فله الملك كله، يقدر ما يشاء على عباده فيفيض عليهم الخيرات ويمنع عنهم المسرات ويفيض تارة ويمنع تارة، يبسط الرزق لمن شاء، ويقدر على آخرين أن يضيق، وهذا ابتلاء من الله جل وعلا.
ولذلك الابتلاء حكم عُليا جليلة يجب على المؤمنين أن يرعوها وأن يتعلموا ويعْلموا الأصول الشرعية التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تبين حقيقة الابتلاء والقصد منه كما أخبر الله جل وعلا أنه يبلو الناس بالشر تارة وبالخير تارة، وكل ذلك فتنة، يكون فتنة لمن أصابه الخير والسراء، ويكون فتنة لمن أصابه السوء والضراء وكل ذلك داخل في ابتلاء الله، في اختبار الله للناس.
فعلى هذا، الناس أفراداً وجماعات تارة يبتلون بالخير وتارة يبتلون بالمصائب، وكل ذلك هو في حكمة الله جل وعلا، فهو الذي يقدر ما يشاء ويقضي بما يشاء، له الملك كله وله الحكم كله، في كل ما يجري في ملكوته.
كل ما يجري في ملكوته بدون استثناء فإنما هو صادر عن أمره، موافق لحكمته، موافق لمشيئته جل وعلا، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فطائفة من الناس يفيض عليهم الله جل وعلا الخيرات والنعم والمسرات.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1453)(4/108)
والقرآن العظيم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يبينان لنا أن ذلك له حكمة كما قال جل وعلا: وألّوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا لنفتنهم فيه [الجن:16-17]. فمن أفيضت عليه المسرات، والخيرات حلت عليه والنعم، وأفيض عليه ما يسره يجب عليه أن يقف وقفة متأملاً متدبراً في هذه النعم التي حلت عليه، فينظر أولاً هل حاله حال المستقيمين؟ هل حاله حال الذين استقاموا على الطريقة؟ هل حاله حال المؤمنين بالله الذين استجابوا لله فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه؟ فإن كانت حاله تلك من الاستقامة والإيمان والصلاة وأنعم الله عليه من الخير فليعلم أن ما أعطاه الله جل وعلا له ليبلوه وليفتنه هل يشكر تلك النعم أم لا يشكرها فإن من الناس من كانت أحوالهم مستقيمة فلما أفيض عليهم المال وكملت لهم النعم انحرفوا وضلوا ولم يشكروا الله على نعمه الجزيلة وعلى ما وسع وأفاض من الخيرات، فمن كان مستقيماً وكانت حاله في رغد من العيش وسلامة وصحة وأمن ونحو ذلك فليعلم أن ذلك اختبار هل يشكر أم يكفر؟ كما أخبر الله جل وعلا عن سليمان عليه السلام حيث قال بعد أن أنعم عليه: ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم [النمل:40]. بعد أن أُتي له بعرش بلقيس وتمت له تلك النعم عرف أن ذلك ابتلاء، وأن ذلك ليختبر هل يشكر أم يظن أنه إنما أوتيه بقواه، وأنه إنما أوتي ذلك بمحض قوته وتفكيره، صنف آخر من الناس يبتلى بالنعم ويفاض عليه من الخيرات فيجب عليه أن ينظر في نفسه إذا كان غير مؤمن بالله الإيمان الكامل إذا كان مفرطاً بالواجبات، مفرطاً بحقوق الله جل وعلا وبحقوق الخلق، مقبلاً على المحرمات لا يرعى لله حرمة ولا يرعى للخلق حقاً وأنعم عليه بالنعم، فليعلم أنما ذلك ابتلاء واستدراجٌ من الله كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فليعلم أن ذلك استدراج))(1)[1] لأنه استدراج حيث قال تعالى: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [القلم:44].
إن الله جل جلاله يغار على حرماته ومع ذلك يفيض الخير على من لم يستقم على أمره، ليبتليه وليختبره.
ثم ليعلم أولئك أنما ذلك استدراج لكي ينظر الناس في حالهم بعد أن تأخذهم العقوبة.
والمؤمن عليه أن يرجع إلى ربه دائماً بما أعطاه الله من النعم وأفاض عليه من الخيرات، فإن كان مؤمناً سليم الإيمان مقيماً على الطاعات مبتعداً عن المحرمات، سعى في شكر ذلك باستعمال النعم في مراضي الله وبأن يضيفها وينسبها إلى من أولاها وأسداها ثم إنه ينعم بها على من حرمها.
من كان على غير استقامة، على معصية، على موبقات وعلى تفريط في الواجبات وأنعم عليه فليعلم أن ذلك استدراج، فعليه أن يستيقظ من الغفلة، وأن يستيقظ من السِنَة التي غشيت عقله وعلى فؤاده، فإن المرء إذا أصابته الغفلة خسر ثم خسر خسراناً مبيناً.
الطائفة الأخرى من الناس لا تبتلى بالنعم إنما تبتلى بالمصائب من الله جل وعلا، بأنواع المصائب، إما بنقص في الأموال، وإما بمصائب بدنية وإما بمصائب عامة أو خاصة، وتلكم المصائب موافقة لحكمة الله، موافقة لقدر الله، موافقة لسنة الله التي أمضاها في خليقته منذ خلق السموات والأرض، ومنذ دب آدم على وجه الأرض، فتارة يكون الذي ابتلي بالمصائب ابتلي بالأمراض ابتلي بالموت ابتلي بالجوع، ابتلي بنقص المال، فتارة يكون مؤمناً فرداً أو جماعةً أو أمة، تارة يكون مؤمناً مسدداً كما حصل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ابتلي الناس في وقته وهم الكملة المنتقون ابتلي الناس في وقته بعام المجاعة المشهور الذي سمي عام الرمادة، كان الناس لا يجدون ما يأكلون وذلك لينظر الله جل وعلا في فعل أولئك بذلك الابتلاء وذلك الاختبار هل يقبلون على ربهم ويعلمون أن بيده ملكوت كل شيء أن في يده ملكوت كل شيء وأنه جل وعلا ماض حكمه في خليقته ثم إنهم يبذلون ويضحون أم أنهم يشحون على أنفسهم وعلى إخوانهم، وأنواع من الاختبار والابتلاء بل وكما ابتلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته بما حدث لهم في أحد حيث قال الله جل وعلا لهم: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [آل عمران:165].
أولئك ابتلوا واختبروا بأنواع من المصائب المؤلمة مع ما هم عليه من السداد في الإيمان وكمال الأقوال والأعمال والبعد عن الشرك والبدع والبعد عن المحرمات صغيرها وجليلها إلا ما شاء الله أن يقع، أولئك كانت لهم المصائب ابتلاءً واختباراً لإيمانهم هل يصبرون على ذلك أم يتشككون في يقينهم وفي إيمانهم كما يحصل لبعض السفهاء ممن ضعف دينه وضعف إيمانه وقل يقينه.(4/109)
طائفة أخرى من الناس تبتلى بالمصائب، تبتلى بالمصائب من عند الله جل وعلا بأنواع من المصائب إما بغرق يحيطهم من فوقهم من السماء وإما أن تزلزل الأرض من تحتهم، ثم إنهم إذا كانوا على نقص من الأموال ونقص في الأنفس ونقص من الثمرات فنظروا في حالهم فوجدوا أنهم مفرطون في أمر الله، مفرطون في حق الله، مفرطون في أعظم الحقوق لله، وهو توحيد الله بأن يظهر الشرك فيما بينهم ولا ينكرونه، وتظهر المحرمات ولا ينكرونها، يشيع الفحش والفجور ولا ينكر، بل يقر، ويتخلف الناس عن أداء فرائض الله، إذا كانت تلك الحال وأصابهم ما أصابهم من عذاب الله أو من الابتلاء من الله جل وعلا فقد يكون ذلك في حق البعض المؤمنين الذين أصيبوا في ذلك، يكون ابتلاء واختباراً، وفي حق الذين تنكبوا عن صراط الله وعن دين الله وغَشَوا المحرمات والكبائر وما هو أعلى من ذلك يكون في حقهم عقوبة من الله جل وعلا كما أخبر الله جل وعلا عن قصة أصحاب الجنة فقد قالوا متعاهدين فيما بينهم: أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين [القلم:44]. حرموا الناس حقوقهم، فكانت تلك معصية في حقهم وكان ذلك مؤذناً ببلاء من الله جل وعلا قال تعالى: فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين [القلم:19-21]. الآيات، حتى قالوا معترفين: يا ولينا إنا كنا طاغين لما ظلموا أصابتهم العقوبة، هذه هي طوائف الناس في المسلمين ممن ابتلوا بأنواع المصائب وممن ابتلوا بأنواع المسرات والخيرات، وهذه هي الأصول الشرعية إن أصابت المصائب المؤمنين فليصبروا وليحتسبوا، وإن أصابت من فرط في أمر الله فليعلم أن ذلك نوع من العقوبة يخوف الله به عباده المؤمنين كما أخبر عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس في عهده قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا حياته))(2)[2] وقال عليه الصلاة والسلام: ((يخوف الله بهما عباده))(3)[3]، ((إن الله ليغار أن يزني عبده، إن الله ليغار أن تزني أمته))(4)[4]، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان للأمة لكي تعلم أن الآيات موافقة لحكمة الله، وكون أن لها أسباباً يعلمها بعض البشر لا ينافي أن فيها الحكمة البالغة من الله، فما من شيء يحدث إلا هو من الله موافق لحكمة الله، ماضٍ فيه أمر الله جل وعلا.
أيها المؤمنون اعتبروا في هذه الأصول الشرعية، كل بحسب حاله، من كان ذا نعمة فليشكر نعمة الله وليستقم على أمر الله، ومن كان ذا مصيبة فليتفكر في نفسه، إن كان مقيماً على الإيمان فليصبر وليحتسب وليعلم أن ذلك زيادة في إيمانه واختبار لتصديقه ويقينه، ومن كان على ضد ذلك فليعلم أن تلك العقوبة يعاقب بها من خالف أمر الله فيها إما ابتلاء وإما عقوبة، نسأل الله جل وعلا أن يجنبنا المكاره ما ظهر منها وما بطن وأن يجنبنا الفتن في أنفسنا وفيمن نحب وفي بلادنا وفي بلاد المسلمين عامة واسمعوا قول الله جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولنبولنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [محمد:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من جميع الذنوب والخطايا وأتوب إليه فاستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نزدلف بها إلى جنة الله وأشهد أن محمداً رسول الله شهادة نقترب بها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم وسعادتكم في هذه الدنيا وفي الآخرة العظمى، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا رحمني الله وإياكم برحمته الواسعة أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال قولاً كريماً :إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
__________
(1) صحيح ، أخرجه أحمد (4/145) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري ح (1042)، ومسلم ح (901) عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم.
(3) أخرجه البخاري ح (1048)، عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري ح (1044) عن عائشة رضي الله عنها.
============
ابتلاء النعم(1)
محمد بن مجدوع الشهري
جدة
جامع أبي هريرة
الخطبة الأولى
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1686)(4/110)
أيها المؤمنون: إن مما ينبغي أن يدركه كل مؤمن أنه مكلف ومطالب أن يقوم بواجب وأمان حمل هذا الدين وتبليغه ونشره، كل بوسعه وعلى قدر جهده وطاقته وعلمه ومكانته التي أعطاه الله إياها، فالأب مؤتمن على من يعول من الأبناء والزوجات والأقارب، والمعلم مؤتمن على طلابه، والمدير مؤتمن على أفراد إدارته، فانه لن يقوم بفكاك رقبتك أيها العبد يوم القيامة إلا ما قدمت تجاه من اؤتمنت عليهم.
فيا من احتمل هذه الأمانة قل لي بربك من تراه يقوم مقامك ويخلصك من ثقلك، وكل إنسان يسعى لفكاك نفسه وتخليص رقبته من الأثقال، ثم ليعلم أن من يأنس في نفسه قدرة على الحفظ أو التفقه أو الدعوة أو الإصلاح من خلال منبر أو موقع أو مسئولية أنه ينبغي أن لا يتخلى عنها إيثاراً للسلامة أو طلباً للعاجل أو انكفاء على نفسه، بل عليه أن يبلغ دين رب العالمين وأن ينجو من لجام النار المتوعد به من كتم علماً.
واعلموا عباد الله أن كل نعمة منحها الله لعبده هي ابتلاء يسأل عنها يوم القيامة ،ولكن المشكلة أن الناس يدركون النعم المادية كالمال والولد والمنصب وغيرها، ولا يكادون يدركون النعم غير المادية كالذكاء والمواهب الجسمية والقدرات النفسية.
فالغني مثلا يعلم أنه مطالب بالإنفاق في سبل الخير بما لا يطالب به الفقير، ولكن القوي لا يدرك أن في قوة جسمه حقاً للضعيف والكل، وقل مثل ذلك في البصير مع الأعمى، والصحيح مع المريض. . وكم من الناس من يستخدمون عقولهم التي منحوها لنصرة الحق والدفاع عنه، وكم من الناس من يوجه نعمة الفصاحة والبيان التي أوتيها إن كان باللسان وإن كان بالبنان للدعوة إلى الإسلام، وفضح أعدائه.
أوَ يظن أحد أن حساب الغني يوم القيامة كحساب الفقير؟ أو أن حساب الذكي كحساب الغبي والبليد؟ أو حساب الفصيح كحساب العيي؟ أو حساب الحافظ كحساب من ينسى؟ أو حساب الشجاع كحساب الجبان؟
إنه لمختلف جداً، لا يستويان، وإن قال قائل: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فهذا بجهدي وبذلي، وكلٌ يستطيع أن يصل إلى ما وصلت إليه من منح الله ونعمه، فنقول: صحيح إن الاجتهاد مطلوب، وقد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) فبهذا يطلب البذل وتقر النتيجة التي يهبها الله لعباده بتقديره وتدبيره ولا يعلم ذلك التدبير إلا مدبره عز وجل.
ويعلم ذلك عباد الله لمن تدبر قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:165]. فلنقف مع هذه الآية العظيمة نستخرج منها دروساً وحقائق:
فأولها: جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرْضِ، فجنس البشر خلفاء استخلفهم الله في الأرض لينظر كيف يعملون، وأصل وجودهم فيها هو لهذا، وهو قدر يشترك فيه جميع المكلفين.
والحقيقة الثانية: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، هكذا درجات، لتشمل جميع أنواع التمايز والاختلاف والتفاوت بين الناس، في أموالهم أو أجسامهم أو عقولهم أو ملكاتهم أو مواقعهم ومناصبهم ومسئولياتهم .... وهذه سنة إلهية محكمة نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].
والحقيقة الثالثة: لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَاكُم، فهذه الدرجات على اختلافها منن ومنح هي لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَاكُم [المائدة:48]. فكل ما رزقكم الله من المنن الظاهرة أو الخفية فإنما ليبلوكم بها، هل تنجحون في تسخيرها للإسلام؟ أم تضيعونها هدراً؟ أم تجعلونها حرباً في صدور المؤمنين؟.
والحقيقة الرابعة: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:167]. فإذا استثمر العبد ما منحه الله في معصيته وتكذيب رسله أسرعت إليه العقوبات في الدنيا والآخرة، وإذا بذل ما يملكه في سبيل الله تجاوز الله ما يحدث منه من خطأ وسهو وغفلة وتقصير، لأنه غفور رحيم.
=============
الابتلاء في حياة الدعاة(1)
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
13/7/1420
غير محدد
الخطبة الأولى
فإن الصراع بين الحق والباطل قائم على أشده منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة، فآدم عليه السلام وهو يمثل عنصر الخير في الأرض وتمثل الحق فيه، عاداه إبليس اللعين أصل كل شر وبلية، وذلك العداء من إبليس وجنده لآدم وذريته من المؤمنين قائم وسيظل قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وتاريخ الأنبياء حافل بالصراع بينهم وبين الكافرين أولياء الشيطان فمنذ أن بعث الله آدم عليه السلام ومن لدن نوح عليه السلام حتى ختم الله الرسالة والنبوة، بمحمد وهداه إلى الإسلام يشنون حرباً لا هوادة فيها على الإسلام والمسلمين، وستظل هذه الحرب وإلى يومنا هذا بل وإلى يوم الدين.
والأعداء لن يكفوا عن حرب المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1899)(4/111)
وأولياء الشيطان من الجبابرة العتاة والطغاة والمتكبرين حين يصارعون أهل الحق يضعونهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما البطش والتعذيب والتنكيل بأولياء الله وحملة الدين، وإما أن يساوموهم للدخول معهم في دينهم، إما بأنصاف الحلول أو بأثلاثها وأرباعها قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14].
فهذان الخياران أحلاهما مر، إما القتل أو التنكيل والتعذيب، والتشريد وإما الدخول في ملة الكافرين، والقبول بالخيار الأخير معناه التخلي عن المبدأ والعقيدة، فإن التنازل ولو بقدر ضئيل معناه التخلي عن المبدأ، فإن من قبل أن يتنازل ولو بشيء بسيط عنده الاستعداد للتنازل إلى آخر المطاف، والذي ينتهي به إلى بيع الصفقة كلها، وهذا ما وعاه فتية الكهف فإنهم قالوا: إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً [الكهف].
فهذا هو منطق الطغاة والمتجبرين والطواغيت، لو ظفروا بالدعاة استخدموا معهم كل أساليب البطش والتنكيل، والتعذيب أو ساوموهم في الدخول معهم ومشاركتهم في كفرهم وباطلهم.
وإذا اختار الدعاة هذا الطريق طريق المساومة والدخول في ملة الكافرين فلن يفلحوا أبداً فإن دين الله إنما جاء لتحقيق التوحيد والقضاء على الشرك وأهله.
فيا عباد الله: إن الطريق الذي اختاره الله لنبيه محمداً وأصحابه في سبيل نشر هذا الدين كان هو طريق التوحيد والثبات على المبدأ، وهو الطريق الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، أن يفاصلوا المشركين في ملتهم ودينهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [الكافرون:1-6].
هذا الطريق تتطلب من المسلمين الثبات والصبر وإن ساورهم العدو على أنصاف الحلول لتمييع مبدئهم فليصبروا وليثبتوا على ما هم عليه من مبدأ الحق، فإن الله سبحانه وتعالى قد كتب التمكين لأوليائه، والاستخلاف لهم في الأرض، ولكن إلى أجل هو يعلمه سبحانه وتعالى قال الله سبحانه وتعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5-6].
أيها المسلمون: إن حرب الأعداء على حملة هذا الدين ودعاته قائم، وإذا أسفر الباطل عن وجهه الكالح السواد، فكشر عن أنيابه، واستخدم كل أساليب البطش والتنكيل والتعذيب والقتل معتقداً أنه بهذا الأسلوب سيقتضي على الحق وحملته، وهذه هي سنة الله في دعاة الحق وحملته وأنصاره، فإن جاء الابتلاء وأوذوا في سبيل الله فما عليهم إلا الصبر والثبات على الحق، وعدم المساومة في دين الله إلى أن يفتح الله بينهم وبين الكافرين، فعن أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) [رواه البخاري وأبو داود والنسائي].
إن الأنبياء وهم أكرم الخلق عند الله ما سلموا من الإيذاء والتعذيب بل إن منهم من قتل في سبيل الدين فقال الله تعالى عن اليهود وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [البقرة:61].
فعن عبد الله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربة قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) [متفق عليه].
هذا هو طريق الدعوة والتوحيد، هذا هو سبيل الله الذي اختاره لأوليائه فما على الدعاة وأتباعهم وحملة هذا الدين إلا أن يصبروا إلى أن يأذن الله لهم بالفرج.
الخطبة الثانية
يقول الله تعالى في محكم كتابه: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرْضِ الْفَسَادَ [القصص:26].(4/112)
فهذا هو منطق فرعون ومنطق كل الفراعنة في كل زمان ومكان، ليس أمامهم خيار إلا أن يبطشوا بالصالحين وبأولياء الله المتقين، والعجيب أن يتظاهر هؤلاء الطواغيت المفسدون في الأرض أنهم أهل خير وصلاح، متهمين الدعاة وحملة الشريعة بأنهم مظهرون في الأرض الفساد. وهذا من قلب الحقائق والمعاني، فإن الدعاة والمصلحين وحملة الدين هم المصلحون والطاغوت وأعوانه وأنصاره هم المفسدون.
وتأملوا إلى قول فرعون اللعين حين قال: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ فللكفار دين غير دين الإسلام، فلهم دينهم ولنا ديننا، ولذلك وجب على جميع المسلمين إعلان المفاصلة والمفارقة للكفار وأن لا التقاء بيننا وبينهم لا في نقير ولا في قطمير، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [الكافرون:1-6].
أيها المسلمون: إن سنة الله القدرية الكونية والشرعية قاضية في أن يبتلي عباده المؤمنين، فكل من قال: لا إله إلا الله صادعاً بها في وجه الكفار والطواغيت فهو معرض للتعذيب والتنكيل به من قبل أساطين الكفر والاستكبار العالمي، وهذا هو الطريق الذي اختاره الله لأهل التوحيد ولعباده المؤمنين المتقين.
ولنا في قصة أصحاب الأخدود عبرة، فإنهم ساوموهم في دينهم، فما نكصوا ولا استكانوا، وفضلوا الموت في سبيل الله على أن يقدموا التنازل لكافر أو طاغية، واستمعوا إلى رب العزة عز وجل وهو يقول بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:1-10].
فانتقام الكفار والطواغيت بحملة الدين والمدافعين عن حمى الإسلام إنما هو بسبب إيمان المؤمنين بالله وتجريدهم التوحيد لله، ولذلك تأتي صنوف التنكيل وألوان التعذيب لتثني المسلمين عن الواجب المنوط بهم.
ولكن يأبى الله إلا أن ينصر أولياءه المؤمنين ويخذل أعداءه الكافرين، فالواجب على الفئة المؤمنة المجاهدة في سبيل الله أن تستمر في طريق دعوتها ولا يثنيها تكالب الأعداء عليها فإن الله مولى المؤمنين.
أيها المسلمون: لا تلتفوا إلى المرجفين المثبطين والمخذلين ولا تصغوا إلى المنافقين وأولياء الشيطان، فاعتصموا بالله وكونوا به معتصمين لا بسواه، واعلموا أن الله قادر أن ينصر دينه ويهلك أعداءه في أقل من ثانية، ولكنه شاء سبحانه وله الحكمة في ذلك أن يدفع الكفر بالإيمان، والشر بالخير، والكفار بأوليائه المؤمنين وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
=============
الابتلاء وحكمته(1)
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله عباد، واعلموا أن الله تبارك وتعالى يبتلي عباده امتحانًا واختبارًا ليرى الشاكر منهم ومن يكون منهم كفارًا.
وعليه فإن الله إذا ابتلى عبده بأنواع البلايا والمحن أو بشيء منها فإن ردّ ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه، وجمع عليه قلبه وطرحه على بابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير له. والشدة بتراء لا دوام لها، وإن طالت فتقطع عنه حين تقلع، وقد عُوض منها أجل عوض وأنفعه، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شاردًا عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائيًا عنه، وانطراحه على بابه بعد أن كان نائياً معرضًا، وللوقوف على أبواب غيره متعرضًا، وكانت البلية في حق هذا عين النعمة وإن ساءته، وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب. وقول الله تعالى في ذلك في سورة البقرة هو الشفاء والعصمة حيث يقول الله تبارك وتعالى:
وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وإن ردَّ ذلك البلاء إلى خلقه، وشرد قلبه عنه، وطغى ونسي ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه، فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به، فإذا أقلع عنه البلاء ردّه إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه في السراء، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2000)(4/113)
فبلية هذا وباء عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل.
فإذا ابتلى الله تبارك وتعالى عبده بمنحة فإنما يبتليه بها ليرى هل يكون من الشاكرين، وإذا ابتلاه بمحنة فإنما يبتليه بها ليرى هل هو من الصابرين، والسعيد الذي أريد به الخير يشكر في السراء، ويصبر في الضراء.
ومن أمثلة الذين ابتلاهم الله تعالى بالمنح والنعم فشكروا وعرفوا الفضل لصاحبه، والنعمة لوليها وأهلها والمبتدئ بها من أمثلتهم، نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعلى أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة وأزكى التسليم. نبي الله سليمان آتاه الله ملكًا عظيمًا لما دعى ربه كما جاء في سورة "ص": قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص:35].
فكيف أجابه الله تبارك وتعالى؟ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ [ص:36-40]. له سوى ذلك وله على ذلك: عندنا زلفى: هو مقرب إلينا، وحسن مآب، عدا ما ملكناه وأعطيناه في الدنيا، ومع ذلك يقول سليمان عليه السلام في سورة النمل لما حُشر له جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون، وقالت النملة ادخلوا مساكنكم وسمعها وتبسم ضاحكًا من قولها لأنها قالت: ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18]. قال: وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النمل:19]. رب ألهمني أن أشكر نعمتك، وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
انظروا، انظروا إلى هذا النبي الكريم الذي ما أطغاه ملكه ولا أنساه ربه مع أنه أوتي من الكل ما لم يؤتاه أحد ولن يؤتاه أحد لأنه قال: لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص:35].
هكذا ولما طلب من جنوده أن يأتوا بعرش ملكة سبأ، وشاورهم من الذي يستطيع أن يأتي بهذا العرش أسرع من غيره، استمع إلى قائل من عنده يقول: أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ [النمل:40]. ماذا قال؟ هل قال: هذا مُلكي؟ هذا صولجاني؟ هذه عدتي؟ هؤلاء جنودي أقوياء أقوى من غيرهم. لا. وحاشاه أن يقول ذلك. إنما قال: هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]. ليس هذا فحسب بل عقب فقال: وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [النمل:40]. ما ينال الله من شكره زيادة في ملكه ولا نفع، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]. هكذا فليكن الشكر، هكذا فلتكن المعرفة بالله، المنعم المتفضل، وهكذا فليكن الثناء والحمد والشكر لله وحده.
فهلاَّ عرف ذلك أصحاب الأموال والجاه والمناصب وعادوا إلى الله تبارك وتعالى بالشكر على ما أولاهم، وانتبهوا إلى ما به ابتلاهم، فلم يطغوا بالأموال، ولم يستبدوا بالمناصب، ولم يسرفوا، ولم يبددوا هنا وهناك، قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، ويتمنون عندما يرون البهائم تصير يوم القيامة ترابًا يقولون: "يا ليتنا كنا ترابًا".
ويقول الله تبارك وتعالى لواحد من المخلدين في نار جهنم: ((أرأيت لو كان لك ملئ الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به)) فيقول: ((قد سُئلت ما هو أيسر من ذلك. أردت منك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم، فأبيت إلا أن تشرك بي))(1)[1].
هلا انتبه أصحاب الجاه والمناصب إلى الفارق الهائل بين مكانة سليمان عليه السلام في الدنيا والآخرة، وبين الطغاة الذين أعرضوا عن الله تبارك وتعالى وفيهم قوله عز وجل في المبتلين بالمنح والمحن في سورة الإسراء: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً [الإسراء:83]. معرض عند الخير يئوس عن الشر.
وقال في سورة هود: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9]. يئوس كفور إذا نُزعت النعمة، فرح فخور إذا عادت وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيّئَاتُ عَنّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود:10].
هذه طبيعة أكثر الناس وأقلهم من يكبح جماع نفسه ويشكر ربه في السراء، ويصبر في الضراء.
ومن أمثلة المبتلين بالوقوع في المعاصي والمبتلين بالأمراض الذين لم ييأسوا ولم يقنطوا من رحمة الله. بل عادوا إليه صاغرين متذللين من أمثلتهم آدم عليه السلام أولهم.(4/114)
لما ابتلى بالأكل من الشجرة رجع إلى ربه تائبًا نادمًا مشفقًا، قال هو وزوجه: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. فتاب الله عليه، وأخبر أن الله تعالى تاب عليه كما في سورة البقرة:
فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]. ألهمه أن يقول تلك الكلمات. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23]. فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]. الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، ولا يتعاظمه ذنب، يقبل التوابين ويعفو عن سيئاتهم.
ثم كذلك نوح عليه السلام في سورة هود: قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47]. فأُجيب: قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ [هود:48].
وإبراهيم عليه السلام قال الله عنه في سورة الشعراء: الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ [الشعراء:78-82]. فقال الله تبارك وتعالى عنه: إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لاّنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً [النحل:120-122]. فكيف سيكون حاله في الآخرة وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل:122].
ليس هذا فحسب بل أمُر نبيا محمد أن يتبع ملته قال له ربه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:132].
وموسى عليه السلام لما اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه وأخذتهم الرجفة، قال: رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ [الأعراف:155] كما في سورة الأعراف، وكان ذلك بعد أن عبد قومه العجل، وعاد فحطم العجل، وألقاه في البحر حطامًا، ثم اختار سبعين رجلاً لميقات ربه، ذهب بهم فأخذتهم الرجفة قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ [الأعراف:155]. امتحانك واختبارك، وليس معنى الفتنة هنا الفعل المسيء بل الامتحان والاختبار. كما قال الله تعالى في سورة العنكبوت: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. لا يمتحنون ولا يختبرون، هل ظنوا أن نتركهم من غير أن نمحصهم فنعرف الذين ليس لهم من الإسلام إلى القول، ليس لهم حظ إلى القول، فإذا ما ابتلوا لم تصدق أعمالهم أقوالهم وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].
إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:155-156].
ولما قتل موسى عليه السلام القبطي الذي تنازع مع الإسرائيلي قال: قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16].
وأيوب عليه السلام الذي دعا ربه ورفع أكف الضراعة لربه وانطرح ببابه وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. فكيف كانت الإجابة فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]. رحمة بأيوب وذكرى للعابدين ليعرفوا أن عليهم إذا ما ابتلوا بالأمراض والأسقام أن يلجأوا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكشفوا ببابه عن ذل وضراعة ودعاء، فإنّ الله تبارك وتعالى سميع عليم يجيب دعوة الداع إلى دعاه ولهذا قال: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ [يوسف:111]. ليس قصصًا للتسلي والحكاية إنما فيه عبرة لمن؟ لأصحاب العقول لأولي الألباب.(4/115)
وذو النون يونس عليه السلام، لما ابتلاه الله بالتقام الحوت له فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. اعترف بالألهية لله وحده، ونزهه عن العيب وأضاف الظلم إلى نفسه قال: إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
أجيب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. وكذلك ننجي كل مؤمن اغتم أو أهمه أمر كذلك ننجيه إذا قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وهذا ما تضمنه دعاء سيد الاستغفار الذي علمناه رسول الله كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه: ((اللهم أنت ربي لا إله أنت أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))(2)[2].
ففي أول هذا الدعاء اعتراف بالربوبية المتضمن لانفراد الله وحده، بهذا الخلق سبحانه وبعموم المشيئة ونفوذها واعتراف بالإلهية ويتضمن عبادته وحده لا شريك له، ويتضمن الاعتراف بالعبودية والتبرأ من كل وجه إليه سبحانه تبارك وتعالى، ((وأنا على عهدك ووعدك)) يتضمن التزام شرعه ودينه ووعدك مصدق بالموعود بالجزاء من الثواب ففيهما الإيمان والاحتساب، يؤمن ويحتسب عند الله ثواب إيمانه، ولما علم الله تعالى أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه أن يكون على عهده ووعده قال (ما استطعت) أي على حسب الاستطاعة والقدرة ((أعوذ بك من شر ما صنعت)) يشهد لله بقوته وقدرته على أن يحميه من شر نفسه ومن عدوه، ويعترف بالذنب والتقصير، ثم ينسب النعم كلها إلى وليها ومولاها إلى الله تعالى فيقول:
((أبوء لك بنعمتك علي)) ويعترف بذنبه فيقول: ((وأبوء بذنبي))، فكأنه يقول: أنت المحمود المشكور لك الحمد كله، ولك الثناء كله، ولك الفضل كله، وأنا العبد المسيء المذنب المعترف بتقصيره، وذنبه المقر بخطئه ((أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي)) ولما قام بقلبه وتوسل بهذه الوسائل قال: ((فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
ولله تبارك وتعالى في الابتلاء حكم عظيمة وكثيرة منها:
أنه يحب أن يرى من يتوب من عباده ومن يقنط من رحمة الله، ولهذا قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام لما بشروه بالغلام وقال لهم: أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [الحجر:54-56].
يحب الله تبارك وتعالى أن يرى التوابين من عباده إذا ما ابتلوا بمرض أو بالوقوع في ذنب.
ولهذا قال الله تعالى في سورة الأنعام: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:42-43].
لم يتضرعوا إلى الله، لم يسألوه تعالى أن يتوب عليهم بل قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:42].
يحب الله تبارك وتعالى أن يرى التوابين.
ومن حكمة الابتلاء أنه سبحانه يريد أن يعرف عبده عدة قضائه، ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه، يحب أن يعرف العبد ذلك وأن قضاء الله تعالى وقدره سار عليه نافذ، ويحب الله تبارك وتعالى أن يعرف العبد أن الله هو الذي يحفظه ويصونه وهو محتاج إليه، فإذا تخلى عنه تناوشته الشياطين، ومدت يديها إليه، وتناوشته ومزقته كل ممزق، فحاجته إلى ربه عظيمة، ويحب الله تبارك وتعالى أن يستعين به عبده في أن يعيذه من شر نفسه، ومن عدوه.
ويحب ربنا تبارك وتعالى ألا يشمخ العبد بنفسه عندما يشهد في نفسه صلاحًا واستقامة، فإذا ما وقع في الذنب عرف أنه مسيء ومذنب ومخطئ فلم يشمخ بنفسه، وعرف أنه لما كان طائعًا كان ذلك بتوفيق الله عز وجل فلما حجب الله عنه توفيقه غلبته نفسه، وانكب على المعاصي والذنوب فهذه حكمة أخرى من حكم الابتلاء.
ويحب الله عز وجل أن يرى عباده سعة حلمه وكرمه، وأنه يعفو عنهم ويتقبلهم إذا ما رجعوا وتابوا ولن يعرفوا ذلك إلا من خلال موافقة الذنوب، فإذا شهدوا التقصير في أنفسهم علموا أن الله لن يعفوا عنهم إلا لأنه واسع الحلم كريم.(4/116)
ويحب الله تبارك وتعالى أن يعرف عباده أن لا طريق إلى النجاة إلا بعفو الله ومغفرته، ليس بالعمل لأن الله تبارك وتعالى عندما يذنب العبد ويُبتلى بالوقوع في المعاصي يحب أن يريه أنه إذا عذبه فبعدله، وببعض حقه عليه، بل باليسير من هذا الحق، وأنه إن أنجاه فبعفوه ومغفرته كما تعرفون من الحديث: ((لن يدخل الجنة أحدكم بعمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))(3)[1].
كذلك إن العبد إذا تربى في العافية لم يعرف ما يقاسيه المبتلون إذا عافاه الله من الأمراض والأسقام والوقوع في المعاصي والذنوب لم يعرف ما يقاسيه غيره من المرضى ومن الذين يقعون في الذنوب بسبب غلبة أنفسهم لهم فإذا ابتلي حينئذ عرف قيمة العافية وعرف مقدارها.
ثم إن من حكمة الله تبارك وتعالى أنه يريد أن يتعامل العبد مع إساءات الناس إليه ونزلاتهم معه بالعفو والصفح والمغفرة، فيتعامل مع ذنوبهم معه كما يحب أن يصنع الله بذنوبه، فكما يحب أن يصنع الله بذنوبه، فليتعامل مع إساءات الناس إذا اعتذروا وإذا تأسفوا وندموا، فليقل عثراتهم وليقل معاذيرهم وليتقبل منهم، مع إقامته لأمر الله فيهم.
إن رأى الله فيهم أمرًا قام به رحمة لهم لا قسوة ولا فظاظة عليهم.
وكذلك إذا شهد العبد تقصيره وخطأه وذنبه، علم أنه ليس له عند الناس حقوق في الإكرام يتقاضاهم إياها، ويذمهم على ترك القيام بها، لأنه ما دام مذنبًا مخطئًا مسيئًا فليست له الأشرفية والأفضلية على أحد، فلماذا يشكو من الناس ويحاسبهم ويقول: لقيني فلان فلم يبش في وجهي، ولقيني وأنا أمام بيته فلم يقل لي تفضل، إلى غير ذلك.
لو عرف العبد أنه مخطئ مذنب مسيئ لم يرى لنفسه فضلاً على غيره من المؤمنين بالله واليوم الآخر.
فاستراحت نفسه واستراح الناس من شكايته وتعبه، فما أقر عينه وما أهنأ باله وما أطيب عيشه، يستريح الناس من شكايته وتعبه.
فأين هذا ممن لم يزل عاتبًا على الناس شاكيًا لتركهم القيام بحقوقه، ساخطًا عليهم وهم عليه أسخط، لكنه إذا لقيه أحد فسلم عليه، وانبسط وجهه إليه، رأى أن ذلك تفضلاً ممن فعل معه مع فعل لأنه مذنب مسيء، مخطئ معترف بالتقصير فلا يرى لنفسه فضلاً على أحد.
ما دمت تُذنب كما يذنب الآخرون، وليس لك الكمال فإن عليك ألا ترى لنفسك فضلاً على أحد حتى تستريح وتُريح، ثم إن من حكم الله تبارك وتعالى إذا ما ابتلى عبده أن يشتغل بعد ذلك بعيبه؛ لأنه إذا أذنب عذر الآخرين الذين غلبتهم أنفسهم في ساعة من الساعات، فإن غلبت كذلك هو نفسه عذرهم واشتغل بعيوبه وغض الطرف عنهم، وتفرغ لعيوبه، وارتفع عن التفكير أو الخوض في عيوب الآخرين، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن شغلته عيوب الناس وتفرغ لها.
ثم بعد ذلك من الحكم العظيمة في الابتلاء أن يستغفر العبد لإخوانه المسلمين لأنه إن أذنب أحس بالحاجة إلى أن يستغفر له إخوانه فيصير هجيراه: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.
فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين.
__________
(1) البخاري (6538) ، ومسلم (2805) من حديث أنس بن مالك.
(2) البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(3) البخاري (573) ، ومسلم (2816) عن أبي هريرة بنحوه.
=============
الابتلاء بالأمراض(1)
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
7/8/1424
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ التي هي معتصَم عند البلايا، وسلوان في الهمّ والرزايا.
واعلموا ـ حفظكم الله ورعاكم ـ أنّ الابتلاء سنّة ربّانية ماضية، هي مِن مقتضيات حكمةِ الله سبحانه وعدله، متمثِّلاً وقعُه بجلاء في الفقر والغنى والصحّة والمرض والخوف والأمن والنقص والكثرة، بل وفي كلّ ما نحبّ ونكرَه، لا نخرج من دائرة الابتلاء، يقول الله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]، ويقول سبحانه: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (نبتليكم بالشدّة والرخاء، والصحّة والسّقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطّاعة والمعصية والهدى والضلالة)(1)[1].
عبادَ الله، العاقل الحصيفُ يجب عليه حتمًا أن يوقنَ أنّ الأشياء كلَّها قد فُرِغ منها، وأنّ الله سبحانه قدّر صغيرها وكبيرَها، وعلم ما كان وما سيكون وأن لو كان كيف يكون، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء [الأنعام:38]، يقول الرسول : ((أوّلَ ما خلق الله القلمَ قال له: اكتب، قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقاديرَ كلّ شيء حتى تقوم الساعة)) رواه أبو داود(2)[2].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2866)(4/117)
فالمقاديرُ ـ عبادَ الله ـ كائنة لا محالة، وما لا يكون فلا حيلةَ للخلق في تكوينِه، وإذا ما قدِّر على المرء حالُ شدّة وتنكَّظته الأمورُ فيجب عليه حينئذٍ أن يتّزرَ بإزار له طرفان: أحدهما الصبر والآخر الرّضا، ليستوفيَ كمالَ الأجر لفعله ذلك، فكم من شدّة قد صعُبت وتعذّر زوالها على العالَم بأسره ثمّ فُرِّج عنها بالسّهل في أقلَّ من لحظة، قيل للحسن: يا أبا سعيد، من أين أُتي هذا الخلق؟ قال: من قلّة الرضا عن الله، قيل: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: مِن قلة المعرفة بالله.
ولمّا جيء بسعيد بن جبير إلى الحجّاج ليقتلَه بكى رجلٌ فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: لِما أصابك، قال سعيد: فلا تبكِ إذًا؛ لقد كان في عِلم الله أن يكونَ هذا الأمر ثمّ تلا: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد:22](3)[3].
وما يصيب الإنسانَ إن كان يسرّه فهو نعمةٌ بيّنة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة أيضًا؛ إمّا مِن جهة أنه يكفِّر خطاياه ويُثاب بالصّبر عليه، وإمّا من جهة أنّ فيه حكمةً ورحمة لا يعلمها إلا الله، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، وصدق رسول الله إذ يقول: ((عجبًا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) رواه مسلم(4)[4].
أيّها النّاس، إنّ البشرَ قاطبةً مجمعون إجماعًا لا خِداج فيه على أنّ الصحّة تاجٌ فوق رؤوس الأصحّاء لا يراه إلا المَرضى، وأنّ الصحّة والعافية نعمةٌ مغبون فيها كثيرٌ من النّاس.
الأمراض والأسقامُ ـ عبادَ الله ـ أدواء منتشرةٌ انتشارَ النّار في يابِس الحطَب، لا ينفكّ منها عَصر، ولا يستقلّ عنها مِصر، ولا يسلم منها بشرٌ ولا يكاد إلاّ من رحم الله؛ إذ كلّها أعراض متوقّعة، وهيهات هيهاتَ أن تخلوَ الحياة منها، وإذا لم يصَب أحدٌ بسيلِها الطامّ ضربَه رشاشها المتناثرُ هنا أو هناك، وثمانيةٌ لا بدّ منها أن تمرَّ على الفتى، ولا بدّ أن تجريَ عليه هذه الثمانية: سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة ويسر وعسرٌ ثمّ سقم وعافية.
الأمراضُ والأسقام هي وإن كانت ذاتَ مرارةٍ وثقل واشتدادٍ وعرك إلا أنّ الباريَ جلّ شأنه جعل لها حكمًا وفوائدَ كثيرة، علمها من علمها وجهِلها من جهلها، ولقد حدّث ابن القيم رحمه الله عن نفسه في كتابه شِفاء العليل أنّه أحصى ما للأمراض مِن فوائدَ وحكم، فزادت على مائة فائدة، وقال أيضًا: "انتفاعُ القلب والرّوح بالآلام والأمراضِ أمر لا يحسّ به إلا مَن فيه حياة، فصحّة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها" انتهى كلامه رحمه الله(5)[5].
إنّ الابتلاءَ بالأمراض والأسقام قد يكون هبةً من الله ورحمة، ليكفّر بها الخطايا ويرفعَ بها الدرجات، فلقد استأذنتِ الحمّى على النبيّ فقال: ((من هذه؟)) قالت: أمّ ملدم وهي كنية الحمى، فأمر بها إلى أهلِ قباء فلقوا مِنها ما يعلم الله، فأتوه فشكَوا ذلك إليه، فقال: ((ما شئتم؟ إن شئتم أن أدعوَ الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكونَ لكم طهورًا))، قالوا: يا رسول الله، أوَتفعل؟ قال: ((نعم))، قالوا: فدَعها. رواه أحمد والحاكم بسند جيد(6)[6]. وقال : ((ما مِن مسلمٍ يصيبه أذًى من مرض فما سواه إلاّ حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشجرة ورقَها)) رواه البخاري ومسلم(7)[7]. وقال رجل لرسول الله : أرأيتَ هذه الأمراضَ التي تصيبنا، ما لنا بها؟ قال: ((كفارات))، قال أبي بن كعب: وإن قلَّت؟! قال: ((وإن شوكةً فما فوقها)) رواه أحمد(8)[8]. ولقد عادَ رسول الله مريضًا من وَعكٍ كان به، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ((أبشِر فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكونَ حظَّه من النار في الآخرة)) رواه أحمد وابن ماجه(9)[9]، والوعك هو الحمّى.
فمِن هنا ـ عبادَ الله ـ نعلم النتائجَ الإجابيّة التي يثمِرها المرض، ونعلم أنّ مذاقه كالصّبِر، ولكنّ عواقبه أحلى من الشّهد المصفى، فعلامَ إذًا يمذُل(10)[10] أحدُنا من المرض يصيبه، أو يسبّه ويشتُمه، أو يعلّل نفسَه بليت وليت، وهل ينفع شيئًا ليت؟!
ألا فاعلموا أنّ رسولَ الله دخل على أمّ السائب فقال: ((ما لك ـ يا أمّ السائب ـ تُزَفزفين؟)) قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبِّي الحمّى، فإنّها تذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبثَ الحديد)) رواه مسلم(11)[11]. ولقد أصابَ أحدَ السلف مرضٌ في قدمه، فلم يتوجّع ولم يتأوّه، بل ابتسمَ واسترجع، فقيل له: يصيبك هذا ولا تتوجّع؟! فقال: إنّ حلاوةَ ثوابه أنستني مرارةَ وجعه.(4/118)
وبعدُ عبادَ الله، فلا يُظنّ ممّا سبق أنّ المرضَ مطلَب منشود، لا وكلاّ، فإنّه لا ينبغي للمؤمن الغرّ أن يتمنّى البلاء، ولا أن يسألَ الله أن ينزلَ به المرض، فلقد قال رسول الله : ((سلوا اللهَ العفوَ والعافية، فإنّ أحدًا لم يعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية)) رواه النسائي وابن ماجه(12)[12]. وقال مطرّف: "لأن أُعافى فأشكُر أحبُّ إليّ من أن أبتلى فأصبر"(13)[13].
ومِن هنا نعلمُ جيّدًا أنّ المرض ليس مقصودًا لذاته، وإنّما لما يفضي إليه من الصّبر والاحتساب وحُسن المثوبة وحمدِ المنعم على كلّ حال، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: "المصائبُ التي تجري بلا اختيار العبدِ كالمرض وموتِ العزيز عليه وأخذِ اللصوص مالَه إنّما يثاب على الصّبر عليها لا على نفسِ ما يحدث مِن المصيبة، لكنّ المصيبةَ يكفَّر بها خطاياه، فإنّ الثواب إنّما يكون على الأعمالِ الاختيارية وما يتولّد عنها" انتهى كلامه(14)[14].
ومِن هذا المنطلَق ـ عباد الله ـ اجتمع الكافر والمسلم والبرُّ والفاجر في مصيبة المرض على حدّ سواء، وافترقا في الثمرةِ والعاقبة، ولا يسوّي بينهما في ذلك إلا أليغ(15)[15] أرعن واقع فيما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنّكم ترونَ الكافرَ من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتلقون المؤمن من أصحِّ النّاس قلبًا وأمرضِهم جسمًا، وايْمُ الله لو مرضَت قلوبُكم وصحَّت أجسامكم لكنتم أهونَ على الله مِن الجعلان)(16)[16]. ودخل سلمان الفارسيّ رضي الله عنه على مريضٍ يعوده فقال له: (أبشِر فإنّ مرضَ المؤمن يجعله الله له كفّارة ومستعتبًا، وإنّ مرضَ الفاجر كالبعير عقله أهلُه ثمّ أرسلوه، فلا يدري لم عُقل ولم أرسِل)(17)[17].
عبادَ الله، إنّ الإسلامَ حينما يرغّب في الصبر على البلوى ويبيّن ما تنطوي عليه الأسقام من آثارٍ شافية وحكمٍ كافية فلا يفهم مخطِئ أنّه يمجّد الآلام ويكرِّم الأوجاعَ والأوصاب، إنّما يحمَد الإسلام لأهلِ البلوى وأصحابِ الأسقام رباطةَ جأشِهم وحسنَ يقينهم، مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147].
اشتكى عروة بنُ الزّبير الآكلةَ في رِجله، فقطعوها من ركبته وهو صامِت لم يأنّ، وفي ليلته تلك سقَط ولدٌ له مِن سطحٍ فمات، فقال عروة: "اللهمّ لك الحمد، كانوا سبعةً مِن الولد فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ستّة، وكان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثًا، فإن كنتَ قد أخذتَ فلقد أعطيتَ، ولئن كنتَ قد ابتليتَ لقد عافيتَ"(18)[18]، فرحمَ الله عروة وغفر له، فلقد كان بعضُ المرض عندَه أهونَ من بعض، وبلاؤه أهونَ من بلاء غيره، فهان عليه مرضه، وهانت عليه بلواه، وهذا هو ديدنُ المؤمن، ينظر بعين بصيرته، فيحمد الله على أمرين: أوّلهما دفعُ ما كان يمكن أن يحدثَ من هُنيزةٍ(19)[19] أكبر حيث علِم أنّ في الزّوايا خبايًا، وفي البَرايا رزايا، وثانيهما بقاءُ ما كان يمكِن أن يزولَ من صحّةٍ غامرة وفضلٍ جزيل، فهو ينظر إلى النّعمة الموجودة قبلَ أن ينظرَ إلى النّعمة المفقودة.
عباد الله، إنّ الأسقامَ إذا استحكمَت وتعقّدت حبالُها وترادفت حلقاتُها وطال ليلُها فالصّبر وحدَه هو العاصِم بأمر الله مِن الجزع عند الرّيَب، وهو الهداية الواقية من القنوط عند الكُرَب. فلا يرتاع المؤمن لغَيمة تظهر في الأفق ولو تبِعتها أخرى وثالثة، بيد أنّ الإنسان إبّان لَهيعته(20)[20] يتجاهل الحقائقَ، فيُدهَش للصّعاب إذا لاقته، فيُنشِئ له مِن طبعه الجزوع ما يبغِّض إليه الصبرَ، ويجعله في حلقه مرَّ المذاق، فيتنَجنَج(21)[21] ويضيق ويحاوِل أن يخرجَ من حالته على نَكَظ(22)[22]، فينسى قولَ خالقِه: خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَاتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37].(4/119)
واستمِعوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى ما قصّه رسولنا عن مرَض أيّوبَ عليه السلام، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((إنّ أيّوب نبيَّ الله لبثَ في بلائه ثماني عشرةَ سنة، فرفضه القريب والبعيد إلاّ رجلين من إخوانه، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدُوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَم والله، لقد أذنبَ أيّوب ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرةَ سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلمّا راحا إليه لم يصبِر الرّجل حتّى ذكر ذلك له، فقال أيّوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أنّ الله يعلم أنّي كنتُ أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجِع إلى بيتي فأكفِّر عنهما كراهيةَ أن يُذكَر الله إلاّ في حقّ، ـ قال: ـ وكان يخرجُ إلى حاجتِه، فإذا قضى حاجتَه أمسكتِ امرأته بيده، فلمّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيّوب في مكانِه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فاستبطأته فبلغته، فأقبلَ عليها قد أذهبَ الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلمّا رأَته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبيَّ الله هذا المبتلى؟ والله على ذلك ما رأيتُ أحدًا كانَ أشبهَ به منك إذ كان صحيحًا، قال: فإنّي أنا هو، وكان له أندران(23)[23]: أندر القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلمّا كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتّى فاض، وأفرغت الأخرى على أندرِ الشعير الورق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه الذهبي(24)[24].
فانظروا عبادَ الله، وانظروا ـ أيّها المرضى ـ إلى أيّوب وصبره، فلقد صدقتِ الحكمة ولقد صدق قائلها: الصبرُ صبرُ أيّوب، ثماني عشرة سنة وهو يتقلّب في مرضه لتكونَ عاقبة صبره يسرًا، وكثيرًا ما تكون الآلام طهورًا يسوقه الله بحكمتِه إلى المؤمنين الصّادقين لينزعَ منهم ما يستهوِي ألبابَهم مِن متاعِ الدنيا، فلا يطول انخداعُهم بها أو ركونهم إليها، ورُبّ ضارّة نافعة، بل كم من مِحنة محويّة في طيِّها مِنَح ورحماتٌ مطويّة.
اللهمّ إنّا نسألك العفوَ والعافية والمعافاةَ الدائمةَ في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ ثمّةَ أمورًا يجب أن يعرفَها المرضى.
فمنها البشرَى لكلّ مريض أعاقه مرضُه عن القيام بالسّنن والنوافل التي كان يواظِب عليها إبّان صحّته بأنّها مكتوبة له لا يضيع أجرُها، فقد قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أو سافر كتِب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري(25)[1].
كما ينبغي التنبّه إلى ما يقع فيه بعضُ المصابين ببعضِ الأمراضِ لا سيّما النفسية منها من العلاج بالمعازف والغِناء الذي حرّمه الله ورسوله، فإنّ شفاء الأمّة لم يكن قطّ فيما حرّمه الله عليها، ومعلومٌ أنّ الأدوية ثلاثة: دواء مشروع كالرّقية والعسل وزمزم ونحو ذلك، ودواء مباح وهو ما لم يحرّمه الشارع ولم يأمر به، وأدوية محرّمة لا يجوز التداوي بها، وإنّ لكل داء دواءً، علمه من علمه وجهله من جهله.
ثمّ ليعلم المرضى أنّه لا ينبغي التهاونُ بالصلاة حالَ المرض، فيجب أن تصلَّى في وقتها إن استطاع، فإن لم يستطِع جمع بين الظهر والعصرِ وبين المغرب والعشاء رخصةً من الشارع الحكيم. كما يجِب عليه أن يتطهّر للصلاة التطهّرَ الشرعي، فإن لم يستطع فإنّه يتيمّم، فإن لم يستطع فإنّه يصلّي على حاله، ولا يدع الصلاة تفوت عن وقتها؛ لأنّ الله يقول: فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول سبحانه: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:233].
ثمّ ليعلمِ المرضى أنّ الأنين والتوجّع له حالتان: الأولى أنين شكوى فيكرَه، والثانية أنينُ استراحة وتفريج فإنّه لا يكره، بذلك قال ابن القيّم وغيره من المحقّقين.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأذكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عزّ من قائل عليم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد. اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين...
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/25) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/629) لابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة.(4/120)
(2) سنن أبي داود: كتاب السنة (4700) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطيالسي (577)، وأحمد (5/317)، والترمذي في التفسير (3319) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وهو في صحيح سنن أبي داود (3933).
(3) أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/264)، وأسلم بن سهل في تاريخ واسط (ص90)، وأبو نعيم في الحلية (4/289).
(4) صحيح مسلم: كتاب الزهد (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(5) شفاء العليل (ص250).
(6) مسند أحمد (3/316) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أبو يعلى (1892)، والبيهقي في الشعب (9967)، وصححه ابن حبان (2935)، والحاكم (1280)، وقال المنذري في الترغيب (4/153) والهيثمي في المجمع (2/306): "رواة أحمد رواة الصحيح"، وهو في صحيح الترغيب (3442).
(7) صحيح البخاري: كتاب المرضى (5647، 5648، 5660، 5661، 5667)، صحيح مسلم: كتاب البر (2571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(8) مسند أحمد (3/23) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (7489)، وأبو يعلى (995)، والبيهقي في الشعب (9971)، وصححه ابن حبان (2928)، والحاكم (7854)، والحافظ في الإصابة (1/27)، وقال الهيثمي في المجمع (2/302): "رجاله ثقات"، وهو في صحيح الترغيب (3433).
(9) مسند أحمد (2/440)، سنن ابن ماجه: كتاب الطب (3470) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (2/440)، والترمذي في الطب (2088)، والطبراني في الأوسط (10)، وأبو نعيم في الحلية (6/86)، والبيهقي في الكبرى (3/381)، وصححه الحاكم (1277)، وهو في السلسلة الصحيحة (557).
(10) 10] أي: يضجر ويقلق.
(11) 11] صحيح مسلم: كتاب البر (2575) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(12) 12] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجه في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849) من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطيالسي (5)، وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558)، والبزار (75)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (1938)، والضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3104).
(13) 13] أخرجه هناد في الزهد (1/254)، وأبو نعيم في الحلية (2/200)، والبيهقي في الشعب (4/105).
(14) 14] مجموع الفتاوى (10/124).
(15) 15] أي: أحمق.
(16) 16] أخرجه هناد في الزهد (1/247)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/135).
(17) 17] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (473).
(18) 18] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/179)، والبيهقي في الشعب (9978) بنحوه.
(19) 19] أي: أذية.
(20) 20] أي: فترته وكسله وغفلته.
(21) 21] أي: يضطرب.
(22) 22] أي: على استعجال.
(23) 23] الأندر هو البيدر: المكان الذي توضع فيه الحنطة.
(24) 24] أخرجه ابن حبان (2898)، والحاكم (4115)، وكذا أبو يعلى (3617)، والطبري في تفسيره (23/167)، وأبو نعيم في الحلية (3/374-375) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع"، وصححه الضياء في المختارة (2616، 2617)، وقال الهيثمي في المجمع (8/208): "رواه أبو يعلى والبزار ورجال البزار رجال الصحيح".
(25) صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2996) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
============
حِكم الابتلاء(1)
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
15/2/1418
جامع جامعة الملك فهد
الخطبة الأولى
أيها الإخوة، يصوّر أحدُ الشعراء الغيورين وضعَ الإسلامِ اليوم قائلاً:
أين اتجهتَ إلى الإسلامِ في بلدٍ…تجده كالطيرِ مقصوص جَناحاه
نعم، لقد صدق، فالإسلامُ اليومَ مستهدفٌ من أعدائه، ومحاصرٌ في بلاده، ومضطهدٌ من أبنائه، ومحقّرٌ وممتهن ومشكك في صلاحيته، رغم أن الله وصف الإسلامَ والقرآنَ والالتزام بشرعه بأنه برهان ونور وهدى في عدة آيات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، وقال: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]، وقال: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الحديد:9]، وقال: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، وقال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3799)(4/121)
أقول: رغم هذا الوصف ممن له الخلق والأمر ورغم كل هذه الآيات وغيرِها تَعجبُ كيف يجرؤ بعضُ أبنائه بوصفِ حُكمِ الإسلامِ ومنهجِه بالظلام ووصف دعاتِه بالظلاميين، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
ويا لها من جراءة بل وقاحة، ولو صدر هذا الطعن من الكفرة لقلنا: ليس بعد الكفر ذنب، ولكنه يصدر ممن يدّعون الإسلام.
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة…على النفس من وقع الحسام المهند
وصدق المتنبي:
ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ…يجد مرًا به الماءَ الزّلالا
بل صدق اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، وأنى لمن يحاربُ النورَ الرباني أن يكون له نورٌ؟!
أتدري متى سيدركُ هؤلاء أنهم هم الظلاميون، إن لم يتوبوا ويعودوا إلى إسلامهم؟! سيدركون ذلك يوم يطلبون بذلّ ومهانة ممن يتهمونهم بالظلامية أن ينتظروهم، لماذا؟ ليقتبسوا من نورهم يوم تُطفأ أنوارُ جميعِ المخادعين، سبحان الله! يقتبسوا من نور من كانوا يسمونهم ظلاميين!! نعم استمع وتأمل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:12-14].
أيها الإخوة، إن المسلمَ ليحارُ ـ ما لم يدركْ حِكمةَ الله ـ عندما يرى أولياءَ الله وقد تسلط عليهم أعداءُ الله من الكفرة المجاهرين والمنافقين المخادعين، يسومونهم سوء العذاب، ويضعون العراقيل أمام مشروعهم الإسلامي، لا عقوبة من الله على تقصير منهم في طاعتة وإن لم يخْلُ، بل لأنهم مطيعون له وصادقون، وتزدادُ حَيرتُه ليقينه بعدل الله تعالى وعلمه بأنه لا يظلم أحدًا، وأنه سبحانه أغيرُ على دينه من دعاته، بل من أنبيائه الذين تعرضوا حتى للقتل من أعدائهم، أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
أضف إلى ذلك أن الله بيده مقاليدُ كلِ شيء، ولا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وأمره بين الكاف والنون، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، ومع ذلك لم يعاجلْ الصادينَ عن دينه والمحاربين لأوليائه، الأمر الذي زاد المؤمنَ حَيرةً إلا أن يكون مدركًا لِحِكَمِ الله فلا تزيده إلاّ يقينًا وتسليمًا، كما قال: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، وهذا الوضعُ كذلك زادَ الكافرين تماديًا وتكذيبًا، وزاد المنافقين اضطرابًا وتشككًا، لذلك لا بد من بيان بعضِ حكم الابتلاء عمومًا، والابتلاء من أجل دين الله ودعوته خصوصًا.
أولها: الإعدادُ الحقيقيُ لتحمل الأمانة. إن أيَ عَملٍ كلما كان دقيقًا أو معقدًا كان المرء محتاجًا إلى بذل جهد أكبر في الإعدادِ له والتدربِ من أجله، ولمّا كان العمل لدين الله يتميّز بأنه عملٌ متنوعٌ وواسعٌ ومستمرٌ ومسؤولية الفرد فيه تزداد يومًا بعد يوم، بل مسؤوليتُه بعد الانتصار أعظمُ منها قبل ذلك؛ كان لا بد له من إعدادٍ خاصٍ مكافئٍ لضخامة هذا العمل؛ ولذلك شاء الله أن يخضعَ المؤمنون وفي مقدمتهم الأنبياءُ لصنوف من الاختباراتِ الصعبة والتدريباتِ الشاقةِ لتحمل المسؤولية الكبرى، مسؤوليةِ الاستخلافِ في الأرض والتمكينِ لدين الله وإقامةِ العدل، ولأن التمكين وعد من الله فلا بد للأمة من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام، كما يقول سيد رحمه الله.
فمنذ أن أذن الله بصحوة الأمة من غفلتها ومِن لامبالاتها بدينها بدأ حملُها، وبدأت معه آلامُ الحمل، هل رأيت حملاً بلا آلام أو ولادةً بلا مَخاض؟! هذه واحدة فاعقلها.(4/122)
والثانية: المحافظةُ على الأمانة بعد تسلُّمِها. من المعلوم أن الشعورَ بقيمة الشيء يتناسبُ تناسبًا طرديًا مع ما يُبذلُ في سبيله، ومسؤوليةُ الخلافةِ وإقامة العدل في الأرض لا يتأتى إلا بالتضحيات والآلام، ولن يحافظَ على هذه الأمانة بعد تسلّمها إلا مَن بَذَل في سبيلها الغاليَ والنفيسَ، وأرخص في سبيلها كلَ عزيز، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، يقول سيد رحمه الله: "وعندئذ تُمحّص الصفوفُ، فيتميز الأقوياء من الضعفاء، وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها واجتازوا امتحانها وبلاءها، أولئك هم الأمناء عليها الذين يتحملون تكاليف النصر وتبعاته، وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين".
والثالثة: تطهيرُ الصفِ من الأدعياءِ. يدعي الإيمانَ بل والغَيرةَ على الدين وقت العافية والسراء كلُ أحد، لكن هذه الدعوى تحتاج إلى دليل وإثبات، فكان الابتلاءُ هو الميزانُ الذي يتميز به الصادقُ من الكاذبِ، والمؤمنُ من المنافق، والطيب من الخبيث، والأصيل من الدخيل، كما قال: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، وقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، يقول صاحب الظلال: "ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عُودها، ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحابها هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصرُ المؤمنةُ القويةُ المتجردة، التي لا تبغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
الخطبة الثانية
ومنها: محبةُ الله لهم ورفعُ درجاتهم. قد يكون الابتلاءُ دليلاً على حب الله للمبتلى وإرادةِ الخيرِ له، فلعل الله يريد أن يُبلغه درجات عاليةً في الجنة، فيبتليه ليبلغه ذلك المقام، أو ليكفّرَ عنه خطاياه، ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله : ((إن عظم الجزاء مع عظم الجزاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُخط))، وفي الترمذي أيضا عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرًا عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة))، وفيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)).
ولهذا كان الابتلاء مع الاستقامة دليلاً على قوة الإيمان والمكانة عند الله، لا كما يظن الجهلةُ والشامتون أن هذا دليلٌ على خطأ طريقهم وضلالهم، وربما زادوا جهالةً وسفاهةً فاستشهدوا بحال أنفسهم، وقالوا: ها نحن لم نبتلَ، وهذا دليلٌ على صحة طريقنا.
أما الرد على هذه المغالطات فأن يقالَ لهم: قد قال المنافقون الأولون وهم يؤذون سيدَ المرسلين قريبًا من هذا: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ، فكان الردُّ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة:8].
أما الرد الفصلُ على هذه الشبهة أو المغالطة، فهو ما رواه الترمذي عن سعد قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمثل ثم الأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينُه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئةً))، فهل يعي الجهلةُ والمتشمتون هذه السنن والمعاني والمعادلات الصعبة التي لا يعقلها إلا المؤمنون؟! وتقديمُ الدليلِ العملي على جدارةِ الدعوة وصدقِِ دُعاتها.
أيها الإخوة، إن هذا الدينَ عجيبٌ، يأتي أعداءه من حيث لم يحتسبوا، فأعداؤه يظنون أن التضييقَ عليه واضطهادَ دعاتِه سيكون مُنفرًا للعامة ومرعبًا للخاصة، فإذا العكس هو الصحيح، اشتدّ عودُ الخاصةِ وأقبل العامةُ، كما قال الله: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2].
أما الدعوات الأرضية أو الزائفة فنعم، تتلاشى تحت ضربات أعدائها وتندثر، وفي هذه الأيام قضية حيّة شبيهة يراهن عليها كثيرٌ من المراقبين والمستطلعين للآراء، بأنه لو أجريت انتخابات في ذلك البلد لفاز بها دُعاةُ الإسلام، رغم الاضطهادات التي تعرضوا لها من اللادينيين في ذلك البلد الذي يدعي الديمقراطية.(4/123)
أيها الإخوة، إن كثيرين أقبلوا على الدعوة عندما رأوا ثباتَ أهلِها واصطبارَهم على تَحمّل الابتلاءِ الذي لا تثبت له الجبالُ الراسياتُ، يقول سيد رحمه الله: "والذي يقع غالبًا أن كثرة الناس تقف متفرجةً على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات، حتى إذا تضخم رصيدُ التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات وهم ثابتون على دعوتهم ماضون في طريقهم قالت الكثرةُ المتفرجة أو شَعرت أنه لا يتمسك أصحابُ الدعوة على دعوتهم ـ على الرغم من التضحيات والآلام ـ إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن، وعندئذ تتقدم الكثرةُ المتفرجةُ لترى ما هذا العنصرُ الغالي الثمينُ الذي يرجحُ كلَ أغراض الحياة، بل ويَرجحُ الحياةَ ذاتَها عند أصحاب الدعوة، وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجًا في هذه العقيدة بعد طول التفرجِ بالصراع".
ونختم حديثنا بمناداة الصادين عن دين الله خاصة ممن يدعي الإسلام بنداء الجن لقومهم لما عرفوا الحق: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:31 ، 32]، ونقول للمضطهدين من أجل دينهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].
=============
الابتلاء(1)
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
الخطبة الأولى
عباد الله، الابتلاء سنةُ الله في خلقه، يبتليهم بالخير والشر والضار والنافع، ليرى صدق الصادقين وإقبال المقبلين عليه، فمن أُلهم الإنابة والتضرع والدعاء عند نزول البلاء فقد أريد به الإجابة. والناس في هذه الدنيا متقلبون فيها بين خير وشر ونفع وضر، وليس لهم في أيام الرخاء إلا الشكر والثناء، ولا في أيام المحنة والبلاء إلا الصبر والدعاء، وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ما من ليل إلا بعده صباح، وما من ضيق وشدة إلا بعده فرح ومخرج:
تصبّر إن عقبَى الصبر خيرٌ…ولا تجزع لنائبة تنوبُ
فإن اليسر بعد العسر يأتي…وعند الضيق تنكشف الكروبُ
وكم جَزعت نفوسٌ من أمور…أتى من دونِها فرجٌ قريب
والرسول في هذا الباب يذكرنا بقصة الثلاثة الذي اختارهم الله للابتلاء، وكيف أن الله سبحانه نجاهم بإخلاصهم وصدقهم ودعائهم له سبحانه وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: ((انطلق ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار ـ أي: دخلوا الغار للمبيت فيه قال: ـ فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ـ أي: يتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم أي: بأرجي عمل عملوه لله تعالى ـ قال الأول: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبِقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً ـ أي: لا أقدم عليهما أحدًا بهذا الغبوق من الحليب ـ قال: فنأى بي طلب الشجر يومًا ـ أي: استطرد مع غنمه في المرعى إلى أن بعُد عن مكانه على غير العادة ـ قال: فلم أرح عليهما ـ أي: لم أرجع عليهما ـ حتى ناما، فحلبت لهما غبُوقهُما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي ـ أي: يتصايحون ببكاء من شدة الجوع ـ قال: فاستيقظا فشربا غبُوقهُما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت لا يستطيعون الخروج منه)).
الله أكبر عباد الله، فهذا الرجل بلغ مبلغًا عظيمًا في بره بوالديه لأن الله عز وجل قال: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أقبل رجلٌ إلى نبي الله فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، فقال: ((هل لك من والديك أحد حي؟)) قال: نعم بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟!)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) متفق عليه.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4256)(4/124)
قال الثاني: ((اللهم إنه كانت لي ابنة عمّ كانت أحبّ الناس إلي)) وفي رواية: ((أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها ـ أي: طلبت منها ما يطلب الرجل من زوجة ـ فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين ـ أي: ألمت بها حاجة ـ قال: فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه ـ أي: لا تزل عفافي وبكارتي إلا بزواج صحيح ـ قال: فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم))، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
الله أكبر عباد الله، مخافة الله جعلت هذا الرجل ينصرف عن ابنة عمّه، والتي تمكن منها بعد أن وعظته بتقوى الله عز وجل.
أما الثالث فقال: ((اللهم إني كنت استأجرت أجيرًا بفَرَق أرُزٍّ، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فَرقَه فرغب عنه، فثمّرتُ أجره ـ أي: كثّرت أجره بتنميته حتى أصبح مالاً كثيرًا ـ قال: فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فارتعجت، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، فقلت: اذهب إلى تلك البقر ورِعائها فخذها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي، فخرجوا يمشون)) متفق عليه.
الله أكبر عباد الله، حفظ مال أجيره، بل ونماه، ولمّا رجع إليه أخذ كل شيء له، سبحان الله عباد الله، أين هذا الرجل لينظر صورَ الظلم لهؤلاء الأجراء والعمال في هذا الزمن وما يقوم به الكفلاء نحو مكفوليهم؟! بعضهم يؤخر مرتبه شهورًا عديدة أو يعطيه جزءًا منه ويماطل في الجزء المتبقي، فيتذلل هذا العامل لكفيله، ولربما سابقت دموعُه كلماتِه، لكن دون جدوى، فأين هؤلاء من قول المصطفى : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) رواه ابن ماجه؟!
عباد الله، من أعظم العبر والدروس من قصة هؤلاء الثلاثة التعرف على الله في الرخاء، فإن هؤلاء الثلاثة دعوا الله بإخلاص، واستذكروا أعمالاً صالحة كانوا تعرفوا فيها على الله في أوقات الرخاء راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، كما ورد في الحديث الصحيح: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) رواه أحمد.
وانظروا ـ عباد الله ـ فضل بر الوالدين وخدمتهما وإيثارهما على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما، وانظروا ثمرة العفاف والكف عن الحرام، وكذلك فضل حُسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل بعد الشدة فرجًا، ومن الضيق سعة ومخرجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، يقول الله تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأرْضِ أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60]، وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس : ((واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا)) رواه أحمد وصححه الألباني، وكتب عمر لأبي عبيدة : (مهما نزل بامرئٍ من شدة إلا جعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين).
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من عباده المتقين، ولازموا الاستغفار، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، اللهم فرّج همّ المهمومين ونفِّس كرب المكروبين، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه...
=============
سنة الابتلاء(1)
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
16/10/1426
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا الله وابتَغوا إليه الوسيلةَ، وتوكّلوا عليه وأنيبُوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، وادعُوه خوفًا وطمَعًا، واذكروا وُقوفَكم بَين يدَيه، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4509)(4/125)
أيّها المسلِمون، عندَما يَنزِل البَلاء وتحُلّ المِحَن وتدلهمّ الخطوب وتَعُمّ الرزايا تَضطرِب أفهامُ فَريقٍ مِنَ النّاس، وتلتاثُ عُقولُهم، وتطيش أحلامُهم، فإذَا بِهم يذهَلون عَن كثيرٍ منَ الحقّ الذي يَعلَمون، ويَنسَون منَ الصّواب ما لا يجهَلون، هنالك تقَع الحَيرة ويثور الشّكّ وتروج سوقُ الأقاوِيل وتُهجَر الحقائق والأصولُ وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس ويُحكَم على الأمورِ بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتاب منير، ففي غَمرةِ الغفلةِ يَنسَى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاءِ مَاضيةٌ في خَلقِه، وأنَّ قضاءَه بها نافِذٌ فيهم، وكيفَ ينسَى ذلك وهو يَتلو كتابَ ربِّه بالغداةِ والعَشيّ، وفيه بيانُ هذه الحقيقةِ بجلاءٍ لاَ خفاءَ فيه ووضوحٍ لا مزيدَ عليه، حيث قال سبحانَه: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقال عزّ اسمه: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ [آل عمران:186]، وقال تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال تقدّست أسماؤه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].
إنّها ـ يا عبادَ الله ـ سنَّة ربانيّةٌ عامّة لم يَستَثنِ الله منها أَنبياءَه ورسُلَه مع علوِّ مقامِهم وشرفِ منزلتِهم وكرمِهم على ربّهم، بل جعَلهم أشدَّ الناس بلاءً كما جاءَ في الحديثِ الذي أخرجَه التّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه في سننهم وأحمد في مسنده وابن حبّانَ في صحيحه بإسنادٍ صحيحٍ عن سعدِ بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ فقال رسولُ الله : ((أشدُّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثَلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجل على حسَب دينِه، فإن كان في دِينِه صلبًا اشتَدَّ بلاؤه، وإن كان في دِينه رِقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البَلاءُ بالعبدِ حتّى يَتركَه يمشِي علَى الأرض ومَا عَليه خَطيئة))(1)[1].
وقد نَزَل برسولِ الله مِن هذا البَلاءِ ما هو مَعلومٌ لكلِّ مَن وقَف على طَرَفٍ من سيرتِه وتأمَّل شيئًا من أَخبارها، وحَسبُكم ما نَاله مِن أذَى قومِه، وتكذيبِهم له، واستِهزائِهم به، وصَدِّهم النّاسَ عن سَبيلِه، وحملِهم لَه على مُفارقةِ وطَنه ومُبارحةِ أرضِه، وإعلانِ الحرب عليه، وتأليبِ النّاسِ حتى يُناصِبوه العداءَ ويَرموه عن قوسٍ واحدة، وغَزوِهم دارَ هِجرتِه ومَقرَّ دَولتِه ومأمنَ أهلِه وصَحابتِه للقضاءِ عليه ووَأدِ دينِه واستئصالِ شَأفَته، وممالأةِ أعدائِه من اليهود والمنافِقين في المدينة عليه، وكيدِ هَؤلاء له، ومكرِهم به، ونقضِهم ميثاقَهم الذي وَاثَقهم به، والتحالفِ [مع] المشركين على حربه، وسعيِهم إلى قتله غِيلة وغدرًا، بعدَما استَيأسوا من بلوغِ ما يرِيدون في ساحاتِ الوَغى وميادين النِّزال، فكَان مَثَلُه صَلَوات الله وسَلامه عليه كَمَثلِ مَن سبَقه على دربِ الابتِلاء من إخوانِه النّبيّين ثابِتًا للمحن، صابرًا على البَلاء، مجاهدًا في الله حقَّ جِهادِه حتّى أتاه نصرُ الله وفتحُه، ودَخَل النّاس في دِين الله أَفواجًا، وغَمَرت أَنوارُ الإيمان القلوب، فلحِق بربّه ومَضى إلى خالقِه رَاضيًا مرضيًّا، طيِّبَ النّفسِ قَريرَ العين، تارِكًا في أمّتِه مِن بعدِه شيئين ما إن تمسَّكوا بهما لن يضلّوا بعده أبدًا: كِتابَ اللهِ وسنّته عليه الصلاة والسلام كَما صَحّ بذَلك الحَديث(2)[2].(4/126)
عبادَ الله، إنّه لم يَكن عَجبًا أن ينهَجَ رَسول الله هذَا النهجَ هو وَالنبيّون من قَبلِه وأتباعه مِن بعده؛ فإنّهم يستَيقِنون أنَّ الله تعالى لم يَكتُب هذهِ السّنّةَ على العبدِ لِيهلكَه أو يقتلَه، أو يوردَه الموارد حتّى تضيق عليه نفسُه وتضيق عليه الأرضُ بما رحُبت وتورِثه فسادَ الحالِ في العاجلة وسوءَ المآلِ في الآجِلة، وإنّما كتبَها لحِكَمٍ عظيمة وفَوائدَ جليلةٍ ومقاصدَ جميلة تكاد تَربو على الحصرِ وتجِلّ عن العَدِّ، فمِن ذلك أنَّ هذه البَلايا إنّما جاءَت ليَمتَحِن الله بها صَبرَ عبدِه وليَبتَليَه فيتبيَّن حينئذٍ صَلاحُه لأن يكونَ مِن أوليائِه وحِزبِه المفلِحين، فإن ثَبتَ للخطوبِ وصَبر علَى البَلاء اصطَفَاه واجتباه، وخَلعَ عَليه خِلَع الإكرَام، وألبسَه ألبِسةَ الفضل، وكساهَ حُللَ الأجرِ، وغشَّاه أَغشيةَ القَبول، وختم له بخاتمةِ الرّضوان، وجعل أوليَاءَه وحِزبَه خدمًا لَه وعونًا. وإنِ انقلبَ على وجهه ونَكَص على عَقِبيه طُرد وأقصِي، وحُجِب عنه الرِّضا، وكُتب عليه السّخط، وتضاعفت عليه أثقال البلاء، وهَزمَته جيوشُ الشقاء، وهو لا يشعرُ بِتضاعُفٍ ولاَ هزيمة، لكنّه يَعلم بعد ذَلك أنَّ المصيبةَ صارَت في حقِّهِ مَصائب، وما بَين هاتَين المنزِلَتين: منزلةِ الصّبر ومنزلةِ السّخَط ـ كما قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله ـ صبرُ ساعة وتشجيعُ القَلبِ في تِلكَ السّاعة، والمصيبَةُ لاَ بدَّ أن تقلِع عن هذا وهذا، ولكن تُقلِعُ عن هذا بأنواعِ الكراماتِ والخَيرات، وعن الآخَرِ بالحِرمان والخِذلان؛ لأنَّ ذلك تقديرُ العزيز العليم، وفضلُ الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. انتهى كلامه يرحمه الله(3)[3].
فعطاءُ الصبر إذًا هو خيرُ مَا يُعطى العبد من عطاءٍ كما جاء في الصّحيحين عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((ما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأَوسعَ من الصّبر))(4)[4].
ومِن حِكَم الابتلاء ـ أيّها الإخوة ـ تحقيقُ العبوديّة لله، فإنَّ الله تَعالى يُربِّي عَبدَه على السّرّاء والضّرّاءِ والنّعمةِ والبلاء، حتّى يستَخرجَ منه العبوديّة في جميعِ الأحوال، إذِ العبدُ على الحقيقةِ هو القائمُ بعبوديّة الله على اختِلافِ أحوالِه، أمّا عبدُ النِّعمة والسّرّاء وهُو الذي يعبُد اللهَ على حرفٍ، هو الشّكّ والقَلقُ والتّزلزل في الدّين، أو على حالٍ واحدة، فإِن أصابَه خيرٌ اطمأنّ به، وإن أصابَته فتنةٌ انقلبَ على وجهِه، فهذا ليسَ من عبيده الذين اختارَهم سبحانه لعُبوديّته وشرَّفهم بها ووَعدَهم بحسنِ العاقبةِ عليها.
فالابتلاء ـ يا عبادَ الله ـ كيرُ القلوب ومحَكُّ الإيمان وآيةُ الإخلاصِ ودَليل التّسليم وشاهدُ الإِذعانِ للهِ، وهُو كالدّواء النّافع يسوقه إلى المريضِ طبيبٌ رَحيمٌ به ناصحٌ له عَليمٌ بمصلَحتِه، فحقُّ المريضِ العاقِل الصبرُ علَى تجرّع صابِهِ وعَلقمِه، ولا يتقيَّؤُه بالسّخَط والشّكوَى لئلاّ يتحوَّل نفعُه ضَررًا، فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
فعَلى المسلمِ عندَ نزولِ البلاءِ أن يكونَ صابرًا على الخطوب قائمًا بأمر الله محتسِبًا أجرَه عند الله.
ألا وإنَّ للصبر على البلاء أسبابًا تعين عليه وتذلِّل السّبيلَ إليه، منها صِدقُ اللّجوء إلى الله، وكمالُ التوكّل عليه، وشدّة الضّراعة إليه، وتمامُ الإنابة إليه، وصِدقُ التّوبَة بهجرِ الخطايا والتّجافي عنِ الذنوب، فقد قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزَلَ بلاءٌ إلا بذَنب، ولا رُفِع إلا بتوبة)(5)[5].
وأيضًا عليه تحسينُ الظنِّ بالإخوَة في الدّينِ عَامّة وبِأهلِ العِلم والفضلِ خاصّة؛ بحملِ أقوالِهم وأعمَالِهم على أَحسنِ المحامِل وأجملِها، وعليه الرّجوع إلى الراسخين في العلم باستيضَاحِ ما يُشكل والسّؤالِ عما يُجهَل.
وعَليه الحذرُ مِن الإعجاب بالرّأي، والبعدُ عَن التعجّل في إطلاقِ الأحكَام، والتسرّع في تفسير المواقف بمجرّد الهوى أو بالوقوعِ تحتَ تأثير ما يُسمَّى بالتّحليلات على اختِلافِ موضوعاتِها وتعدُّد مصَادرِها، لا سيّما حين تصدُر عَمّا لا يُعلَم كمالُ عقلِه ولا صِحّة مُعتقَده ولا سَلامَة مقصده ولا صِدق نصيحَتِه ولا صَفاءُ طويّته، ثم هي في الأعمّ الأغلَب علَى المصَالِح والمطَامِح والأهوَاء، ولذا يَشيعُ فيها الكَذِب والخطَأ والظلم.(4/127)
ويجبُ تركُ القيل والقال الذي كَرِهه الله لعبادِه كما أخبر بذلك رَسول الله بقولِه في الحديث الصحيح المتّفَق عليه عنِ المغيرة بن شعبَةَ رضي الله عنه أنّ رَسولَ الله قال: ((إنَّ اللهَ تعالى حَرَّم عليكم عقوقَ الأمّهات ووأدَ البناتِ ومَنعًا وهات، وكَرِه لكم قيلَ وقال وكَثرةَ السؤال وإِضاعةَ المال))(6)[6]، ويدخل فيه التّحديثُ بكلِّ ما يسمعُه المرء، فقد زجرَ النبيّ عن ذلكَ في الحديث الذي أخرجه مسلِم في صحيحه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّه قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكلِّ ما سمع))(7)[7]، وفي لفظٍ لأبي داودَ في سننِه بإسنادٍ صَحيح: ((كفى بالمرء إِثمًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع))(8)[8].
وإنَّه إذا كانَ حَريًّا بالمسلِم اتِّباعُ هذا النّهج الراشدِ السَّديد كلَّ حين فإنَّ اتباعَه له في أوقاتِ الشَّدائدِ وأزمِنةِ المِحن أشدُّ تأكّدًا وأقوَى وجوبًا وألزم امتثالاً، وصدقَ تعالى إذ يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابهِ وبسنّة نبيِّه ، أقول قَولي هذا، وأستَغفِر الله العَظيم الجليلَ لي ولَكم ولسائر المسلِمين مِن كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغَفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستَعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ لَه، ومن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهَد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلّم عليه وعلى آله وصَحبِه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا اللهَ واعلَموا أنّكم مُلاقوه، وراقبوه وتوكّلوا عَليه، وأخلِصوا له، وحقِّقوا توحيدَكم، فإنَّ توحيدَ العبدِ ربَّه صمامُ الأمان وضَمانُ الفوزِ وأصلُ السَّعادةِ وسببُ دخولِ الجنّةِ والنّجاةِ من النّار.
واعلَموا أنَّ خيرَ الحديثِ كِتاب الله، وخَيرَ الهدي هدي محمّد بن عبد الله، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعَة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذّ شذّ في النّار.
واذكروا على الدوام أنَّ الله تعالى قد أمَركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيّين ورحمة الله للعَالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورَسولِك محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الأربعة...
__________
(1) أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4022) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (1/40، 41)، والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة وعزاه من بين ما عزاه للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
(2) وهو قوله : ((تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وسنتي))، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
(3) طريق الهجرتين (ص417).
(4) صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1469)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1053).
(5) انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
(6) صحيح البخاري: كتاب الاستقراض (2408)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (593).
(7) صحيح مسلم: مقدمة صحيحه (5)، وقد اختلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (381)، ووافقه الذهبي، والحافظ في الفتح (10/407)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2025).
(8) سنن أبي داود: كتاب الأدب (4992) وقال: "لم يذكر حفص أبا هريرة، ولم يسنِده إلا هذا الشيخ"، يعني: علي بن حفص المدائني.
============
الابتلاء والصبر(1)
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
الخطبة الأولى
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4558)(4/128)
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وطاعته في المَنْشَط والمَكْرَه، وذكره في الرخاء والشدة، والصبر على طاعته وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أنكم تعيشون بدار ابتلاء وامتحان، وتحيون حياة فتن واختبار، رماح المصائب عليكم مُشْرَعَة، وسهام البلاء إليكم مُرْسَلَة، قضاء الله فيكم نافذ صائر، وحكمه فيكم حاصل سائر، لا رادّ لما قضاه وقدّره، ولا مانع لما أراده ودبّره، فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [غافر:68]، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38].
أيها المسلمون، لقد جبل الله الدنيا على الكَدَر وعدم الصفو، وقدّر أن تكون دار متغيّرات ومتناقضات، إن أضحكت يومًا أبكت أيامًا، وإن سرّت حينًا أحزنت أحيانًا، صحيحها إلى سَقَم، وكبيرها إلى هَرَم، وحيّها إلى فناء، ووجودها إلى عدم، شرابها سراب، وعمارتها خراب، هذا مستبشر بمولود فرح بقدومه، وذاك مغموم لفقد حبيب حزين لفراقه.
على ذا مضى الناسُ اجتماعٌ وفرقةٌ…ومَيْتٌ ومولودٌ وبِشْرٌ وأحزانُ
لا بدّ للمرء من ضِيقٍ ومن سَعَةٍ…ومن سرورٍ يُوافِيهِ ومن حَزَنِ
واللهُ يطلبُ منه شُكرَ نعمتِهِ…ما دام فيها ويبغي الصبرَ في المِحَنِ
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تَعْتَوِرْ فيها الأمراضُ والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذَبْحَ الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى ابن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضَّنْك، ومحمد يصابر الفقر وقَتْلَ عمه حمزة وهو أحب أقربائه إليه ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره، ولو خُلِقت الدنيا للذة لم يكن حظّ للمؤمن منها".
ودخل سلمان الفارسي على صديق له يعوده فقال: (إن الله تعالى يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه، فيكون كفارة لما مضى، فيستعتب فيما بقي، وإن الله عز اسمه يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه، فيكون كالبعير عَقَلَه أهله ثم أطلقوه، فلا يدري فيم عَقَلُوه حين عَقَلُوه، ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه).
نعم أيها الإخوة، إن الله يبتلي عباده جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، وبرّهم وفاجرهم، فكل يأتيه من المصائب والبلايا نصيب، فهذا يُبتلَى بمرض مُزْمِن، وذاك يُصاب بجائحة في ماله أو ولده، وهنا مُبتلَى بموت قريب، وهناك مصاب بفقد حبيب، ولكنّ الناس يختلفون في استقبال هذه المصائب والرزايا، فمنهم من يستقبلها بالتسخط والجزع، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا بشرّ المنازل وأدناها، ومنهم من يصبر ويصابر، ومنهم من يرضى ويستسلم، ومنهم من يشكر الله ويحمده.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: "الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
المرتبة الأولى: التسخط، وهو على أنواع: النوع الأول: أن يكون بالقلب، كأن يتسخّط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11]. النوع الثاني: أن يكون التسخّط باللسان، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام. النوع الثالث: أن يكون التسخّط بالجوارح، كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.
المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:
والصبرُ مثلُ اسمه مُرٌّ مَذَاقُهُ…لكنْ عواقبه أحلى من العَسَلِ
فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه، لكنه يحتمله، وهو يكره وقوعه، ولكن الصبر يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة، بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه، لكن صبر عليها.
المرتبة الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال : ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكُها))" انتهى كلامه رحمه الله.(4/129)
أيها المسلمون، هنالك أمران مما يسلّي المؤمن في مصيبته ويعينه عند محنته، ينبغي أن يضعهما كل مبتلى نصب عينيه وأمام ناظريه:
الأمر الأول: أن يعرف أن أهله وماله ملك لله عز وجل على الحقيقة، وأنه ليس إلا أمينًا على ما في يده، فإذا أخذه الله منه فكأنه رد الأمانة إلى صاحبها، فليس العبد هو الذي أوجد الشيء، وإنما المالك الحقيقي لذلك هو الله عز وجل، وهو المتصرف فيما يريد كيف يشاء.
الأمر الثاني: ما دام مصير العبد إلى الله فيجب عليه أن يعلم أن هذه الدنيا قصيرة مهما طالت، وأنه سيتركها عاجلاً أو آجلاً، وأنه سيلقى ربه كما خُلِق أول مرة بلا أهل ولا مال، وإنما سيلقاه بحسناته وسيئاته، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يفرح بموجود ويحزن لمفقود؟!
فيا من بليت بمصيبة أو رَزِيّة من مرض مزعج أو ألم مُضْن أو فقد قريب أو موت حبيب، عليك بالصبر؛ فإنه مرضاة للرب، مؤنس للقلب، مُذْهِب للهَمّ، طارد للغَمّ، مُعْظِم للأجر، مُؤْذِن بالعِوَض. عليك بالصبر؛ فإنه مطية لا تكبو، وصارم لا يَنْبُو، وحصن لا يهدم، وحَدّ لا يُثْلَم. عليك بالصبر؛ فإنه حسن توفيق وأمارة سعادة وعنوان إيمان ودليل إذعان.
إن الذي عَقَدَ الذي انعقدت له…عُقَدُ المكاره فيك يملك حَلّها
صبرًا فإن الصبر يعقب راحة…ولعلّها أن تنجلي ولعلّها
إذا ادْلَهَمّت الأمور واسودت الحياة وعظمت المصائب وكثرت الرزايا فالصبر ضياء. إذا نزل المكروه وحَلّ الأمر المخوف وعظم الجزع واحتيج لمصارعة الحُتُوف فالصبر التجاء. إذا انسدت المطالب وهيمن القلق واشتد الخوف وعظمت الكربة فالصبر دواء. إذا أصبح الدين في غربة والإسلام في كُربة وعمت المعاصي وعظمت الشبهات والشهوات فالصبر عزاء.
قال : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقّة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة))، ويقول : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط))، وعن أبي موسى أن رسول الله قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه: بيت الحمد))، وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة))، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها))، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة؟! أول بيت هاجر إلى رسول الله ، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي خيرًا منه: رسول الله . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه".
حدّثَ أحدهم فقال: كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن، ولقّنه من الفقه جانبًا كبيرًا، قال: فمات فجئت أعزيه، فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقّنته الحديث والفقه؟! قال: نعم، رأيت في منامي كأنّ القيامة قد قامت، وكأن صبيانًا بأيديهم قِلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم حارًا شديدًا حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر وقال: ليس أنت أبي، قلت: فأي أنتم؟ قال: فقال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلّفنا آباءنا، فنستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.
ألا فليتق الله كل مسلم يصاب بمصيبة أو رَزِيّة، وليحذر حال مصيبته كل الحذر أن يتكلم بشيء يسخط ربه ويحبط أجره مما يشبه التظلم، فإن الله تعالى عادل لا يظلم ولا يجور، عالم لا يضل ولا يجهل ولا ينسى، حكيم في أفعاله وأقداره، فعّال لما يريد، له الأمر من قبل ومن بعد، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)).
اصْبِرْ لكلِّ مصيبةٍ وتجَلَّدِ…واعلم بأنّ المرءَ غيرُ مُخَلَّدِ
أَوَما ترى أنّ الْمصائبَ جَمَّةٌ…وترى الْمنيّةَ للعباد بِمَرْصَدِ
مَن لم يُصب ممن ترى بمصيبةٍ…هذا سبيلٌ لستَ فيه بأَوْحَدِ
وإذا ذكرتَ مصيبةً تَسْلُو بها…فاذكر مُصَابَكَ بالنبي محمّدِ(4/130)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:153-157].
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته.
واعلموا أنه ليس الخطب في أن يصاب المرء في دنياه في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو قرابته، فهذه سنة الله عز وجل في عباده، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]، فقد تكون المصيبة لذنب ارتكبه أو لسوء فعله أو لظلم وقع فيه، نسيه أو تناساه، ولكن الله عز وجل مطّلع عليه، ويعلم سره ونجواه، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وفي سنن الترمذي عن أبي موسى الأشعري عن النبي أنه قال: ((لا يصيب عبدًا نَكْبَةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر))، ثم قرأ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. وقد تكون المصيبة ـ أيها الإخوة ـ من أجل تكثير الحسنات ورفع الدرجات، وقد تكون من أجل أن يشعر المسلم بضعفه وعجزه وافتقاره إلى ربه جل وعلا وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.
عباد الله، ليس الخطب في هذا، ولكنّ الخطب فيما وقع فيه أكثر الناس اليوم، وهو الجزع والهلع من المصيبة في الدنيا إذا وقعت، والتسخط والتأوّه منها، والإعراض عن الآداب الشرعية التي شرعت للمسلم عندما تحل به مصيبة في الدنيا، والوقوع في أعمال تنافي الإيمان وتضعفه في القلب، وتوجب الاعتراض على القضاء والقدر، ثم الغفلة بعد ذلك عن مصيبة الدين، فتجد المسلم يترك الصلاة ولا يعدّ ذلك مصيبة، يأكل الربا والرشوة ولا يعد هذا من البلاء، يقع في الفواحش والمنكرات ولا يعد هذا من الرزايا، يرفع الدشّ على سطح منزله ولا يعد ذلك رَزِيّة وبَلِيّة، يقع في عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام ولا يكترث لذلك، يقع في ظلم الناس وأكل أموالهم وحقوقهم ولا يخاف لذلك ولا يهتزّ له قلب أو عضو، لقد صدق في الناس اليوم قول الصحابي الجليل أنس بن مالك في أهل زمانه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي من الموبقات)، قال أبو عبد الله البخاري رحمه الله: "يعني بذلك من المهلكات".
============
ابتلاء الرسول والصحابة قبل الهجرة(1)
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة، علينا ـ ونحن نودع عاما هجريًا ونستقبل عاما آخر ـ أن نتذكر معًا أحداث الهجرة النبوية الشريفة المباركة، فلقد شاء الله تعالى لخير عبادهِ أن ينصر دينهُ ويُمَكِّنَهُ لمعتنقيهِ ذَوِي الإيمانِ والعملِ الصالحِ، بعد أن امتحنَهُم سبحانه بالشَّدائدِ ومستهم البأساءُ والضَّراءُ وأُوذوا في سبيله وظُلموا فصبروا صبرًا جميلاً، وهان عليهم هِجرَةُ الوَطنِ وتركُ ما لهم فيه من متاعٍ ومالٍ، وكانوا أهلاً لحُسنِ الحال في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:41، 42].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4653)(4/131)
لقد هاجر رُسُلُ اللهِ تعالى حرصًا على نشر دين الله تعالى وكسبِ رضاهُ الذي به عِزُ الدارين وَسَعْدُهُما، ولقد هاجر رسول الله بعدما أوذي في الله تعالى هو ومن معه من الصحابة الكرام، ففيما خرّجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفَي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي مَنَعة طرحته عن ظهر رسول الله ، والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: ((اللهم عليك بقريش)) ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط))، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعَث محمدا بالحق لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحِبوا إلى القليب قليبِ بدر.
وروى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ؟ قال: بينا النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟!
كانت هذه الاعتداءات على رسول الله ، وتلك هي بعض صنوف الأذى لقيها رسول الله من القوم في سبيل الدعوة إلى الله تعالى.
وأما الصحابة الكرام رضي الله عنهم فقد لقوا ما لا يخطرُ على بال؛ كان الرجل إذا أسلم وله شرفٌ في قومه يأتيه أبو جهل فيقول: إما تعودَنّ إلى عبادة اللات والعزى أو لنسفّهن حلمك ولنقبِّحن رأيك ولنضعنّ من شرفك. وهذه هي ـ يا عباد الله ـ حرب التُّهم والإشاعات والأباطيل. وإذا كان الرجل ذا مال قال له أبو جهل: لتعودنّ إلى عبادة اللات والعزى أو لنخسِّرن تجارتك ولنهلكنّ مالك. وهذه ـ يا عباد الله ـ هي حرب السرقة والنّهب. أما إذا كان المسلم ضعيفا فحدث ولا حرج عن النار يُكوَى بها ظهره، وعن الغاز الناشئ من حصير يلفّ فيه ثم تحرق عليه من طرفَيها كما حدَث للزبير بن العوام ؛ إذ قيّدوه بالحبال وألقَوة في الحصير، ثم علّقوه على الحائط، ثم أوقدوا تحته نارًا فأحرقت أنفه.
حدّث ولا حرج عن القلوب القاسية التي تأتي بجمر يحمي ثم يلقى على المؤمن فلا ينطفئُ الجمر إلا بدهن ظهر المؤمن كما حدث لخبّاب بن الأرت؛ فكانوا يشدّون برجله الحبل ثم يجرّونه على الأرض، ويأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبا، ويلوون عنقه ثم يضجعونه على فحام ملتهبة، ثم يضعون عليه حجرًا حتى لا يستطيع أن يقوم.
حدث ولا حرج عن النفوس المريضة التي تأتي بالمؤمنين فيعذبونهم بالسياط التي تلهب الصدور وبالرمال الساخنة التي تشوي الظهور وبالحجارة الثقيلة التي توضع على الصدر كما حدث لبلال، فكان أمية بن خلف يضع في عنقه حبلاً، ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة حتى أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، وكان يكرهه على الجوع، وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، وبلال يقول صابرا محتسبًا: أحَدٌ أحد.
حدث ولا حرج عن العقول الخرِبة التي تأتي بالحراب، فتشقّ بها البطون وتغرسُ في فروج النساء الأبرياء كما فعل بسمية أم عمار وبزوجها ياسر؛ كانوا يأخذون عمارًا وأباه وأمه وأخته فيقلبونهم ظهرًا لبطن، فيمر بهم رسول الله وهو يقول: ((اصبروا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة)) رواه الطبراني. وماتت سميةُ أمُ عمار التي رفضت أن تنطق بكلمة الكفر واستعلَت بدينها وبإيمانها على طغاة الأرض، والتي كانت من السبعة الأوائل الذين أظهروا الإسلام، فكانت أوّلَ قتيل في الإسلام في ذات الله تعالى. هكذا كانت المرأة في الإسلام تدافع عن عقيدتها بثبات ويقين، فهذه أول شهيدة قدمت دمها وحياتها في سبيل الله تعالى.(4/132)
حدّث ولا حرج عن تتابع الظلم والاضطهاد بالمسلمين والقطيعة، ففي أول ليلة من شهر الله المحرم من السنة السابعة من مبعثه اجتمعت قريش، اجْتَمَعُوا على أَنْ يَكْتُبُوا فِيْمَا بَيْنَهُمْ على بَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ أَنْ لا يُنْكِحُوهُمْ ولا يَنْكِحُوا إلَيْهِمْ، ولا يُبَايِعُوهُمْ ولا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ؛ حتى يهلكوا عن آخرهم أو يسلموا لهم محمّدا، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وعَمَدَ أبو طالبٍ فأدْخَلَهُمُ الشِّعْبَ، شِعْبَ أبي طالب في ناحيةٍ من مَكَّةَ، فأقاموا به ثلاث سنين تلوّوا جوعًا وعطشًا وعريًا، ولحقتهم مشقّة عظيمة، فكانوا يضعون الحجارة على بطونهم اتقاءً للآلام التي تنهش في أمعائهم، كانوا يبحثون عن الخرق البالية يعصبون بها رؤوسهم لتخفيف الأوجاع، تحملوا البرد القارس والصقيع القاتل في تلك الشعاب، فكانوا يلتحفون السماء ويفترشون الغبراء، يقول سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة: ولقد رأيتني مع رسول الله فخرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع قعقعة شيءٍ تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فرضختها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها ماء، فقويت عليها ثلاثًا.
هؤلاء هم السادة الذين طردتهم قريش ظلمًا وعدوانًا حتَّى جَهِدُوا جَهْدًا شديدًا، ثم إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ على صحيفةِ قريشٍ الأَرَضَةَ لتأكل صحيفة المقاطعة، فلم تَدَعْ فِيْهَا اسمًا لِلَّهِ إلا أَكَلَتْهُ وبَقِيَ فِيْهَا الظُّلْمُ والقطيعةُ والبُهْتَانُ، وقيل: أكلت الصحيفة ولم تبق منها إلا "باسمك اللهم"، وصدق الله العظيم: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]. وبذلك عاد المسلمون إلى مكة ليمارسوا الدعوة إلى الله تعالى، وانتهت المقاطعة الظالمة، ولكن المشركين عادوا إلى طغيانهم وظلوا على باطلهم واجتهدوا في إيقاع الإيذاء بالمسلمين، واجتمعت قريش في دار الندوة يبحثون عن أنجع الوسائل للقضاء على رسول الله ، ففي يوم الخميس من شهر صفر من السنة الرابعة عشر من النبوة اجتمع كفار قريش في دار الندوة، وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، فاتفقوا على قتل النبي .
هكذا ـ يا عباد الله ـ كان البلاء يصب على رسول الله وعلى أصحابه صبا، ولكنهم صبروا في ذات الله عز وجل حتى كانت الهجرة المباركة التي أنقذ الله تعالى بها عباده من الاضطهاد والظلم والطغيان.
الخطبة الثانية
هذه هي أحداث الهجرة النبوية التي فيها من الدروس والعبر، وأقدّم لكم ـ أيها الإخوة الكرام الأحبة ـ بعضًا من هذه الدروس المستفادة.
الدرس الأول من دروس الهجرة: فمن الأحداث السابقة ـ يا عباد الله ـ نعلم أن الهجرة لها شأن عظيم، وأن أساس نجاحها وفلاحها كان في انتقال قلوب المهاجرين من اتباع الشيطان والنفس والهوى إلى الإخلاص لله تعالى، ولذا قال : ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)). فمن انتقل قلبُهُ من ظلمة الشرك إلى نور التوحيد ومن الغواية إلى الهداية ومن الشر إلى الخير ومن الجهل إلى العلم كان مهاجرًا هجرةً قلبيةً، وكان عملُهُ صالحًا ومعاملَتُهُ حسنةً وخلُقُهُ كريمًا. فالهجرة القلبية ـ وهي التي يجب أن يقوم بها كلُّ مسلم ـ هي الهجرةُ الباقية إلى أن تقوم الساعةُ، فليهاجر كل مسلم بقلبه ونفسه من الشهوات إلى الطاعات ومن عبادة هواه إلى عبادةِ ربهِ ومولاه.
الدرس الثاني من دروس الهجرة: أن الهجرة تمثل قصة الصراع بين الحق والباطل والهدى والضلال، وتلك قضية تتكرر في كل زمان ومكان، وهي تمثل قصة الصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فإن الصراع بين الحق والباطل قائم منذ القِدَم وإلى قيام الساعة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وتلك سنة الله تعالى، ولكن النصر في النهاية للحق وأهله والهزيمة للباطل وأهله، فعلى الدعاة إلى الله تعالى الساعين للإصلاح أن يتحلوا بالصبر والصدق والجد والإخلاص والحكمة والرفق وعدم استعجال الثمرات، فإن العاقبة الحميدة لكل مستضعف في الأرض ومضطهد في دينه متى ما صدق مع الله تعالى؛ لأن دروس الهجرة تقول: أليس الذي نصر عبده وهو على هذه الحال من الضعف قادرًا على أن يصنع مثله وأمثاله؟! أليس قادرًا على أن ينصر المسلمين وإن كانوا قلة في عددهم وعدتهم ولكنهم أقوياء في إيمانهم؟!(4/133)
الدرس الثالث من دروس الهجرة: علينا أن نعلم أن الهجرة سنة من سنن الله تعالى الكونية التي لازمت الرسل والدعاة إلى الله تعالى، فما من رسول إلا أُخرجَ من داره أو عرَّضه قومه للإخراج، فهذه سنة من سنن الله تعالى، فإن الأقوام الذين عارضوا دعوة الرسل نجدهم يعرضون على رسل الله إما أن يعودوا إلى العقائد الفاسدة وإما أن يطردوا من ديارهم، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13، 14]. فلقد هاجرَ أبو الأنبياء إبراهيمُ عليه السلام قال عنه الله تعالى: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت:26]، وكذلك هاجر معه نبي الله لوطٌ عليه السلام، وهاجر شعيب وموسى وعيسى عليهم السلام.
فموسى عليه السلام أقام الحجج والبراهين الواضحة وجاء بالآيات الصادقة الدالة على نبوته ورسالته، ومع ذلك لم يستجب له قومه وأراد الطاغيةُ فرعون أن يقاوم هذه الحجج والبراهين بالأكاذيب والأباطيل والافتراءات، فعذب بني إسرائيل وقتل أبناءهم واستحيى نساءهم، فأمر الله تعالى نبيه موسى أن يهاجر بقومه، فخرج موسى عليه السلام مهاجرًا مع أخيه وقومه من مصر، فعلم فرعون بخروج موسى فجمع جنوده ليلحق بموسى، وسجل الله تعالى هذا الحدث فقال: وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:52-68].
وبذلك ـ يا عباد الله ـ نجى الله تعالى موسى وقومه وجعل ذلك آية وعبرة للمعتبر، فصام موسى ذلك اليوم شكرًا لله تعالى، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة مَرَّ بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله : ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه رسول الله وأمر بصيامه. وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله : ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله . وروى مسلم عن أبي قتادة أن رجلا سأل رسول الله عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
وهي صورة تتكرر، فصورة الأجرام تتكرر في كل زمان من أجل إخراج المسلمين من ديارهم، وهذا الذي يحدث في عالمنا اليوم من اعتداء سافر على المسلمين على مرأى ومسمع العالم، فأين دروس الهجرة في عالمنا اليوم؟! هاجر رسولنا وهاجر أصحابه الذين آمنوا به واستجابوا لدعوته، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18]. فعلى كل مسلم أن يأخذ الدروس والعبر من أحداث الهجرة المباركة.
أيها الإخوة الكرام الأحبة، وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
============
سنة الابتلاء(1)
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
2/2/1424
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة، وتوكّلوا عليه وأنيبوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، وادعُوه خوفًا وطمَعًا، واذكروا وقوفَكم بين يدَيه، في يومٍ يجعل الولدانَ فيه شيبًا، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4715)(4/134)
أيّها المسلِمون، عندَما ينزِل البلاء وتحُلّ المِحن وتدلهمّ الخطوب وتعمّ الرزايا تضطرِب أفهامُ فريقٍ من الناس، وتلتاثُ عقولُهم، وتطيش أحلامُهم، فإذا بِهم يذهَلون عن كثيرٍ من الحقّ الذي يعلمون، وينسَون من الصّواب ما لا يجهلون، هنالك تقَع الحيرة ويثور الشكّ وتروج سوقُ الأقاويل وتهجَر الحقائق والأصول وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير، وفي معامِع الغفلةِ ينسى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاء ماضيةٌ في خلقه، وأنَّ قضاءه بها نافذ فيهم، وكيفَ ينسى ذلك وهو يَتلو كتاب ربِّه بالغداة والعشيّ، وفيه بيانُ هذه الحقيقة بجلاءٍ لا خفاءَ فيه، ووضوحٍ لا مزيد عليه، حيث قال سبحانه: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقال عزّ وجلّ: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ [آل عمران:186]، وقال تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال تقدّست أسماؤه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].
إنّها ـ يا عبادَ الله ـ سنّة ربانيّةٌ عامّة لم يستثنِ الله منها أنبياءَه ورسلَه مع علوِّ مقامهم وشرفِ منزلتهم وكرمِهم على ربّهم، بل جعَلهم أشدَّ الناس بلاءً كما جاءَ في الحديث الذي أخرجَه الترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في سننهم وأحمد في مسنده وابن حبانَ في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أشدّ بلاء؟ فقال: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان في دينِه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البلاءُ بالعبدِ حتّى يتركَه يمشِي على الأرض وما عليه خَطيئة))(1)[1].
وقد نَزَل برسول الله مِن هذا البَلاء ما هو معلومٌ لكلِّ من وقَف على طرفٍ من سيرتِه وتأمَّل أخبارَها، وحسبُكم ما ناله مِن أذى قومِه، وتكذيبِهم له، واستهزائِهم به، وصدِّهم الناسَ عن سبيلِه، وحملِهم له على مفارقةِ وطَنه ومبارحةِ أرضه، وإعلانِ الحرب عليه، وتأليبِ النّاس حتى يُناصبوه العداءَ ويرموه عن قوسٍ واحدة، وغزوِهم دارَ هجرتِه ومقرَّ دولتِه ومأمنَ أهلِه وصحابتِه للقضاء عليه ووأدِ دينه واستئصالِ شأفته، وممالأةِ أعدائه من اليهود والمنافقين في المدينة عليه، وكيدِ هؤلاء له، ومكرِهم به، ونقضِهم ميثاقَهم الذي واثقهم به، والتحالفِ [مع] المشركين على حربه، وسعيِهم إلى قتله غيلة وغدرًا، بعدَما استَيأسوا من بلوغِ ما يريدون من ذلك في ساحاتِ الوغى وميادين النّزال، فكان مثلُه صلوات الله وسلامه عليه كمثلِ من سبقه على دربِ الابتلاء من إخوانِه النبيّين ثابتًا للمحن، صابرًا على البلاء، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده حتّى أتاه نصرُ الله وفتحُه، ودخل النّاس في دِين الله أفواجًا، وغمرت أنوارُ الهداية أقطارَ النّفوس، وخالطت بَشاشة الإيمان القلوب، فلحِق بربّه ومضى إلى خالقِه راضيًا مرضيًّا، طيِّبَ النّفس قريرَ العين، تاركًا في أمّته مِن بعده شيئين ما إن تمسَّكوا بهما لن يضلّوا بعده أبدًا: كتابَ اللهِ وسنّته عليه الصلاة والسلام كما صحّ بذلك الحديث(2)[2].(4/135)
عبادَ الله، إنّه لم يكن عجبًا أن ينهَج رسول الله هذا النهجَ بالصّبر على البلاءِ هو والنبيّون من قبله وأتباعهم من بعدهم، فإنّهم يستيقِنون أنَّ الله تعالى لم يكتُب هذه السّنّةَ على العبد ليهلكَه أو يقتلَه أو يوردَه الموارد، حتّى تضيق عليه نفسُه، وتضيق عليه الأرضُ بما رحُبت، وحتّى تورِثه فسادَ الحال في العاجلة وسوءَ المآل في الآجلة، وإنّما كتبها لحِكمٍ عظيمة وفوائدَ جليلة ومقاصدَ جميلة تكاد تربو على الحصرِ وتجلّ عن العدِّ، فمِن ذلك أنَّ هذه البلايا إنّما جاءت ليمتحِن الله بها صبرَ عبدِه وليبتليَه فيتبيَّن حينئذ صلاحُه لأن يكونَ مِن أوليائه وحزبِه المفلحين، فإن ثبتَ للخطوبِ وصَبر على البَلاء اصطفَاه واجتباه، وخَلعَ عليه خِلَع الإكرام، وألبسَه ألبسةَ الفضل، وكساه حُللَ الأجر، وغشَّاه أغشيةَ القبول، وختم له بخاتمةِ الرّضوان، وجعل أولياءه وحزبَه خدمًا له وعونًا. وإنِ انقلبَ على وجهه ونَكَص على عقِبيه طُرد وأقصِي وحجِب عنه الرّضا، وكُتب عليه السّخط، وتضاعفت عليه أثقال البلاء وهزمَته جيوشُ الشقاء، وهو لا يشعرُ في الحال بتضاعُفٍ ولا بهزيمة، لكنه يَعلم بعد ذلك أنَّ المصيبةَ صارَت في حقِّه مصائب، وما بين هاتَين المنزلتين منزلةِ الصّبر ومنزلة السّخط كما قال العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله: "ما بينهما صبرُ ساعة، وتشجيعُ القلبِ في تِلك السّاعة، والمصيبَة لا بدَّ أن تقلِع عن هذا وهذا، ولكن تقلِعُ عن هذا بأنواعِ الكراماتِ والخيرات، وعن الآخرِ بالحِرمان والخِذلان؛ لأنَّ ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم" انتهى كلامه يرحمه الله(3)[3].
فعطاءُ الصبر إذًا هو خيرُ ما يُعطى العبد من عطاء كما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((ما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصّبر))(4)[4].
ومِن حِكم الابتلاء ـ أيها الإخوة ـ تحقيقُ العبوديّة لله، فإنَّ الله تعالى يُربِّي عبدَه على السّرّاء والضّرّاء والنّعمة والبلاء، حتّى يستخرجَ منه العبوديّة في جميع الأحوال، إذِ العبد على الحقيقة هو القائمُ بعبوديّة الله على اختلافِ أحوالِه، أمّا عبدُ النّعمة والسّرّاء وهو الذي يعبُد اللهَ على حرف، هو الشكّ والقلقُ والتّزلزل في الدين، أو على حالٍ واحدة، فإِن أصابَه خير اطمأنّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجهه، فهذا ليسَ من عبيده الذين اختارَهم سبحانه لعبوديّته وشرّفهم بها ووعدَهم بحسنِ العاقبةِ عليها.
فالابتلاء ـ يا عباد الله ـ كيرُ القلوب ومحكُّ الإيمان وآيةُ الإخلاص ودليل التسليم وشاهدُ الإِذعان للهِ ربِّ العالمين، وهُو كالدّواء النافع يسوقه إلى المريضِ طبيبٌ رحيمٌ به ناصحٌ له عليمٌ بمصلحتِه، فحقُّ المريض العاقِل الصبرُ على تجرّع صابِه وعلقمِه، ولا يتقيَّؤُه بالسّخَط والشّكوى لئلاّ يتحوّل نفعُه ضررًا، فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
فعلى المسلمِ عندَ نزولِ البلاءِ ووقوعِ المحن ونُجومِ الخطوب أن يثبُت لها ثباتًا لا يتزلزَل مهما اشتدَّت ريحها واضطرمَت نيرانُها، وإنَّ لهذا الثّبات ـ أيّها الإخوة ـ أسبابًا تعين عليه وتذلِّل السبيلَ إليه، منها صدقُ اللجوء إلى الله تعالى، وكمالُ التوكّل عليه، وشدّة الضراعة وتمامُ الإنابة إليه، وصِدق التوبَة بهجرِ الخطايا والتّجافي عن الذنوب، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفِع إلا بتوبة)(5)[5].
وكذا تحسينُ الظنِّ بالإخوَة في الدين عامّة، وبولاة الأمرِ وأهلِ العلم والفضلِ خاصّة، وذلك بحملِ أقوالِهم وأعمالِهم على أحسنِ المحامل وأجملِها، وكذا الرّجوع إلى الراسخين في العلم باستيضاحِ ما يُشكل والسؤالِ عما يُجهَل.(4/136)
وعليه أيضًا الحذر من الإعجاب بالرأي، والبعدُ عن التعجّل في إطلاقِ الأحكام، وعن التسرّع في تفسير المواقف بمجرّد الرّأي أو بالوقوع تحت تأثير ما يسمَّى بالتّحليلات على اختلافِ موضوعاتِها وتعدُّد مصادرِها، لا سيّما حين تصدُر عمّن لا يُعلَم كمالُ عقلِه ولا صحّة معتقَده ولا سلامَة مقصده ولا صِدق نصيحتِه ولا صفاءُ طويّته، ثم هي ـ أي: هذه التحليلات ـ مبنيّة في الأعمّ الأغلَب على المصالِح والمطامِح والأهوَاء، ولذا يشيعُ فيها الكذِب والخطأ والظلم. ويجبُ أيضًا تركُ القيل والقال الذي كرِهه الله لعبادِه كما أخبر بذلك رسول الله بقوله في الحديث الصحيح المتّفق عليه بين الشّيخين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إنَّ الله تعالى حرَّم عليكم عقوقَ الأمّهات ووأدَ البنات ومنعًا وهات، وكرِه لكم قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعةَ المال))(6)[6]، ويدخل فيه التحديثُ بكلِّ ما يسمعُه المرء، فقد زجرَ النبي عن ذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع))(7)[7]، وفي لفظٍ لأبي داودَ في سننِه بإسنادٍ صحيح: ((كفى بالمرء إِثمًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع))(8)[8].
وإنَّه إذا كان حَريًّا بالمسلم اتِّباعُ هذا النّهج الراشدِ السديد كلَّ حين فإنَّ اتباعَه له في أوقاتِ الشّدائدِ وأزمِنة المِحن أشدُّ تأكّدًا وأقوى وجوبًا، وصدق سبحانه وتعالى إذ يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ عليه وعلى آله وصحبِه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا اللهَ واعلَموا أنّكم ملاقوه، وراقبوه وتوكّلوا عليه، وأخلِصوا له، وحقِّقوا توحيدَكم، فإنَّ توحيدَ العبدِ ربَّه صمامُ الأمان وضمانُ الفوز وأصلُ السعادةِ وسببُ دخولِ الجنّة والنّجاة من النّار.
واعلموا أنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
ثمّ اعلموا أنَّ الله تعالى قد أمركم في كتابه الكريم بالصلاة والسلام على خاتم النبيّين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
__________
(1) أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4022) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (1/40، 41)، والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة وعزاه من بين ما عزاه للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
(2) وهو قوله : ((تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وسنتي))، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغًا، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
(3) طريق الهجرتين (ص417).
(4) أخرجه البخاري في الزكاة (1469)، ومسلم في الزكاة (1053).
(5) انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
(6) أخرجه البخاري في الاستقراض (2408)، ومسلم في المساجد (593).(4/137)
(7) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5)، وقد اختلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (381)، ووافقه الذهبي، والحافظ في الفتح (10/407)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2025).
(8) أخرجه أبو داود في الأدب (4992) وقال: "لم يذكر حفص أبا هريرة، ولم يسنِده إلا هذا الشيخ"، يعني: علي بن حفص المدائني.
==============
الابتلاء بالمعاصي(1)
محمد بن سليمان الحماد
الرياض
جامع التركي
الخطبة الأولى
عباد الله، إليكم هذه القصة التي وثّقها لنا ربنا في كتابه العزيز؛ لنقف معها ونتدبّرها، فإن القصص في القرآن ما قصّها الله إلا للعبرة والتفكر، فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، يقول الله تعالى في سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166].
ذكر ابن كثير وغيره عن ابن عباس أن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة، فخالفوا إلى السبت، فعظموه وتركوا ما أمِروا به، فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحلّ لهم في غيره، وكانوا في قرية حاضرة البحر يقال لها: أيلة بين مدين والطور، فحرم عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها، فكانوا إذا كان السبت أقبلت عليهم إلى ساحل البحر شُرَّعا ظاهرة، حتى إنها لتخرج خراطيمها من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمت مقل البحر كشأن الأسماك، فلم ير منها شيء.
فكانوا كذلك حتى طال عليهم الأمد، فعمد رجل منهم فأخذ حوتا سرّا يوم السبت، فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتدا في الساحل، فأوثقه ثم تركه حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي: إني لم آخذه يوم السبت، فانطلق به فأكله ولعله شواه، فوجد الناس رائحته، حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك، فوجد الناس ريح الحيتان، فتتبّعوا حتى عثروا على صنيع ذلك الرجل، ففعلوا كما فعل، وصنعوا ذلك سرا زمنا طويلا، فلم يعجّل الله عليهم العقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق، فقال لهم طائفة منهم من أهل البقيّة: وَيحَكم اتقوا الله، ونهوهم عما كانوا يصنعون، فأجابوهم: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فصاحوا فيهم: إنما صيدكم يومَ وثقتموه، فقالت طائفة ثالثة قد سكتوا عن النهي والإنكار قالوا للطائفة الناهية الواعظة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا أي: إنهم ارتكبوا جرما عظيما قد نهاهم الله عنه، وسنة الله فيمن خالف أمره معروفة، فقالوا: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: إعذارا إلى الله وقياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: لعلهم يذكرون ويتوبون ويقلعون عن معصيتهم.
فلما أبوا وبغوا قال البقية: والله لا نساكِنكم، فقسموا القرية بجدار، وجعلوا لهم بابا، وللمعتدين بابا آخر، فبينما هم على ذلك أصبحت ذات يوم البقية في أسواقها ومساجدها ولم يروا المعتدين، فذهبوا ينظرونهم في قريتهم وحصنهم فإذا هم يتعادون ويثِب بعضهم على بعض قردة لهم أذناب، ففتحوا عليهم الباب فانتشروا في الأرض، فصار الأنسيّ لا يعرف نَسبَه من القردة، والقِردة تعرف أنسابها من الأناسي، فتأتي القردة إلى قريبها من الأنس، فتشمّ ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم؟! فتقول برأسها: بلى، وكان عددهم سبعين ألفا، وأنجى الله الذين ينهون عن السوء والمنكر، فمكث المعتدون ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون، ثم أماتهم الله جميعا.
الوقفة الأولى: لقد ابتلى الله أهل تلك القرية بنوع من البلاء قد غفل عنه الكثير من الناس اليوم؛ حيث إن الناس يحسبون الابتلاء نوعين: إما بالخير ورغد العيش، وإما بالشر والمصائب، ويستشهدون بقول الله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ويجهلون معناها، والحق أن هناك نوعا ثالثا هو أشد الأنواع وأخطرها، وقد رتب الله على من أخفق وخسر فيه عقوبة شديدة، ألا إنه الابتلاء بالمعاصي والفتن، فأولئك القوم قد نهاهم الله عن صيد السمك يوم السبت، فصار السمك في حقهم في ذلك اليوم معصية وإثما، ثم قربه الله إليهم ويسره لهم ليبتليهم ويختبرهم.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4762)(4/138)
وقد قرر الله ذلك في آية أخرى، ومع قوم آخرين، لكنهم نجحوا في هذا الامتحان فكانوا خيرا من اليهود، وهم المسلمون أصحاب الرسول ، لما كانوا محرِمين بعمرة الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهو محرَّم على المحرِم، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ[المائدة:94].
يقول ابن سعدي: "لقد ذكر الله الحكمة من ذلك الابتلاء فقال: ليعلم الله علما ظاهرا للخَلق يترتّب عليه الثواب والعقاب مَن يخافه بالغيب فيكف عمّا نهى الله عنه مع القدرة عليه وتمكنه منه فيثيبه الله الثواب الجزيل ممن لا يخافه بالغيب فلا يرتدع عن معصية تعرِض له فيصطاد ويقترف ما تمكن منه... والاعتبار بالخوف من الله بالغيب وعدم حضور الناس، وأما إظهار مخافة الله عند الناس فقد يكون لأجل مخافة الناس، فلا يثاب على ذلك".
وتأملوا حالنا اليوم، كيف فتح الله علينا الدنيا فيسّر الله لنا اكتساب الأموال حلالها وحرامها، فكثر تجّار الربا ومثلهم تجار الحلال، ولقد تيسّرت لنا المعاصي اليوم بخلاف الأمس، فكثرت النساء المسيّبات مما أدّى إلى سهولة الزنا بأنواعه: زنا العين والرجل والفرج ونحوها، حتى صار الكثير منا يقول: لا ملامة علينا وعلى الشباب، أو إن الخرق اتّسع على الراقع، ونحو ذلك من الحجج الواهية الباطلة. وهذا والله عين الابتلاء، فلنحذر ولْنعِ الأمر ولننظر إلى الواقع نظرة صحيحة، فهل تحبون أن تكونوا كاليهود خسروا وفشلوا في الامتحان فأنزل الله بهم أشد العذاب أم تحبون أن تكونوا من المسلمين فتنجحوا وتفوزوا في الامتحان فيثيبكم الله الثواب الجزيل ويخفف عنكم ويرفع البلاء عنكم؟!
الوقفة الثانية: ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم السكوت عن المنكر بحجة أن النهي لا ينفع أو أن الأمر والنهي قد فات أوانه. ولقد مدح الله في هذه القصة الناهين عن السوء، وبين أنه تعالى أنجاهم من العذاب وشرّفهم بفضله، وسكت عن الساكتين الذين يقولون للواعظين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا.
يقول ابن كثير: الجزاء من جنس العمل، فلما سكتوا عن الإنكار سكت الله عنهم، فلم يمدحهم ولم يذمهم، واختلف العلماء في حالهم: هل نجوا أم عوقبوا؟ فيقول ابن سعدي في المسألة: "والظاهر أنهم كانوا من الناجين؛ لأن الله خص الهلاك بالظالمين؛ لأن الأمر والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقلوبهم وببغضهم لصنيعهم حين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فأبدوا من غضبهم عليهم ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم" اهـ.
ولابن سعدي كلام جميل حول هذه الآيات وما بعدها، فيحسن مراجعته، وتأملوا هذا الموقف الجليل من الصحابي الجليل حبر هذه الأمة وترجمان قرآنها ابن عباس، فقد أخرج البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في آخر هذه القصة: (أرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكِروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها)، وكأنه رضي الله عنه يعاتب نفسه ويخوفها من عذاب الله على سكوته، فقال له عكرمة: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟! قال: فسري عن ابن عباس واطمأنت نفسه، وطمع في رضا ربه، فأمر به فكسِي ثوبين غليظين.
وعليه يكون الساكتون نجَوا بفضل الله، ثم بسبب إنكارهم بقلوبهم واكتفائهم بإنكار أصحابهم والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الوقفة الثالثة: لقد عذب الله اليهود الذين احتالوا على أمره وخادعوه وظنوا أنهم ناجون بذلك، وما علموا أن الحرام حرام ولو احتالوا عليه، ولقد حذرنا الرسول أن نكون مثلهم فقال: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) قال ابن كثير: "إسناده جيد، ورجال ثقات".
ولقد احتال بعض الناس اليوم على ما حرّم الله في كثير من الأمور كالرياء والزنا والسفر المحرم، واحتالوا لأنفسهم لترك الدعوة إلى الله أو الحسبة أو الجهاد ونحو ذلك، فيجب الحذر حتى لا يصيبنا ما أصاب أهل أيلة.
عباد الله، وأما الوقفة الرابعة والأخيرة: فهي مع أولئك القوم الذين مسخهم الله قردة، هل تناسلوا أم لا؟ وكم مكثوا أحياء؟ يقول ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا ـ أي: فواق ناقة، وهو مقدار حلب الناقة ـ ثم هلكوا، وما كان للمسخ نسل).(4/139)
يقول ابن كثير: "ولقد خلق الله القردة والخنازير وسائر خلقه في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابة، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وهي معروفة قبل والله أعلم"، وبهذا يعلم خطأ قول القائل عن اليهود أحفاد القردة والخنازير، والصحيح أن يقال: إخوان القرَدة والخنازير تشبيها لأفعالهم، والله أعلم.
هذا وصلوا وسلموا...
=============
أهمية فقه سُنة الابتلاء(1)
إن معرفة الطريق الذي يسير فيه الإنسان لبلوغ هدفه أمر ضروري لمواصلة سيره دون انقطاع أو فتور، لتجنب ما يمكن تجنبه من العوائق في هذا الطريق. ومما لا شك فيه أن طريق الدعوة إلى الله طريق طويل وشاق ؛ إذ إنه يبدأ منذ أن يعقل الإنسان دوره ووظيفته في هذه الحياة، ولا ينتهي إلا إذا انتهت المسافة التي حددها الله له في هذا السفر - وهي عمره - والتي لا يدري عنها المسافر شيئاً، هذا إذا واصل في هذا الطريق ، ولم يستطل المسافة أو يستصعب السير فيبحث عن طرق أخرى يراها أقصر أو أسهل. وقد يكون فيها هلاكه المحقق!
السمة البارزة لهذا الطريق - كما يذكر الله (تعالى) في كتابه ، وكما يذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وكما يذكر التاريخ ويؤيده الواقع أيضاً - أنه طريق ابتلاء وامتحان ، طريق محفوف بالمكاره ، يشتد الابتلاء فيه - بشتى صوره - ويكبر كلما أوغل السائر فيه وهو مُصر على التقدم
وهذا التصور يفيدنا في أمور لعل من أهمها :
1- الاستعداد المناسب لطبيعة الطريق :
إن من يريد اجتياز هذه الطريق يحتاج إلى استعداد وتهيئة وتربية، تهيئة نفسية تساعد على الاستمرار وعدم التوقف ، وتهيئة علمية تساعد على ضبط المسار وعدم الانحراف.
إن مَن يريد سفراً - وهو يعرف طبيعة الطريق - يلزمه أن يختار أسلوب السفر المناسب، وطريق الدعوة، وحمْل هذا الدين قد ثبت بالشرع والواقع أنه شاق تكثر فيه العوائق والمحن، فلا بد أن يوطن الإنسان نفسه على ما يُحتمَل أن يصيبه في هذا الطريق ، ويعد نفسه لذلك حتى إذا حدث شيء منه يكون قد أخذ استعداده فلا يُفاجَأ بالأمر فينهار، أو يرتبك إذا لم يكن في حسبانه وتخطيطه احتمال وقوعه ، ويقول الشيخ السعدي (1) في قوله - تعالى - : ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ))[آل عمران:186] : ".. ومنها (أي فوائد الإخبار بالابتلاء) أنه أخبرهم بذلك لتتوطن أنفسهم على وقوع ذلك ، والصبر عليه إذا وقع لأنهم قد استعدوا لوقوعه فيهون عليهم حمله ، وتخف عليهم مؤنته ، ويلجؤون للصبر والتقوى" .
ففقه هذه السنة اللازمة للدعوة إلى الله بتدبير الآيات والأحاديث المخبرة عنها، وبدراسة سير السلف الصالح ممن ابتُلوا في سبيل الدعوة إلى الله - يدعو الحازم إلى الاستعداد والتأهب وتوقع ما سيحصل في مستقبل دعوته.
2- عدم الوقوع في الفتور الذي يصيب بعض الدعاة :
إن كثيراً من الشباب المتحمس يبدأ مجال الدعوة باندفاع ويسر لما يحققه من نجاح نسبي في أول مشواره مع قلة ما يواجه المبتدئ - غالباً - من عقبات ، فيترسخ في ذهنه أن هذه الطريق كلها بهذه السهولة، قريبة النتائج. فإذا ما توغل وحصل له أي نوع من أنواع الابتلاء بدأ يتململ ويتذمر، وينفذ صبره ، ويتوقف عن مواصلة الطريق ، ثم يخبو حماسه أو ينطفئ تماماً، وما ذلك إلا لأنه لم يكن مدركاً من الأصل طبيعة هذا الطريق ، بل كان لديه تصور متفائل جداً، وغير مستند على أدلة شرعية، أو حقائق واقعية مما جعله يفاجأ بالحقيقة التي لم يعدّ نفسه لها منذ البداية، وقد تصل الحالة بمن كان مفرطاً في التفاؤل إلى التخلي عن مبدأ الدعوة إلى الله ولو تدريجياً .
3- عدم التسرع والاستعجال في تحصيل النتائج :
إن الداعي إلى الله إذا لم يعلم ويتيقن أن ما سيصيبه في طريق دعوته - من عدم استجابة الناس على عجل أو عدم استجابتهم البتة، أو عدم ثباتهم على الاستقامة أو عدم زوال المنكرات ، بل أحياناً ازديادها أو غير ذلك - إنما هو من الابتلاء والامتحان له ، بل قد يدفعه جهله هذا إلى الظن أن هذه هي النتيجة النهائية وأنه - والدعاة معه - قد خسروا فيتصرف تصرفات رعناء متسرعة من واقع الضغط النفسي الذي يضايقه ، ظاناً أنه بذلك يحقق نصراً للدعوة لم يستطع تحقيقه بأسلوبه الأول الذي اعتمد على الرفق والتؤدة.
مثلاً : أن يسعى لتغيير بعض المنكرات الكبيرة الشائعة بالقوة التي يرى - بفهمه القاصر - أن فيها مصلحة للدعوة، وهذا مما يسبب مشاكل كبيرة للدعوة التي يحملها، والتي كان يمكن تفاديها لو علم أنه ليس مطالَباً بأن يهتدي الناس على يديه ، بل واجبه هو دعوة الناس وتبليغهم دين الله ، وهو إذا قام به على خير وجه فهو نجاح بالنسبة له بغض النظر عن النتائج .
__________
(1) - مجلة البيان - (ج 62 / ص 93) -منتدى القراء(4/140)
والداعي ليس مطالباً بتحقيق نصر الإسلام فهذا أمره إلى الله متى شاء أن يحدث حدث ، لكنه مطالب ببذل الجهد في هذا السبيل فحسب ، والرسل والأنبياء كانوا يخاطَبون بذلك ((فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ))[الشورى:48] ، فالعجلة والتسرع في قطف ثمار الدعوة، وتحصيل نتائجها كلها يتطلب أمراً أساسياً ألا وهو الصبر.
راشد حُسين آل عبد الكريم
__________
1- تفسير السعدي ، ص468،ط1.
============
ابتلاء ومحاسبة(1)
عبد الكريم علي الشهري
قال تعالى :(( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)) [ {العنكبوت:2]} وقال:(( ولا تزر وازرة وزر أخرى)) [{الإسراء:15]}، ففي حال سنة الله - عز وجل - القائمة وهي سنة الابتلاء والامتحان هناك تنبيه منه - جل وعلا - يقرر في النفوس الضعيفة التي لا تجيد فن الانقياد لله والسيطرة على نفسها تنبيه بأنه ولا تزر وازرة وزر أخرى" فالمحاسبة فردية والعقاب لا يتحمله أحد عن أحد مهما كانت قوة النسب، وأشار إلى أنه ((وكلهم آتيه يوم القيامة فردا))[مريم: 95]}، فإذا كان هذا حال الوقوف بين يدي الله - عز وجل - إذاً لا عذر لمن يتبع غيره في أمر من الأمور، إنما النفس هي المحاور الوحيد أمام رب البرايا - جل وتبارك - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا لا مجال للتهرب فالذي أقَرّ البلاء سنة على الخلق هو الذي سيحاسب كلاً حسب عمله وصبره وجهاده لنفسه، وليس هناك مجال للتسويغ أو التجاهل؛ فالقضية جادة غاية الجد.
هناك ابتلاء وامتحان، المؤمن معرَّض له في ماله أو في أهله أو في قلبه ضريبة للإيمان، وهناك في المقابل حساب فردي دقيق يحتاج إلى استعداد وإصلاح للقلوب: ((يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم)) [{الشعراء: 88-89]}، فالقلوب تحتاج إلى تخلية من الأمراض الفتاكة: كالحسد، والحب في غير الله - جل وتبارك - وغيرها من الأمراض، ثم تحلية بالإيمان، والإخلاص، وحينها تكمل السعادة وتتحقق، والله! إنه:(( ما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)) [ فصلت:35}].
-============
الابتلاء بالأمراض
سعود الشريم ... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، التي هي معتصم عند البلايا، وسلوان في الهم والرزايا، واعلموا ـ حفظكم الله ورعاكم ـ أن الابتلاء سنة ربانية ماضية، هي من مقتضيات حكمة الله ـ سبحانه ـ وعدله، متمثلا وقعه بجلاء، في الفقر والغنى، والصحة والمرض، والخوف والأمن، والنقص والكثرة، بل وفي كل ما نحب ونكره، لا نخرج من دائرة الابتلاء وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]. وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال.
عباد الله، العاقل الحصيف يجب عليه حتما أن يوقن، أن الأشياء كلها قد فرغ منها، وأن الله سبحانه، قدر صغيرها وكبيرها، وعلم ما كان وما سيكون وأن لو كان كيف يكون، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء [الأنعام:38]. قال رسول الله : ((أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)) [رواه أبو داود][1].
فالمقادير عباد الله كائنة لا محالة، وما لا يكون فلا حيلة للخلق في تكوينه، وإذا ما قدر على المرء حال شدة، وتكنّظته الأمور، فيجب عليه حينئذ أن يتزر بإزار له طرفان: أحدهما الصبر، والآخر الرضا، ليستوفي كامل الأجر لفعله ذلك، فكم من شدة قد صعبت، وتعذر زوالها على العالم بأسره، ثم فرج عنها بالسهل في أقل من لحظة.
قيل للحسن: يا أبا سعيد، من أين أتي هذا الخلق؟ قال: من قلة الرضا عن الله؟ قيل: ومن أين أتى قلة الرضا عن الله؟ قال: من قلة المعرفة بالله.
ولما جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج ليقتله، بكى رجل فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك. قال سعيد: فلا تبك إذا، لقد كان في علم الله أن يكون هذا الأمر، ثم تلا: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد:22].
__________
(1) - مجلة البيان - (ج 143 / ص 138) -المنتدى(4/141)
وما يصيب الإنسان، إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ من جهة أنه يكفر خطاياه ويثاب عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]. وصدق رسول الله إذ يقول: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له؛ ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) [رواه مسلم][2].
أيها الناس، إن البشر قاطبة مجمعون إجماعا لا خداج فيه، على أن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى، وأن الصحة والعافية، نعمة مغبون فيهما كثير من الناس الأمراض والأسقام ـ عباد الله ـ، أدواء منتشرة انتشار النار في يابس الحطب، لا ينفك منها عصر، ولا يستقل عنها مصر، ولا سلم منها بشر ولا يكاد إلا من رحم الله؛ إذ كلها أعراض متوقعة، وهيهات هيهات أن تخلو الحياة منها، وإذا لم يصب أحد بسيلها الطام، ضربه رشاشها المتناثر هنا أو هناك.
ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانيه
سرور وهمّ واجتماع وفرقة ويسر وعسر ثم سقم وعافيه
الأمراض والأسقام، هي وإن كانت ذات مرارة وثقل، واشتداد وعرك، إلا أن الباري ـ جل شأنه ـ، جعل لها حكما وفوائد كثيرة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
ولقد حدث ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن نفسه في كتابه ((شفاء العليل)) أنه أحصى ما للأمراض من فوائد وحكم، فزادت على مائة فائدة، وقال أيضا: ((انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض، أمر لا يحس به إلا من فيه حياة، فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها)). انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ.
============
الدنيا دار ابتلاء واختبار
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد , والصلاة و السلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد أفضل مَن لله سجد ,وخير مَن الله عبد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه بلا انقطاع ولا عدد وبعد :
فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الدنيا واستخلف فيها البشر فجعلها دار اختبار وابتلاء وتمحيص حتى يميز الخبيث من الطيب ويفصل الصالح عن الطالح ويجزي المحسن ويعاقب المسيء فقال جل جلاله ((تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور)) فكان الابتلاء سنة من سنن الله سبحانه وتعالى يبتلي بها المسلم والكافر على حد سواء غير أن النتيجة مختلفة قطعا فكل من المسلم والكافر يتعرض للنعمة وللمصيبة وكل منهما يتأذى من المصيبة في الدنيا ويستفيد من نعم الله في الأرض إلا أن المؤمن يحصد من الثمرات في الآخرة ما لا يحصده غيره من البشر فقال صلى الله عليه وسلم (( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن إصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ))
عباد الله :
إن الله سبحانه وتعالى يبتلي العبد بالنعم كما يبتليه بالمصائب على حد سواء ولا يحسبن أحد أن المصائب والابتلاء بها دليل غضب أو سخط من الله سبحانه وتعالى أو أن كثرة النعم والخيرات هي دليل محبة الله سبحانه وتعالى بل قد يكون الأمر خلاف ذلك لأن الله جل الله جلاله يحب أن يسمع شكوى عبده المؤمن وأنينه بين يدي الله تعالى هذا وإن الابتلاءات من أوسع الأبواب التي يكفر الله تعالى بها الخطايا عن العبد المؤمن الصابر فهذا حبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول (( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئته )) ويقول صلى الله عليه وسلم (( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )) كان من الصالحين فهو تنبيه من الله تعالى لخطأ ما أو تحذير لخلل وقع عند ذلك العبد أو تلك الأمة فإن من المصائب ما هو للتحذير والتنبيه عند التقصير واسمع إذا شئت قول الله تعالى (( فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان لهم ما كانوا يعملون )) .(4/142)
وإذا لم يكن عند العبد خلل ولا زلل فهي دليل محبة الله تعالى إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أشد بلاء ؟ قال (( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وان كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة )) ومن هنا أخوة الإسلام فإنك تجد أصحاب الحق وأصحاب الدين من أكثر الناس ابتلاء في أيامنا هذه فهم المطاردون من العدو الصهيوني والأنظمة والحكومات الظالمة يضيق عليهم بأرزاقهم ويفصلون من وظائفهم وتملأ السجون بهم ويبعدون من بلدانهم ويتحكم في مصيرهم القاصي والداني حتى تجد أتفه الناس يزايدون عليهم ، فتصادر حرياتهم وتعلق لهم المشانق ويصب عليهم العذاب صبا ولا يستغرب أحد هذه السنة من الله تعالى فإننا في حياتنا الدنيا نعلم أن امتحان طلاب الجامعة أصعب ممن دونهم فكيف بامتحان الآخرة ! أيعقل أن يكون امتحان الأنبياء والصالحين كامتحان عوام الناس من المسلمين فهل من المقبول أن نكرم أصحاب الدرجات العليا في دراستهم فنسهل عليهم امتحاناتهم الأكاديمية ولله المثل الأعلى .
أيها المسلمون إذا كان الابتلاء بالمصائب سنة من سنن الله فلا يعني ذلك أن تكون الأمة مستسلمة لهذه المصائب فلا يخرج أحد علينا ويقول لنا إن الحرب الصليبية التوراتية على الأمة الإسلامية هي ابتلاء لا بد من الصبر عليه حتى نؤجر بل إن بعض الإبتلاءات إنما هي تسليط من الله على الأمة لذنوبها وبعدها عن منهجه ويجب إزالة المعصية حتى تزول المصيبة ألم نسمع قول الله تعالى (( فأهلكناهم بذنوبهم )) ألم تسمع قول الله تعالى (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )) ففي مثل هذه الحالات لا بد من مقاومة الأسباب التي أنزلت البلاء على الأمة بأسرها حتى حق عليها عقاب الله وتعذيبه كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في حال تركها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسلطن الله عليكم عدوا من غيركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب
أيها المسلمون :
إن الذي ينظر إلى حال الأمة وابتلاءاتها في أيامنا هذه يعتقد جازما أن الذين يتحكمون في مقدرات الأمة ومصيرها إنما هم مفرطون بحقوق الله مضيعون للأمانة التي بين أيديهم وما موالاة الكافرين ومحاصرة المجاهدين ومتابعتهم والتسابق للتضييق عليهم إلا مثالا بسيطا على ضلال وبعد هؤلاء القوم الذين باعوا أنفسهم للشيطان وأوليائه وابتعدوا عن الله وجنوده وما الله بغافل عما يفعل الظالمون.
عباد الله : من حسنات المصائب والابتلاءات أنها تبين لك الناس وتكشف كل واحد على حقيقته فإن البشر ما لم تكن شدة يبقى معظمهم مستور لا تعلم حقيقته حتى إذا جاءت الشدة والابتلاء ظهر الناس على معادنهم فمنهم من يظهر معدنه ذهبا ومنهم ما لا يساوي معدنه الحديد الصدىء فالإنسان أخوة الإسلام يعرف أصدقاءه الحقيقيين ويمحص أعداءه الظاهرين بالمصيبة فبظهر فيها المؤمن من المنافق والخبيث من الطيب والصادق من الكاذب وبهذا أخبر الله تعالى فقال (( ما كان الله لينذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى
يميز الله الخبيث من الطيب ))
ورحم الله من قال:ـ
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بِريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
أخوة الإسلام :
ولما كانت المصائب حتمية الوقوع على البشر إذ قال الله تعالى (( ولنبلونكم بشيء من الخوف الجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) إلا أن هذا الأمر لا ينفي أبدا أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر إذ أن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ولو كان لما سقى منها كافر شربة ماء وصدق الله تعالى إذ قال (( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنياوالآخرةعند ربك للمتقين )) فالله الله على الذين تقع الدنيا في أيديهم ولا تقع في قلوبهم. الله الله على من باعوا نفسه وماله وولده لله فقام مجاهدا بنفسه وماله ، نذر نفسه للدفاع عن الأمة ومقدساتها رغم الكيد الذي يحيط به من أعدائه ورغم الخذلان الذي يطوقه من أبناء جلدته ورغم الحصار الذي يضربه عليه أهله وعشيرته إلا أن هدفه لله وسيره لله ما نظروا وراءه وما التفت حوله فكان له ما كان من أجر أو كرامة وكان لمن دونه ما كان من ذل أو مهانة .
عباد الله :
إن تعامل العباد مع المصائب بعد وقوعها على حالات وانراع فإما أن يخسر العبد آخرته بعد سقوطه في امتحان الدنيا وإما أن يصبر على مصيبته فيؤجر ومن من يرضى بها فيغنم والأفضل من ذلك كله من يشكر على المصيبة إذ أنها تهيئ له بابا من أبواب الأجر والثواب حتى وإن كان ظاهرها الأذى والمشقة .
وأخيرا أخوة الإسلام !:(4/143)
إن مما يعين على النجاح في إمتحان الابتلاء في الدنيا العلم أن عدم الصبر وعدم الرضا لن يرد شيئا من المصيبة بل إن المصيبة ستقع وسيخسر معها الذي لا يصبر أجره في الآخرة وعون الله له في الدنيا كما أن الله سبحانه وتعالى مهما بلغت مصيبة العبد التي ينزلها عليه فإن فيها لطف منه جل جلاله وكما قال ذلك الصحابي الذي بترت ساقه ومات أحد أبنائه مرة واحدة فقال الحمد لله فإن أخذ طرفا فقد أبقى أطرافا وإن أخذ ولدا فقد أبقى أولادا فانظر يا عبد الله إلى نعم الله التي حولك حتى وإن وقعت بك المصيبة فإن الله لطيف بك ويمن معك . فاللهم يا ذا المن والعطاء أسبغ علينا نعمك في الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين .
============
أصول جامعة في النصر والهزيمة وفقه الابتلاء(1)
رئيسي :علم :الخميس 5 جمادى الأخرة 1425هـ - 22 يوليو 2004
الأصل الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار- والواقع شاهد بذلك-. وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.
الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا، فمعولهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض؛ هان عليهم تحمل المشاق والبلاء. والكفار لا رضا عندهم، ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله:{ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104]}[سورة النساء] . فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله، فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله، ومؤنته، ومشقته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه؛ كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه.
الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان-وإن كان في الظاهر بخلافه- قال الحسن:' إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه'.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ] رواه مسلم. فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم، فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان: أمر لازم لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض، والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة، والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم؛ لكان ذلك عَالمًا غير هذا، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى:{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[37]}[سورة الأنفال] .
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانًا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز وجل:
__________
(1) - موسوعة المقالات والبحوث العلمية - (ج 208 / ص 1)(4/144)
فمنها:استخراج عبوديتهم، وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين، غالبين؛ لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم؛ لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة.
فإذا غُلبوا.. تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلبوا؛ أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة. ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا؛ لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية: أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارةً، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم، والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[141]أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[141] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[143]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144]وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[145]}[سورة آل عمران].
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله، ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولًا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها كالأرزاق والآجال، ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم -وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه- ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعًا.
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة، لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو؛ لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد، ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي: تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة، والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد، ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم..فهذا بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.(4/145)
الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم؛ ليعلم من يريده ويريد ما عنده، ممن يريد الدنيا وزينتها، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[7]}[سورة هود]. وقال:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[7]}[سورة الكهف]. وقال:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[2]}[سورة الملك]. وقال تعالى:{...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء].
وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]}[سورة محمد]. وقال تعالى:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت].
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين:
إما أن يقول أحدهم: آمنت، أو لا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا. فأما من قال: آمنت، فلابد أن يمتحنه الرب، ويبتليه ليتبين: هل هو صادق في قوله: آمنت، أو كاذب، فإن كان كاذبًا؛ رجع على عقبيه، وفر من الامتحان كما يفر من عذاب الله. وإن كان صادقًا؛ ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانًا على إيمانه، قال تعالى:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]}[سورة الأحزاب].
وأما من لم يؤمن: فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلابد من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ، وفي القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة، وأسهل بلية، فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه من الصبر والثبات، والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته، وأما الكافر، والمنافق، والفاجر، فتشتد محنته وبليته وتدوم.
فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة، فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت، أو كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعيم ابتداءً، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم ألبتة.. يوضحه:
الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم؛ آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلابد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم، أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم.
ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم، فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى. وإن وافقهم فرارًا من ألم المخالفة؛ أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولًا بموافقتهم.. فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألمًا عظيمًا دائمًا.. والتوفيق بيد الله.
الأصل الحادي عشر: أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام، فإنه: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارةً، وبتألمها بدون التلف.. فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله.(4/146)
وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس، ومن المعلوم: أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات، وأفضلها، وأعلاها، ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول:{ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا[16]}[سورة الأحزاب]. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلًا؛ إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه.
ثم قال:{ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا[17]}[سورة الأحزاب]. فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله إن أراد به سوءًا غير الموت الذي فرّ منه، فإنه فرّ من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيره؛ لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه، وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فالأمر هكذا في مصيبة المال، والعرض، والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته؛ سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلًا وآجلًا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنؤه وعلى مخلفه وزره، وكذلك من رفه بدنه وعرضه، وآثر راحته على التعب لله، وفي سبيله؛ أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.. قال أبو حازم:' لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقى الله من معالجة التقوى'.
واعتبر ذلك بحال إبليس، فإنه امتنع من السجود لأدم فرارًا أن يخضع له، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادمًا لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته. وكذلك عباد الأصنام أنفوا أن يتبعوا رسولًا من البشر، وأن يعبدوا إلهًا واحدًا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار.
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لابد أن يذل لمن لا يسوى، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته؛ عقوبة له، كما قال بعض السلف:' من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته'.
من كتاب:'إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان' للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله.
=============
الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل
(1/5)
د. علي بن عمر با دحدح عضو هيئةالتدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة 8/4/1425
27/05/2004
لماذا يتحمس الشباب؟
وهل الحماس في الشباب عيب؟ أو شيء طارئ أو أمر غريب؟
نقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي لعناصر كثيرة منها:
1. الحيوية والقوة
أن الشباب فيه حيوية وقوة والله سبحانه وتعالى كما جاء في التقديم قال:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}(الروم: 54).
فالشباب قوة بين ضعفين وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما وحتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما يزال الخلايا والأعضاء تزيد وتنمو وتعظم وتتكاثر وهذا أمر بين وإذا رجعنا حتى إلى اللغة تسعفنا هذه المعاني بشكل واضح لأن الاشتقاق اللغوي لأصل شب وهو أصل الشين والباء في اللغة يدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطيعة الشباب ومن ذلك قولهم: شبت النار أو شببت الحرب ثم كما يقول ابن فارس ثم اشتق الشباب منه وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته ولذلك نرى هذا الأمر واضحا وأن من طبيعة الشباب الفطرية بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيولوجية أي الطبيعية الفيزيائية أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة وشيء مما يزداد قوة ويزداد ..
ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها أو تكلف فيها أو تطلب لأسبابها بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه.
2- الإرادة والتحدي :(4/147)
جانب آخر في طبيعة الشباب في مقتبل العمر وهو قضيةالإرادة والتحدي: من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة وإرادة قوية من خصائص الشباب قبول التحدي بل والتعرض له والبحث عنه والثبات عليه ولو أننا أردنا أن نأخذ أمثلة والأمثلة اعذروني ستكون دائما محدودة لأننا لو تشعبنا فيها يضيق المقام عن ذكر ما وراء ذلك.
قصة لابن مسعود وأنتم تعرفون ابن مسعود كان من صغار الصحابة وشبابهم وكان إلى ذلك نحيل الجسم دقيق الساقين كان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتداولون فيما بينهم من يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في نوادي قريش وهي عملية تحد كبيرة وعملية تحتاج إلى قوة إرادة وصلابة عزيمة فانتدب لذلك ابن مسعود الشاب النحيل وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام وصدع بآيات القرآن يقرؤها بين ظهرانيهم وإذا به كما هو متوقع ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم بل كان يعرف ما يترتب على ذلك عمدوا إليه وضربوه وأثخنوه بالجراح ولعلنا نقول بعد هذا الحدث أنه قد أخذ درسا كافيا لكن ما الذي حصل؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: (أما لو شئتم لأعاودنهم بها) فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي لأن نفس الشاب دائما فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين أو أن تهادن أو أن تتراجع بل تريد دائما أن تثبت نفسها وأن تظهر قوتها وأن تصر على رأيها وأن تثبت على مبدئها وأن تكون نموذجا ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمور بها النفس وكذلك:
3-الأمل والطموح:
لأن الشباب في مقتبل العمر فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعا قد يرسم طريقا في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم وأنه سيحصل فيه وأن سيكون له كذا وكذا وكذا وقد يرسم طريقا في مجال حياته الاجتماعية أو في حياته العملية لكن لو أننا تصورنا المرأة في الخمسين أو في الستين لا شك أن الأمل موجود لكنه قطعا سيكون محدودا ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا كذلك هذه الأمثلة في فتى الرابعة عشر الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس وكيف يذكي تلك الآمال وكيف يشحذ تلك الهمم ربيعة بن كعب الذي مان يبيت إلى جوار بيوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام من الليل قام يصب له وضوءه عليه الصلاة والسلام فأراد النبي أن يكرمه كما هو معروف في قصته فقال: (يا ربيعة سلني ما شئت؟) والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاب الدعوة فقال: انظرني يا رسول الله، وعندما نقول الآن للشباب ماذا تريد؟ ما هو أملك؟ ما هو رجاؤك؟ اطلب ما سنحققه لك ويطون رهن إشارتك وبين يديك؟ فربما نعرف اليوم أنه ربما يطمح إلى هذا أو ذاك من أمور الدنيا وشؤونها لكن ربيعة بعد أن تريث وتأنى قال مقالة عظيمة رائعة فريدة لو اجتمعت لها عقول الشيوخ الكبار والعلماء العظام لربما قصروا عن أن يصيبوا مثل ما قال فأوجز وأبلغ في أمله وطموحه فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فلم يسأل الله الجنة بل سأل مرافقة الرسول في الجنة ليكون سؤاله في أعلى وأعظم مطلب فماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهذه هي التربية لكي يبقى الأمل ممتدا والطموح متواصلا (أعني على نفسك بكثرة السجود) ونعلم قوله لعبد الله بن عمر يوم أول رؤياه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) والأمر في هذا واضح وجلي وكثير.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لكل ما كان يناسبه حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله كما هو معروف في الحديث لذي رواه الترمذي عندما عدد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة وذكر في كل منهم خصيصة يتميز بها قال: (أقرؤهم أبي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ) إلى آخر ما ذكره عليه الصلاة والسلام.
4- تنوع الخيارات:
مازال في مقتبل العمر هل يتزوج الآن؟ هل يكمل دراسته؟ هل يدخل ميدان العمل؟ أما من قد طويت صفحات عمره فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة وربما نرى نحن أننا نضيق الآن المجال فلا يبقى مساحة إلا لكم معاشر الشباب الذين تدخلون في جميع التعريفات أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه يبدأ تضييق الدائرة عليه كما قلنا فلذلك لما كانت هذه الحماسة من طبيعة الشباب فنحن نرحب بها ولا نعارضها ولا نقول إنها شيء شاذ أو أمر غريب ولكننا نوصل أيضا في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها وبعض فوائدها ليكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل.
ثمرات الحماسة :
الحماسة تورث خلالا كثيرة وسمات عديدة:
1- الهمة والعزة:(4/148)
فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية والعزيمة ماضية والعزة أبية والروح فتية بحيث أن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تعد من مظاهر القوة الإيجابية ليس في الشباب رخاوة وليس في الشباب ضعف وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا قد جعلت لهم صورة أخرى في الشباب هي صورة الدعة والترف والرخاء ولكننا نقول إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائما في قصب السبق والتقدم كما سيأتي في المراحل التالية ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في سير الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والأمثلة محدودة كما قلت بحكم الوقت هذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج عند البخاري في الصحيح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع عبد الله بن عمرو بن العاص قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر وتصلي فلا تنام وتقرأ القرآن في كل ليلة) فقال: بلى يا رسول الله، هذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو انظروا إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر ولا ينام ليله ويختم في كل ليلة نعم رده النبي النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال المعروف في الحديث لكن الشاهد عندنا هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.
2- العمل والإنتاج:
الهمة والعزة تتحول إلى عمل مثمر وإلى تواصل في الإنجاز وحرق المراحل لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود ولا يرضى بالكسل والخمول ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة في نفسه ولذلك نرى كيف كان شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة والتربية الجادة كيف كانوا دائما يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة حتى في مجالات مختلفة لعلي أذكر مثالا في قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو الذي كان غلاما صغيرا في نحو السادسة عشر من عمره فقال له النبي النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند عند الإمام أحمد: (اقرأ حرف يهود) يعني حتى يقرأ له أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم اللغة حتى يقرأ للنبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه عفوا فتعلم السريانية في بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوما فكان يقرأ للرسول وكان يكتب له وفي بعضها في سبعة عشر يوما وبالمناسبة أيضا زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جعل من مؤهلاتها الشباب في صحيح البخاري الحديث المشهور في جمع القرآن (قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت: إنك شاب عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأول هذه الخصائص أنه شاب مهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة تحتاج إلى عمل متواصل أسندت إلى هذا الشاب الفتي مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته ومع أن الذي كان يحدثه أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره وهما أفضل الصحابة وأكبرهما سنا إلى غير ذلك مع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشباب قال: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة وأعانه عمر ووضع الشروط والضوابط والشهادة المطلوبة على كل وهو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمتن صوة ما كانت لتكون لولا هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب والأمر في هذا كما قلنا يطول الحديث عنه.
3- الثبات والإصرار:(4/149)
كثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن ومع استمرارية العمل وذو النفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالبا ما ينقطع نفسه وينقطع عمله وينقطع بعد ذلك أثره ويطوى خبره لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير من مزايا الشباب في الحماسة: أنها تعطيهم قوة وثباتا بشكل منقطع النظير أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرئ القرآن في مسجدها أربعين عاما كل يوم وهو أمير وهو يتولى الحكم لكنه كان في صفته وسمته يدل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل ليست قضية ردود أفعال ولا سحابة صيف تنقشع ولا أمرا أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها ونرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات لعاطفية وخاصة نحن في عصر عولمة وإعلام وكوكبة وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثا كبيرا وحبيب بن زيد رضي الله عنه وهو من أمثلة الشباب كيف ثبت لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب فكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يقول مسيلمة: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله يقول: لا أسمع لا أسمع وإذا بمسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه يقطع أذنه يجدع أنفه ويقطع إربا إربا وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتى أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير) لما دخل الإيمان في قلبه وتمكن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة ولم يتغير له موقف ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها رضي الله عنه وأرضاه حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنواتا طوالا بعد مصعب بن عمير رضي الله عنه كما ورد في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائما في يوم خميس وأتي له بطعام الإفطار وكان فيه صنفين من الطعام نوعين من الطعام فقط نوعين فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فتعجب الناس قالوا: ما يبكيك؟ قال: ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد يوم مات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدا قدماه وإن غطينا قدماه بدا رأسه وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا، بقي موقف مصعب في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه فقطعت فضمها بعضديه حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ .
4- نجدة وإعانة :
وينتج عن هذه الحماسة في الجلة أيضا نجدة وإعانة لأن المتحمس يأبى أن يرى الضيم ويسكت يأبى أن يرى المحتاج وهو واقف لا تستجيشه تلك العاطفة إلى أن يمد يد العون وإلى أن يسابق وإلى أن يكون في الصفوف الأول في كل هيعة وفي كل ميدان من ميادين العطاء والنجدة ولعل قصة حنظلة بن أبي عامر غيل الملائكة الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهدا في سبيل الله ناسيا أن يغتسل من جنابته حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي.
5- امتنان وانتفاع :
وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء وانتفاع من حولهم بهم بدلا من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا.
حسرات الحماسة :
هنا انعطافة لننظر إلى الصورة الأخرى وإلى الشق الآخر حتى تكتمل الرؤية من جوانبها المخلفة لأنه ليس من مصلحتنا في شيء دائما أن نسمع من الناس ما نرغبه وما نحبه بالعكس الإنسان يستفيد أكثر ممن قد يكون له وجهة نظر أخرى وممن قد يكون له من بيئته ومن تنشئته ومن معرفته ما قد لا يتفق معك فحينئذ يحصل نوع من التبادل والتكامل والامتزاج النافع والمفيد نحن لا نريد ولا ينبغي أن نفرح عنما نجد من يطبطب على ظهورنا ويؤيد مواقفنا في كل شيء وربما نجد أن طبيعة العاطفة تدعو إلى ذلك من هو الذي نحبه ونأنس به؟ هو ذلك الذي يوافقنا في كل ما نقول ويسايرنا في كل ما نعمل ويعطينا الدعم المعنوي والإيجابي في كل مبدأ أو رأي أو موقف نتخذه دون أن يكون عنده أدنى تحفظ حتى ولو أخطأنا أو حتى توقع في مستقبل الأمر أن تكون هناك احتمالات لوجود عواقب أو مخاطر أو نحو ذلك لا لابد أن نأخذ هذا الجانب مرة أخرى في صورة مغايرة عما سبق أول هذه الحسرات.
1- الفتور والإحباط :(4/150)
عندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم وغير مستوعبة للواقع ولا مدركة للإمكانيات ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب فإن هذه الإندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور يترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم تعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساسا للإنطلاق أو العمل ولعلي أضرب مثالا يدور أو يفع في صفوف الشباب كثيرا في بعض الجوانب الحياتية على سبيل المثال ربما يسمع كثير من الشباب الحث على العلم وطلب العلم وفضيلة العلم وتأتي هذه النصوص وتلك المحاضرات فتلهب في نفسه الحماسة وإذا به ولم تكن له سابق تجرة ولم يأخذ خبرة من صاحب تجربة يندفع اندفاعة من الناحية المنهجية غير صحيحة ومن الناحية التي تناسب طبيعته وقدرته غير متطابقة معها فإذا به لا يلوي على شيء ذكر البغوي في كتاب العلم شرح السنة عن الزهري رحمه الله قال: من رام العلم جملة فقده جملة، وهذه طبيعة ونحن نرى كيف يقبل كثير وهذه ظاهرة موجودة الشباب يقبلون ويريد أن يدرس هذا العلم وذاك العلم ويحفظ هذا المتن اندفاعة ليست متكاملة فكثيرا ما يؤول به الأمر إلى أن يترك ذلك كله أو حتى في جانب الالتزام الشخصي والأخذ بأمور الفرائض والعبادات والتطوعات يندفع فيها بغير ما يتناسب مع طاقته أو ظرفه ويكون فقط تحت تأثير عاطفي مؤقت ثم يرجع إلى ما وراء ذلك ونجد في هذا كما قلت من الناحية الواقعية أمثلة كثيرة والتجربة فيه واضحة حتى نستطيع إنشاء الله أن نواصل هذه المعاني.
2- تعطيل إعاقة :
كثيرا ما تدفع الحماسة إلى عمل متهور تفسد به كل تلك الرؤى التي كانت تبنى عليها الآمال وتقام عليها الأحلام لمواصلة في عمل ما لأن الإندفاع الشديد والخروج عن المسار الصحيح لا شك أنه سوف يفعل ردود أفعال كثيرة وهذه ردود الأفعال سوف تكون تعطيل ومنع وإعاقة وواقع الشباب المسلم في المجتمعات الإسلامية أيضا فيه أمثلة كثيرة من ذلك ونحن نعرف في كثير من بلاد المسلمين كيف كانت ثورات من الإندفاع في بلاد كثيرة أدت إلى منع خير كثير وإلى سد أبواب من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إلى تغييرات أعمق وأشد تأثيرا بدلا من ذلك الخير الذي كان ينشده بنسبة محدودة وإذا به ينقلب إلى كثير من العوائق والموانع والسدود التي تمنع كثيرا وكثيرا من الخير عليه وعلى آلاف مؤلفة من ورائه ولعلنا أيضا لا يخفى علينا مثل هذا فيما جرى في كثير من البلاد التي انفرط فيها عقد أمنها واختلت فيها الموازين وكثر فيها الهرج والمرج مما سيأتي أيضا ذكر بعضه فيما نأتي به في هذه النقاط:
3- موت وإتلاف:
يعني قد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحيانا قد تصل إلى شيء من تغييب العقل وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة ولا الشعور ولا ردود الأفعال ولا الانتصار للذات الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها:
الأول: هو حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما كان واجبا أمضيناه وما كان محرما تركناه ويلحق به ويكمله
الثاني : مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر فإن من الأمور ما قد يكون واجبا أو قد يكون مباحا لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم وقد يكون فعله في هذا الموطن محرما وإن كان في أصله واجبا وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مثل: (لا ضرر ولا ضرار) وغير ذلك من القواعد المعروفة فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها ولعلي هنا أيضا أركز في هذا المعنى لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف ولا تكاد تفهم حقائق النصوص وإذا تأملنا في هذا الجانب ثمة أمر مهم نحن نذكره لأنه من دين الله ولابد أن نفقه ديننا وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله عز وجل وأنه لابد لنا أن نتأمل في حكمة الشارع لأن الشارع معصوم سواء كان ذلك في كتاب الله أو ما ثبت من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولعلي أخص هنا موضعا محددا من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين.(4/151)
طائفة كبيرة كثيرة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم وكيف يكون التعامل في هذا الشأن ولعلي وأنا أستطرد هنا قليلا لا أقول إن هذا الحديث وهذه المحاضرة قد أعدت من قبل وإن كانت متطابقة ربما مع أحداث مؤسفة ومحزنة وقعت البارحة وفي الفترات الماضية، نقول الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ليست القضية كما قلت عاطفية يذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام هذه الأحاديث فيها ضبط شديد وفيها تحوط كبير وفيها ربما في صورتها الظاهرة كأنما تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون فيقول على سبيل المثال عليه الصلاة والسلام في بعض ما صح من هذه الأحاديث قال: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر) وفي رواية أخرى من حديث حذيفة قال: (وإن جلد ظهره وأخذ ماله) وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتنة قال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث يعني قال لرسول الله: أرأيت إن أتي به إلى الصفين قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فليدق سيفه) يعني فليتلف سيفه حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها ربما بعض الناس على أنها سلبية مطلقة وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عوميات أخرى في دين الإسلام ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذا قال يعني في مثل هذه الأوامر قال: فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة وكبرت البلية وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجودا بمثل هذا الأمر ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية كلا دين الله عز وجل واضح لا يضيعه أحد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك أحد تغييره ولا تبديله وذلك من فضل الله ونعمته علينا فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع وانظروا إلى هذه الأمثلة:
حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب لما طلب منه النبي أن يذهب ليرى خبر القوم الأحزاب أبو سفيان ومن معهم من قريش والقبائل فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة ويصف هو يقول: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي إلا أني ذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحدث شيئا حتى ترجع) أبو سفيان رأس الكفر وهو قائد الأحزاب وكان في مرمى سهمه ونباله لكنه امتثل ذلك الأمر والأمر قطعا كانت فيه حكمة وهو إرشاد ووحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم:3،4).
ومجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد وأتته رسالة بعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض نفقي فيه ماء فانتدب قال سعد لمجزأة: انظر لي رجلا من قومك خفيفا جريئا شجاعا، قال: اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير ، وقال له: لا تحدث شيئا، قال: وخلصت حتى رأيت الهرمزان ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قول سعد فرجع وأخذ ثلاثمائة وكلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا من الداخل، ليست القضية اندفاعات عاطفية وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولوية ينبغي أن نعرفها.
4- الضياع والخسارة:
كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ثم لا يرمون على شيء لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة، وتنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة وذلك أيضا كما قلت حتى لا نطيل يزيد في الأمر ولعلي أضرب مثالا في قضية العلم مرة أخرى:
بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويتحدث بها، فلان مخطئ فلان كذا ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهو لم يعرف الصحيحة بعد ولم يحفظها ولم يكون من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز بعد ذلك الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة.
وقد قال ابن القيم رحمه الله كما ورد في الفوائد قال: من تتبع شواذ المسائل يعهني التي فيها الخلافات فقط يتتبعها، يقول: منهج أهل السنة والجماعة أخذ أصول العلم قال: وغيرهم يتتبع شواذ المسائل وهو يقول عن تجربة: وقل من رأيته يفلح في هؤلاء، ما يصل إلى ثمرة لأنه إذا صح التعبير يأخذ من كل بحر قطرة وينتهي بعد ذلك إلى ولا قطرة، ليست هناك يعني هذه الصورة الإيجابية التاي بتجميع هذه الجهود نصل إلى ثمرة هناك ضياع وخسارة.
5- التضخيم والاختلال:(4/152)
هناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى وهي مئات أضعاف حجمها من حماسة الناس أحيانا إذا تحمس لأمر جعله هو كل شيء هو مبتدأ الأمر ونهايته وهو أوله وغايته وهو الذي لايمكن أن ينشغل أحد بسواه وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور وهكذا تندفع العاطفة تماما هي العاطفة بطبيعتها حتى لو اندفعت العاطفة كما نعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب كما قال المجنون ولا بأس أن يكون هذا التفريع للشباب، يقول:
إذا قيل للمجنون: ليلى تريد *** أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها *** أحب لنفسي وأشفى لبلواها
يقول ابن الجوزي معلقا: وهذا مذهب المحبين بلا خلاف فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها.
فالمسألة الاندفاعية في العاطفة هذه قضية عظيمة ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل: من أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب أما علمه فغزير وأما رأيه فسديد وأما منطقه ففصيح وأما تصرفه فحكيم، كأنما لم يكن فيه عيب مطلق ونحن حينئذ نقول: هو الأول وهو الآخر وهو الذي ينبغي أن يكون … أين هذا من ذلك الاتزان حتى النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) ويقول: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) يعني يجعل هذا الاعتدال في شخصه عليه الصلاة والسلام وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه سبحانه وتعالى ولذلك مما رواه أبو هريرة وهو من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته فإذا أقبل علينا لم نقم له لأنا نعرف كراهيته لذلك.
وأحيانا إذا انتقصنا إنسانا وكان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وهذه قضية واضحة ونعرف الأمثلة في هذا قصة سلمان رضي الله عنه ولا أريد أن أطيل.
إذن هل نحن الآن مع الحماسة؟ وإلا فترت حماستنا للحماسة والمتحمسين لكننا نقول: لا للتهور، الحماسة التي قلناها باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها.
الحماسة المتهورة :
ثم نمضي مرة أخرى إلى الحماسة المتهورة: ما أسباب هذا الذي رأيناه من قبل؟ لابد أن نعرف العلل من خلال أسبابها وبداياتها حتى نجتنبها وحتى نتقيها فالوقاية خير من العلاج أول هذه الأسباب:
1- قصور في العلم:
مشكلة الجهل هي آفة الآفات ومن الجهل: جهل بسيط وجهل مركب كما تعلمون، الجهل الذي نقصده هناك غياب كثير من الأصول العلمية المهمة:
معرفة النصوص الشرعية في كثير من الميادين الحياتية والمسائل الآنية المستجدة، معرفة القواعد الشرعية كما قلت التي هي خلاصة إستقراء للأدلة النصية ، معرفة المقاصد الشرعية التي هي خلاصة غايت هذا الدين وأهدافه، معرفة السنن الربانية في طبيعة هذه الحياة وطبيعة قيام الدول وسقوطها وطبيعة مآل المتقين وعاقبة المكذبين والكافرين قضايا كثيرة لابد أن ندركها ونعرف أنها سنن ماضية لا تتبدل:
{ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } (فاطر: من الآية43).
لابد أن يكون عندنا يقين ومعرفة وتشرب لهذه المعاني حتى لا نندفع مع العاطفة بعيدا عن هذه الأصول العلمية المهمة وكما قلت الأمثلة قد تطول ولكنني أذكر عندما نتلو قول الله سبحانه وتعالى:
{ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } (محمد: من الآية7).
عندما نقول:
{ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود: من الآية49).
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون َ} (الروم:60).
هذه معاني مهمة النبي عليه الصلاة والسلام طبقها والصحابة على سبيل المثال بعض الأمثلة.
في سنن أبي داود نفر من الصحابة كانوا في سفر شج أحدهم أصابته الجنابة استفتى أصحابه، قالوا: لا لابد أن تغتسل الجو بارد والرجل مشجوج، قالوا: لابد أن تغتسل، فاغتسل فمات، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، أ فلا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال) كم من القضايا الضخمة الهائلة والمسائل الكبيرة التي من المفترض أن لا يتكلم فيها إلا أكابر العلماء مجتمعين وإذا بك تجد ذلك الشاب في مقتبل العمر يتناول الحديث فيها ويفتي فيها ويعطي القول الحاسم والجازم ويرفض كل ما يخالف رأيه وقوله وهذا في غالب الأحوال ليس عن أساس علمي وإنما هي عن اندفاعات عاطفية وخليط ومزيج من هذه التجاذبات التي تجتمع لدى هذا أو ذاك وكما قلت المسائل كثيرة.
2- النقص في الوعي:(4/153)
والوعي هو: إدراك المسائل من جميع جوانبها ومعرفتها من كل وجوهها، كثيرا ما تكون النظرة إلى جانب واحد تذكرنا بالقصة المشهورة للعميان الثلاثة الذين اتفقوا هل رأوا الفيل؟ فأحدهم وقعت يده على خرطومه، والآخر وقعت يده على أذنه، والثالث فكل عندما وصف إنما وصف الجزئية التي رآها وكان الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة لأنه لم تكتمل الأجزاء حتى تتكامل الصورة بشكل واضح معرفة الواقع أصل مهم في تنزيل الحكم الشرعي على هذه المسائل وهذه مسألة طويلة وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فصولا نفيسة في هذه المسألة وقال: إن كل عالم ينبغي أن يكون عالما بالشرع وبصيرا بالواقع حتى يستطيع أن ينزل هذا على ذاك نقص لوعي لما وراء هذه الأمور وم يترتب عليها من المفاسد والمصالح والرؤية التكاملية إذا غابت فإنها في غالب الأحوال يقع لها يعني بها مثل ذلك الذي أشرنا إليه.
3- الضعف في التربية:
كثيرة أجيال الشباب الذين لم يتلقوا تربية متكاملة منهجية على الأصول الإسلامية كثيرون منا كنا في أوقات ليس عندنا أحد يرشدنا أو ربما لقد كنا سرنا في طرق من التسيب أو التفلت أو تجاوز المحارم أو نحو ذلك ثم بعد ذلك عدنا أو كانت لنا ثقافات خليطة ثم بعد ذلك حاولنا أن تكون لنا ثقافة أصيلة هذا الخليط فيه ضعف في التربية ليس فيه تعود على منهجية متكاملة على سير واضح على تخطيط بين على صبر وانضباط كثيرا ما يكون عبارة عن هذه الردود الانفعالية وكثيرا ما نرى الجوانب المتضادة فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بغير أن تمر أو بغير أن يكون هناك مرور على منطقة الوسط وهذا مشاهد في كثير من الجوانب.
4- إحباط في الشعور:
وهو لعله من أخطرها وأكثرها تأثيرا في الشباب الذين يتهورون وهو: الإحباط في مشاعرهم من نواح عدة أول هذه النواحي:
تسلط الأعداء وهيمنتهم على أحوال وأوضاع بل وبلاد الأمة الإسلامية في عجز فاضح وتخاذل واضح وسلبية مؤلمة ومحزنة:
هذه عند الشباب المتحمس يرى ذلك فتغلبه عاطفته وتتقد حماسته وربما عند غياب ما سبق تضيع الرؤية وطيش العقل وينعدم الرأي السديد المبني على العلم الصحيح وهذا نحن نعرف واقعه ونعرف كم هي بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء وتسلطوا عليها ليس لسنة ولا سنتين ولا لعقد ولا عقدين بل لما هو أكثر من ذلك ولعل فترات الزمن الأخيرة كان فيها كثير مما يعد هزائم وتراجعات المسلمين على مستويات عدة بل على المستويات الحضارية والعلمية وهذا عند من تتقد نفسه غيرة وحمية لابد أن يكون لها أثر فإذا زاد حجم هذه القوة حجم هذا العدوان وحجم هذه الهزائم أصبحت أكبر من أن تحتملها نفسه فيخرج إلى غير حد اعتدال وإلى غير تصرف الاتزان وهذا أمره أيضا واضح.
الأثر الثاني في إحباط الشعور: أيضا كثرة الانحراف والخلل والتجاوز في مجتمعات المسلمين نفسها في حدود الله عز وجل:
نحن نعرف كم في بلاد المسلمين من هذه التجاوزات كم في بلاد المسلمين من إقرار المنكرات والقيام بها وإعلانها وتبنيها، كم فيها مما هو مخالف لشرع الله ويمنع شرع الله ويبيح ما يخالف شرع الله وهذ قضية لا شك أن كل ذي غيرة وإيمان يضيق صدره بها وتغلي نفسه ويشتعل قلبه حزنا وألما ورغبة في أن لا يكون مثل ذلك لكن عندما تفقد بعض هذه الصور يكون أيضا ما ذكرناه.
وجانب ثالث: وهو سوء المعاملة والظلم في التعامل مع هؤلاء الشباب:
سواء كان في بيئة التعليم من أساتذتهم أو من قد يكونون في موقع التربية ولا يجدون منهم إلا تخطئتهم وإتهامهم بالنزق والطيش أو كذا أو حتى في الدائرة الأسرية وعجز الآباء عن تفهم ما قد يكون عند الشباب من عواطف فيها أخطاء لكنها تحتاج إلى توجيه وربما كذلك أحيانا في المعالجات والمعاملات الأمنية عل مستوى الدول كثيرا ما كانت هذه هي بذور لتلك الانحرافات بشكل أو بآخر ونحن في عصر تتجدد أحداثه وتتفاقم بشكل كبير وهذه قضية مهمة.
5- رداءة في الاستيعاب:
هذه الطاقة المتدفقة والحماسة المتألقة أين تصرف؟ أين مجالها الصحيح؟ كيف نضعها على خط القطار ليمشي إلى الوجهة التي ينتهي إليها ليصل إلى غاية محددة ومعروفة عندنا أمران: إما أنها مسنفذة في أمور تافهة وضائعة فكم مستنفذ من حماس الشباب في الرياضة على سبيل المثال، كم من حماسة وقوة وربما صراع وربما أعصاب ويعني قدرات تتفجر في هذا الجانب بهذه الضخامة أو في جوانب أخرى أيضا ليست في الاستثمار الصحيح الرياضة جيدة ربما حتى التشنيع في أصله ليس على هذا ليس شيئا مذموما لكن هذه المبالغات تجعل في آخر الأمر أنها لا تقنع وأنها في الأخير ترتد إلى فراغ يرجع إلى بحث عن بديل آخر ، وإما أيضا: أنه هناك غياب وقلة وندرة في المحاضر الاستيعابية لطاقة هؤلاء الشباب وحماستهم.
حماسة الأكياس:
لعلي أصل إلى نقطة أخيرة وإنها نقطة مهمة وكما قلنا لا للتهور نقول: لا للمتهورين وتسألون الآن: ما الذي تريد؟ وأين سنصل؟ ما بين حماسة مدحتها ثم عدت ونقضت أصولها وهنا نكمل بالشق الثاني لعنواننا ونقف هذه الوقفة الأخيرة في: حماسة الأكياس:
1- التعقل والاتزان :(4/154)
وطبعا ليست الأكياس الأكياس إنما الأكياس من ذوي العقول، هنا جمعنا بين الأمرين نريد هذه الحماسة والحقيقة أن الإنسان بدون الحماسة والحيوية النفسية في الحقيقة هو أقرب إلى الجماد وإلى الموات منه إلى الإنسان الذي بطبيعته هو حيوي والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان في الثانية الواحدة تقوم عمليات ضخمة وهائلة في جسم الإنسان ثم هو بعد ذلك يكون خاملا وقاعدا وكسولا هذا لا يتطابق لذلك نقول: صفة الحماسة إذا أضفنا إليها هذا الخليط والمزيج من الكياسة أصبحت الحماسة الإيجابية هي التي نمدحها ونريدها وترشدها تلك النظرة العقلية المتزنة فتأتينا هذه الصورة التي نريد أن نعطي فيها وصف لهذه الحماسة الكيسة أو الكياسة المتحمسة أو كما ذكر في كلمات جميلة الأستاذ البنا يقولا: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهيب الحماسة.
وهي كلمات جميلة تبين أننا نحتاج لمزج ذلك العقل الذي دائما يتحفظ يتحفظ ولا يريد أن ينطلق يحتاج إلى بعض الحماسة حتى تفك عنه بعض تلك القيود التي يبالغ فيها وربما تلك الحماسة المندفعة تحتاج إلى بعض القيود العقلي حتى يرشدها فلذلك التعقل والاتزان مهم جدا الاتزان لا يجعل هناك طغيان جانب على جانب كما قلنا ونستحضر كما قلنا في قصة سلمان وأبي الدرداء: لما جاء سلمان إلى أبي الدرداء شكت أم الدرداء، قالت: أخوك أبو الدرداء لا حظ له في الدنيا وكذا وإنما هو صائم نهاره أو قائم ليله فنزل ضيفا عليه أراد أن يصلي قال: لا، كان صائما وقدم لسلمان الطعام قال: كل معي، قال أنا صائم قال: أفطر وجعله يفطر ثم أراد لما جاء الليل أن يصلي قال: نم ، ثم قام يريد أن يصلي، قال: نم، حتى انتصف الليل قال: قم فصلي، ثم جادله في ذلك فلما بلغ الأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (إن لأهلك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا "لضيوفك يعني " وإن لنفسك عليك حقا فأعطي كل ذي حق حقه).
موقف أيضا لعثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان في فترة خلافته تعرفون ما بدأ بعض المرجفين يشيعونه من انتقادات على عثمان رضي الله عنه فلما جاء موسم الحج كان عثمان رضي الله عنه من أخيار الصحابة يريد أن يبين للناس خطأ ما يقولونه ويفند فقال: لأقومن في الناس مقاما لا أدع شاردة وواردة إلا أتيت عليها يريد أن يبين للناس، قال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ورب كلمة يطيرها عنك مطير، عقول لا تستوعب عامة الناس تذكر قضايا وإذا بها بعد ذلك تتطيش وهذا يأخذها يمينا وذاك يأخذها يسارا وهذا يفهمها على وجه وذاك يفهمها على وجه آخر الكلام في موضعه جعله الشاطبي رحمه الله من السنة وجعل الكلام في غير موضعه جعله من البدع كما ذكر ذلك في الاعتصام استدلالا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي عند البخاري: حدثوا الناس بما يعرفون أ تحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وحديث ابن مسعود في مسلم قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ، وهذا أمره واضح.
في الحديبية موقف جميل للنبي عليه الصلاة والسلام لما أرادوا أن يكتبوا قال: (اكتب محمد رسول الله) قال: سهل بن عمرو لو كنا نعلم أنك رسول الله ما جادلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، ولما قال: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) قال: لا، لا نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، اكتب باسمك اللهم، الرسول يقول لعلي بن أبي طالب: (اكتب) وعلي غير قابل لهذا يعني لا يرى ذلك المسألة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أوسع نظرا وعقلا دع هذه الصغيرة من الأمور فقال: (اكتب) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرينيها؟) فمسحها الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات بنفسه، قال لعلي: (اكتب) دعك من هذه القضية الصغيرة فإن هناك ما هو أكبر منها لا تجعل هذه المسألة أكبر من حجمها وبالتالي تجعل كل توجهك ومواجهتك وقوتك وطاقتك واعتراضك لهذه القضية فتستنفذ أو تقيم فيها معركة ضخمة هائلة كما نرى من بعض الشباب الآن عندما يذكرون أمرا من الشرع وسنة من السنن لكن يجعلون النفير عليها كأنها أصل الدين كله وربما جعلوا من ذلك كما يخرجون به إلى تفسيق أو تبديع أو تكفير من غير مثل هذا الذي ننبه الناس إليه.
2- الضبط والإحكام :
وقد ذكرت في هذا ما هو مهم جدا ولعلنا نستحضر مثالا واحدا:(4/155)
في بيعة العقبة بعد أن بايع الصحابة رضوان الله عليهم بل قبل أن يبايعوا انظروا كيف كانت روح الحماس جاء أبو التيهان وفي رواية غيره قال: اعلموا أنكم إنما تبايعون الرجل على حرب الأحمر والأسود فإن رأيتم أنكم تسلمونه فمن الآن، أراد أن يفاصلهم وينبههم وأن يستشعر حميتهم، فبايعوه فقال العباس بن عبيد بن نضلة رضي الله عنه: قال: يا رسول الله لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا في منى هذا الكلام في الفترة المكية، قال: لو تريد غدا أن نناجز القوم ونقاتلهم انتهى قال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نؤمر بذلك) ولما جاءه الخباب في الفترة المكية وقد اشتد الأذى: يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟ قال: (إنه كان في من كان قبلكم من يحفر في الأرض ثم يوضع فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فينشر حتى ينفلق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه وإنه كان يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) ثم قال: (والله ليبلغن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون).
3- التدرج والاستثمار:
لهذه العاطفة: لو أننا تدرجنا لوجدنا أننا نحصل أكثر مما نحصل بالسرعة التي ليس فيها مراعاة للواقع ولطبيعة الإنسان وإمكانياته من أحسن الأمثلة في هذا:
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما تولى أبوه الخلافة ونعرف عمر كيف كان عندما تولى الخلافة ورعا وزاهدا وكان يعني يأخذ بالجد في الأمور، جاءه ابنه عبد الملك ينكر عليه ويقول: كيف تلقى الله عز وجل وفي هذا كذا وكذا، فقال له: ألا ترضى أن لا يمر على أبيك يوم إلا وهو يميت بدعة ويحيي سنة، ذاك الشاب يريد أن يغيرها كلها في يوم واحد، وهذا لحكمته وأيضا قوة إيمانه وحماسته يريد أن يجعلها في منهجية تحصل بها النتيجة ويقع بها الأثر المطلوب.
ونعرف ما كان من شأن النبي عليه الصلاة والسلام: في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة طاف النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة والأصنام حولها ستون وثلاثمائة صنم، والرسول يطوف بها بعد صلح الحديبية، ولم يشتمها ولم يتعرض لها أبدا لأن له مجال آخر بعد عام واحد فقط في العام الثامن فتح مكة جاء ومعه محجنه عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأصنام وهي تتهاوى ويقول:
{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } (الإسراء:81).
كل شيء بأوانه الإنسان يجتهد ويعد عدته ويفكر ويدبر ويستشير ويستعين بالله عز وجل ويستخير ولكن هذا التعجل لا ينبغي أن يكون .
4- الدوام والاستمرار :
هو طبيعة ذلك التدرج (خير الأعمال أدومها وإن قل) (أحب الأعمال إلى الله ما كان ديمة) وحتى النية لكي نحافظ على هذه الحماسة تأتينا ثمرتها نحن الآن لانريد العواطف التي تصل بنا إلى العواصف القاصمة وإنما نريد العمل الذي يدوم ويستمر.
ابن عباس يذكر قصة له مع صاحب من الأنصار في سنه، قال: لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم قلت لصاحبي من الأنصار: اغد بنا إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نطلب العلم، قال له: ومن ينظر إليك يابن عباس وفي القوم أبو بكر وعمر وفلان، قال: فانطلقت وتركته وضللت أتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخذ عنهم وتدرج وتدرج حتى أصبح ابن عباس بعد فترة قصيرة من الزمن بهذه المواظبة والاستمرارية هو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه.
والنبي عليه الصلاة والسلام رأى حبلا متدليا كما في الصحيح، قال: (ما هذا؟ ) قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا تعبت تعلقت به، قال: (مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد) خذ أمرا تستطيع أن تواصل فيه .
5- التنامي والانتشار :
وهذا أيضا من الأمور المهمة وينتج عن هذا لو أننا أخذنا بذلك سوف تنمو هذه الحماسة وتنتشر وتعم هذه الإيجابية بشكل مهم وأساسي ولعلنا وقد تجاوزنا الوقت نقول:
إن الذي نريده حماسة ولكنها مشوبة بهذه الكياسة نحن نقول: لا للتهجين والترويض ولكننا أيضا نقول: لا للإثارة والتهييج، نحن نريد أن يكون لنا طريق إلى هذه الحماسة الراشدة من خلال ما قلناه في تلك الجوانب السلبية بعكسه إيجابيا:
علم بالشرع وبصر بالواقع وصبر في المعالجة وعدالة في المواقف وأناة في الممارسة والله سبحانه وتعالى قال:
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } (الكهف:58).
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
===============
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [2/5]
عمر بن عبد الله المقبل (*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(4/156)
فإن مثل هذه التساؤلات، والآهات التي تنفثها صدور كثير من شباب الأمة، لهي والله بشير خير، كيف لا؟ وقد أتى على أكثر شباب قبل ثلاثة عقود من الزمان تقريباً، ولا هم لهم إلا الحديث عن الفن والكرة ونحوها من الأمور التي شغلوا بها ردحاً من الزمن!
لقد مرّت فترة على أكثر الشباب ،وأحدهم ربما بكى لأن فريقه الكروي انهزم ، أو مطربه المفضل مات، واليوم نرى كثيراً من شبابنا -ولله الحمد-ترتقي همهم ،ليكون بكاؤها على ما يستحق البكاء.. ألا وهو البكاء على ما يحل بالمسلمين من ظلم وقتل واغتصاب من قبل أعدائهم.
وفرحتنا بهذا التحول في الاهتمامات ،وبهذه التساؤلات والآهات -لكي تكتمل -يجب أن نستثمرها استثماراً إيجابياً حتى لا تفتر هذه العزمات المتطلعة لنصر الأمة.
أما النواح والبكاء دون عمل، فليس هذا من هديه - صلى الله عليه وسلم -، ولك أن تعلم مقدار حزنه العظيم الذي كاد يفلق كبده على شهداء أحد، ومع ذلك لم يمنعه ذلك المشهد - الذي بقي معه إلى أن مات- من الاستمرار في الجهاد لهذا الدين، وتبليغه.
وإذا تحدثنا عن أهمية استثمارها ، فإننا نؤكد على أهمية ترشيد هذه التساؤلات حتى لا يساء استخدامها في أمور قد يُظَن أنها نافعةٌ وليست كذلك، والسبيل إلى ذلك إنما يكون بترشيدها، وهذا يمكن تحقيقه بعدة أمور:
1- يجب أن لا نغفل ـ في زحمة الأحداث، وشدة وطأتها على قلوبنا ـ عن السنن الإلهية في ابتلاء أهل الإيمان، فلقد ابتلي من هومنا، وكم في الإبتلاءات من الألطاف الخفية لربنا تعالى ،والتي قد تعجز عقولنا عن تصورها،فضلاً عن الإحاطة بها.
أين أنت أخي عن قوله تعالى لخير جند مشوا على وجه الأرض : محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته؟ الذين قيل في حقهم -لما ابتلوا بما ابتلوا به يوم أحد -: "وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" قال غير واحد من السلف: أي: ليختبر الذين آمنوا، حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقينهم.
وقيل لهم أيضاً: "وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ"، أي : يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال .
أخي: كم في الأمة من العلل؟ وكم فيها من الدخلاء ؟ وكم فيها ممن يدعي الحرقة والأمر ليس كذلك؟!
هل نسيت أيها المبارك ما وقع لنبيك - صلى الله عليه وسلم- يوم أحد ؟ أو يوم الأحزاب؟!.
إن هذه الأحداث التي أقلقتك وأزعجتك ، إنها تحت سمع الله وبصره، والله -تعالى- أغير من خلقه أن تنتهك حرمات عباده ،وتغتصب نساء أوليائه ،ويُعرض عن دينه ،ويحارب حزبه ،ولكنها السنن - أيها الأخ الكريم - التي ربّى النبي - صلى الله عليه وسلم- عليها أصحابه حين اشتكوا إليه شدة ما يلقون من المشركين ، ومنهم خباب - كما في البخاري - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وهذه الجملة الأخيرة، يجب ألا تغيب عن الأذهان، ونحن نبحث ونتلمس النصر لهذا الدين..
ويجب ألا تغيب ونحن نسمع أو نعلم عن إخوان لنا في السجون قد يموت أحدهم في سبيل الله ، ويجب أن ندرك أن الأمر كما قال الشاعر:
فتلك سبيلٌ ، لست فيها بأوحد
2 ـ ومع استحضار سنة الابتلاء، فإننا يجب أن نتذكر أن هذا الطغيان والاستبداد الذي تراه من أمم الكفر، هو أيضاً لا يخرج عن سنة أخرى من سنن الله تعالى في الأمم، وهي أن هذا في الحقيقة تمهيد لمضي سنة أخرى من سنن الله تعالى، ألا وهي محق الكفار.
يقول ابن القيم -رحمه الله - وهو يتحدث عن العبر من غزوة أحد في (زاد المعاد)(4/157)
(3/222): ومنها ـ أي من دروس غزوة أحد ـ أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها - بعد كفرهم - : بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم، وتقوية نفوسهم، وإحياءِ عزائمهم وهممهم، وبين حسن التسلية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم، فقال: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" فقد استويتم في القرح والألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم؟! فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس، وأنها عرض حاضر يقسمها دولاً بين أوليائه وأعدائه، بخلاف الآخرة فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي: أن يتميز المؤمنون من المنافقين ، فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة ، بعد أن كانوا معلومين في غيبه.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: اتخاذه سبحانه منهم شهداء، فإنه يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة " انتهى.
وكان قال قبل ذلك ـ رحمه الله ـ مقرراً هذا الأصل (3/18): والمقصود أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفسُ في الأصل جاهلةٌ ظالمةٌ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية" اهـ .
3- علينا -أيضاً- أن ندفع هذه السنة بسنة أخرى، وهي سنة العمل للدين، فإن الله تعالى قادرٌ أن ينصر دينه بأيسر الأسباب ،ولكن اقتضت حكمته أن لا يتم النصر إلا على أيدي رجالٍ ينذرون أنفسهم لنصرة دينهم بالغالي والنفيس، وبكل ما يقدرون عليه.
ألم تر -أخي الكريم- كيف ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم، بل أخرجوا منها رغماً عنهم، وقبلوا بذلك، وما أرخصه إذا كان الثمن رضوان الله والجنة، فأعقبهم الله تعالى- بعد سنوات من الدعوة والجهاد- بأن عادوا إليها فاتحين، وقبل ذلك وبعده أن الله تعالى رضي عنهم، وعن إخوانهم من الأنصار.
إذن، نحن بحاجة إلى أن نخرج من دائرة النواح والبكاء، لننزل إلى ميادين العمل، وما أكثرها في هذا الزمن!
ومن المهم -أيضاً- في هذا المقام أن لا نختصر مجالات النصرة، وسبل رفع الذلة عن هذه الأمة في عملٍ واحد، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بالتوحيد، هو الذي أمر بإماطة الأذى عن الطريق، وهو الذي أمر بالإحسان إلى الحيوان ويجب أن لا نستهين بأي عملٍ فاضل، وأن لا يعيب المشتغل بالعلم تعلماً وتعليماً من نذر نفسه في ميادين الدعوة إلى الله، أو في ساحات الجهاد ، والعكس صحيح، فإن الجميع يكمل بعضهم بعضاً، ولا غنى للأمة عن أي عملٍ صالح.
نعم! ليست الميادين في تأثيرها وقوتها بدرجة واحدة، لكن مقصودي هو التحذير من اختزال أسباب النصر في سبب واحدٍ أو سببين، فإن الله تعالى قال: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".
فلنسع إلى نصرة ديننا جهدنا، ولنكن ممن لبى نداء ربه الذي قال:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ".
وقد سألت أيها الفاضل عن كيفية السعي لنصرة هذا الدين؟ وسأل آخر عن كيفية القيام بواجبه الدعوي؟ ومن الصعب في مثل هذه العجالة أن أفصل لك ماذا تعمل، لكن يمكنك الانطلاق من خلال الخطوات التالية:
1- قم بحصر للمنكرات في محيطك الذي حولك.
2-ابدأ بعلاج المنكر الأكبر ، فإن لم تستطع فانتقل للذي بعده.
3- تواصل وتشاور مع أهل العلم والدعاة ـ إن وجدوا في بلدك ـ لبحث كيفية علاج هذه المنكرات أو التخفيف منها، وإلا فانتقل للذين بعدهم وهكذا، وأرجح ألا تبتعد في السؤال عن أهل بلدك، لأنهم أعلم بحال بلدك من غيرهم، فإن عدموا ـ ولا أظن ذلك ـ فبإمكانك أن تتواصل مع غيرهم.(4/158)
4- ديننا قائم على: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع ممارسة النهي عن المنكر، يجب أن نقدم للمجتمع المعروف، بل البدء به هو الأصل، فليس صحيحاً ألا يسمع المجتمع منا إلا نبرة الإنكار فقط، بل من نشر المعروف، بالدروس والمواعظ، أو على الأقل عن طريق خطب الجمعة، كل ذلك بحسب الطاقة.
فإن منعنا من ذلك كله، فلن نعجز أن نري المجتمع منا صدقاً في الالتزام بهذا الدين، نتمثله بالصدق في أقوالنا وأفعالنا ، فتلك -وربي- ليست بهينة ، فقد كسب بها النبي ج أنصاراً لدينه بسبب صدقه وأمانته، وشمائله الطيبة التي جعلت الناس يقولون: ما كان هذا ليكذب على ربه وهو لا يكذب في حديث الناس.
4- ونحن نرى ما نرى من الإبتلاءات والشدائد، يجب أن نفتح أعيينا على الجوانب المشرقة التي تحققت للأمة في العقدين الأخيرين، على مستوى الشعوب على الأقل؟!
فمن ذا الذي ينكر هذا الخير العميم الذي انتشر في بلاد الإسلام؟
ومن الذي يكابر في هذه الأفواج الكبيرة العائدة إلى الله، أو الداخلة في دين الله تعالى؟!
كم هم حفظة القرآن؟ كم هم المشتغلون بحفظ السنة؟.
ألم تر عينك أفواج الشباب التي تعتكف في الحرمين في العشر الأواخر من رمضان؟
ألم تسمع عن أخبار المجاهدين الذين رووا أرض الجهاد بدمائهم في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والعراق؟!
متى كان الشباب يعلنون أن أغلى أمانيهم أن يموت أحدهم شهيداً؟!
كم هن النساء اللاتي عدن إلى الحجاب، وهن في وسط الفتن، رغم قوة الصوارف والمغريات؟!
إن هذه -أخي الفاضل- مكاسب كبرى، يجب أن تكون رافعةً لهمتنا، ومبشرةً لنا بأن عمل من سبقنا من المصلحين - رغم ضعف إمكانياتهم، وقلة اتصالاتهم- آتى ثماراً يانعة.
إن بشائر النصر تلوح في الأفق، وهي -بمقياس الزمن الطويل- ليست ببعيدة بإذن الله، ولكننا -أحياناً - نستعجل، وربنا لا يعجل لعجلتنا.
يقال هذا، وتذكر هذه البشائر، ونحن جميعاً نعلم أن في الأمة جوانب كثيرة، تحتاج إلى إصلاح، نعم ..لكن لماذا نستمر في جلد ذواتنا ،وتحطيمِ ما شُيِّد من جهود كبيرة، وكأننا لا نملك أي بصيص من الأمل ؟!
5- قلب نظرك -أخي - في صفحات التاريخ ، فستجد أن الأمة مر بها أنواع من الفتن والإبتلاءات، أضعفتها، وأنهكتها فترة من الزمن، ولكنها عادت بعد ذلك قويةً.
وحسبي هنا أن أشير إلى إحدى الإبتلاءات الكبار التي تعرضت لها الأمة، وهي غزو التتار، وسأسوق لك كلام عالمين أرّخا ورصدا مشاعر الأمة في تلك الفتنة العمياء الصماء، أحدهما أدرك أولها، والآخر أدرك آخرها.
أما الذي أدرك أولها فهو العلامة ابن الأثير ـ في كتابه "الكامل" 10/399 -حيث يقول -في أحداث سنة 617هـ: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها،كارهاً لذكرها، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن،لم يبتلوا بمثلها ،لكان صادقاً ،فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
وهذا الوصف من ابن الأثير وهو بعد لم يدرك تلك الفاجعة العظمى والنكبة الكبرى لسقوط بغداد، ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى.(4/159)
يقول ذلك وهو لم يعلم بتجاوز التتر بلاد العراق إلى بلاد الشام، وما تبع ذلك من مآس ومصائب، والتي وصفها إمام آخر وقف على أحداثها، يصفها ويشخص فيها أحوال الناس، ويصور مشاعرهم ومواقفهم بدقه وخبرة، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين يقول: " فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع وينصرم، ودارُ المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنْ ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامه مختصرة من القيامة الكبرى... وفرّ الرجل فيها من أخيه، وأمه وأبيه، إذْ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسِه... وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل "انتهى كلامه رحمه الله.
6 ـ لا بد أن نعلم أن من حكم الابتلاء: تمحيص الصفوف، تكفير الذنوب، وهذا أمرٌ بين، فكم هم الدخلاء على الصف الإسلامي، الذين لا يعرفهم إلا الندرة من الناس، فإذا جاءت مثل هذه المحن والابتلاءات ميّزت الطيب من الخبيث، وشرح ذلك يطول جداً.
7 ـ هذا دين الله الذي تكفّل بنصره، وأمرنا بأن نسعى لذلك، ولم يكلفنا أن نحصد ثمرة النصر، بل هذه لم تطلب من النبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام..
تأمل أخي.. لقد مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يفتتح من بلاد الإسلام القائمة اليوم إلا ما يشكل الربع تقريباً أو أقل، ولكن تابع أصحابه والتابعون لهم بإحسان الفتوحات، فوصلوا إلى حدود الصين شرقاً، وإلى جنوب فرنسا غرباً، وكل ذلك محسوب ومضاف إلى رصيده.
فالواجب علينا أن نتبنى مشروعات دعوية، تقوم على العمل المؤسسي ـ إن أمكن ـ لأن ذلك أدعى لاستمرارها وبقائها، إذ لن يؤثر عليها موت شخص أو سجنه، بل هي تسير وفق خطة وسياسة واضحة، يتلقها اللاحق عن السابق، وما منظمة حماس إلا نموذج حي للعمل المؤسسي الذي لا يتوقف بموت قائد أو مؤسس.
7- إني لأعجب من مسلم يقرأ قوله تعالى:"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ *وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" كيف يدب اليأس إلى قلبه؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ـ فيما نقله عنه ابن عبدالهادي في "اختيارت ابن تيمية ص(70-71) ـ: ((وهذا يشكل على بعض الناس، فيقول: الرسل قد قتل بعضهم، فكيف يكونون منصورين؟
فيقال: القتل إذا كان على وجهٍ فيه عزة الدين وأهله كان هذا من كمال النصر، فإن الموت لا بد منه، فإذا مات ميتةً يكون بها سعيداً في الآخرة، فهذا غاية النصر، كما كان حال نبينا ج، فإنه استشهد طائفة من أصحابه فصاروا إلى أعظم كرامة، ومن بقي كان عزيزاً منصوراً، وكذلك كان الصحابة يقولون للكفار: أخبرنا نبينا أنّ من قتل منا دخل الجنة، ومن عاش منّا ملك رقابكم.
فالمقتول إذا قتل على هذا الوجه كان ذلك من تمام نصره، ونَصْرِ أصحابه.
ومن هذا الباب حديث الغلام ـ الذي رواه مسلمٌ ـ لما اتبع دين الراهب، وترك دين الساحر، وأرادوا قتله مرة بعد مرة، فلم يستطيعوا حتى أعلمهم بأنه يقتل إذا قال الملك: باسم الله رب الغلام، ثم يرميه، ولما قتل آمن الناس كلهم، فكان هذا نصراً لدينه)) انتهى كلامه:.
8- في ظل هذه الفتن، وتتابع هذه المصائب، يجب ألا تشغلنا هذه الفتن عن عباداتنا الخاصة بيننا وبين ربنا، فالضرورة تتأكد بوجوب العناية بإصلاح القلب، وهذا يتحقق بأمور:
أ ـ التعلق بالله -عز وجل- دائماً، واللجأ إليه، وكثرة الإلحاح عليه بالدعاء، فإن الله تعالى نعى على قومٍ أصيبوا بالضراء، فلم يكن ذلك سبباً في تضرعهم، قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ".(4/160)
فما أحوجنا إلى اللجأ، والتضرع إلى ربنا في كشف ضرنا، وإصلاح أحوالنا، والاستغاثة به في طلب النصر، وكبت العدو وخذلانه.
ب- لا بد لكل واحدٍ منا من عبادة يلازمها، ويكثر منها، مع العناية ببقية العبادات، فإن للعبادة أثراً عظيماً في سكون القلب، واستقرار النفس.
ولئن كان هذا مطلوباً في كل حين، فهو في أوقات الفتن آكد وأعظم، فإن النبي ج يقول -كما روى ذلك مسلمٌ في صحيحه من حديث معقل بن يسار س -: "العبادة في الهرج، كهجرةٍ إليَّ".
وسبب ذلك -والله أعلم - أنه في زمن الفتن يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه، ومعاشه، ونفسه وما يتعلق به.
فمن فتح عليه في نوافل الصلوات، أو في الصيام، أو في الصدقة، أو في قراءة القرآن، أو في غيرها من العبادات، فليلزمها، وليكثر منها، فإنها من وسائل الثبات بإذن الله تعالى.
ج - الإقبال على قراءة القرآن بتدبر، وقراءته قراءة المستشفي به، الطالب للهدى منه، المحرك لقلبه به، فإن ذلك من أعظم الأدوية وأنفعها للقلب خصوصاً في هذه الأزمنة التي انفرط عقد الفتن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما تيسر تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-------------
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [3/5]
د. رياض بن محمد المسيميري(7) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
فلا ريب أنّ الأمة تمر بظروف عصيبة مؤلمة، وتعاني ويلات فتن خطيرة في دينها وعقيدتها وأخلاقها، وتواجه تحدياً حضارياً عالمياً بل حرباً صليبية صهيونية تستهدف في كيانها ووجودها.
ومن الخطأ الجسيم أن نتغافل أحصل الصراع بين المسلمين وأعدائهم من يهود ونصارى، وأنه في أصله صراع عقدي ديني سيما وقد صرّح العدو نفسه بدوافع الصراع ومنطلقات الحرب في أكثر من مناسبة.
ومن الخطأ البيِّن كذلك أن يتناول هذه القضية الخطيرة بشيء من الارتجالية والاستعجال أو بدوافع من العاطفة والحماس غير المنضبط.
لا بد أن نعترف أن ما يمارس اليهود والصليبيون كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها هو استفزاز خطير لمشاعر الأمة المسلمة بعامة ولشبابها الغيور على وجه الخصوص.
ولا يمكن أن نتصور بقاء الشباب المسلم مكتوفي الأيدي إلى الأبد أمام تلك الممارسات الدموية الظالمة وتلك الحرب "الصهيوصليبية" فمن حقه أن يغار، بل من واجبه أن يغار لدينه ودماء إخوانه، بل من وأحق أن يهتم لنصرة دينه، وإعلاء كلمة لله بكل وسيلة مشروعة أسُّها ورأسها الجهاد في سبيل... بيد أن الجهاد في سبيل الله قد لا يتيسر لكل أحد سيما والأبواب مؤصدة والموانع كثيرة.
فما العمل إذاً والحالة هذه؟ هل نكتفي بسبّ اليهود وشتم النصارى؟ أم يكون الحل ببث الأحزان، وسكب العبرات، وندب الزمان؟!.
إنَّ الحلَّ العملي الواقعي لمشكلاتنا وصراعاتنا مع أعدائنا يجب أن يتضمن في نظري الأمور التالية:
(1) العودة الجماعية الجادة إلى الدين عودة صادقة، وتحكيم شريعته تعالى تحيكماً فعلياً في سائر الأقطار الإسلامية بلا مساومة أو مزايدة، فالدساتير الوضعية وإقصاء الوحيين الشريفين هي أعظم النوازل وأكبر المصائب التي آلت بالمسلمين إلى ما ترى وهي التي جرأت العدو على استباحة أرضهم والعبث بقيمهم وإملاء مشروعه الحضاري عليهم.
(2) لا بد أن نعترف بوجود مظاهر كثيرة تصادم الإسلام في جوهره وروحه، وفي أخلاقه وقيمه في معظم ديار المسلمين، فبنوك الربا وحانات الخمور وملاهي الليل، ودور الفاحشة تعمر كثيراً من بلاد الإسلام، وهذه المظاهر الآثمة لا بد أن تظهر منها بلاد المسلمين وإلا من أين سينزل النصر؟ قال سبحانه: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
(3) إنَّ على علماء الأمة الصادقين كسر حاجز النفرة بينهم وبين شباب الأمة على وجه الخصوص واسترجاع ثقتهم المفقودة من خلال ممارسة دور إيجابي فاعل في قيادة الصحوة وترشيدها، ومن خلال صدعهم بكلمة الحق وتحذير أمتهم من الويلات المحدقة بها وتنفير مجتمعاتهم من كل المظاهر المنافية والمصادمة لشريعة الله - سبحانه-.
إن على العلماء دوراً، وأي دور، في احتضان الشباب والرفق بهم، وتهدئة روعهم، وتلمس احتياجاتهم العلمية والتربوية وإشباعها بالعلم الصحيح والتربية الجادة مصطحبين تقوى الله فيما يأتون ويذرون ويفتون ويوجهون، وبغير هذا سيبحث الشباب عمن يستقل حماسهم، ويستوعب قدراتهم في غير إطارها المشروع.
(4) إن على الجميع أن يدركوا أن الجماهير المسلمة لا ترضى أن تُمَسَّ ثوابتها أو تهمش أصولها، فالجهاد في سبيل ذِروة سنام الإسلام، والبراءة من الكفار أصل عظيم من أصول الملة الإبراهيمية والمحمدية، فلا مجال لتمييع هذه الأصول وإلا كانت ردة الفعل كافية في تشتيت جهود الأمة وبعثرة أوراقها وإغراقها في دوامة جديدة من الصراع الذاتي، يعيقها عن مسيرة بناء نفسها، إعداد كوادرها للبناء الحضاري بكافة مجالاته.(4/161)
(5) علينا جميعاً أن نسعى جاهدين لوحدة الصف وتأجيل خلافاتنا الهامشية والفرعية التي لا تمس الأصول والثوابت، لنتأهب لمواجهة العدو بكل قوة متاحة، وعلينا ألا ننشغل عن إعداد العُدة الجادة لمواجهة أي أخطار محدقة، وأن نستوعب أن أقوياء العالم لا يرحمون الضعفاء، وأن المراهنة على جمعيات حقوق الإنسان والهيئات الدولية مجازفة ذات ثمرات مرة لا زلنا نتجرع غصصها في أفغانستان والشيشان وفلسطين والعراق.
أيها الشباب: إننا نثمن لكم غيرتكم ونخوتكم الإسلامية الشريفة، ونقدّر أنفتكم من تلك الأوضاع النشاز التي تعيشها مجتمعات المسلمين، كما نحيّ شجاعتكم ورغبتكم بالبذل والعطاء والثأر لدماء إخوانكم في البلاد الإسلامية المحتلة، بَيْدَ أنَّ ثمة موانع كثيرة قد تحول بينكم وبين الجهاد في سبيل الله لا ذنب لكم فيها.
فنصيحتي ألا نبقى أسرى الأحزان، وبث الأشجان؛ بل علينا أن نبذل الوسع والطاقة في تعلم العلم الشرعي حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وكيف نحددُّ مسارنا الصحيح وسط هذه البحار المائجة من الفتن.
ثانياً: وبعد العلم الشرعي يأتي واجب الدعوة إلى الله، فإنَّ ثمة جموعاً هائلة من أبناء الأمة يعيشون حياة اللهو والعبث، وتتخطفهم الأهواء والسبل، فمن يستنفذ هؤلاء ويعيد لهم هويتهم الإسلامية؟ ومن يبصرهم بدينهم، ويعرفهم بالأخطار المحدقة بهم؟ إن لم تقوموا بالمهمة أنتم أيها الشباب على علم وبصيرة وبتوجيه من علماء الأمة العالمين؟
(3) علينا كذلك أخيراً أن نثق بوعد الله -تعالى- وأن هذه الأمة منصورة بحول الله وقوته مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما كادوا لها وبكروا بها شريطة أن تنصر ربها، وتعظم سنة نبيها - صلى الله عليه وسلم- مع الأخذ بالأسباب المادية اللازمة والممكنة وعلى رأسها إعداد الجيوش المسلمة المجاهدة المتسلحة بسلاح الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه المتطلع للشهادة في سبيله تعالى فضلاً عن أخذ زمام المبادرة في النهضة الاقتصادية والعمرانية والثقافية وغيرها بعيداً عن تأثير الكفار واستغلالهم؛ قال الله جل ذكره: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، وقال سبحانه: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
-------------
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [4/5]
د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي(*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله، وبعد:
سؤالك -أخي الكريم- يدل على قوة في إيمانك، وغيرة على دين الله وحرمات المسلمين، وإحساسك بوجوب العمل لنصرة هذا الدين، جعلنا الله وإياك من أنصار دينه:
أما ما ينصح به تجاه هذه الأزمة التي تمر بها الأمة:
1 - أن تدرك أن الله لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها، وهل تكون أغير من الله على دينه وعباده؟ فمادام أنه قد حيل بينك وبين نصرة إخوانك المسلمين بهذه الحدود والسدود، ومحاولة النصرة فحسب قد تدفع بالجهات المسؤولة في بلادك لتعذيبك وأذاك إلى حد القتل أو الجنون أحيانا، فإن الله لم يكلفك ما لا تطيق، فأربع على نفسك، وهدئ من روعك، وقم بما تستطيع من العمل الصالح، ولن يسألك الله إلاّ ما تستطيع من العمل، وأنت تعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يشاهد المؤمنين يعذبون بأنواع العذاب في مكة ويمر عليهم ولا يملك إلا أن يوصيهم بالصبر .
2- الارتباط بأهل العلم والدعوة في بلادك ممن عرف بالعلم بالدين والعمل به إذ يوجد في كل بلد من بلاد المسلمين عدد وافر من أهل العلم المتصفين بالعلم والغيرة والرغبة الصادقة في نصرة هذا الدين مع التزام الحكمة في القول والعمل، ويلتف حولهم عدد من الناس يستفيدون منهم ويحضرون دروسهم ويسترشدون بتوجيهاتهم، ومثل هؤلاء غالبا، لا يحصل لمن يتصل بهم أذى جسدي أو سجن وتعذيب؛ لكونهم معروفين لدى السلطات بعدم تبنيهم مبدأ العنف في التعامل مع الدولة، فمثل هؤلاء بإمكانك الاتصال بهم وحضور دروسهم و محاضراتهم، وعرض ما يمر بك من مشكلات عليهم، والحرص على طلب العلم الشرعي والاستمرار في ذلك .
3- المساهمة بما يمكنك في الإصلاح والدعوة في بلادك بما لا يترتب عليه أذى لا تستطيع احتماله، ومن ذلك أن تكون قدوة في الاستقامة على الخير محافظا على الصلوات، مجتنبا للكبائر، مستغفرا من الصغائر، صاحب أخلاق عالية، متحليا بالصبر، كاظما للغيظ، قدوة في علمك وعملك، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ساعياً في صلاح من حولك من المسلمين.
4- ألا تحتقر الدعوة والإصلاح للأفراد والمجتمع، فإن ذلك من أعظم ما ترغم به أعداء الدين، فإن أعظم أهدافهم وأقصى أمانيهم رد المسلمين عن دينهم؛ كما قال تعالى عنهم: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق".(4/162)
5 - إدراك أن ما يحدث بقدر الله وأنه نوع من الابتلاء يرفع به الله المؤمنين درجات ويعذب به الكافرين، وهذا الابتلاء سنة ماضية، فقد قتل عدد من الأنبياء على يد كفرة بني إسرائيل قال تعالى: "ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون"، وليس المجاهدون في فلسطين بأكرم على الله من أنبيائه - عليهم السلام- وقد قتلوا زكريا بنشر رأسه وقدم لبغي زانية من زواني بين إسرائيل، و أن أهل الكتاب من بني إسرائيل عاشوا تحت قهر فرعون وجنوده وهم مؤمنون بالله وفرعون ملحد يدعي الألوهية، ولهذا قال بنوا إسرائيل لموسى: "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا".
و نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه واجهوا أنواعا من الأذى والتعذيب على مدى عشر سنوات أو تزيد وهم مؤمنون، والمعذبون لهم مشركون، ومع ذلك لم يقدموا على عمل تكون مضرته أكثر من منفعته، وكان بإمكانهم أن يغتالوا أباجهل أو أبا سفيان أو غيرهما من زعماء المشركين في مكة، بل حين بايع الأنصار بيعة العقبة قال بعضهم للنبي -صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لم نؤمر بذلك").
فالحاصل أن القيام بأعمال غير مسؤولة من باب الغيرة والحماس ليست من منهج الأنبياء وأهل العلم والحكمة.
6 - ويمكنك أن تقدم ما تستطيع من الدعم المادي إخوانك في فلسطين والعراق عن طريق بعض المشايخ الموثوقين الذين يستقبلون التبرعات، أو الهيئات الموثوقة إن وجدت في بلادك.
7 - أكثر من الدعاء الصادق لإخوانك المسلمين المستضعفين بالنصر والتمكين وأن يكف الله عنهم بأس الذين كفروا .
8- إعداد نفسك وتحصينها بالعلم وكثرة العبادة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".
9- الإكثار من الدعاء بالثبات فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء بقوله: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
10- إن استطعت الهجرة للعمل في بلد أقل مشكلات من بلدك كالسعودية أو بعض دول الخليج ففي ذلك عون لك في دينك ودنياك .
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلام
-------------------
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [5/5]
د. خالد بن عبد الله القاسم 22/4/1425
10/06/2004
التحديات التي تواجهها الثقافة الإسلامية وسبل مواجهتها
أولاً: القوة العسكرية
عانت الأمة الإسلامية هجمات عسكرية ظالمة استهدفت الأمة بثقافتها الإسلامية ففي السابق الحروب الصليبية الشرسة التي استهدفت الشام ومصر وأدت إلى انشغال الأمة بها قرن من الزمان.
ثم الهجرة التتري على العراق والشام وإسقاط الخلافة العباسية وتدمير الكتب وقتل العلماء.
ثم الاستعمار الأوروبي للبلدان الإسلامية في القرن الماضي ومحاولته لمسخ الثقافة الإسلامية واستنزاف خيرات الأمة لمصلحته.
ثم الغزو الشيوعي على البلدان الإسلامية في القرن الماضي في آسيا الوسطى ونشر الإلحاد ثم غزو أفغانستان والشيشان واستباحة دماء المسلمين واستعمار بلدانهم ونهب خيراتهم.
وما نشهده الآن من هجمة صهيونية شرسة زرعها الغرب في قلب العالم الإسلامي شرذمة من اليهود اجتمعت من أ،حاء العالم باختلاف لغاتهم وعرقياتهم في هجرات متتابعة بمساعدة غربية مباشرة حيث سلمت لهم بريطانيا الأمر في فلسطين ثم دعمت الولايات المتحدة عدوانهم عسكرياً ومالياً وسياسياً في طرد الفلسطينيين من بلدهم ومصادرة أملاكهم ورفع الفيتو أمام العالم لعدم إدانة اعتداءاتهم المتكررة على المدنيين بل وتجاوز العدوان على البلدان العربية حتى غير المجاورة حيث دمر المفاعل النووي العراقي، وجرى الاعتداء على الفلسطينيين في تونس.
وكان هذا الجسم الصهيوني بالمساعدة الغربية عاملاً مهماً في تأخر الأمة وإشغالها.
وما جرى من احتلال لأكثر من بلد إسلامي بحجج وهمية ظاهرة فقد دمرت أفغانستان وألقي على المدن والقرى آلاف الأطنان من القنابل ومات آلاف الأبرياء ونفس الأمر في العراق بحجج أسلحة الدمار الشامل الذي تبين أنها كذبة لاحتلال بلد إسلامي والسيطرة على خيراته وتهديد سائر البلدان الإسلامية التي لا تخضع لهم وزامن ذلك إصدار الأوامر للدول الإسلامية بضرورة التغيير الثقافي والمقصود منه تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.
كما زامن ذلك محاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية ورميها هي أيضاً بالإرهاب (مع أنها أوضح وسائل المجتمع المدني الذي ينادون به في الدول الإسلامية)، وما ذاك إلا لمحاربة الإسلام فتلك الجمعيات تدعوا إلى الإسلام وتكفل الأيتام وتقيم المستشفيات وتحفر الآبار وتعين الفقراء وتقيم المدارس وتصب في خدمة الإسلام والمسلمين وخدمة الثقافة الإسلامية.
وهذه التحديات العسكرية لن تقضي على دين الله -تعالى- فقد أخبر المولى سبحانه "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" [التوبة:33].
وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة".(4/163)
وإن من حكم المولى سبحانه أن تقع هذه التحديات عقوبة للمعرضين ليعودوا " وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة:21].
كما أنها بلاء للمؤمنين لرفعة الدرجات وتكفير السيئات " ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ" [العنكبوت:1-2] إنها تنقي الصف وتكشف المافقين "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت:11].
ثانياً: الغزو الفكري:
وهو غزو مسلح غزو للأفكار والعقول، بعد أن أدرك الأعداء أن الغزو المسلح لا يكفي لإضعاف الثقافة الإسلامية، بل وأجدى منه غزو العقول والأفكار لتحقيق هدف عام وهو إضعاف الإسلام والمسلمين، ويتحقق ذلك بوسائل متعددة منها:
(1) تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة النبوية وعقيدة الإسلام وشريعته، وما يحدث الآن من محاولة لربط الإسلام بالإرهاب هو جزء من هذه الحملة.
(2) مهاجمة اللغة العربية تشجيع اللهجات المحلية في مسعى لإضعاف اللغة العربية التي اختارها الله لكتابه "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف:2].
(3) تفريق المسلمين وإزالة الوحدة الإسلامية والدعوة إلى القومية، وقد كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية، فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة، فنادى العرب بالقومية العربية، والأتراك بالتركية الطورانية، ونادى الأكراد بالكردية، وبذلك تفسخت عرا الرابطة الواحدة التي كانت تجمع هذه الأمة وتوحدها، وقد كان ظهور هذه الدعوات سبباً في إزالة الخلافة العثمانية وتحطمها.
وقد أغرق دعاة الضلال في دعوتهم عندما أحيوا الحضارات القديمة لإيجاد مزيد من الانقسام والفرقة، فرأينا الدعوة إلى الفرعونية، والدعوة إلى البابلية، والآشورية.. وغيرها(1).
إن الإسلام يشجع الوطنية الحقة والقومية الهادفة القائمة على التعاون على البر والتقوى ويحارب العصبيات والنعرات الجاهلية المنافية للوحدة الإسلامية وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من دعا إلى عصبية) إن أي وطنية وقومية يجب ألا تتعارض مع الوحدة الإسلامية أو تكون بديلاً عنها بل يجب أن تسخر لجمع كلمة المسلمين ووحدتهم، والعرب لم يجتمعوا إلا بالإسلام وقد أعزهم الله بإنزال القرآن الكريم بلغتهم وجعل الحرمين في بلادهم، واختار النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
إن الرابطة الحقيقة بين المسلمين هي رابطة العقيدة وجميع الروابط الأخرى هي فرع منها كرابط الجوار والقرابة والقبيلة والوطن.
(4) إقصاء الإسلام من الحكم وتشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وهذا الأسلوب تذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر، وقد أقنعوا به كثيراً من الحكام في الديار الإسلامية، وقد تبنت دولة الخلافة في آخر عهدها كثيراً من القوانين الكافرة، وفرضت القوانين الفرنسية على الشعب المسلم في مصر في عام 1882م ولم ينتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى أقصيت الشريعة الإسلامية في أكثر الديار الإسلامية، باستثناء أحكام الزواج والطلاق والممات(2).
(5) منع الإسلام من الانتشار ومحاربة الجمعيات الخيرة الإسلامية ورميها بالإرهاب ومصادره ممتلكاتها في الوقت الذي تعثو فيه الجمعيات التنصرية في كثير من بلاد المسلمين.
(6) استخدام وسائل الإعلام حيث استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة لحرب الإسلام، حيث أصبح المدافع عن أرضه وبلده إرهابياً والمحتل مدافع عن نفسه ونظرة سريعة إلى وسائل الإعلام ترينا مدى البلاء الذي تصبه ليل نهار لتشويه الإسلام والمسلمين والإساءة إلى معتقداتنا وشعائرنا وسلفنا وعلمائنا، سيل من الشبهات التي تشكك في الدين وأحكامه، وسبل آخر من الأفلام والتمثيليات والمسرحيات التي تتهكم بالإسلام، وتقوم بعرض نماذج من أنماط الحياة تضاد الإسلام في كل شيء تمجد الجريمة ، وتدعو إلى الفسق والفجور، وتكره في الحياة المستقيمة الفاضلة، وتتهكم بالمسلمين والمسلمات، وتتخذ الدين هزواً، وتعرض ما حرّم الله : الرقص الفاضح، وشرب الخمر، والكذب والدجل، وقد قامت للتافهين أسواق ضخمة في كل مكان باسم الفن(3).
(7) إفساد التعليم حيث يهدف الأعداء من مستشرقين ومن مستغربين كلما سنحت لهم الفرصة إلى إضعاف التعليم الإسلامي ومدارس القرآن الكريم والمناداة بعلمنة لتعليم والدعوة إلى التعليم المختلط(4).
(8) الاستشراق، وهو دراسة للغربيين للشرق وعلومه وأديانه خاصة الإسلام لأهداف مختلفة شتى، ومن أهمها تشويه الإسلام وإضعاف المسلمين(5).(4/164)
ومن أهم نتائج المستشرقين في القرن العشرين (دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بثلاث لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية وصدرت في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وقد اشترك في تأليفها أكثر من 400 مستشرق وبلغت أكثر من 3000 مادة في أكثر من 10.000 صفحة احتوت على معلومات مهمة عن الشرق والإسلام بالذات، كما أنها اشتملت على شبه ومطاعن متفرقة حول القرآن والعقيدة والشريعة الإسلامية وأعلام المسلمين بلغت أكثر من (300) مطعن وانتقاصاً للعقيدة الإسلامية (6).
وهو أمر ظاهر باعتراف كثير من المستشرقين ، يقول برنارد لويس: "لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات العديد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية (7).
بل إن المستشرقين كانوا أداة للاستعمار تخلو عن أمانتهم العلمية لتأييد المحتل، يقول مراد هوفمان سفير ألمانيا في الغرب وقد هداه الله للإسلام: "والحق أن معظم المستشرقون عن وعي أو غير وعي كانوا أداة لخدمة الاستعمار، وإن كان بعض أولئك كانوا جواسيس للغرب بالفعل"(8) وتتعاون المخابرات الغربية لاسيما الأمريكيين مع مراكز الدراسات الاستشراقية، لاسيما فيما يتعلق بالحركات الإسلامية. وبلغ أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط (9)الاستشراقية في أمريكا إلى قرابة 1600 عضو سنة 1986م ووصلت أعداد العناوين للموضوعات المنشورة عن الشرق الأوسط في الدوريات المتخصصة سنة 1987م إلى نحو 71 ألف مادة بل إن المستشرقين ينظرون إلى الشرق والإسلام نظرة استعلائية وقد ساق إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني رغم أنه نصراني ولكنه منصف الشواهد العديدة لذلك في كتابه الشهير الاستشراق.
(9) التنصير؛ على الرغم من أن الأمم النصرانية تبتعد عن النصرانية، وعلى الرغم من بيعهم للكنائس في ديارهم، إلا أنهم حريصون على تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في ديارنا، وقد رصدوا لذلك مئات الملاينن من الدولارات، وأرسلوا البعثات التبشيرية مجهزة بكل ما يمكن أن يحقق الهدف الذي قامت من أجله، وعلى الرغم من الصعاب التي تقف في طريقهم، إلا أنهم ماضون في هذا الطريق، وهم يصطادون المسلمين الجهلة، وينشبون أنيابهم في فقراء المسلمين، حيث يقدمون لهم بعض ما يحتاجون إليه مقابل تركهم لدينهم وعقيدتهم (10).
(10) إفساد المرأة؛ وقد حرص الكفار على إفساد المرأة، لأن فسادها يفسد الأبناء والأزواج، فأخرجوها من بيتها، وهتكوا حجابها، وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب، وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا (11) وأفغانستان مثال حي حيث عندما احتلت لم ينقلوا لنا التقدم الصناعي والتقني وإنما بدأوا بإسقاط حجاب المرأة وإنشاء دور السينما.
(11) العولمة الثقافية والتغريب؛ وللعولمة وجوها مفيدة في التقنية والاتصال، ولكن له وجوهاً خطيرة في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الثقافية.
ويهمنا هنا ما يؤثر على الثقافة الإسلامية بدرجة كبيرة وهو الهيمنة الثقافية وفرض القيم الغربية وتغريب المجتمعات المسلمة عن طريق استغلال التفوق التقني والسياسي والاقتصادي والعسكري لاختراق الثقافات الأخرى ومصادرة ثقافات الشعوب وفرض الأنماط الغربية .
نجد أن الغرب لا يسعى قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمرنيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث... الخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(12) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، ومراهقين ومراهقات، فادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(13)
وها هو المستشرق الألماني هاملتون جب يجعل هدف كتابه "وجهة الإسلام" قضية التغريب، ويتساءل إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق؟، وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا الهدف؟(14).(4/165)
إن هدف عدونا ذوبان الشخصية وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها واحتوائها بأخلاق الضعف والإنحلال والإباحية حتى لا تقوى على مواجهة التحديات وذلك أخطر أهداف العدو، فبناء أجيال ضعيفة لا تؤمن بحقها ولا تؤمن بربها ولا تستطيع أن تصمد أمام الخطر وأمام التحدي.
وقد أخبر المولى سبحانه بخطورة طاعة الكافرين والإنسياق معهم فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِين" [آل عمران:100]، وأنهم لن يرضوا منا بالتنازلات المحدودة وبعض الطاعة إنما باتباع ما مهم عليه "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة:120].
=================(4/166)
سبل مواجهة التحديات الثقافية
سبل مواجهة التحديات الثقافية تأخذ أبعاداً متنوعة:
أولها : تعزيز الهوية بأقوى سلاح، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" [المنافقون:8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران:173].
ثانيها: ثانيها: العناية بثقافتنا الإسلامية، وباللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.
ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.
رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً، واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، وعلينا أن نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله -سبحانه وتعالى- " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [سورة الرعد:11].
خامسها: مواجهة التحديات بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.
سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوباً وجماعات بالاعتصام بكتاب الله -عز وجل- "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران:103]، ثم التعامل معها إن وجدت إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.
سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المضبطة بضوابط الشرع(15).
ثامنها: أن نتعرف على الآخرين وثقافاتهم، والكشف على مواطن القوة والضعف في الثقافات المختلفة لا سيما الغربية، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(16).
وأن يواكب ذلك عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب، ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته(17).
تاسعها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.
عاشرها: أن يقوم بتعزيز الهوية وكشف العولمة والتغريب، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم، والمهارات، والمعارف، والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، وتقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(18).
حادي عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(19). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما تراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من عقيدة وقيم وتراث وتقاليد اجتماعية عريقة(20).(4/167)
ثاني عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطاءها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله -تعالى- من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد التحديات الثقافية، لذا لا نستعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات الأعداء، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق ومحاربة أنشطتها وتشويه سمعتها وتجفيف مواردها.
________________________________________
(1) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(2) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(3) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:62-64.
(4) انظر: غزو غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية،
1405هـ، ص: 200.
(5) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 25
(6) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 30-50.
(7) العرب والتاريخ، برنارد لويس، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1954م، ص: 63.
(8) الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا للنشر ومجلة النور الكويتية، الطبعة الأولى، 1413هـ.
(9) مصطلح الشرق الأوسط مصطلح غربي لطمس الهوية العربية والإسلامية ولإدخال إسرائيل فيه.
(10) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:63-64.
(11) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:62-63.
(12) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(13) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية ، الفصل الثامن الفقرات 31-35، نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27
(14) أنور الجندي، شبهات التغريب، المكتب الإسلامي، بيروت- لبنان، 1398هـ،
ص:12.
(15) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التيميم، الطبعة الأولى 1422هـ -2001م، ص: 263.
(16) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(17) العالم من منظور غربي، د. عبد الوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253.
(18) مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، المجلة العربية، د. ط. ت. ص: 30.
(19) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور/ حسين علوان حسين بعنوان: العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 126.
(20) انظر: صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
============
الابتلاء طريق الأنبياء
يتناول الدرس وقفات حول قول الله عز وجل : [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ[52] أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[53][ [سورة الطور] وتناول بعض النماذج من اتهام المصلحين والطعن فيهم في أمر دينهم من الأنبياء و السلف الصالح ومن نحا نحوهم .(4/168)
هذه وقفات حول قول الله عز وجل : [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ[52] أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[53]] سورة الطور, ففي هذه الآية أخبر تعالى: أن الأقوام الذين أرسل الله إليهم الرسل قد اتفقوا كلهم على اتهام المرسلين بالسحر، وهذا ما نلحظه حينما نتعرض لقصص الأنبياء,وما قاله سائر الأقوام المكذبين لأنبيائهم، فنجد أنها: كلمة واحدة، حتى كأنهم قد اتفقوا على هذا , وسيكون حديثنا في ذكر بعض النماذج من اتهام المصلحين والطعن فيهم في أمر دينهم.
إن قضية الإصلاح تستوجب صراعاً مع أهل الباطل؛ ذلك أن المصلحين يرون واقعاً لا يرضي الله فيسعون إلى تغييره، ومصالح أهل الباطل ستصطدم مع ما يدعو إليه المصلحون، فيسعى هؤلاء إلى تعويق إصلاحهم من خلال تشويه سيرتهم، ويعلم هؤلاء أن الدين هو القضية التي يدعو إليها هؤلاء، ومن ثم فالطعن في معتقدهم خير وسيلة لتنفير الناس من دعوتهم ... إنها صورة واحدة من صور الابتلاء التي يتعرض لها المؤمنون ... والابتلاء سنة ماضية لمن آمن بالله: ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3][ سورة العنكبوت.
من ثمرات دراسة هذا الموضوع:
أولاً: تسلية لمن يتصدى للدعوة إلى الله, فيصيبه ما يصيبه من الابتلاء، في دينه وشخصه ، فقد كان أنبياء الله يتهمون في دينهم وربما اتهموا في أعراضهم، فغيرهم من باب أولى.
ثانياً:حين يسمع الإنسان اتهاماً لأحد من المصلحين، سواء أكان ممن يعيش بين ظهرانيه، أو ممن مضى وسلف؛ فلن يتسرع في تصديق ذلك, وتلقيه.
نماذج من سير الأنبياء
موسى عليه السلام: لقد تعزى نبينا عليه الصلاة السلام بما أصابه فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ قَالَ رَجُلٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : ] فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ[ رواه البخاري ومسلم وأحمد . لقد جاء موسى عليه السلام ؛ ليخرج الناس من العبودية لفرعون إلى العبودية لله, فشعر فرعون أن في هذا تحطيماً لألوهيته, وسلطانه على الناس، فلم يجد مبرراً أمام الناس إلا أن يتهم موسى في دينه، كما قال تعالى: ]وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ[26][ سورة غافر ,وحين صار ما صار من المناظرة بين موسى والسحرة, أدرك السحرة الحق فآمنوا بالله , حينها اتهمهم بعدم الصدق في إيمانهم، وأن هذا الإيمان جزء من مؤامرة يُستهدف فيها فرعون:]قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ[123][ سورة الأعراف ,واتهم موسى بأنه ساحر، وأنه هو الذي علم السحرة السحر:]قَالَ ءَامَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[71][ سورة طه .(4/169)
ويحذر الله عباده المؤمنين مما فعله بنو اسرائيل مع موسى عليه السلام:]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[69][ سورة الأحزاب , وقد بين النبي r ما آذى به بنو إسرائيل موسى, فقال: [إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[69][ سورة الأحزاب, ] رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي.محمد صلى الله عليه وسلم : اتهم صلى الله عليه وسلم في إخلاصه ودينه؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ قَالَ رَجُلٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: [ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ]رواه البخاري ومسلم وأحمد .
مريم رضي الله عنها : اتهمت في عرضها؛إذ قذفها اليهود بالزنا حين نفخ الله فيها من روحه:] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا[27] [سورة مريم , فأنطقه الله :] قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا[30] [ سورة مريم , ومع هذه المعجزة لايزال أولئك يصرون على هذه الجريمة.
مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
عائشة رضي الله عنها: قذفت عائشة رضي الله عنها بما قذفت به مريم، ويسير المنافقون وراء اليهود, فيشيعون الفرية ضدها، فتسمع ما تتهم به، فتبقى حبيسة الألم شهراً, والاتهام لها لم يكن اتهاماً لعائشة وحدها بل كان اتهاماً قبل ذلك كله للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ وطعناً في فراشه, وفي أحب الناس إليه.(4/170)
عثمان بن عفان رضي الله عنه: عن عُثْمَانُ بن مَوْهَبٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ, فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا, فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ؟ فَقَالُوا : هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ قَالَ: فَمَنْ الشَّيْخُ فِيهِمْ قَالُوا : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ : يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ : نَعَمْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ] وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : [ هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ _ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ _ فَقَالَ : هَذِهِ لِعُثْمَانَ ] فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ .رواه البخاري, والترمذي,و أحمد. وعن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر, فسأله عن عثمان، فذكر من محاسن عمله، قال: فلعل ذلك يسوءك؟ قال: نعم، قال: فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله, قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ ثم قال: لعل ذلك يسوءك؟ قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد علي جهدك' .نعم إن هؤلاء يسوءهم أن تذاع مناقب أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ ، ولهذا كبّر هذا الرجل حين أقر له ابن عمر رضي الله عنه بتلك التهم التي اتهم بها عثمان في دينه، وساءه حين برأه منها, وذكر محاسنه.
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ممن اتهم في دينه, وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر، فقالوا: إنه لايحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا، فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ صلاتي العشي لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فقال عمر: ذاك الظن بك ياأبا إسحاق. فبعث عمر رجالاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لايأتون مسجداً من مساجد الكوفة إلا قالوا خيراً، حتى أتوا مسجداً لبني عبس، فقال رجل: أما إذ نشدتمونا بالله _ انظر إلى منطق هؤلاء مع أنه نُشِد بالله, وتعينت عليه كلمة الحق إلا أنهم كما أخبر تعالى: ] وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[204][ سورة البقرة ـ فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية، فقال سعد: اللهم إن كان كاذباً، فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، قال عبدالملك : فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد . وعن قبيصة بن جابر قال: قال ابن عم لنا يوم القادسية:
ألم تر أن الله أنزل نصره سعد بباب القادسية معصم
وقد أيمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فبلغ سعداً قوله، فقال: عيى لسانه ويده، فجاءت نشابة, فأصابت فاه, فخرس، ثم قطعت يده في القتال، فقال -أي سعد-: احملوني على باب، فخرج به محمولاً، ثم كشف عن ظهره وفيه قروح فأخبر الناس بعذره فعذروه، وكان سعد لا يجبن، وفي رواية يقاتل حتى ينزل الله نصره، وقال: وقطعت يده وقتل.
مع سائر السلف
ونتجاوز ما قيل عن أصحاب الرسول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ وهو كثير إلى ما قيل عن الأئمة بعدهم, و منهم:(4/171)
الإمام البخاري: صاحب الصحيح, يتهم في عقيدته ودينه؛ فقد اتهم بأنه يقول: بخلق القرآن في مسألة اللفظ المشهورة, فاتهمه محمد بن يحيى, فقال: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية.وحين قدم بخارى استقبله الناس، فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى: إن هذا الرجل _ يعني : البخاري _ قد أظهر خلاف السنة، فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا: لانفارقه، فأمره الأمير بالخروج من البلد, فأخرج رحمه الله . وروى الحاكم عن محمد بن العباس الضبي قال: سمعت أبابكر بن أبي عمرو الحافظ البخاري يقول:كان سبب منافرة أبي عبدالله أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير, خليفة الطاهرية ببخارى سأله أن يحضر منزله, فيقرأ الجامع والتاريخ على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده, فراسله بأن يعقد مجلساً لأولاده، لايحضره غيرهم، فامتنع وقال: لاأخص أحداً، فاستعان الأمير بحريث بن أبي الورقاء وغيره، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد، فدعا عليهم، فلم يأت إلا شهر, حتى ورد أمر الطاهرية، بأن ينادى على خالد في البلد، فنودي عليه على أتان، وأما حريث فإنه ابتلي بأهله، فرأى فيهم مايجل عن الوصف، وأما فلان, فابتلي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا. وبقي الإمام البخاري بعد ذلك إماماً عالماًَ يترحم الناس عليه.
الإمام الشافعي: المجدد, اتهم بالتشيع لذا قال هذه الأبيات المشهورة التي حكاها عنه الربيع بن سليمان، قال: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفاً، ولاهبط وادياً، إلا وهو يبكي وينشد:-
ياراكبا قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفنا والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
قال الذهبي: لو كان شيعياً _ وحاشاه من ذلك _ لما قال: الخلفاء الراشدون خمسة، بدأ بالصديق، وختم بعمر بن عبدالعزيز. وقال أحمد عن ذلك: اعلموا رحمكم الله أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئاً من العلم، وحرمه قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم. ولما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك، وأقبلوا عليه، فلما رأوه يخالف مالكاً، وينقض عليه جفوه وتنكروا له، حتى حدث أبو عبدالله بن منده قال: حدثت عن الربيع أنه قال: رأيت أشهب بن عبدالعزيز ساجداً يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي لايذهب علم مالك، فبلغ الشافعي فأنشأ يقول:-
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
ولهذا كان الشافعي يقول:رضى الناس غاية لاتدرك، وليس إلى السلامة منهم سبيل.
الإمام أحمد بن حنبل : ومحنته مشهورة، ابتلي واتهم بأنه: قد ابتدع في دين الله ما ليس فيه، وضرب وأوذي، وكانت تهمته في دينه, وأنه يفتري ,ويبتدع ويتجرأ على الله وقضيته مشهورة نتجاوزها.
ابن أبي عاصم : وممن اتهم في دينه الإمام : ابن أبي عاصم رحمه الله، قال عنه الذهبي: حافظ كبير، إمام بارع، متبع للآثار، كثير التصانيف . اتهم بالنصب، وأرسل له ليلى الديلمي غلاماً له ومخلاة وسيفاً، وأمره أن يأتيه برأسه فأتاه وهو في مسجده يحدث، فقال: إن الأمير قد أمرني أن آتي برأسك، فوضع الكتاب الذي كان يقرأ فيه على رأسه, ثم أتاه آت, فقال: إن الأمير ينهاك عن ذلك.... والشاهد أن الإمام ابن أبي عاصم, إمام من أئمة أهل السنة, و يتهم بأنه ناصبي يبغض آل البيت.
بقي بن مخلد : قال عنه الذهبي: الإمام القدوة، شيخ الإسلام، أبو عبدالرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ صاحب التفسير والمسند اللذين لانظير لهما . وكان إماماً مجتهداً صالحاً، ربانياً صادقاً مخلصاً، رأساً في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يفتي بالأثر، ولايقلد أحداً، قدم إلى الأندلس, فأحيا فيها مذهب أهل الحديث، فشرق به أولئك. قال ابن حزم: وكان حمد بن عبدالرحمن الأموي صاحب الأندلس محباً للعلوم عارفاً، فلما دخل بقي الأندلس بمصنف أبي بكر بن أبي شيبة، وقريء عليه أنكر جماعة من أهل الرأي مافيه من الخلاف واستبشعوه، ونشطوا العامة عليه، ومنعوا من قراءته، فاستحضره صاحب الأندلس محمد وإياهم، وتصفح الكتاب كله جزءاً جزءاً، حتى أتى على آخره، ثم قال لخازن الكتب: هذا كتاب لاتستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا، ثم قال لبقي: انشر علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له.(4/172)
ابن قتيبة : اتهمه سبط ابن الجوزي بأنه يميل إلى التشبيه، وأن كلامه يدل عليه، وأنه يرى رأي الكرامية.... قال عنه شيخ الإسلام:'ابن قتيبة من أهل السنة... وهو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة . قال فيه صاحب التحديث بمناقب أهل الحديث: هو أحد أعلام الأئمة والعلماء الفضلاء، أجودهم تصنيفاً وأحسنهم ترصيفاً... وكان أهل المغرب يعظمونه ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه، قلت -أي شيخ الإسلام-: ويقال هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة' . هذه هي حال ابن قتيبة كما حكى شيخ الإسلام ومع ذلك يتهمه سبط ابن الجوزي في عقيدته بالتشبيه, وبأنه يرى رأي الكرامية.
محمد بن الفضل : قال السلمي في محن الصوفية: لما تكلم محمد بن الفضل ببلخ في فهم القرآن وأحوال الأئمة، أنكر عليه فقهاء بلخ، وقالوا: مبتدع، وإنما ذاك بسبب اعتقاده مذهب أهل الحديث.
الإمام البربهاري : قال أبو الحسين الفراء: كان للبربهاري مجاهدات ومقامات في الدين، وكان المخالفون يغلظون قلب السلطان عليه، ففي سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة: أرادوا حبسه فاختفى، وأخذ كبار أصحابه، وحملوا إلى البصرة، فعاقب الله الوزير ابن مقلة، وأعاد الله البربهاري إلى حشمته وزادت، وكثر أصحابه، فبلغنا أنه اجتاز الجانب الغربي، فعطس فشمته أصحابه، فارتفعت ضجتهم، حتى سمعها الخليفة، فأخبر بالحال فاستهولها، ثم لم تزل المبتدعة توحش قلب الراضي حتى نودي في بغداد: لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري؛ فاختفى وتوفي مستتراً في رجب سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة.
أبو عثمان المغربي : قال عنه الذهبي :الإمام القدوة شيخ الصوفية أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي القيرواني نزيل نيسابور. قال السلمي: كان أوحد المشايخ في طريقته، لم نر مثله في علو الحال وصون الوقت، امتحن بسبب زور نسب إليه، حتى ضرب وشهر على جمل ففارق الحرم .
الخطيب البغدادي : قال محمد بن طاهر: حدثنا مكي بن عبدالسلام الرميلي، قال: كان سبب خروج الخطيب من دمشق إلى صور: أنه كان يختلف إليه صبي مليح، فتكلم الناس في ذلك، وكان أمير البلاد رافضياً متعصباً، فبلغته القصة، فجعل ذلك سبباً إلى الفتك به، فأمر صاحب شرطته أن يأخذ الخطيب بالليل فيقتله، وكان صاحب الشرطة سنياً، فقصده تلك الليلة في جماعة ولم يمكنه أن يخالف الأمير، فأخذه وقال: قد أمرت فيك بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلة إلا أني أعبر بك عند دار الشريف ابن أبي الحسن، فإذا حاذيت الدار اقفز وادخل فإني لا أطلبك، وأرجع إلى الأمير فأخبره بالقصة، ففعل ذلك، ودخل دار الشريف ابن أبي الحسن، فأرسل الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال: أيها الأمير، أنت تعرف اعتقادي فيه وفي أمثاله، وليس في قتله مصلحة، هذا مشهور بالعراق، إن قتلته قتل به جماعة من الشيعة وخربت المشاهد، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن ينزح من بلدك، فأمر بإخراجه، فراح إلى صور وبقي فيها مدة . وقال أبو القاسم بن عساكر: سعى بالخطيب حسين بن علي الدمنشي إلى أمير الجيوش، فقال: هو ناصبي يروي فضائل الصحابة وفضائل العباس في الجامع.... وليست هذه التهمة نهاية ما تعرض له الخطيب من التهم, فمن عجائب ذلك : ما اتهمه به النخشبي, فقال في معجم شيوخه: ومنهم أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب... حافظ فهم, ولكنه كان يتهم بشرب الخمر، كنت كلما لقيته بدأني بالسلام، فلقيته في بعض الأيام فلم يسلم علي، ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عني لحقني بعض أصحابنا، وقال لي: لقيت أبابكر الخطيب سكران! فقلت له قد لقيته متغيراً واستنكرت حاله، ولم أعلم أنه سكران.
قال ابن السمعاني: ولم يذكر من الخطيب رحمه الله هذا إلا النخشبي مع أني لحقت جماعة كثيرة من أصحابه.
الشاطبي : يقول عن نفسه مصوراً ما اتهم به:' فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه؛ كما يعزي إلى بعض الناس؛ بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة, وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء -وذلك أن هذه البدعة قد انتشرت عند الناس كانوا يلتزمون أن يدعو الناس بعد الصلاة بصوت عالٍ فأنكر الإمام الشاطبي هذه البدعة لأنها لم تكن واردة عن سلف الأمة, فاتهموه بأنه يرى أن الدعاء لا ينفع- ثم قال :وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة -رضي الله عنهم - بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولاذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وتارة أضيف إليّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلىًّ إلا من عدم ذكرهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم '.ثم ذكر جوانب أخرى اتهم فيها رحمه الله.
ابن الجوزي : قال الذهبي:' وقد نالته محنة في أواخر عمره، وشوا به إلى الخليفة الناصر عنه بأمر اختلف في حقيقته'.(4/173)
شيخ الإسلام ابن تيمية : فقد امتحن في عقيدته, فاتهم بأنه ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين حين أفتى بتحريم شد الرحال إلى زيارة القبور وأصابه في ذلك ما أصابه, واتهم أيضاً -حين أفتى في مسألة الطلاق- بخروجه عن إجماع الأئمة الأربعة وشذوذه، واتهم في عقيدته حين صنف العقيدة الواسطية, وعقدوا له مجالس للمناظرة حكى أجزاء منها وهي موجودة في كتابه: مجموع الفتاوى.
محمد بن عبد الوهاب : اتهم بتهم كثيرة، منها : أنه ينطبق عليه حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ:] اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ [ رواه البخاري ومسلم ومالك وأحمد والترمذي , قالوا : أن المقصود: 'نجد' التي خرج فيها محمد بن عبد الوهاب, مع أن المقصود بـ' نجد' هذه :' نجد بلاد العراق' حيث أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق، وقال حيث يطلع قرن الشيطان, وذلك أن العراق في جهة المشرق, وفعلاً منها الفتن والزلازل, فالكثير من الفتن التي مرت بالأمة إنما جاءت من هناك . واتهم ببغض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ينهى عن الصلاة عليه، واتهم بأنه صاحب مذهب خامس.
والخلاصة : أن هذه صور من صور الابتلاء التي يتعرض لها المصلحون, وذلك لأسباب وعوامل منها:
1-أن هؤلاء المصلحين لابد أن يأتوا الناس بأمر لم يعهدوه، فيصعب على الناس أن يتركوا ما ألفوه ؛ فيلجأون إلى اتهامه في دينه ليبرروا موقفهم....
2-قد يدفع لذلك الحسد حين يكتب للمصلح شهرة حسنة وقبول لدى الناس، وأكثر ما يقع ذلك من الأقران، وكما قيل:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
وحينئذ يتلقف الشبهة والاتهام من كان في قلبه هوى، ويحمل الاستعداد من الداخل لأن يسئ الظن بإخوانه المسلمين .... أما الذين تربوا بتربية القرآن, فيحكمهم قول الله:] لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[12] [سورة النور,وقوله: ] وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ[16] [سورة النور .
ومما يلحظ في هذه المواقف: أن هؤلاء المبطلين لا بد أن يلبسوا باطلهم لباساً يقبله الناس؛ لهذا فهم يخرجون القضية إخراجاً مقبولا.
والمقصود : أن سنة الله : أن يكون الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، و أن يبتلي المصلحون؛ ولهذا فينبغي للمسلم أن لا يستجيب لما يسمع خاصة عن أهل العلم والمصلحين .... وأسأل الله عز وجل أن يقيض لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ناصراً ومعينا؛ وصلى الله على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
==============
الابتلاء وطريق السلامة
أ.د. ناصر العمر
الدنيا دار بلاء، فالناس كل الناس مبتلون فيها بالضراء أو السراء، "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" [محمد:31]، "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" [الأنبياء:35]، "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" [الكهف:7]، "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" [البقرة:155]، وقال عن السابقين: "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [لأعراف:168]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وكلما نظر صاحب المصيبة إلى حال غيره من المصابين هان عليه ما هو فيه، ورأى لطف الله - تعالى- به. ومن الحكمة المنقولة ما يروى من أن الإسكندر بن فيلبس المعروف بالمقدوني لما حضرته الوفاة بعث لأمه رسالة يقول فيها: إذا بلغك نبأ وفاتي فأقيمي مأدبة، وادعي كل الناس إلاّ من أصابته مصيبة، ففعلت، فلم يحضر أحد، فعلمت أنه أراد أن يعزيها، فإن المصائب إذا علم بأن جنسها يطرق الناس كل الناس، لم يبغت العاقل ثابت الجنان راجح اللب بها، ووجد في الأُسى عزاء للأسى، وأجاد من قال:
ألم تر رزء الدهر من قبل كونه = كفاحاً إذا فكرت في الخلواتِ
فما لك كالمرمِيِّ في مأمنٍ له = بنبلٍ أتته غير مرتقباتِ
فإن قلتَ مكروهٌ أتاني فُجَاءةً = فما فُوجئتْ نفْسٌ مع الخَطرات
ولاعوفصت(1)نفسٌ لبلوى وقد رأت = عظات من الأيام بعد عِظات
إذا بغتت أشياءُ قد كان مثُلها = قديماً فلا تَعْتَدَّها بغتات(4/174)
والمؤمن أولى الناس بذلك فإنه مهما كان المصاب فهو على غنم، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم (2)، بل مع الصبر على الضراء تراه يحمد الله أن جعل مصيبته في دنياه لا في دينه، بل ترى بعضهم يشهد في ذلك المقام المنة، فيعلم أنه وإن أعسر شهراً فقد أيسر دهراً، وإن مارس الشدة أياماً، فقد لابس النعمة أعواماً، على ثقة من أن ساعة الضراء تزول، كما أن مدة السراء قد تحول، وكما لم تثبت نوبة المنحة، فلن تلبث نوبة المحنة، فما أعظم طمأنينة قلب من كان هذه حاله، وهنيئاً له الفوز بالدرجات العلى يوم القيامة.
ويعقوب عليه السلام طراز فريد من أولئك، وقد جمع بين الصبر الجميل وبين التعلق بالله القدير، ففر إلى من بيده مفاتيح الفرج سبحانه، لعلمه بأن من آوى إليه كفاه، فالفزع إلى الله -تعالى- عند نزول المصائب يربط على القلب، ويقرِّب من الرب، ويخفف من وطأة المصيبة على النفس، وهو دأب الصالحين في كل زمان. ونبينا - صلى الله عليه وسلم- كان "إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"(3). وأحسن من قال:
إذا أرهقتك هموم الحياة ومسك منها عظيم الضرر
و ذُقت الأمرين حتى بكيت وضج فؤادك حتى انفجر
وسُدت بوجهك كل الدروب و أوشكت تسقط بين الحفر
فيمِّم إلى الله في لهفة و بث الشكاة لرب البشر
ولا ينافي الصبر والفرار إلى الله بذل الأسباب بل يقتضيها، فهذا يعقوب _عليه السلام_، صاحب الصبر الجميل، قال وهو الصادق فيما يقول: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"، ومع ذلك لم يغفل قانون الأسباب، "يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، فأنت تراه يوجه بنيه كل بنيه: يا بَنيَّ، لا تيأسوا من روح الله، فكل عسير إذا يسره الله يهون، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، لا يقعدنكم اليأس، تحركوا وامضوا، فباحثوا عن أخبار من تلوموني في ذكره، وعن أخيه، وفي هذا بيان لقوة نفسه عليه السلام وثبات جنانه، ولك أن تقدر ما يقوله الناس له، وعظيم إنكارهم عليه، وما يتحدثون به في مجتمعه، وخذ مقياساً لذلك كلمة بنيه: "تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين" فإذا كان هذا قول الأبناء المقربين فكيف بالغرباء الأبعدين، بل كيف بمن لم يعرف له مقام نبوة؟ إنك ترى كثيراً من الناس ربما قال بحق في مسألة من المسائل التي بدت له أدلتها، وظهر له برهانها، فيلبث قليلاً فيعظم إنكار بعض الناس عليه، فيخنس! أما الأنبياء.. أما من عرف قدر الحق من أصحاب النفوس القوية فلا، بل يثبتهم اليقين فيصبرون، وعندها يجعل الله منهم أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون. إن يعقوب عليه السلام لقي من الإنكار ما لقي حتى من الأبناء، وربما رأى من لا يبصر بنور الوحي أن رأيهم هو الرأي، إلاّ أن يقين يعقوب وصبره عكسا القضية، فإذا بالمُنْكِرِ المخالفِ منذ قليل يتوجه إلى البحث عما أنكر، لما رأى الصبر واليقين ماثلين أمامه.
ويعقوب _عليه السلام_ طراز فريد من أولئك، وقد جمع بين الصبر الجميل وبين التعلق بالله القدير، ففر إلى من بيده مفاتيح الفرج سبحانه، لعلمه بأن من آوى إليه كفاه
إننا بحاجة في واقعنا المعاصر إلى أهل علم راسخين ينظرون بنور الله في الأمور، ثم يبصرون بنور الله أهل العمى، ويثبتون فلا تصرفهم عن ذلك شناعة شنعت، عندها يجعل الله منهم أئمة وقادة لسفينة الحياة، وعندها يرسى الناس عند شاطئ السلامة وبر النجاة. بفضل اتباعهم الذين يعلمون من الله ما لا يعلمون.
* مستل من كتاب الشيخ -حفظه الله- آيات للسائلين.
(1) تقبضت وضاقت.
(2) في الصحيح 4/2295 (2999).
(3) ابن كثير: 1/88.
===============
الابتلاء
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون?[ آل عمران: 102]. ?يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً?[ الأحزاب:71].وبعد:(4/175)
فقد خلق الله الإنسان في هذه الحياة ليختبره ويبتليه، وجعل حياته في هذه الدنيا حياة كد وكدح وكبد، فقال سبحانه موضحاً هذه المعاني: ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ? [سورة الملك. الآية:1-2]، وقال : ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا? [سورة الكهف. الآية: 7]، وقال: ?..وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ? [سورة الأنبياء. الآيتان: 34 - 35]، وقال: ?أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ? [العنكبوت:2].
يًبتلى الكافر كما يُبتلى المؤمن ، لكن المؤمن أكثر فتنة وأشد ابتلاء (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) يبتلى الإنسان على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء حتى يمشي على الأرض وليس له خطيئة.
ابتلاءات ومحن وفتن تموج بها الحياة موجاً وتتلاطم وتتدافع، فتنة بعد أخرى حتى يتمايز الناس ويظهر عملياً في واقع الحياة الصادقون من الكاذبين والمؤمنون من الكافرين ، ?مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ...? [آل عمرآن:179]
وإن من صور الفتن التي يتعرض لها المؤمن في حياته يعايشها ويراها:
تعرضه للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان
فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير .. وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يشعر به أحد .
ومن الفتن فتنة الغربة في البيئة والمجتمع حين تنقلب المفاهيم يحس أنه بإيمانه ودينه وقيمه وأخلاقه غريب وأنه كالقابض على الجمر "فطوبى للغرباء .."
ومن الفتن وجود أمم ودول غارقة في الرذيلة والفسق وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان. ويجدها غنية وقوية وهي محادة لله ورسوله.
فتنة النفس والشهوة ، وجاذبية الأرض، والرغبة في المتاع والسلطان يبيع المرء دينه وخلقه وكرامته وأمته، فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد.
إن المؤمن يحتاج إلى إيمان عميق وإلى صبر وتحمل وجلد في مواجهة تلك الابتلاءات والفتن والتحديات والمحن، ولهذا نجد أن الله تعالى يندب عباده ويأمرهم أن يستعينوا بالصبر والصلاة فإن ذلك مما يهون الأمر ويسلي النفس ويطمئن القلب كما قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ? [البقرة:153]
ولأهمية الصبر وضرورته تجد أنه ذكر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً آمراً به ونهياً عن ضده، والثناء على أهله وبيان أن الفوز بالآخرة ونعيمها والنجاة من النار إنما يحصل عليه المؤمنون بصبرهم ?... وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23)سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? [الرعد:23-24].
ودرجة الإمامة في الخير والهدى إنما تنال بالصبر واليقين ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ? [السجدة:24]
فحين يجد المؤمن الحقد والكراهية والكيد والغرور والتشفي من المنافقين يأمرهم الله بالصبر ويبين لهم حقيقة الأمر فيقول: ?إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ? [آل عمرآن:120].
وحين يشن أعداء الإسلام حملة إعلامية شرسة على الإسلام الحنيف والشرع الشريف، لتنفير من يريد أن يؤمن وتخطئة من آمن وتسفيهه، يخبرهم تعالى قبل وقوعه ليوطنوا أنفسهم على الصبر واحتمال المكروه كما قال سبحانه : ? لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [آل عمرآن: 186](4/176)
وحين يزداد طغيان الظالمين ويجاوز الأمر حدوده بالتهديد والوعيد يأمر الله عباده بالصبر في مواجهة كل ذلك بقوله تعالى: ? وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(127)قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [الاعراف:127-128].
ويسلي الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - حين يكذبه قومه ويسخرون منه ويستهزئون ويكيدون ويتآمرون ، فيأمره بالصبر وأن يتأسى بأُولي العزم من الرسل في تحملهم وصبرهم فيقول له: ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ? [الاحقاف:35].
استمع إلى هذا النموذج القوي الرائع في التحمل والصبر على تكاليف الدعوة وسخرية الساخرين وإعراض الجاهلية في مدة زمنية قياسية عند نبي الله نوح ألف سنة ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِي? [يونس:71]
عن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
إن حال المؤمن كلها خير في فقره وغناه، في السلم والحرب ، في الهزيمة والنصر ، إنه يتقلب بين الشكر والصبر.
أما غيره فليس كذلك. إن غير المؤمن إن جاءه غنى أبطره وأخرجه عن طوره ومنع الحقوق الواجبة ولم يشكر المنعم بل ينسب الأمور إلى فطنته وذكاءه ويعص ربه بتلك النعم .. وإن أصابه شر وضر جزع وخرج عن طوره وكانت له دعاوى طويلة وعريضة من التبريرات والفلسفات وقد ينتحر ويرتكب الموبقات.. ? إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا? [المعارج:19-20-21]
إن الصبر هو خير ما يمنحه الله لعباده كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر"
سنن الترمذي باب ما جاء في الصبر على البلاء 2398 عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال:" الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن أبي هريرة وأخت حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 1956. وصحيح ابن ماجه برقم 3249.
وفي صحيح البخاري باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول برقم 5324 عن عبد الله قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا قال:" أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قلت ذلك بأن لك أجرين قال أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ".
صحيح مسلم باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وإنه يأرز بين المسجدين برقم 145 عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء".
صحيح مسلم باب المؤمن أمره كله خير برقم 2999عَنْ أبي يحيى صهيب بن سنان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
سنن أبي داود باب في الاستعفاف برقم 1644 عن أبي سعيد الخدري :"أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى الله أحدا من عطاء أوسع من الصبر". وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 1647، وصحيح أبي داود برقم 1447، وصحيح النسائي برقم 2425. ...
=================(4/177)
الصبر على الابتلاء
تناول الدرس أهمية الصبر وأوجه ذكره في القرآن والعقبات التي تواجه الدعاة وكيفية الصبر عليها، وذكر صورا من أوجه إنكار المنكر، وحث على الصبر على الدعوة وبين طبيعتها ونماذج من ابتلاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنتأسى بهم .
قال الإمام أحمد : إن الله ما عظّم شيئا في كتابه كما عظّم الصبر فقد ذكر في أكثر من تسعين موضعاً ، فمنها ما ذكر الله من مضاعفة الأجر للصابرين كما في قوله: [أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[54]] سورة القصص ، ومنها ما ذكر فيه من توفيتهم أجرهم بغير حساب : [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[10]] ، ومنها ما ذكر من الاستعانة بالصبر على ما يواجه الإنسان: [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]] سورة البقرة، وكما في الوصية به في قوله تعالى : [ وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]] سورة العصر.
فهذا الأمر لا يتم للإنسان حقيقة الإيمان إلا به ، فهو حق علىكل مسلم ، ولكن عندما نتحدث عن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تكون الحاجة من الصبر أعظم من ذلك ، وانظروا في وصية لقمان لابنه:] وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [17][ سورة لقمان ، فلعل في التعقيب بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إشارة إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو أحوج من غيره إلى الصبر ؛ وإن كان كل من دعا إلى الله، و آمن بالله لابد أن يبتلى : ]الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2][العنكبوت، ويقول الله: ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا[31] [ سورة الفرقان .
فكل نبي وصاحب دعوة له أعداء من المجرمين ، كما أن الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر يصدم الناس في شهواتهم التي يتهافتون عليها كما مثل النبي r تهافتهم بتهافت الذباب والفراش على النار ولكنه r قال ] ولكنني آخذ بحججكم عن النار [ ، وهذا العمل يقوم به من بعده r من العلماء والدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، فلو أبيح أي نوع من أنواع الفساد للناس لرأيتهم يتهافتون عليه، فإذا اجتمعت مع هذه الشهوة شهوات أخرى ؛ كأن يكون الرجل ذا منصب أو يكون ذا مال وجاه ؛ فإن ردّه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكون أكبر ، فيستعظم ويتكبر أن ينتقده أحد ويقول له اتق الله وهو صاحب المرتبة والجاه والسلطان , فهذا حال من أخبر الله تعالى عنهم : ] وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[206][ سورة البقرة, فإذا كان هذا في زمن كثر فيه الفساد, و اشتدت غربة الدين, وضعف فيه سلطان أهل الحق ؛فإن الأمر يكون أشد ولهذا فهم من أحوج الناس لكل ما تحتمله هذه الكلمة من مظاهر الصبر
من مظاهر الصبر
1-الصبر على أذى النفس : فهذه النفس الأمارة بالسوء تقول :يا عبد الله الناس مرتاحون, و لا يعادون خلق الله, وفي وظائف مرفهة, و أجور عالية, وأنت في هذا العمل الدعوي.
ولهذا لابد أن تقمعها ,وأن تقول: أيتها النفس لا تتكلمي؛ فإنني أعمل عمل الأنبياء الذين لم يتقاضوا عليه أجرا حيث قالوا لقومهم ] وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ[164][ الشعراء.
2- الصبرعلى أذى الأهل : فالداعية قد يقاوم نفسه؛ ولكنه قد ينهزم أمام أهله من الزوجة أو الأبناء ؛ فيقولون له اترك هذا العمل, أو انتقل إلى آخر, وهذا من البلايا, فقد ابتلى الله تعالى نوح عليه السلام بامرأته وابنه, وابتلى لوطا بامرأته , وابتلى إبراهيم بأبيه .(4/178)
3- الصبر على الابتلاء الحاصل في العمل على نفسه: فهذه الأمة مكرمة ومفضلة ؛ولكنها لابد أن تأخذ عقوبتها إذا عصت الله, وإن كانت عقوبتها أخف من غيرها تكريماً لمحمد r واستجابة لدعائه كما جاء عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ] لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَر [ رواه البخاري والترمذي وأحمد ، وعن عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَال r : [سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا [ رواه مسلم وأحمد .
وإن أحرص ما يحرص عليه الشيطان أن يوقع الفتنة بين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, وبين العلماء وبين الدعاة , وهل تظن أن الشيطان يريد أن يوقع العداوة بين من يشربون الخمر, ويلعبون القمار؛ مع أن من ضروراتهما حصول العداوة؛ و لكن أحرص ما يكون الشيطان على هذه الحالة؛ كما جاء عن الزبير بن العوام قال : قال r : [دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ [ رواه الترمذي وأحمد .
ثم إن من نذر نفسه للعمل الدعوي ليتوقع العداوة من كل أحد ؛ سواء بفصل أو نقل أو طرد أو إشاعة أو افتراء ؛كما يقال لرجال الحسبة : ما يخافون الله يأخذون الراتب بالحديث وشرب القهوة وبلا عمل , فاللوم لاحق على أهل الخير فلا حيله لهم إلا الصبر والاحتساب عند الله سبحانه وتعالى.
فكل هذه العقبات يجدها الداعية الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر في طريقه أينما اتجه, والله تعالى يقول : ]الم[1] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2][العنكبوت من الفتنة و الابتلاء , وهذه سنة ربانية ؛حتى قال بعض العلماء : إن من لم يؤذَ ويبتلَ ويتحمل الأذى فإن إيمانه لا يعد إيماناً في الحقيقة؛ وإن كان هو مسلم, والله خلقنا وتعبدنا بأن نقيم هذا الدين , وأن ندعوا إليه يقول الله : ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108] [ يوسف , فكل من اتبع النبي r فهو داعٍ إلى الله آمرٌ بالمعروف و ناهٍ عن المنكر .
صور من الإنكار في هذه الأمة
1- كان عمر رضى الله عنه يتفقد أحوال الرعية في الليل , فسمع امرأة تقول شعراً وهى لا تظن أن أحد سيسمعها :
كيف السبيل إلى خمر فأشربها و كيف السبيل إلى نصر بن حجاج
وفي اليوم الثاني سأل عمر : من نصر بن حجاج ؟ فقيل له : رجل فيه جمال وتعجَب به من ضَعُف إيمانها من النساء , فنفاه من المدينة إلى الكوفة , فإذا كان هذا في نصر صاحب الجمال الطبيعي فكيف فيما يعرض في وسائل الأعلام من مثيرات الشهوات .(4/179)
2-كان الصحابة أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , بل كانوا يبدءون بأنفسهم ,فقد جاء عمر رضى الله تعالى عنه يوما إلى سوق الإبل, ولفت نظره أن إبلاً سمينة معروضة للبيع أثمن من غيرها , ففكر كيف كل هذه الإبل ترعى من المدينة , فسأل لمن هذه الإبل , قالوا : هذه لعبد الله بن عمر، فسأل عمر ولده :لِمَ يا عبد الله بن عمر هذه الإبل أثمن من غيرها ؟ قال : والله يا أمير المؤمنين إن هذه الإبل اشتريتها من مالي ورعيتها مع المسلمين, قال : لا ,كان الناس يقولون: أسقي إبل ابن أمير المؤمنين , رد إبل ابن أمير المؤمنين , فلأنك ابن عمر شربت إبلك أكثر ورعت أكثر فكانت أسمن من غيرها, لا يا عبد الله لك رأس مالك, والربح لبيت مال المسلمين قال : سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين, فانظروا كيف الحساسية بالبدء بالنفس عند إنكار المنكر, ولذلك لما جاء رسول كسرى إلى المدينة يريد أن يرى قصورها , فلم يرَ إلا مبانٍ عادية جدا, ووجد عمر نائماً في ظل الشجرة متوسداً حجرا , أهذا عمر الذي دوخ العالم ؟لماذا أوقع الله هيبته في قلوب العالمين ؟ إنه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [110][ آل عمران , جاء عن أبي الدرداء رضى الله عنه أنه قال : من يشترى منى تركة آل عاد بدرهمين يا أهل دمشق يا أهل دمشق ما لي أراكم تبنون مالا تسكنون وتجمعون مالا تأكلون يا أهل دمشق أنه قد بلغنا أن عاد قد بنوا لبنة من ذهب و لبنة من فضة .
فلنصبر على ذلك ,ولنحتسب عند الله في كل ما يصبنا من الأذى؛ لأن العاقبة للمتقين ]وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105][ سورة الأنبياء .
هل كان أحد يظن أن هذا الرجل الشيخ محمد بن عبد الوهاب يذهب من قرية إلى قرية ,كلٌّ يطرده ؛ فيقبله محمد بن سعود ويتحالف معه, فكم هي قرية الدرعية بالنسبة للدولة العثمانية والعالم, ولكن لما بدأت بالتوحيد الخالص لله وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أظهرها ونشرها وأبقى لها الذكر الحسن إلى هذا اليوم .
وعادةً يكون انبلاج الفجر عند اشتداد الظلمة, وإذا رأيت الحق يحارب فاستبشر بأن النصر قريب ؛لأن الحق دين الله ؛ وهو مُتكفِّل به, ولن يُضيع عباده الصالحين أبدا ,كذلك لابد أن نعلم أن هذا الدين سيقوم , فإن لم يقم على يديك فعلى يدي غيرك ,وإن لم تقم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فسيخرج الله من أبناء المترفين وأبناء المجرمين أنفسهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ]وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38][ سورة محمد .
هذا دين الله لا يستطيع أحد أن يضره؛ ولكن هي فترات ابتلاء وامتحان لابد أن تمر كما ابتلى النبي r وهل أحد أكرم وأحظى عند الله من محمد r يحاصر في الشعب هو وبنو هاشم إلى حد أنهم أكلوا ما يدب على الأرض من الجوع, وماذا كان يوم أحد ويوم الأحزاب من الفتن والأهوال التي ذللت قلوب المؤمنين؛ ولكن في النهاية كان ذلك النصر المبين , فالصبر هو أساس النصر, والإنسان لا يدرى متى يموت فيصبر إذا على هذه الساعة يحفظها ويتقي الله فيها ]لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[186][ سورة آل عمران ،فالمؤمنون يمتحنون ويؤذون و يصبرون, وقد لا يرون شيئا من النصر ، فهذا مصعب بن عمر رضى الله عنه ذاك الفتى الذي كان مترفا في مكة ذهب إلى المدينة, ودعى إلى الله ,وأسلم الأنصار حتى ما بقى بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام ,وتلي فيه القرآن يُقتل يوم أحد رضى الله عنه، ولما أردوا أن يكفنوه لم يجدوا إلا رداءه , فإن غطوا رأسه بدت رجلاه , وإن غطوا رجليه بدا رأسه.
وبلادنا مستهدفة من الكفار ليس لأجل الثروة , ولالأجل الأمن , وإنما لأجل هذا الدين ]وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [120] [ سورة البقرة , لا يريدوننا أن نبقى مسلمين , فكل الحروب مهما اختلفت و تنوعت كلها من أجل هذه العقيدة وبالذات أنها ولله الحمد عقيدة نقية سلفية واضحة ، ولذلك فالمحافظة على هذه العقيدة ، وذب المنكرات التي تحيط بها من البدع والضلالات هو أوجب الواجبات.
من شريط الصبر على الابتلاء، للشيخ سفر الحوالي
===============
الصبر على المحن سلاح المؤمن
من صالح أحمد البوريني/عمان
عضو رابطة الأدب الإسلامي
saleh_alborini@yahoo.com(4/180)
يمتحن المؤمنون في هذا الزمان وفي كل زمان بأنواع من الابتلاءات والمحن على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول ، وتلك سنة إلهية ماضية ، قال تعالى : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون )) [ العنكبوت : 2 ] ، وقال عز وجل : (( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )) [ تبارك : 2 ] ، وقد يكون الابتلاء بالرخاء وقد يكون بالشدة . وما يعنينا هنا هو وقوع الابتلاء بالشدائد والمحن وموقف المؤمن منها .
الصبر مظهر الرضا :
ولما كان الابتلاء بالمحن من سنة الله تعالى ، فقد لزم أن يعرف المؤمن ذلك وأن يفهم حقيقته ، وحين يفقه المؤمنون سنن الله تعالى فإنهم يحسنون التعامل معها ، ويتمثل فقه المؤمنين لسنة الابتلاء بالمحن في الرضا بقضاء الله تعالى والخضوع لأمره ، ومظهر هذا الرضا والخضوع هو الصبر ؛ هذا الخلق العظيم الذي يمثل موقف المؤمنين تجاه المحن والابتلاءات ، ويجسد فلسفة المؤمن في التعامل مع أكدار الحياة وجراحها ومنغصاتها التي لا تنتهي . وعلى أساس هذا الفهم السليم فإن المؤمن يكون راضيا بقضاء ربه عز وجل متسلحا بالصبر في كل أحواله ولا سيما في الشدائد والمحن وفقا لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) 1 .
الرضا حظ المؤمن :
وحين يؤمن العبد أن له على كل مصيبة أو محنة مهما صغرت أجرا إذا صبر ، ويستيقن أن صبره لا يذهب هباء منثورا وإنما يكون مذخورا له عند ربه محفوظا له في ميزانه يوم القيامة ، وأن ( عظم الجزاء مع عظم البلاء وأن من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ) 2 ، وأنه ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) 3 ، فإن ذلك الإيمان يغمره بالرضا ويفيض عليه من السكينة ما يخفف من آلامه ويسكن من جراحه . ولذلك ترى المؤمن في المحن والشدائد متذرعا بالصبر ، ميالا إلى التحمل والثبات محتفظا بتوازنه ورباطة جأشه ، يترجم ذلك كله بما يناسب الحال من الكلمات والعبارات التي تعكس استسلامه لأمر الله تعالى ورضاه بقضائه ، فتراه يكثر من قول ( الحمد لله ) و ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) وما شابه ذلك من الأقوال التي تثقل بها الموازين وتذهب قلق الأهل والمحبين .
مواقف متنوعة :
وفي زماننا كثيرة هي المحن التي تتطلب فهم درس الصبر فهما سليما ؛ يعين على الثبات ، ويساعد على تجاوز العثرات ، والوقوف في وجه التحديات والصعوبات التي تعترض المسلمين في حياتهم الخاصة والعامة ، وتقف في طريق الدعوة ، وتعمل على إجهاض الصحوة .
وثمة مواقف وأحوال يلزم فيها الصبر ، سلاحا للمؤمن ، وزادا على طريقه لتحصيل مرضاة ربه عز وجل ، فإذا افتقده فيها أدركه الجزع وخالط قلبه الفزع ؛ فلا تراه إلا ضعيفا مهزوزا مهزوما . ومن تلك المواقف والأحوال ما يلي :
الصبر على الفقر والحاجة :
إذ يكون الفقير المحتاج بين موقفين ؛ أولهما أن يلجأ إلى سؤال الناس، وطلب المعونة من الخلق ، والثاني أن يتصبر على حاله ممتنعا عن سؤال الخلق ، ومحتالا بما أمكن من الجهد وطرق أبواب العمل ، حتى يأتي الفرج ويبدل العسر يسرا . ولا شك أن موقف التصبر في هذه المحنة خير من موقف السؤال وعرض الحال ، ولذلك جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف مؤكدا على قيمة الصبر وحسن عاقبته ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده ، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده : ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ) 4 . وقوله يتصبر يفيد أن تحصيله الصبر لم يكن بسهولة ، وإنما بشيء من المعاناة والتحمل ، لأنه لم يكن صابرا إلا بتكلف مؤونة الصبر وتحمل مشقته .
الصبر في السراء والضراء :
ومن الطبيعي أن يصبغ الإيمان حياة المؤمن بصبغة الصبر ، وأن يكون المؤمن صابرا ، ولكن المؤمنين يتفاوتون في ذلك بقدر حظهم من الإيمان ، فكلما ارتفع مستوى الإيمان وازداد رسوخ اليقين كان العبد أكثر صبرا ، فارتفاع مستوى الإيمان يعني ارتفاع مستوى الصبر .
وفي معرض بيان الحق جل وعلا لوجوه البر امتدح الصابرين في البأساء والضراء بالصدق والتقوى فقال (( .. والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) [ البقرة : 177 ] ، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم شكر المؤمن على السراء وصبره على الضراء بقوله : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) 5 .
مصيبة الموت :(4/181)
والمصائب تتفاوت أيضا في الشدة ، وليس ثمة مصيبة أشد وقعا على الإنسان من موت قريب أو عزيز ؛ فإن مصيبة الموت تهز الإنسان هزا عميقا ، وتفجعه بفراق الأحباب ، ولذلك كان الصبر حينها لازما وضروريا للمؤمن ، وكان غيابه مؤديا في كثير من الأحيان للوقوع في المحظور من القول أو الفعل المحرم ، أو موجبا للشرك أو للكفر والعياذ بالله ؛ كالنياحة التي حرمها الشرع ، وإطلاق ألفاظ السخط والسخرية على القدر ، وعدم الرضا بقضاء الله عز وجل .
وقد بشر الله سبحانه من يصبر على موت عزيز عليه بأن له الجنة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تعالى : ما لعبدى المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ) 6 .
مصيبة العمى :
ومن أشق المصائب على الإنسان في صحته فقد بصره . لذلك وعد الله عز وجل من صبر على هذه المصيبة أن يجزيه الله الجنة ، وقد ورد هذا الوعد الإلهي الصادق في الحديث القدسي الذي رواه أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يقول الله تعالى : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة ) 7 .
الصبر حين الغضب :
ومن المواقف التي يلزم فيها الصبر موقف الغضب ، فحين تستبد بالنفس سورة الغضب الشيطاني الجامح ؛ تفلت من عقال الضبط ، وتستجيب لدواعي الهوى والعناد والتعصب ونزغات الشيطان ، فتخرج عن حد الالتزام بالشرع ، وفي هذه المواقف تمتحن رجولة الرجال وكفاءة الأبطال ؛ فأما من وفق للسيطرة على نزعات النفس ودفع نزغات الشيطان ؛ فهو الرجل القوي الشديد الأمكن ، ولو ظهر أنه من أوساط الناس جسديا وعضليا . وأما من فقد السيطرة على نفسه فهو الأضعف ولو بدا قوي الجسم شديد البنية ، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) 8 .
ومن أنصع الأمثلة العملية على الصبر الذي تتجلى فيه القدرة على ضبط الانفعال ، وحسن قيادة النفس ، وتعزيتها بعبر السابقين ؛ قصة قسمة الغنائم عقب انتصار المسلمين في غزوة حنين ؛ إذ تألف النبي صلى الله عليه وسلم قلوب بعض الناس ، طمعا في إسلامهم ، فأعطاهم عطاء أكثر من غيرهم ، فقال أحد المسلمين : ( والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله ) ، فوصل ذلك القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فظهر عليه الغضب واعتصره الحزن والألم ، ولكنه صبّر نفسه ، وهو الرؤوف بالمؤمنين الرحيم بهم ، وكظم غيظه وقال : ( ومن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ) !! ثم قال متأسيا بأخيه موسى عليه السلام : ( رحم الله موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر ) 9 .
الصبر على مشاق الدعوة والجهاد :
ومن أعظم المواقف التي تتطلب صبرا عاليا ، ومقاومة شديدة ، وضبطا للنفس لا يقدر عليه إلا أهل اليقين الصامدون في خندق العقيدة ، والثابتون على طريق المبدأ ، مواقف الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله . ذلك أن إقامة الخلْق على العبودية لله عز وجل تكلفهم أن يخرجوا على هوى أنفسهم، وينعتقوا من أسر عاداتهم ، وما ورثوه عن آبائهم ، وما ألفوه في حياتهم من الطقوس والتقاليد الجاهلية ، وهذا ما يشق على النفوس ويستحيل على كثير من الناس أن يستجيبوا له ، فتراهم يغلقون على أنفسهم أبواب الاستجابة للدعوة ، ويتخذون من الدعاة موقف الضدية والمعاداة ، ويقطعون عليهم طريق التبليغ ، ويجتهدون في إيذائهم ومقاومة دعوتهم بما استطاعوا من وسائل الضغط والعنف والحرب الهوجاء .
ومن أمثلة ذلك ما صورته لنا عبارات هذا الحديث الشريف الذي يقول فيه الصحابي الجليل خباب رضي الله عنه : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه . والله ليتمن الله هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) 10 .
الهوامش :
1. رواه مسلم عن صهيب بن سنان في كتاب الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير،( 2999 ).
2. صحيح سنن الترمذي ( 2/285 ) .
3. رواه البخاري في المرضى ، باب ما جاء في كفارة المرض (10/91 ). ومسلم في البر ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض ( 2573 ) .
4. رواه البخاري في الزكاة ، باب الاستعفاف عن المسألة ( 3/265 ) ، ومسلم في الزكاة ، باب فضل التعفف والصبر ( 1053 ).
5. رواه مسلم وسبق توثيقه .
6. رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى ( 11/207 ) .
7. رواه البخاري في كتاب المرضى ، باب فضل من ذهب بصره ( 10/100 ).
8. رواه البخاري في الأدب ، باب الحذر من الغضب (10/431 ) .ومسلم في البر ، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب ( 2609 ) .(4/182)
9. رواه البخاري في أبواب الخمس وفي الأنبياء وفي الدعوات وفي الأدب ، باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه ( 8/ 44 ، 45 ) ، ورواه مسلم في الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (1062) .
10. رواه البخاري في كتاب علامات النبوة ( 7/126 ) .
===============
سنة الابتلاء
قال تعالى : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ?[ الملك:1ـ2].
إن الابتلاء سنة ثابتة في حياة البشر لا يستطيعون الخروج منها، وللابتلاء صور ومظاهر وقوانين وسنن تفصيلية لسنة الابتلاء الأصلية والأساسية ومن تلك السنن :
سنة التداول: بمعنى أن الله تعالى يداول أحوال الناس من شدة إلى رخاء ومن رخاء إلى شدة ، ومن نصر إلى هزيمة ، ومن هزيمة إلى نصر، ومن يسر إلى عسر، ومن عسر إلى يسر إلى غير ذلك من مظاهر تقلبات الأحوال وتغيير المواقف وتداول المواقع، حتى تظهر بذلك مواقف الناس، وتنكشف بواطن ما في صدورهم وفي هذه السنة يقول الله عز وجل ? وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ?[ آل عمران: 140].
وإن كانت هذه الآية الكريمة نزلت في أعقاب غزوة أحد، ليتبين للمؤمنين سنة الله عز وجل في النصر والهزيمة، وإن كانت العاقبة والمحصلة النهائية للمؤمنين ، والنصر موعود لهم، ولكن هناك حكمة تقتضي أن يذوق المؤمنون طعم الهزيمة.
ومداولة الأحوال لا يقتصر على تعاقب النصر والهزيمة فإن اختلاف الأحوال لا يقتصر على تعاقب النصر والهزيمة فإن اختلاف الأحوال والظروف التي يمر بها الإنسان تدخل في إطار هذه السنة، ولهذا قال بعض المفسرين أن معنى نداولها بين الناس: من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر إلى غير ذلك.
ثم إن وعد الله للمؤمنين بالنصر لا يعني أن الأمر سيجري وفق أهوائهم وأن الثمرة ستأتي على ما يشتهون، كلا. بل إن حكمة الله تقتضي بأن تتربى النفوس المؤمنة على تحمل نتائج الأخطاء، وأن تتعلم بأن المعصية تبعدهم عن رحمة الله وتوفيقه وعونه، فليس من الصدفة أو المجازفة ما يحصل في حياة البشر من تغييرات في أحوالهم، فإن وراء ذلك إرادة ومشيئة إلهية ذات حكمة بالغة على الإنسان أن يعرفها ويفقهها.
ومن سنن الابتلاء سنة التدافع بين الحق والباطل فإن الله أراد لهذه الحياة أن تكون مسرحاً للصراع بين أنصار الحق والباطل، بين قوى الخير وقوى الشر، قال تعالى: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?[الأنبياء:35], وقال: ? وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً?[الفرقان: 20]. فالتدافع بين أهل الحق وأهل الباطل سنة حتمية لا بد منها، فلا يتصور أن يعيش الحق والباطل في سلم دون صراع ومن دون غلبة أحدهما على الآخر، إلا لعلة كضعف أصحابهما أو جهلهما بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أو ضعف تأثير هذه المعاني فيهم، ولقد ضرب الله مثلاً لهذه الحقيقة حقيقة الحق الثابت والباطل الزاهق في قوله سبحانه: ? أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ?[ الرعد:17].
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه زبد أو خبث، ما يلبث أن ينتهي ويذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق هادئاً ساكناً، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء الزلال والمعدن الصافي ينفع الناس (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) لقد مضت سنة الله في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله كما قال تعالى ? وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ?[ الشورى: من الآية24] غير أن للنصر عوامل وأسباباً، وانتصار الله للحق وأهله لا يأتي إلا بجهد وتعب، وقد يصيب المؤمنين كثير من الأذى. والنصر إنما يتحقق في واقع الناس إذا هيأ الله في أنفسهم عوامل النصر التي أرشد إليها الإسلام وأمر بها الله ورسوله وأبعدوا عن أنفسهم عوامل الفشل ومعوقات النصر.
ومن أهم عوامل النصر: الإيمان، فقد وعد الله أهل الإيمان بالنصر والتأييد كما قال? وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ?[ الروم: 47].(4/183)
وقال : ? إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ?[غافر:51].
وهذا وعد غير مكذوب.. ولا ينبغي أن يتطرق إلينا الشك بوعد الله ونحن نرى واقع المسلمين المؤلم غير منصورين عليهم، ذلك أنهم لم يحققوا الإيمان المطلوب منهم وما يستلزمه من صفات وأفعال غير متحققة فيهم، وبالتالي لا ينطبق عليهم الشرط ولا يستحقون نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وما أحرى المسلمين اليوم وهم يمرون بظروف صعبة وحرجة أن يراجعوا أنفسهم ويعرضوا أحولهم وأفعالهم وما هم عليه على كتاب الله وسنة رسوله ليعرفوا الخلل الذي هم فيه، والنقص الموجود فيهم، فيقوموا بالتصحيح والتقويم وتدارك ما فاتهم وتحقيق معاني الإيمان في نفوسهم حتى يستحقوا الدخول في مضمون قول الله تعالى: ? وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ?[ الروم: 47].
ـ من عوامل النصر تقوى الله تعالى كما قال تعالى مخبراً عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال لقومه المستضعفين المضطهدين من قبل فرعون وجنده: ? قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ?[ الأعراف:128], وقال تعالى: ? وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ?[ آل عمران: 120].
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أوصى سعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق وفتوحات فارس قال: فإني آمرك ومن معك من أجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد أحتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم قد سلط عليهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألون النصر على عدوكم اسأل الله ذلك لنا ولكم.
ومن عوامل نصر الله لعباده كونهم ينصرون دين الله عز وجل كما قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ?[ محمد:7] وقال ?وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ?[ الحج: 40]
والمراد نصرة دين الله وشريعته، ونصرة حزبه وأوليائه ولا شك أن انضمام جهود المؤمنين بعضهم إلى بعض لإقامة شرع الله وإعلاء كلمته، بالتعاون والتناصر فيما بينهم على هذا المقصد العظيم، تتحقق منهم النصرة لدين الله وبهذا يتحقق فيهم ما شرط الله عليهم لينالوا ما وعدهم الله به من نصرة، وكلما كانوا أكثر تعاوناً وولاءً وأصدق جهاداً في سبيل نصرة دين الله كان نصر الله أعظم وأكبر وأسرع إليهم مما يتصورون ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ?[ المائدة:55ـ56].
أما بعد ..
فإن وحدة الأمة واعتصامها بدينها وابتعادها عن عوامل الفرقة والاختلاف، والتنازع والصراع من أهم أسباب قوتها وانتصارها على أعدائها، وهذا ما أمر الله به عباده وأوصاهم به وحذرهم من الفرقة والتنازع غاية التحذير فقال سبحانه: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ?[ آل عمران: 103] , وقال: ?وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ?[ الأنفال: 46] , وقال: ? وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ?[ الروم: 31ـ32].
وقال: ? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ?[ الأنعام:159].
وقال: ? شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ?[ الشورى:13].(4/184)
وما استطاع الأعداء ولن يستطيعوا أن يتسلطوا علينا إلا حين نسقط في هذه الفتن فتن الاختلاف والتنازع والخصام والاقتتال والتدابر والتقاطع، لقد اختلفنا حول كل شيء فالدين الذي أكرمنا الله به وأعزنا وشرفنا بأن نكون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم اختلفنا حوله فهناك من يريد هدمه وإزالته والإجهاز عليه من أبناء جلدتنا، ولم يعد الأمر سراً بل هناك من يطالب جهاراً نهاراً بذلك وهذه هي الحالقة والكارثة.
لقد اختلفنا في المفاهيم والتصورات وفي الآداب والأخلاق وفي السياسات والمنطلقات والغايات.
والأعداء المتربصون بالأمة يغذون هذه الاختلافات، ثم يتحينون الفرصة للانقضاض علينا، ولقد أصبحت هذه السياسة من أقوى وأشد الأسلحة فتكاً بالأمة يستخدمها الأعداء في حربنا، وانظروا إلى ما يجري في العراق على سبيل المثال، وانظروا إلى ما يجري في السودان وكيف يبحث الأعداء عن مبررات للتدخل والسيطرة والتحكم في مقدرات الأمة ونهب ثرواتها. وما كان لهم أن يحققوا شيئاً من ذلك ولن يستطيعوا ما كانت الأمة قوية متماسكة متعاونة موحدة في أهدافها ومنطلقاتها معتصمة بكتاب الله متبعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن أخشى ما أخشاه والعدو متربص بنا على أن يستغل الأحداث الجارية في بلادنا وتغذية الفرقة وإيقاد الفتنة لتضعف بذلك الأمة وتكون مهيأة للقبول بالأجنبي ولديها القابلية للسقوط في هذا الفخ، فعلى عقلاء الأمة ومسئوليها أن يكونوا مدركين للأمور على حقيقتها وأن يتعاملوا مع الأحداث تعاملاً واعياً مسئولاً، بعيداً عن الرعونة والطيش والاستخفاف.
نسأل الله تعالى أن يدفع عن بلادنا وسائر بلاد المسلمين مضلات الفتن، وأن يعصمنا بالإسلام قائمين وقاعدين، وأن لا يشمت بنا الأعداء الحاقدين.
راجعه/ علي عمر بلعجم.
عبد الحميد أحمد مرشد
===========
أصول جامعة في النصر والهزيمة وفقه الابتلاء
الأصل الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار- والواقع شاهد بذلك-. وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.
الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا، فمعولهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض؛ هان عليهم تحمل المشاق والبلاء. والكفار لا رضا عندهم، ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله:{ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104]}[سورة النساء] . فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله، فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله، ومؤنته، ومشقته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه؛ كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه.
الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان-وإن كان في الظاهر بخلافه- قال الحسن:' إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه'.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ] رواه مسلم. فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم، فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.(4/185)
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان: أمر لازم لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض، والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة، والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم؛ لكان ذلك عَالمًا غير هذا، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى:{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[37]}[سورة الأنفال] .
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانًا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز وجل:
فمنها:استخراج عبوديتهم، وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين، غالبين؛ لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم؛ لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة.
فإذا غُلبوا.. تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلبوا؛ أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة. ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا؛ لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية: أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارةً، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم، والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[141]أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[141] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[143]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144]وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[145]}[سورة آل عمران].
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله، ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولًا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها كالأرزاق والآجال، ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم -وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه- ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعًا.(4/186)
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة، لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو؛ لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد، ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي: تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة، والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد، ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم..فهذا بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.
الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم؛ ليعلم من يريده ويريد ما عنده، ممن يريد الدنيا وزينتها، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[7]}[سورة هود]. وقال:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[7]}[سورة الكهف]. وقال:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[2]}[سورة الملك]. وقال تعالى:{...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء].
وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]}[سورة محمد]. وقال تعالى:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت].
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين:
إما أن يقول أحدهم: آمنت، أو لا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا. فأما من قال: آمنت، فلابد أن يمتحنه الرب، ويبتليه ليتبين: هل هو صادق في قوله: آمنت، أو كاذب، فإن كان كاذبًا؛ رجع على عقبيه، وفر من الامتحان كما يفر من عذاب الله. وإن كان صادقًا؛ ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانًا على إيمانه، قال تعالى:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]}[سورة الأحزاب].
وأما من لم يؤمن: فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلابد من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ، وفي القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة، وأسهل بلية، فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه من الصبر والثبات، والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته، وأما الكافر، والمنافق، والفاجر، فتشتد محنته وبليته وتدوم.
فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة، فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت، أو كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعيم ابتداءً، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم ألبتة.. يوضحه:
الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم؛ آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلابد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم، أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم.
ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم، فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى. وإن وافقهم فرارًا من ألم المخالفة؛ أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولًا بموافقتهم.. فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألمًا عظيمًا دائمًا.. والتوفيق بيد الله.(4/187)
الأصل الحادي عشر: أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام، فإنه: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارةً، وبتألمها بدون التلف.. فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس، ومن المعلوم: أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات، وأفضلها، وأعلاها، ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول:{ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا[16]}[سورة الأحزاب]. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلًا؛ إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه.
ثم قال:{ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا[17]}[سورة الأحزاب]. فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله إن أراد به سوءًا غير الموت الذي فرّ منه، فإنه فرّ من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيره؛ لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه، وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فالأمر هكذا في مصيبة المال، والعرض، والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته؛ سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلًا وآجلًا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنؤه وعلى مخلفه وزره، وكذلك من رفه بدنه وعرضه، وآثر راحته على التعب لله، وفي سبيله؛ أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.. قال أبو حازم:' لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقى الله من معالجة التقوى'.
واعتبر ذلك بحال إبليس، فإنه امتنع من السجود لأدم فرارًا أن يخضع له، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادمًا لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته. وكذلك عباد الأصنام أنفوا أن يتبعوا رسولًا من البشر، وأن يعبدوا إلهًا واحدًا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار.
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لابد أن يذل لمن لا يسوى، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته؛ عقوبة له، كما قال بعض السلف:' من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته'.
من كتاب:'إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان' للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله.
==============
الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين
الابتلاء سنة ربانية جارية إلى يوم القيامة، وقد تكلم الشيخ في هذا الدرس عن الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين، وتناول صوراً للابتلاء، فذكر التكاليف الشرعية، وذكر الفتة في الدين، ومثّل لذلك بما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى قريش، وما لاقاه أصحابه، وذكر منهم آل ياسر وبلالاً وخباباً وغيرهم.
الابتلاء سنة ربانية(4/188)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. وبعد: أيها الأحبة: هذا الدرس يلقى في مسجد الشربتلي، بحي الربوة، بمدينة جدة ، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (29/ رجب عام 1418 للهجرة)، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وهو ضمن السلسلة المعنونة: بـ(تأملات في السيرة النبوية) وعنوان هذه المحاضرة: (الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين). إن الابتلاء سنّة ربانية، يبتلي الله عز وجل بها من يدعي الإيمان؛ لأن الادعاء سهل، لكن إثبات صحة هذا الادعاء أمرٌ عسيرٌ، فمن السهل عليك أن تدعي ملكية عمارة أو شارع كامل، أو مدينة بأسرها؛ أو دولة بأسرها، لكن إذا طُلب منك إثبات ملكيتك بالدلائل فإنه من الصعب على الإنسان أن يثبته إلا إذا كان صادقاً في هذا الادعاء. فادعاء الإيمان ليس أمراً هيناً نظراً لأن ثمرة هذا الادعاء سعادة الدنيا والآخرة، فالذي يكون مؤمناً حقيقياً فإن الإيمان الحقيقي يضمن له الفوز في الدارين، والسعادة في الحياتين، فهذه الثمرة ليست سهلة حتى يكون الإيمان سهلاً، لذا فإن الله لا يترك الناس عند هذه الدعوى، بل لا بد من ابتلائهم؛ يقول الله عز وجل في أول سورة العنكبوت: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] لا يفتنون أي: لا يُختبرون: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] ويقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ويقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. ومجال الامتحان والابتلاء والفتنة لا يحدده العبد؛ وإنما الذي يحدده هو الله، وإذا استعجل العبد الفتنة وطلبها وكله الله إلى نفسه، وخلى بينه وبين نفسه، ولهذا لا تتمن الفتنة ولا البلاء ولكن سل الله العافية، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تتمنوا لقاء العدو) لأن بعض الصحابة كانوا يقولون: متى نراهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا) وآخرون استعجلوا القتال فقال لهم الله: لا يوجد قتال، لا يوجد إلا صلاة وصوم فقط، ففي فترة الاستضعاف التي كانت تعيشها الأمة في بداية عهد النبوة، لم يكن قد أذن بالقتال؛ لأن القوة غير متكافئة، والإمكانيات غير متقابلة، فالمؤمنون في قلة وفي ضعف، والكفر كان في قوة، فأي مناوشة للكفر بقتال معناه القضاء على الإسلام، وهذه سنّة ثابتة في حياة الأمة إلى يوم القيامة، فحينما تكون الأمة مستضعفة فليس من مصلحتها أن تواجه القوة الكافرة، ولكن الأولى أن ينصرف الناس إلى شيء آخر غير القتال. قال الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] أي: عن القتال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77] أي: لما كتب الله عليهم القتال، كان أول من انتكس هم هؤلاء الذين كانوا يقولون: متى القتال؟ فلا تستعجل، وعليك أن تعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة وعلى كتاب وسنّة، وإذا فرض الله عليك البلاء من غير طلب منك ولا سؤال له، فإن الله عز وجل يعينك ويثبتك، وصوره كثيرة: فمن صور الابتلاء: الابتلاء بالتكاليف الشرعية: كالصلاة والصوم والزكاة والحج، فهذا من البلاء؛ لأن فيه تعباً ومشقة. ومن صور الابتلاء: الابتلاء بتحريم المحرمات من الشهوات؛ لأن في النفس البشرية ميل إلى الشهوات، فالله حرمها والنفس تريدها. وتصديق الأخبار -أيضاً- من الابتلاء، فالله أخبرنا في القرآن، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنّة بأشياء يلزمنا أن نصدق بها، حتى ولو لم تهضمها عقولنا؛ لأن عقولنا محدودة، نعم. لها قدرة على الاستيعاب والفهم، ولكن هذا العقل لا يستطيع أن يلم بكل حقائق الكون، فعليك أن تقبلها مادامت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مجال إن جاءت أن تحكم عقلك فيها؛ لأنك إذا أردت أن تخضعها لذلك فلعلك تخطئ، ومعناه: أنك قدمت العقل على أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله قد ذكر أن أهل الإيمان إيمانهم في قلوبهم، ليس في عقولهم، قال الله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3] والغيب ما لا يدركه العقل! فنحن آمنّا بالله رغم أننا لم نره، ولكنه أخبرنا عن نفسه في كتابه، وأخبرتنا عنه رسله في جميع الرسالات،(4/189)
وعرفناه بالعقل، وعرفناه بآياته ومخلوقاته التي بثها في الكون، فلا ينبغي لنا أن نعطي العقل أكبر من حجمه، بحيث نقول: لا نؤمن بالله حتى نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا! ولما أراد موسى عليه السلام أن يمارس هذه العملية وهو كليم الله ومن أولي العزم، قال الله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ولما كلمه الله سبحانه وتعالى وأعطاه موعداً للمقابلة مرة ثانية، قال عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] يريد أن يرى رب العالمين، فإنه ليس عند موسى شك في الله؛ لأنه كلمه، لكن من باب حب الاستطلاع، يريد أن ينظر بعينه إلى الله، فقال له الله عز وجل: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: لن تثبت عينك ولن تستطيع أن تتحمل قوة رؤية الله: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] جبل الطور: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: أنه يمكن لك ولكن بشرط أن تكون مثل الجبل بالقوة، ولكنك لست في قوة الجبل: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً [الأعراف:143] هذا الجبل الأشم المخلوق من الحجارة الصم، صار دكاً كله، ولكن أين موسى؟ موسى بعيد عن الجبل، لم ينظر موسى إلى الله، وإنما تجلى الله للجبل، فمن أثر تجلي الله على الجبل خر موسى صعقاً وقال: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]. فعقلك أيها الإنسان محدود وإمكانياتك محدودة، فإذا جاءت الأدلة من الكتاب أو من السنة، فهذا معناه أن الأمر انتهى وآمنا بالله؛ لأنه لا أحد أصدق من الله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]. وإذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر صدقنا به حتى ولو لم تقبله عقولنا.......
صور من البلاء الذي مر به أهل الحق ...
من صور البلاء أيها الإخوة: ما يتعرض له المؤمن من فتنة في دينه، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا يكون دائماً في فترات ضعف الأمة، حينما يصير للكفر قوة وللباطل غلبة، لا يرضى الكافر أن يبقى المسلم معافى في دينه وفي عقيدته، بل يتحرش به، ويفتنه في دينه، وهذا تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية الدعوة الإسلامية بشكل أكبر، وتذكره كتب السيرة وسوف نستعرض بعضه في هذه اللحظات في هذه الليلة المباركة. لم تُجدِ جميع الوسائل ولا الأساليب ولا الطرق التي عملها كفار قريش، لصد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، وما بقي إلا القوة، وكما يقال: آخر العلاج الكي، فحملوا معول الهدم، وبدءوا في الأذية والابتلاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة من السابقين الأول رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان أبو لهب -عليه من الله ما يستحق- إذا سمع عن رجل أنه أسلم وله شرف وله منعة، أنبه وشتمه وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنضعفن رأيك، ولنضعن شرفك. وإذا كان تاجراً جاء إليه وقال له: سوف نكسد تجارتك، ونهلك مالك. وإن كان ضعيفاً، ضربه وآذاه وأغرى به غيره.......
بلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ...(4/190)
ثم استفحل الأذى حتى في الفترة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة، وأضحى يظهر شعائر الدين، مثل الصلاة عند الكعبة، فلم تستطع قريش أن تصبر؛ فقد روى مسلم في صحيحه : أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى حول الكعبة، فقام كفار قريش وأخبروا أبا جهل ، فجاء وهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، كأن شيئاً يهدده، فقيل له: مالك؟ -لأن الناس لا يرون شيئاً، إنما يرونه يتقي بيديه كأن أحداً يصفعه، قيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) قال: وأنزل الله عز وجل: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]إلى قوله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9-10] ثم قال عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]. يروي البخاري أيضاً عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت عقبة بن أبي معيط -عليه من الله ما يستحق- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فربطه في عنق النبي صلى الله عليه وسلم ثم خنقه خنقاً شديداً حتى كاد يقضي عليه، وفي هذه الأثناء أقبل أبو بكر فدفعه عنه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم]. وهذا من مواقف أبي بكر الخالدة، أنه منع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر. وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، نحرها أصحابها، وأخرجوا أذاها وسلاها وروثها من بطنها؛ فقال أبو جهل : أيكم يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيأخذها ويضعها بين كتفي محمد إذا سجد) وسلى الجزور أقذر ما فيها، فلما رآه ساجداً قال: اذهبوا وخذوا هذا السلى وضعوه بين كتفيه إذا سجد، فانبعث أشقاهم والعياذ بالله، وأخذ السلى، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، فضحك القوم، وجعل بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك، يقول: وأنا قائم أنظر، يقول: لو كان لي منعة لطرحته عن ظهر نبي الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى انطلق رجل فأخبر فاطمة في البيت، فجاءت وهي جويرية، أي: وهي صغيرة، فطرحته عن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته رفع يديه إلى السماء ودعا عليهم، يقول ابن مسعود راوي الحديث: [فوالذي نفس محمد بيده، لقد رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر ] وحملهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القليب، والقليب: البير الذي ليس فيه ماء، وخاطبهم فقال: (هل لقيتم ما وعدكم ربكم؟ فالصحابة قالوا: تخاطب قوماً لا يسمعون؟ قال: والذي نفسي بيده لهم أسمع لكلامي منكم، ولكنهم لا ينطقون). وآذى عتبة بن أبي لهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فاستجيب دعاؤه، وأكله السبع وهو في الزرقاء في الشام ، إذ كانوا في سفر، وكان ينام وسط الناس خوفاً من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى إليه الأسد وأكله من وسطهم وهم نيام. ثم استفحل الأذى حتى في الفترة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة، وأضحى يظهر شعائر الدين، مثل الصلاة عند الكعبة، فلم تستطع قريش أن تصبر؛ فقد روى مسلم في صحيحه : أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى حول الكعبة، فقام كفار قريش وأخبروا أبا جهل ، فجاء وهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، كأن شيئاً يهدده، فقيل له: مالك؟ -لأن الناس لا يرون شيئاً، إنما يرونه يتقي بيديه كأن أحداً يصفعه، قيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) قال: وأنزل الله عز وجل: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]إلى قوله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9-10] ثم قال عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]. يروي البخاري أيضاً عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد(4/191)
الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت عقبة بن أبي معيط -عليه من الله ما يستحق- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فربطه في عنق النبي صلى الله عليه وسلم ثم خنقه خنقاً شديداً حتى كاد يقضي عليه، وفي هذه الأثناء أقبل أبو بكر فدفعه عنه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم]. وهذا من مواقف أبي بكر الخالدة، أنه منع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر. وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، نحرها أصحابها، وأخرجوا أذاها وسلاها وروثها من بطنها؛ فقال أبو جهل : أيكم يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيأخذها ويضعها بين كتفي محمد إذا سجد) وسلى الجزور أقذر ما فيها، فلما رآه ساجداً قال: اذهبوا وخذوا هذا السلى وضعوه بين كتفيه إذا سجد، فانبعث أشقاهم والعياذ بالله، وأخذ السلى، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، فضحك القوم، وجعل بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك، يقول: وأنا قائم أنظر، يقول: لو كان لي منعة لطرحته عن ظهر نبي الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى انطلق رجل فأخبر فاطمة في البيت، فجاءت وهي جويرية، أي: وهي صغيرة، فطرحته عن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته رفع يديه إلى السماء ودعا عليهم، يقول ابن مسعود راوي الحديث: [فوالذي نفس محمد بيده، لقد رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر ] وحملهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القليب، والقليب: البير الذي ليس فيه ماء، وخاطبهم فقال: (هل لقيتم ما وعدكم ربكم؟ فالصحابة قالوا: تخاطب قوماً لا يسمعون؟ قال: والذي نفسي بيده لهم أسمع لكلامي منكم، ولكنهم لا ينطقون). وآذى عتبة بن أبي لهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فاستجيب دعاؤه، وأكله السبع وهو في الزرقاء في الشام ، إذ كانوا في سفر، وكان ينام وسط الناس خوفاً من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى إليه الأسد وأكله من وسطهم وهم نيام.
ابتلاء الصحابة رضي الله عنهم وتعرضهم للأذى ...
هذا بعض الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأوذي أيضاً معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة ، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء. وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبي صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها. وممن أوذي أيضاً عثمان بن مظعون ، وقصته يا إخواني تبعث على العجب وتبين لنا قوة إيمان هؤلاء الرجال، عثمان بن مظعون رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ولكن قريشاً رفضت أن يدخل أحدٌ إلا في جوار أحد، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة ، وهو من كبار قريش، ولما رأى عثمان بن مظعون الأذى الذي يقع على الذين دخلوا في غير جوار، ورأى نفسه لا أحد يؤذيه لأنه في جوار رجل عظيم، فقدم إلى مجلس قريش ولما قدم إلى مجلس قريش في مكة وفيهم لبيد بن الأبرص شاعر جاهلي، يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان: صدقت، فلما جاء بالشطر الثاني:
وكل نعيم لا محالة زائل(4/192)
قال: كذبت، فإن نعيم الجنة لا يزول، قال: لبيد الشاعر الجاهلي: يا معشر قريش! والله ما كنت أظن أن أؤذى وأنا في مجلسكم! فقال رجل من القوم: إن هذا من سفهاء قومه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قولهم شيئاً، فرد عليه عثمان حتى تفاقم الأمر، فقام إليه ذلك الرجل فلطمه على عينه ففقأها، والوليد بن المغيرة قريب منه، وقبل ذلك رأى عثمان بن مظعون أن الصحابة يتعرضون للأذى فجاء إلى مكة وقال: إني قد تركت جوارك يا وليد إلى جوار الله، لأنه يريد أن يأتيه أذى، فهو يرى الصحابة يؤذون وهو لا يؤذى، فقال: خرجت من جوارك يا وليد بن المغيرة إلى جوار الله، ولما جاء في مجلس قريش وآذوه والوليد جالس ينظر، قال له: يا ابن أخي والله إن كانت عينك لفي غنى مما أصابك، لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في ذات الله! -الله أكبر! لا إله إلا الله!!- وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد : هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جواري، فقال: لا، وترك جوراه. وممن كان يعذب أيضاً من الصحابة، الزبير بن العوام كان يعذبه عمه، ويعلقه في حصير ويشعل عليه النار، ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا والله لا أرجع. هذا بعض الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأوذي أيضاً معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة ، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء. وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبي صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها. وممن أوذي أيضاً عثمان بن مظعون ، وقصته يا إخواني تبعث على العجب وتبين لنا قوة إيمان هؤلاء الرجال، عثمان بن مظعون رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ولكن قريشاً رفضت أن يدخل أحدٌ إلا في جوار أحد، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة ، وهو من كبار قريش، ولما رأى عثمان بن مظعون الأذى الذي يقع على الذين دخلوا في غير جوار، ورأى نفسه لا أحد يؤذيه لأنه في جوار رجل عظيم، فقدم إلى مجلس قريش ولما قدم إلى مجلس قريش في مكة وفيهم لبيد بن الأبرص شاعر جاهلي، يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان: صدقت، فلما جاء بالشطر الثاني:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال: كذبت، فإن نعيم الجنة لا يزول، قال: لبيد الشاعر الجاهلي: يا معشر قريش! والله ما كنت أظن أن أؤذى وأنا في مجلسكم! فقال رجل من القوم: إن هذا من سفهاء قومه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قولهم شيئاً، فرد عليه عثمان حتى تفاقم الأمر، فقام إليه ذلك الرجل فلطمه على عينه ففقأها، والوليد بن المغيرة قريب منه، وقبل ذلك رأى عثمان بن مظعون أن الصحابة يتعرضون للأذى فجاء إلى مكة وقال: إني قد تركت جوارك يا وليد إلى جوار الله، لأنه يريد أن يأتيه أذى، فهو يرى الصحابة يؤذون وهو لا يؤذى، فقال: خرجت من جوارك يا وليد بن المغيرة إلى جوار الله، ولما جاء في مجلس قريش وآذوه والوليد جالس ينظر، قال له: يا ابن أخي والله إن كانت عينك لفي غنى مما أصابك، لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في ذات الله! -الله أكبر! لا إله إلا الله!!- وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد : هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جواري، فقال: لا، وترك جوراه. وممن كان يعذب أيضاً من الصحابة، الزبير بن العوام كان يعذبه عمه، ويعلقه في حصير ويشعل عليه النار، ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا والله لا أرجع.
أعلى الصفحة
آل ياسر وما نالهم من البلاء ...(4/193)
أما من ناله العذاب بشكل أكبر فهم الموالي، أي الأرقاء، الذين كانوا عبيداً مسترقين ثم أسلموا، فهؤلاء تحملوا نصيباً كبيراً من الأذى والتعذيب. وأول أسرة تعرضت للعذاب وكلها أسرة موالي، كلها أرقاء، أسرة آل ياسر، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانت هذه الأسرة يضرب بها المثل فيما لاقاه المستضعفون من الابتلاء في أول تاريخ الإسلام، وقد كان بنو مخزوم وهم أسياد آل ياسر يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة ، ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون، فنظر إليهم، وقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وكانت أول شهيدة في الإسلام هي سمية بنت خياط أم عمار وزوجة ياسر ، طعنها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، مر عليها وهي مقيدة بيديها وأرجلها في الرمضاء وهي تقول: أحد أحد، فطعنها بالرمح في قبلها وماتت، وكانت أول من أريق دمه وأول شهيدة نالت شرف الشهادة في سبيل الله في الإسلام، وأيضاً مات زوجها ياسر ، مات شهيداً من شدة العذاب، ورمي ابنه عبد الله بسهم فمات، وتفننوا في إيذاء عمار بن ياسر ولد سمية ، حتى أجبروه في يوم من الأيام على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وقد ذكر جمهور المفسرين، أن سبب نزول قول الله عز وجل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:106] أنها نزلت في عمار؛ لأنهم عذبوه حتى انتهى صبره، ثم قالوا له: والله لا نتركك من هذا العذاب حتى تسب محمداً، وتكفر بمحمد، فقال كلمة الكفر مضطراً، ثم لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه وقال: (يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك وسببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد) ونزل قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].أما من ناله العذاب بشكل أكبر فهم الموالي، أي الأرقاء، الذين كانوا عبيداً مسترقين ثم أسلموا، فهؤلاء تحملوا نصيباً كبيراً من الأذى والتعذيب. وأول أسرة تعرضت للعذاب وكلها أسرة موالي، كلها أرقاء، أسرة آل ياسر، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانت هذه الأسرة يضرب بها المثل فيما لاقاه المستضعفون من الابتلاء في أول تاريخ الإسلام، وقد كان بنو مخزوم وهم أسياد آل ياسر يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة ، ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون، فنظر إليهم، وقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وكانت أول شهيدة في الإسلام هي سمية بنت خياط أم عمار وزوجة ياسر ، طعنها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، مر عليها وهي مقيدة بيديها وأرجلها في الرمضاء وهي تقول: أحد أحد، فطعنها بالرمح في قبلها وماتت، وكانت أول من أريق دمه وأول شهيدة نالت شرف الشهادة في سبيل الله في الإسلام، وأيضاً مات زوجها ياسر ، مات شهيداً من شدة العذاب، ورمي ابنه عبد الله بسهم فمات، وتفننوا في إيذاء عمار بن ياسر ولد سمية ، حتى أجبروه في يوم من الأيام على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وقد ذكر جمهور المفسرين، أن سبب نزول قول الله عز وجل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:106] أنها نزلت في عمار؛ لأنهم عذبوه حتى انتهى صبره، ثم قالوا له: والله لا نتركك من هذا العذاب حتى تسب محمداً، وتكفر بمحمد، فقال كلمة الكفر مضطراً، ثم لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه وقال: (يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك وسببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد) ونزل قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].
بلال بن رباح وصبره على الأذى في سبيل الله ...(4/194)
وممن أوذي أيضاً وناله قسط كبير من الأذى والابتلاء في سبيل الله بلال بن رباح الحبشي ، وأمه اسمها حمامة رضي الله عن الجميع، كان طاهر القلب، صادق اللسان، قوي الإيمان، عميق الإسلام، وكان سيده أمية بن خلف ، يخرجه إذا حميت الظهيرة -وكانت مكة من أشد البلاد حرارة، حتى يتحاشا الناس المشي فيها حفاة؛ لأنها تحرق أرجلهم- ثم يجرده من ثيابه، ثم يضعه على البطحاء التي هي مثل النار، ثم يؤتى بصخرة عظيمة قد حميت مثل حمى الأرض فيضعها على صدره، ثم يقال له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان وهو في هذا البلاء العظيم يردد: أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد، لا يهمه أن يناله ما ناله في سبيل الله، ولذلك بلغ رضي الله عنه وأرضاه منزلة عظيمة من الإسلام، كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب يقول: [أبو بكر سيدنا، وأعتق بلالاً سيدنا]. عمر المخزومي يجعل بلالاً سيداً، رغم أنه في ميزان الناس عبد، لكنه في ميزان الإسلام والإيمان والدين سيد، بلغ درجة جعلت عمر المخزومي يجعله سيداً من سادات المسلمين رضي الله عنه وأرضاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (إيه بلال ، ما الذي تصنع؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة قال: لا شيء يا رسول الله، غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين.) لأن الوضوء سلاح المؤمن، وأنت مخلوق للعبادة، وما دام أنك مخلوق للعبادة، فيجب أن تكون مستعداً باستمرار للعبادة، وتكون مستعداً باستمرار للعبادة بالوضوء، بحيث إذا أردت تصلي إذا بك متوضئاً، وإذا دخلت فريضة إذا بك متوضئاً، المهم أنك دائماً على طهارة، وبعد ذلك إذا توضأت وصليت ركعتين، صار نور على نور، فالصلاة نور والوضوء نور، ولهذا كان هذا العمل العظيم الذي يفعله هذا الرجل العظيم، وأقره النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فيعتبر من سننه صلى الله عليه وسلم بالإقرار. يقول بلال أعطشوني يوماً و ليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار. وعندما رآه أبو بكر في هذه الحالة، ساوم سيده على شرائه، فاشتراه وأعتقه رضي الله عنه وأرضاه. وممن أوذي أيضاً وناله قسط كبير من الأذى والابتلاء في سبيل الله بلال بن رباح الحبشي ، وأمه اسمها حمامة رضي الله عن الجميع، كان طاهر القلب، صادق اللسان، قوي الإيمان، عميق الإسلام، وكان سيده أمية بن خلف ، يخرجه إذا حميت الظهيرة -وكانت مكة من أشد البلاد حرارة، حتى يتحاشا الناس المشي فيها حفاة؛ لأنها تحرق أرجلهم- ثم يجرده من ثيابه، ثم يضعه على البطحاء التي هي مثل النار، ثم يؤتى بصخرة عظيمة قد حميت مثل حمى الأرض فيضعها على صدره، ثم يقال له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان وهو في هذا البلاء العظيم يردد: أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد، لا يهمه أن يناله ما ناله في سبيل الله، ولذلك بلغ رضي الله عنه وأرضاه منزلة عظيمة من الإسلام، كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب يقول: [أبو بكر سيدنا، وأعتق بلالاً سيدنا]. عمر المخزومي يجعل بلالاً سيداً، رغم أنه في ميزان الناس عبد، لكنه في ميزان الإسلام والإيمان والدين سيد، بلغ درجة جعلت عمر المخزومي يجعله سيداً من سادات المسلمين رضي الله عنه وأرضاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (إيه بلال ، ما الذي تصنع؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة قال: لا شيء يا رسول الله، غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين.) لأن الوضوء سلاح المؤمن، وأنت مخلوق للعبادة، وما دام أنك مخلوق للعبادة، فيجب أن تكون مستعداً باستمرار للعبادة، وتكون مستعداً باستمرار للعبادة بالوضوء، بحيث إذا أردت تصلي إذا بك متوضئاً، وإذا دخلت فريضة إذا بك متوضئاً، المهم أنك دائماً على طهارة، وبعد ذلك إذا توضأت وصليت ركعتين، صار نور على نور، فالصلاة نور والوضوء نور، ولهذا كان هذا العمل العظيم الذي يفعله هذا الرجل العظيم، وأقره النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فيعتبر من سننه صلى الله عليه وسلم بالإقرار. يقول بلال أعطشوني يوماً و ليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار. وعندما رآه أبو بكر في هذه الحالة، ساوم سيده على شرائه، فاشتراه وأعتقه رضي الله عنه وأرضاه.
خباب بن الأرت وصبره على الابتلاء ...(4/195)
وممن عذب من الموالي خباب بن الأرت ، وهو من خزاعة سبي في أيام الجاهلية، وبيع بيع الرقيق في مكة ، وكان مولى لامرأة يقال لها: أم أنمار الخزاعية ، ثم حالف بني زهرة وكان يعمل حداداً يصنع الأسنة والسيوف، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعندما أظهر إسلامه، لاقى صنوفاً شتى من العذاب في المال والنفس، ومما روي في ذلك أنهم كانوا يأخذون بشعر رأسه فيسحبونه بشعر رأسه ويلوون عنقه بعنف، وأضجعوه مرات عديدة على صخور ملتهبة، وأوقدوا ناراً ووضعوه عليها فما أطفأها إلا شحم ظهره، حتى بردت النار، كما ذكر خباب ذلك عن نفسه وقد كشف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وكانوا يضجعونه على الرضف وهي الحجارة المحماة، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا من الردة، بل كان ثابتاً ثبوت الجبال على عقيدته، وله قصة مشهورة مع العاص بن وائل ، وهو من صناديد قريش والقصة مذكورة في البخاري ومسلم والذي يرويها هو نفسه، خباب بن الأرت ، يقول: كنت قيناً -أي حداداً- في مكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيتك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: أجل إذا أماتني الله ثم بعثني، فسوف أقضيك، من باب التهكم والاستهزاء، فأنزل الله عز وجل فيه قوله سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم:77-78]. وممن عذب من الموالي خباب بن الأرت ، وهو من خزاعة سبي في أيام الجاهلية، وبيع بيع الرقيق في مكة ، وكان مولى لامرأة يقال لها: أم أنمار الخزاعية ، ثم حالف بني زهرة وكان يعمل حداداً يصنع الأسنة والسيوف، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعندما أظهر إسلامه، لاقى صنوفاً شتى من العذاب في المال والنفس، ومما روي في ذلك أنهم كانوا يأخذون بشعر رأسه فيسحبونه بشعر رأسه ويلوون عنقه بعنف، وأضجعوه مرات عديدة على صخور ملتهبة، وأوقدوا ناراً ووضعوه عليها فما أطفأها إلا شحم ظهره، حتى بردت النار، كما ذكر خباب ذلك عن نفسه وقد كشف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وكانوا يضجعونه على الرضف وهي الحجارة المحماة، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا من الردة، بل كان ثابتاً ثبوت الجبال على عقيدته، وله قصة مشهورة مع العاص بن وائل ، وهو من صناديد قريش والقصة مذكورة في البخاري ومسلم والذي يرويها هو نفسه، خباب بن الأرت ، يقول: كنت قيناً -أي حداداً- في مكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيتك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: أجل إذا أماتني الله ثم بعثني، فسوف أقضيك، من باب التهكم والاستهزاء، فأنزل الله عز وجل فيه قوله سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم:77-78].
عبر وفوائد من الابتلاء ...
وعندما اشتد البلاء بخباب وببعض الصحابة، اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم صبروا حتى زاد ذلك على طاقتهم كبشر، فأتوا إلى النبي والحديث في البخاري ، أتوا إليه وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وهو مستضعف صلى الله عليه وسلم وهم مستضعفون، فقالوا له: ألا تستنصر لنا يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا، قال: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه إلى نصفه، أي يغرسون إلى نصفه، ثم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه بين عينه فيشق اثنتين، ينشرونه من مفرق رأسه إلى آخره، حتى يصير قسمين، ما يصده ذلك عن دينه، هذا فيمن كان قبلنا، أي: وأنتم الآن جاءكم شيء بسيط بالنسبة لما جاء الأولين، فنحن جاءنا -أيها الإخوة-: نحن الآن ما نصبر على صلاة الفجر، فلا نقوم نصلي الفجر، وبعضنا لا يصبر على سماع أغنية، يقول: لا أستطيع وإذا سمعت الأغاني انغلق قلبي، نقول له: أفتريد الجنة مع هؤلاء؟ وبعضهم ما يصبر على سيجارة يقول: أريد أن أتركها لكن ما قدرت، لا إله إلا الله! وبعضهم لا يستطيع أن يغض بصره عن الحرام، هذا ابتلاء، فكيف لو أن أحداً ضربك على الدين، وقال لك: لو صليت ضربناك عشرة أسواط، الآن ترك الصلاة بدون سوط.. بدون تعب.. بدون شيء.. ما ينتظرون أحداً يضربهم على الصلاة، هؤلاء الذين كان الرجل يؤخذ ويوضع في حفرة إلى نصفه ثم يؤتى بالمنشار ويوضع على مفرقه ثم ينشر، تصور أنك أنت في هذا الوضع؟ وضعت في الحفرة وأتوا بالمنشار وبدءوا في النشر برأسك، كيف يكون وضعك في تلك اللحظات؟ تكفر أم لا تكفر عندما ترى المنشار أمامك، تقول: ماذا تريدون؟ سوف أكفر سبعين مرة، لكن ذلك لا يكفر وهم يشقون رأسه وينشرونه وينزلونه على مخه ثم على عيونه، ثم أنفه ثم رقبته، ما قد مات إلى الآن، ثم بعد ذلك إلى أن يكون نصفين وهو ينشر ولا يصده ذلك عن دين الله، لا إله إلا الله!
عظم مكانة المبتلين في الدين ...(4/196)
كذلك بقية الموالي مثل حمامة والدة بلال وعامر بن فهيرة، وأم عبيس ، وامرأة اسمها زنيرة، وأخرى اسمها النهدية ، وجارية بني عدي، التي كان يعذبها عمر قبل أن يسلم، وقد أعتق هؤلاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر بالأمة كلها، إلى يوم القيامة، وما طلعت الشمس على أفضل بعد النبيين من أبي بكر) وانظروا إلى أعماله، فمن ضمن من دخل على يديه في الإسلام سبعة من العشرة المبشرين بالجنة، كلما سمع أن أحداً من المسلمين يعذب اشتراه، وأعتقه لوجه الله. ولما رآه أبوه وهو أبو قحافة يشتري هذه الرقاب العظيمة، وهذه الأنفس الأبية التي تعذب في الله، ويعتقها، قال: يا بني! إني أراك تعتق رقاباً ضعيفة، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً يمنعونك ويقومون دونك، فقال له أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد بذلك وجه الله عز وجل، فأنزل الله فيه قوله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] إلى أن قال عز وجل: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21] هذه نزلت في أبي بكر وعده الله أنه سوف يرضى يوم القيامة. ولما أسلمت زنيرة وأعتقها أبو بكر، أصيبت بمرض في عينها فعميت، فقال كفار قريش: والله ما أعماها إلا اللات والعزى، فبلغ الخبر أبا بكر الذي أعتقها، فقال: كذبوا والله، والله لا تضرها اللات والعزى ولا تنفعها، اللهم رد بصرها فرد الله بصرها وأخزى هؤلاء الكفرة، قال تعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:72-74] فكانوا يعبدون الأصنام التي لا تضر ولا تنفع؛ لأن من مقتضيات الإله الذي يعبد أنه قادر على الضر والنفع، أما إله لا يضرك ولا ينفعك، بل بعضهم يبول عليه، وبعضهم يأكله، فكيف تعبده؟! كذلك بقية الموالي مثل حمامة والدة بلال وعامر بن فهيرة، وأم عبيس ، وامرأة اسمها زنيرة، وأخرى اسمها النهدية ، وجارية بني عدي، التي كان يعذبها عمر قبل أن يسلم، وقد أعتق هؤلاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر بالأمة كلها، إلى يوم القيامة، وما طلعت الشمس على أفضل بعد النبيين من أبي بكر) وانظروا إلى أعماله، فمن ضمن من دخل على يديه في الإسلام سبعة من العشرة المبشرين بالجنة، كلما سمع أن أحداً من المسلمين يعذب اشتراه، وأعتقه لوجه الله. ولما رآه أبوه وهو أبو قحافة يشتري هذه الرقاب العظيمة، وهذه الأنفس الأبية التي تعذب في الله، ويعتقها، قال: يا بني! إني أراك تعتق رقاباً ضعيفة، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً يمنعونك ويقومون دونك، فقال له أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد بذلك وجه الله عز وجل، فأنزل الله فيه قوله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] إلى أن قال عز وجل: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21] هذه نزلت في أبي بكر وعده الله أنه سوف يرضى يوم القيامة. ولما أسلمت زنيرة وأعتقها أبو بكر، أصيبت بمرض في عينها فعميت، فقال كفار قريش: والله ما أعماها إلا اللات والعزى، فبلغ الخبر أبا بكر الذي أعتقها، فقال: كذبوا والله، والله لا تضرها اللات والعزى ولا تنفعها، اللهم رد بصرها فرد الله بصرها وأخزى هؤلاء الكفرة، قال تعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:72-74] فكانوا يعبدون الأصنام التي لا تضر ولا تنفع؛ لأن من مقتضيات الإله الذي يعبد أنه قادر على الضر والنفع، أما إله لا يضرك ولا ينفعك، بل بعضهم يبول عليه، وبعضهم يأكله، فكيف تعبده؟!
تأخر النصر يبين الصدق والنفاق ...(4/197)
ربما يتساءل بعض الناس ويقول: لماذا هذا العذاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللصحابة أليسوا على الحق؟ لماذا لم ينصرهم الله ابتداء؟ ولماذا لم يعصمهم الله من إيذاء الكفار والمشركين؟ والجواب على هذا التساؤل هو: أن للإنسان في الدنيا أول صفة أنه مبتلى، وأنه مكلف بإعلاء الدين وإظهار كلمة الإسلام، العبودية لله سبحانه وتعالى، فالله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:2] أي: يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] وقال: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]. فمستلزمات العبودية والابتلاء والتكليف تحمل المشاق، ومجاهدة النفس والأهواء، والصمود في وجه الابتلاءات والفتن، والفتنة والابتلاء هي المحك وهي الميزان الذي يميز به بين الصادق والكاذب، قال الله تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10]. وجد أناس قالوا: آمنا؛ لكن لما جاء المحك، لما جاء الابتلاء لم يثبتوا تأتي صلاة الفجر فلا يصلون، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، جاء الجهاد فتخلفوا، جاء الإنفاق فكانوا يلمزون في الصدقات، لما طلبوا للجهاد قال أحدهم: لا تفتني أنا إذا جئت ورأيت النساء لا أستطيع أن أقاتل، قال الله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] طلب منهم الإنفاق قالوا: هذه أخت الجزية. أيها الإخوة: البلاء سنة إلهية، وسنة كونية ربانية، فإنه لا بد من البلاء للإنسان، حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، لكن كما ذكرت لكم -أيها الإخوة- وهو أن المسلم عليه أن يسأل الله العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس حين سأله وقال: (أدع الله لي يا رسول الله، قال: سل الله العافية، قال: زدني، قال: سل الله العافية، ثم قال: يا عباس ! يا عم رسول الله ما أوتي عبد في الدنيا ولا في الآخرة أحسن من العافية) فنحن نسأل الله السلامة والعافية، ولكن إذا نزل البلاء فلنصبر ولنحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى. وفيما نحن فيه من الابتلاء ما يكفينا ويغنينا عن ابتلاء آخر في جسدك أو في مالك أو في نفسك، عليك أن تثبت وأن تستعين بالله سبحانه وتعالى وأن تقوم بالتكاليف فإن فيها غنية. فالتكليف بالصلوات الخمس نوع من الابتلاء فإن أوقات الصلوات تتعارض مع راحة البال، فالموظف يجئ من الدوام الساعة الثانية والنصف ويتغدى وبعد قليل يؤذن العصر، فإما أن يذهب يصلي، وإما أن ينام، إن كان عنده إيمان ذهب وصلى، وإن كان إيمانه ضعيفاً أو عنده نفاق فإنه ينام عن صلاة العصر، وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) وحبط أي: فسد، والحبط هو داء يصيب المواشي إذا أكلت شيئاً من أنواع النبات، فتنتفخ بطونها حتى تحبط وتموت، كذلك العمل يحبط، أي: يفسد إذا ضيعت صلاة العصر. وفي مسلم : (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) أي: كأنه خسر ماله كله وأهله كلهم، والله يقول: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] والصلاة الوسطى قال بعض العلماء: إنها صلاة العصر، الله أفردها بالذكر لأهميتها، نضرب مثالاً على ذلك لو أنك موظف، ويأتيك المدير بمجموعة من المعاملات، ويقول لك: اعمل الإجراءات على المعاملات هذه وخصوصاً هذه، ويخرج لك إحدى المعاملات ويقول أكمل الإجراءات على كل المعاملات، وبالذات هذه فانتبه، فماذا تعمل؟ وبأي معاملة سوف تبدأ؟ تبدأ بهذه التي نبهك عليها، لكن لو أتممت كل المعاملات إلا التي نبهك عليها، وأتيت اليوم التالي وأعطيته المعاملات فقال: أين التي قلت لك عليها؟ فتقول: والله ما عملتها، يغضب أم يرضى عليك؟ يغضب، يقول: على شأن يأكد لك من أجل أن تسويها تقوم تضيعها، ولله المثل الأعلى، الله يقول: حافظوا على الصلوات كلها، لكن قال: والصلاة الوسطى، فضيعنا الصلاة الوسطى -يا إخواني- الآن أقل معدل في الصلوات صلاة الفجر والعصر، العصر دائماً الناس يأتون من الدوام وحين يتغدى ينام، ويسمع الأذان فيقول: أتسطح، فيتسطح ثم يتبطح ثم يركبه الشيطان والعياذ بالله، ولا يقوم إلا الساعة الرابعة أو الخامسة. من حين تسمع الأذان مباشرة قم إلى المسجد، واحذر من هذه النومة التي قبل صلاة العصر، ما في إمكانية، خصوصاً هذه الأيام أيام الشتاء؛ لأن الليل طويل والنهار قصير، فما تنام إلا إذا كان لا بد من النوم فلا مانع بعد العصر، أما أن تنام قبل العصر، فلا. حتى لا تضيع وقت صلاة العصر، هذه فيها بلاء، ود الناس لو أن المسألة بالمزاج، كأن صلاة العصر الساعة الثانية والربع، حدد الدوام؛ لأنه قد صلى(4/198)
الظهر في الساعة الثانية عشرة ومن الساعة اثنتين وربع يصلي إلى اثنتين ونصف ويتغدى وينام إلى المغرب، لكن الله هو الذي يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103] أي: مفروضاً معلوماً في جميع الأوقات، فالذي حددها هو الله، يقول الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] أي: الظهر والعصر: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] أي: المغرب والعشاء ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78] أي صلاة الفجر. فالصلاة فيها تكليف، والزكاة فيها تكليف؛ لأن المال محبوب إلى النفس، وإذا جئت لتخرج الزكاة فأنت تبرهن في إخراجك على أن حبك لله أكثر من حبك لهذا المال، والصيام فيه تكليف، تدع شهوتك وطعامك وشرابك وزوجتك من أجل الله، فهذا نوع من التكليف، والحج تكليف، كل التكاليف الشرعية فيها مشقة، وهي نوع من الابتلاء، وكذلك الشهوات المحرمة، فميل النفس إلى الزنا، وميلها إلى لخمور، وميلها إلى ممارسة الربا، وميلها إلى شرب المحرمات، وكل هذا في النفس البشرية، وهو ابتلاء، ولكن المؤمن عنده إيمان قوي يحجزه ولو قطعوه قطعة قطعة؛ لأنه يخاف الله، بل لو دعي إلى الجريمة يقول: إني أخاف الله رب العالمين. هذه أيها الإخوة: إشارة إلى الابتلاء وهذا في حياة المؤمنين، ونترك ما بقي من الوقت للإجابة على بعض الأسئلة التي وردت منكم؛ لأني كنت قد وعدتكم في تخصيص بعض الحلقات للأسئلة لكن من الصعب أن نخصص حلقة كاملة، وسوف نختصر الدرس ونعطيكم وقتاً كافياً للأسئلة. ربما يتساءل بعض الناس ويقول: لماذا هذا العذاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللصحابة أليسوا على الحق؟ لماذا لم ينصرهم الله ابتداء؟ ولماذا لم يعصمهم الله من إيذاء الكفار والمشركين؟ والجواب على هذا التساؤل هو: أن للإنسان في الدنيا أول صفة أنه مبتلى، وأنه مكلف بإعلاء الدين وإظهار كلمة الإسلام، العبودية لله سبحانه وتعالى، فالله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:2] أي: يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] وقال: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]. فمستلزمات العبودية والابتلاء والتكليف تحمل المشاق، ومجاهدة النفس والأهواء، والصمود في وجه الابتلاءات والفتن، والفتنة والابتلاء هي المحك وهي الميزان الذي يميز به بين الصادق والكاذب، قال الله تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10]. وجد أناس قالوا: آمنا؛ لكن لما جاء المحك، لما جاء الابتلاء لم يثبتوا تأتي صلاة الفجر فلا يصلون، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، جاء الجهاد فتخلفوا، جاء الإنفاق فكانوا يلمزون في الصدقات، لما طلبوا للجهاد قال أحدهم: لا تفتني أنا إذا جئت ورأيت النساء لا أستطيع أن أقاتل، قال الله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] طلب منهم الإنفاق قالوا: هذه أخت الجزية. أيها الإخوة: البلاء سنة إلهية، وسنة كونية ربانية، فإنه لا بد من البلاء للإنسان، حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، لكن كما ذكرت لكم -أيها الإخوة- وهو أن المسلم عليه أن يسأل الله العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس حين سأله وقال: (أدع الله لي يا رسول الله، قال: سل الله العافية، قال: زدني، قال: سل الله العافية، ثم قال: يا عباس ! يا عم رسول الله ما أوتي عبد في الدنيا ولا في الآخرة أحسن من العافية) فنحن نسأل الله السلامة والعافية، ولكن إذا نزل البلاء فلنصبر ولنحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى. وفيما نحن فيه من الابتلاء ما يكفينا ويغنينا عن ابتلاء آخر في جسدك أو في مالك أو في نفسك، عليك أن تثبت وأن تستعين بالله سبحانه وتعالى وأن تقوم بالتكاليف فإن فيها غنية. فالتكليف بالصلوات الخمس نوع من الابتلاء فإن أوقات الصلوات تتعارض مع راحة البال، فالموظف يجئ من الدوام الساعة الثانية والنصف ويتغدى وبعد قليل يؤذن العصر، فإما أن يذهب يصلي، وإما أن ينام، إن كان عنده إيمان ذهب وصلى، وإن كان إيمانه ضعيفاً أو عنده نفاق فإنه ينام عن صلاة العصر، وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) وحبط أي: فسد، والحبط هو داء يصيب المواشي إذا أكلت شيئاً من أنواع النبات، فتنتفخ بطونها حتى تحبط وتموت، كذلك العمل يحبط، أي: يفسد إذا ضيعت صلاة العصر. وفي مسلم : (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) أي: كأنه خسر ماله كله وأهله كلهم، والله يقول: حَافِظُوا عَلَى(4/199)
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] والصلاة الوسطى قال بعض العلماء: إنها صلاة العصر، الله أفردها بالذكر لأهميتها، نضرب مثالاً على ذلك لو أنك موظف، ويأتيك المدير بمجموعة من المعاملات، ويقول لك: اعمل الإجراءات على المعاملات هذه وخصوصاً هذه، ويخرج لك إحدى المعاملات ويقول أكمل الإجراءات على كل المعاملات، وبالذات هذه فانتبه، فماذا تعمل؟ وبأي معاملة سوف تبدأ؟ تبدأ بهذه التي نبهك عليها، لكن لو أتممت كل المعاملات إلا التي نبهك عليها، وأتيت اليوم التالي وأعطيته المعاملات فقال: أين التي قلت لك عليها؟ فتقول: والله ما عملتها، يغضب أم يرضى عليك؟ يغضب، يقول: على شأن يأكد لك من أجل أن تسويها تقوم تضيعها، ولله المثل الأعلى، الله يقول: حافظوا على الصلوات كلها، لكن قال: والصلاة الوسطى، فضيعنا الصلاة الوسطى -يا إخواني- الآن أقل معدل في الصلوات صلاة الفجر والعصر، العصر دائماً الناس يأتون من الدوام وحين يتغدى ينام، ويسمع الأذان فيقول: أتسطح، فيتسطح ثم يتبطح ثم يركبه الشيطان والعياذ بالله، ولا يقوم إلا الساعة الرابعة أو الخامسة. من حين تسمع الأذان مباشرة قم إلى المسجد، واحذر من هذه النومة التي قبل صلاة العصر، ما في إمكانية، خصوصاً هذه الأيام أيام الشتاء؛ لأن الليل طويل والنهار قصير، فما تنام إلا إذا كان لا بد من النوم فلا مانع بعد العصر، أما أن تنام قبل العصر، فلا. حتى لا تضيع وقت صلاة العصر، هذه فيها بلاء، ود الناس لو أن المسألة بالمزاج، كأن صلاة العصر الساعة الثانية والربع، حدد الدوام؛ لأنه قد صلى الظهر في الساعة الثانية عشرة ومن الساعة اثنتين وربع يصلي إلى اثنتين ونصف ويتغدى وينام إلى المغرب، لكن الله هو الذي يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103] أي: مفروضاً معلوماً في جميع الأوقات، فالذي حددها هو الله، يقول الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] أي: الظهر والعصر: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] أي: المغرب والعشاء ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78] أي صلاة الفجر. فالصلاة فيها تكليف، والزكاة فيها تكليف؛ لأن المال محبوب إلى النفس، وإذا جئت لتخرج الزكاة فأنت تبرهن في إخراجك على أن حبك لله أكثر من حبك لهذا المال، والصيام فيه تكليف، تدع شهوتك وطعامك وشرابك وزوجتك من أجل الله، فهذا نوع من التكليف، والحج تكليف، كل التكاليف الشرعية فيها مشقة، وهي نوع من الابتلاء، وكذلك الشهوات المحرمة، فميل النفس إلى الزنا، وميلها إلى لخمور، وميلها إلى ممارسة الربا، وميلها إلى شرب المحرمات، وكل هذا في النفس البشرية، وهو ابتلاء، ولكن المؤمن عنده إيمان قوي يحجزه ولو قطعوه قطعة قطعة؛ لأنه يخاف الله، بل لو دعي إلى الجريمة يقول: إني أخاف الله رب العالمين. هذه أيها الإخوة: إشارة إلى الابتلاء وهذا في حياة المؤمنين،
==========
الابتلاء سنّة الله في خلقه
( محاضرة ملقاة في مسجد دَبلِن بإيرلندا يوم السبت الواقع في غرّةِ ذي القعدة عام 1423 هـ الموافق للرابع من يناير ـ كانون الثاني ـ 2003 م )
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا - وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب : 70 - 71 ] .
أمّا بعد فأيها الحضور الكريم !
أحمد الله تعالى الذي جمعنا معاً في هذا المجلس الطيب ، و أسأله تعالى أن يجعله مجلساً مباركاً ، لا تِرَةَ فيه و لا ندامة ، تتنزل على أهله السكينة ، و تحفهم الملائكة ، و تغشاهم الرحمة ، و يذكرهم الله تعالى فيمن عنده ، كما ثبت الوعد بذلك لقوم يجتمعون في بيت من بيوت الله ، يقرؤون كتاب الله ، و يتدارسونه فيما بينهم ، فيما رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة .
إخوتي و أحبّتي في الله !
{ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيْدُ - إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } .(4/200)
فعليكم بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم وبال عصيانه و مخالفة أمره ، و أُذَكِّرُكُم و نفسي بأنّ حياتنا قائمةٌ على الابتلاء ، حيث قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ الإنسان : 2 ] ، و قال سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] ، أي : في مكابدة و معاناة منذ مولده في دارٍ كلّها بلاء و عناء و كدر ، أحسن في وصفها الإمام علي رضي الله عنه لمن سأه عنها : دار أولها بكاء و أوسطها عناء و آخرها فناء .
و وَصَفَها أبو الحسن التهامي فأجاد في قوله :
جُبلت على كَدَرٍ و أنت تريدها ***صفواً من الآلام و الأكدارِ
و مُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِها *** مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
هذه هي الدنيا الدنيّة ، لم يسلَم منها أحد ، و مع ذلك فلم يكف عن السعي في الاستزادة منها أحد ، و أسعد الناس فيها من قَنِع منها ببُلغة تبلغه غايته ، و لُقمةٍ يسد بها جوعته ، و ليبذل وسعه بعد ذلك في مقارعة البلاء و اللأواء ، في دار الابتلاءِ ؛ سنةِ اللهِ في خلقِه ، و قدره المحتوم الذي لا يتخلّف في عباده .
و حديثنا اليوم عن الابتلاء له من المبررات الشيئ الكثير ، فهو ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ، و هو موضوع تمس إليه الحاجة في زمن غربة الدين التي تكاد تطبق على حياة المسلم من كل جهة و جانب ، الغربةِ التي لا يكاد يشعر بها من لم يستشعر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه دينه و أمته ، و لا من لم يتذوق حلاوة الإيمان في حياته الدنيا .
و للمسلم حلاوتان يذوقهما في حياته معاً ؛ حلاوة الإيمان المترتبة على حبه لله و لرسوله ، و حبه العباد في الله دون سواه ، و كراهيته الكفر بعد الإيمان كما يكره أن يُلقى في النار ، فمن ذاق حلاوة الإيمان المترتبة على هذه الخصال ، كان أهلاً لنيل حلاوة التضحية في سبيل الله ، و بذل الغالي و النفيس من النقير إلى القِطمير في سبيل ، فلا يلوي ذراعه بلاء ، و لا تلين له قناة أمام الشدائد و العناء .
أما من أعرض عن ذكر ربِّه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ طه : 124 ] .
نعم أيها الأحباب الكرام ..
مَن جانَبَ الهدى ، فمصيره إلى الردى ، و حياته ضنكٌ تعُجُّ بالبلاء ، و تصير به و بغيره إلى هلاكٍ و فناء .
و لكي نعطي موضوع حديثنا اليوم بعض حقه - و ليس بمقدورنا إيفاءه الحق كلّه في هذه العُجالة - نركز فيما يسعفنا به الوقت على المحاور التالية :
المحور الأول : تحرير معنى البلاء و الابتلاء في اللغة و الاصطلاح :
للبلاء في اللغة معان أشهرها ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله [ عند تفسير الآية الثانية بعد المائة من سوره الصافات في الجزء الخامس عشر من تفسيره ] .
أولاً : الإنعام ، و هو بذل النعمة للغير ، كما في قوله تعالى : ( إن هذا لهو البلاء المبين ) أي النعمة الظاهرة ؛ يقال : أبلاه الله إبلاء و بلاء إذا أنعم عليه . و قد يقال بلاه ، كما قال زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي : صَنَع بهما خيرَ الصَّنِيع الذي يَبْلُو به عباده .
ثانياً : الاختبار و الامتحان بالخير أو الشر ، كما في قوله تعالى : ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) [ الأنبياء : 35 ] ، أي اختباراً و امتحاناً ، يُقال : بلاه يبلوه إذا اختبره ، و لا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه .
و البلاء بالمعنى الثاني مرادف للابتلاء ، فهما بمعنىً ، و هو المقصود فيما نحن بصدده .
قال ابن منظور [ في مادة بَلا من المجلد الرابع عشر من لسان العرب ] : ( و ابْتَلاه الله : امْتَحَنَه ، و الاسم البَلْوَى و البِلْوَةُ و البِلْيَةُ و البَلِيَّةُ و البَلاءُ ، و بُلِيَ بالشيء بَلاءً و ابْتُلِيَ ؛ و البَلاءُ يكون في الخير و الشَّر ، و الجمع : البَلايا .
و يقال : أَبْلاه الله يُبْلِيه إبْلاءً حسناً إذا صنع به صُنْعاً جميلاً.
و بَلاه اللهُ بَلاء وابْتَلاه أي: اختَبره .
و التَّبالي : الاختبار .
و البَلاء : الاختبار ... الخ .
و الذي يهمنا في موضوع بحثنا هذا هو المعنى المتبادر من الابتلاء عند ذكر ما يترض له المؤمن في حياته من سراء و ضراء ، و هو الاختبار و التمحيص المقرون - غالباً - بالشدائد و المحن ، و المصائب و الفتن .
المحور الثاني : من حِكَم الابتلاء :
لا شك في مدار الأقدار على حكمة الملك الجبار ، الذي { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] و لا في أنّ الحكمة المقدرة في الخلق و التدبير قد تكون مما استأثر الله تعالى بعِلمه ، و قد تكون مما أخبر به في كتابه أو على لسان نبيّه ، و قد تكون مما وفّق من يشاء من عباده لمعرفته باستنباطه أو الاجتهاد في الوقوف عليه ، بإلهام أو دُربةٍ أو غير ذلك .(4/201)
و من تأمل فيما عاناه ، أو ما وَقَعَت عليه - من معاناة غيره - عيناه من صور الابتلاء ، سيدرك و لا شك بعض الحكم الربانية في ذلك كله ، و من أَجَلّ تلك الحِكَم تمحيص المعبود لعباده { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 173 ] .
فقد يكون الابتلاء لتمحيص الصف المسلم و تنقيته من الدَغَل و الدَخَل و الدُخلاء ، و من صور الابتلاء للتمحيص ما قد تتعرّض إليه الصفوة من أبناء الأمة من الكرب أو الأسر أو النفي أو القتل أو غير ذلك مما هو معروف مشاهد في كل زمان و مكان .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَ الأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] .
و قد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا مما تقترفه أيدي العباد ، و جزاءً لهم بالسيئة على السيئة .
قال تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] و قال سبحانه : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } [ النساء : 160 ] . و قال أيضاً : { وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
كما قد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات ، أو وضعاً للآصار و تكفيراً للخطايا و السيئات .
فمما يكون لرفع درجات العباد ، و يراد لهم الخير به ما رواه البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه ) . أي : يبتليه بالمصائب و المحن ليرفع درجاته و يزيد في حسناتة على ما يكون من صبره و احتسابه .
و مما يكون لتكفير السيئات ما جاء في الحديث المتفق على صحته عند الشيخين أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه ، حتى الشوكة يُشاكها ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( ما من مصيبة ) أي : نازلة ، و أصلها الرمي بالسهم ثم استعيرت لما ذكر ( إلا كفر اللّه بها عنه) ذنوبه أي محي خطيئاته بمقابلتها ( حتى الشوكة ) قال القاضي : حتى إما ابتدائية فالجملة بعدها خبرها أو عاطفة ( يشاكها) أي : حتى الشوكة يشاك المسلم بتلك الشوكة أي يجرح بشوكة ، و الشوكة هنا المرة من شاكه ، و لو أراد واحدة النبات قال يشاك بها ، و الدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمصائب .اهـ.
و مما اتفق عليه الشيخان أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه من ذلك من كفارة خطاياه .
المحور الثالث : الابتلاء سنة عامة تتفاوت مراتب الناس فيه :
ليس الابتلاء قاصراً على أحد ، و لا ينجو منه بر و لا فاجر ، و إن تباينت صوره ، و تفاوتت مراتبه و مراتب الناس فيه تبعاً لذلك .
و ما ادعى أحدٌ إيماناً بالله و رسوله إلا كان نصيب من الابتلاء كما أخبر بذلك رب الأرض و السماء ، فقال تعالى : { أ لم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ - وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1-3 ] .
و لو نجى من هذا الابتلاء أحد لنجى منه الأنبياء و المرسلون ، و من تابعهم من الأولياء و الصالحين .
و لكن ؛ ما من نبي أوتي الكتاب و الحكمة إلا و هو معرض لأصناف البلاء حتى يبلغ رسالة الله إلى الناس ، فالأنبياء أكمل الناس إيماناً و أكثرهم بلاءً ، و ذلك لأن الابتلاء على قدر العطاء ، فقد قال ربنا تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } [ المائدة : 48 ] .
و لو تأملنا ما قصه الله تعالى علينا من معاناة الأنبياء لوجدنا ما يذيب الحديد ، و يشيب الوليد .
ألم تَرَ كيف ابتلى الله أبا البشر آدم عليه السلام بالسراء فكرمه و أسجد له الملائكة ، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عجن إلى دار الهم و الغم و الحزن .
و ابتلى نوحاً عليه السلام في أهله و ولده بكفرهم و صدهم عن سبيل الله و إعراضهم عن دعوته إلى دين الله ، و أي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه ، و هو لا يملك صرف الضر عنه و لا تحويلاً .(4/202)
و ابتلي إبراهيم عليه السلام في أبيه الذي كان يصنع أصناماً تعبد من دون الله ، و ابتلي في جسمه فقذف في النار ، و ابتلي في ولده و فلذة كبده فأمر بذبحه ، و ابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص ، و هو تحميله أمانة الإمامة ، حيث قال تعالى : { وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 142 ] .
و يالها من أمانة ثقيلة و ابتلاء عظيم على من تصدر له فأناط بعنقه مسؤولية أمة أو طائفة من العباد
و ابتُليَ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام بأقوام لا يرعون ذمة و لا حرمة فقتلوا أنبياءهم و حرفوا كتبهم و شرائعهم ، وكان من آخر من قَتَلوا يحيى و زكريا عليهما السلام .
و ابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] ، و أُلقِيَ في غيابة الجب كما تلقى الأحجار ، و بيع في سوق النخاسة كما يباع العبيد ، و شري بثمن بخس دراهم معدودة ، و كان من اشتراه فيه من الزاهدين ، و خدم في البيوت كما يخدم العبيد ، و اتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء ؟ و ألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون ، فلبث فيه بضع سنين
هذه حياة الأنبياء ، و هذه نماذج من ابتلاء الله تعالى لهم ، و من تأمل ما لحقهم من صنوف البلاء لوجد عامته من الابتلاء بالشدائد و المحن ، و لا يخرج عن ذلك إلا صور معدودة جاءت مقرونة بالعز و التمكين كما في قصتي داود و سليمان عليهما و على نبينا الصلاة و السلام .
و من الملاحظ أيضاً ابتلاء الكثيرين منهم في ولده لأن الولد أقرب الناس إلى أبيه ، و مصاب أبيه فيه جلل .
فهذا آدم عليه السلام ؛ يقتل أحد ولديه أخاه في أول جريمة عرفتها البشرية في إراقة الدماء .
و هذا نوح عليه السلام ؛ يحول الموج بينه و بين ولده فيكون الولد من المغرقين على مرأى الأب و مسمعه ، و هو ينهى عن التدخل لإنقاذه و يقال له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] ؛ لكفره و إعراضه عن دين الله .
و هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ولده البار إسماعيل فيسن شفرته و يتُلُّهُ للجبين امتثالاً لأمر رب العالمين ، فيكاد يذبحه لولا ما تداركه ربه به من الفداء بذبح عظيم .
و هذه أم موسى تبتلى في ابنها موسى الكليم عليه السلام فلا تجد بداً من إلقائه في اليم ، و قلبها يتفطر حزناً عليه .
ثم يبتلى موسى الكليم بقتلة الأنبياء من بني إسرائيل من جهة ، و بالفراعنة الأشداء من جهة أخرى ، فيهدد بالقتل ، و يخرج من بلدته خائفاً يترقب ، و الملأ يأتمرون به ليقتلوه ، و تتوالى عليه الأيام ؛ و هي حبلى بالأحداث و صنوف البلاء بعد بعثته ، من ملاحقة فرعون و ملأه لموسى و من معه إلى اليمّ ، إلى ارتداد قومه و اتخاذهم العجل ، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات سيرته التي كادت تذهب بالقرآن لكثرة أحداثها ، من صنف من صنوف الابتلاء .
و تُبتلى الطاهرة البتول مريم العذراء فتضع طفلاً نبياً من غير أب ، و تؤذى بسببه ، فيتسلط عليها اليهود و يتهمونها في عرضها ، و هي الصديقة الطاهرة المطهرة .
و يُبتلي محمد في أبنائه الذكور خاصة فلا يعيش له منهم أحد ، حتى سماه المشركون أبتراً ، و هو صابر محتسب يجود ابنه إبراهيم بنفسه بين يديه الشريفتين ، و هو لا يزيد على أن يقول و عيناه تذرفان الدموع : ( إن العين لتدمع ، و إن القلب ليجزع ، و إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ) و ( لا نقول إلا ما يرضي ربنا )
نعم أيها الأحباب الكرام ... هكذا يبتلي الله أولياءه ، و من أشدهم بلاءً نبيّه المختار ، و صحابته الأخيار رضوان الله عليهم ؛ جرياً على سنّة مضت و تمضي { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] و لا محيص لأحدٍ عن التمحيص ، و لذلك { ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
و عانى الصحابة مع نبيهم أشد أنواع الابتلاء ، فقُتِّلوا ، و شُرِّدوا ، و أخرجوا من ديارهم ، حتى قال رسول الله ( ما أوذي أحد ما أوذيت في الله ) [ رواه أبو نعيم في الحلية و رواه بنحوه الترمذي و حسّنه - و هو كما قال ، و ابن ماجة و أحمد ] .
و اختص الله تعالى المجاهدين و المرابطين في سبيله بأصناف البلاء ، و لم يذكر غيرهم على سبيل التخصيص رغم عموم سنة الابتلاء لعموم البشر .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31] .
و قال سبحانه : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] .(4/203)
و قال و هو أصدق القائلين : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
و ليس هذا خاصاً بهذه الأمة ، و لكنها سنّة مضت و تمضي إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، و لا يعدُ الابتلاء أن يكون { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] ، كما دلّ عليه صدر سورة العنكبوت ، و قد تقدم .
و عن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله و هو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، و يمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه و عَظمِه ، فما يصده ذلك عن دينه .. و الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء حتى حضر موت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ، و لكنكم تستعجلون ) [ رواه البخاري ] .
و هاهنا فائدة يحسن التنبيه إليها ، و هي متعلقة بمسألة الدعاء على الظالم سواء كان وليَ أمرٍ كافراً ، أو عدواً متسلّطاً ، أو غير ذلك ، حيث كثر عند من يجادل عن المنافقين ، و الحكام الظالمين التذرع بأن النبي ترك الدعاء لخباب و من معه رضي الله عنهم ، و لم يزد على أن أوصاهم بالصبر ، و وعدهم بالظفر و التمكين و لو بعد حين .
فيقال لهؤلاء : ليس في هذا الحديث ما يدل على أنّه لم يدع لخباب و من معه ، و لا النهي عن الدعاء لهم ، بل قد يكون مما فعله و لم يُروَ عنه لعدم وجود المناسبة أو المقتضي ، أو ممّا فعله عليه الصلاة و السلام لاحقاً .
و إذا سلّم جدلاً إعراضه عليه الصلاة و السلام عن الدعاء و الاستنصار لأصحابه في الحال المذكورة ، فتوجيهه على ما ذكره الحافظ [ في الفتح : 12 / 391 ، 392 ] حيث أورد قول ابن بطال رحمه الله : ( إنما لم يُجب النبي سؤال خباب و من معه بالدعاء على الكفار مع قوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] و قوله : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [ الأنعام : 43 ] لأنه علم أنه قد سبق القدر بما جرى عليهم من البلوى ليُؤجروا عليها ، كما جرت به عادة الله تعالى في من اتَّبَعَ الأنبياء فصبروا على الشدة في ذات الله ، ثم كانت لهم العافية بالنصر و جزيل الأجر ، فأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة لأنهم لم يطَّلِّعوا على ما اطلع عليه النبي ) .
و مما تقدم في الآي و الأثر يتقرر أن الابتلاء سنة عامّة لا ينجو منه مؤمن قط ، و إن كان ما يصيب العباد من البلاء متفاوتاً بحسب قوة إيمان العبد و ضعفه فـ ( أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة ) [ كما أخرج النسائي ( في الكبرى ) و ابن ماجه و الترمذي و قال : ( هذا حديث حسن صحيح ) و ابن حبان و الحاكم ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، و بوّب عليه البخاري في صحيحه ] .
و قد يكون الابتلاء بالغير ، أو بالشر و الخير .
و من أصعب صور الابتلاء بالغير أن يبتلى المرء في أقرب الناس إليه ؛ و هم أهله و ولده .
قال تعالى : { وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ الفرقان : 20 ] .
و قال تعالى : { وَ اعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 28 ] .
و ما أكثر من نعرف ممن ابتُليَ بولد عاق أو مريض ، أو زوج نشاز أو ناشز تلطخ ما ابيض من صفحات زوجها بسوء أخلاقها أو أفعالها .
كما يكون الابتلاء بالخير تارةً و بالشر تارةً أخرى ، و قد يكون بهما معاً ، قال تعالى : { وَ بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَ السَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } } [ الأعراف : 168 ] .
و قال سبحانه { وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] ، و على المؤمن أن يوطن نفسه على مقابلة الابتلاء في كلتي الحالتين على مرضاة الله التي في تحصيل سعادة الدارين ، و بذلك يحوز خير الخيرَين ، و أفضل الأمرين .
و روى مسلم عن صهيب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، و إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
أما من يُسَرُّ بالسرّاء ، و يستاء بالضراء فيسخط و يضجر و ينقلب على وجهه ، فهو على جرف هار يوشك أن ينهار به في نار جهنم و العياذ بالله .(4/204)
قال تعالى : { و من الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين } [ الحج : 11 ] .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه في ذلك من كفارة خطاياه .اهـ .
و يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء ) [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
فلينظر امرؤٌ أن يضع قدمه ، فإن الأرض مزلة مزلقة ، و الموفق من ثبته الله حتى يلقاه ، و ما من عبدٍ لله طوعاً أو كرهاً إلا و هو معرّضٌ لأن يُبتلى فيما آتاه الله من أوجه النعماء ، قال تعالى : = { ليبلوكم فيما آتاكم } [ المائدة : 48 ] ، فما أوتي أحد نعمة إلا كانت ابتلاء له و اختباراً لشكره أو صبره .
فالغني يبتلى بغناه و الفقير يبتلى بفقره .
و القوي يبتلى بقوته و الضعيف يبتلى بضعفه .
و العالم يبتلى بعلمه و الجاهل يبتلى بجهله .
و هكذا دواليك ...
كلنا مبتلى ، و إلى أقدارنا سائرون { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ آل عمران : 185 ] .
المحور الرابع : عوامل الثبات عند المُلِمَّات :
إن من لطف الله تعالى ؛ و { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [ الشورى : 19 ] أن لا يبتليهم إلا بما يطيقون ، و أن يلطف بهم فيما ابتلاهم به ، فيعينهم و يثبتهم ، على ما يرضيه عنهم و يرتضيه لهم .
و في دينه الذي ارتضاه لعباده من العوامل المساعدة على ثبات العباد على ضراوة الفتن و البلاء الشيء الكثير ، الذي لا يستصحبه عبد في شدّة إلا خفف عنه ، و ربط على قلبه ، و من هذه العوامل :
أوّلاً : التعرف على الله في الرخاء :
من كان مع الله كان الله معه بلا ريب ، كيف و لا جزاء للإحسان إلا بالإحسان ، و من تقرّب إلى الله شبراً تقربّ إليه باعاً ، و من تقربّ إليه باعاً تقرّب إليه ذراعاً ، و من أتى ربّه ماشياً أتاه ربُّه هرولة ، كما ثبت ذلك فيما رواه الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال النبي : ( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، و إن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، و إن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ، و إن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .
قال الإمام الترمذي بعد أن روى هذا الحديث في سننه : و يروى عَن الأَعْمَشِ في تفسيرِ هَذَا الحَدِيثِ ( من تقرَّبَ منِّي شِبراً تقرَّبتُ منهُ ذراعاً ) يعني : بالمغفرةِ و الرَّحمةِ ، و هكذا فسَّرَ بعضُ أهلِ العلمِ هَذَا الحَدِيثَ . قَالُوا : إنَّما معناهُ يقولُ : إذا تقرَّبَ إليَّ العبدُ بطَاعَتي و بما أَمَرْتُ تُسَارِعُ إليهِ مغفرتي و رَحْمَتِي .اهـ .
و روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : كنت رديف النبي فقال : ( يا غلام أو يا غُلَيم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ ) فقلت : بلى ، فقال : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، و إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ؛ فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، و إن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، و اعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، و أن النصر مع الصبر ، و أن الفَرَجَ مع الكرب ، و أن مع العُسر يُسراً ) .
و مما تقدم و نحوه يتبين لنا فضل الإقبال على الله في ساعات الرخاء ، و تتأكد ثمرة ذلك في ساعات الشدائد و البلاء ؛ حيث تتجلى مكافأة بالأولى ، و هو نصرة الله و تسديده و تثبيته لعبده حين يكون أحوج ما يكون إلى رحمة من يقول : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الحجر : 49 ]
ثانياً : الإيمان بالقدر :
لا شيء يبعث على التسليم و الطمأنينة عند نزول القضاء مثل التسليم لله في قضائه و قدره ، و البعد عن التسخط و الضجر .
قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] .
فلا يكمل إيمان عبد و لا يستقيم حتى يؤمن بالقدر خيره و شرّه ، و يعرف أن من صفته تعالى أن يُقَّدر و يلطف ، و يبتلي و يخفف ، و من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } [ يوسف : 100 ] .(4/205)
روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، و ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله يقول : ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب . قال : ربِّ ! و ماذا أكتب ؟ قال : اكتُب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) يا بُنَيَّ ! إني سمعت رسول الله يقول : ( من مات على غير هذا فليس مني ) .
و ثبت في المسند و عند الطبراني ( في الأوسط ) عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي ، قال : ( لكل شيء حقيقة ، و ما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث =[ في فيض القدير ] : ( إن لكل شيء حقيقة ) أي : كنهاً ( و ما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم ) علماً جازماً ( أن ) أي : بأن ( ما أصابه ) من المقادير ، أي : وصل إليه منها ( لم يكن ليُخطئه ) ؛ لأن ما قُدر عليه في الأزل لا بد أن يصيبه ، و لا يصيب غيره منه شيئاً ، ( و ما أخطأه ) منها ( لم يكن ليُصيبه ) ، و إن تعرَّضَ له ؛ لأنه بان أنه ليس مقدراً عليه ، و لا يُصيبه إلا ما قُدِّرَ عليه . و المراد : أن من تَلَبَّسَ بكمال الإيمان ، و وَلَجَ نورُه في قلبه حقيقةً ؛ عَلِمَ أنه قد فُرِغ مما أصابه أو أخطأه من خيرٍ و شرٍّ ، فما أصابَه فإِصابَتُهُ له مُتَحتِّمةٌ ، لا يُتَصوَّر أن يُخطئه ، و ما أخطأَهُ فسلامَتُهُ منه مُتَحتِّمةٌ ؛ لأنَّها سهامٌ صائبةٌ وُجِّهَت في الأَزَل ؛ فلا بد أن تقع مواقعها . اهـ .
ثالثاً : النظر إلى ما حلّ بالعبد على أنّه مصيبة و لكنها أهون من غيرها :
جاء في الحكمة : ( من نظر إلى مصاب غيره هانت عليه مصيبته ) .
و من ثمرات إعمال هذه الحكمة الإقرار بأن مصيبة الدنيا أهون من مصيبة الدين ، و قد علمنا رسول الله أن نقول في دعائنا : ( اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ، و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا ) رواه الترمذي في سننه ( و قال : هذا حديث حسن غريب ) و الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
و تحمُّل البلاء العاجل خوفاً مما يترتب على فتنة الدين من العذاب في الآجل ؛ هو اختيار الأنبياء ، و من اتبعهم بإحسان من الصالحين الأولياء ، فقد حكى الله تعالى عن نبيه يوسف عليه و على نبينا الصلاة و السلام قوله : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] ، فقد آثر السجن على ما فيه من الكرب و الضيق و اللأواء على ما كان ينتظره من نعيم الدنيا في كنف العزيز و فتنة النساء .
و لما كان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، صار اختيارَ من يدرك العواقب ، بما أوتي من بصيرة و نظر ثاقب ، كما أنّ اختيار أهون الشرين ، و أخف الضررين في أمور الدنيا هو مقتضى العقل و التشريع معاً .
و ما فتئ العقلاء يوازنون بين مصاب و مصاب فيجدون العزاء و السلوان في أنّهم كفوا أضعاف ما ألم بهم ، و هذا ما نلمحه من موقف أئمة السلف الصالح رضوان الله عليهم ، و منهم عروة بن الزبير ، و هو أحد أئمة التابعين ، و من جملة الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إليهم في زمن ولايته على المدينة .(4/206)
قال الحافظ ابن كثير [ في البداية و النهاية : 9 / 120 ، 121 ] : قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد ، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة ، و كان مبدؤها هناك ، فظن أنها لا يكون منها ما كان ، فذهب في وجهه ذلك فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه ، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك ، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت رجله كلها إلى وركه ، و ربما ترَقَّت إلى الجسد فأكلته . فطابَتْ نفسُه بنشرها . و قالوا له : ألا نَسقيك مُرَقِّداً حتى يذهب عقلك منه ؛ فلا تُحس بألم النشر ؟ فقال : لا ! و الله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يُذهِب عقله ، و لكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك و أنا في الصلاة ، فإني لا أحس بذلك ، و لا أشعر به . قال : فنشروا رجله من فوق الأكلة ، من المكان الحي ؛ احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء ، و هو قائم يصلي ، فما تضوّرَ و لا اختلَج ، فلما انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رِجله . فقال : اللهم لك الحمد ، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً ، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت ، و إن كنت قد أبليت فلطالما عافيت ، فلك الحمد على ما أخذت و على ما عافيت . قال : و كان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد ، و كان أحبهم إليه ، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات ، فأتوه فعزَّوه فيه ، فقال : الحمد لله كانوا سبعة فأخذتَ منهم واحداً و أبقيت ستةً ، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت ، و لئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت . فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة . قال : فما سمعناه ذكر رجله و لا ولده ، و لا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى ، فلما كان في المكان الذي أصابته الأكلة فيه قال : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } [ الكهف : 62 ] ، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ، و يُعزُّونه في رجله و ولده ، فبلغه أن بعض الناس قال : إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه . فأنشد عروة في ذلك أبياتاً لمعن بن أوس يقول فيها :
لعمرك ما أهويت كفى لريبة *** و لا حملتني نحو فاحشة رجلي
و لا قادني سمعي و لا بصري لها *** و لا دلني رأيي عليها و لا عقلي
و لست بماش ما حييت لمنكر *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
و لا مؤثر نفسي على ذي قرابة *** و أوثر ضيفي ما أقام على أهلي
و أعلم أني لم تصبني مصيبة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
فارض اللهم عن سلف ما انحطت لهم همة عن قمّة ، و اجعلنا من خيرة أتباعهم ، و اجمعنا بهم على ما يرضيك عنا ، بمنك و فضلك و رحمتك يا أرحم الراحمين .
رابعاً : احتساب الأجر عند الله تعالى :
إن الله لا يظلم الناس شيئاً ، و لكن الناس أنفسهم يظلمون ، و من عدل الله تعالى في خلقه أن ينصف المظلوم و يكافئ المحروم .
فما من عبد يصاب فيحتسب إلا استحق البشارة بالأجر الجزيل و الخير العميم و لو بعد حين ، إنجازاً لما وعد الله به عباده في كتابه ، و على لسان نبيّه القائل : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) رواه الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، و قد تقدم شرحه .
كما تقدم معنا أن الابتلاء عام في نزوله على بني البشر ، و هو من سنن الله الكونية التي لا مفر منها ، و لا قبل لأحد نحوها إلا بالرضا و الصبر و التسليم ، الذي أُمرنا به و نُدبنا إليه ، كما في قول ربنا تعالى : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) [ آل عمران : 186 ] .
و إذا كان ( مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها ) ؛ فلن تكون عاقبة الجلد الصبور إلا إلى خير الأمور .
قد روى ابن ماجة و الحاكم و الترمذي ( بإسناد قال عنه : حسن غريب ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( أن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء ، و إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، و من سخط فله السخط ) .
و روى النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم و الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه من خطيئة ) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
و ما أبلغ ما قال الرافعي : ( ما أشبه النكبة بالبيضة ، تُحسب سجناً لما فيها و هي تحوطه ، و تربيه و تعينه على تمامه ، و ليس عليه إلا الصبر إلى مدة ، و الرضا إلى غاية ، ثم تفقس البيضة ، فيخرج خلقاً آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، و ما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته ) .
فطوبى للصابرين ، و العاقبة للمتقين .
المحور الخامس : خاتمة في موقف المسلم من الابتلاء :(4/207)
يختلف المؤمن في موقفه من المقدور عن سائر البريّات ، فهو يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبة ، و هذا ما يحدوه لتسليم أمره ، و زمام قياده إلى ربّه الرؤوف الرحيم ، الذي وعد المؤمنين و المؤمنات بالتثبيت عند الشدائد و الملمّات .
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27 ] .
و المؤمن باحتسابه الأجر فيما يلحقه من لأواء ، موعود بجزيل الأجر ، و عظم الجزاء ، و لذلك يتلقاه بتثبيت الله تعالى له ، راضياً مطمئناً ، و إن لم يكن يتمناه .
يقول مسروق الوادعي رحمه الله ( إن أهل البلاء في الدنيا إذا لبثوا على بلائهم في الآخرة إن أحدهم ليتمنى أن جلده كان قرض بالمقاريض ( [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
و في مقابل المؤمن الثابت كالطود الشامخ أمام نوائب الدهر ، صنف آخر من البشر لا يلوح له البلاء إلا و تنهار قواه ، و يهتز كيانه ، و لا يلبث أن يسقط في ما يعترض سبيله من فتن ، و هذا شأن المنافقين ، و من قالوا آمنّا بألسنتهم و لم يدخل الإيمان في قلوبهم .
فهم كخُشبٍ مسنّدةٍ ، لا حياة فيها و لا إيمان يقويها .
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ *** إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء!
إنما المَيْتُ من يعيش كئيباً *** كاسِفاً بالَهُ قليلَ الرجاء !
وكأن هؤلاء لم يستمعوا إلى قوله تعالى : { وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] .
قال الشيخ العلامة محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله مفسراً هذه الآية الكريمة : ( يعني أن من الناس من يقول : آمنا بلسانه فإذا أوذي في الله أي آذاه الكفار إيذائهم للمسلمين جعل فتنة الناس صارفة له عن الدين إلى الردة ، و العياذ بالله ، كعذاب الله فإنَّه صارف رادع عن الكفر و المعاصي ، و معنى فتنةَ الناس ، الأذى الذي يصيبه من الكفار ، و إيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء الذي هو الفتنة ) [ أضواء البيان : 6/462 ] .
و لعلّ من المناسب في ختام هذا الكلمات التذكير بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء ) [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
alhaisam@msn.com
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb
===========
الفتنة والابتلاء(1)
عبيد بن عبد العزيز السلمي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله إلى الناس كافة ، خير من ابتلي وخير من صبر ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فإن من أراد تحقيق أمور الدين جميعها ، من التوحيد والإيمان والإسلام والإحسان ، لا بد له من الابتلاء والفتنة ، كما قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ .
وجماع معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان والاختبار ، وأصلها مأخوذة من قولك : فتنت الفضة والذهب ، إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد لسان العرب لابن منظور 13 / 317 ، وانظر القاموس المحيط 4 / 254 . .
والفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء ، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا ، وقد قال الله تعالى فيهما : سورة الأنبياء الآية 35 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ .
وللفتنة وجوه منها : الشرك والضلالة والنفاق والبلاء وعذاب الناس والحرق بالنار والصد والاستنزال والمعذرة والافتتان والإعجاب والقتل ، وقد ورد في القرآن دليل لكل وجه المفردات للراغب الأصبهاني : 371 . .
__________
(1) - مجلة البحوث الإسلامية - (ج 38 / ص 188)(4/208)
قال ابن القيم : ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها : الامتحان الذي لم يفتتن صاحبه ، بل خلص من الافتتان . ويراد بها : الامتحان الذي حصل معه افتتان . فمن الأول قوله تعالى لموسى : سورة طه الآية 40 إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى . ومن الثاني : قوله تعالى : سورة البقرة الآية 193 وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ، وقوله تعالى : سورة التوبة الآية 49 وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ . ويطلق على ما يتناول الأمرين كقوله تعالى : سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ سورة العنكبوت الآية 3 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ .
ويطلق على أعم من ذلك كقوله تعالى : سورة التغابن الآية 15 إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، قال مقاتل : أي بلاء وشغل عن الآخرة إغاثة اللهفان 2 / 159 . .
والفتنة بحسب إضافتها ، فيقال : فتنة المال ، وفتنة الأولاد . وقد تطلق على أشياء خاصة كالنفاق والكفر والصد ، حيث إن أصل الفتنة الاعتبار ، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه ، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك فتح الباري : 13 / 3 . .
لذا فهي بحسب ما يضاف إليها ؛ لأن كل شيء فتنة فيقال : فتنة الحياة ، وفتنة الموت ، وفتنة الشرك ، وفتنة الغفلة والابتلاء . والفتنة من أقدار الله عز وجل التي لا بد من الإيمان بها انظر المفردات للراغب : 371 وانظر فتح الباري : 13 / 3 . . وأعظم فتنة هي الكفر كما قال تعالى : سورة البقرة الآية 193 وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس قد ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . فقالا : ألم يقل الله : سورة البقرة الآية 193 وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله .
المبحث الأول : كونها سنة(4/209)
قد أشار الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، إلى أن الابتلاء سنة كونية من سننه في هذا الخلق ، فقال سبحانه : سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ سورة العنكبوت الآية 3 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . فلا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس فلا خلاص لأحد منه . والابتلاء يكون بالسراء والضرار لقوله سبحانه : سورة الأنبياء الآية 35 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ . فلا بد للمؤمن من الصبر والشكر ولا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة الفوائد لابن القيم : 201- 204 . وانظر إغاثة اللهفان : 2 / 193 . . أما الكافر فقد تنقطع عنه الفتنة في الدنيا ولكنه يصير إلى الألم في الآخرة ، كما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري التوحيد (7028),صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2809),سنن الترمذي الأمثال (2866),مسند أحمد بن حنبل (2/523). مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء ومثل الكافر كمثل الأرزة الأرز : ضرب من البر وقيل شجر الصنوبر . اللسان : مادة أرز : 5 / 306 . صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء . والله سبحانه حذر من الدنيا وفتنتها ؛ ليحذرها المؤمن العارف بربه ، قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 64 وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . فالجميع مبتلى فيها ، فمن لم يؤمن فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب ويفتن به ، وهي أعظم المحنتين ، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها ، أو عقوباتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم ، فلا بد من المحنة في هذه الدار ، وفي البرزخ لكل أحد ، لكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية ، فإن الله يدفع عنه بالإيمان إغاثة اللهفان : 2 / 192 . ، وقال تعالى : سورة الحج الآية 38 إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا . ولكن البلاء يشتد عليه بحسب إيمانه ؛ ليعلم صدقه من كذبه ، فإن صبر وأجاب داعي الله فإن له عند الله الفوز والنعيم . وقد سئل الشافعي رحمه الله : أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى فقال : لا يمكن حتى يبتلى فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا - صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين - ، فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة الفوائد : 203 . . وقد أجمل الله عز وجل الابتلاء ، وأنه لا بد منه بقوله سبحانه : سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ سورة العنكبوت الآية 3 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . ثم فصل سبحانه بعض الذين ابتلوا من قبلنا ، وقد ابتلي نبينا - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون من الصحابة ومن كان قبلهم والكفار مما يدل على استمرار الفتنة والابتلاء .(4/210)
فمن سنية الابتلاء أن الله ابتلى أفضل خلقه وهم رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهم أفضل الدعاة إلى توحيده سبحانه ، فابتلاهم بالمرسل إليهم حين يدعونهم إلى الحق والصبر على أذاهم ، وتحمل المشاق في تبليغ رسالات ربهم إغاثة اللهفان 2 / 161 . . فهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - بين الله عز وجل في هذه السورة أنه ابتلي بقوم جحدوا آيات الله مع علمهم بها ، قال تعالى عنهم : سورة العنكبوت الآية 50 وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ كما اتهم بالسحر والتعلم من الكهنة ، حتى أخرج هذا الكتاب ، فالله عز وجل نفى عنه هذه التهمة بقوله سبحانه : سورة العنكبوت الآية 48 وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ . والواقف على سيرته - صلى الله عليه وسلم - يرى ما حصل له من فتنة وبلاء أشد من هذا ، كالحصار في الشعب ، ووفاة عمه أبي طالب ، وزوجه خديجة وغير ذلك ، ولكنه كان صابرا محتسبا ، كما ابتلي نبي الله نوح بكفر قومه واستهزائهم به مع طول لبثه فيهم ، قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 14 وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أي : ابتلي النبيون قبلك بالكفار فصبروا انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 13 / 332 ، وانظر زاد السير لابن الجوزي 6 / 261 . ، كما ابتلي نوح بابنه وفلذة كبده ، حيث كان ممن أعرض عن دعوته ، كما هو مذكور في سورة هود . كما ابتلي بزوجته حيث خانته ، كما في سورة التحريم ، وكذلك ابتلي نبي الله إبراهيم عليه السلام بقومه الذين لم يقبلوا دعوته ، وحاولوا الانتقام منه ولكن الله أنجاه فقال تعالى : سورة العنكبوت الآية 24 فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . ومما ابتلي به كذلك إعراض أبيه عن الاستجابة لدعوة التوحيد
ونبي الله لوط ابتلي بقوم لا يعبأون بأمر الله مستهزئون به وبدعوته ، حيث أتوا أمرا عظيما لم يسبقهم إليه أحد ، قال تعالى عنهم : سورة العنكبوت الآية 29 أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ .
ومما نزل عليه من البلاء أنه كان يخاف على ضيوفه من أذى قومه وشرهم قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 33 وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ، فمن عظيم ما مر عليه من البلاء أن زوجته وأقرب الناس إليه لم تستجب لنداء الله .
كما ابتلى الله شعيبا حيث لم يستجب له قومه قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 36 وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ سورة العنكبوت الآية 37 فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ .
كما ابتلي نبي الله موسى بأنواع البلايا ، منها : تجرؤ فرعون وقارون وهامان وتسلطهم على عباد الله ، حتى وصل الحد بفرعون إلى أن ادعى الربوبية ، قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 39 وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ .
وكما حصل للرسل من بلاء ومحنة امتحن الله المرسل إليهم بهم ، هل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم ؟ أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم ؟ فأقوام الرسل الذين لم يستجيبوا لدعوتهم أصيبوا بأعظم بلية وأعظم فتنة وهي الكفر الذي تدوم محنته ، وقد قال سبحانه : سورة العنكبوت الآية 4 أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ .(4/211)
قال ابن كثير رحمه الله : ( أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان ، فإن وراءهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأعظم ) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 3 / 645 . . وكما ابتلي الأنبياء وأقوامهم الذين لم يستجيبوا لهم كذلك ابتلي أتباع الأنبياء ، فقد ورد عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال : صحيح البخاري الإكراه (6544),سنن أبو داود الجهاد (2649),مسند أحمد بن حنبل (6/395). قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . كما أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاقوا من الابتلاء والمحن ما الله به عليم ، حتى أن أول سورة العنكبوت نزل بهم ، وهو قوله تعالى :سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . قال ابن عباس وغيره : يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة ، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام ، كسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر ، وأبيه وسمية أمه ، وعدة من بني مخزوم وغيرهم الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 13 / 323 . . كما فتن بعض الصحابة بأحبابه وذويه ، مثل سعد بن أبي وقاص حيث نزل بسببه قوله سبحانه : سورة العنكبوت الآية 8 وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . فعن مصعب بن سعد عن أبيه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال : حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه ، ولا تأكل ولا تشرب ، قالت : زعمت أن الله وصاك بوالديك ، وأنا أمك ، وأنا آمرك بهذا ، قال : مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد ، فقام ابن لها يقال له عمارة ، فسقاها فجعلت تدعو على سعد ، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية : سورة لقمان الآية 15 وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وفيها : سورة لقمان الآية 15 وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا الحديث . قال الواحدي : قال المفسرون : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وذاك أنه لما أسلم قالت له أمه حمنة : يا سعد بلغني أنك صبوت ، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح الضح : الشمس وقيل ضوؤها وقيل ضوؤها إذا استمكن من الأرض) لسان العرب 2 / 524 . والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد ، وترجع إلى ما كنت عليه ، فأبى سعد ، وصبرت هي ثلاثة أيام ولم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل حتى غشي عليها ، فأتى سعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وشكا ذلك إليه ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي في سورتي لقمان والأحقاف أسباب النزول للواحدي : 394 . .
وقد ابتلي صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما حصل لهم من فراق الأهل والوطن والمال ، حينما أمروا بالهجرة . قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 56 يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ . ومن سنة الابتلاء والفتنة استمراره في هذه الدنيا ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، ففي سورة العنكبوت دلالة واضحة على استمراره إلى يوم المعاد . قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ سورة العنكبوت الآية 3 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . قال ابن عطية وهذه الآية نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - موجود حكمها بقية الدهر ، وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك ، وإذا اعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن أحكام القرآن للقرطبي : 13 / 324 . . وقوله تعالى : سورة العنكبوت الآية 10 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ .(4/212)
فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 15 / 364 ، 16 / 148 ، الإتقان في علوم القرآن 1 / 85 . . ومما يدل على استمرار الابتلاء من الله للناس أمره لهم بأن يتعظوا بما حصل لمن قبلهم كما في قوله تعالى عن سفينة نوح : سورة العنكبوت الآية 15 فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ، وقوله تعالى في قصة إبراهيم : سورة العنكبوت الآية 24 فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، كذلك قوله تعالى في قصة لوط : سورة العنكبوت الآية 35 وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
وكذلك قوله تعالى : سورة العنكبوت الآية 43 وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ . ففي هذه الآيات إشارة إلى استمرار البلاء والفتنة ، وأن الإنسان لا بد أن يبتلى ويمتحن ، فإن كان من العارفين بالله وصبر وثبت على إيمانه فإنه سيحصل له من الفوز والفلاح ما حصل للمؤمنين قبله ، الذين قص الله علينا قصصهم ، وإن أعرض ولم يتعظ ولم يعتبر كما أمر فنهايته للهلاك والفتنة العظيمة التي لا فتنة بعدها ، وهي عذاب الله كما قال تعالى : سورة الذاريات الآية 13 يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ سورة الذاريات الآية 14 ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ .
وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على فتن عامة تكون في آخر الزمان في أحاديث كثيرة ؛ لذلك بوب غالب العلماء في كتبهم بابا خاصا بها سموه (أبواب الفتن) وذلك كالبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وغيرهم ، ساقوا فيها ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يقع من الفتن . والإنسان يشاهد الفتن دائما لا تنقطع عنه ، ولكنها تختلف حسب شدتها وضعفها فمثلا الأمراض والمجاعات والجوائح وفقد الأحبة حتى الشوكة يشاكها المسلم ، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صحيح البخاري المرضى (5324),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2571),مسند أحمد بن حنبل (1/441),سنن الدارمي الرقاق (2771). ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها .
كل ما اتصل بالإنسان من أهله وولده ووالديه وأصحابه وعشيرته ومن يتعامل معهم كل هؤلاء ، فهل يقوم بواجبه نحوهم من جلب خير أو دفع شر ؟ وهل يكف يده عن حقهم وبصره عما متعوا به ويسأل الله من فضله ، انظر : إغاثة اللهفان : 2 / 160 . ويكف لسانه عن غيبتهم وبهتهم ؟ فقد ورد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : سنن الترمذي المناقب (3774),سنن النسائي الجمعة (1413),سنن أبو داود الصلاة (1109). خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل الحسن والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ثم قال : صدق الله سورة التغابن الآية 15 إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ رأيت هذين فلم أصبر ثم أخذ في الخطبة . وقد ورد عن حذيفة قال : ( كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فقال : أيكم يحفظ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة ؟ قلت : أنا كما قاله ، قال : إنك عليه أو عليها لجريء ، قلت : فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي ، قال : ليس هذا أريد ، ولكن الفتنة التي تموج كموج البحر ، قال : ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها بابا مغلقا ، قال : أيكسر أم يفتح ؟ قال : يكسر ، قال : إذا لا يغلق أبدا ، قلنا :أكان عمر يعلم الباب ؟ قال : نعم ، كما أن دون الغد الليلة ، إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط . فهبنا أن نسأل حذيفة ، فأمرنا مسروق فسأله فقال : الباب عمر ) . ففي هذا الحديث عمر لم ينكر على حذيفة وقوع الفتن الصغيرة ، وحذيفة أجابه إلى سؤاله بالنسبة للفتن الكبيرة .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ؛ لأن الله تعالى يقول : سورة الأنفال الآية 28 وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ . فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن)(4/213)
والله عز وجل يقول : سورة الفرقان الآية 20 وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا . وهذا عام في جميع الخلق امتحن بعضهم ببعض ، كما تقدم امتحان الرسل بأقوامهم وبالعكس ، كما امتحن العلماء بالجهال ، هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على ذلك ، وبالعكس هل يطيع الجهال العلماء ويهتدون بهم ؟ وامتحن الملوك بالرعية وبالعكس ، كما امتحن الفقراء بالأغنياء وبالعكس ، وكما امتحن الأقوياء بالضعفاء ، والسادة بالأتباع ، والمالك بمملوكه ، والرجل بامرأته ، والرجال بالنساء ، والمؤمنين بالكفار ، والآمرون بالمعروف بمن يأمرونهم وعلى العكس من هؤلاء جميعا فإنهم فتنوا بأضدادهم إغاثة اللهفان : 2 / 161 . فمن صبر على الفتنة كانت رحمة في حقه ، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ، وإن لم يصبر وقع في فتنة أشد منها إغاثة اللهفان : 2 / 162 . .
المبحث الثاني
الحكمة من الفتنة والابتلاء
وما دام أن الله سبحانه جعل الابتلاء سنة في هذا الكون على جميع الخلق برهم وفاجرهم ، فأفعاله كلها حكمة ، فلا تكون إلا عن علم وحكمة ، منها ما نعرفه ومنها ما تقصر عقولنا وأفعالنا وأفهامنا عنه ، وحسبنا أن نقول : سورة البقرة الآية 285 آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . والابتلاء والفتن من أفعال الله عز وجل وتقديراته التي كلها حكمة ورحمة بخلاف ما إذا كانت من العبد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وليست البلايا والمصائب تأتي من طاعة الله ورسوله ، كما يظن بعض الجهال ، فإن هذه جزاء أصحابها خير الدنيا والآخرة . ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم لا بما أطاعوا فيه الله ورسوله ، كما لحقهم يوم أحد بسبب ذنوبهم لا بسبب طاعتهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك ما ابتلوا به من السراء والضراء والزلزال ، ليس هو بسبب نفس إيمانهم وطاعتهم ، لكن امتحنوا به ليتخلصوا مما فيهم من الشر ، وفتنوا به كما يفتن الذهب بالنار ليتميز خبيثه من طيبه ، والنفوس فيها شر ، والامتحان يمحص المؤمن من ذلك الشر الذي في نفسه انظر الحسنة والسيئة لابن تيمية ص 44 . ؛ لذلك كان من حكمة الابتلاء التمحيص ، وهو كما قال الراغب : أصل المحص تخليص الشيء مما فيه عيب ، قال تعالى : سورة آل عمران الآية 141 وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ، وقال سبحانه : سورة آل عمران الآية 154 ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ .
فالتمحيص هنا كالتزكية والتطهير ونحو ذلك من الألفاظ ، ويقال في الدعاء : اللهم محص عنا ذنوبنا ، أي : أنزل ما علق بنا من الذنوب المفردات للراغب : 464 . . فالمؤمن يمحص حتى يصدق ويبتلى ويختبر حتى يخلص بالبلاء الذي نزل به وكيف صبره ويقينه جامع البيان عن تأويل القرآن : 4 / 107 . . والله يمحص المؤمنين بما يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب ، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به انظر تفسير القرآن العظيم : 1 / 612 . . فهو تنقية لهم من الذنوب وآفات النفوس ، كما أنه تخليص لهم من المنافقين ، وتمييزهم عنهم ، فيحصل لهم تمحيصان : تمحيص من نفوسهم وتمحيص ممن كان يظهر أنه من المسلمين زاد المعاد 3 / 223 . . وهذا ما سأوضحه في حكمة (التمييز بين المؤمنين والكفار) فالتمحيص للمؤمنين يكون :
1 - بتكفير السيئات .
2 - أو برفعة الدرجات .
3 - أو بالتعويض من الله .(4/214)
أولا : تكفير السيئات : قد أخبر الله سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو إغاثة اللهفان : 2 / 191 . . وقد بين الله سبحانه وتعالى تكفيره لسيئات المؤمنين في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى : سورة العنكبوت الآية 7 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ . وقد بين الله سبحانه أن لا بد للمؤمن من الابتلاء كما تقدم .
قال ابن القيم : إن ابتلاء المؤمن كالدواء له ، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته ، أو أنقصت ثوابه وأنزلت درجته ، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه إغاثة اللهفان 2 / 88 . . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999),مسند أحمد بن حنبل (6/16),سنن الدارمي الرقاق (2777). عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . فهذا الخير العظيم ليس إلا للمؤمن ؛ لأنه هو الذي يشكر ويصبر فبذلك تكفر سيئاته كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة منها : ما روته عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري المرضى (5317),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2572),سنن الترمذي الجنائز (965),موطأ مالك الجامع (1751). ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري المرضى (5318),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2573),سنن الترمذي الجنائز (966),مسند أحمد بن حنبل (2/303). ما يصيب المسلم من نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه . وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قلت يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال : سنن الترمذي الزهد (2398),سنن ابن ماجه الفتن (4023),مسند أحمد بن حنبل (1/172),سنن الدارمي الرقاق (2783). الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن المصائب والفتن التي تصيب المؤمن أنها من الله ، حيث لا يقع في الكون كائن بغير مشيئته الحكمية ،ومن ذلك أن الله أعد للمؤمن فيها خيرا عظيما ، سواء بتكفير السيئات أو برفعة الدرجات إن صبر واحتسب ، وإلا فيكون فتنة لغيره لذلك أورد بعض العلماء مسائل على هذه الأحاديث وأمثالها :
أولا : هل التكفير للصغائر أم للصغائر والكبائر ؟
ثانيا : هل المصائب تكفر الخطايا فقط أم أنها تكفر الخطايا وترفع الدرجات ؟
ثالثا : هل تكفير الخطايا أو رفع الدرجات يحصل بمجرد المصيبة أم لا بد من الصبر عليها ؟
المسألة الأولى : هل التكفير خاص بالصغائر أم للصغائر والكبائر ؟ قال ابن حجر عند إيراده لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري المرضى (5321),مسند أحمد بن حنبل (2/237),موطأ مالك الجامع (1752). من يرد الله به خيرا يصب منه وما قبله من الأحاديث السابقة : وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن ؛ لأن الآدمي لا ينفك غالبا من ألم بسبب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر ، وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أو قلبية تكفر ذنوب من تقع له ، وسيأتي في الباب الذي بعده من حديث ابن مسعود : صحيح البخاري المرضى (5323),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2571),مسند أحمد بن حنبل (1/441),سنن الدارمي الرقاق (2771). ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه ، وظاهره تعميم جميع الذنوب لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر ، للحديث . . صحيح مسلم الطهارة (233),سنن الترمذي الصلاة (214),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086),مسند أحمد بن حنبل (2/400). الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر . فحملوا المطلقات الواردة في التكفير على هذا المقيد ، ويحتمل أن يكون معنى الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة البلاء وخفته فتح الباري : 10 / 108 . .
والذي يظهر أن المصائب مكفرات للصغائر والكبائر لعموم الأحاديث المتقدمة ، وأما هذا الحديث فهو خاص بالأعمال المذكورة ولا وجه لدخول عموم التكفير بالنسبة للمصائب بهذا إلا بدليل ؛ لذلك قال بعض العلماء إن المصائب مع تكفيرها السيئات ترفع الدرجات .(4/215)
المسألة الثانية : هل المصائب مكفرات أو مثيبات ؟
قال النووي رحمه الله تعالى بعد سياقه للأحاديث المتقدمة : وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة وتكتب حسنة قال : وروي نحوه عن ابن مسعود ، وقال أيضا : والوجع لا يكتب به أجر لكن تكفر به الخطايا فقط . واعتمد على الأحاديث التي فيها تكفير الخطايا ولم تبلغه الأحاديث التي ذكرها مسلم المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات صحيح مسلم بشرح النووي : 16 / 128 . .
وقال المنبجي رحمه الله . احتجت طائفة من العلماء إلى أنه يثاب على كل مصيبة بقوله تعالى : سورة التوبة الآية 120 مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
ثم ساق حديث أبي سعيد المتقدم وقال : وروى الحاكم في المستدرك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المصاب من حرم الثواب . وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري الجنائز (1191),سنن النسائي الجنائز (1873),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1605),مسند أحمد بن حنبل (3/152). ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ثم ساق كلام النووي المتقدم وقال : ويؤيد ذلك قول عائشة - رضي الله عنها - : صحيح البخاري المرضى (5322),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2570),سنن الترمذي الزهد (2397),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1622),مسند أحمد بن حنبل (6/181). ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري المرضى (5323),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2571),مسند أحمد بن حنبل (1/381),سنن الدارمي الرقاق (2771). إني لأوعك مثل رجلين منكم . صحيح البخاري المرضى (5323),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2571),مسند أحمد بن حنبل (1/381),سنن الدارمي الرقاق (2771). وإنك لتوعك وعكا شديدا . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : سنن الترمذي الزهد (2398),سنن ابن ماجه الفتن (4023),مسند أحمد بن حنبل (1/172),سنن الدارمي الرقاق (2783). أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل . قال جماعة من العلماء : والحكمة في كون الأنبياء أشد بلاء ثم الأمثل فالأمثل ، أنهم مخصوصون بكمال الصبر وصحة الاحتساب ، والأنبياء معصومون من الخطايا ، ولهم الثواب والله أعلم .
وفي حديث المرأة التي كانت تصرع . دليل على أن الصرع يثاب عليه أكمل ثواب وفي صحيح مسلم قالت امرأة : صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2636),سنن النسائي الجنائز (1877),مسند أحمد بن حنبل (2/536). يا رسول الله دفنت ثلاثة قال : دفنت ثلاثة ؟ قالت : نعم ، قال : لقد احتظرت بحظار شديد من النار .
قال بعض السلف : فقد الثواب على المصيبة أعظم من المصيبة فإنه قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المصاب من حرم الثواب . واحتجت الطائفة الأخرى من العلماء ممن أطلق القول بأن المصائب لا يثاب عليها وإنما يثاب على الصبر عليها بقوله تعالى : سورة الزمر الآية 10 قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ .(4/216)
قال ابن عبد السلام . في (قواعده) : الثواب إنما يكون على فعل العبد لا على فعل الله فيه قال تعالى : سورة البقرة الآية 156 الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ سورة البقرة الآية 157 أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ، فما حصل لهم من صلاة الله عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم بقولهم : سورة البقرة الآية 156 إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فالاسترجاع هو سبب في حصول ما ذكر انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام : 1 / 126 . . وكذلك حديث الضحاك بن عبد الرحمن بن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ، أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سنن الترمذي الجنائز (1021),مسند أحمد بن حنبل (4/415). يقول الله عز وجل لملك الموت يا ملك الموت قبضت ولد عبدي قبضت قرة عينيه وثمرة فؤاده ، قال : نعم قال : فما قال : قال حمدك واسترجع قال : ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد . فحمده واسترجاعه هو سبب بناء البيت له في الجنة وتسمية البيت كافية تسلية أهل المصائب : 222 . ، وقد تقدم نقل القاضي عياض تقدم ترجمته . رحمه الله ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل في المسألة ، فبعد أن ذكر ما أصيب به الرسول والمؤمنون من المصائب بسبب اختيارهم طاعة الله فقال : (وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه ، وتكفر عنه الذنوب بمصائبه ، فإن هذا هذا إشارة إلى ذكر متقدم وهو المؤمن الذي اختار الأذى بسبب طاعته لله وهو صاحب المصائب . أصيب وأوذي باختياره طاعة الله ، يثاب على نفس المصائب ، ويكتب له بها عمل صالح قال تعالى : سورة التوبة الآية 120 مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . بخلاف المصائب التي تجري بلا اختيار العبد ، كالمرض وموت العزيز عليه ، وأخذ اللصوص ماله ، فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها ، لا على نفس ما يحدث من المصيبة ، وما يتولد عنها ، والذين يؤذون على الإيمان وطاعة الله ورسوله ، ويحدث لهم بسبب ذلك حرج أو مرض أو حبس أو فراق وطن وذهاب مال وأهل أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال ، وهم في ذلك على طريقة الأنبياء وأتباعهم المهاجرين الأولين ، فهؤلاء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح ، كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظة الكفار ، وإن كانت هذه الآثار ليست عملا فعله ويقوم به ، لكنها متسببة عن فعله الاختياري وهي التي يقال لها متولدة أمراض القلوب وشفاؤها : 20 . ا . هـ .
فتبين من كلام شيخ الإسلام أن المصائب مكفرات ومثيبات وإن كانت بسبب طاعة الله فإنه يثاب عليها وعلى ما يتولد منها ، وهذا ما دلت عليه النصوص ، فقد تقدم جملة من الأدلة على تكفير السيئات .(4/217)
أما الأدلة العامة على رفع الدرجات فمنها : عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري المرضى (5317),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2572),سنن الترمذي الجنائز (965),موطأ مالك الجامع (1751). ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة . وفي لفظ : صحيح البخاري المرضى (5317),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2572),سنن الترمذي الجنائز (965),موطأ مالك الجامع (1751). ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له حسنة أو حطت عنه بها خطيئة . وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سنن الترمذي الزهد (2396). إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري المرضى (5321),مسند أحمد بن حنبل (2/237),موطأ مالك الجامع (1752). من يرد الله به خيرا يصب منه . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح البخاري [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (13) . (6060),مسند أحمد بن حنبل (2/417). يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة . ومع هذا الأجر العظيم الذي دلت عليه الأحاديث فإنها تدل كذلك على التعويض من الله ، سواء في الدنيا أو الآخرة ، لدلالة الأحاديث المتقدمة والآيات الواردة في ذلك منها قوله سبحانه : سورة العنكبوت الآية 5 مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وقوله سبحانه وتعالى : سورة العنكبوت الآية 7 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ . فهذه الآية كما تقدم في تكفير السيئات أن المؤمن لا بد له من ابتلاء حتى عمله ابتلاء من الله هل يصبر ويعمله باحتساب أم لا ، فإن كان عمله أشغله عن لذة من لذات الدنيا فإن العوض من الله خير ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري المرضى (5329),سنن الترمذي الزهد (2400),مسند أحمد بن حنبل (3/144). إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه . والمتتبع لسير المرسلين وأتباعهم ، وما أصيبوا به من أذى ، يرى أن العاقبة كانت لهم ، سواء في العاجل أو الآجل .
فهذا إبراهيم - عليه السلام - لما صبر على بلاء قومه عوضه الله بذرية ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم حيث أمرهم الله قال : سورة العنكبوت الآية 56 يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ . أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا ، وملكهم شرق الأرض وغربها ، فمن اتقى الله عز وجل وترك الشيء له لأجله سبحانه ، عوضه الله خيرا عظيما ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلا له عوضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه كشف الخفا : 2 / 239- 312 الرقم 2119- 2428 واللفظ له مسند أحمد : 5 / 78 . . ويقول سبحانه وتعالى : سورة الطلاق الآية 2 فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا سورة الطلاق الآية 3 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وكما ترك يوسف الصديق امرأة العزيز لله ، واختار السجن على الفاحشة ، عوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء .(4/218)
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن المجاهد في الله يهديه الله سبله ومعلوم أن المجاهد لله لا بد أن يترك كثيرا من الملذات والشهوات ويقبل على الله فعوضه الله أن هداه سبيله وكان معه خاصة ، قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 69 وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ . وقد عزى الله المؤمنين حين اختاروا الألم المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله : سورة العنكبوت الآية 5 مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . فضرب لمدة هذا الألم لا بد أن يأتي وهو يوم لقائه ، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته ، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله ، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ؛ ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل ، كما عزاهم تعالى بعزاء آخر وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم ، وثمرته عائدة عليهم ، وأنه غني عن العالمين . . ، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين زاد المعاد : 3 / 16 . كما قال سبحانه : سورة العنكبوت الآية 9 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ .
ثالثا : هل التكفير حاصل بمجرد المصيبة أم لا بد من الصبر ؟
الناس بالنسبة لأقدار الله أربعة أقسام :
الأول : من يرضى عن ربه فيها لمزيد من حبه والشوق إليه ، وهذا نشأ من مشاهدتهم للطف الله فيهم ، وبره وإحسانه العاجل والآجل .
الثاني : من يشكر الله عز وجل على المصائب كما يشكر على النعم . وهذا فوق الرضا ، إلا أنه غالبا ما يكون على النعم ، فهو في فتنة السراء أظهر .
الثالث : من يصبر على أقدار الله ، وهم المقصودون ، ولا يتحقق الرضا والشكر إلا بالصبر .
الرابع : الجزع والتسخط والتشكي ، واستبطاء الفرج ، واليأس من الروح ، والجزع الذي يفوت الأجر انظر طريق الهجرتين : 218 . .
وعلى هذا التقسيم فلا بد للمصاب أن يكون من الصابرين فما فوق ، أم من الساخطين ، وقد ذكر ابن حجر أن الأجر حاصل بمجرد المصيبة ، فقال عند سياقه للحديث الأول - حديث عائشة السابق ذكره : (وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام تقدمت ترجمته في ص : 286 . حيث قال : ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور إنما هو على الكسب ، وهو خطأ صريح ؛ فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب ، والمصائب ليست منها ، بل الأجر على الصبر والرضا) قواعد الأحكام في مصالح الأنام : 1 / 127 . .
ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة ، وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة ، قال القرافي : المصائب كفارات جزما ، سواء اقترن بها الرضا أم لا ، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل ، كذا قال : والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها ، وبالرضا يؤجر على ذلك ، فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه فتح الباري : 10 / 105 ، وانظر 109 . ا . هـ .
والذي يظهر لي بعد هذا النقل أن الأجر لا يحصل إلا مع الصبر ، لا بد للإنسان أن يصبر أو يسخط ، ولا أعرف مرتبة بينهما ، إلا أن الصبر إما أن يكون لله ومع الله فإنه يؤجر على ذلك ؛ للآيات والأحاديث التي تحث على الصبر وتأمر به ، وإما أن يكون لغير ذلك من غاياته في الدنيا ، أو يجبر على الصبر كصبر البهائهم ، ويسلي نفسه كصبر الكفار ، فإن هذا لا أجر له .
قال ابن القيم بعد أن تكلم على الصبر فقال : المراتب أربعة :
أحدها : مرتبة الكمال ، وهي مرتبة أولي العزائم ، وهي الصبر لله وبالله ، فيكون في صبره مبتغيا وجه الله ، صابرا به ، متبرئا من حوله وقوته ، فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها .
الثانية : أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا ، فهو أخس المراتب ، وأردأ الخلق ، وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان .
الثالثة : مرتبة من فيه صبر بالله ، وهو مستعين متوكل على حوله وقوته ، متبرئ من حوله هو وقوته ، ولكن صبره ليس لله ؛ إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه ، فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ، ولكن لا عاقبة له ، وربما كانت عاقبته شر العواقب .
الرابعة : من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به ، والتوكل عليه ، والثقة به والاعتماد عليه ، فهذا له عاقبة حميدة ، ولكنه ضعيف عاجز مدار السالكين 2 / 177 . .(4/219)
وإن حصل مع الصبر على المصائب رضى وشكر فإنه أعظم للأجر ، فالرضى بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته ، مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره ، مستحب وهو من مقامات أهل الإيمان ، بخلاف الرضى بالقدر الجاري عليه باختياره ، مما يكرهه الله ويسخطه وينهي عنه ، كالظلم والفسوق والعصيان ، فإن هذا حرام يعاقب عليه ، وهو مخالفة لله تعالى انظر مدارج السالكين : 2 / 202 . . وكذلك الشكر ؛ حيث إن الله أمر به وأثنى على أهله ونهى عن ضده ، من ذلك قوله تعالى عن إبراهيم في دعوة قومه : سورة العنكبوت الآية 17 إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
وقال سبحانه : سورة سبأ الآية 13 يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ . إلا أن الغالب في الشكر أن يكون على السراء وهي من الفتن العامة التي ينبغي للمسلم أن يشكر الله عليها ، وليست من المصائب النازلة المقصودة في هذا الموضوع .
فتبين أنه لا أجر بدون الصبر فما فوقه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( المصائب التي تجري بلا اختيار العبد ، كالمرض وموت العزيز عليه ، وأخذ ماله ، فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها ، لا على نفس ما يحدث من المصيبة وما يتولد عنها ) أمراض القلوب وشفاؤها : 21 . . وأما إن حصل ضد الصبر وهو الجزع والتسخط والتشكي ، فإن هذا لا يؤجر ، بل قد يحصل له الإثم لقوله - صلى الله عليه وسلم - : سنن الترمذي الزهد (2396). إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم الإيمان (104),سنن النسائي الجنائز (1867),سنن أبو داود الجنائز (3130),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1586),مسند أحمد بن حنبل (4/397). برئ من الصالقة والحالقة والشاقة
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الجنائز (1235),صحيح مسلم الإيمان (103),سنن الترمذي الجنائز (999),سنن النسائي الجنائز (1860,1862,1864),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1584),مسند أحمد بن حنبل (1/386,1/432,1/442,1/456,1/465). ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية .
ومن حكم الابتلاء التمييز بين المؤمنين والكفار كما تقدمت الإشارة إلى ذلك عند التمحيص . فالتمييز : من مزت الشيء أميزه ميزا : عزلته وفرزته ، وكذلك ميزته تمييزا فانماز ، وامتاز ، وتميز ، واستماز كله بمعنى ، يقال : امتاز القوم إذا تميز بعضهم من بعض ، وفلان يكاد يتميز من الغيظ أي ينقطع الصحاح للجوهري : 3 / 897 . . هذا معنى التمييز في اللغة ، فالمراد هنا تمييز المؤمن من الكافر ، وقد ثبت ذلك في قوله تعالى : سورة العنكبوت الآية 3 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . قال الطبري - رحمه الله تعالى - : سورة العنكبوت الآية 3 فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا منهم ، في قولهم : آمنا ، سورة العنكبوت الآية 3 وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ منهم في قولهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار ، وفي حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك :
وليظهرن الله الصادق منهم في قوله : آمنا بالله ، من كذب الكاذب منهم ، بابتلائه إياه ؛ ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه جامع البيان عن تأويل آي القرآن : 20 / 129 . .
والله عز وجل بين في كتابه عن تمام حكمته ، وأن حكمته لا تقضي أن كل من قال : أنه مؤمن ، وادعى لنفسه الإيمان ؛ أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن ، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه ، فإنهم لو كان الأمر كذلك لم يتميز الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل ، ولكن سنته تعالى في الأولين وفي هذه الأمة أن يبتليهم بالسراء والضراء ، والعسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والغني والفقر ، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان ، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ، ونحو ذلك من الفتن التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة ، والشهوات المعارضة للإرادة .(4/220)
فمن كان عند ورد الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل ، ويدفعها بما معه من الحق ، وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب ، أو الصارفة عن ما أمر الله به ورسوله ، يعمل بمقتضى الإيمان ، ويجاهد شهوته دل ذلك على صدق إيمانه وصحته ، ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا ، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات ، دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه تيسير الكريم الرحمن : 6 / 66 . . فعلى هذا يكون الابتلاء تخليص الخير من الشر وتمييزه سواء في الدنيا الآخرة ، كما قال تعالى : سورة الأنفال الآية 37 لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم الإيمان (144),مسند أحمد بن حنبل (5/405). تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا المرباد : هو شدة البياض في سواد (أو شبه البياض) والكوز مجخيا أي منكوسا : صحيح مسلم : 1 / 130 . كالكوز مجخيا ، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه . وعلى هذا فهل يمكن تمييز الخبيث من الطيب بدون ابتلاء ؟ إنه لا بد للتمييز من ابتلاء ، فما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه ، وأذاه له في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه ، وهو كالحر الشديد والبرد الشديد ، والأمراض والهموم والغموم ، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار ، حتى الأطفال والبهائم ، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين ، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع من الضر واللذة عن الألم لكان عالما غير هذا ونشأة أخرى غير هذه النشأة إغاثة اللهفان : 2 / 189 . .
إذا لا بد من الابتلاء ، فلو كان المؤمنون دائما منصورين قاهرين غالبين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول ، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة ، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه انظر : إغاثة اللهفان : 2 / 190 . . وقد مرت حوادث على الأمة الإسلامية تميز فيها الصادق من المنافق ، ومن أبرزها ما حصل في غزوة أحد حين خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى أحد ، قال ابن إسحاق حتى إذا كانوا بالشوط اسم حائط يعني بستانا في المدينة بينها وبين أحد . معجم البلدان : 3 / 372 . بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبي سلول بثلث الناس وقال : (أطاعهم وعصاني ، ما ندري علام نقتل هاهنا أيها الناس) ، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب السيرة النبوية لابن هشام : 3 / 68 وانظر المغازي للواقدي : 1 / 219 . ، وقد ذكر ابن القيم من الحكم في غزوة أحد فقال : (ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطالهم الصيب ، ودخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق ، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وظهرت مخبأتهم وعاد تلويحهم تصريحا ، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا) زاد المعاد : 3 / 219 . ، وكما في قصة الأقرع والأعمى والأبرص ، التي ميز الله فيها بين الغني الشاكر والكافر ، وقد ميز الله بين المؤمنين والمنافقين وقد بين سبحانه أن المنافقين لا يتحملون أي أذى يصيبهم في ادعائهم الإيمان ، فهم لا يصبرون ويعدون أي أذى كأنه هو عذاب الله ، الذي بين سبحانه أنه شديد . قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 10 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ .
الناس في الابتلاء ينقسمون إلى قسمين :(4/221)
القسم الأول : إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن ، فإن رده ذلك الابتلاء والامتحان إلى ربه ، وجمعه عليه وطرحه ببابه ، فهو علامة سعادته وإرادة الخير به ، فمن حكمة الابتلاء بالنسبة للمؤمنين : تكميل العبودية لله في السراء والضراء ، وفي حال العافية والبلاء ، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم ، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية ، بمقتضى تلك الحال ، لا تحصل إلا بها ، ولا يستقيم القلب بدونها ، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب وأضدادها ، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني ، والاستقامة المطلوبة منه ، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع إغاثة اللهفان : 2 / 190 . . ومن العبودية أن يشكو العبد إلى ربه ويتضرع إليه ويدعوه ، فالله يحب ذلك من العبد ، (فهو سبحانه يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب وغيرها ، ويعلم خائنة أعينهم وما تخفي صدورهم ، فيثيب كل عبد على قصده ونيته ، وقد ذم الله تعالى من لم يتضرع إليه ، ولم يستكن له وقت البلاء) تسلية أهل المصائب : 217- 218 . . كما قال تعالى : سورة المؤمنون الآية 76 وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ . فالله عز وجل يذيق عبده ألم الحجاب عنه والبعد ، وزوال ذلك الأنس والقرب ليمتحن عبده ، فإن أقام على الرضى بهذه الحال ، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأولى مع الله ، بل اطمأنت وسكنت إلى غيره ، علم أنه لا يصلح فوضعه في مرتبته التي تليق به .
وإن استغاث به استغاثة الملهوف ، وتعلق تعلق المكروب ، ودعاء دعاء المضطر ، وعلم أنه قد فاتته حياته حقا ، فهو يهتف بربه أن يرد عليه حياته ، ويعيد عليه ما لا حياة له بدونه ، علم أنه موضع لما هو أهل له ، فرد أحوج ما هو إليه ، فعظمت به فرحته ، وكملت به لذته ، وتمت
به نعمته ، واتصل به سروره ، وعلم حينئذ مقداره ، فعض عليه بالنواجذ ، وثنى عليه الخناصر ، وكان حاله كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذ وجدها بعد معاينة الهلاك مفتاح دار السعادة : 1 / 296 . .
فما أعظم موقع ذلك الوجدان عنده ، ولله أسرار وحكم ومنبهات وتعريفات لا تنالها عقول البشر
القسم الثاني : إذا ابتلي الإنسان ولم يرده ذلك البلاء إلى الله ، بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق ، وأنساه ذكر ربه ، والضراعة إليه ، والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه ، فهو علامة شقاوته ، وإرادة الشر به ، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته ، وسلطان شهوته ، ومرحه وفرحه ، فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع من الشر والبطر ، والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء ، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء ، فبلية هذا وبال عليه ، وعقوبة ونقص في حقه طريق الهجرتين ، 964 . . ويرد على هذا :
مسألة : هل المصائب في الدنيا للمؤمنين فقط ؟
وأقول : إنها ليست خاصة بالمؤمنين ، فما يرى فيه الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه ، فهو دون ما يحصل للمؤمنين بكثير ، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان ، وإن كان في الظاهر بخلافه . قال الحسن البصري رحمه الله : ( أما والله لئن تدقدقت بهم الهماليح ، ووطئت الرجال أعقابهم ، إن ذل المعصية لفي قلوبهم ، ولقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذله ) حلية الأولياء : 2 / 149 . . وقد يشكل على بعض الناس حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو : صحيح مسلم الزهد والرقائق (2956),سنن الترمذي الزهد (2324),سنن ابن ماجه الزهد (4113),مسند أحمد بن حنبل (2/389). الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر . ولكن يزول هذا الإشكال إذا علم أن المؤمن على ما هو فيه بالدنيا من العزة والنصر بالنسبة إلى ما يلاقيه عند الله في الجنة من النعيم المقيم كأنه كان في سجن ، أما الكافر لما هو فيه في هذه الدنيا على أي حال بالنسبة لما أعده الله له من الجحيم والنكال العظيم فكأنه في جنة انظر النووي على مسلم : 18 / 93 . .
المبحث الثالث :
هل للمسلم أن يستدعي البلاء على نفسه ؟(4/222)
تقدم في حكمة الابتلاء والفتن أن فيها أجرا عظيما وتكفيرا للسيئات ، فهل للمسلم أن يستدعي البلاء على نفسه ؛ طلبا لهذا الفضل العظيم ، أو يترك ما أوجبه الله عليه خوفا من الفتنة ؟ وهذا يرجع إلى الحكمة في الأمور والعمل لكل وقت بما يناسبه ، فالمتتبع لسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل المؤمنين إيمانا وأقوى توكلا وأعظم داعية يرى أنه لا يستدعي البلاء على نفسه ، ولا يترك ما أوجبه الله عليه ، وإنما جمع بين التوكل والعمل بالأسباب ، فقام بالدعوة إلى الله خير قيام ، حسب مقتضى الظروف والأحوال المقرونة بحكمة الله وأمره وشرعه ، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل بعد رجوعه من الطائف بجوار المطعم بن عدي ليجيره من أذى قريش ، حتى يبلغ رسالة ربه انظر السيرة النبوية لابن هشام 2 / 20 . ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى القبائل أيام الموسم ويدعوهم إلى الإسلام ويقول : سنن الترمذي فضائل القرآن (2925),سنن أبو داود السنة (4734),سنن ابن ماجه المقدمة (201),سنن الدارمي فضائل القرآن (3354). ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي . كذلك هجرته - صلى الله عليه وسلم - وهجرة أصحابه الأولى إلى الحبشة ، والثانية إلى المدينة ، تدل دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمسلم أن يستدعي البلاء على نفسه ، حيث لم يستمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة القوم كما أنه كان يحمي نفسه من الأعداء في المعارك ، وينهى الصحابة من تعرضهم للبلاء ، وإيجابهم على أنفسهم ما لم يوجبه الله عليهم ، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : سنن الترمذي الفتن (2254),سنن ابن ماجه الفتن (4016),مسند أحمد بن حنبل (5/405). لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق . وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة : صحيح البخاري الأحكام (6727),صحيح مسلم الإمارة (1652),سنن الترمذي النذور والأيمان (1529),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2929),مسند أحمد بن حنبل (5/62),سنن الدارمي النذور والأيمان (2346). يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير . ويقول - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون : صحيح البخاري الطب (5396),صحيح مسلم السلام (2218),سنن الترمذي الجنائز (1065),مسند أحمد بن حنبل (5/206),موطأ مالك الجامع (1656). إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وقوله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الجهاد والسير (2804),صحيح مسلم الجهاد والسير (1742),سنن أبو داود الجهاد (2631). لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف . وتعوذ - صلى الله عليه وسلم - من فتنة الغنى والفقر والدنيا والنار ، وغير ذلك ، قال العلماء : أراد - صلى الله عليه وسلم - مشروعية ذلك لأمته فتح الباري : 13 / 44 مسند أحمد : 1 / 182- 194 ، 5 / 201 ، 208 . . يقول ابن تيمية بعدما ساق هذه الأحاديث : ( وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ، ويحرم عليه أشياء ، فيبخل بالوفاء ، كما يفعل كثير ممن يعاهد الله عهودا على أمور ، وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود ، ويقتضي أن الإنسان إذا ابتلي فعليه أن يصبر ويثبت ، ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات ، ولا بد في جميع ذلك من الصبر ) التحفة العراقية في أعمال القلوب لابن تيمية ص 46 ، وانظر الزهد والورع والعبادة له ص 18 . . ا . هـ .(4/223)
وهذا لا يسقط الواجب على المسلم ، بل عليه أن يؤدي ما أوجبه الله عليه حسب استطاعته ، فإن ابتلي صبر واحتسب ، ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم الإيمان (49),سنن الترمذي الفتن (2172),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009),سنن أبو داود الصلاة (1140),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275),مسند أحمد بن حنبل (3/54). من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . فإذا تعين على المسلم واجب فعليه أن يسلك السبل التي تعينه على الواجب ، ولا يلقي بنفسه في التهلكة ، ولا يترك الواجب لشيء دونه فيكون كمن قال الله تعالى فيه : سورة التوبة الآية 49 وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ، وقوله تعالى : سورة العنكبوت الآية 3 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب ، ومؤمن ومنافق ، وطيب وخبيث ، فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها ؛ لأنه وقع بالمعصية وفر من الواجب إلى ما يميل له طبعه وهواه ، كما قال
تعالى : سورة التوبة الآية 49 وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ . يقول الجد بن قيس لما ندبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك يقول : ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعريضي لبنات بني الأصفر ، فإني لا أصبر عنهن ، فالذين استأذنوا لهذا السبب وقعوا في فتنة النفاق ، وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر ، فالفتنة التي فر منها - بزعمه - هي فتنة محبة النساء وعدم صبره عنهن ، والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا ، والعذاب في الآخرة جامع البيان عن تأويل آي القرآن : 10 / 148 : أسباب النزول للواحدي : 284 ، زاد المعاد 3 / 169 . . يقول ابن تيمية ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك ، بأنه يطلب السلامة من الفتنة الاستقامة : 2 / 287 . . ويقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه ، وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد ، فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته ، والله تعالى يقول : سورة الأنفال الآية 39 وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة ، فهو في الفتنة سقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده ، وتركه ما أمر الله به من الجهاد ، فتدبر هذا فإن هذا مقام خطر الاستقامة : 2 / 289 . . فالله عز وجل أمر المسلم أن يقوم بالواجب ، وأن خوفه من الفتن لا يعفيه منه ، كما قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 1 الم سورة العنكبوت الآية 2 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وبين سبحانه أن من قام بالواجب أعانه الله عليه ، كما قال سبحانه : سورة العنكبوت الآية 69 وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ . فعلى المسلم أن يسلك سبيل الدعوة إلى الله بالطرق التي بينها الله ، وإذا حصل له ضرر فعليه أن يدفعه بكل وسيلة مشروعة ، كما تقدم من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - . وعليه أن يصبر ويحتسب فإنه أعظم لأجره .
المبحث الرابع : أنواع الفتن :
للفتن صور وأنواع عدة ، كما تقدم في تعريفها وأنها بحسب ما يضاف إليها ، وقد بين الله عز وجل عدة أنواع للفتنة وهي بمجملها تنقسم إلى قسمين :
الأول : الشبهات .
الثاني : الشهوات .
وقد تجتمع الفتنتان كما في الدجال الذي هو أعظم فتنة حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها .
(الجزء رقم : 45، الصفحة رقم: 309)
فالأولى هي المعارضة للعقيدة ، التي لا يسلم منها إلا من عرف الله ورسوله ، وهي تأتي من ضعف البصيرة وقلة العلم ، وخاصة إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى ، وهي تؤدي إلى الكفر والنفاق والبدع ، وهذا هو الضلال الذي من اتباع الفتن والشبهات ومنها :
1 - شبهة إيذاء الناس بترك ما أوجبه الله .
2 - عبادة الأصنام وتزيين الشيطان .
3 - شبهة الخوف من الموت وفوات الرزق بترك ما أوجبه الله .(4/224)
ومن أنواع الفتن فتنة الناس ، وهي من فتن الشبهات ، فالناس يؤذون وتختلف درجاتهم في هذا الإيذاء ، والله سبحانه ذكر صنفا من الناس لا يتحملون أي أذى في سبيل الله ، فهؤلاء إيمانهم ليس بصادق وذلك لضعف إيمانهم ، فإذا أوذي أحدهم بضرب أو أخذ مال أو تعيير ليرتد عن دينه ويرجع إلى الباطل - ويظن أن ما حصل له من هذا الأذى مثل عذاب الله وشتان - فإن هذا يجزع من عذاب الناس وأذاهم ، ولا يصبر عليهم فيطيعهم انظر تفسير البغوي : 3 / 462 : وتيسير الكريم الرحمن 6 / 70 . . كطاعة الخائف من الله لله ، وإيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء والفتن ، فالمنافقون الذين يقولون آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم إذا حصل للمسلمين من الكفار أذى وهم معهم ، جعلوا فتنة الناس أي أذاهم انظر أضواء البيان : 6 / 462 . مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم ، فمن في قلبه مرض اشتبه عليه الأمر ، فظن أن العذابين سواء ، فآثر الراحة ، فالناس يفتن بعضهم بعضا عن الإيمان ، ويصرف بعضهم بعضا عن الحق ، ويردي بعضهم بعضا في الباطل ، إما بالقوة والغلبة ، أو بالإغواء والإغراء والأماني ، ولكن المؤمنين لا يضيرهم ذلك بل يزداد إيمانهم ويقينهم مهما كان الإيذاء وكانت درجاته . وإليك صورا رائعة من صبرهم : قال تعالى : سورة البروج الآية 10 إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ، فعند هذه الآية يذكر المفسرون أصحاب الأخدود وما حصل لهم من أذى وفتنة ، فعن صهيب الرومي - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صحيح مسلم الزهد والرقائق (3005),مسند أحمد بن حنبل (6/18). كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مر الراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه ، فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل ، فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب :(4/225)
أي بني أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل علي ، وكان الغلام يبرئ الأكمه الأكمه : الذي خلق أعمى - النووي على مسلم : 18 / 130 . والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما هاهنا لك أجمع ، إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله تعالى ، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فدعي بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقورة . فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : باسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام ، فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود في أفوه السكك فخدت ، وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها ، أو قيل له اقتحم ، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمه اصبري فإنك على الحق .
وقد أوذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم حتى تركوا ديارهم وأموآله م وهاجروا إلى المدينة .
ومن فتن الشبهات : شبهة عبادة الأصنام وتزيين الشيطان .
فعباد الأصنام ظنوا أن هذه الأصنام تقربهم إلى الله ، كما قال تعالى : سورة الزمر الآية 3 أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ . فهم يقولون تشفع لنا ، فهم يخاطبون الأصنام ويقولون : إنا نخاطب أصحابها وهذا مما لم يشرعه الله انظر فتاوى ابن تيمية : 1 / 15 . . فأصل المشركين صنفان : قوم نوح ، وقوم إبراهيم ، فشبهة قوم نوح تعظيم الصالحين والعكوف على قبورهم ، حتى وصل الأمر بهم إلى الشرك . وشبهة قوم إبراهيم في الكواكب والشمس والقمر مما زينته لهم الشياطين انظر فتاوى ابن تيمية : 1 / 157 . ، ومما يعتقدون فيها من المودة بينهم ، كما قال تعالى عنهم : سورة العنكبوت الآية 25 وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ .(4/226)
كما أن الشياطين يزينون كل سوء ومنكر ، فهم يعينون عباد الأصنام ويتزينون لهم في صور صالحة تشبيها وتلبيسا عليهم ، فيقول أحدهم أنا إبراهيم أنا المسيح أنا محمد أنا الخضر ، وقد يقول بعضهم عن بعض هذا هو النبي وهذا هو الخضر ، ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1 / 157 . . وفتنة الشيطان من أعظم الفتن وخاصة إذا هم الإنسان بالخير أو دخل به ، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : سنن النسائي الجهاد (3134),مسند أحمد بن حنبل (3/483). إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ؟ قال : فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالغرس في الطول ؟ قال : فعصاه فهاجر ، قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهد النفس والمال ، فقال : فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ؟ قال : فعصاه فجاهد . لذلك حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه وبين أن من عصاه فقد نجا وفاز ، وهذا ما يدل عليه بقية الحديث حيث قال : سنن النسائي الجهاد (3134),مسند أحمد بن حنبل (3/483). . . فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو قتل كان حقا على الله - عز وجل - أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة .
وشبهات الشيطان التي يلقيها في القلوب كثيرة ؛ لذلك أمرنا بالاستعاذة منه كثيرا وخاصة عند قراءة القرآن ؛ لأنه من أهم أعمال الخير وفيه فلاحنا ونجاحنا .
وقد بين الله أن في هذه السورة أناسا وقعوا في فتنة الشيطان أغراهم فهلكوا قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 38 وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فحسن لهم الشيطان كفرهم بالله ، وتكذيبهم رسله فصدهم عن السبيل فردهم بتزيينه لهم ما زين لهم من الكفر والصد عن سبيل الله ، التي هي الإيمان به وبرسله جامع البيان عن تأويل القرآن : 20 / 150 . . مع ما لهم من العقول وما لديهم من دلائل الهدى ، ولكن الشيطان بقوة فتنته جاءهم من باب غرورهم بأنفسهم وإعجابهم بما يأتون من الأعمال ، وما هو فيه من مال ومتاع ، فضيع عليهم الفرص مع ما يملكون من التبصر انظر في ظلال القرآن : 5 / 2735 . . كما وصفهم الله بذلك في آخر الآية فقال : سورة العنكبوت الآية 38 وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ .
ومن الشبهات التي تعترض الإنسان : شبهة الخوف من الموت ، وشبهة الخوف من الرزق ، فالإنسان لا يجوز له أن يترك ما أمره الله به خوفا من أن يأتيه الموت ، أو ينقطع رزقة ، فإن الموت لا بد حاصل ، وكذلك الرزق ، لذلك ذكرها الله بعد الأمر بالهجرة ، وهون عليهم أمرها لئلا يكونا سببا في التأخر عن أمر الله ، فقال تعالى : سورة العنكبوت الآية 56 يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ سورة العنكبوت الآية 57 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ . سواء من هاجر أو جلس ، والأجل محدد ، كما قال تعالى : سورة الأعراف الآية 34 وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ . وكذلك الرزق المقسوم سيأتي الإنسان ، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صحيح البخاري بدء الخلق (3036),صحيح مسلم القدر (2643),سنن الترمذي القدر (2137),سنن أبو داود السنة (4708),سنن ابن ماجه المقدمة (76),مسند أحمد بن حنبل (1/414). إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ، ويقال له : اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح . فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار ، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة . ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها بين الله سبحانه أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت . فأولى أن يكون في سبيل الله كما أن الرزق حاصل وأسباب البحث عنه متوفرة في جميع بلاد الله الواسعة ، فلا يكون طلبه في بقعة معينة سببا في ترك أمر الله بالهجرة .(4/227)
فالله حقر أمر الدنيا عموما لئلا ينظر المؤمن إلى عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه أن يموت أو يجوع أو نحو هذا انظر أحكام القرآن للقرطبي : 13 / 358 . . فالموت حاصل ، والرزق جار ، فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه ، فإن الله لما أمر بالهجرة ذكر بعدها الموت ، ثم ذكر الرزق وأن البهائم على ضعفها وعدم تكفيرها قد تكفل الله برزقها ، فكيف بابن آدم الذي أعطاه الله أسباب المعاش ، وهيئه لعبادته ، قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 57 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ . وبعد أن حث على العمل والصبر ذكر الرزق فقال : سورة العنكبوت الآية 60 وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فالرزق للجميع يستوي في ذلك : الحريص ، والمتوكل ، والراغب ، والقانع ، والحيول ، والعاجز ، حتى لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده ، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه انظر أحكام القرآن للقرطبي : 13 / 360 . . ومن فتن الشبهات التي عمت في هذا الزمن ، وانخدع بها كثير من الناس ، الفتنة بالكفار ، وفتنتهم بنا نحن المسلمين . فالمسلمون يدعون الإسلام ويأتون بما يبرأ منه الإسلام ، ويعتقدون أن ذلك من صميمه ، وكما يوجد في كثير من بلاد المسلمين من الجهل والفقر والذل ، فظن الكفار أن هذا هو الإسلام فنفروا منه وسخروا به ، فكان ذلك فتنة عظيمة لهم ، وحجابا كثيفا إلا من نظر منهم نظر علم وإنصاف ، فإنه يعرف أن هذا ليس هو الإسلام . والكفار يراهم المسلمون الجهال في عز وسيادة وتقدم علمي وعمراني ، فينظرون إلى تلك الناحية ، فيندفعون في تقليدهم في كل شيء ، حتى معائبهم ومفاسدهم ، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3269),صحيح مسلم العلم (2669),مسند أحمد بن حنبل (3/84). لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ . فصار المسلمون يزدرون أعز عزيز لديهم إلا من رحم الله ونظر بعين العلم ، وعرف أن كل ما عندهم من علم هو عندنا ، وفي ديننا وتاريخنا ، وما عندهم من شر فهو شر على حقيقته . فكانوا فتنة للمسلمين الذين تهمهم المظاهر ، فتسلبهم إداركهم فلا يفرقوا بين اللب والقشور انظر مجالس الذكر والتأنيس لابن باديس : 67 ، دار الفكر - الطبعة الثانية . .
فتنة اتباع المتشابه :
يجب على كل مسلم الإيمان بالله جل وعلا ، وبأسماه وصفاته وأنه يجب الإيمان بها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولكن هناك من انحرف عن هذا الطريق واتبع ما تشابه ، كما قال تعالى : سورة آل عمران الآية 7 هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ، وسبب نزول هذه الآية : أن وفدا من نصارى نجران تخاصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ يقصدون عيسى بن مريم انظر أسباب النزول ص : 128 . ، قال : بلى ، قالوا : فحسبنا ما أنزل الله - عز وجل - سورة آل عمران الآية 7 فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ ، ثم إن الله جل ثناؤه أنزل : سورة آل عمران الآية 59 إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ جامع البيان عن تأويل القرآن 3 / 177 ، وانظر أسباب النزول للواحدي 128 . ، وقيل غير ذلك . وقال آخرون : بل عنى الله - عز وجل - بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يتأوله من بعض آي القرآن المختلفة التأويلات ، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك ، إما في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - جامع البيان عن تأويل القرآن 3 / 177 . .
وهذا ما يدل عليه عموم الآية وإن كانت نزلت بسبب خاص فأهل الضلال الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم كما قال مجاهد : أهل البدع والشبهات يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل ، كما قال فيهم الإمام أحمد : هم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب يحتجون بالمتشابه من الكلام ويضللون الناس بما يشبهون عليهم مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 13 / 142 . .(4/228)
قال ابن تيمية : ( المتشابه الموجود في القرآن تشابه نسبي فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره ) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 13 / 144 . . يؤيد هذا قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531). الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا إن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب . ومن قال من السلف أن المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فقد أصاب أيضا ومراده بالتأويل ما استأثر الله بعلمه مثل وقت الساعة ومجيءأشراطها ومثل كيفية نفسه وما أعده في الجنة لأوليائه مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 13 / 144 . . أما الذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : سورة البقرة الآية 163 وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ . سورة طه الآية 14 إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي . وغير هذه الآيات ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ؛ ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 13 / 277 . . فمن الفتنة بالمتشابه ما أحدثه أهل الكلام في أسماء الله وصفاته حيث أولوا وحرفوا الكلم عن مواضعه فمما أنكروا السمع فقالوا : إنه لم يجئ خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله يسمع بسمع ويبصر ببصر) رد الإمام الدارمي على بشر المريسي : 46 . . كما أنكروا العلم والقدر
فتن الشهوات :
فتن الشهوات هي المعارضة للإرادة وقد تجر فتنة الشهوة إلى شبهة ، فالشهوات هي الغي واتباع الهوى فالإنسان إذا تمادى مع نفسه وأطلق لها العنان في كل ما تشتهيه فإن ذلك سيجره إلى تلبية الهوى حتى في الأمور الاعتقادية أو الأحكام الشرعية مما يجعله يبني أحكاما توافق هوى نفسه وشهوته فيقع في الشبهات .
ومن فتن الشهوات :
1 - فتنة الأهل والأحباب :
فالإنسان يخشى على أهله وأحبابه أن يصيبهم الضرر بسببه وهو لا يملك الدفاع عنهم وهم ينازعونه ما هو فيه من أمر الدين ليتنازل من أجلهم باسم الحب والقرابة وصلة الرحم ولكن هل يستجيب لهم أم لا ؟ إن هذا يتوقف على قوة إيمانه وضعفه فهذا سعد بن أبي وقاص كما تقدم حاولت أمه أن تفتنه عن دينه ولكنه أعرض عنها مع ما كانت تكن له من الرعاية والحب فكان في رغد من العيش يلبس أحسن الثياب يتقلب في النعمة والثراء ولكن لما دخل الإيمان في قلبه لم يعبأ بشيء من ذلك فهو يقول : صحيح البخاري المناقب (3522),سنن الترمذي الزهد (2365). لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى يضع أحدنا كما تضع الشاة . والله - عز وجل - يقول : سورة التغابن الآية 15 إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ . ويقول سبحانه : سورة الأنفال الآية 28 وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
وعداوتهم قد تكون بالمحاربة والمبارزة كما حصل لبعض الصحابة مع أهلهم في بدر فهذه العداوة لأجل العقيدة والدين وقد تكون العداوة والفتنة ليست ظاهرة كذلك وإنما هي سبب لغفلته وتثاقله من أمر الله من الجهاد وغيره .
وعن أبي بريدة قال : سنن الترمذي المناقب (3774),سنن أبو داود الصلاة (1109),سنن ابن ماجه اللباس (3600),مسند أحمد بن حنبل (5/354). كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ، ثم قال : صدق الله : سورة الأنفال الآية 28 وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما .
والإنسان بطبعه يحب الجاه والأموال والأولاد والرياسة فهذه من الأحباب التي قد يفتتن بها الإنسان وهي من متاع الحياة الدنيا الزائل لذلك حذرنا الله من الدنيا عموما فقال سبحانه : سورة العنكبوت الآية 64 وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ .(4/229)
ومن فتن الشهوات : فتنة الجاه وحب التعالي كما امتنع بعض كفار قريش عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جحدا لرسالته مع اعترافهم بها بقرارة أنفسهم كما قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 47 وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ . والجحود لا يكون إلا بعد المعرفة انظر تفسير الطبري 21 / 4 . . وكان من أسباب ذلك خوفهم من نزول جاههم وسلطانهم (فقد ورد أن أبا جهل بن هشام حين جاءه الأخنس وقال له : يا أبا الحكم ما رأيتك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ماذا سمعت ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاذبنا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه ، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه) سيرة ابن هشام : 1 / 337 . . وكذلك فرعون حبه للتعالي والعدوان أعماه عن اتباع موسى فهذه الفتنة أوقعته في فتنة أشد ووقع في فتنة الشبهة حتى وصل به الأمر أنه ادعى الربوبية حيث قال تعالى عنه : سورة النازعات الآية 24 فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 39 وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ .
ومن فتن الشهوات كذلك : فتنة قوم لوط كما قال تعالى عنهم : سورة العنكبوت الآية 29 أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
ومن فتن الشهوات كذلك : حب الوطن والركون إلى الراحة والدعة والخوف على الأموال لذلك حذرنا الله - عز وجل - من هذه أن تكون سببا في تركنا لأمر الله ، قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 56 يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ سورة العنكبوت الآية 57 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ . وجماع ذلك كله في حب الدنيا وزهرتها كما قال - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742),سنن الترمذي الفتن (2191),سنن ابن ماجه الفتن (4000),مسند أحمد بن حنبل (3/61). إن هذه الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء . والله - عز وجل - لما أمر المؤمنين بترك الأوطان والاعتماد على الله في طلب الرزق وعدم الخوف من الموت حذرنا من الدنيا وبين أنها كظل زائل مهما طال . قال تعالى : سورة العنكبوت الآية 64 وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . وما يكون من فتن الشهوات فتنة الإغراء من قبل الكفار فهم يغرون بما عندهم من أموال ومن جاه وغير ذلك كما حدث للرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما بدأ بالدعوة فقد ورد أن عتبة بن ربيعة قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - : يا بن أخي إنك منا حيث علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت بمن مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال : فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد اسمع ، قال : يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا سيرة ابن هشام : 1 / 313 . . إلى آخر ما عرض عليه ولكن الرسول لم تغره تلك العروض واستمر على دعوته . ومن إغراء الكفار كما كانوا يغرون المسلمين قال الله تعالى عنهم : سورة العنكبوت الآية 12 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . وهذا إغراء معنوي بتحمل ما يكون على من ترك هذا الدين .
وهذه شبهة قد تعترض من قصر علمه وإرادته فيصدقها وينخرط معهم في غيهم وضلالهم .
ومن إغرائهم ما حدث للنفر الذين خلفوا حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فقد جاء إلى كعب بن مالك كتاب من ملك غسان قال كعب : فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت لما قرأتها : وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها .(4/230)
الحديث . وفتنة الشهوات إذا تمادى بها الإنسان قد تقوده إلى فتنة الشبهات فيهلك وقد تجتمع الفتنتان كما في أشد فتنة حذرنا منها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي فتنة المسيح الدجال كما قال - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2946),مسند أحمد بن حنبل (4/19). ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال . والمراد أكبر فتنة : أعظم شوكة النووي على مسلم : 18 / 87 . . فإن أمره قد يشتبه على من في قلبه مرض فيظن أن ما معه من القوة تخوله بأن يكون هو الرب ، فيكفر بالله ولذلك حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من شبهاته فقال : من سمع بالدجال فلينأ منه فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزال به لما معه من الشبه حتى يتبعه . كما أن ما بعده من ملاذ الدنيا وما يتبعه منها شهوة يفتن بها الإنسان فقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3266),صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2934),سنن أبو داود الملاحم (4315),سنن ابن ماجه الفتن (4071),مسند أحمد بن حنبل (5/405). لأنا أعلم بما مع الدجال منه ، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج ، فإما أدركن أحدا فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم يطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد ، وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة ، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب(4/231)
ومن شدة فتنته أن الأنبياء كانوا يخوفون قومهم منه فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3159). قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال : إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولكن أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ، تعلموا تعلموا بمعنى اعلموا ، النووي على مسلم : 18 / 56 . إنه أعور وإن الله تبارك ليس بأعور . حتى إن الصحابة حينما خوفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنوه قد خرج فعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937),سنن الترمذي الفتن (2240),سنن أبو داود الملاحم (4321),سنن ابن ماجه الفتن (4075),مسند أحمد بن حنبل (4/182). ذكر رسول الله (الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم ؟قلنا يا رسول الله ، ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط قطط : بفتح القاف والطاء أي شديد جعودة الشعر مباعد للجعود المحبوبة ، النووي على مسلم : 18 / 65 . . عينه طافية إني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث العيث الفساد أو أشد والإسراع فيه ، النووي على مسلم : 18 / 65 . يمينا وعاث شمالا ، يا عباد الله فاثبتوا ، قلنا : يا رسول الله ، وما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوما : يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم ، قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا اقدروا له قدره ، قلنا يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتمر عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا ذرا : هي الآجال والأسنمة ذروة . . وأسبغه ضرعا وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحوا ممحلين ليس بأيديهم من أموآله م شيء ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب هي ذكور النحل وعبر عنها لأنه إذا طار الذكر تبعته جماعته . النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض أي يجعل بين القطعتين مقدار رمية الغرض . ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه يضحك ، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين مهرودتين : أي ثوبين مصبوغين بورس ثم زعفران ، وقيل شقتان والشقة نصف الملاءة . واضعا كتفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه بباب لد فيقتله . الحديث . وقد ورد عن المصطفى (أحاديث كثيرة في التحذير منه نسأل الله أن يعصمنا من فتنته . وما يتعرض له الإنسان من المصائب والآلام والأحزان من فقد مال أو ولد أو جاه أو نحو ذلك فإنها ليست داخلة في النوعين أي الشبهات والشهوات ، فإنها بالنسبة للمؤمن الذي يصبر عليها أجر وغنيمة ، أما ما تحدثه من جزع وتسخط فإن هذا مرض بالقلب قد يدخل معه شبهة تصده عن دين الله كتسخط القدر وإنكاره أو أنها تدعوه إلى شهوة مما حرم الله - عز وجل - كالسرقة واغتصاب حقوق الغير إذا فقد ماله . فنسأل الله أن يعصم المسلمين من مضلات الفتن ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم مطابقة لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
==============
الجهر بالدعوة وأساليب المشركين في محاربتها
المبحث الأول
الجهر بالدعوة
بعد الإعداد العظيم الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه, وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية, وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى, حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
[الشعراء: 214، 215].
فجمع قبيلته صلى الله عليه وسلم وعشيرته, ودعاهم علانية إلى الإيمان بإله واحد، وخوَّفهم من العذاب الشديد إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النار، وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن نفسه( ).(4/232)
عن ابن عباس ( قال: لما نزلت ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ )( ). وفي رواية- ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: «أنقذوا أنفسكم من النار....» ثم قال: «يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحما سأبُلها ببلالها» ( ).
كان القرشيون واقعيين عمليين، فلما رأوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم.
ولما تمت هذه المرحلية الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين, قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفًا بمقام النبوة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية والعلوم الوهبية، وموعظة وإنذارًا، في حكمة وبلاغة، لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوات، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم( ) ولكن أبا لهب قال: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟.. وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمة أسس الإعلام, فقد اختار مكانًا عاليًا وهو الجبل ليقف عليه, وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ما تفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث, لتزيد من عمليات الانتشار الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق؛ وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد علم رجال الإعلام والدعوة أن الاتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة أساسية على الثقة التامة بين المرسل والمستقبل, أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة، كما أن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقا لا كذب فيه( ).
«ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة, قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص, لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش؛ لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن الكريم اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية»( ) فقد جاءت الآيات المكية تبين عالمية الدعوة، قال تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) [الفرقان: 1].
وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [سبأ: 28].
ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم ويتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير( ), حين نزول قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) [الحجر: 94-97].
كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه, وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسبًا عظيمًا للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها, ممن كان يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوي زعماء الكفر والشرك.
كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس( ).
أهم اعتراضات المشركين:
كانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين.
وفيما يلي تفصيل لهذه الاعتراضات والرد عليها:(4/233)
أولاً: اعتراضهم على الوحدانية:
لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شيء: قال تعالى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [لقمان: 25]. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، قال تعالى: ( أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ )( ) [الزمر: 3].
وقد انتقلت عبادة الأصنام إليهم من الأمم المجاورة لهم، ولهذا قابلوا الدعوة إلى التوحيد بأعظم إنكار وأشد استغراب( ) قال تعالى: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) [ص: 4-7].
ولم يكن تصورهم لله تعالى ولعلاقته بخلقه صحيحًا، إذ كانوا يزعمون أن لله تعالى صاحبة من الجن، وأنها ولدت الملائكة، وأن الملائكة بنات الله -تعالى الله عما يقولون
علوًّا كبيرًا.
فكانت الآيات تنزل مبيِّنة أن الله عز وجل خلق الجن والملائكة كما خلق الإنس، وأنه لم يتخذ ولدًا، ولم تكن له صاحبة, قال تعالى: ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنعام: 100-101].
ومبينةٌ أن الجن يقرون لله بالعبودية، وينكرون أن يكون بينهم وبينه علاقة نسب: ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) [الصافات: 158].
ومطالبةً المشركين باتباع الحق وعدم القول بالظنون والأوهام: ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ( وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) [النجم: 27-28].
وموضحةً أنه لا يعقل أن يمنح الله المشركين البنين، ويكون له بنات، وهن أدنى قيمة في رأيهم من البنين: ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) [الإسراء: 40].
ومحملةً المشركين مسئولية أقوالهم التي لا تقوم على دليل: ( وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) [الزخرف: 19].
ثانيًا: كفرهم بالآخرة:
أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ( أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ ) [سبأ: 7-8] فقد كانوا ينكرون بعث الموتى: ( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )
[الأنعام: 29].
ويقسمون على ذلك بالأيمان المغلظة. ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ) [النحل: 38، 39] وكانوا يظنون أنه لا توجد حياة في غير الدنيا, ويطلبون إحياء آبائهم ليصدقوا بالآخرة: قال تعالى: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) [الجاثية: 24-27].(4/234)
وفاتهم أن الذي خلقهم أول مرة قادر على أن يحييهم يوم القيامة, قال مجاهد وغيره: جاء أُبي بن خلف( ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الآيات( ) ( أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس: 77-79].
كانت أساليب القرآن الكريم في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، فقد ذكَّر الله عباده أن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل, وأنزل الكتب, لبيان الطريق الذي به يعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد أن يموت الطالح والصالح, ولا بد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته, قال تعالى: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ( إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ) [القلم:35-38] إن الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثًا وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولا بين التقي والفاجر( )، قال تعالى ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )[ص: 27، 28].
وضرب القرآن الكريم للناس الأمثلة في إحياء الأرض بالنبات, وإن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية ( فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الروم: 50].
وذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، فأخبر الناس في كتابه عن أصحاب الكهف, بأنه ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين, ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة, قال تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) [الكهف: 12]. ( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) [الكهف: 19]. ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) [الكهف: 25] وغير ذلك من الأدلة والبراهين التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناظراته مع زعماء الكفر والشرك.
ثالثًا: اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم:(4/235)
اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتصورون أن الرسول لا يكون بشرا مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون ملكا، أو مصحوبا بالملائكة: ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) [الإسراء: 94] ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ ) [الأنعام:8] ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) [الأنعام:9] أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً من الملائكة لكان على هيئة الرجل يمكنهم مخاطبته والأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشر( ), وكانوا يريدون رسولاً لا يحتاج إلى طعام وسعى في الأسواق: ( وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ( أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) [الفرقان: 7، 8] وكأنهم لم يسمعوا بأن الرسل جميعًا كانوا يأكلون ويسعون ويعملون ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا )( ) [الفرقان: 20].
ويريدون أن يكون الرسول كثير المال كبيرًا في أعينهم: ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) [الزخرف: 31]. يريدون الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف( ).
ونسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجنون: ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الحجر: 6،7] ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) [الدخان: 13، 14]
ورد الله عليهم بقوله: ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [القلم: 2]
كما نسبوه إلى الكهانة والشعر: ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) [الطور: 29، 30].
كما أنهم كانوا يعلمون أنه لا ينظم الشعر، وأنه راجح العقل، وأن ما يقوله بعيد عن سجع الكهان وقول السحرة( ).
ونسبوه صلى الله عليه وسلم إلى السحر والكذب: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) [ص: 4]. ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) [الإسراء: 47، 48]، وكانت الآيات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفند مزاعم المشركين، وتبين له أن الرسل السابقين استهزئ بهم، وأن العذاب عاقبة المستهزئين: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) [الأنعام: 10] وتعلمه أن المشركين لا يكذبون شخصه، ولكنهم يكذبون رسالته، ويدفعون آيات الله بتلك الأقاويل( ): ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33].
رابعًا: موقفهم من القرآن الكريم:
كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من الله واعتبروه ضربًا من الشعر الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من قارن بين القرآن وبين أشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [يس: 69، 70] وكيف يكون القرآن شعرًا وقد نزل فيه ذم للشعراء الذين يضلون الناس, ويقولون خلاف الحقيقة( ). ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ) [الشعراء: 224 -226].
فهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وليس شبيهًا بقول الشعراء، ولا بقول الكهان: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ( وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ( تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) [الحاقة: 40-43].(4/236)
وقد أدرك الشعراء قبل غيرهم أن القرآن الكريم ليس شعرًا( ) ومن فرط تكذيبهم وعنادهم قالوا: إن محمدًا يتعلم القرآن من رجل أعجمي( ) كان غلامًا لبعض بطون قريش، وكان بياعًا يبيع عند الصفا، وربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف من العربية إلا اليسير، بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه، ولهذا قال تعالى ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) [النحل: 103].
أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن من فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل( ).
واعترضوا على طريقة نزول القرآن، فطلبوا أن ينزل جملة واحدة، مع أن نزوله مفرقًا أدعى لتثبيت قلوب المؤمنين به وتيسير فهمه وحفظه وامتثاله: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [الفرقان: 32].
فلما اعترض المشركون على القرآن, وعلى من أنزل عليه بهذه الاعتراضات
تحداهم الله بأن يأتوا بمثله، وأعلن عن عجز الإنس والجن مجتمعين عن ذلك: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [الإسراء: 88].
بل هم عاجزون عن أن يأتوا بعشر سور مثله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ) [هود: 13، 14].
وحتى السورة الواحدة هم عاجزون عنها: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [يونس: 37-38].
فعجزهم مع أن الفصاحة كانت من سجاياهم، وكانت أشعارهم ومعلقاتهم في قمة البيان دليل على أن القرآن كلام الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، وكلامه لا يشبه كلام المخلوقين( ).
المبحث الثاني
سنة الابتلاء
الابتلاء - بصفة عامة- سنة الله في خلقه, وهذا واضح في تقريرات القرآن الكريم, قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [الأنعام: 165] وقال سبحانه: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ) [الكهف: 7] وقال جل شأنه: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [الإنسان: 2].
الابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب, وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف, فقد شاء الله تعالى أن يبتلي المؤمنين ويختبرهم، ليمحص إيمانهم ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي ( حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحًا وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم, فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة( ).
حكمة الابتلاء وفوائده:
للابتلاء حكم كثيرة من أهمها:
1- تصفية الصفوف:
جعل الله الابتلاء وسيلة لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل؛ وذلك لأن المرء قد لا يُكشف في الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت: 2].
2- تربية الجماعة المسلمة:
وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله: «ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة, التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف, والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها, إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون»( ).
3- الكشف عن خبايا النفوس:(4/237)
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر, فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه»( ).
4- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات, وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام, وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد, فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار»( ).
5- معرفة حقيقة النفس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق ومسارب الضلال»( ).
6- معرفة قدر الدعوة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من غث وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال»( ).
7- الدعاية لها:
فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ثم يأتيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم( ). وسنرى ذلك في الصفحات القادمة إن شاء الله.
8- جذب بعض العناصر القوية إليها:
وأمام صمود المسلمين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية تكبر عند هذه الشخصيات الدعوة وحاملوها، فيسارعون إلى الإسلام دون تردد، وأعظم الشخصيات التي يعتز بها الإسلام دخلت إلى هذا الدين من خلال هذا الطريق( ).
9- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة» ( ) فقد يكون للعبد درجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمله فيبتليه الله تعالى حتى يرفعه إليها، كما أن الابتلاء طريق لتكفير سيئات المسلم( ).
كما أن للابتلاء فوائد عظيمة منها: معرفة عز الربوبية وقهرها، معرفة ذل العبودية وكسرها، الإخلاص، الإنابة إلى الله والإقبال عليه، التضرع والدعاء، الحلم عمن صدرت عنه المصيبة، العفو عن صاحبها، الصبر عليها، الفرح بها لأجل فوائدها، الشكر عليها، رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها، ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد. ومن أراد التوسع فليراجع كتاب فقه الابتلاء( ).
==============
فقه الإبتلاء (1)
يقول الشيخ حفظه الله ونفع به في كتابه النافع : ( المقالات السلفية في العقيدة والدعوة والمنهج والواقع ) :
(( لقد فقه سلفنا الصالح مسألة الابتلاء , فكان دافعا للثبات , وطاقة عطاء لا تنفد , وقوة عزم لا تنقطع , ودونك معالم فقه الابتلاء عند سلفنا الصالح :
1- الابتلاء ضرورة إيمانية :
قال تعالى : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) العنكبوت 2 .
لابد أن يمتحن الله أهل الإيمان ويبتليهم حتى يميز الصادق من الكاذب , ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى البالغة أن نصب الابتلاء سببا مفضيا إلى تمييز الخبيث من الطيب , والشقي من السعيد , ومن يصلح مما لا يصلح : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) آل عمران 179 .
ويخلص الصادق من الوهن البشري الذي لا تسلم منه نفس بشرية , فتسمو همة فوق الألم , فيدرك أنه جسر إلى المعالي .
لا تحسبنّ المجد تمرا أنت آكله....لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
__________
(1) - من فوائد فضيلة الشيخ سليم الهلالي حفظه الله تعالى(4/238)
ويبتلى المرء على قدر دينه , كلما اشتد إيمانه عظم ابتلاؤه , حتى يخلص من شرور نفسه وسيئات أعماله , ويطهر طيب نفسه بكير الامتحان , كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بكير النيران , ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( أشد الناس بلاء الأنبياء , ثم الأمثل فالأمثل : يبتلى الرجل على حسب دينه , فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه , وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه , فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشيي على الأرض ما عليه من خطيئة ) صحيح -أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وغيرهم عن سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه .
ولذلك , فالمؤمن ينظر إلى الابتلاء أنه نعمة ورحمة من الله على عباده , يتعهدهم بالابتلاء المرة بعد المرة , لينقيهم , ويطهرهم , ويذهب عنهم رجز الشيطان , ويربط على قلوبهم , ويثبت به الأقدام
وكذلك ينظر إليه أنه دليل رضى ومحبة من الله لعباده , فإن الله إذا أحب عبدا ابتلاه , وكلما صلب إيمان المرء وقوي يقينه , اشتد بلاؤه , فمن رضي , فله الرضى , والعكس بالعكس .
2- الابتلاء سنة من سنن الله الجارية في الأمم الخالية :
قال تعالى : ( ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) العنكبوت 3
3- الابتلاء مقدمة التمكين :
لما كان الابتلاء ضرورة إيمانية , فإن المؤمن يحصل له الألم ابتداء , ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة , وسئل الشافعي رحمه الله : أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكن حتى يبتلى .
وقد ابتلى الله المؤمنين , فلما صبروا مكّنهم في الأرض وستخلفهم : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيآتنا يوقنون ) السجدة 24 .
فلا يظن عاقل أن أحدا يخلص من الألم ألبته , وإنما يتفاوت أهل الألم في العقول , فأوسطهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير , ثم تعقبه لذة في الدنيا والآخرة .
وكما أن الابتلاء سنة جارية , كذلك التمكين والاستخلاف , كما قال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) النور 55 .
4- عدم استعجال التمكين واستدعاء البلاء :
المؤمن يتأنى في الأمور , وينظر في عواقبها , لأن الفقيه من نظر العواقب , ولم تستفزه البداءات , ولذلك , فهو لا يستعجل التمكين وإن جاشت عاطفته , وغلبت حماسته , لأنه يعلم أنه لا بد من ابتلاء ابتداء , وهو لا يتمنى الابتلاء ولا يستدعيه , لأن في طياته فتنة مجهولة العواقب لا يدري الإنسان أيثبت أم ينكص على عقبيه ؟ عياذا بالله .
ويدل على ذلك الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , التي يسأل الله فيها العفو والعافية والمعافاة ... من البلاء والابتلاء .
وكذلك الأحاديث التي فيها النهي عن تمني لقاء العدو , أو المرض وغير ذلك من البلاء .
عن حذيفة رضي الله عنه قال : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه . قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء ما لا يطيق .(1)
....واعلم أيها الأخ المحب , لا زلت موصولا بما تحب : أن فقه هذه المسألة مداره على حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة . قلنا له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟.
قال : ( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض , فيجعل فيها , فيجاء بالمنشار , فيوضع على رأسه , فيشق باثنتين , وما يصده ذلك عن دينه , ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب , وما يصده ذلك عن دينه .
والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه , ولكنكم تستعجلون ) أخرجه البخاري .
وبيان ذلك :
أ- إخباره عن ابتلاء مؤمني الأمم الماضية يشير إلى أنه ضرورة إيمانية , وأنه سنة جارية في المؤمنين على مر العصور .
ب- إخباره بانتشار الدين وانتصاره يدل على أن الابتلاء مقدمة التمكين , وأن المؤمن لا يمكن حتى يبتلى .
ت- قوله : ( ولكنكم تستعجلون ) تحذير من استعجال التمكين قبل النضوج واستدعاء البلاء .
والله أعلى وأعلم وأعز وأكرم .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- حسن لغيره - أخرجه الترمذي وابن ماجه واحمد والبغوي وابو الشيخ في ((الامثال)) والقضاعي في ((الشهاب)) وإسناده ضعيف , لأن علي بن زيد بن جدعان ضعيف , والحسن البصري مدلس , وقد عنعنه .
وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه الطبراني في الكبير والاوسط , والبزار في مسنده وابوالشيخ في الامثال . قلت : فالحديث حسن لغيره , والله أعلم . ))
والحمد لله رب العالمين .
=================(4/239)
فقه الابتلاء في ضوء حديث خباب بن الأرت-رضي الله عنه -
للشيخ : أبو أسامة سليم الهلالي
لقد فقه سلفنا الصالح مسألة الابتلاء ؛ فكان دافعا للثبات ، وطاقة عطاء لا تنفد ، وقوة عزم لا تنقطع ، ودونك معالم فقه الابتلاء عند سلفنا الصالح في ضوء حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه .
1- الابتلاء ضرورة ايمانية .
قال تعالى : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) - العنكبوت:2 .
لا بد أن يمتحن الله أهل الإيمان ويبتليهم حتى يميز الصادق من الكاذب ، ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى البالغة أن نصب الابتلاء سببا مفضيا إلى تميز الخبيث من الطيب ، والشقي من الغوي ، ومن يصلح مما لا يصلح : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) آل عمران:179 .
ويخلص الصادق من الوهن البشري الذي لا تسلم منه نفس بشرية ؛ فتسمو همته فوق الألم فيدرك أنه جسر إلى المعالي فلن يدرك المرء المجد حتى يلعق الصبر.
ويبتلى المرء على قدر دينه كلما اشتد إيمانه عظم ابتلاؤه حتى يخلص من شرور نفسه وسيئات أعماله ، ويظهر طيب نفسه بكير الامتحان ؛ كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بكير النيران ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل : يبتلى الرجل على حسب دينه ؛ فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقه ابتلي حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه من خطيئة " .
ولذلك فالمؤمن ينظر إلى الابتلاء أنه نعمة ورحمة من الله على عباده يتعهدهم بالابتلاء المرة بعد المرة ؛ لينقيهم ، ويطهرهم ، ويذهب عنهم رجز الشيطان ، ويربط على قلوبهم ، ويثبت به الأقدام .
وكذلك ينظر إليه أنه دليل رضى ومحبة من الله لعباده ، فإن الله إذا أحب عبدا ابتلاه ، وكلما صلب إيمان المرء وقوي يقينه اشتد بلاؤه فمن رضي فله الرضى ، والعكس بالعكس .
2- الابتلاء سنة من سنن الله الجارية في الأمم الخالية .
قال الله تعالى : ( ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) العنكبوت : 3 .
3- الابتلاء مقدمة التمكين .
لما كان الابتلاء ضرورة إيمانية ؛ فإن المؤمن يحصل له الألم ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، وسئل الشافعي رحمه الله : أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال : لايمكن حتى يبتلى .
وقد ابتلى الله المؤمنين فلما صبروا مكنهم في الأرض ، واستخلفهم ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) : السجدة 24 ، فلا يظن عاقل أن أحدا يخلص من الألم ألبته ، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول فأوسطهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير ثم تعقبه لذة في الدنيا والآخرة .
وكما أن الابتلاء سنة جارية كذلك التمكين والاستخلاف كما قال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) النور: 55 .
4- عدم استعجال التمكين واستدعاء البلاء.
المؤمن يتأنى في الأمور ، وينظر في عواقبها ، لأن الفقيه من نظر في العواقب ، ولم تستفزه البداءات ، ولذلك فهو لا يستعجل التمكين وإن جاشت عاطفته ، وغلت حماسته؛لأنه يعلم أنه لا بد من الابتلاء ابتداء، وهو لا يتمنى الابتلاء ولا يستدعيه ؛ لأن في طياته فتنة مجهولة العواقب لا يدري الإنسان أيثبت أم ينكص على عقبيه ؟ عياذا بالله ويدل على ذلك الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يسأل الله فيها العفو والعافية والعافاة من البلاء والابتلاء .
وكذلك الأحاديث التي فيها النهي عن تمني لقاء العدو ، أو المرض أو غير ذلك من البلاء .
عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " .
قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ ".
قال " يتعرض من البلاء ما لا يطيق " .
وما تقدم من فقه هذه المسألة مداره على حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ،وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة . قلنا له : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعوا الله لنا ؟ قال : " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض ؛ فيجعل فيها ؛ فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه .
ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ،وما يصده ذلك عن دينه .
والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " .
وبيان ذلك :
أ- إخباره عن ابتلاء مؤمني الأمم الماضية يشير إلى أنه ضرورة إيمانية ، وإنه سنة جارية في المؤمنين على مر العصور .
ب- إخباره بانتشار الدين وانتصاره يدل على أن الابتلاء مقدمة التمكين ، وأن المؤمن لا يمكن حتى يبتلى .
ج- قوله " ولكنكم تستعجلون " تحذير من استعجال التمكين قبل النضوج واستدعاء البلاء . والله أعلم .(4/240)
================
الابتلاء
الحمد لله القائل: {وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ (155) الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيهِ راجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ}. [البقرة:155-157]. والصلاة والسلام على رسول الله الذي ابتُلي بأنواع من البلاء، فصبر وشكر، وعلى آله وصحابته المبتلين الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلا يخفى على أحدٍ أنَّ الحياة الدنيا مليئة بالمصائب والبلاء، وأنَّ كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ عرضة لكثيرٍ منها: فمرة يُبتلى بنفسه، ومرة يبتلى بماله، ومرة يبتلى بحبيبه، وهكذا تُقلَّب عليه الأقدار من لدن حكيم عليم. وإذا لم يحمل المؤمن النظرة الصحيحة للبلاء فسوف يكون زللُه أكبر من صوابه، ولا سيما أن بعض المصائب تطيش منها العقول لضخامتها وفُجاءَتها - عياذاً بالله.
ومن هنا كانت كتابة هذه الرسالة لتسلية كل مصاب مهما بلغ مصابه، أبيِّن له من خلالها بعض حِكم البلاء العظيمة التي ربما غفل عنها بعض الناس - هداهم الله- ونسوا أو تناسوا أن الله لا يبتلينا ليعذبنا، بل ليرحمنا. وأن على المؤمن أن ينظر إلى البلاء- سواءً كان فقداناً للمال أو الصحة أو الأحبة- من خلال نصوص الكتاب والسنة على أنه:
أولاً: امتحان وابتلاء:
نعم امتحان وابتلاء، فنحن في قاعة امتحان كبيرة نُمْتحن فيها كل يوم تدعى الحياة، فكل ما فيها امتحان وابتلاء: المال فيها امتحان، والزوجة والأولاد امتحان، والغنى والفقر امتحان، والصحة والمرض امتحان، وكلنا ممتحن في كل ما نملك وفي كل ما يعترينا في هذه الحياة حتى نلقى الله، قال تعالى: {كُل نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَنَبلُوكُم بِالشر وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ}. [ الأنبياء: 35 ].
وقال جل ذكره: {أَحَسِبَ الناسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنا وَهُم لاَ يُفتَنُونَ (2) وَلَقَد فَتَنا الذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَن اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَن الكَاذِبِينَ}. [ العنكبوت: 2-3 ].
فأنت أيها المعافى ممتحن، ولكن ما أحسست أنك في قاعة امتحان حتى ابتُليت، وأنت أيها المريض ممتحن، ولكن ما أحسست أنك في قاعة امتحان حتى شُفيت.
وليس فينا من هو أكبر من أن يمتحن. وكيف لا وفي الحديث الصحيح: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل…" [ رواه البخاري ]. كما أنه ليس فينا من يملك رفض هذا الامتحان. ولكن فينا من يُمتحن بالبلاء فينجح بالصبر والإيمان والاحتساب، وفينا من يمتحن بالبلاء فيرسب بالجزع والاعتراض على الله - عياذاً بالله.
ورحم الله الفضيل بن عياض حين قال: " الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه ".
ثانياً: قسمة وقدر:
إنَّ الله تعالى قسم بين الناس معايشهم وآجالهم، قال تعالى: {نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم معِيشَتَهُم في الحَياةِ الدنيَا}. [الزخرف: 32 ]. فالرزق مقسوم، والمرض مقسوم، والعافية مقسومة، وكل شيء في هذه الحياة مقسوم. فارضَ بما قسم الله لك يا عبد الله، ولا تجزع للمرض، ولا تكره القدر، ولا تسب الدهر، فإن الدقائق والثواني والأنفاس كلها بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء، فيُمرِض من يشاء، ويعافي من يشاء، ويبتلي من يشاء {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ}. [الأعراف: 54]. - بلى سبحانه وتعالى.
وما دام الأمر كذلك فسلِّم أمرك لله أيها المبتلى، واعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن من يريد أن تكون الحياة على حال واحدة، فكأنما يريد أن يكون قضاء الله تعالى وفق هواه وما يشتهيه. وهيهات هيهات.
يا صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ أبشِر بخيرٍ فإنَّ الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه … لا تيأسنَّ فإنَّ الكافي الله
الله يُحدِث بعد العسر ميسرة … لا تجزعنَّ فإن القاسم الله
إذا بُليت فثِقْ بالله وارضَ به … إنَّ الذي يكشف البلوى هو الله
واللهِ ما لكَ غير الله من أحدٍ … فحسبُك الله في كلٍ لك الله
ثالثاً: خير ونعمة بشرط:
وأياً كانت هذه القسمة وهذا الامتحان فهو خير للمؤمن وليس لأحد غيره، ولكن بشرط الشكر على النعماء، والصبر على البلاء. وفي الحديث الصحيح: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له" [ رواه مسلم ].
وما أصدق الشاعر إذ يقول:
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت.....ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وأجمل من ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وَيَجعَلَ اللهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً}. [النساء:1] وقوله: {وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لكُم وَعَسَى أَن تُحِبوا شَيئًا وَهُوَ شَر لكُم وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لاَ تَعلَمُونَ }.(4/241)
لذا فاعلم يا عبد الله أنه إنَّما ابتلاك الذي أنعم عليك، وأخذ منك الذي أغدق عليك. وليس كل ما تكرهه نفسك فهو مكروه على الحقيقة، ولا كل ما تهواه نفسك فهو نافع محبوب، والله يعلم وأنت لا تعلم.
لئن كان بعض الصبر مُرًّا مذاقُه... فقد يُجتنى من بعده الثمرُ الحلوُ
يقول بعض السلف: "إذا نزلت بك مصيبة فصبرت، كانت مصيبتك واحدة. وإن نزلت بك ولم تصبر، فقد أُصبت بمصيبتين: فقدان المحبوب، وفقدان الثواب". ومصداق ذلك من كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَمِنَ الناسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَن بِهِ وَإِن أَصَابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدنيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبِينُ}. [الحج: 11 ].
كُن في أمورك مُعرضاً............ وكل الأمور إلى القَضَا
وأبشِر بخيرٍ عاجلٍ............ تنسى به ما قد مضى
فلرُبَّ أمرٍ مسخطٍ............ لك في عواقبه الرضا
رابعاً: محطة تمحيص وتكفير:
نعم، الابتلاء محطة نتوقف فيها برهة من الزمن فإذا بأدران الذنوب والمعاصي تتحاتّ منا كما يتحات ورق الشجر؛ إذ المؤمن يُثاب على كل ضربة عرق، وصداع رأس، ووجع ضرس، وعلى الهم والغم والأذى، وعلى النَصَب والوَصَب يصيبه، بل وحتى الشوكة يشاكها. وفي الحديث: "ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ - وهما المرض والتعب - ولا همٍ ولا حزنٍ ولا غمٍ ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه" [ متفق عليه ].
فالأجر ثابت يا عبد الله، على كل ألمٍ نفسي أو حسي يشعر به المؤمن إذا صبر واحتسب. فقد جاء في كتب السنة "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب رضي الله عنها، فقال لها: ما لكِ تزفزِفين ؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى فإنها تُذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" [ رواه مسلم ]. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرضٍ فما سواه إلا حطَّ الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" [ متفق عليه ]. فهنيئاً للصابرين المحتسبين.
خامساً: رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤ لمنازل الجنات:
إن البلاء يعتري المسلم فيمحو منه - بإذن الله- أدران الذنوب والمعاصي إن كان مذنباً مخطئاً - وكل ابن آدم خطَّاء كما مرَّ معك - وإن لم يكن كذلك فإن البلاء يرفع درجاته ويبوِّئه أعلى المنازل في الجنة. وقد جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول لملائكته إذا قبضوا روح ولد عبده: "قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي ؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيت الحمد" [ رواه أحمد وحسنه الألباني ]. ويقول سبحانه في الحديث القدسي: "ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صَفِيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" [ رواه البخاري ].
بل ترفع درجات المؤمن حينما يُبتلى بما هو أقل من ذلك، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة" [ رواه مسلم ].
إذاً هي درجة تلو درجة ليبلِّغه الله منزلته في الجنة، والتي يكون تبليغه إياها بفضل الله، ثم بفضل صبره على البلاء، والله عز وجل يقول: {إنمَا يُوَفى الصابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ}. [ الزمر: 10].
عَطِيَّتُه إذا أعطى سرورٌ............... وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأيُّ النعمتين أعمٌّ فضلاً............... وأحمد في عواقبها إيابا
أنِعمتُه التي أهدت سروراً............... أم الأخرى التي أهدت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بكرهٍ............... أحقُّ بشكرِ مَن صبر احتسابا
سادساً: علامة حب ورأفة:
إن المصائب والبلاء امتحانٌ للعبد، وهي علامة حب من الله له؛ إذ هي كالدواء، فإنَّه وإن كان مراً إلا أنَّك تقدمه على مرارته لمن تحب - ولله المثل الأعلى - ففي الحديث الصحيح: "إنَّ عِظم الجزاء من عظم البلاء،وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" [ رواه الترمذي وصححه الألباني ].
يقول ابن القيم رحمه الله: "إنَّ ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه لأهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به إلى تمام الأجر وعلو المنزلة …" إلى آخر ما قال.
ولا شك - أخي الحبيب-أنَّ نزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة. وكيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة" [ رواه الترمذي وصححه الألباني ]. وبيَّنأهل العلم أن الذي يُمسَك عنه هو المنافق، فإن الله يُمسِك عنه في الدنيا ليوافيه بكامل ذنبه يوم القيامة - عياذاً بالله.
سابعاً: دروس وذكرى:
في البلاء دروسٌ لا يمكن أن نأخذها من غيره أبداً وهي من حِكَم البلاء- ومن أهمها ما يلي:(4/242)
الدرس الأول: أنَّ البلاء - أخي المسلم - درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل، يطلعك عملياً على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف لا حول لك ولا قوة إلا بربك، فتتوكل عليه حق التوكل، وتلجأ إليه حق اللجوء، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء، والعجب والغرور والغفلة، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه.
الدرس الثاني: أن البلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور، وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا،في حياة لا مرض فيها ولا تعب: {وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ}. [ العنكبوت: 64].
أما هذه الدنيا فنكد وجهد وكبد: {لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ}. [البلد: 4].
فهذا شأن الدنيا فبينما هي مُقبلة إذا بها مدبرة، وبينما هي ضاحكة إذا بها عابسة. فما أسرع العبوس من ابتسامتها، و ما أسرع القطع من وصلها، وما أسرع البلاء من نعمائها.
فهذه طبيعتها، ولكنك تنسى - أخي الحبيب - فيأتي البلاء فيذكرك بحقيقتها؛ لتستعد للآخرة، ويقول لك:
فاعمل لدارٍ غداً رضوانُ خازنها........... الجارُ أحمدُ والرحمنُ بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك تربتها........... والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
الدرس الثالث: أنَّ البلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالعافية. فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان وأصرح برهان معنى العافية التي كنت تمتعت بها سنين طويلة، ولم تتذوق حلاوتها ولم تقدِّرها حق قدرها. وصدق من قال: "الصحة تاجٌ على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى". ومَن غير المبتلى يعرف أنَّ الدنيا كلمة ليس لها معنىً إلا العافية ؟.
الدرس الرابع: أن البلاء يذكِّرنا، فلا نفرح فرحاً يطغينا، ولا نأسى أسىً يفنينا. فإن الله عز وجل يقول: {مَا أَصَابَ مِن مصِيبَةٍ في الأرضِ وَلاَ في أَنفُسِكُم إِلا في كِتابٍ من قَبلِ أَن نبرَأَهَا إِن ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لكَيلاَ تَأسَوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلاَ تَفرَحُوا بِمَا آتاكُم وَاللهُ لاَ يُحِب كُل مُختَالٍ فَخُورٍ}. [ الحديد: 22-23 ].
الدرس الخامس: أنَّ البلاء يذكرك بعيوب نفسك لتتوب منها، والله عز وجل يقول: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ }. [النساء: 79]. ويقول سبحانه: {وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ}. [الشورى: 30].
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ}. [ السجدة: 21 ]. والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها.
الدرس السادس: أنَّ البلاء درس تربوي عملي يربينا على الصبر. وما أحوجنا إلى الصبر في كل شيء. فلن نستطيع الثبات على الحق إلاَّ بالصبر على طاعة الله، ولن نستطيع البعد عن الباطل إلاَّ بالصبر عن معصية الله، ولن نستطيع السير في مناحي الحياة إلاَّ بالصبر على أقدار الله المؤلمة. وما أجمل الصبر في ذلك كله، فهو زادنا إلى جنة الخلد والرضوان. قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يُلَقاهَا إِلا الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقاهَا إِلا ذُو حَظ عَظِيمٍ}. [ فصلت: 35 ].
وختاماً لهذه الدروس، أظنُّك - أخي الحبيب - توافقني الرأي بأنَّ هذه الدروس الستة، لا يمكن أن نأخذها من غير بلاء؛ إذ هي من قبل أن نُصَاب بالبلاء لا تعدو أن تكون حبراً على ورق، أو كلاماً نظرياً يطير به الهوى، فإذا نزل بنا البلاء واجتزناه بنجاح صارت واقعاً عملياً نعيشه،وهذا من حِكَم البلاء.
قصص وعبر:
لما فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين الحكمةَ الشرعية للبلاء، كانوا أفضل منَّا حالاً معه، وضربوا لنا أروع المثل في الصبر والعزاء والاحتساب، وإليك أمثلة على ذلك:
1- يروى عن عمر الفاروق رضي الله عنه أنَّه كان يكثر من حمد الله على البلاء، فلما سُئِل عن ذلك قال: "ما أُصبت ببلاءٍ إلاَّ كان لله عليَّ فيه أربع نعم: أنَّه لم يكن في ديني، وأنَّه لم يكن أكبر منه، وأنِّي لم أُحْرَم الرضا والصبر، وأنِّي أرجو ثواب الله تعالى عليه".
2-أصيب عروة بن الزبير رحمه الله في قدمه؛ فقرر الأطباء قطعها، فقطعت. فما زاد على أن قال: "اللهم لك الحمد فإن أخذت فقد أبقيت، وإن ابتليت فقد عافيت". فلما كان من الغد ركلت بغلةٌ ابنه محمداً - وهو أحب أبنائه إليه، وكان شاباً يافعاً - فمات من حينه، فجاءه الخبر بموته، فما زاد على أن قال مثل ما قال في الأولى، فلما سُئِل عن ذلك قال: "كان لي أربعة أطراف فأخذ الله مني طرفاً وأبقى لي ثلاثة، وكان لي سبعةٌ من الولد فأخذ الله واحداً وأبقى لي ستة. وعافاني فيما مضى من حياتي ثم ابتلاني اليوم بما ترون، أفلا أحمده على ذلك ؟!".
هكذا كانوا رضي الله عنهم أجمعين، وألحقنا بهم في فسيح جناته. فهلاَّ تشبَّهنا بهم.
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبُّه بالكرام فلاح
وختاماً أخي الحبيب: لا تنس:
لا تنس أن تبحث في البلاء عن الأجر، ولا سبيل إليه إلاَّ بالصبر، ولا سبيل إلى الصبر إلاَّ بعزيمةٍ إيمانيةٍ وإرادةٍ قوية.(4/243)
ولا تنس ذكر الله تعالى شكراً على العطاء، وصبراً على البلاء، وليكن ذلك إخلاصاً وخفية بينك وبين ربك.
ولا تنس أنَّ الله تعالى يراك، ويعلم ما بك، وأنَّه أرحم بك من نفسك ومن الناس أجمعين، فلا تشكونَّ إلاَّ إليه !. واعلم بأنَّك:
إذا شكوتَ إلى ابن آدم فكأنَّما تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحم
ولا تنس إذا أُصبت بأمرٍ عارضٍ، أن تحمد الله أنَّك لم تُصَب بعرضٍ أشدَّ منه، وأنَّه وإن ابتلاك فقد عافاك، وإن أخذ منك فقد أعطاك.
ولا تنس أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنَّ عِظم الجزاء من عظم البلاء، وأنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب، ودع الجزع فإنَّه لن يفيدكَ شيئاً، وإنما سيضاعف مصيبتك، ويفوِّت عليك الأجر، ويعرضك للإثم.
ولا تنس أنَّه مهما بلغ مصابك، فلن يبلغ مصاب الأمة جمعاء بفقد حبيبها عليه الصلاة والسلام، فتعزَّ بذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنَّها من أعظم المصائب" [ رواه البيهقي وصححه الألباني ].
ولا تنس إذا أصابتك أيُّ مصيبةٍ أن تقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أجِرْني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها. فإنَّك إن قلت ذلك؛ أجارك الله في مصيبتك، وخلفها عليك بخير.
ولا تنس أن لا يأس من روح الله مهما بلغ بك البلاء، فإنَّ الله سبحانه يقول: {فَإِن مَعَ العُسرِ يُسراً (5) إِن مَعَ العُسرِ يُسراً}. [ الشرح: 5-6 ]. ولن يغلب عسرٌ يسرين، كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه. ثم حذارِ أن تنسى فضل الله عليك إذا عادت إليك العافية، فتكون ممن قال الله عنه: {وَإِذَا مَس الإِنسانَ ضُر دَعَا رَبهُ مُنِيباً إِلَيهِ ثُم إِذَا خَولَهُ نِعمَةً منهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدعُو إِلَيهِ مِن قَبلُ…} الآية [ الزمر: 8 ].
ثم لا تنس أن البلاء يذكرك بساعةٍ آتيةٍ لا مفر منها، وأجلٍ قريبٍ لا ريب فيه، وأنَّ الحياة الدنيا ليست دار مقرٍ. فاعمل لآخرتك؛ لتجد الحياة التي لا منغِّص لها.
وقبل الوداع أذكِّرك وأُبشرك بما بدأت به، وهو قول الحق جلَّ وعلا: {وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ (155) الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيهِ راجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ}. [البقرة:155-157].
وأخيراً، أسأل الله أن يجعلنا جميعاً من الصابرين على البلاء.. وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
==============
ابتلاء تأخر الإنجاب.. احذروا "الدجل"
نجلاء محفوظ **
قد يفترق الأحبة عند هذا الاختبار
يبدأ أي زواج بأحلام كثيرة في الفوز بالسعادة الدنيوية، وإكمال نصف الدين، من خلال حسن رعاية الزوج لزوجته، وسعي الزوجة لإرضاء زوجها، وتفانيهما في تنشئة أطفالهم، ليربحوا المكاسب الدينية والدنيوية أيضا.
ويتعرض بعض الأزواج لاختبار تأخر الإنجاب، ومع الأسف لا توفق نسبة كبيرة منهم في هذا الاختبار، ويخسر بعضهم دنياه، والبعض الآخر يفقد جزءًا (غاليا) من دينه، ونسبة لا بأس بها تخسر الاثنين معاً.
فمن أهم أخطاء التفكير التي يقع فيها بعض من يتألمون لتأخرهم في الإنجاب، التعامل مع هذا التأخر على أنه عقاب من الله عز وجل، أو دليلاً على عدم رضائه سبحانه وتعالى عنهم. ولا شك أن هذا منفذ من منافذ إبليس اللعين، يتسلل به إلى هؤلاء، ليفسد عليهم دينهم ودنياهم، ويحرمهم من فرص الفوز بأجر الصابرين على الابتلاء، فضلاً عن السعي للأخذ بالأسباب.
قال ابن رجب- رحمه الله-: (واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدّر الله سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب إيمان به، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} [النساء:71]، وقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل} [الأنفال:60]، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].
ولا يتمكن -بالطبع- من يشعر بسخط الله عليه أو عقابه له من الأخذ بالأسباب؛ لأن الشيطان يجعله ييأس من فعل أي شيء، ويدفعه قوله تعالى في الدستور الخالد: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.
وعلى الوجه المقابل، نجد البعض يلجأ إلى الاستسلام للأمر الواقع، ويرفض التداوي ليس ليأسه، وإنما لخوفه من الإحباطات المتتالية، ويلبس ذلك ثوباً مزيفاً من ادِّعاء الإيمان، فيخدع نفسه بإيعاز من النفس المهلكة، وتضامن مع الشيطان الرجيم، فيقول لنفسه: الله يعلم كل شيء، لا داعي لطلب العلاج، سأكتفي بالدعاء والتوسل للرحمن.(4/244)
ولا شك أن الدعاء هو مخ العبادة، وأن العزيز الحكيم قادر على أن يشفي المريض دون دواء، ولكن التأدب مع الرحمن يوجب علينا أن نأخذ بوصية رسوله الحبيب - عليه صلوات الله وسلامه- وهو التداوي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) رواه البخاري، وفي رواية (من داء).. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي r قال: (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى) رواه مسلم.
الأخذ بالأسباب
ونتذكر هنا أن ترك الأخذ بالأسباب معصية، وأن التوكل عليها شرك. ونذكر بالأخيرة حيث يكثر بين من يتعرضون لاختبار التأخر في الإنجاب، السعي بكل قواهم، بنفس لا تهدأ وبقلب يغمره القلق، وروح لا تعرف السلام النفسي؛ إلى طلب التداوي بكل قواهم، والبحث عن أيه بادرة أمل.
بل ينصب الشيطان لبعضهم -تحت وطأة الرغبة في الإنجاب- (فخ) عبر معاونيه من البشر، والذين يقترحون عليه الذهاب إلى الدجالين، الذين يدعون قدرتهم على مساعدته على الإنجاب من خلال أعمال السحر وما شابه ذلك، فيفقد دينه ويدخل -والعياذ بالله- في دائرة الشرك بالواحد الأحد.
وهناك آخرون يصرخون من شدة الألم إثر أي فشل لأي علاج، أو عدم حصول نتيجة إيجابية بعد أي جراحة، ويتسرب الحزن إلى قلوبهم، ويتوطن فيه، ويقولون لقد فعلنا كل شيء، وأخذنا أفضل الأدوية، وذهبنا إلى أمهر الأطباء، وإلى أحسن المستشفيات المتخصصة في العالم، وتكبدنا الأموال الباهظة، والجهود النفسية والجسدية المؤلمة، فلماذا لم تكلل جهودنا بالنجاح؟
ومع كامل احترامنا لرغبتهم المشروعة في الإنجاب، ولألمهم الطبيعي عند فشل العلاج، ولكننا نذكرهم بحديث رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه: يستجاب للمرء ما لم يعجل.. وبالآية الكريمة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، وأيضا بالآية الكريمة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إذا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
إذ يتمكن الشيطان منا عندما نريد شيئا بكل قوانا، ونسمح له بالتوغل في قلوبنا، والتي يجب أن نحرص على أن تكون عامرة بحب من خلقنا، وأن نجعل الدنيا بكل ما فيها من مباهج ومتع ورغبات مشروعة في أيدينا، وليس في قلوبنا.
نقول هذا، ونعترف أن تأخر الإنجاب اختبارا صعبا، ولنتدبر قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا}. ولنتنبه إلى أن معظم الناس يتذكرون الجزء الأول من الآية الكريمة، ويتناسون إكمالها ليجيدوا ترتيب أولوياتهم في الحياة، وليتذكروا أن الدنيا لا تساوي عند الخالق جناح بعوضة.
ربما كان المنع عطاء لا ندركه، والمحبة هي الموافقة، فكثيرا ما نرى من يتألمون من عقوق الأبناء، ومن رضوا بقدرهم وعدم الإنجاب، وسعدوا مع شركائهم وتنفسوا السعادة، وتعلموا أن الرضا هو أن تشعر بالارتياح لما يختاره الله لك.
يقول ابن القيم -رحمه الله- الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين.. ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه".
إيذاء الطرف الآخر
ومن الأخطاء التي يقع فيها البعض، إهمال الاستمتاع بباقي مباهج الحياة المشروعة، والتركيز بكل قواهم على ما ينقصهم وتنمية الشعور بالحرمان بداخلهم، وقيام الأزواج بمضايقة زوجاتهم ومعايرتهن وتهديدهن بالطلاق، فضلاً عن إيذائهن بالكلام الجارح، ولجوء الزوجات إلى التنفيس عن غضبهن وأحزانهن بالتشاجر مع الأزواج، أو إرهاقهم بمطالب مادية مبالغ فيها أو إشعارهم بالنقص دائما.
ونهمس لهؤلاء مع كل الاحترام لمعاناتهم والدعاء لهم، أن الذكاء الإيماني يجب أن يحمينا من زيادة حجم معاناتنا الدنيوية، وألا نجعلها سببا لخسائر دينية. فلا شك أنه لا يوجد زوج أو زوجة يتحمل المسئولية عن تأخره في الإنجاب، ومن الرحمة -وهي من سمات المؤمن- أن نحترم ألمه ولا نقسو عليه، فنحن مطالبون دينيًّا أن نعامل الآخرين كما نحب أن يتعاملوا معنا، فما بالنا بالأزواج الذي ارتبطوا بالميثاق الغليظ المبني على المودة والرحمة.
وقد قال رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه: "خياركم خياركم لنسائهم"، وقال: "استوصوا بالنساء خيرا". كما أوصى الزوجة بحسن التبعل لزوجها، وقال: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة".
وغني عن القول إن الإساءة بالقول أو بالفعل؛ تخاصم كل ما أخبرنا به ديننا السمح، كما أنها تزيد البغضاء بين المتزوجين؛ مما يحرمهم من الاستمتاع بما رزقهم به الله من نعم، ولنتذكر أن الشيطان يذكرنا بالمفقود، لينسينا شكر الموجود.
وكان الأولى بهم التراحم بينهم؛ طمعا في الفوز برضا الرحمن، ولتحسين حياتهم قدر المستطاع، مع عدم إهمال التداوي بالعلاج وبالصدقة، والإلحاح في الدعاء بقلب مطمئن.
لا تكن إمعة
المودة تخفف ألم الحرمان(4/245)
ويظلم البعض أنفسهم، ويظلمون شركاءهم بالخضوع لضغوط الأهل والأصدقاء، وتحريضهم بإساءة معاملة الطرف الأخر، أو عدم الصبر عليه، ومنحه وقتا كافيا، حتى يحدث الإنجاب أو الرضا به، بدون إنجاب والقبول بباقي مزاياه.
ويتطور الأمر عند بعضهم إلى حد كراهية اللقاء الزوجي، وحرمان الطرف الآخر منه، بدعوى أنه لا جدوى منه (الإنجاب)، مما يوقعه في إثم حرمان شريكه من حقوقه الزوجية، فضلا عن إيلامه نفسيا، وهو ما يتناقض مع قول رسولنا الحبيب: "خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده".
كما نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكون المسلم إمعة، يردد ما يقوله الآخرون دون تدبر، ولذا نتمنى أن يحمي إخواننا وأخواتنا أنفسهم من (السموم) التي يوجهها البعض إليهم، وأن يطردوها أولا بأول، وأن يتجاهلوا تلميحات الشماتة أو الإشفاق، وأن يهتموا بتنمية إيمانهم وتبني الشعار القائل: "لن أفرح أو أحزن إلا على ما ينير لي قبري".
وفي تبني هذا الشعار الخلاص من كل هذه المعاناة، وبه يسمو من يخضع للاختبار على ألمه، ويفوز بأجر الصابرين، ويحمي نفسه من التفكير الطويل في مشكلته، ويفوض أمره للخالق، وكله يقين أنه عز وجل يدخر له الخير، فلو اطلع الإنسان على الغيب لاختار الواقع.
وكلما زارته هواجس الألم، يسارع بطردها بترديد الآية الكريمة: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وعليه تذكر أن بعض الأنبياء قد اختبروا بتأخر الإنجاب، وكذلك بعض أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لم تنجبن، ويتدبر الآية الكريمة: {للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.
والمؤمن الذكي هو الذي لا يعطل حياته عند تعرضه لأي اختبار، مهما كان صعبا، ويحترم نعمة الحياة، ويعرف أنه سيُسألُ عن عمره فيم أنفقه، ويحاول الاشتغال والتشاغل بتنمية جوانب حياته الدينية والدنيوية، إرضاءً للرحمن.
وكلما أحس بالضعف يتسلل إلى إيمانه، وبنقصان مساحة الرضا في حياته يفعل ما أوصى ابن القيم حيث قال: (في القلب شعث -أي تمزق- لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق، لا يذهبه إلا الفرار إلى الله
================
لقمة العيش".. هل تتحكم في الداعية؟
نابلس- سليمان بشارات- 05/03/2006
الشيخ حامد البيتاوي
الداعية المسلم هو إنسان كغيره من الناس، ويتعامل مع الحياة كما يتعامل معها الآخرون، وحياته كحياتهم، يأكل ويشرب وينام، لكنه ملزم بأمور تميزه عنهم، فهو القدوة والقائد، لذلك يجب أن يتحمل ما لا يتحمله غيره.
ولو اخترنا الجانب الاقتصادي الذي يمر به الإنسان لوجدنا أن هذا الجانب هو من أهم دعائم المجتمع ومقوماته، والدعوة أيضًا تسير على هذه الدعائم، فمن غير المعقول أن تسير سيارة بدون وقود، ولكن طبيعة هذا الوقود تختلف أيضًا.
ولو أخذنا مدى تأثر الدعوة بشكل عام بالضغوط الاقتصادية التي تحيط بها، ومدى تأثر الداعية كشخص أيضًا بهذه الظروف، لوجدنا أنه يجب التركيز على عدد من القضايا الأساسية التي من خلالها يمكن أن نتكلم عن هذا الأثر.
اختيار الموضوع قد يتأثر
الداعية حين يختار الموضوع الذي يريد أن يتحدث فيه، يكون قد اطلع بشكل كلي على ما يدور حوله، وحدد النقاط الأساسية التي سيأخذها في الحسبان عند خطابه، لذلك فإن تناوله للموضوع يكون بناء على أسباب وتداعيات تملي عليه مناقشة هذا الموضوع.
لكن يبقى الشيء الذي يجب أن يعرفه الشخص: ما مدى خضوع شخصية الداعية لبعض الضغوط المحيطة في التأثير على موضوع الخطاب أو حتى على الأسلوب الذي يُقدَّم به الخطاب؟ وهل يمكن أن يُطبَّق عليه المثل العربي القائل: "أطعم الفم تستح العين"، هذا المثل الذي يعبَّر به عن استخدام بعض المغريات المادية مع شخص ما لإجباره على السكوت أو القبول ببعض الأمور؟.
الأستاذ غسان بدران -المحاضر في كلية الشريعة بجامعة النجاح الوطنية- يرى أنه لا شك في أن الضغوط الاقتصادية لها أثر على الداعية، فهو جزء من المجتمع يتأثر بما يتأثر به الآخرون، ويرى بدران أن هذا الأثر يختلف من شخص إلى آخر.
كما يعتبر بدران أن هناك عددًا من الدعاة والخطباء قد يضطر إلى ترك عمله بسبب الوضع الاقتصادي الذي يحيط به، ويقول: "قد يتوقف الداعية عن دعوته لانشغاله بتحصيل الرزق، ولكن الذي يستمر في الدعوة قد يتأثر بها (الضغوط الاقتصادية) أولاً وأخيرًا".
ويرى بدران أن اختيار الموضوع يجب أن لا يخضع لأهواء جهة أو شخصية معينة، وإنما الظروف المحيطة وما تطلبه المصلحة العامة هي التي تفرض على الداعية اختيار هذا الموضوع.(4/246)
أما الشيخ حامد البيتاوي -رئيس رابطة علماء فلسطين- وأحد الخطباء المعروفين بفلسطين، فيرى أن هناك عددًا من الجوانب يمكن أن تؤثر على الداعية، منها جوانب اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية، حيث يعتبر أن الداعية ليس بمعزل عن البشر، وإنما هو منهم، ويتأثر بما يتأثرون به.
في حين يرى الأستاذ زهير الدبعي -مدير دائرة أوقاف مدينة نابلس في الضفة الغربية- أن الداعية يجب أن يعمل في حرية تامة، ويرى "أن الخطيب هو الذي يختار الخطبة والمحاور التي يناقشها وطريقة المعالجة التي يراها مناسبة".
ويضيف الدبعي: "إن التدخل من جهة المديرية يكون من خلال وقت الخطبة وعدم الإطالة فيها، حيث إن هذا من المصلحة العامة لكسر الملل الذي قد ينتج عن الإطالة، ويكون أيضا في منع تجريح الأشخاص أو الهيئات نتيجة هذه الخطبة أو تلك".
أسباب خضوع البعض
يعتبر الأستاذ غسان بدران أن أسباب خضوع بعض الخطباء لمثل هذه الضغوط قد ترجع إلى الوضع الاقتصادي الذي يمر به الداعية، فعدم قدرته على توفير لقمة العيش، وتدني الراتب الذي يتقاضاه، قد يجعله يخضع لبعض المساعدات المادية التي بدورها تؤثر على شخصيته وإمكانية تناوله لبعض الموضوعات بالقوة المطلوبة.
فيما يرى البيتاوي أن الأسباب يمكن تقسيمها إلى قسمين وتتثمل في:
1 - الحياة المحيطة: وتشمل كل متطلباتها من ضروريات أساسية غير متوفرة، فلذلك يبدأ الداعية التفكير في طبيعة معيشته، وكيف يوفر هذه الاحتياجات الخاصة به وبأسرته.
2 - طبيعة العمل: وهنا يوجد اختلاف بين داعية يعمل في دائرة رسمية ويقع تحت المساءلة، وداعية حر لا يخضع لمثل هذه الضغوط. فالداعية الموظف يسير ضمن قواعد وضوابط تختلف عن تلك الضوابط التي تكون لدى الحر.
وفي ذلك يرى الأستاذ بدران أن الداعية الموظف يحاول دائمًا أن لا تُمَس وظيفته، فإما أن يسكت تماما ولا يتكلم حفاظا عليها، أو أن يتكلم في موضوعات لا تثير أحدًا، لئلا يؤثر هذا الموضوع على وظيفته.. أما الداعية الحر فهو لا يضع مثل هذا في حسابه، فنراه يكون أكثر جرأة في حديثه ودعوته.
الاعتماد على جهات أخرى
أما عن اعتماد الداعية على جهات أخرى في التمويل، خاصة تلك التي تحاول تسيير الأمور عبر الأموال التي تغدق بها على العديد من الأشخاص، فيعتبر الأستاذ غسان بدران أن هذا الأمر مرفوض ابتداء، وذلك لأنه عندما يعتمد الداعية على أمثال هؤلاء الأشخاص (المانحين) فإنه يتكلم بما يعجبهم، وهذا يعني: إما إهمال شيء من الدين، أو تحريفه وتشويهه عند الناس، وهذه طامة كبرى.
كما أن الناس إذا علموا أن الداعية يتلقى دعمًا من جهة ما (لها مآرب) فإنهم لن يلتفتوا إلى كلامه، ولا يتأثرون به، وتكون النتيجة عكسية.
الداعية وتحديات الواقع
ولا شك أن الداعية يلقى الكثير من المضايقات في طريق دعوته، والتي قد تصل إلى حد القتل أو السجن، وقد يضيَّق عليه في الرزق. وهنا يقول الشيخ حامد البيتاوي: "فليوطن العلماء والخطباء والدعاة أنفسهم على الابتلاءات".
ويضيف: "ليكن قدوتنا في ذلك الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والدعاة والتابعين، قال تعالى: (ولَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وأُوذُوا). وقال تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)".
ويتحدث البيتاوي عن تجربته قائلا: "لقد تعرضت للسجن من قبل الاحتلال، وفُرضَت عليَّ الإقامة الجبرية عدة مرات ولعدة سنوات، وأبعدت إلى مرج الزهور بجنوب لبنان، كما سجنتني السلطة الفلسطينية، لكن هذه المضايقات لم توهن من عزيمتي، ولن تثنيني عن الخطابة والتدريس والوعظ".
كيف يستقل الداعية؟
أما كيف يبتعد الداعية عن المؤثرات ليكون مستقلا في دعوته، فتحدث الأستاذ غسان بدران قائلا: "هناك عدد من النقاط يمكن من خلالها تجنب التأثير والضغط الخارجي على الداعية وخطابه، وتتمثل في:
1 - ثقافة الداعية تجعله يحسن عرض الأفكار، فبعض الخطباء يكثر من التهجم على الحكومات وعلى الهيئات وعلى الأشخاص، مما يثير ردود فعل يكون لها أحيانا تأثير ضاغط عليه، بحيث يهدد بالفصل من الوظيفة أو الإيذاء الجسدي وما إلى ذلك. واعتبر هذا الأسلوب غير صحيح، فالداعية ينبغي أن يضع الكلام في قوالب دعوية تصل إلى المتلقي، ولا يضعها في قالب التهجم على أشخاص وحكومات، كما أنه يمكنه الإشارة إلى أي موضوع يريده بغير الطريقة المباشرة التي لا ترضي البعض.
2 - يمكن للداعية أن يتغلب على مشكلة التهديدات المادية وضغوطها بأن يكون له عمله المستقل الذي يعيش منه بعيدا عن مجال الدعوة، بحيث لا يتحكم في خطابه من يعطيه أجر عمله الدعوي.
ويتابع بدران الحديث قائلا: "حكمة الداعية هي التي تحميه من كل الضغوط التي يمكن أن تمارس عليه. والذي أراه أن بعض الدعاة هم الذين يتسببون في مثل هذه الضغوط"!.
لسنا "ما يطلبه المستمعون"(4/247)
إن كل من يقوم بعمل ما يترتب عليه العديد من التبعات، سواء أكانت تلك التبعات إيجابية أو سلبية، وكذلك الداعية، وفي نهاية الأمر لا يوجد مبرر لأي داعية كي يتكاسل في أداء أمانته، وقدوتنا في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قاطعته قريش وعزلته وأصحابه في أحد شعاب مكة المكرمة، حتى أكلوا أوراق الشجر وجلود الحيوانات البالية، وما ردهم ذلك عن عقيدتهم ودعوتهم.
ونختم بقول الشيخ البيتاوي: "أنا -كداعية- أقدم الطرح الإسلامي، ولست مقدما لبرنامج ما يطلبه المستمعون في إذاعة أو تلفزيون.. أنا لدي رسالة للدعوة إلى الله، ومن يكرمه الله بذلك فلا بد أن يتحمل أذى الآخرين".
================
الذنوب.. زلازل القلوب
فتحي يكن
Image
من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"، وفي ضوء قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" تتجه العقول، وتهفو القلوب والنفوس؛ لمعرفة مسالك هذه التوبة ومتطلباتها، ولإدراك سبلها ووسائلها.
وكلما كانت مخاطر الانزلاق والانحراف كبيرة وكثيرة، وجب أن يكون اندفاع المؤمن قويًّا في اتجاه البحث والتنقيب عن أسباب الوقاية والتحصن، وعوامل التطهر والتنظف؛ لضمان تزكية النفس وتصفيتها، ورجاء تخلصها من أوزارها وذنوبها.
ضرورة ووجوب التصفية
في هذه الحمأة من الفعل وردته، والذنب وتوبته، تتجلى لنا وتتكشف أبعاد اللطف الإلهي، والمدد الرباني للعبد المؤمن، حيث لا يدعه يتخبط وحيدًا، وقد استحب الخير واختار الهدى، وإنما يهيئ له معارج للتزكية والتصفية، تتحات من خلالها أوزاره وذنوبه كما تتحات أوراق الشجر، بل ويبدل الله سيئاته حسنات مصداقًا لقوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا} [الفرقان: 70].
أولاً: المصافي العبادية
1 - المصافي اليومية:
من خلال الصلوات الخمس، فرائض وسننًا ونوافل، بما من شأنه إزالة آثار ما يمكن أن يقع فيه الإنسان من ذنوب وخطايا في اليوم والليلة، حيث جاءت اللفتة النبوية إليها واضحة جلية في قوله: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقي من درنه؟" قالوا: لا شيء. قال: "فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن" [أخرجه مسلم].. وفي إشارة أخرى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلوات كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"، [أخرجه مسلم].
2 - المصافي الأسبوعية:
فإن لم تكفِ المصافي اليومية في محو الأوزار والذنوب، ردفتها المصافي الأسبوعية المتمثلة: بيوم الجمعة اغتسالاً وتطهرًا وخطبة وصلاة، وما يكتنزه هذا اليوم المبارك من خير عميم.. وحسبنا في هذا المقام قول الرسول: "إن لله عز وجل في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار" [رواه ابن عدي وابن حبان]، وكذلك قوله: "إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام" [رواه البيهقي وابن حبان وأبو نعيم..]، وكذلك في فضل صيام يومي الإثنين والخميس.
3 - المصافي الموسمية:
وتأتي هذه المصافي لتكمل ما عجزت عنه غيرها وما تراكم من ذنوب وخطايا، كصيام شهر رمضان بدليل قوله: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وستة أيام من شوال وبركات العشر الأوائل من ذي الحجة التي جاء فيها قوله: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"، وصوم يوم عرفة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكفر السنة الماضية والباقية".
4 - مصفاة العمر:
المتمثلة بفريضة الحج وما تذخر به من مناسك وأعمال خير وبر، اختصرها رسول الله بقوله: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" [متفق عليه].. وقوله: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" [متفق عليه].
ثانيًا: المصافي الدعوية
ففي المصافي الدعوية قوله: "لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها" وفي رواية: "خير من حمر النعم".
ثالثًا: المصافي الخيرية
كقضاء حاجات الناس، ورفع الظلم عنهم، وتيسير عسرهم، وتفريج كربهم والتخفيف عنهم، والمطالبة بحقوقهم، وكفالة أيتامهم، ورعاية أراملهم، وإيواء مشرديهم، بدليل قوله: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كرب يوم القيامة"، وقوله: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم الليل الصائم النهار".
رابعًا: المصافي الابتلائية(4/248)
وقد تكون مصافي الذنوب وكفارات الخطايا من طريق الابتلاء، وقد ورد في ذلك العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كُفِّر الله بها من خطاياه"، وقوله: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن".
فنسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا للإفادة من هذه المصافي الإيمانية، ويجعلها كفارات لذنوبنا، وألا يقبضنا إليه إلا وهو راضٍ عنا.
داعية لبناني بارز
==============
المرض.. وقفات إيمانية
وبشر الصابرين
ينظر كثير من الناس إلى المرض نظرة قاصرة، فيراه البعض دليلاً على غضب الله، ويراه آخرون انتقاماً من هذا المريض، والحق أن المرض ابتلاء من الله عز وجل للإنسان المسلم، لينظر أيصبر على قدر الله ويرضى به، فيرضى الله عنه، ويكتب له الأجر في الدنيا والفوز في الآخرة؟ أم يجزع وييأس ويقنط من رحمة الله فيخسر ثواب الدنيا، ويفوته رضا مولاه في الآخرة؟
فمن فضل الله علينا أن ديننا لم يترك لنا شيئا إلا وحدثنا عنه أو أعطانا مفاتيح العلم به، وكثيرا ما نخطئ في أمور كثيرة حين ننظر إلى الأسباب المادية المحسوسة ونحتكم إليها دونما أن نحتكم للمعايير الإيمانية التي هي أقوى سلاح في يد المسلم، فمن صميم عقيدتنا أن الدواء لا يشفي والطبيب لا يشفي.
ولكن الشافي الحقيقي الذي بيده الشفاء هو الله تبارك وتعالى، وما الطبيب والدواء إلا مجرد أسباب نأخذ بها، أمرنا بها رسولنا الكريم، ونحن مسئولون أمام الله عن تركها، أما النتيجة الحقيقة فهي بيد الله تعالى.
أرحم بنا منا
لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي أنزل الداء -أي المرض- هو الله جل وعلا. ومَنْ هو الله؟ إنه الرحمن بعباده، الرحيم بالضعفاء سبحانه وتعالى، وهو لا يريد العذاب لعباده سبحانه.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من السبايا ملصقة ولدها ببطنها فقال لأصحابه: "أرأيتم هذه مضيعة ولدها؟" قالوا لا يا رسول الله فقال: "لَلَّهُ أرحمُ بعبده من هذه على ولدها"!!
أرأيت أخي المسلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من الأم على ولدها؛ لذلك أبشر يا من ابتليت فسوف تجد من رحمة الله وعدله ما يرضيك، فإنما أنزل بك هذا المرض ليُقربَك لا ليعذبك، أصابك به ليطهرك ويصطفيك، لا ليبعدك ويقليك، ولك في أنبياء الله وأصفيائه قدوة حسنة فهم أشد الناس بلاء.
لقد أخبرتنا السنة النبوية بأن لكل داءٍ دواء، ولكل مرض شفاء، ولا يوجد على وجه الأرض مرض ظهر قديما أو حديثا، إلا وله علاج ودواء بصريح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فربما يقول المريض قد أصابني المرض فرضيت وسلمت لأمر الله تعالى، وعلمت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإخبارَه فيها بأن لكل مرض علاجا وشفاء ففرحت واستبشرت، ولكني حزين لِمَا أصابني من أمراض؛ لأن هذا معناه أن الله تعالى غاضب مني، ولا يحبني وأنني هيِّن على الله تعالى، فلذلك أقعدني بالمرض وأذلني بالداء حتى صرت أشعر بالحرج بين الناس حين يرونني طريحَ الفراش أو يسمعون بما أصابني من أوجاع، فلعلهم يشمتون فيَّ ويتكلمون عليَّ.
فلتطرح أيها المبتلى هذه الوسوسة الشيطانية بعيدا، فقد أراد الشيطان أن يوقع بينك وبين ربك جل وعلا، وأن يعميك عن الحكمة من هذا البلاء، يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العالمين: "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم... مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال تعالى: "أما علمْتَ أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده..."[رواه مسلم].
فلاحظ فيها أن الله تعالى قد شرفك تشريفاً عظيماً حينما جعلك حال مرضك كأنه هو سبحانه المريض فهذا تشريف ومواساة لك، وتأَمَّلْ أيضا قوله تعالى: "لو عدته لوجدتني عنده" تجد أن الله سبحانه يرفع من شأنك حال مرضك، ويعلم من يزورك أنه سيجد عندك المولى الجليل سبحانه وتعالى، وما ذاك الشرف والفضل لك إلا لأنك مريض، إذن من أراد أن يزور الله رب العالمين في الدنيا فليسرع لزيارتك أيها المريض.
البلاء عنوان المحبة
ومن لطف الله عز وجل ورحمته أنه لا يغلق بابا من أبواب الخير إلا فتح لصاحبه أبوابا. فعلاوة على ما يكتب للمرضى من الأجر جزاء ما أصابهم من شدة ومرض وصبرهم عليه، لا يحرمهم ثواب ما اعتادوا فعله من الطاعات؛ إذا قصروا عنها بسبب المرض.
فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما" [رواه البخاري]، فأي كرم بعد هذا الكرم، وأي فضل أوسع من فضل الكريم المتعال؟(4/249)
إن البلاء عنوان المحبة.. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط" [رواه الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا" [رواه الترمذي].
ومن تأمل سير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام -وهم من أحب الخلق إلى الله- وجدهم قد واجهوا الكثير من البلاء والشدة والمرض.
يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 157]. الله أكبر.. أي فضل بعد صلوات الرب ورحمته وهداه؟.
وعندما دخل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- على الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، قال: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال صلى الله عليه وسلم: "أجل، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم.." [متفق عليه]، وسأله سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: أي الناس أشد بلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسن دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" [رواه الترمذي].
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقارض" [رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة" [رواه الترمذي].
وأتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، فقال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر.. [متفق عليه].
لكل داء دواء
أيها المبتلى.. لعل لك عند الله تعالى منزلة لا تبلغها بعملك، فما يزال الله تعالى يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما ابتلاك به، حتى تبلغ تلك المنزلة..فلم الحزن إذا؟!
يكفر الذنوب
لما نزل قول الملك تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} اشتد ذلك على الصحابة -ومعنى ذلك أن على كل سيئة عقاب- حتى قال الصديق كيف الصلاح بعد هذه الآية يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم موضحا لفضل المرض وفائدته: "غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرضُ؟ أَلسْتَ تَنْصَبُ أَلَسْتَ؟ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللأْوَاءُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ"[رواه أحمد]، فقد بين صلى الله عليه وسلم أن المرض من الأسباب التي يمحو الله بها السوء والسيئات.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" [رواه البخاري].
فإذا كانت الشوكة وهي أدنى أنواع المرض تكفر الخطايا فمن باب أولى كل مرض فوقها يكفر الخطايا، وهذا مسلك الشرع الحنيف إذا نبه على الأدنى فهو تنبيه على الأعلى من باب أولى.
ولا بد للعسر من يسر، فقد قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6]. وهذه سنة الله تعالى في خلقه.. ما جعل عسرا إلا جعل بعده يسرا، والأمراض مهما طالت وعظمت لا بد لأيامها أن تنتهي، ولا بد لساعاتها- بإذن الله- أن تنجلي يقول الشاعر:
ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى…ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتهافرجت وكان يظنها لا تفرج
قال وهب بن منبه -رحمه الله-: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.
عجِّل التوبة
لا يقدر نعم الله تعالى إلا من فقدها، وكأني بك أيها المريض، وقد أنهك المرض جسدك، وأذهب السقم فرحك، أدركت قوله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ" [رواه البخاري].
فالصحة من أَجَلِّ النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا، لا يقدرها إلا المرضى، وهكذا فكم من النعم قد غفلنا عنها، وكم من النعم قد قصرنا بواجب شكرها، وأجلّ تلك النعم وأعظمها نعمة الإيمان والهداية، فكم من الناس قد غبنها، فلم يقوموا بواجب شكرها، وتكاسلوا عن الاستقامة عليها.
وحين تلوح لك بوادر الشفاء.. وتسعد ببدء زوال البلاء، فلتقدر لهذه النعم قدرها، ولتعرف فضل وكرم منعمها، وتدبر حالك عند فقدها أو نقصها، فأعلن بذلك توبة نصوحا من تقصيرك في شكر كل نعمة، وتفريطك في استعمالها فيما يرضي ذا الفضل والمنة.(4/250)
بل اجعل توبتك الآن.. نعم الآن عل هذه التوبة أن تكون سببا في رفع ما أنت فيه من كربة، ودفع ما تعانيه من شدة، قال سيدنا علي- رضي الله عنه-: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.. وإن لم يكتب لك من مرضك شفاء، فنعم ما يختم العمر به توبة صادقة".
الرضا والتفاؤل
من ينظر إلى نعيم الآخرة يهون عليه عذاب الدنيا، ومن يعلم أن الله يحبه وهو أقرب ما يكون منه حال مرضه لن ييأس أو يحزن أبداً، وفي ذلك علاج ودواء؛ لأن الحزن واليأس يُزيدان المرض ويجعلان مقاومة الجسم للأمراض تقل بل تنهار وتنهزم عن مقاومة المرض، وهذا ما أثبته الطب حديثا.
وهناك بعض الأطباء- سامحهم الله- ينفرون المريض من الشفاء وييئسونه تماما، وهذا خطأ فادح يقعون فيه ومخالف تماما لهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا".
فالبشر مدعاة لجلب الفرج، فكم من مريض استطاع مواجهة أفدح الأمراض بوجه بش ونفس مطمئنة، وكم من مريض خارت قواه لحزنه ويأسه ربما من مجرد الشك أو الوسوسة وخوف الهلاك، أو تقرير متسرع من طبيب غير ماهر.
ولا بد أن نعلم أن عقيدتنا كمسلمين في المرض مختلفة عن نظرة الآخرين له، حيث إنه يشيع في بلاد الشرق والغرب أن هناك أمراضا لا شفاء لها، وهذا ما يخالف عقيدتنا؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال:"... فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً..." [رواه الحاكم]وصدق من قال:
لكل داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ بِه إلا الحماقةَ أعْيَتْ مَنْ يُداوِيهَا
فلا بد للمسلم أن يستبشر في كل أحواله، معلنا رضاه بقسمة مولاه، متخذا من بلائه مطية لبلوغ مرماه، فعجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرًا، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال المؤمن الصابر الراضي بقضاء الله تعالى. وقديما قال الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة في معلقته:
فاقنعْ بما كتَبَ المَليكُ فإنّما قَسَمَ الخلائقَ بيننا علاّمُها
** باحث ماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية- كلية دار العلوم جامعة القاهرة؛ يمكنكم التواصل معه أو مراسلتنا بآرائكم وخواطركم الإيمانية عبر بريد الصفحة: tazkia@iolteam.com.
================
التعيير بالذنب.. ذنب أكبر
فتحي عبد الستار
21/07/2005
يتفاوت الناس فيما بينهم، غنى وفقرًا، سعادة وحزنًا، جمالاً وقبحًا، صحة ومرضًا، ويتفاوتون أيضا من حيث طاعتهم لله عز وجل ومعصيتهم له سبحانه.
وكما لا تجيز الشريعة الإسلامية أن يعيِّر واحدٌ من الخلق أخاه بنقص اعتراه في المجالات الدنيوية المختلفة، أو يستطيل عليه بتفوقه في هذه المجالات، كذلك - بل من باب أولى - فإنها تحرم أن يعيِّر المسلم أخاه بمعصية وقع فيها، ويتفاخر عليه بتقواه لله عز وجل وطاعته له، فضلاً عن أن يفضحه أو يشهِّر به.
شماتة مرفوضة
إن التعيير بالذنب نوع من إظهار الشماتة بالمسلم، وهذا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ"(رواه الترمذي). والمتأمل في هذا الحديث الشريف يجد النهي الواضح عن إظهار الشماتة بالمسلم، والترهيب والتحذير لمن يفعل ذلك. ومن أهم ما يدرَك من الحديث: التخويف من أن الشماتة أو التعيير قد يكونان سببًا في ابتلاء المعير أو الشامت بالعيب أو النقص الذي عيَّر به أخاه.
إن الله عز وجل قد يعافي أخاك من المعصية التي وقع فيها، وقد يغفر له تقصيره وذنبه، ويهيئ له سبل التوبة والعودة والإنابة، ولكنك لا تدري إن ابتلاك الله عز وجل بمثل ما وقع فيه أخوك، هل ستعافَى أم لا؟ هل ستتوب أم لا؟ هل سيغفر لك الله ويقبل توبتك أم لا؟.
ومما روي من روائع الإمام ابن القيم قوله:" إن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثمًا وأشد ذنبا من المعصية ذاتها، وذلك لأنه يحمل في طياته معاني التكبر والغرور بالطاعة لدى صاحبه، ويعبر عن تزكية النفس وشكرها، ووصفها - ضمنيًّا- بالبراءة من الذنب، والتنزه عن المعصية".
ويضيف ابن القيم: "ولعل كسر نفس أخيك بسبب ما وقع فيه من ذنب، وما حدث له من الذلة والخضوع، بسبب ما اقترف من معصية، وتخلصه من مرض الكِبر والعُجب، ووقوفه بين يدي الله منكس الرأس، خاشع الطَّرْف، منكسر القلب، لعل هذا أنفع له وخير من صولة طاعتك وزهوك بها، والمن بها على الله وعلى خَلقه".
ومما أثر من حكم ابن عطاء الله السكندري قوله: "رب معصية أورثت ذُلاً وانكسارًا، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا". وكلام ابن عطاء الله يتسق مع ما قاله ابن القيم من أنه "ما أقرب المذنب العاصي من رحمة الله، وما أقرب المغرور المتكبر من مقت الله! إن الذنب الذي تَذِلُّ به لله عز وجل، أحب إليه من طاعة تمُنُّ بها عليه سبحانه، فإنك إن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا، خير من أن تبيت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مُدِل، وأنين المذنبين أحب إلى الله عز وجل من زَجَل المسَبِّحين المدِلِّين".
أيكون الذنب دواء؟!(4/251)
ومن رحمة الله بنا أنه قد يجعل في الذنب نذنبه دواءً لمرض عضال لا نقوى على مواجهته، وهذا المعنى هو ما أكده الإمام ابن القيم في روائعه حين قال: "ولعل الله قد سقى أخاك بهذا الذنب دواءً استخرج به داء قاتلاً هو فيك ولا تشعر، فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو، ولا يطالعها إلا أهل البصائر، ولا يأمن كَرَّات القدر وسطوته إلا أهل الجهل بالله".
لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لوم وتقريع المذنبين حتى ولو كانوا من أصحاب الكبائر، وبيَّن أن أقصى ما يملكه المجتمع حيال هؤلاء هو إقامة حد الله عز وجل عليهم، وليس للناس من سبيل عقاب على هؤلاء خلاف ذلك، لا قبله ولا بعده. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا" (رواه البخاري)، أي لا يعيِّرها ولا يوبخها، فقد نالت عقابها الذي كتبه الله عز وجل عليها، والسوط الذي ضُرِبَت به إنما كان بيد مقلب القلوب، والقصد هو إقامة الحد، لا التعيير والتثريب، وليس لسيدها أن يلومها أو يعيرها، وإن فعل فقد تعدى على حكم الله عز وجل بالإضافة والزيادة.
وذاك دأب وخلق جميع أنبياء الله، ومنهم يوسف - عليه السلام - الذي رغم ما فعله إخوته معه، ورغم قسوتهم وافترائهم عليه، ورغم تهيئة الله عز وجل لموقف يستطيع فيه الانتقام منهم أو على الأقل توبيخهم وتقريعهم، إلا أنه عليه السلام قال لهم: } لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{ ( يوسف: 92)، ولاحظ معي تذييل تسامحه معهم بالدعاء لهم بالمغفرة، وتأميلهم في رحمة الله عز وجل.
إن الفتنة لا تؤمن على حي، ولتأكيد هذا المعنى في نفوس المؤمنين، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء؛ وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق به سبحانه وتعالى وأقربهم إليه وسيلة؛ : } وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً . ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً . إذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا {( الإسراء: 73-75). وقال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ قَلْبٍ إِلا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ"، وكان صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ" (رواه بن ماجة).
=============
الزلزال... ظاهرة طبيعية.. أم رسالة ربانية؟
06/02/2005
آية فاروق- صبحي مجاهد**
الزلازل.. ظاهرة طبيعية ورسالة ربانية
ما زال الجدل دائرا حول علاقة البعد الإيماني بما يحدث من مصائب وكوارث، وتنامى الأمر عقب أحداث زلزال "تسونامي" الذي ضرب منطقة "جنوب شرق آسيا"، وأصبح تحليل ذلك وتوضيحه من أهم القضايا التي يدلي فيها العلماء، وأساتذة علم النفس، والجيولوجيين برأيهم فيها.
ومن الغريب أننا وجدنا اتفاقا بين علماء الدين، والنفسيين، وأساتذة الجيولوجيا بأن هناك علاقة بين المعاصي والسلوكيات الخاطئة للأشخاص وبين حدوث الكوارث الطبيعية والزلازل، كما وجدنا أن الشارع العام لم يختلف معظمه عن ذلك.. بل إن البعض منهم رأى أن الأساس في حدوث الزلازل هو ارتكاب المعاصي والذنوب، وأن التفسيرات العلمية لهذه الظاهرة هي مجرد تبريرات ثانوية.
آراء الناس
ولم يقف الأمر في تحليل حدوث الزلازل عند العلماء والمتخصصين حيث أعرب كثير من الناس عن تحليلاتهم وأطروحاتهم لأسباب الزلزال.. فمنهم من يراه مجرد ظاهرة علمية، وآخر يؤكد أنه غضب إلهي، وغيره يجزم بأنه ابتلاء.. وغيرها من الآراء التي تأرجحت بين النظرة الإيمانية لهذه الكارثة والفطرة العلمية..
فيرى إسماعيل فخر الدين - مدرس اللغة الإنجليزية بإحدى المدارس التجريبية في مصر الجديدة (37 عاما) - بأن زلزال "تسونامي" الذي يعد أكبر الزلازل في العصر الحديث ما هو إلا عقاب من الله عز وجل؛ لأن هذه المنطقة مشهورة بالسياحة (الجنسية)، ومعظم من يرتادها يكون قاصدا الفحش، مستنكرا أن يكون مجرد ظاهرة علمية.. على اعتبار أن الزلازل تحدث في شتى أنحاء العالم، وآخر زلزال كان عام 1992م في مصر، ولم يكن بهذه القوة الفظيعة.. ومع ذلك اجتمعت معظم الآراء على أنه عقاب على فسوق البعض، ولذلك سعى الكثير من الناس وقتها إلى معرفة دينهم أكثر، وانتشر الحجاب بين الفتيات الصغيرات.
وتتفق معه الدكتورة مها سيد أحمد (42 سنة) وتعمل في أحد المعامل الخاصة، من أن هذه الشعوب بغت كثيرًا وطغت، وانتشر فيها الفساد، لذلك عاقبها الله، وفي نفس الوقت ينذرنا جميعا، بأن القوة له سبحانه وتعالى، وأننا لا نملك أن نعيش ثانية، إلا إذا شاء الله عز وجل.. مؤكدا أن الزلزال بلا شك قد يكون ابتلاء للمؤمنين، لاختبار قوة إيمانهم واحتمالاهم مصاعب ما بعد الزلازل.(4/252)
أما محمد سيد الجمل، سائق ميكروباص -25 عاما-، فيتعجب من الآراء التي تقول إن الزلازل غضب إلهي.. قائلا: ما علاقة الزلزال بغضب الله.. إن الله يحاسب الإنسان عن ذنبه هو -نفسه- ولا يأخذ "ناس بذنب ناس"، فيقول عز وجل: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) بل إن المثل الشعبي -في مصر- يقول: "كل واحد متعلق من عرقوبه".. فكيف يكون هذا غضبا إلهيا؟ إنه مجرد ظاهرة طبيعية.. والعلماء هم الذين يستطيعون تفسير أسبابها، ولا علاقة للدين بهذا الأمر.
وتختلف معه المهندسة شروق عثمان -55 سنة- وتعمل بإحدى شركات الحاسب الآلي.. حيث تؤكد أن الله جعل لكل شيء أسبابا مادية وأخرى معنوية، فقد تكون ظاهرة طبيعية لكن لها مدلولات إيمانية، وتحمل في حد ذاتها، عظة سواء للمؤمنين أو غيرهم.. فقرأنا وشاهدنا وسط هذا الدمار معجزات كثيرة، تجعلنا نندهش ونقول "سبحان الله".. فإن المولى عز وجل إذا أرسل بظاهرة كهذه، وهو يملك سرها الأعظم.. فلها مدلولات أخرى، تحتمل أن تكون دافعا للعصاة بالعودة إلى رشدهم وعقلهم مرة أخرى.
آراء العلماء
(الزلازل جند من جنود الله.. الزلزال غضب إلهي.. رسالة للعالمين.. صلاح النفس هي الوقاية من الزلازل) كلمات أكدها كبار علماء الشريعة والمتخصصين في علوم الجيولوجيا والنفس، فاتفق عليها كل من الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور زغلول النجار زميل الأكاديمية الإسلامية للعلوم، والدكتور أحمد عمر هاشم الرئيس السابق لجامعة الأزهر، والدكتورة إلهام محمد شاهين الأستاذة بجامعة الأزهر، والدكتور محمد المهدي استشاري الطب النفسي، والدكتور حسني حمدان أستاذ الجيولوجيا بجامعة المنصورة، مؤكدين أن أكبر ما يدل على ذلك هو حدوث زلزال "تسونامي" في المناطق السياحية التي يحدث تشتهر بسياحة الجنس، وخاصة التجارة الجنسية بالأطفال، كما أن الضحايا كانوا من مختلف الجنسيات ليكون الأمر رسالة واضحة على عقاب الله للعاصين.
ومع وجود ما يشبه الاتفاق بين أغلب العلماء على علاقة وقوع الزلازل والكوارث، وبين معاصي البشر وأخطائهم كان هناك من يرفض الاعتراف بذلك، وهو الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ بكلية دار العلوم الذي اعتبر الحديث عن المعاصي والزلازل في إطار واحد هو أمر غريب لا يمكن الاعتراف به، واصفا الزلزال بأنه مجرد ظاهرة كونية، تخضع للمقاييس العلمية البحتة.
عقوبة إلهية للطغاة المفسدين
القرضاوي
يصف الشيخ القرضاوي الزلازل والبراكين وسائر النوائب بأنها عقوبة إلهية تستهدف إهلاك الطغاة والجبارين، وتأديب العصاة والمفسدين، وتنبيه الناسين والغافلين، واختبار وابتلاء المؤمنين، ويؤكد أن هذه الزلازل والبراكين التي تقع تدلنا على مدى جهل الإنسان بما حوله، رغم ما وصل إليه من علم وحضارة وتقدم، فرغم هذه الثورات الهائلة في التكنولوجيا والفضائيات فما زال الإنسان جاهلا بما سيقع له بعد ثوان، وقد عجز العلماء رغم ما أوتوا من علم عن أن يتنبئوا بوقوع هذا الزلزال أو غيره من الزلازل والبراكين التي راح ضحيتها ملايين البشر.
ويشير الدكتور يوسف القرضاوي إلى أن هذه الزلازل والبراكين هي من جنود الله -عز وجل- التي يسخرها لينفذ بها قدرته، وقد سخر الله تعالى الماء ليعذب به فرعون، وسخر الريح ليهلك بها قوم عاد، وسخر الصواعق ليهلك بها ثمودَ، قال تعالى: "فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"، موضحا أنه قد جاء في القرآن الكريم ما يؤكد لنا أن الله تعالى أهلك أقواما بسبب ذنوبهم، فقال الله عن قوم فرعون: "وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ"، وقال عن عاد: "وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ"، وقال عن ثمود: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ".
وحتى لا يتساءل الإنسان كثيرا عن الحكمة الأساسية من وقوع الزلازل ينهى الشيخ القرضاوي حديثه بأن الله يفعل ذلك ليعلم الجميع أن الله هو الفاعل الوحيد والمطلق في هذا الكون كله، وأن ما يقع فيه من شيء إنما هو بإرادة الله وقدرته وعلمه، قال تعالى: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ...".
إنذار من الله(4/253)
أحمد عمر هاشم
ويوافق الدكتور أحمد عمر هاشم الرئيس السابق لجامعة الأزهر الشيخ القرضاوي في ربط الزلازل بفساد الناس، حيث أكد أن الزلازل عامة، والزلزال الذي وقع بـ"جنوب شرق آسيا" خاصة هو إنذار من الله عز وجل، يجب الانتباه إليه والاعتبار به، "فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة"، وقد قال الله تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا"، مؤكدا أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل مع هذا الزلزال رسالة للظالمين والجبارين مؤداها أن الله قادر على إهلاككم إن لم تتوبوا إلى ربكم وترجعوا إليه، وقد قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، كما أن ما حدث رسالة مفادها أن الله ينبهكم أيها الظالمون، وأن ما يحدث من الهلاك هو بسبب ما ترتكبونه بأيديكم، قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".
الزلازل واقتراب الساعة
وكان من أهم ما ميز تحليل الدكتورة إلهام محمد شاهين الأستاذ بجامعة الأزهر في تحليلها لوقوع ظاهرة الزلازل أنها ربطها بين الفساد والزلازل الصغرى، بحيث إذا انتشر الفساد وطغى جاءت الزلزلة الكبرى، والتي على أثرها تقوم الساعة.
حيث تشير الدكتور إلهام: "أن الله خلق الإنسان من الأرض ليعمل الصالحات بها ويعمرها، فحين يخرج الإنسان عن هذا النطاق والحد الذي رسمه الله له ويفسد في الأرض، فإنها تضج به وبالذنوب التي يرتكبها، وكلما زادت معصية الإنسان وكثر المذنبون اقترب الوعد الحق واقتربت الساعة واضطربت الأرض لقرب القيامة، وظهر ذلك على هيئة زلزال صغير، يشتد ويكبر وتزداد حدته يوما بعد يوم، حتى ينتبه الناس ويفيقوا من غفلتهم ويعودوا إلى الله، فإذا تمادت وزادت المعاصي، وعمت الأرض كلها، حان موعد الزلزلة الكبرى التي تنتهي على أثرها كل حياة على الأرض، وذلك الموعد يخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقول لآدم: قم فابعث بعث النار من ولدك. فيقول آدم: وما بعث النار من كم كم، فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة"... فعند ذلك تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها.. تلك هي الزلزلة الكبرى التي تعم الأرض كلها عند قيام الساعة والتي يسبقها زلزال شديد يعم أجزاء كبيرة من الأرض إيذانا بقرب الساعة، فإذا كثر عدد المفسدين، ولم تحتملهم الأرض تزلزلت ووقع الخسف، ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب.. قيل أتخسف الأرض وفيهم الصالحون قال: نعم، إذا كثر الخبث.. أي الفساد".. رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
وتستدل الدكتورة على علاقة الذنوب بوقوع الزلازل والكوارث بأن الزلازل والعواصف والبراكين وكل ما يؤذي الناس هي غضب للأمم السابقة التي جاءتها رسلها بالبينات ولم يؤمنوا، فكان العقاب ما بين طوفان أو ريح أو خسف أو صواعق أو أمطار العذاب لا الرحمة، مشيرة إلى أن المعاصي التي تحدث الآن تماثل معاصي الأمم السابقة، بل تزيد عليها واستوجبت العقاب،
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج - وهو القتل"... رواه البخاري، وابن ماجة، وهناك أيضا حديث مفصل من أن المعاصي بكثرة تنوعها تكون موجبة لنزول العذاب فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا اتخذ الفيء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتُعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا وقذفا وآيات تتتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع"... رواه الترمذي، وعليه فما يحدث من زلازل هي تنبيهات وتحذيرات يرسلها الله للبشر كي يؤمنوا ويعودوا ويتوبوا إلى رشدهم وينصرفوا عن غيهم ومعصيتهم، يقول الله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا....) فكأنه تعالى يقول للناس إن الجهاد ليضطرب لأوائل القيامة وقربها... فهل آن للإنسان أن يثوب ويقترب من الله عز وجل؟
الزلازل ظاهرة علمية
عبد الصبور شاهين(4/254)
ومن المفارقات العجيبة أن يكون الدكتور عبد الصبور شاهين، وهو من أبرز الدعاة بمصر والعالم العربي والإسلامي، المفكر الإسلامي الكبير ممن يرفض أطروحة أن زلزال جنوب شرق آسيا أو غيره من الزلازل.. غضب إلهي، وعقاب، وإنذار للكافرين، وابتلاء للمؤمنين.. ويشير إلى أن الإنسان قاصر النظر والرؤية -مهما بلغ علمه- ولا يستطيع تفسير هذه القدرة الإلهية، وهذا السر الذي اختص به المولى عز وجل ذاته العليا، ويؤكد أن الزلزال مجرد ظاهرة كونية، تخضع للمقاييس العلمية البحتة، متسائلا: لماذا لم يضرب الزلزال بلدانًا أخرى تموج بالفساد والانحلال؟ وإن كان بسبب عقاب إلهي.. فما جريرة المؤمنين وما ذنبهم في فسوق الآخرين؟! وعلى ظهر الأرض كفار كثيرون.. فلماذا لم ينزل العقاب بهم؟ ويجيب: إن تلك الأمور، من الصعب إيجاد تعليل لها.. ويحار المرء أمامها، لتبقى لغزا يثير العامة.. ولا يستطيعون أمامه سوى الركون إلى الله، والعودة إلى الرشد، وإدراك أن الحياة يمكن انتهاؤها في ثوان معدودة، والعقاب قد يكون ضمن نتائج الزلزال، لبعض الأفراد.. ولكن هذا القليل أيضا قد يجانبه الصواب! فكيف يكون العقاب جماعيا، والمذنبون بعض الأفراد؟!
أما من يرى أنه ابتلاء من الله واختبار لعباده.. فنرد عليه متسائلين: هل موت إنسان ما فجأة وتركه عائلة من بعده، يعد ابتلاءً أم قدرًا؟
وعن تفسيره لوقوع الكوارث والزلازل للأقوام السابقين كنوع من العقاب يشير الدكتور عبد الصبور إلى أن ما وقع لقوم عاد أو ثمود أو شعيب أو لوط من أهوال، كان في إطار محدود، وفي وقت دعوتهم إلى التوحيد، في فجر الحضارة الإنسانية، عندما رفضوا الدعوة الإيمانية، وظلوا على كفرهم وعنادهم، وأبوا الاعتراف بالمرسلين لإعلاء كلمة الحق.. وقتها وقعت لهم أحداث جسام عقابا لهم على كفرهم وإنكارهم التوحيد وعصيانهم للأنبياء المرسلين...
أما الآن، بعد أن صار الإسلام دينا شاملا في كافة أنحاء المعمورة.. ويؤمن به ما يقرب من مليارين من البشر.. فليس هناك مجال للمقارنة!!
آراء الجيولوجيين
وإذا كان هناك ارتباط بين الزلازل والدين، فإن الزلازل هو ظاهرة طبيعية، ولذا تطالعنا آراء علماء الجيولوجيا، حيث يرى الدكتور حسني حمدان أستاذ الجيولوجيا بجامعة المنصورة وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: إن الزلزال بمثابة رسالة تحذير من الله، لكن مهما تعاظمت زلازل الدنيا، فإن زلزال الساعة هو الأمر والأدهى، زلزلة تنسي الوالدة رضيعها، زلزلة ترى الناس سكارى دون أن يتعاطوا خمرا، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)، ويؤكد أن الزلزال ابتلاء للمؤمنين ونذير للكافرين، وهو جند من جنود الله يهلك به من يشاء.
وأشار إلى أن سورة الرعد بها 4 آيات، أمامها لا يسع أي عالم من علماء الجيولوجيا في العالم أجمع إلا أن يشهد بعظمة العلم القرآني في مجال علوم الأرض، ويصفها بأنها آيات تحمل إشارات علمية عميقة عن مد الأرض وقطعها المتجاورات وتقطيعا وسير جبالها، وإنقاص أطرافها، وهي آيات 3 و4 و31 و41 في سورة الرعد، موضحا أن زلزال المحيط الهندي الكبير، الذي ضرب الأرض ما هو إلا تفسير عملي لتلك الإشارات القرآنية التي لم يعرفها علماء الجيولوجيا إلا منذ مطلع الستينيات من القرن العشرين، أي في خلال الأربعين سنة الماضية، حيث حدث هذا الزلزال نتيجة التقاء قطعة من الغلاف الصخري (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ)... تقع تحت المحيط الهندي، تسمى باللوح الهندي، بقطعة تجاورها اسمها قطعة بورما، وللتبسيط -كما يقول د.حمدان- نتصور أن اليد اليسرى تمثل اللوح الهندي، وإن اليد اليمنى تمثل لوح بورما، وهنا نتخيل أن اليد اليسرى وهي هنا قشرة المحيط الهندي تقترب باستمرار من اليد اليمنى، وهي هنا تمثل قشرة قارة آسيا، وعند تقابل اليدين (بمعنى آخر القطعتين) تنزلق اليد اليسرى تحت اليد اليمنى في نطاق تنضوي فيه اليد اليمنى، ومع استمرار الحركة تغوص اليد اليمنى، وينشأ عن الاحتكاك بين اليدين (القطعتين) حركة عنيف تؤدي إلى حدوث زلزال، حيث تكسر الصخور وتنطلق منها موجات تفوق سرعتها سرعة الصوت بأضعاف مضاعفة).. وبمعنى آخر إن الأرض قد أنقصت من عند حواف قطعتي اللوح الهندي ولوح بورما.. وسبحان الله القائل: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).(4/255)
ومن قدر الله أن يتساوى معدل المد والإنقاص، حيث تمد الأرض من عند مراكز الانتشار في البحار المسجورة والقارات، وفي زلزال المحيط الهندي تجد أن قاع المحيط الهندي يتسع في المكان الذي يتباعد عنده لوحا الغلاف الصخري، فتتحرك قطعة الهند باتجاه الشرق، حيث تتقابل مع قطعة بورما، وعند نطاق التلاقي تسحب قطعة الهند لأسفل فتنشأ الزلازل، ومنها الزلزال الأخير، وتنقص الأرض من أطراف قطعة الهند وتنصهر هي ووشاح الأرض، وسبحان من جعل مد الأرض متعادلا مع إنقاصها من أطرافها، وجعل الرواسي للأرض حتى لا تضطرب نتيجة للمد ولا تقر نتيجة للإنقاص.. فيقول تعالى: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ).
ويضيف د.حسني حمدان محذرا: إن الزلازل جند من جنود الله، إن أخذ الكافرون بها فإنما يكون بسبب ذنوبهم، وإن أصابت بعض الصالحين فإنها تكون تكفيرا لذنوبهم وفتنة لغيرهم من ضعاف الإيمان، والزلازل في المقام الأول نذير للمغرورين بقوتهم المادية ليعلموا أن هناك الأقوى منهم، القاهر فوق عباده، الذي لا يقع شيء في ملكه إلا بإذنه، ثم هي دعوة للتعاطف الإنساني في زمن طفت فيه المادة على القيم الخلقية، مؤكدا أن الزلازل دعوة إلى العودة إلى الله، ودعوة للإصلاح في الأرض بعد إفسادها، ودليل عيني على زلزال الساعة الذي ترج منه الأرض رجا. وتقرع هذه الزلازل - آذان من يظنون أنهم ملكوا الأرض والدنيا.. فها هو زلزال استمر بضع دقائق، ونتجت عنه أمواج عاتية، وقع ولم تكشفه أو تتنبأ بوقوعه جميع أجهزة العالم. فأين المجسات التي تجس؟! وأين الأقمار التي تصور ليل نهار؟! حتى بعد وقوع الزلزال لم يكن في مقدور أهل العلم في الشرق والغرب أن يحذروا الدول التي ضربتها الأمواج بعد ساعات من حدوث الزلزال. ووقف من يملكون مفاتح العلم سواء مع من يجهلون كل شيء يرقبون وهم عاجزون، ولم يتحرك من يعتقدون أنهم يملكون زمام القوة في عالم اليوم إلا بعد 72 ساعة من حدوث الزلزال.. وهي أيضا رسالة إلى المغرورين بألا يركنوا إلى قوتهم... رسالة لأهل الأرض يقول فيها رب العالمين: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
الزلزال.. وآيات الرعد
زغلول النجار
وإذا كان الزلازل يعتبره الكثيرون آية إلهية لها ارتباط بالعلم، فإنه من المفيد أن نطلع على رأي الدكتور زغلول النجار زميل الأكاديمية الإسلامية للعلوم والمهتم بقضية الإعجاز العلمي، حيث يرى أن كافة الكوارث الكونية وغيرها من صور الابتلاء المختلفة تحدث عقابًا للعاصين، وابتلاءً للصالحين، وعبرة للناجين، وحدوثها في كثير من مناطق الفقراء والمساكين ليس معناه أنهم كلهم من العصاة، وإن كان لا بد أن يكون من بينهم عصاة، أما الذين يُقتلون أو يصابون بأضرار عبر هذه المحن فقد يكون ذلك ابتلاء من الله لهم تكفيرًا لذنوبهم ورفعًا لدرجاتهم وتطهيرًا لهم، وقد يكون فيها خير كثير لا يعلمه إلا الله لأننا لو اطلعنا على الغيب لاخترنا الواقع.
ويشدد الدكتور زغلول على أن الزلازل والبراكين والعواصف هي من جند الله، التي يسخرها عقابًا للمذنبين، وابتلاءً للصالحين، وعبرة للناجين، وإن فهمنا لميكانيكية حدوث أي من هذه الظواهر لا يخرجها من كونها جندًا لله، وإذا لم تؤخذ بهذا المعيار فلن يستفيد الناس من حدوثها حتى لو استطاعوا التنبؤ بها، أو اخترعوا الوسائل المختلفة لمقاومتها، وفي ذلك يقول الإمام علي (رضي الله عنه): "ما وقع عذاب إلا بذنب، وما ارتفع إلا بتوبة". وآيات العقاب المختلفة في كتاب الله نزلت كلها ردًّا على ذنوب الناس، مشيرا إلى أن من أبرز الآيات القرآنية التي تتحدث عن الزلازل ما ورد في سورة النحل، حيث يقول ربنا تبارك وتعالى: "قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون"، حيث تأتى هذه الآية ردًّا على مكر هؤلاء الماكرين؛ ولذلك فإنه على المؤمن أن يعتبر من حدوث هذه الظواهر الكونية، وأن يضعها في الإطار الصحيح الذي أوضحته: عقابًا للعاصين، وابتلاء للصالحين، وعبرة للناجين.(4/256)
أما مواجهة هذه الظواهر عمليًّا فيقول الدكتور زغلول: إنه إذا كان في إمكان الإنسان اقتراح أي وسيلة للحماية من آثار هذه الظواهر فلا حرج من ذلك، وإن كانت كل المحاولات التي بذلت حتى الآن للتنبؤ بحدوث الزلازل لم تُجْدِ في مقاومتها، أو التنبؤ بوقوعها قبل وقت كاف لتجنبها؛ ففي منتصف السبعينيات نجح الصينيون في التنبؤ بحدوث زلازل، وتحققت نبوءتهم، وفرحوا بذلك فرحًا عظيمًا، ودعوا إلى مؤتمر دولي ليناقشوا مع علماء العالم كيفية نجاحهم في التنبؤ بحدوث ذلك الزلزال، فشاء السميع العليم أن يحدث زلزال في لحظة اجتماعهم وينتهي المؤتمر إلى لا شيء.
التفسير الاجتماعي
الدكتور محمد المهدي
وإن كان هناك من العلماء من يرفض فكرة علاقة الدين بالزلازل، ومنهم من يرى أن هناك التصاقا كبيرا بينهم، فإن الدكتور محمد المهدي استشاري الطب النفسي يرى في تحليله أن الجمع بين الرؤيتين ممكنة، وأنه بهذا الجمع يمكن تفسير الظاهرة على أنها ظاهرة علمية لها علاقة بالسلوك البشري، ويؤكد الدكتور المهدي على أنه لا توجد وسيلة للتنبؤ بوقوع الزلزال، وبالتالي فإذا كان لسلوك البشر دخل في حدوثه، فربما يتوجه الاهتمام نحو تعديل هذا السلوك تجنبا لحدوث الزلازل. وتعديل السلوك هنا لن يتوقف عند تجنب المعاصي والذنوب، وإنما يهتدي لسلوكيات تبدو خارجة عن هذه الدائرة (ظاهريا) مثل التفجيرات النووية والعبث بجغرافية الأرض، ويحذر من خلل فكري قد يصيب الإنسان على وجه العموم والإنسان العربي على وجه خاص وهو ما يسمى "التفكير الاستقطابي الاختزالي"، فنسمع السؤال الثاني: أهو ظاهرة طبيعية من اختصاص أئمة المساجد ووعاظ الكنائس وكهنة المعابد؟ ويقول إننا نحتاج إلى تصحيح لهذا الخلل الفكري من خلال قراءة ظاهرة الزلازل في بعديها المادي والروحي.. فعلى المستوى الروحي أو الديني تحتاج للتوقف كثيرا أمام أخطائنا وذنوبنا التي تزداد يوما بعد يوم حتى لتكاد تلوث الأرض وما يحيط بها..
ويضرب الدكتور المهدي مثالا على ارتباط البعد المادي بالبعد الروحي قائلا: إنه إذا تصورنا أن أسرة تعيش في شقة وأنهم جميعا يعبثون بمبانيها وأثاثها، ويتركون بقاياهم في أركانها ويتركون مواسير المياه والصرف الصحي بلا إصلاح ويرتكبون كل الموبقات التي تلوث وعيهم وضمائرهم وتشعل العداوة والبغضاء بينهم، فماذا يكون حال هذه الشقة التي يسكنونها بعد عدة سنوات؟ هذا بالضبط هو حالة الأرض مع انتشار المظالم والمفاسد. وقد يقول قائل: إن المفاسد تقع في الأرض كلها فلماذا يقع الزلزال في مكان معين دون الآخر على الرغم من أن المكان الآخر يكون أكثرا فسادا (كأمريكا وإسرائيل مثلا مقارنة بجنوب شرق آسيا)، والإجابة هنا لا تخضع للقوانين الظاهرة بالكامل، وإنما يحكمها أيضا قوانين غيبية، فلله حكمه في اختيار مكان ما وزمان ما لإيصال رسالة للبشر توقظهم وتنبههم حتى لا يغتروا بالاستقرار الكاذب على سطح الأرض فيمعنوا في الطغيان والفساد، وهذا بالضبط كشخص صحيح البدن قد علا وتجبر على الناس بصحته وقوته فيصيبه الله بمرض يكسر جبروته أو يوقظه من غفلته، وهذا المرض يصيب أي جزء من جسده وليس شرطا أن يكون هذا الجزء هو المتورط في الطغيان أو الفساد وإنما هو جزء يمرض لكي تصل عن طريقه رسالة الانتقام أو الإيقاظ. ومع هذا فلن يعدم المراقب المتأمل أن يجد في كل مكان حدث فيه زلزال مروع مظهرا أو أكثر من مظاهر الإفساد، فعلى سبيل المثال:(4/257)
يؤكد الدكتور محمد المهدي أن زلزال جنوب شرق آسيا الأخير والمروع الذي مات فيه آلاف من الناس، هذا الزلزال أصاب منطقة انتشر فيها ما يسمى بالسياحة الجنسية حيث هرع الأوروبيون بالآلاف بحثا عن المتعة الجنسية الخاصة التي ربما تمنع قوانين بلادهم ممارستها مثل: مواقعة الأطفال الذكور أو الفتيات الصغار، وقد قام بعض الآسيويين بخطف الأطفال لاستخدامهم في هذا الغرض، كما قام بعض الناس ببيع أو تأجير أطفالهم وبناتهم للقوادين لاستخدامهم في هذه التجارة الآثمة والمخالفة للأعراف والقوانين والأخلاق كما هي مخالفة لكل الأديان السماوية. وهذا لا يعني أن كل من أصابهم الزلزال موصومون بهذا الأمر، ولكن حين يحل الانتقام أو ينزل البلاء تكون له أحيانا صفة العموم فيأخذ في طريقه أناسا لم يشاركوا في الإفساد بشكل مباشر إما لسكوتهم عن ذلك أو لابتلائهم وتعويضهم حسب حكمة الله ومشيئته التي لا يعملها إلا هو، وهذا لا يعني أن من أصيبوا بالزلزال هم أسوأ البشر ولا يعني أخذ موقف سلبي شامت أو متشف منهم، فكل هذا ضد مبادئ الرحمة والشفقة، ومن يفعله يكون أشبه بالطبيب الذي ينظر إلى المريض متشفيا لأن المريض لم يتبع نصائحه العلاجية أو لم يكن عند توقعاته من ناحية الحمية الغذائية. كما أن الرسالة المقصودة بالزلزال ليست قاصرة على من أصابهم فقط بل هي للناس عامة. والقرآن الكريم حافل بالآيات الدالة على أن الله يعاقب عباده إذا تجبروا أو أفسدوا بشتى القوى والظواهر الطبيعية (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)، ونذكر من هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ* وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) [القمر 1 - 5]، وقوله تعالى (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة 5 - 8]، وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ) [الفيل 1 - 5]. والمصيبة تقع فتكون للمؤمنين ابتلاء (لتكفير ذنب أو رفع درجة) وتكون للكافر انتقام على ما جنت يداه ولكي تستريح الأرض ويستريح الناس من فساده.
ويتساءل د. محمد المهدي: ماذا يضير البشرية حين تعتقد بأن الزلزال - وهو ظاهرة طبيعية جيولوجية تنشأ عن حركة طبقات الأرض - له جانب آخر غيبي، خاصة أن هذا الجانب الآخر يستلزم صلاح الإنسان على وجه الأرض، وأن هذا الصلاح يعتبر جهدا وقائيا يمكن أن يقلل من حدوث الزلازل خاصة أنه لا توجد حتى الآن أي طريقة تنبيئية أو وقائية من الزلازل؟
وماذا يضيرنا لو أصلحنا أنفسنا وسلوكياتنا لكي تصلح معنا وبنا بيئة الأرض التي نعيش عليها سواء كان ذلك بدافع ديني (لدى المؤمنين) أو بدافع دنيوي (لدي الدنيويين). ولماذا نلجأ إلى اختزال رؤانا للأحداث على الرغم من أن العلم الحديث قد أثبت للمؤمنين وغيرهم أن كل الظواهر تقريبا متعددة العوامل والمستويات؟
وبعد هذه التحليلات من عوام الناس، وتفسيرات علماء الشريعة، وعلماء الجيولوجيا، وعلماء النفس، هل يبقى الزلازل ظاهرة لا يمكن الوقوف على أسرارها؟ وهل دائما يجب أن تكون هناك رؤى متناقضة أم يمكن الجمع بين تلك الرؤى ما دام العقل يقبل هذا الجمع؟ وهل تفسير زلزال "تسوماني" يعيد الكرة بين الاختلاف الموهوم بين الدين والعلم، مع أن القرآن الكريم هو كتاب الله المقروء، والكون الفسيح هو الكون المنظور، وكلاهما من عند الله، فكيف يأتي لنا هذا الاختلاف؟.
================
هل الذنوب وراء زلازل الأرض؟
همام عبد المعبود**
10/01/2005
الدعاء أحد أسباب رفع البلاء
إن الناظر في كتاب الله المسطور -القرآن الكريم- وكتاب الله المنظور -الكون الفسيح- لينتهي إلى حقيقة مهمة وهي أن ثمة علاقة طردية بين ارتكاب الذنوب والغرق في المعاصي، من جهة، وبين ما يحل بالناس -فرادى وجماعات- من فتن ومحن وبلايا. وهذا ما يصدقه قوله تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"، وقوله سبحانه: "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ".(4/258)
ورغم مرور قرابة أسبوعين على الكارثة البشرية المروعة التي نجمت عن الزلزال العنيف الذي ضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية يوم الأحد 26-12-2004، وتابعته أمواج من المد البحري تأثر بها عدد من دول جنوب شرق آسيا، ألحقت دمارا وهلاكا واسع النطاق، وأسفرت عن سقوط ما يزيد عن 155 ألف قتيل، فضلا عن إصابة وتشريد الملايين، وتدمير بيوتهم.. رغم ذلك فلم يكد الناس يفيقون بعد للوقوف على الحدث واستنباط الدروس والعبر.
فللجمعة الثانية على التوالي، يسيطر خطْب الزلزال على خطب الجمعة في معظم البلدان العربية والإسلامية، ففي خطبة الجمعة يوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة لعام 1425 هـ، الموافق السابع من شهر يناير لعام 2005 من الميلاد، دعا كل من الداعية الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور أحمد عمر هاشم الرئيس السابق لجامعة الأزهر، إلى الوقوف مليا أمام الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب آسيا وخلف دمارا كبيرا، في محاولة لأخذ العبر واستخلاص الدروس المستفادة.
دروس وعبر
وخلاصة ما جاء في خطبة الشيخ القرضاوي أن الزلازل والبراكين وسائر النوائب هي عقوبة إلهية تستهدف إهلاك الطغاة والجبارين، وتأديب العصاة والمفسدين، وتنبيه الناسين والغافلين، واختبار وابتلاء المؤمنين.
وهذه الزلازل والبراكين التي تقع تدلنا على مدى جهل الإنسان بما حوله، رغم ما وصل إليه من علم وحضارة وتقدم، فرغم هذه الثورات الهائلة في التكنولوجيا والفضائيات فما زال الإنسان جاهلا بما سيقع له بعد ثوان، وقد عجز العلماء رغم ما أوتوا من علم عن أن يتنبئوا بوقوع هذا الزلزال أو غيره من الزلازل والبراكين التي راح ضحيتها ملايين البشر.
وإن هذه الزلازل والبراكين هي من جنود الله عز وجل التي يسخرها لينفذ بها قدرته، وقد سخر الله تعالى الماء ليعذب به فرعون، وسخر الريح ليهلك بها قوم عاد، وسخر الصواعق ليهلك بها ثمودَ، قال تعالى : "فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".
وقد جاء القرآن الكريم يذكر لنا أن الله تعالى أهلك أقواما بسبب ذنوبهم، فقال الله عن قوم فرعون: "وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ"، وقال عن عاد:" وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ"، وقال عن ثمود: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ".
إن الله يفعل ذلك ليعلم الجميع أن الله هو الفاعل الوحيد والمطلق في هذا الكون كله، وإن ما يقع فيه من شيء إنما هو بإرادة الله وقدرته وعلمه"، قال تعالى: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ...".
بلاء للمؤمن والكافر
وقد يتساءل متسائل: لماذا هذا الزلزال الرهيب في هذه المناطق بالذات دون غيرها؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ والإجابة: أن هذا الوقت من السنة هو موسم سياحي لدى هذه المناطق، وأن هذه المناطق هي مناطق سياحية، يكثر فيها فعل المنكرات وتناول المسكرات واقتراف الموبقات، وخاصة "السياحة الجنسية" التي تكثر في هذه المناطق، وتأتي في الترتيب الثالث عالميا بعد تجارة السلاح والمخدرات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل".
وإن الله سبحانه حليم صبور على الظالم والمفسد والعاصي حتى إذا أخذه لم يفلته، قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه: "إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".(4/259)