بالتأمل في كلمة "ولنبلونكم"، التي وردت في سورة البقرة، الآية 155، وفي سورة محمد، الآية 31، وفي كلمة "لتبلون"، التي وردت في سورة آل عمران، الآية 186، نجد الفعل المضارع، الذي يفيد الاستمرار والاستقبال، ونجد تعدد المؤكدات مع كل فعل - اللام والنون الثقيلة في الأفعال - هذا التوكيد المتكرر، لا يتركنا حيارى أمام هذا الواقع، الذي يعيشه المؤمن المبتلى أو الجماعة المبتلاة، ولا نبقى حيارى أمام كثرة الابتلاءات النازلة بعباد الله الصالحين، (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)(2)، (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)(3)، (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).
فإذا استحضرنا حديث مصعب بن سعد مع هاتين الآيتين، برقت الأبصار، وسطعت البصائر أمام وضوح الحديث القرآني والنبوي في تبيان السنة الإلهية الماضية بحق العبد الصالح، "فإن كان دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه خطيئة".
تحدثت عن ابتلاء العباد الصالحين هاهنا، والموضوع في ابتلاءات سيد المرسلين كحديث الفرع بعد الأصل.
الابتلاء الأول: محمد اليتيم:
إن حاجة المولود إلى أبيه لا تخفى على أحد، لاسيما في البيئة العربية ونظام المراضع، اللواتي يحظين بالعطاء الجزيل، في مقابل إرضاع المولود شكل من أشكال العز، الذي يحيط بالمولود، ثم يبقى مع سيرة الولد، فيقال: المسترضع في بني فلان أو بني فلان، يبقى حديث الرضاعة جزء من سيرة الرجل، فإذا ما صار للرجل شأن، كان ذلك من مفاخر المرضع وقبيلتها!
لم يشعر المولود بهذا الحرمان، ولكن مثله حينما يتذكر أيامه في المهد على هذه الحال، غالباً ما يتأثر، خاصة إذا توالت عليه النوائب.. كموت الأم، ثم موت الجد، ثم التواجد التكافلي في بيت العم، رغم حنو هذا العم، ورغم تتابع السنين في بيت عطوف، إلا أننا لا ندري ماذا عانى محمد مما يعانيه الأطفال في مثل سنه، وفي غير بيته؟!
إن الضعف النفسي والانكسار الوجداني لليتيم، ثم اللطيم(4)، كان من إرادة الله بهذا الطفل، الذي يعده الله لأمر عظيم، على خلاف أحوال الأطفال، الذين قد يعدون في نعمة الآباء، ونعيم الأمهات لشؤون دنيوية، بل على خلاف أحوال أنبياء سابقين، أُعدوا بين آبائهم وأمهاتهم.
روى عدد من كتاب السيرة والمحدثين الثقات أن عبد المطلب أرسل محمداً ذات مرة في طلب إبل له، ضلت، فغاب وقتاً، فحزن عليه جده حزناً شديداً، وعندما عاد محمد بالإبل، أقسم عبد المطلب ألا يبعثه في حاجة له أبداً، ولا يفارقه بعد هذا أبداً!
ولما مات جده، اعتنى به عمه أبو طالب، فكان لا ينام إلا ومحمد إلى جنبه، ولا يخرج إلا معه، ويخصه بالطعام، ولا يأكل إلا عندما يحضر محمد، وظل يحوطه بعنايته إلى ما بعد البعثة، حين حاربه جميع قومه...
أسأل القارئ: هل يعوض ذلك كله عن عطف الأب وحنان الأم؟
لقد صنع الله للطفل محمد اليتيم شيئاً من عطاء الأبوة والأمومة في قلوب الجد والعم وتوابعهما (ألم يجدك يتيماً فآوى)، ولكن من أعطف من الأب؟ ومن أحن من الأم؟؟ اللهم إلا أنت، يا خالق العطف، والرب العطوف، ويا خالق الحنان، وأنت الذي أسميت نفسك الحنّان.
لقد طلب - صلى الله عليه وسلم - من ربه أن يزور قبر أمه، فأذن له.. فعلام يدل طلب هذه الزيارة؟
روى مسلم في صحيحه: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي". وعند النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: زار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت..." الحديث. إنه حتى بعد أن غمرته - صلى الله عليه وسلم - أنوار النبوة، هاهو ذا يعيش لوعة الشوق إلى الأم والتعلق بها، إنها الفطرة السوية وما يتعلق بها من حنين، وما أصابه وبقي في نفسه بسبب فقد حنان الأم حيناً من الدهر في طفولته.
-------------------
(1) حسن صحيح: الترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي.
(2) البقرة: 155.
(3) محمد: 31.
(4) الذي فقد أبويه.
http://www.islamtoday.net المصدر:
==============
الأمر بالصبر والثبات عند المحن
قال تعالى :{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) [الأنعام/33-35] }
قال القرطبي (1):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1904)(3/120)
قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ } كسرت «إنّ» لدخول اللام . قال أبو ميسرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بأبي جهل وأصحابه فقالوا : يا محمد والله ما نُكذِّبك وإنك عندنا لصادق ، ولكن نُكذِّب ما جئتَ به؛ فنزلت هذه الآية : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } ثم آنسه بقوله : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } الآية . وقرىء «يُكَذِّبُونَكَ»؛ مخففاً ومشدّداً؛ قيل : هما بمعنى واحد كحزنته وأحزنته؛ واختار أبو عُبيد قراءة التخفيف ، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وروى عنه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به؛ فأنزل الله عز وجل : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } . قال النحاس وقد خولف أبو عُبيد في هذا . وروى : لاَ نُكذبِك . فأنزل الله عز وجل : { لاَ يُكَذِّبُونَكَ } . ويقوّي هذا أن رجلاً قرأ على ابن عباس «فَإِنَّهُمْ لاَ يُكْذِبُونَكَ» مخففاً فقال له ابن عباس «فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ» . لأنهم كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم : الأمين . ومعنى «يُكَذِّبُونَكَ» عند أهل اللغة ينسبونك إلى الكذب؛ ويردّون عليك ما قلت . ومعنى «لا يُكْذِبُونَكَ» أي لا يجدونك تأتي بالكذب؛ كما تقول : أكذبته وجدته كذّاباً ، وأبخلته وجدته بخيلاً ، أي لا يجدونك كذّاباً إن تدبّروا ما جئت به . ويجوز أن يكون المعنى : لا يثبتون عليك أنك كاذب؛ لأنه يقال : أكذبته إذا احتججت عليه وبيَّنت أنه كاذب . وعلى التشديد : لا يكذّبونك بحجة ولا برهان؛ ودل على هذا { ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } . قال النحاس : والقول في هذا مذهب أبي عبيد ، واحتجاجه لازم؛ لأن علياً كرم الله وجهه هو الذي روى الحديث ، وقد صح عنه أنه قرأ بالتخفيف؛ وحكى الكسائي عن العرب : أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه ، وكذّبته إذا أخبرت أنه كاذب؛ وكذلك قال الزجاج : كذّبته إذا قلت له كذبت ، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب .
قوله تعالى : { فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ } أي فاصبر كما صبروا . { وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } أي عوننا ، أي فسيأتيك ما وُعِدت به . { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله } مبين لذلك النصر؛ أي ما وعد الله عز وجل به فلا يقدر أحد أن يدفعه؛ لا ناقض لحكمه ، ولا خلف لوعده؛ و { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ غافر : 51 ] { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } فاعل «جاءك» مضمر؛ المعنى : جاءك من نبإ المرسلين نبأٌ .
================
وقال الرازي (1):
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن طوائف الكفار كانوا فرقاً كثيرين ، فمنهم من ينكر نبوته لأنه كان ينكر رسالة البشر ويقول يجب أن يكون رسول الله من جنس الملائكة وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شبهة هؤلاء وأجاب عنها . ومنهم من يقول : إن محمداً يخبرنا بالحشر والنشر بعد الموت وذلك محال . وكانوا يستدلون بامتناع الحشر والنشر على الطعن في رسالته . وقد ذكر الله تعالى ذلك وأجاب عنه بالوجوه الكثيرة التي تقدم ذكرها ومنهم من كان يشافهه بالسفاهة وذكر ما لا ينبغي من القول وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية . واختلفوا في أن ذلك المحزن ما هو؟ فقيل كانوا يقولن إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وهو قول الحسن . وقيل : إنهم كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه وشريعته . وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال .
المسألة الثانية : قرأ نافع { لَيَحْزُنُكَ } بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان يقال حزنني كذا وأحزنني .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 6 / ص 268)(3/121)
المسألة الثالثة : قرأ نافع والكسائي { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } خفيفة والباقون يكذبونك مشددة وفي هاتين القراءتين قولان : الأول : أن بينهما فرقاً ظاهراً ثم ذكروا في تقرير الفرق وجهين : أحدهما : كان الكسائي يقرأ بالتخفيف ، ويحتج بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعه الأباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب وإن لم يكن ذلك بافتعاله وصنعه . قال الزجاج : معنى كذبته قلت له كذبت ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد فكأن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً عليه السلام ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة تلك النبوة وتلك الرسالة ، إلا أن ذلك الذي تخيله فهو في نفسه باطل . والفرق الثاني قال أبو علي : يجوز أن يكون معنى { لاَ يُكَذّبُونَكَ } أي لا يصادفونك كاذباً لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة كما يقال أحمدت الرجل إذا أصبته محموداً فأحببته وأحسنت محمدته إذا صادفته على هذه الأحوال .
والقول الثاني : أنه لا فرق بين هاتين القراءتين : قال أبو علي : يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً لأن معنى التفعيل النسبة إلى الكذب بأن يقول له كذبت كما تقول ذنبته وفسقته وخطأته أي قلت له فعلت هذه الأشياء وسقيته ورعيته أي قلت له سقاك الله ورعاك وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله . قال ذو الرمة :
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
أي أنسبه إلى السقيا بأن أقول سقاك الله فعلى هذا التقدير يكون معنى القراءتين واحداً ، إلا إن فعلت إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت .
المسألة الرابعة : ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم ولكنهم يجحدون بآيات الله واختلفوا في كيفية الجمع بين هذين الأمرين على وجوه :
الوجه الأول : أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة . ثم ذكروا لتصحيح هذا الوجه روايات : إحداها : أن الحرث بن عامر من قريش قال يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب . وثانيها : روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا ، فقال له والله إن محمداً لصادق وما كذب قط؟ ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية .
إذا عرفت هذا فنقول : معنى الآية على هذا التقدير أن القوم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون نبوتك بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .
الوجه الثاني : في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذباً ألبتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولاً من عند الله ، وبهذا التقدير : لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا : إنه ما كذب في سائر الأمور ، بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد .
الوجه الثالث : في التأويل : أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه ، ثم إن القوم أصروا على التكذيب فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك ، وإنما كذبوني ، ونظيره أن رجلاً إذا أهان عبداً لرجل آخر ، فقال هذا الآخر : أيها العبد إنه ما أهانك ، وإنما أهانني : وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن . وتقريره : أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
والوجه الرابع : في التأويل وهو كلام خطر بالبال ، هو أن يقال المراد من قوله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً ، وهو المراد من قوله { ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ } والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير : إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل ، والله أعلم .
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
في الآية مسألتان :(3/122)
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أزال الحزن عن قلب رسوله في الآية الأولى بأن بين أن تكذيبه يجري مجرى تكذيب الله تعالى فذكر في هذه الآية طريقاً آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بين أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة ، وأن أولئك الأنبياء صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى أتاهم النصر والفتح والظفر فأنت أولى بالتزام هذه الطريقة لأنك مبعوث إلى جميع العالمين ، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا . ثم أكد وقوى تعالى هذا الوعد بقوله ولا مبدل لكلمات الله يعني أن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ، ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه ونظيره قوله تعالى { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } [ الصافات : 171 ] وقوله { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] وبالجملة فالخلف في كلام الله تعالى محال وقوله { وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِىْ المرسلين } أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم . قال الأخفش : { مِنْ } ههنا صلة ، كما تقول أصابنا من مطر . وقال غيره : لا يجوز ذلك لأنها لا تزاد في الواجب ، وإنما تزاد مع النفي كما تقول : ما أتاني من أحد ، وهي ههنا للتبعيض ، فإن الواصل إلى الرسول عليه السلام قصص بعض الأنبياء لا قصص كلهم كما قال تعالى : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] وفاعل : ( جاء ) مضمر أضمر لدلالة المذكور عليه ، وتقديره : ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين .
المسألة الثانية : قوله تعالى : { ولا مبدل لكلمات الله } يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه ، فذلك الخبر ممتنع التغير ، وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه . فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالاً . فكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق . والله أعلم .
============
وقال السعدي(1) :
أي: قد نعلم أن الذي يقول المكذبون فيك يحزنك ويسوءك، ولم [ ص 255 ] نأمرك بما أمرناك به من الصبر إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية. فلا تظن أن قولهم صادر عن اشتباه في أمرك، وشك فيك. { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ } لأنهم يعرفون صدقك، ومدخلك ومخرجك، وجميع أحوالك، حتى إنهم كانوا يسمونه -قبل البعثة- الأمين. { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي: فإن تكذيبهم لآيات الله التي جعلها الله على يديك (1) .
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } فاصبر كما صبروا، تظفر كما ظفروا. { وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } ما به يثبت فؤادك، ويطمئن به قلبك.
==============
وفي التفسير الوسيط (2):
{ قَدْ } هنا للتحقيق وتأكيد العلم وتكثيره ، والتحقيق هنا جاء من موضوعها لا من ذاتها كما أن التكثير راجع إلى متعلقات العلم ، لا إلى العلم نفسه ، لأن صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها . والحزن ألم يعترى النفس عند فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه .
قال الأمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : يوقل تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم . فى تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ } أى : قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم وقوله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } أى : هم لا يتهمونك بالكذب فى نفس الأمر ، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثورى عن أبى إسحاق عن ناجيه عن على قال : قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك يا محمد ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } . وعن أبى يزيد المدنى أن النبى صلى الله عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابىء؟ فقال : والله إنى لأعلم أنه لنبى ، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعاً؟ وتلا أبو زيد { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 254)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1452)(3/123)
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما كان يصيبه من المشركين ومما لا شك فيه أنه - عليه الصلاة والسلام - كان حريصاً على إسلامهم ، فإذا ما رآهم معرضين عن دعوته حزن وأسف ، وفى معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } ومنها قوله - تعالى - { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ومنها قوله - تعالى - { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال الجمل : والفاء فى قوله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } للتعليل ، فإن قوله { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } بمعنى لا يحزنك ، كما يقال فى مقام المنع والزجر نعلم ما تفعل . ووجه التعليل : أن التكذيب فى الحقيقة لى وأنا الحليم الصبور ، فتخلق بأخلاقى . ويحتمل أن يكون المعنى : إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لى فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم .
والمعنى : إن هؤلاء الكفار - يا محمد - لا ينسبونك إلى الكذب ، فهم قد لقبوك بالصادق الأمين ، ولكنهم يجحدون الآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم مع اعتقادهم صدقها .
والجحود هو الإنكار مع العلم ، أى نفى ما فى القلب ثبوته ، أو إثبات ما فى القلب نفيه ، وفى التعبير بالجحود بعد نفى التكذيب إشارة إلى أن آيات الله واضحة بحيث يصدقها كل عاقل وأنه لا يصح إنكارها إلا عن طريق الجحود .
وقال - سبحانه - { ولكن الظالمين } ولم يقل ( ولكنهم ) ، لبيان سبب جحودهم وهو الظلم الذى استقر فى نفوسهم ، وفيه فوق ذلك تسجيل للظلم عليهم حتى يكونوا أهلا لما يصيبهم من عقاب .
ثم زاد القرآن فى تعزية النبى صلى الله عليه وسلم وتسليته عن طريق إخباره بما حدث للأنبياء من قبله فإن عموم البلوى مما يخفف وقعها فقال : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } .
أى : أن الرسل من قبلك - يا محمد - قد كذبتهم أقوامه وأنزلت بهم الأدى ، فليس بدعا أن يصيبك من أعدائك ما أصاب الأنبياء من قبلك ، ولقد صبر أولئك الأنبياء الكرام على التطاول والسفه فكانت نتيجة صبرهم أن آتاهم الله النصر والظفر ، فعليك - وأنت خاتمهم وإمامهم - أن تصبر كما صبروا حتى تنال ما نالوا من النصر ، فإن سنة الله لا تتخلف فى أى زمان أو مكان .
وجاء قوله - تعالى - { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } مؤكدا بقد وباللام ، للإشارة إلى تأكيد التسلية والتعزية ، وإلى تأكيد التمسك بفضيلة الصبر التى سيعقبها النصر الذى وعد الله به الصابرين .
و { مَا } فى قوله { على مَا كُذِّبُواْ } مصدرية ، { وَأُوذُواْ } معطوف على قوله { كُذِّبَتْ } أى : كذبت الرسل وأوذوا فصبروا على كل ذلك .
وقوله { حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } غاية للصبر ، أى : صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء إلى أن جاءهم نصرنا وفيه بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم مؤكداً للتسلية بأنه - سبحانه - سينصره على القوم الظالمين .
وقوله - تعالى - { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله } معناه : لا مغير لكلمات الله وآياته التى وعد فيها عباده الصالحين بالنصر على أعدائه ، ومن ذلك قوله - تعالى - { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } وقوله - تعالى - { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } إلى غير ذلك من الآيات التى بشر فيها عباده المؤمنين بالفلاح وحسن العاقبة .
ويرى المحققون من العلماء أن المراد بكلمات الله : شرائعه ، وصفاته ، وأحكامه ، وسننه فى كونه ، ويدخل فيها دخولا أوليا ما وعد الله به أنبياءه وأولياءه من النصر والظفر . وهذا الرأى أرجح من سابقه لأنه أعم وأشمل .
وإضافة الكلمات إليه - سبحانه - للإشعار باستحالة تبديلها أو تغييرها لأنه - سبحانه - لا يغالبه أحد فى فعل من الأفعال ، ولا يقع منه خلف فى قول من الأقوال ، فما دام المؤمنون يخلصون له العبادة والقول والعمل ويجتهدون فى مباشرة الأسباب واتخاذ الوسائل النافعة ، فإنه - سبحانه - سيجعل العاقبة لهم . وقوله - تعالى - { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } تأكيد وتقرير لما قبله أى : ولقد جاءك من أخبار المرسلين وأنبائهم - مما قصه عليك فى كتابه - ما فيه العظات والعبر ، فلقد صبر المرسلون على الأذى فكافأهم الله - تعالى - على ذلك بالظفر على أعدائهم .
=================(3/124)
=
وقال الطاهر بن عاشور (1):
استئناف ابتدائي قصدت به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر ، ووعده بالنصر ، وتأييسه من إيمان المتغالين في الكفر ، ووعده بإيمان فرق منهم بقوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى إلى قوله يسمعون } . وقد تهيّأ المقام لهذا الغرض بعد الفراغ من محاجّة المشركين في إبطال شركهم وإبطال إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والفراغ من وعيدهم وفضيحة مكابرتهم ابتداء من قوله : { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم } [ الأنعام : 4 ] إلى هنا .
و { قد } تحقيق للخبر الفعلي ، فهو في تحقيق الجملة الفعلية بمنزلة ( إنّ ) في تحقيق الجملة الاسمية . فحرف { قد } مختصّ بالدخول على الأفعال المتصرّفة الخبرية المثبتة المجرّدة من ناصب وجازم وحرف تنفيس ، ومعنى التحقيق ملازم له . والأصحّ أنّه كذلك سواء كان مدخولها ماضياً أو مضارعاً ، ولا يختلف معنى { قد } بالنسبة للفعلين . وقد شاع عند كثير من النحويّين أنّ { قد } إذا دخل على المضارع أفاد تقليل حصول الفعل . وقال بعضهم : إنّه مأخوذ من كلام سيبويه ، ومن ظاهر كلام «الكشاف» في هذه الآية . والتحقيق أنّ كلام سيبويه لا يدلّ إلاّ على أنّ { قد } يستعمل في الدلالة على التقليل لكن بالقرينة وليست بدلالة أصلية . وهذا هو الذي استخلصتُه من كلامهم وهو المعوّل عليه عندي . ولذلك فلا فرق بين دخول { قد } على فعل المضي ودخوله على الفعل المضارع في إفادة تحقيق الحصول ، كما صرّح به الزمخشري في تفسير قوله تعالى : { قد يعلم ما أنتم عليه } في سورة النور ( 64 ) . فالتحقيق يعتبر في الزمن الماضي إن كان الفعل الذي بعد قد } فعلَ مُضيّ ، وفي زمن الحال أو الاستقبال إن كان الفعل بعد ( قد ) فعلاً مضارعاً مع ما يضمّ إلى التحقيق من دلالة المقام ، مثللِ تقريب زمن الماضي من الحال في نحو : قد قامت الصلاة . وهو كناية تنشأ عن التعرّض لتحقيق فعل ليس من شأنه أن يشكّ السامع في أنّه يقع ، ومثللِ إفادة التكثير مع المضارع تبعاً لما يقتضيه المضارع من الدلالة على التجدّد ، كالبيت الذي نسبه سيبويه للهذلي ، وحقّق ابن بري أنّه لعبيد بن الأبرص ، وهو :
قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرّا أنَامِلُه ... كأنّ أثْوَابَه مُجَّتْ بِفِرْصَاد
وبيت زهير :
أخا ثقة لا تُهلك الخمرُ مالَه ... ولكنَّه قد يهلك المالَ نائلُه
وإفادة استحضار الصورة ، كقول كعب :
لَقد أقُومُ مَقَاما لو يقوم به ... أرى وأسمعُ ما لو يسمَع الفِيلُ
لَظلّ يُرعَد إلاّ أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تَنْويل
أراد تحقيق حضوره لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع استحضار تلك الحالة العجيبة من الوجل المشوب بالرجاء .
والتحقيق أنّ كلام سيبويه بريء ممّا حَمَّلوه ، وما نشأ اضطراب كلام النحاة فيه إلاّ من فهم ابن مالك لكلام سيبويه . وقد ردّه عليه أبو حيّان ردّاً وجيهاً .
فمعنى الآية علمنا بأنّ الذي يقولونه يُحزنك محقّقاً فتصبّر . وقد تقدّم لي كلام في هذه المسألة عند قوله تعالى : { قد نرى تقلّب وجهك في السماء } في سورة البقرة ( 144 ) ، فكان فيه إجمال وأحَلْت على تفسير آية سورة الأنعام ، فهذا الذي استقرّ عليه رأيي .
وفعل نعلم } معلّق عن العمل في مفعولين بوجود اللام .
والمراد ب { الذي يقولون } أقوالهم الدّالة على عدم تصديقهم الرسول صلى الله عليه وسلم كما دلّ عليه قوله بعده { ولقد كُذّبَتْ رسل } [ الأنعام : 34 ] ، فعدل عن ذكر اسم التكذيب ونحوه إلى اسم الموصول وصلته تنزيهاً للرسول عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذا اللفظ الشنيع في جانبه تلطّفاً معه .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر { لَيُحْزنك } بضم الياء وكسر الزاي . وقرأه الباقون بفتح الياء وضمّ الزاي يُقال : أحزنت الرجل بهمزة تعدية لفعل حَزن ، ويقال : حَزَنْتُه أيضاً . وعن الخليل : أنّ حزنته ، معناه جعلت فيه حُزناً كما يقال : دَهنته . وأمّا التعدية فليست إلاّ بالهمزة . قال أبو علي الفارسي : حَزَنْت الرجل ، أكثر استعمالاً ، وأحزنته ، أقيس . و { الذي يقولون } هو قولهم ساحر ، مجنون ، كاذب ، شاعر . فعدل عن تفصيل قولهم إلى إجماله إيجازاً أو تحاشياً عن التصريح به في جانب المنزّه عنه .
والضمير المجعول اسم ( إنّ ) ضمير الشأن ، واللام لام القسم ، وفعل { يحزنك } فعل القسم ، و { الذي يقولون } فاعله ، واللام في { ليحزنك } لام الابتداء ، وجملة { يحزنك } خبر إنّ ، وضمائر الغيبة راجعة إلى { الذين كفروا } في قوله «ثم الذين كفروا بربِّهم يعدلون» .
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 4 / ص 409)(3/125)
والفاء في قوله : { فإنّهم } يجوز أن تكون للتعليل ، والمعلّل محذوف دلّ عليه قوله : { قد نعلم } ، أي فلا تحزنْ فإنّهم لا يُكذبونك ، أي لأنّهم لا يكذبونك . ويجوز كونها للفصيحة ، والتقدير : فإن كان يحزنك ذلك لأجل التكذيب فإنّهم لا يكذبونك ، فالله قد سلّى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن أخبره بأنّ المشركين لا يكذبونه ولكنّهم أهل جحود ومكابرة . وكفى بذلك تسلية . ويجوز أن تكون للتفريع على { قد نعلم } ، أي فعلمنا بذلك يتفرّع عليه أنّا نثبّت فؤادك ونشرح صدرك بإعلامك أنّهم لا يكذبونك ، وإن نذكِّرك بسنة الرسل من قبلك ، ونذكّرك بأنّ العاقبة هي نصرك كما سبق في علم الله .
وقرأ نافع ، والكسائي ، وأبو جعفر { لا يكْذبونك } ، بسكون الكاف وتخفيف الذال . وقرأه الجمهور بفتح الكاف وتشديد الذال . وقد قال بعض أئمة اللغة إنّ أكذب وكذّب بمعنى واحد ، أي نسبه إلى الكذب . وقال بعضهم : أكذبه ، وجده كاذباً ، كما يقال : أحمدَه ، وجده محموداً . وأمّا كذّب بالتشديد فهو لنسبة المفعول إلى الكذب . وعن الكسائي : أنّ أكذبه هو بمعنى كَذّب ما جاء به ولم ينْسُب المفعول إلى الكذب ، وأنّ كذّبه هو نسبه إلى الكذب . وهو معنى ما نقل عن الزجّاج معنى كذبتهُ ، قلت له : كذبتَ ، ومعنى أكذبتُه ، أريتُه أنّ ما أتى به كَذب .
وقوله : { ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } استدراك لدفع أن يتوهّم من قوله : { لا يكذبونك } على قراءة نافع ومن وافقه أنّهم صدّقوا وآمنوا ، وعلى قراءة البقية { لا يكذّبونك } أنّهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أنّ الواقع خلاف ذلك ، فاستدرك عليه بأنّهم يجحدون بآيات الله فيظهر حالهم كحال من ينسب الآتيَ بالآيات إلى الكذب وما هم بمكذّبين في نفوسهم .
والجحد والجحود ، الإنكار للأمر المعروف ، أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر ، فهو نفي ما يَعلم النافي ثبوته ، فهو إنكار مكابرة .
وعُدل عن الإضمار إلى قوله { ولكنّ الظّالمين } ذمّاً لهم وإعلاماً بأنّ شأن الظالم الجحد بالحجّة ، وتسجيلاً عليهم بأنّ الظلم سجيّتهم .
وعدّي { يجحدون } بالباء كما عدّي في قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النحل : 14 ] لتأكيد تعلّق الجحد بالمجحود ، كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ، وفي قوله : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأولون } [ الإسراء : 59 ] ، وقول النابغة :
لك الخير إن وارتْ بك الأرض واحداً ... وأصبح جَدّ الناس يظلع عاثراً
ثم إنّ الجحد بآيات الله أريد به الجحد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات . وجحْدها إنكار أنّها من آيات الله ، أي تكذيب الآتي بها في قوله : إنّها من عند الله ، فآل ذلك إلى أنّهم يكذّبون الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يجمع هذا مع قوله { فإنّهم لا يكذّبونك } على قراءة الجمهور . والذي يستخلص من سياق الآية أنّ المراد فإنّهم لا يعتقدون أنّك كاذب لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام معروف عندهم بالصدق وكان يلقّب بينهم بالأمين . وقد قال النضر بن الحارث لمّا تشاورت قريش في شأن الرسول : «يا معشر قريش قد كان محمد فيكم غلاماً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً حتّى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون ووالله ما هُو بأولئكم» . ولأنّ الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنّها من عند الله ، ولأنّ دلائل صدقه بيِّنة واضحة ولكنّكم ظالمون .
والظالم هو الذي يجري على خلاف الحقّ بدون شبهة . فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنّه الحق ، وذلك هو الجحود . وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم . ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلُوّاً } [ النمل : 14 ] فيكون في الآية احتباك . والتقدير : فإنّهم لا يكذّبونك ولا يكذّبون الآيات ولكنّهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك ، فحذف من كلَ لدلالة الآخر .
وأخرج الترمذي عن ناجية بن كعب التابعي أنّ أبا جهل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به . فأنزل الله { فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } . ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية . لأنّ أبا جهل إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء ، كما قال ابن العربي في «العارضة» : ذلك أنّه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة ، فقوله : لا نكذّبك ، استهزاء بإطماع التصديق .
عطف على جملة { فإنّهم لا يكذّبونك } [ الأنعام : 33 ] أو على جملة { ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] . ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء ، أي فلا تحزن ، أو إن أحزنك ذلك فإنّهم لا يكذّبونك والحال قد كذّبت رسل من قبلك . والكلام على كلّ تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأنّ إساءة أهل الشرك لمحمد عليه الصلاة والسلام هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله؛ فإنّهم كذّبوا بالقول والاعتقاد وأمّا قومه فكذّبوا بالقول فقط . وفي الكلام أيضاً تأسَ للرسول بمن قبله من الرسل .(3/126)
ولام القسم لتأكيد الخبر بتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة من ذهل طويلاً عن تكذيب الرسل لأنّه لمّا أحزنه قول قومه فيه كان كمن بعُد علمه بذلك . و { من قبلك } وصف كاشف لِ { رُسل } جيء به لتقرير معنى التأسّي بأنّ ذلك سنّة الرسل .
وفي موقع هذه الآية بعد التي قبلها إيماء لرجاحة عقول العرب على عقول من سبقهم من الأمم ، فإنّ الأمم كذّبت رسلها باعتقاد ونطق ألسنتها ، والعرب كذّبوا باللسان وأيقنوا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام بعقولهم التي لا يروج عندها الزيف .
و ( ما ) مصدرية ، أي صبروا على التكذيب ، فيجوز أن يكون قوله { وأوذوا } عطفاً على { كذّبوا } وتكون جملة { فصبروا } معترضة . والتقدير : ولقد كذّبت وأوذيَت رسل فصبروا . فلا يعتبر الوقف عند قوله { على ما كذّبوا } بل يوصل الكلام إلى قوله { نَصْرُنَا } ، وأن يكون عطفاً على { كُذّبت رسل } ، أي كذّبت وأوذوا . ويفهم الصبر على الأذى من الصبر على التكذيب لأنّ التكذيب أذى فيحسن الوقف عند قوله : { على ما كذّبوا } .
وقرن فعل { كذّبت } بعلامة التأنيث لأنّ فاعل الفعل إذا كان جمع تكسير يرجّح اتِّصال الفعل بعلامة التأنيث على التأويل بالجماعة . ومن ثمّ جاء فعلا { فصبروا } و { كذّبوا } مقترنين بواو الجمع ، لأنّ فاعليهما ضميران مستتران فرجح اعتبار التذكير .
وعطف { وأوذوا } على { كذّبت } عطف الأعمّ على الأخصّ ، والأذى أعمّ من التكذيب ، لأنّ الأذى هو ما يسوء ولو إساءة مّا ، قال تعالى : { لن يضرّوكم إلاّ أذى } [ آل عمران : 111 ] ويطلق على الشديد منه . فالأذى اسم اشتقّ منه آذى إذا جعل له أذى وألحقه به . فالهمزة به للجعل أو للتصيير . ومصادر هذا الفعل أذى وأذَاة وأذيَّة . وكلّها أسماء مصادر وليست مصادر . وقياس مصدره الإيذاء لكنّه لم يسمع في كلام العرب . فلذلك قال صاحب «القاموس» : لا يقال : إيذاء . وقال الراغب : يقال : إيذاء . ولعلّ الخلاف مبني على الخلاف في أنّ القياسي يصحّ إطلاقه ولو لم يسمع في كلامهم أو يتوقّف إطلاقه على سماع نوعه من مادّته . ومن أنكر على صاحب «القاموس» فقد ظلمه . وأيّاً ما كان فالإيذاء لفظ غير فصيح لغرابته . ولقد يعدّ على صاحب «الكشاف» استعماله هنا وهو ما هو في علم البلاغة .
و { حتَّى } ابتدائية أفادت غاية ما قبلها ، وهو التكذيب والأذى والصبر عليهما ، فإنّ النصر كان بإهلاك المكذّبين المؤذين ، فكان غاية للتكذيب والأذى ، وكان غاية للصبر الخاصّ ، وهو الصبر على التكذيب والأذى ، وبقي صبر الرسل على أشياء ممّا أمر بالصبر عليه .
والإتيان في قوله : { أتاهم نصرنا } مجاز في وقوع النصر بعد انتظاره ، فشبِّه وقوعه بالمجيء من مكان بعيد كما يجيء المنادى المنتظر . وتقدّم بيان هذا عند قوله تعالى : { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين } في هذه السورة [ 4 ] .
وجملة { ولا مبدّل } عطف على جملة : { أتاهم نصرنا } .
وكلمات الله وحيه للرسل الدّالّ على وعده إيّاهم بالنصر ، كما دلّت عليه إضافة النصر إلى ضمير الجلالة . فالمراد كلمات من نوع خاصّ ، فلا يرد أنّ بعض كلمات الله في التشريع قد تبدّل بالنسخ؛ على أنّ التبديل المنفي مجاز في النقض ، كما تقدّم في قوله تعالى : { فمَن بدّله بعدما سَمعَه } في سورة [ البقرة : 181 ] . وسيأتي تحقيق لهذا المعنى عند قوله تعالى : وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته في هذه السورة [ 115 ] .
وهذا تطمين للنبيء بأنّ الله ينصره كما نصر من قبله من الرسل ، ويجوز أن تكون كلمات الله ما كتبه في أزله وقدره من سننه في الأمم ، أي أنّ إهلاك المكذّبين يقع كما وقع إهلاك من قبلهم .
ونفي المُبدّل كناية عن نفي التبذيل ، أي لا تبديل ، لأنّ التبديل لا يكون إلاّ من مبدّل . ومعناه : أنّ غير الله عاجز عن أن يبدّل مراد الله ، وأن الله أراد أن لا يبدّل كلماته في هذا الشأن .
وقوله : ولقد جاءك من نبإ المرسلين } عطف على جملة : { ولا مبدّل لكلمات الله } ، وهو كلام جامع لتفاصيل ما حلّ بالمكذّبين ، وبكيف كان نصر الله رسله . وذلك في تضاعيف ما نزل من القرآن في ذلك .
والقول في { جاءك } كالقول في { أتاهم نصرُنا } ، فهو مجاز في بلوغ ذلك وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم به .
و ( مِنْ ) في قوله : { مِنْ نبأ } إمّا اسم بمعنى ( بعض ) فتكون فاعلاً مضافة إلى النبأ ، وهو ناظر إلى قوله تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] . والأحسن أن تجعل صفة لموصوف محذوف تقديره : لقد جاءك نَبَأ من نَبَأ المرسلين . والنبأ الخبر عن أمر عظيم ، قال تعالى : { عمّ يتساءلون عن النّبأ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] ، وقال : { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } [ ص : 67 ، 68 ] ، وقال في هذه السورة [ 67 ] { لكلّ نبإ مُسْتَقرّ وسوف تعلمون . }
================
وقال السيد رحمه الله (1):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 147)(3/127)
لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون . فإن هذا القرآن شاهد بذاته , بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير , على أنه من عند الله . . وهم لم يكونوا يجحدون الله . . وهم - على وجه التأكيد - كانوا يحسون ذلك ويعرفونه . . كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية ; ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى - وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة . وكل من مارس فن القول يدرك إدراكا واضحا أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا ; لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه ! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقاديوالمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري , ونوع المؤثرات واللمسات الموحية . . كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية , والطرائق البشرية في الإداء النفسي والتعبيري أيضا . . والعرب لم يكن يخفي عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم . وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله . .
إن مشركي العرب في جاهليتهم - وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش - لم يكونوا يشكون في صدق محمد صلى الله عليه وسلم فلقد عرفوه صادقا أمينا , ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة , كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته , وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر , ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله . .
ولكنهم - على الرغم من ذلك - كانوا يرفضون إظهار التصديق , ويرفضون الدخول في الدين الجديد ! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لأن في دعوته خطرا على نفوذهم ومكانتهم . . وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله , والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه . .
والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة:
قال ابن اسحاق:حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري:أنه حدث , أن أبا سفيان بن حرب , وأبا جهل بن هشام , والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي , حليف بني زهرة , خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه . وكل لا يعلم بمكان صاحبة . فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الصبح تفرقوا , فجمعهم الطريق , فتلاوموا , وقال بعضهم لبعض:لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه , فباتوا يستمعون له . حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق , فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود . فتعاهدوا على ذلك . . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه , ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته , فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:يا أبا ثعلبة , والله لقد سمعت أشياء أعرفها , وأعرف ما يراد بها , وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا والذي حلفت به . ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل , فدخل عليه في بيته , فقال:يا أبا الحكم , ما رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:ماذا سمعت ? قال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف . . أطعموا فأطعمنا , وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا , حتى إذا تجاثينا على الركب , وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء , فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولانصدقه ! قال:فقام عنه الأخنس وتركه . .
وروى ابن جرير - من طريق أسباط عن السدي - في قوله:(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك , ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) . . لما كان يوم بدر , قال الأخنس بن شريق لبني زهرة:يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم , فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته , فإن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم , وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته . قفوا حتى ألقى أبا الحكم , فإن غلب محمد رجعتم سالمين , وإن غلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئا - فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي - فالتقى الأخنس بأبي جهل , فخلا به , فقال:يا أبا الحكم أخبرني عن محمد:أصادق هو أم كاذب ? فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ! فقال أبو جهل:ويحك ! والله إن محمدا لصادق , وما كذب محمد قط , ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة , فماذا يكون لسائر قريش ? فذلك قوله: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) . .(3/128)
ونلاحظ:أن السورة مكية , وهذه الآية مكية لا شك في ذلك ; بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر . . ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحيانا عن آية ما:"فذلك قوله:كذا . . " ويقرنون إليها حادثا ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه ; ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث , بغض النظر عما إذا كان سابقا أو لاحقا . . فإننا لا نستغرب هذه الرواية . .
وقال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن زياد , عن محمد بن كعب القرظي , قال:حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا - قال يوما وهو جالس في نادي قريش , ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش , ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها , فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ? - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه , ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون - فقالوا:بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا ابن أخي . . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة , والمكان في النسب . وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم , فرقت به جماعتهم , وسفهت أحلامهم , وعبت به آلهتهم ودينهم , وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها , لعلك تقبل منها بعضها . قال:فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قل:يا أبا الوليد أسمع" قال:يا ابن أخي , إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا , وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع امرا دونك , وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا , وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء , وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة , ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه - قال:" أفرغت يا أبا الوليد ? " قال:نعم . قال:" فاستمع مني " . قال:أفعل . قال:بسم الله الرحمن الرحيم(حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . .) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها , وألقى يديه خلف ظهره , معتمدا عليهما , يستمع منه , حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد . ثم قال:" قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت , فأنت وذاك " . . فقام عتبة إلى أصحابة . فقال بعضهم لبعض:نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليدبغير الوجه الذي ذهب به ! فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد ? قال:ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر , ولا بالشعر , ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وما هو فيه , فاعتزلوه , فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ , فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم , وإن يظهر على العرب فملكه ملككم , وعزه عزكم , وكنتم أسعد الناس به . . قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال:هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم !
وقد روى البغوي في تفسيره حديثا - بإسناده - عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى في قراءته إلى قوله:(فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) . . فأمسك عتبة على فيه , وناشده الرحم , ورجع إلى أهله , ولم يخرج إلى قريش , واحتبس عنهم . . . إلى آخره . . . ثم لما حدثوه في هذا قال:فأمسكت بفيه , وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب . .
وقال ابن اسحاق:إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم:يا معشر قريش , إنه قد حضر هذا الموسم , وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه , وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا , فاجمعوا فيه رأيا واحدا , ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا , ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا:فأنت يا أبا عبد شمس فقل , وأقم لنا رأيا نقل به . قال:بل أنتم فقولوا:أسمع . قالوا:نقول:كاهن ! قال:لا والله ما هو بكاهن , لقد رأينا الكهان , فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ! قالوا:فنقول:مجنون ! قال:ما هو بمجنون , لقد رأينا الجنون وعرفناه , فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ! قالوا:فنقول:شاعر ! قال:ما هو بشاعر , لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه , فما هو بالشعر ! قالوا:فنقول:ساحر ! قال:ما هو بساحر , لقد رأينا السحار وسحرهم , فما هو بنفثهم ولا عقدهم ! قالوا:فما نقول يا أبا عبد الشمس ? قال:والله إن لقوله لحلاوة ,(3/129)
وإن أصله لعذق , وإن فرعه لجناة , وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ! وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا:هو ساحر , جاء بقول هو سحر , يفرق به بين المرء وأبيه , وبين المرء وأخيه , وبين المرء وزوجته , وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه , وذكروا له أمره !
وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى , حدثنا محمد بن ثورة , عن معمر , عن عبادة بن منصور , عن عكرمة:أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن , فكأنه رق له . فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام . فأتاه فقال له:أي عم ! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ! قال:لم ? قال:يعطونكه , فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله ! [ يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازا ! ] قال:قد علمت قريش أني أكثرها مالا ! قال:فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال , وأنك كاره له ! قال:فماذا أقول فيه ? فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني , ولا أعلم برجزه ولا بقصيده , ولا بأشعار الجن ! والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا . والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليحطم ما تحته , وإنه ليعلو وما يعلى . قال:والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . . قال:فدعني حتى أفكر فيه . . فلما فكر قال:إن هذا إلا سحر يؤثر . يؤثره عن غيره .فنزلت:(ذرني ومن خلقت وحيدا . .) حتى بلغ:(عليها تسعة عشر) .
وفي رواية أخرى أن قريشا قالت:لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها ! فقال أبو جهل:أنا أكفيكموه ! ثم دخل عليه . . وأنه قال - بعد التفكير الطويل - إنه سحر يؤثر . أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه .
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكذبهم فيما يبلغه لهم . وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات , وما وراءها من السبب الرئيسي , وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب , الذي يزاولونه , وهو سلطان الله وحده . كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام . وهم كانوا يعرفون جيدا مدلولات لغتهم ; وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة . وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد . . وصدق الله العظيم:
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك , ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) . .
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون . كما يغلب في التعبير القرآني الكريم .
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته , ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به . . يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله - وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن - ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق , حتى جاءهم نصر الله . ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل , ولا يغير منها اقتراحات المقترحين , كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق:
(ولقد كذبت رسل من قبلك , فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا , ولا مبدل لكلمات الله , ولقد جاءك من نبأ المرسلين) . .
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم , ضارب في شعاب الزمن , ماض في الطريق اللاحب , ماض في الخط الواصب . . مستقيم الخطي , ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل , ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون , ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة , وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . . والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . . والعاقبة هي العاقبة , مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . . إن نصر الله دائما في نهاية الطريق:
(ولقد كذبت رسل من قبلك , فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا , ولا مبدل لكلمات الله , ولقد جاءك من نبأ المرسلين) . .
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله صلى الله عليه وسلم . . كلمات للذكرى , وللتسرية وللمواساة , والتأسية . . وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقهم واضحا , ودورهم محددا , كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته , ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .(3/130)
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما انها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . . دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب , وتتلقى أصحابها بالأذى . . وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . . وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب , ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين ! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبا في هدايتهم , ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة , وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة . . لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم , أم تعلقت بالأجل المرسوم .
إنه الجد الصارم , والحسم الجازم , إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية . .
ثم يبلغ الجد الصارم مداه , في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرغبة البشرية , المشتاقة إلى هداية قومه , المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين , والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها , ودور الناس أجمعين , تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم:
(وإن كان كبر عليك إعراضهم , فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض , أو سلما في السماء , فتأتيهم بآية ! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله , ثم إليه يرجعون) . .
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر , إلا حين يستحضر في كيانه كله:أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا , لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة , ما يذهب بحلم الحليم !
. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم , وشق عليك تكذيبهم , وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء , فأتهم بآية !
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى:إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان , لوظيفة معينة , تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات , والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان , والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه , بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده , ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية , وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف . . فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه .
(ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين) .
يا لهول الكلمة ! ويا لحسم التوجيه ! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
===============
صبر المؤمنين على أذى المشركين
حض القرآن الكريم على الصبر والمصابرة، وجعل من الصبر ركيزة أساسية، وعاملا حاسما لإقامة الدين في النفس والأرض، قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153)، وقال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (آل عمران: 200)، وقال - تعالى - عن أنبيائه ورسله مبيناً أعظم ركائز الإمامة والاستخلاف في الأرض: {وجعلنا منهم أَئمة يهدون بأَمرنا لما صبروا} (السجدة: 24) ولما كان الصبر بهذه المنزلة من الدين، فقد كان سمة ظاهرة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته -رضوان الله عليهم-، خصوصاً في مرحلة الدعوة الأولى - المرحلة المكية -، فقد أوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بشتى أنواع العذاب المعنوي والمادي، ولكنهم تجاوزوا كل ذلك بعزيمة لا تقهر، وصبر لا يفتر.(3/131)
لقد واجه المشركون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته بالدعاية المغرضة، فقد سخروا منه ومن رسالته، {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6)، ورموه بالسحر والكذب {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (صّ: 4)، ونسبوه إلى الكهانة والشعر، واستهزؤوا بأصحابه، فقالوا {أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا} (الأنعام: من الآية53)، وجعلوهم مثارا للغمز والضحك {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون} (المطففين: 29، 30)، وسعوا لتشويه حقيقة القرآن، وإثارة الشبهات حوله، فتارة يقولون: {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} (الفرقان: 5)، وتارة يقولون: {إنما يعلمه بشر} (النحل: 103)، ومرة أخرى يحاولون صد الناس عن سماع القرآن والتشويش عليهم فيقولون {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت: 26). هذا هو موقفهم من كتاب الله - عز وجل -.
وأما موقفهم من الإيمان باليوم الآخر فقد بينه الله - تعالى - في كتابه، حين قال الكافرون: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} (سبأ: 7-8) بل جرهم كبرهم وكفرهم إلى أن قالوا: {إن هي حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} (الأنعام: 29) ويقسمون على إنكار البعث بالأيمان المغلظة {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (النحل: 38).
أما الأذى المادي، فقد تجرأ المشركون على شخص الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وضايقوه وجعلوا يرمون أمام بيته الأوساخ، بل إن بعضهم وضع على ظهره الشريف أمعاء وأحشاء الإبل وهو ساجد لله بجوار الكعبة.
وبعضهم اجتمع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد ضربه، وكان أبو لهب من أشد الناس أذية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا زوجته أم جميل التي كانت تضع الشوك في طريق الرسول، والقذر على بابه.
أما العصبة المؤمنة، فقد ذاقت صنوفا من العذاب الشديد، فمنهم من وضع في الرمضاء تحت شمس مكة المحرقة، ومنهم من منع الطعام والشراب، ومنهم من وضع عليه الصخر والحجر، وكان شعاره: أحد - أحد، ومنهم من استشهد تحت وطأة التعذيب، وكانت المحاصرة والمقاطعة في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة.
ومنهم من ضرب بالنعال وهو يطوف بالمسجد الحرام، ومنهم من جلد على وجهه، وكان من أشد أنواع الأذى الذي تلقاه أصحاب رسول الله سب المشركين لدين الإسلام وللرسول - عليه الصلاة والسلام -.
ولم يكتف المشركون بما فعلوه، بل واصلوا حقدهم وكيدهم حتى في وقت الهجرة، فمن الطرق التي سلكتها قريش في صد المؤمنين عن الهجرة التفريق بين الرجل وزوجه وولده، فمن ذاك ما حصل مع أبي سلمة وزوجه، وتعرضوا للمؤمنين المهاجرين، وحاولوا إعادتهم إلى مكة عن طريق الاختطاف، وكان كل من يقع تحت وطأة قريش يحبس عن الهجرة ويجرد عن ماله، وعن دابته.
ومع كل ما سبق، فإن هذا لم يكن ليصد الفئة المؤمنة عن طريق الحق، أو ليضعف من قوتها وعزمها، بل واصلت مسيرتها الدعوية بثبات وجد وصبر واحتساب للأجر، فأفاض الله عليهم الفرج بعد الشدة، وأعزهم وأعلى شأنهم ونصر الدين على أيديهم، وأتم عليهم نعمه العظيمة، وصدق الله إذ يقول:{يا أَيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (محمد: 7).
12/08/2003
http://www.islamweb.net المصدر:
================
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى ( 1 )
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي
لقد تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو إلى الله في مكة إلى أذى شديد من زعماء الكفار.
ولقد كان قوي الشخصية شجاعًا في مواجهة هؤلاء الزعماء على الرغم مما كانوا عليه من قوة معنوية، ومكانة عالية بين العرب، فقد كانوا يقتلون بنظراتهم الحادة وألسنتهم السليطة كل ضعيف خوار، وكان العرب جميعًا يحترمونهم ويقدرون رأيهم لمكانتهم من خدمة بيت الله الحرام وجواره.
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجههم بما يكرهون حينما أصروا على باطلهم، وتحداهم بما عجزوا عن مقاومته حتى أسقط سمعتهم الوهمية القائمة على الدجل واستغلال غفلة العقول.
فلم يكن منهم إلا أن ضاعفوا من كيدهم وأذاهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به.
وقد جاءت روايات في بيان ما تعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى، فمن ذلك:(3/132)
* ما أخرجه ابن إسحاق - رحمه الله - قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجْر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر ذلك الرجل قط، قد سفه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا.
فبينما هم في ذلك إذا طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح.
قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك لَيَرْفَؤْه بأحسن مايجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً.
قال: فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.
فبينما هو في ذلك طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم أنا الذي أقول ذلك.
قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بجمع ردائه. قال: فقام أبو بكر - رضي الله عنه - دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط [1].
وأخرجه أبو يعلى والطبراني بنحوه وفيه أن أبا جهل قال: يا محمد ما كنت جهولاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنت منهم ".
ذكره الهيثمي وقال: وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن، وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح ([2]).
* أخرج الحافظ أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها: ما أشدُّ ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كان المشركون قعدوا في المسجد يتذاكرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وما يقول في آلهتهم فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاموا إليه وكانوا إذا سألوا عن شيء صَدَقهم فقالوا: ألست تقول كذا وكذا؟ فقال: بلى فتشبثوا به بأجمعهم.
فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له: أدرك صاحبك فخرج من عندنا وإن له غدائر [3] فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ قال: فلهوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام [4].
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى هذه الرواية وقال: ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال: من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت.
قال: أمَا إني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه، ولكنه أبو بكر، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذته قريش، فهذا يجره وهذا يتلقاه، ويقولون له: أنت تجعل الآلهة إلها واحدا، فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
ثم بكى عليّ ثم قال: أُنشِدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير منه، ذلك رجل يكتم إيمانه وهذا يعلن إيمانه [5].
وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لقد ضربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة حتى غشي عليه فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله فقالوا من هذا: فقالوا: أبو بكر المجنون.
ذكره الهيثمي وقال: ورجالهما رجال الصحيح [6].(3/133)
* وأخرج الحافظ ابن سيد الناس من حديث عروة بن الزبير قال: حدثني عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه عثمان بن عفان قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيت يوما- قال عمرو: فرأيت عيني عثمان بن عفان ذرفتا من تذكر ذلك قال عثمان بن عفان: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر، وفي الحجْر ثلاثة نفر جلوس: عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، فمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره، فعُرِف ذلك في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدنوت منه حتى وسَطته، فكان بيني وبين أبي بكر، وأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعا، فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بَلَّ بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما يعبد آباؤنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّى ذلك!
ثم مضى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك، حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه فدفعته في صدره فوقع على استه، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط، ثم انفرجوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف، ثم قال: أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه عاجلا.
قال عثمان: فوالله ما منهم رجل إلا أخذه أَفْكل [7]، وهو يرتعد، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم، ثم انصرف إلى بيته، وتبعناه خلفه حتى انتهى إلى باب بيته، ووقف على السُّدَّة ثم أقبل علينا بوجهه فقال: أبشروا فإن الله - عز وجل - مظهرٌ دينه، ومُتِمٌّ كلمته وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله بأيديكم عاجلا.
قال: ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فوالله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا [8].
وذكر الحافظ ابن حجر في شرح حديث عبد الله بن عمرو السابق من رواية الزبير بن بكار والدارقطني في "الأفراد" من طريق عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروة قال: حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان..وذكر أوله، ثم قال: " فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد الله بن عمرو هذا، فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند، ولكن سنده ضعيف، فإن كان محفوظًا حمل على التعدد، وليس ببعيد لما سأبينه" ثم قارن بين الروايتين وقال: وهذا يقوي التعدد [9].
وهذا يعني أنه إذا كان خبرًا واحدًا فالمعتبر هو حديث عبد الله بن عمرو لأنه أقوى إسنادًا، وإن حمل على تعدد القصة وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر فإن ضعفه محتمل للتقوية، وهكذا أورده الحافظ ابن سيد الناس على أنه خبر مستقل.
* وأخرج الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جالس حزينًا قد خُضِب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، قال فقال له: مالك؟ قال فقال له: فعل بي هؤلاء وفعلوا، قال فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم، قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع، فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حسبي [10].
من هذه النصوص نعرف مدى ما كان المشركون يضمرون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عداوة، حيث كانوا يجتمعون على محاربته ويوصي بعضهم بعضا بالوقوف في وجهه، ويلوم بعضهم بعضا على التقصير في مباداته بالعداء.
وحينما يكون العدو متفرقا أمره ويقاوم أفرادُه الدعوة الوافدة وهم فرادى فإن أمره يكون ميسورًا إذ بإمكان صاحب الدعوة أن يصل إلى إقناع بعضهم بدعوته وأن يتفادى عداوة الآخرين بكلمة مودة أو برد حازم يسكت عدوه، فأما حين يجتمع أفراد العدو على صاحب الدعوة فإن موقفه يكون حرجا أمامهم إذ أن السيادة في مثل هذه الاجتماعات تكون للدهماء الذين تحركهم عادةً العصبيةُ القبلية والتمسك بالموروثات وإن كانت تتنافى مع العقل السليم، ولا يتمكن صاحب الدعوة والحالة هذه من مخاطبة أصحاب العقول المفكرة.
وقد كان زعماء قريش الذين تغلب هذه الصفات على أصحاب الرأي منهم هم الذين يحتلون ساحات المسجد الحرام ولا يتركون الفرصة لأصحاب العقول المفكرة التي تميل إلى التحرر من الأوهام والخرافات التي لا تنسجم مع العقول السليمة.. لا يتركون لهم الفرصة ليلتقي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يسمعوا كلامه فقد قاموا بالحجْر الفكري على مجتمعهم وطبقوا ذلك بصرامة فائقة حتى كان من يريد السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يضطر إلى التسلل في الخفاء.
ومن هنا كان موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - صعبًا للغاية في معاملتهم وكان لابد له أحيانًا أن يخرج عن حلمه المعهود ليسلك معهم طريق الحزم والمجابهة كما هو الحال في الخبر الأول لأن الذين يواجهونه يخاطبونه بعواطفهم الثائرة الحاقدة ولا يخاطبونه بعقول متزنة تدرك ما يُلقَى عليها من قول وتفكر فيه.
فلما قال لهم: أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح استكانوا وخضعوا له.(3/134)
لقد كان زعماء الكفار أولئك يحاولون أن يبنوا لأنفسهم مجدا من خلال جرأتهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإقدامهم على سبه وإيذائه أمام الجمهور، حيث يظهرون بمظهر الأبطال الذين لا يبالون بسخط النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ولا بسخط حماتهم من بني هاشم، فكان من المناسب أن يجيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلام شديد يهز فيه من شخصياتهم ويسقط فيه من معنوياتهم حتى لا يمتدحوا أمام أتباعهم بتلك المواقف الوهمية، ولقد حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراد حيث وجموا لسماع ذلك الكلام وتكلموا بكلام يحمل معنى الاعتذار عن موقفهم السيء ذلك.
إن اجتماعهم على الباطل يلغي تفكيرهم السليم ويجعلهم ينطلقون من الحماس المتأجج من العواطف الثائرة، وغالبًا ما يكون التفكير والتوجيه من فرد أو أفراد يتزعمون أفراد المجتمع، فيبقى أغلب الأفراد تابعين لهؤلاء الزعماء من غير تفكير في صواب ما دعوهم إليه من خطئه ولذلك أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى التفكير المتأمل المتجرد عن فكر الجماعة الذي يهيمن عادة على الأفراد حيث يقول - تعالى -: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ: 46)
فإذا خلا الإنسان بنفسه ثم تفكر في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه سيلغي من حسابه اتهامه بالجنون وغيره مما ألصقه به الأعداء، وكذلك إذا خلا بصاحبه وقَارَنَا بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن عُرف عنهم الإصابة بهذه التهم، لأن الفكر والحال هذه ينطلق من العقل المتجرد من العاطفة والتبعية للقوى المهيمنة على العقول فلابد أن يصل إلى النتيجة الصحيحة الموافقة للعقل السليم.
وحينما يخلو الإنسان إلى فكره يخبو نداء العاطفة تدريجيًّا ويرتفع نداء العقل فيصلُ الإنسان إلى الحكم الصحيح العادل.
وفي هذه الأخبار مواقف رائعة لأبي بكر - رضي الله عنه-، حيث وقف دون النبي - صلى الله عليه وسلم - ودافع الناس عنه وحماه بنفسه حتى انصرف عنه أعداؤه، وفيها بيان لشدة الأذى الذي تحمله في سبيل ذلك، وهذا دليل على قوة إيمانه وشجاعته النادرة واستهانته بنفسه في سبيل الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي أحد هذه الأخبار شهادة على شجاعة أبي بكر البالغة يقدمها بطل كبير من أبطال الإسلام هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي لم تنتكس له راية ولم يقف له أحد في موقف.
وإنما يدرك فضل أهل الفضل من شاركهم في هذا الفضل، حيث شهد له بالإقدام على مدافعة المشركين وإنقاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من بين أيديهم بينما لم يجرؤ غيره على ذلك، وإن هذا الموقف بقدر ما يصور شجاعة أبي بكر وتضحيته فإنه يصور فظاعة المشركين وعنفهم في الانتقام وقوة شخصياتهم التي أوقفت المؤمنين حتى عن الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وإن من مزايا هذه الشهادة الكريمة أنها تم إعلانها على ملأ من الناس، وفي وقت بدأ فيه بعض الموتورين والجهال بالغضِّ من شأن بعض كبار الصحابة، فأراد علي - رضي الله عنه - أن يعدِّل الموازين، وأن ينبئ الناس بأن محبتهم له يجب أن لا تطغى بحيث يترتب عليها التهوين من شأن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - أجمعين.
وإننا حين نبرز حق أبي بكر وفضله كما أعلنه علي - رضي الله عنهما - فإننا نقدر لعلي هذا الموقف الكريم المشتمل على التواضع الجمِّ والوفاء الكبير لأخوة له مضوا على درب الجهاد والدعوة.
وفي الخبر الأخير بيان لموقف عثمان - رضي الله عنه - حيث دفع أبا جهل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أوقعه على الأرض. مع ما كان يتمتع به أبو جهل من مكانة عالية بين قومه، فرضي الله عن هؤلاء الصحابة الذين صمدوا مع قلتهم لأهل الباطل وهم في أوج عزهم وكثرتهم.
---------------
[1] سيرة ابن هشام 1/289، السير والمغازي /229.
وأخرج الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق وذكره مثله مسند أحمد 2/218.
وذكره الهيثمي وقال: وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد 6/16 -.
وأخرج الإمام البخاري نحوه مختصرًا صحيح البخاري رقم 3678، كتاب فضائل الصحابة -.
[2] مجمع الزوائد 6/16.
[3] أي إن شعر رأسه مفرق إلى غدائر.
[4] مسند الحميدي 1/155 رقم 324، وعزاه الحافظ ابن حجر إلى أبي يعلى والحميدي المطالب العاليه4/192، رقم 4279 وحسن إسناده فتح الباري 7/169- ووثق البوصيري رجاله هامش المطالب العالية 4/193 -.
[5] فتح الباري 7/169.
[6] مجمع الزوائد 6/17.
وأخرجه الحاكم من حديث أنس - رضي الله عنه - وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي المستدرك3/67.
[7] الأفكل بفتح الهمزة وسكون الفاء الرعدة القاموس المحيط -.
[8] عيون الأثر 1/103.
[9] فتح الباري 7/168.
[10] مسند أحمد 3/113.(3/135)
وذكره الحافظ ابن كثير وقال:هذا إسناد على شرط مسلم البداية والنهاية 6/128 129 وصححه الحافظ الذهبي تاريخ الإسلام / السيرة 130 -.
http://www.dawahwin.com المصدر:
==============
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى (2)
5 - أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وإساف ونائلة : لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله .
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك , فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك .
فقال : يابنية أريني وضوءًا فتوضأ , ثم دخل عليهم المسجد , فلما رأوه قالوا : ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدروهم وعُقِروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه رجل .
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه , ثم حصبهم , فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا ([1]) .
في هذا الخبر بلغ الملأ من قريش القمة في التحجر الفكري حيث ضاعفوا من تهديدهم ومحاولتهم القضاء على دعوة الإسلام بالقوة , وذلك بالقضاء على داعيها الأول صلى الله عليه وسلم .
ولكننا نجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل ذلك إصرارًا أكيدا على تبليغ دعوته مهما تكن الحواجز والعوائق .
ونجد في هذا الخبر مثلا على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة , حيث علم من ابنته فاطمة رضي الله عنها عن قعود المشركين له وتهديدهم إياه , ومع ذلك خرج من بيته منفردا ودخل عليهم وهم مجتمعون , وإن هذا الإقدام العظيم مع احتمال وقوع الضرر البالغ يُعدُّ قمة في التضحية والبذل من أجل دعوة الإسلام .
لقد كان الشيء الذي يهيمن على مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم هو التفكير في دعوته وبذل كل الطاقة في محاولة الوصول إلى قلوب الناس , ولقد كان أمر حماية النفس وسلامتها من التعرض للضرر شيئا ثانويًّا لايأخذ له الرسول صلى الله عليه وسلم أي اعتبار إذا تعارض مع الإقدام على تبليغ الدعوة .
6 - وأخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت , وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس , فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعُه في كتفي محمد إذا سجد , فانبعث أشقى القوم - وهو عقبة بن أبي معيط كما جاء مصرحا به في رواية مسلم الثانية - فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه .
قال : فاستضحكوا , وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر , لو كان لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم , والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد مايرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة , فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه , ثم أقبلت عليهم تشتمهم .
فلما قضي النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا , وإذا سأل سأل ثلاثا , ثم قال " اللهم عليك بقريش - ثلاث مرات " فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته , ثم قال : " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عتبة وأمية بن خلف , وعقبة بن أبي معيط " .
قال : وذكر السابع ولم أحفظه - فو الذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر , ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر ([2]) .
في هذه الرواية وما في معناها أمثلة للأذى الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد الكفار في مكة مما يُقصد به الإهانة المادية بإلحاق الأذى الجسماني , والمعنوية بتحطيم المشاعر وإغاظة النفوس, وهي أبلغ من الحسية .
هذا وإن ماجرى من عقبة بن أبي معيط يُعدُّ اعتداء مهينا على أعظم رجل عرفه التاريخ, وهو يؤدي شعائر دينه , مما يدل على تدني مستوى أهل الباطل في معاملة أهل الحق , وهذا علامة على توغل عداوتهم وإفلاسهم في مجال الفكر والحجة البيانية , حيث استخدموا أيديهم وقوتهم المادية .
وإن حقد الكفار الدفين يجعلهم يتصرفون بمقتضى عواطفهم لابمقتضى عقولهم , حيث إنهم لو راجعوا أنفسهم بعد ذلك لأنكروا عملهم , بينما أهل الحق لاينزلون أبدا إلى هذا المستوى الهابط.
أما موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه مثال لشدة الإرهاب الذي كان يواجهه المستضعفون في مكة , الذين لم تكن لهم عشائر تحميهم .
فالصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما يحبون أنفسهم ولكن ابن مسعود كان على يقين من أنه لن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو جثة هامدة أو مايشبه ذلك , فلن يتمكن من تخليصه من الأذى(3/136)
ومن هذا الخبر نفهم أن للنساء مهمة يقمن بها لايستطيع الرجال أحيانًا أن يقوموا بها فقد استطاعت فاطمة رضي الله عنها أن تزيل الأذى عن أبيها صلى الله عليه وسلم وأن تسب الملأ من قريش دون أن تتعرض للأذى لأن تقاليد العرب تمنعهم من الاعتداء على النساء .
وهكذا في كل زمن ينبغي للدعاة أن يستفيدوا من دور المرأة في الأمور التي تحسنها وقد لايدركها الرجال مستفيدين من الأعراف الاجتماعية التي تخدمهم .
وحنيما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعداء خافوا من دعوته , وهكذا الكفار يخافون من عاقبة الدعاء في الدنيا فقط , حيث إنهم لايؤمنون بالآخرة , فهل يتنبه بعض المسلمين الذين لايرتدعون عن ظلم الناس إلا خوفًا من استجابة دعائهم وحلول العقوبة الدنيوية غافلين عن مواقف الحساب يوم القيامة ؟!
ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تأثر تأثرًا كبيرًا مما حصل له ما جاء في رواية أخرى لهذا الخبر وفيها " ثم خرج – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المسجد فلقيه أبو البَخْتَري بسوط يتخصر به فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلِّ عني , فقال: علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ماشأنك فلقد أصابك شيء , فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مُخَلٍّ عنه أخبره فقال: إن أبا جهل أمر فطُرِح عليّ فرث , فقال أبو البختري : هلمَّ إلى المسجد .
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطُرح عليه الفرث ؟ قال: نعم , قال : فرفع السوط فضرب به رأسه, قال : فثار الرجال بعضها إلى بعض , قال وصاح أبو جهل , ويْحكم هي له , إنما أراد محمد أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه .
ذكره الهيثمي وقال : رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره ([3]) .
وأبو البَخْتَري هو ابن هشام بن الحارث بن أسد , وأمه من بني هاشم , وكان من فريق المعتدلين من الكفار الذي تميزوا بوضوح بعد نقض صحيفة المقاطعة وكان من الذين نادوا بنقضها.
7 – وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عن هبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام وتجهزتُ معهما فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إليه ([4]) فلأوذينه في ربه فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يامحمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك" .
ثم انصرف عنه فرجع إليه ([5]) فقال : أي بني ماقلت له ؟ قال : كفرت بإلهه الذي يعبد. قال فماذا قال لك : قال , قال : اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك , فقال : أي بني والله ما آمن عليك دعوة محمد .
قال : فسرنا حتى نزلنا الشراة وهى مأسدة فنزلنا إلى صومعة راهب, فقال: يامعشر العرب ماأنزلكم هذه البلاد وإنها مسرح الضيغم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم حقي, قلنا: أجل يا أبا لهب فقال : إن محمدًا قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا حوله , فبينما نحن حوله وأبو لهب معنا أسفل , وبات هو فوق المتاع فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد مايريد تقبض ثم وثب فإذا هو فوق المتاع , فجاء الأسد فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففضخ رأسه , فقال: سيفي ياكلب , لم يقدر على غير ذلك, ووثبنا فانطلق الأسد وقد فضخ رأسه فقال له أبو لهب : قد عرفت والله ماكان لينفلت من دعوة محمد ([6]) .
وهكذا استجاب الله تعالى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث على عتبة بن أبي لهب الأسد الذي أصبح جنديًّا من جنود الدفاع عن الحق فأهلكه , ولم تُجْدِ كل الاحتياطات الامنية التي أحاط بها أبو لهب ابنه .
ومن الغريب في الأمر أن أولئك الكفار يوقنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة ومع ذلك يستمرون في مقاومته وإيذائه , ولايحملهم ذلك على الإيمان به والاستجابة لدعوته , وهذه صورة من صور اتباع الهوى المنحرف , حيث يكون الحق واضحا مثل الشمس فيحيد أصحاب الهوى المنحرف عن اتباعه .
ولقد حمى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى من أذى الكفار كما أخرج الإمام مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال أبو جهل : هل يعفِّر محمد وجه بين أظهركم ([7]) ؟ قال: فقيل : نعم , فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته – أو لأعفرن وجهه في التراب – قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي , زعم ليطأ على رقبته , قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه , قال: فقيل له : مالك ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا .(3/137)
قال : فأنزل الله عز وجل - لاندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه-(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى)(أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى)(العلق : 9 )(عَبْداً إِذَا صَلَّى)(أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى)(أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)(أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ([8])(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)(كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ)(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)(فَلْيَدْعُ نَادِيَه)(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)(كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [ العلق : 6 - 19] ([9]) .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أبو بكر الحميدي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد : 1 )
أقبلت العوراء أم جميل ([10]) ولها ولولة ([11]) وفي يدها فهر ([12]) وهي تقول :
مذمما أبينا ([13]) *** ودينه قلينا ([14]) *** وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد , ثم قرأ قرآنًا اعتصم به - كما قال - وقرأ
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً) (الإسراء : 45 )
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر , ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : يا أبا بكر إني أُخبرتُ أن صاحبك هجاني , فقال: لاورب هذا البيت ماهجاك , قال : فولَّت وهي تقول : قد علمَتْ قريش أني بنت سيدها ([15]) .
ومن أمثلة ذلك ماسبق من خبر أبي جهل حينما هدد بفضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر فمنعه الله تعالى منه .
ولكن الله تعالى يمكِّن الكفار أحيانًا - كما في الخبر السابق - من إيصال الأذى لرسوله صلى الله عليه وسلم , وذلك لرفع ذكره في العالمين , وليكون قدوة لأتباعه المؤمنين في الرضا بقضاء الله تعالى , والصبر الجميل على الأذى .
وقد يمكِّن الله تعالى أهل الباطل من أهل الحق برهة من الزمن فيقومون بالتنكيل بأهل الحق ومحاولة إسكات أصواتهم , ولكن سرعان ماينهار بناؤهم أمام تماسك أهل الحق وصدق تمثيلهم لدينهم , كما قال الله (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) (آل عمران : 111 )
---------------
([1] ) الفتح الرباني 20/223 .
وذكره الهيثمي وقال : رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح - مجمع الزوائد 8/228 .
وأخرجه أبو نعيم من طريق ابن عباس رضي الله عنهما دلائل النبوة لأبي نعيم /60 .
وأخرجه الحاكم بنحوه وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه - المستدرك 3/157 .
([2] ) صحيح مسلم رقم 1794 , كتاب الجهاد , صحيح البخاري رقم 2934 كتاب الجهاد .
([3] ) مجمع الزوائد 6/18 .
([4] ) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم .
([5] ) يعنى إلى أبيه .
([6] ) دلائل النبوة لأبي نعيم /162 .
وأخرجه أيضًا الحاكم وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي - المستدرك 2/539 - وحسن إسناد الحاكم الحافظ ابن حجر - فتح الباري 4/39 - .
([7] ) يعني هل يلصق وجهه بالعفر وهو التراب ويعني بذلك السجود .
([8] ) يعنى أبا جهل .
([9] ) صحيح مسلم , كتاب المنافقين /رقم 2797 ص 2154 .
([10] ) هي امرأة أبي لهب المذكورة في السورة .
([11] ) أي عويل .
([12] ) أي حجر .
([13] ) تريد محمدًا صلى الله عليه وسلم , وهكذا كان الكفار يسمونه على سبيل السخرية .
([14] ) أي أبغضنا .
([15] ) مسند الحميدي 1/153 / 154 , رقم 323 .
وأخرجه أبو عبد الله الحاكم من طريق الحميدي , وذكر مثله , وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي - المستدرك 2/361 .
===============
الأمر بالصبر كما صبر أولو العزم
قال تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) [الأحقاف/35] }
قال القرطبي (1):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 5172)(3/138)
قوله تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } قال ابن عباس : ذوو الحزم والصبر؛ قال مجاهد : هم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم الصلاة والسلام . وهم أصحاب الشرائع . وقال أبو العالية : إن أولي العزم : نوح ، وهود ، وإبراهيم . فأمر الله عز وجل نبيّه عليه الصلاة والسلام أن يكون رابعهم . وقال السدّي : هم ستة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ، ومحمد؛ صلوات الله عليهم أجمعين . وقيل : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وموسى؛ وهم المذكورون على النسق في سورة «الأعراف والشعراء» . وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه مدّة . وإبراهيم صبر على النار . وإسحاق صبر على الذبح . ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر . ويوسف صبر على البئر والسجن . وأيوب صبر على الضرّ . وقال ابن جُريج : إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم . وقال الشعبيّ والكلبيّ ومجاهد أيضاً : هم الذين أمِروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة . وقيل : هم نجباء الرسل المذكورون في سورة «الأنعام» وهم ثمانية عشر : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وزكرياء ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس؛ وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط . واختاره الحسن بن الفضل لقوله في عقبه : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وقال ابن عباس أيضاً : كل الرسل كانوا أولي عزم . واختاره عليّ بن مهدي الطبريّ ، قال : وإنما دخلت «من» للتجنيس لا للتبعيض؛ كما تقول : اشتريت أردية من البَزّ وأكسية من الخز . أي اصبر كما صبر الرسل . وقيل : كل الأنبياء أولو عَزْم إلا يونس بن متى؛ ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يكون مثله؛ لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولّى مُغاضِباً لقومه ، فابتلاه الله بثلاث : سلّط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله ، وسلّط الذئب على ولده فأكله ، وسلط عليه الحوت فابتلعه؛ قاله أبو القاسم الحكيم . وقال بعض العلماء : أولو العزم اثنا عشر نبيّاً أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم ، فأوحى الله إلى الأنبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل؛ فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، وإن شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل؛ فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل؛ فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب . وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض؛ فمنهم من نُشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من صُلب على الخشب حتى مات ، ومنهم من حُرّق بالنار . والله أعلم . وقال الحسن : أولو العزم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى؛ فأما إبراهيم فقيل له :(3/139)
{ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه ، فوجد صادقاً وافياً في جميع ما ابتلي به . وأما موسى فعزمه حين قال له قومه : { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ] . وأما داود فأخطأ خطيئته فنُبّه عليها ، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة ، فقعد تحت ظلها . وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لَبِنة على لَبِنة وقال : إنها مَعْبرة فاعبروها ولا تعمروها . فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : اصبر؛ أي كن صادقاً فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم؛ واثقاً بنُصرة مولاك مثل ثقة موسى ، مهتمًّا بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود ، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى . ثم قيل هي : منسوخة بآية السيف . وقيل : محكمة؛ والأظهر أنها منسوخة؛ لأن السورة مكية . وذكر مقاتل : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد؛ فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل ، تسهيلاً عليه وتثبيتاً له . والله أعلم . { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } قال مقاتل : بالدعاء عليهم . وقيل : في إحلال العذاب بهم ، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة . ومفعول الاستعجال محذوف ، وهو العذاب . { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } قال يحيى : من العذاب . النقاش : من الآخرة . { لَمْ يلبثوا } أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى . وقال النقاش : في قبورهم حتى بعثوا للحساب . { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } يعني في جنب يوم القيامة . وقيل : نسَّاهم هَوْل ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا . ثم قال : { بَلاَغٌ } أي هذا القرآن بلاغ؛ قاله الحسن . ف «بلاغ» رفع على إضمار مبتدأ؛ دليله قوله تعالى : { هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } [ إبراهيم : 2 5 ] ، وقوله : { إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 06 1 ] . والبلاغ بمعنى التبليغ . وقيل : أي إن ذلك اللبث بلاغ؛ قاله ابن عيسى ، فيوقف على هذا على «بلاغ» وعلى «نَهَارٍ» . وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على «وَلاَ تَسْتَعْجِلْ» ثم ابتدأ «لَهُمْ» على معنى لهم بلاغ . قال ابن الأنباريّ : وهذا خطأ؛ لأنك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام ، وهي رافعة بشيء ليس منهما . ويجوز في العربية : بلاغاً وبلاغٍ؛ النصب على معنى إلا ساعة بلاغاً؛ على المصدر أو على النعت للساعة . والخفض على معنى من نهارٍ بلاغ . وبالنصب قرأ عيسى بن عمر والحسن . وروي عن بعض القرّاء «بَلِّغ» على الأمر؛ فعلى هذه القراءة يكون الوقف على «مِنْ نَهَارٍ» ثم يبتدىء «بلغ» . { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } أي الخارجون عن أمر الله؛ قاله ابن عباس وغيره . وقرأ ابن محيصن «فَهَلْ يَهْلِكُ إلاَّ الْقَوْمُ» على إسناد الفعل إلى القوم . وقال ابن عباس : إذا عسر على المرأة وَلَدُها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها؛ وهي : بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم ، سبحان الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 6 4 ] . { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } . صدق الله العظيم . وعن قتادة : لا يهلك إلا هالك ومشرك . وقيل : هذه أقوى آية في الرجاء . والله أعلم .
=================(3/140)
وقال الرازي (1):
اعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد ، وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره ، فقال تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } أي أولو الجد والصبر والثبات ، وفي الآية قولان .
الأول : أن تكون كلمة { مِنَ } للتبعيض ويراد بأولو العزم بعض الأنبياء قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر وموسى قال له قومه { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 61 ، 62 ] وداود بكى على زلته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقال الله تعالى في آدم { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] وفي يونس { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] .
والقول الثاني : أن كل الرسل أولو عزم ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال وعقل ، ولفظة من في قوله { مَّنَ الرسل } تبيين لا تبعيض كما يقال كسيته من الخز وكأنه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ، ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم .
ثم قال : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } ومفعول الاستعجال محذوف ، والتقدير لا تستعجل لهم بالعذاب ، قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه بعض الضجر ، وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر وترك الاستعجال ، ثم أخبر أن ذلك العذاب منهم قريب ، وأنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وعند نزول ذلك العذاب بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا ، حتى يحسبونها ساعة من نهار ، والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ ، كأنه ساعة من النهار ، أو كأن لم يكن لهول ما عاينوا ، أو لأن الشيء إذا مضى صار كأنه لم يكن ، وإن كان طويلاً قال الشاعر :
كأن شيئاً لم يكن إذا مضى ... كأن شيئاً لم يزل إذا أنى
واعلم أنه تم الكلام ههنا ، ثم قال تعالى : { بلاغ } أي هذا بلاغ ، ونظيره قوله تعالى : { هذا بلاغ لّلنَّاسِ } [ إبراهيم : 52 ] أي هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظة أو هذا تبليغ من الرسل ، فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه ، والله أعلم .
============
وقال السعدي(2) :
أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم، وتم يقينهم، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم.
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة، وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى الله وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر الله مقيما على جهاد أعداء الله صابرا على ما يناله من الأذى، حتى مكن الله له في الأرض وأظهر دينه على سائر الأديان وأمته على الأمم، فصلى الله عليه وسلم تسليما.
وقوله: { وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم فلا يستخفنك بجهلهم ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك فإن كل ما هو آت قريب، و { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } فلا يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل.
{ بَلاغٌ } أي: هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل.
أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بلاغ لكم، وزاد إلى الدار الآخرة، ونعم الزاد والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب الأليم، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق وأجل نعمة أنعم الله بها عليهم.
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } بالعقوبات { إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي: الذين لا خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل.
وأعذر الله لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل الله العصمة.
================
وقال الماوردي (3):
قوله عز وجل : { فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ } فيهم ستة أوجه :
أحدها : أن أولي العزم من الرسل الذين أمروا بالقتال من الأنبياء ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : أنهم العرب من الأنبياء ، قاله مجاهد والشعبي .
الثالث : من لم تصبه فتنة من الأنبياء ، قاله الحسن .
الرابع : من أصابه منهم بلاء بغير ذنب ، قاله ابن جريج .
الخامس : أنهم أولوا العزم ، حكاه يحيى .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 14 / ص 71)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 783)
(3) - النكت والعيون - (ج 4 / ص 125)(3/141)
السادس : أنهم أولوا الصبر الذين صبروا على أذى قومهم فلم يجزعوا .
وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عز وجل لم يرض عن أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على مخبوئها » .
وفي أولي العزم منهم ستة أقاويل :
أحدها : أن جميع الأنبياء أولوا العزم ، ولم يبعث الله رسولاً إلا كان من أولي العزم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن أولي العزم منهم نوح وهود وإبراهيم ، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم ، قاله أبو العالية .
الثالث : أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى ، قاله عبد العزيز .
الخامس : أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، قاله السدي .
السادس : أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم ، قاله ابن جريج .
{ وَلاَ تَسْتَعْجِلَ لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بالدعاء عليهم ، قاله مقاتل .
الثاني : بالعذاب وهذا وعيد .
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من العذاب ، قاله يحيى .
الثاني : من الآخرة ، قاله النقاش .
{ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَّهَارٍ } فيه وجهان :
أحدهما : في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى .
الثاني : في قبورهم حتى بعثوا للحساب ، وهو مقتضى قول النقاش .
{ بَلاَغٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ذلك اللبث بلاغ ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن هذا القرآن بلاغ ، قاله الحسن .
الثالث : أن هذا الذي وصفه الله بلاغ ، وهو حلول ما وعده إما من الهلاك في الدنيا أو العذاب في الآخرة على ما تقدم من الوجهين :
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } يعني بعد هذا البلاغ .
{ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } قال يحيى : المشركون .
وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فأمره الله أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له ، والله أعلم .
=================(3/142)
وقال الخازن(1) :
قوله عز وجل : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بالاقتداء بأولي العزم من الرسل في الصبر على أذى قومه قال ابن عباس ذوو الحزم وقال الضحاك ذوو الجد والصبر .
واختلفوا في أولي العزم من الرسل من هم فقال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل . وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي . قال : لأن لفظة من في قوله { من الرسل } للتبين لا للتبعيض كما تقول : ثوب من خز كأنه قيل له اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم وصفهم بالعزم لقوة صبرهم وثباتهم وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت فيه ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { ولا تكن كصاحب الحوت } وقال قوم : أولي العزم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر نبياً لقوله بعد ذكرهم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء الله . وقيل : هم ستة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء . وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر على الذبح ، في قول ، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف صبر على الجب والسجن ، وأيوب صبر على الضر . وقال ابن عباس وقتادة : هم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وخمسة قد ذكرهم الله على التخصيص والتعيين في قوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وفي قوله : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } الآية روى البغوي بسنده عن عائشة قالت : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } وإني والله لا بد لي من طاعته والله لأصبرن كما صبروا ولأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا بالله » .
==============
وقال الألوسي (2):
__________
(1) - تفسير الخازن - (ج 5 / ص 416)
(2) - تفسير الألوسي - (ج 19 / ص 94)(3/143)
الفاء في قوله تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة { فاصبر } وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم ، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف هذه الجملة على اخبار الكفار في الآخرة؛ وقال : المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل : هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل ، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه ، { مِنْ } بيانية كما في { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } [ الحج : 30 ] والجار والمجرور في موضع الحال من { الرسل } فيكون أولوا العزم صفة جميعهم ، وإليه ذهب ابن زيد . والجبائي . وجماعة أي { فاصبر كَمَا صَبَرَ } الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها . وعن عطاء الخراساني . والحسن بن الفضل . والكلبي . ومقاتل . وقتادة . وأبي العالية . وابن جريج ، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن { مِنْ } للتبعيض فأولوا العزم بعض الرسل عليهم السلام ، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال ، فقال الحسن بن الفضل : ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام ( 90 ) لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } وقيل : تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلاً . وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار . والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد به من الذبح . ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده . ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء . وموسى عليه السلام قال له قومه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فقال : { إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقيل : سبعة آدم . ونوح . وإبراهيم . وموسى . وداود . وسليمان . وعيسى عليهم السلام ، وقيل : ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح . وهود . وصالح . وموسى . وداود . وسليمان ، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال : هم نوح . وإبراهيم . وإسحق . ويعقوب . ويوسف . وأيوب . وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح . وهود . وإبراهيم . وشعيب . وموسى عليهم السلام .
وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق . وعبد بن حميد . وابن المنذر عنه أنهم نوح . وإبراهيم . وموسى . وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال .
وقول الجلال السيوطي : إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم . وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروى عن أبي جعفر . وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال :
أولو العزم نوح والخليل الممجد ... وموسى وعيسى والحبيب محمد(3/144)
مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسى نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى الله تعالى عليهم وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك ، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد . وأبو الشيخ . والبيهقي في شعب الإيمان . وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح . وإبراهيم . وهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابع لهم ، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولوا العزم بعد مختصاً بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الاطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل : فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقاً كما صبر إخوانك الرسل قبلك { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَّمْ يَلْبَثُواْ } في الدنيا { إِلاَّ سَاعَةً } يسيرة { مّن نَّهَارٍ } لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته . وقرأ أبي { مّنَ النهار } وقوله تعالى : { بَلاَغٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظته به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول ، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة . وأيد تفسير { بَلاَغٌ } بتبليغ بقراءة أبي مجاز . وأبي سراج الهذلي { بَلَغَ } بصيغة الأمر له صلى الله عليه وسلم ، وبقراءة أبي مجاز أيضاً في رواية { بَلَغَ } بصيغة الماضي من التفعيل ، واستظهر أبو حيان كون الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى : { متاع قَلِيلٌ } [ آل عمران : 197 ] وقال أبو مجاز : { بَلاَغٌ } مبتدأ خبره قوله تعالى : { لَهُمْ } السابق فيوقف على { وَلاَ تَسْتَعْجِل } ويبتدأ بقوله تعالى : { لَهُمْ } وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر؛ والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب؛ وهو ضعيف جداً لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق { لَهُمْ } بتستعجل . وقرأ الحسن . وزيد بن علي . وعيسى { بَلاَغاً } بالنصب بتقدير بلغ بلاغاً أو بلغنا بلاغاً أو نحو ذلك . وقرأ الحسن أيضاً { بَلاَغٌ } بالجر على أنه نعت لنهار .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة ، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها .
=================(3/145)
=
وفي التفسير الوسيط (1):
ختم - سبحانه - السورة الكريمة بأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على مكرهم فقال : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاصبر على أذى قومك ، كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل ، أى : أصحاب الجد والثبات والصبر على الشدائد والبلاء . . وهم - على أشهر الأقوال - : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم جميعا - .
وقوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } نهى منه - تعالى - لنبيه عن استعجال العذاب لهم . أى : ولا تستعجل لهم العذاب . فالمفعول محذوف للعلم به . . ثم بين - سبحانه ما يدعو إلى عدم الاستعجال فقال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ . . } . أى : اصبر - ايها الرسول - على أذى قومك كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل العذاب لهؤلاء الكافرين فإنه آتيهم لا ريب فيه ، وكأنهم عندما يرون هذا العذاب ويحل بهم ، لم يلبثوا فى الدنيا إلا وقتا قليلا وزمنا يسيرا ، لأن شدة هذا العذاب تنسيهم كل متع الدنيا وشهواتها .
وقوله - تعالى - : { بَلاَغٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى : هذا الذى أنذرتكم به ، أو هذا القرآن بلاغ كاف فى وعظكم وإنذاركم إذا تدبرتم فيه ، وتبليغ من الرسول - صلى الله عليه وسلم إليكم .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } كلا ، إنه لا يهلك بعذاب الله - تعالى - إلا القوم الخارجون عن طاعته ، الواقعون فى معصيته فالاستفهام للنفى . .
=============
وقال الطاهر بن عاشور(2) :
فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ }
تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله : { وإذا تُتْلَى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين } [ الأحقاف : 7 ] ، وما اتصل به من ضَرْب المَثل لهم بعاد . فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى ، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم . ويجوز أن تكون الفاء فصيحة . والتقدير : فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا .
وأولوا العزم : أصحاب العزم ، أي المتصفون به . والعزم : نية محققة على عمل أو قول دون تردد . قال تعالى : { فإذا عزمت فتوكّل على الله } [ آل عمران : 159 ] وقال : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } [ البقرة : 235 ] . وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه :
إذا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمه ... ونكَّب عن ذكر العواقب جانباً
والعزم المحمود في الدين : العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة ، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى ، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] وقال : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] . وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف ، وعلى هذا تكون { مِن } في قوله : { من الرسل } تبعيضية . وعن ابن عباس أنه قال : كل الرسل أولو عزم ، وعليه تكون { مِن } بيانية .
وهذه الآية اقتضت أن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه ، فصبره مثيل لصبرهم ، ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة .
وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين ، أي الاستعجال لهم بالعذاب ، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلاً لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة .
ومفعول { تستعجل } محذوف دل عليه المقام ، تقديره : العذاب أو الهلاك . واللام في { لهم } لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله ، أي لا تستعجل لأجلهم ، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير : لا تستعجل لهلاكهم . وجملة { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله ، قال مرة بن عداء الفقعسي ، ولعله أخذ قولَه من هذه الآية :كأنك لم تُسبق من الدّهر ليلةً ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3877)
(2) - التحرير والتنوير - (ج 13 / ص 387)(3/146)
و { من نهار } وصف الساعة ، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئاً يشغله . فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم " وفيه ساعة يُستجاب فيها الدعاء " ، وأشار بيده يقللها ، والساعة جزء من الزمن .
{ نَّهَارٍ } .
فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمِنهم وكافِرهم ليعلم كلٌّ حَظّه من ذلك ، فقوله : { بلاغ } خبر مبتدإ محذوف تقديره : هذا بلاغ ، على طريقة العنوان والطالع نحوَ ما يُكتب في أعلى الظهير : «ظهير من أمير المؤمنين» ، أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو : «إيداع وصية» ، أو ما يكتب في التآليف نحو ما في «الموطأ» «وقوت الصلاة» . ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة : «إعلان» .
وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى : { هذا بلاغ للناس } [ إبراهيم : 52 ] ، وقول سيبويه : «هذا باب علم ما الكلم من العربية» ، وقال تعالى : { إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين } [ الأنبياء : 106 ] .
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة { تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] ، { تلك أمة قد خلت } [ البقرة : 134 ] .
{ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم } .
فرع على جملة { كأنهم يوم يرون ما يُوعدون } إلى { من نهار } ، أي فلا يصيبُ العذاب إلا المشركين أمثالهم . والاستفهام مستعمل في النفي ، ولذلك صحّ الاستثناء منه كقوله تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه } [ البقرة : 130 ] .
ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون ، وذلك من قوله : { قل ما كنتُ بِدْعاً من الرسل } [ الأحقاف : 9 ] ، وقوله : { لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إلى قوله : { ولا هم يحزنون } [ الأحقاف : 12 ، 13 ] ، وقوله : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } [ الأحقاف : 27 ] الآية .
والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي ، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد ، وما في قوله : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } ، وبعضه مجازي وهو سوء الحال ، أي عذاب الآخرة : وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين .
وتعريف { القوم } تعريف الجنس ، وهو مفيد العموم ، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل .
والتعبير بالمضارع في قوله : { فهل يُهلَك } على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقَعْ على إهلاك الأمم الذين قبلهم . ولك أن تجعل التعريف تعريف العهد ، أي القوم المتحدث عنهم في قوله : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } الآية ، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك .
والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك . وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك ، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
=================(3/147)
وقال السيد رحمه الله (1):
كل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم ; وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال , والمعاني والإيحاءات , والقضايا والقيم .
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل لهم . .
توجيه يقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي احتمل ما احتمل , وعانى من قومه ما عانى . وهو الذي نشأ يتيما , وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد . الأب . والأم . والجد . والعم . والزوج الوفية الحنون . وخلص لله ولدعوته مجردا من كل شاغل . كما هو مجرد من كل سند أو ظهير . وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين . وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة . وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان , فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل .
وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .
ألا إنه لطريق شاق طريق هذه الدعوة . وطريق مرير . حتى لتحتاج نفس كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها للدعوة , وفي ثباتها وصلابتها , وفي صفائها وشفافيتها . تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين .
نعم . وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة , وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر . وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم .(فاصبر . كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .
تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية . . ثم تطمين:
(كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) . .
إنه أمد قصير . ساعة من نهار . وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الأخرة . وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار . . ثم يلاقون المصير المحتوم . ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم . وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم:(بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) . .
لا . وما الله يريد ظلما للعباد . لا . وليصبر الداعية على ما يلقاه . فما هي إلا ساعة من نهار . ثم يكون ما يكون . . .
================
الصبر على المصائب
قال تعالى : {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان
وفي التفسير الوسيط (2):
{ يابني أَقِمِ الصلاة } أى : واظب على أدائها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين .
{ وَأْمُرْ بالمعروف } أى بكل ما حض الشرع على قوله أو فعله { وانه عَنِ المنكر } أى : عن كل ما نهى الشرع عن قوله أو فعله .
{ واصبر على مَآ أَصَابَكَ } من الأذى ، فإن الحياة مليئة بالشدائد والمحن والراحة إنما هى فى الجنة فقط .
واسم الإِشارة فى قوله : { أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } يعود إلى الطاعات المذكورة قبله . وعزم الأمور : أعاليها ومكارمها . أو المراد بها ما أوجبه الله - تعالى - على الإِنسان .
قال صاحب الكشاف : { إِنَّ ذَلِكَ } مما عزمها لله من الأمور ، أى : قطعه قطع إيجاب وإلزام . . ومنه الحديث : " إن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه " ومنه عزمات الملوك ، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده ، عزمت عليك إلا فعلت كذا . فإذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله ، ولا مندوحة فى تركه .
وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأمورا بها فى سائر الأمم ، وأن الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها .
=================
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 436)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3365)(3/148)
=
وقال السيد رحمه الله(1) :
هذا هو طريق العقيدة المرسوم . . توحيد لله , وشعور برقابته , وتطلع إلى ما عنده , وثقة في عدله , وخشية من عقابه . ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم , وأمرهم بالمعروف , ونهيهم عن المنكر . والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر , بالزاد الأصيل . زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة . ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله , من التواء النفوس وعنادها , وانحراف القلوب وإعراضها . ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي . ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء . . (إن ذلك من عزم الأمور) . . وعزم الأمور:قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم .
=================
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 375)(3/149)
الصبر واليقين أساس السعادة في الدرارين
قال تعالى :{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة/23، 24]
وفي التفسير الوسيط (1):
أى : وجعلنا من بنى إسرائيل أئمة فى الخير والصلاح ، يهدون غيرهم إلى الطريق الحق ، بأمرنا وإرادتنا وفضلنا ، وقد وفقناهم لذلك حين صبروا على أداء ما كل فناهم به من عبادات ، وعلى مشاق الدعوة إلى الحق ، وعلى كل أم يستلزم الصبر وحبس النفس .
وفى ذلك إرشاد وتعليم للمسلمين ، بأن يسلكوا طريق الأئمة الصالحين ، ممن كانوا قبلهم ، وأن يبلغوا دعوة الله إلى غيرهم بصبر ويقين .
وقوله - سبحانه - { وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } زيادة فى مدحهم ، وفى تقرير أنهم أهل للإِمامة فى الخير . أى : وكانوا بسبب إداركهم السليم لمعانى آياتنا : يوقنون إيقاناً جازماً بأنهم على الحق الذى لا يحوم حلوه باطل وبأنهم متبعون لشريعة الله - تعالى - التى لا يضل من اتبعها وسار على نهجها .
ثم أشار - سبحانه - إلى أن بنى إسرائيل جميعاً لم يكونوا كذلك ، وإنما كان منهم الأخيار والأشرار ، وأنه - تعالى - سيحكم بين الجميع يوم القيامة بحكمه العادل ، فقال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
أى : إن ربك - أيها الرسول الكريم - هو وحده الذى يتولى القضاء والحكم بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة ، فيما كانوا يختلفون فيه فى الدنيا من أمور متنوعة . على رأسها ما يتعلق بالأمور الدينية .
--------------
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
حديثنا اليوم عن معادلة إيمانية نصها: "الصبر واليقين طريق النصر والتمكين ".
تلك المعادلة الإيمانية نطقت بها الآيات القرآنية، وشهدت بها الحوادث التاريخية، وصدقتها الوقائع الحاضرة، وتثبت كذلك في الوقائع المستقبلية.. ذلك أنها من سنن الله - عز وجل - ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
إن الإيمان إذا رسخ في القلب، وإن اليقين إذا تعمّق في النفس تولّد منه الصبر على ما يقّدره الله - عز وجل - من البلاء، وينبثق عن ذلك الثبات على نهج الرسل والأنبياء، ويؤسس كل ذلك على يقين راسخ برب الأرض والسماء، ثم لا يلبث الليل الطويل - من الظلم والعسف والطغيان - أن ينبلج بفجر النصر والعز والتمكين لأهل الأيمان، ولا تلبث القوى الأرضية - التي تتآمر على أهل الأيمان - أن تذهب ريحها، وتتفرق صفوفها، وأن يصبح بأسها بينها شديداً، وأن تكون حصاداً للأيدي المتوضئة تخلص منها البلاد والعباد وتدرأ شرورها عن هذه الحياة.
وإذا تأملنا في كتاب ربنا، وفي سيرة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، ثم نظرنا إلى واقعنا الذي نعيشه؛ فإننا نرى أن تشبث أهل الأيمان بإيمانهم وصبرهم على ما يلاقون في طريق الأيمان والدعوة والجهاد في سبيل الله وثباتهم دون تغيير ولاتبديل هو الذي يؤذن - بإذنه - سبحانه وتعالى- أن ينزل نصر الله - جل وعلا - وأن يعجّل به، وأن يعجّل بهزيمة أعداء الله - سبحانه وتعالى-.
والصبر واليقين هما عمادا الإمامة في الدين، والله - جل وعلا - يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
والله - سبحانه وتعالى- خاطب نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فاصبر إن وعد الله حق}.
الصبر لا يدوم، والثبات لا يستمر إلا عندما يكون القلب موصولاً بالله، والثقة عظيمة في نصر الله، واليقين لا يعتريه الشك في وعد الله - عز وجل -، وذلك يثبت المؤمن بإذن الله - عز وجل -، كما قال - سبحانه وتعالى-: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
وانظر إلى الأمر الرباني الذي يوصي أهل الأيمان بأن لا يحيدو عن نهجه قيد شعره، وأن لا يغيروا ولا يبدلوا.. {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطو واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
إنه الصبر والمصابرة والمرابطة والاستمرار والثبات الموصول بيقين راسخ في الله - عز وجل -: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
ويأتي هذا الفلاح في صورة طمأنينة في القلوب، وسكينة في النفوس، وثبات في الأقدام، ووضوح في الحجة والبرهان في هذه الحياة الدنيا.
ثم كذلك يتجلى في صور من النصر، وفي صور من الظفر لم تكن تخطر على بال ولا ترتبط ولا تتلائم مع القوى الضعيفة والعدة القليلة لأهل الأيمان في مواجهة أهل الكفر والطغيان والعاقبة من بعد ذلك عند الله - عز وجل -: {جنات عرضها السماوات والأرض}.
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3388)(3/150)
وإذا أردنا إن نستقرئ الأحداث والشواهد من كتاب ربنا؛ فإننا نرى ذلك التصوير القرآني الفريد البديع، الذي يبيّن كيف ينبغي أن يرتبط المؤمن بإيمانه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة، مهما أدلهمت الظروف، ومهما تكالب الأعداء، ومهما حصل من أسباب هذه الحياة الدنيا يعيق عن المضي في طريق الله؛ فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يتراجع ولا أن يتخاذل مطلقاً.
انظر إلى الوصف الرباني لأهل الأيمان الصابرين {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو إنا لله وإنا إليه راجعون} لم يلتفتوا إلى شرق ولا إلى غرب إذا حلت بهم النكبات، لم ينظروا إلى قوى الأرض ولكن التجأوا قوة رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض - سبحانه وتعالى-.
{الذين إذا أصابتهم مصيبة}لم يشكوا، لم يرتابوا، لم يغيروا، لم يبدلوا، لم ينافقوا، لم يداهنوا، لم يجاملوا في دين الله - عز وجل -، وإنما ظلت حبالهم موصولة بربهم، ويقينهم راسخ في دينهم، وثباتهم على كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، يقتفون في ذلك آثار الرسل والأنبياء {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.
إنها المعادلة الإيمانية الآيات القرآنية، والسنة الربانية التي لا تتخلف ولا تتغير أبداً {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وانظر إلى قصة يوسف - عليه السلام - لترى هذه المعادلة الإيمانية واضحا ًفي قصة فردية، فإذا بيوسف - عليه السلام - من غيابة الجب وظلمته، إلى رحابة الأرض وسعتها، ثم إذا به من ذل الأسر إلى عزّ القصر، ثم بعد ذلك من ظلمة السجن إلى سدة الحكم.. ثبات وصبر وارتباط بالله، بإذنه - عزوجل - يفرج كل كرب، وينفس كل هم، ويزيل كل ضائقة
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وانظر إلى المثل الآخر في قصة جماعية، قصّها الله - جل وعلا - علينا من قصص الأمم الغابرة، وهي من أكثر القصص القرآنية تكرراً في كتاب الله - عز وجل -.. قصة فرعون، وهي متشعبة متعددة الجوانب متكاثرة في أسلوب عرضها في كتاب الله - سبحانه وتعالى-، ومن ذلك العرض الذي جاء إيجازه في بعض صور القران قوله - جل وعلا -: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
هذه إرادة الله ولا راد لقضاءه وإرادته - سبحانه وتعالى- {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
والله - سبحانه وتعالى- قد ذكر لنا من سيرة المصطفي - صلى الله عليه وسلم - أمثلة كثيرة، غير أن منها مثلاً فريداً ظاهراً في هذا الأمر، في صبر أهل الإيمان ويقينهم بالله، وما يترتب على ذلك من النصر والتمكين لهم بإذن الله، وتتجلي هذه الصورة في أهل النفاق.. في ضعف يقينهم، وزوال أيمانهم، وفي حرصهم على دنياهم، وفي تخذيلهم للصفوف، وتفتيتهم لعرى الروابط في صفوف أهل الأيمان.. ذلكم هو الوصف القرآني لما كان من شأن الأحزاب الذين تألبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وليس أبلغ من وصف القرآن {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}.
اجتمع عليهم شدة الخوف، مع شدة الجوع، مع شدة البرد، ولم يكن هناك بارقة أمل، ولم يكن هناك في نظر أهل الارض وأهل النظرات المادية مهرباً ولا منفذاً! إنما كان الفناء الماحق والهلاك المتحقق، وزلزلوا زلزالاً شديداً.
ثم يأتي وصف القرآن لأهل النفاق بعد إن مرت بهم هذه الظروف، فيقول - جل وعلا -: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}
كان أحدهم يقول: " إن محمد - صلى الله عليه وسلم - يعدكم بكنوز كسرى وقيصر، وإن أحدكم لا يستطيع إن يمضي خطوات ليقضي حاجته! ".
{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا.. }.(3/151)
أما لكم بهذه القوى المجتمعة والمؤامرات العظيمة والأسلحة الفتاكة والخطط المحكمة!
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}
جبناً وخوفاً وهلعاً.. كفراً ونفاقاً، ولذلك جاء هذا الوصف القرآني يعري صورتهم، ويكشف حقيقتهم، ويضرب المثل بأشياعهم ونظرائهم في كل مجتمع إسلامي وفي كل زمان ومكان.. {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً {14} وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}.
ذلك وصف أهل النفاق، فانظر إلى وصف أهل الصبر والإيمان واليقين، الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظل هذه المحنة العصيبة، وفي ظل محاصرة هذه القوى الرهيبة.. {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}
هذه مواقف المؤمنين.. هذه مواقف الصابرين.. هذه مواقف أهل اليقين، وهذه كلمات أهل الثبات، الذين لا يشكون لحظة في وعد الله، ولا يعتريهم التزعزع أو التردد في دين الله - عز وجل -، يظل الواحد منهم ثابتاً واقفاً راسخاً لا يتزعزع.. فعلى أي شيء انتهي الأمر؟ وبأي شيء انجلى الموقف؟
إنها الآيات القرآنية تذكر لنا في صورة رائعة مشرقة كيف كان نزول النصر، وكيف كان بداية التمكين، لم تردهم السيوف ولا القوى ولا الخطط، وإنما هي قوة الله - عز وجل -، وإنما هو نصر الله الذي تنزل {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.
هذا كتاب ربكم، وهذه سنة نبيكم، فهل أنتم في شك من دينكم؟
لابد أن نقوى اليقين بدين الله - عز وجل - وبوعد الله؛ إذ حيث تكالب الأعداء في هذا العصر فتّ ذلك في عضد بعض المؤمنين، وأضعف إيمانهم، والتمسوا الدنية في دينهم، وأعطوا التبعية لأعدائهم، ومنحوا بعض الذل والولاء والمداهنة لأعداء الله - عز وجل -.
وماذا بعد هذا؟ إنه مصير أهل النفاق يتكرر، أما إذا رجعت الأمة إلى ربها، وتذكرت ذلك الوصف القرآني {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
إذا مدّت الحبال مرة أخرى إلى الله.. إذا رفعت الأكفُّ مرة أخرى إلى الله.. إذا سجدت الجباه مرة أخرى ذله لله.. إذا ترابطت الصفوف وتوحدت الأمة على منهج الله؛ فإن نصر الله متنزل، وإن طريق التمكين ممهد.
لقد خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً، وجاهد بعد ذلك عشر سنين، وثبت - عليه الصلاة والسلام - ثم جاء بعد ذلك إلى مكة التي خرج منها مهاجراً عاد إليها فاتحاً وجاء بعصاه وهو يطيح بهذه الأصنام من حول الكعبة، ويقرأ قول الله - عز وجل -: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}.
ولقد اعترى بعض صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - نوع مما يعتري النفوس البشرية، وجاءه خباب بن الأرت - وكان من المعذبين المضطهدين الصابرين في مكة وقال له: يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟
فذكّره النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالميشار ـ المنشار ـ فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)
ولذلك أريد أبيّن أن بعض مشاهد الواقع عندما يأذن الله - عز وجل - بأن تعود فئة من الأمة إلى ربها، وأن يسوق لها من الأحداث والمحن من يذكرها بحقيقة ضعفها وتقصيرها في إلتزامها دين الله - سبحانه وتعالى- أن ذلك يجسّد مره أخرى هذه المعادلة الإيمانية والسنة الربانية.(3/152)
وانظروا إلى أحداث الأمة وإلى أشدّ قضاياها قساوة ومعاناة.. انظروا إلى كل الجرائم والفضائع التي تصبّ على المسلمين.. انظروا إلى بشاعة وفضاعة وقسوة أعداء دين الله - عز وجل -، ثم انظروا إلى ما انبثق في القلوب من صبره وما سكب ا لله عزوجل فيها من يقين، وما ثبت به الأقدام فلم تتزعزع والقلوب فلم تشك ولم ترتاب.
ثم انظروا إلى بعض الصور في هذه الوقائع: انظروا إلى إخواننا في البوسنة والهرسك.. انظروا إلى إخواننا في كشمير، إلى إخواننا في طاجكستان وفلسطين.. انظروا إلى شرق الأرض وغربها حيث يضطهد المسلمون، حيث يعذبون، حيث يحاربون.
انظروا.. فماذا ترى؟ قد يرى الرائي إذا نظر بغير منظار إيمان صورة سوداء أو شوهاء، ويدقّ في قلبه بأس عجيب، ويظن أن الأمر قد قضي، وأن الأمة لابد أن تتراجع وأن تتخاذل، وأن تعطي لأعدائها ما يشاؤون!
إلا أن الناظر بنظر الأيمان يرى مثل هذه الصور تتجلى من جديد.. إخواننا في البوسنة والهرسك الذين ظن الأعداء - الذين تكالبوا عليهم بصورة تشبه بل قد تكون أشد مما تكالب الأعداء يوم الأحزاب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءهم صرب وكروات، ومن ورائهم قوي عظمى، ومن ورائهم دول، ومن ورائهم حيل وسياسات ومؤامرات.. ومع ذلك مازال صمودهم وثباتهم بحمد الله - عز وجل - راسخاً! بل قد رجع كثير منهم إلى الله - عز وجل -، وأصبح لسان حالهم يردد: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، وأصبح حالهم كأنه يمضى إلى تحقيق الوصف الرباني {وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.
ولسان حالهم يذكرنا بما قص الله علينا من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
هل ترونهم ينظرون إلى مدد من شرق أو غرب وهل تروهم يعتمدون على قوة مادية أو عسكرية.
ومع ذلك انظروا على ما فتح الله عليهم ومن النصر والإيمان، وقبل ذلك إلى ما سكب في قلوبهم من اليقين والطمأنينة، ومن رجوعهم إلى ربهم وصلتهم بمولاهم، وخضوعهم له - سبحانه وتعالى-.. وإذا بهم يرجعون إلى القرآن، وإلى حلق الذكر، وإذا بنسائهم يمضين في طريق فيه التذكر ولبس الحجاب.. وغير ذلك من الأمور.
ثم انظروا إلى ما فتح الله عليهم، فإذا بهم اليوم في الآونة الأخيرة ينتصرون، ويعجب المرء كيف ينتصر الضعفاء العزل المحاصرون الذين ليس في ديارهم ماء ولا كهرباء ولا كساء ولا غذاء، كيف يكون مثل هذا؟ كيف ينتصرون ويفتحون فآريس وخمس مدن وقرى كرواتيه، ويطردون عشرات الآلاف من أولئك الأراغل الأعداء؟
كيف يثبتون هذا الثبات في سراييفو العاصمة التي كل لحظة يتهدد أصحابها وسكانها الموت، إما برصاص وإما بقذاف وإما بجوع وإما بأية صورة من الصور.
يحصد الموت الناس حصداً، ومع ذلك تجد الواحد منهم يقول: " ثابتون صامدون، وبقضاء الله - عز وجل - راضون ".
وانظر إلى فضاعة أعداء الله - عز وجل - وإرهابهم وتطرفهم، وكل الأوصاف الذميمة التي يريدون إلصاقها زوراً وبهتاناً بأهل الإسلام والإيمان هي فيهم.
وكان الناس يذكرون الصرب، وأنهم ظلمة، وأنهم قساة، وأنهم طغاة، فجدد الكروات ما أنسى سيرة الصرب..
ونعلم قصة القرية التي أحرقوها عن بكرة أبيها ومن فيها من رجالها ونساها وأطفالها وبيوتها، حتي أذهلوا الناس والعالم أجمع، ومع ذلك ما فتّ ذلك في عضد أهل الأيمان، وما رفعوا أيديهم استسلاماً، وما قالو حسبنا هذا! وإنما قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل}.
وانظروا إلى إخواننا في كشمير اليوم، وهم قد حوصروا في أعظم مسجد من مساجدهم " مسجد حضرة أبال " يحاصره خمسة عشرة ألف جندي، والطائرات المروحية والقوات، ومنع التجول، وبعد ذلك يحصدون، وإذا بالحصاد في بضعة أسابيع يبلغ مئات، ومع ذلك ما يزالون صامدين، وما يزالون في أوج مواجهتهم وجهادهم، يتمسكون بالله - عز وجل - وبكتابه، وبهدى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويثقون بالنصر ثقة ليس فيها شك.. حتى يقول قائد من قوادهم، وهو من زعماءهم الكبار: " إن الجهاد في كشمير ماضٍ في طريقة حتى نهايته المنطقية، وإن الشعب الكشميري قد وصل إلى منطقة اللا عودة ".
بل علماء الأيمان والإسلام في تلك الديار يحثون المؤمنين على الصبر والثبات والصمود، وعلى أن لا يضعفوا وأن لا يجبنوا أمام أعداء الله - عز وجل -، ويفتون بكفر من يكون عوناً للأعداء على المجاهدين والمسلمين في أرض كشمير المسلمة.
وانظروا إلى كل مكان، وانظروا إلى إخواننا في أرض الإسراء وما قد أثلجوا به صدورنا مما يظهرون من مظاهر القوة والاستعلاء {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
صبر وثبات لا يتغير ولا يتبدل، مع استقامة على أمر الله وشرع الله والصياح والهتاف: " الله اكبر.. الله أكبر ".
والأيدي المرتفعة متوضئة، وهي ترفع في أيديها المصافح تغيرت بعض ملامح الأمة، فاصطلحت في بعض أحوالها وأشخاصها وديارها مع الله - عز وجل -، فجاءها بعض هذا النصر، وارتسمت لها بعض مسالك التمكين..(3/153)
فالله الله في تجديد ما ذكر الله - سبحانه وتعالى- من هذه السنن، وأن تكون أوثق بالله - عز وجل -، أوثق بنصرة ووعده من كل شئ في هذه الارض ومن كل قوة في هذه الدنيا، والله لتعلمن نبأه بعد حين، والله منجز وعده، ومنزل نصره.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
إذا تأمل العبد وجد الحكمة التي جاءت على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، تبين لنا الطريق وتعرفنا به، فلسنا في جهل وعماية، بل الأمر واضح بيّن.
فهذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)
فليس الطريق مفروش بالورد، وليس على جانبيه أسباب الأمن والسلامة والسلام، وإنما هو الطريق الذي فيه ذلك البذل والصفق مع الله - عز وجل -: {اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}
إنها السنة التي ذكرها الله - عز وجل - بقوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}
نعم أيها الأخوة نحن في وقت عصيب، وفي محنة شديدة، وإخواننا في مشارق الأرض ومغاربها يعانوا الأمرين من أعداء هذا الدين، الذين تظهر فيهم الآن صورة حقيقية واضحة لا غبش فيها، ولاشك فيها مطلقاً.. صورة تتجلى فيها صفات الكفر والكافرين؛ لما فيهم من عداء ومن قسوة ومن حقد حسد، ومن انعدام الإنسانية وانسلاخ الفطرة وانعدام كل معنى من المعاني الشريفة والقيم الفاضلة.. كل ذلك يتجسد واضحاً كما اخبرنا الله - عز وجل - به في قوله - جل وعلا -: {لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة}
والسؤال الذي يتبادر ألي أذهاننا، ونختم به هذه الوقفة هو ما دورنا؟ وماهي مهمتنا؟ هل نحن متفرجون أم نحن مشجعون؟
إن التشجيع لو أردنا أن نأخذه بمبدأ التشجيع الذي نعرفه في ميادين التشجيع المشهورة المعروفة هو في حقيقته موقف إيجابي، إن المشجعين نراهم بأم أعيننا لا يجلسون على مقاعدهم، بل كلما جرت حركة في الميدان تحركوا وقاموا، وإذا بهم أيضاً يهتفون، وإذا استدعي الأمر يغضبون، وإذا استدعي الأمر بعد ذلك ربما يتحركون وينصرون أو يشتبكون.
أن هذا لم يكن منهم إلا من تحريك قلوبهم وتحرقها وحماستها ومحبتها وغيرتها.. أفيكون ذلك في أمور من اللهو أو في أمور عارضة من أسباب هذه الحياة ومن زينتها ومن زخرفها، ولا يكون ذلك في أمر من أعظم أسس الحياة، ومن أعظم مهمات الإنسان المسلم في هذه الحياة في أمر دينه وأمته وإخوانه المسلمين!
إنه لابد إن تنبض هذه القلوب بالمحبة، وأن تمتلئ بالولاء والنصرة، وأن تعظم فيها الغيرة على دين الله والحرقة والأسى والحزن على أحول الأمة، ولا يكون ذلك ونحن ساهون لا هون، ونحن نملأ البطون ونضحك ملء أشداقنا، ونأكل ملء بطوننا، وننام ملء عيوننا.. فما ذلك حال المشجعين الذين نعرفهم؟
إن أولئك يسعون إلى الميادين لينظروا، فاسعوا إلى أن تعلموا أخبار إخوانكم، وأن تعرفوا أحوالهم، وأن تكونوا بعد ذلك ورائهم قلباً وقالباً، بدعاء في السحر وفي جوف الليل وفي أدبار الصلوات وفي سجودها، حتى يأذن الله - عز وجل - بأن ينصر وأن يُمكّن.
وكونوا أيضا مع إخوانكم بأموالكم وبدعمكم وبذلكم في سبيل الله - عز وجل -؛ فإن الجهاد بالمال من أعون أسباب النصر لهذه الأمة ولإخواننا المجاهدين والمضطهدين في كل مكان.
وليكن لنا من وراء ذلك أيضاً ما نتحرك به لنصرة هذا الدين، ببيان الدروس والعبر، وبيان المواقف المشرقة، وبيان المواقف البطولية الإستشهادية، التي يظهر فيها عيوب كفة القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في مواقع شتى في أماكن عديدة.. إذا بنا نرى صوراً تنشرح لها صدور المؤمنين، ويفرح لها أهل الأيمان عندما نرى آلاف أم من أعداء الله وهم يخشون واحداً أو اثنين إذا كبر أحدهم، أو إذا صاح بآية من آيات القرآن الكريم، وإذا بالصفوف تنفلّ، وإذا بالجموع تتفرق، وإذا بواحد أو فئة قليلة تنصر بإذن الله - عز وجل - كما وعد الله - عز وجل - في كتابة الكريم.
لابد أن ننقل هذه الأخبار المفرحة حتى يزول بعض اليأس الذي عرى النفوس وغزى القلوب؛ فإن المؤمن لا ييأس من روح الله، ولا ييأس من روح الله لا القوم الكافرون والقانطون، وليس المؤمن بكافر ولا قانط، إنه واثق بنصر الله وثقته بالله - عز وجل - عظيمة.(3/154)
ينبغي أن نلقن الأمة وأن نشيع في صفوفها هذه الدروس، وينبغي أن نرتقي بمستوانا ومستوى من حولنا ومستوى من حولنا عن سفاسف الأمور وصغائرها؛ فإنه لا يليق أن تكون الأمة محاصرة، وأن يكون أعداء الله قد جدوا لحربها وفي إنزال البلاء بها، ثم يكون انشغالنا بالدون من الأمور، وبالتافهة من القضايا، دون أن تكون مهمتنا هي أن ننصر ديننا، وأن نحمي أمتنا، وأن نرعى نشأنا، وأن ننشئ جيلنا نشأة تجدد لنا ذكر أبى بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة وأئمة الأمة من سلفها رضوان الله عليهم.
إن بإمكاننا أن نظهر في نفوسنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا نصر الله - عز وجل - فيتنزل علينا بإذنه - سبحانه وتعالى- النصر {إن تنصروا الله ينصركم}
ونصركم دين الله - عز وجل - يكون أول شيء باستقامتكم على أمره.. بالتزامكم حكمه.. باتباعكم هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثبات الثبات.. لاشك ولا ريب، ولا مداهنة ولا نفاق، ولا تراجع ولا ضعف، وإنما هو المضي وذلك هو الذي كان ويكون في كل وقت وآن، كلما ازدادت المحنة وكان الأيمان عظيماً كلما ازداد أثر هذا الإيمان وتجلت صورة وظهرت آثاره وأشرقت أنواره، فإذا بها تبدد بعد ذلك كلما يعتري النفوس من ضعف أو خور أو ذلة أو قنوط ويأس..
وذلك ما ينبغي أن يكون فيما بيننا، وأن نشيعه في صفوفنا؛ فإن هذه الأمة لم ولن تهزم قط مادامت متمسكة بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وفي أتون المحنة وشدتها في وقعة الأحزاب كبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع خبر خيانة اليهود، وكان خبراً كالطعنة النجلاء من الخوف قال: (الله أكبر الله أكبر أبشروا أبشروا).
البشارة بأنه علم أن الأمة مؤمنة بربها، وواثقة بالرسول؛ ولأنها أمة ملتحمة متلاصة متوحدة فلا خوف عليها من أعداءها، وإنما الخوف من أنفسنا.. من ضعف إيماننا.. من كثرة معاصينا.. من تفرق صفوفنا.. من مجاهرتنا بالمعصية لله - عز وجل -.. من إعطائنا ولاءنا لغير الله - سبحانه وتعالى-، ولغير عباد الله المؤمنين..
هنا يكمن الخطر، وهنا تأتي الثغرات.. فالله الله في دينكم، والله الله في نصرة إخوانكم، والله الله أن يؤتي هذا الدين من قبلكم، فليكن كل منكم على ثغرة، وليكن كل منكم قائم بأمر الله - عز وجل - في نفسه أهله ومجتمعه؛ حتى يعجّل الله - عز وجل - بالنصر والتمكين إنه الولي على ذلك والقادر عليه.
http://islameiat.com المصدر:
================
الصبر في القرآن (1)
الإيمان نصفان: صبر وشكر، ولما كان كذلك كان حريا بالمؤمن أن يعرفهما ويتمسك بهما، و أن لا يعدل عنهما، وأن يجعل سيره إلى ربه بينهما ومن هنا كان حديثنا عن الصبر في القرآن الكريم فقد جعله الله جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو وجندا لا يهزم، وحصنا لا يهدم. فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد، والحديث عن مكانته وفضيلته آتية بإذن الله الإشارة إليه. فلا تستعجلها قبل أوانها وقبل الشروع في المقصود نبين المسائل التي سيدور عليها حديثنا وهي:
- مقدمات في تعريفه وضرورته وحكمه ودرجاته.
- فضله.
- مجالاته.
- الوسائل المعينة عليه.
- نماذج من الصابرين.
1- المقدمات:
أ تعريفه:
الصبر لغة: الحبس والكف، قال - تعالى -: ((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي...)) الآية، أي احبس نفسك معهم.
واصطلاحاً: حبس النفس على فعل شيء أو تركه ابتغاء وجه الله قال - تعالى -: ((والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم)).
وقد أشرنا في التعريف إلى أنواع الصبر الثلاثة والباعث عليه.
أما أنواعه فهي: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. ففي قولنا (على فعل شيء) دخل فيه الأول، وفي قولنا (أو تركه) دخل فيه النوعان الثاني والثالث: أما دخول الثاني فظاهر لأنه حبس للنفس على ترك معصية الله، وأما دخول الثالث فلأنه حبس للنفس عن الجزع والتسخط عند ورود الأقدار المؤلمة.
أما الباعث عليه: فهو في قولنا ((ابتغاء وجه الله)) قال - تعالى - ((ولربك فاصبر)) فالصبر الذي لا يكون باعثه وجه الله لا أجر فيه وليس بمحمود، وقد أثنى الله في كتابه على أولي الألباب الذين من أوصافهم ما ذكره بقوله: ((والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية)).
وهذا النص يشير إلى حقيقة هامة جداً وهي أن صبغة الأخلاق ربانية فيه ليست أخلاقاً وضعية أو مادية وإنما ربانية سواء من جهة مصدر الإلزام بها أو من جهة الباعث على فعلها، فالعبد لا يفعلها تحت رقابة بشرية حين تغيب ينفلت منها، بل يفعلها كل حين وعلى كل حال لأن الرقابة ربانية، والباعث إرادة وجه الله - تعالى -.
ب أهميته:
__________
(1) - الصبر في القرآن ( 1 )-محمد الأحمد(3/155)
الصبر: أبرز الأخلاق الوارد ذكرها في القرآن حتى لقد زادت مواضع ذكره فيه عن مائة موضع، وما ذلك إلا لدوران كل الأخلاق عليه، وصدورها منه، فكلما قلبت خلقاً أو فضيلة وجدت أساسها وركيزتها الصبر، فالعفة: صبر عن شهوة الفرج والعين المحرمة، وشرف النفس: صبر عن شهوة البطن، وكتمان السر: صبر عن إظهار مالا يحسن إظهاره من الكلام، والزهد: صبر عن فضول العيش، والقناعة: صبر على القدر الكافي من الدنيا، والحلم: صبر عن إجابة داعي الغضب، والوقار: صبر عن إجابة داعي العجلة والطيش، والشجاعة: صبر عن داعي الفرار والهرب، والعفو: صبر عن إجابة داعي الانتقام، والجود: صبر عن إجابة داعي البخل، والكيس: صبر عن إجابة داعي العجز والكسل وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر، لكن اختلفت الأسماء واتحد المعنى، والذكي من ينظر إلى المعاني والحقائق أولاً ثم يجيل بصره إلى الأسامي فإن المعاني هي الأصول والألفاظ توابع، ومن طلب الأصول من التوابع زل. ومن هنا ندرك كيف علق القرآن الفلاح على الصبر وحده ((وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً)) ((أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاماً)) ((سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)).
وترجع عناية القرآن البالغة بالصبر إلى ماله من قيمة كبيرة في الحياتين الدنيا والأخرى، فليس هو من الفضائل الثانوية، بل من الضرورات اللازمة التي لا انفكاك للإنسان عنها، فلا نجاح في الدنيا ولا نصر ولا تمكين إلا بالصبر، ولا فلاح في الآخرة ولا فوز ولا نجاة إلا بالصبر، فلولا صبر الزارع والدارس والمقاتل وغيرهم ما ظفروا بمقاصدهم:
وقلّ من جدّ في أمر يحاوله *** واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وقال آخر:
لا تيأسن وإن طالت مطالبة *** إذا استعنت بصبر أو ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
ولئن كان الأمر كذلك في الدنيا، فهو في الآخرة أشد وأوكد، يقول أبو طالب المكي: "اعلم أن الصبر سبب دخول الجنة، وسبب النجاة من النار لأنه جاء في الخبر "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"، فيحتاج المؤمن إلى صبر على المكاره ليدخل الجنة، وإلى صبر عن الشهوات لينجو من النار". وقال: "اعلم أن كثرة معاصي العباد في شيئين: قلة الصبر عما يحبون، وقلة الصبر على ما يكرهون".
وإذا كان هذا شأن الصبر مع كل الناس، فأهل الإيمان أشد الناس حاجة إليه لأنهم يتعرضون للبلاء والأذى والفتن ((ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))، وقال: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء، وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب))، وكان التأكيد أشد في قوله: ((لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور))، لقد بينت الآية أن قوى الكفر على ما بينها من اختلاف متحدة ضد الإسلام، وقرنت لبيان موقف المؤمنين بين الصبر والتقوى فلا يكتفوا بالصبر وحده حتى يضيفوا إليه تقواهم لله بتعففهم عن مقابلة الخصم بمثل أسلحته الدنيئة فلا يواجه الدس بالدس لأن المؤمنين تحكمهم قيمهم الأخلاقية في السلم والحرب والرخاء والشدة. ثم وصفت الآية الأذى المسموع بأنه كثير، فلا بد أن يوطن المسلمون أنفسهم على سماع الافتراء والزور والتلفيق والبهتان من عدوهم حتى يأتي نصر الله.
ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أشد أهل الإيمان حاجة إلى الصبر لأنهم الذين يقومون أساساً بالدعوة ويجابهون الأمم بالتغيير وهم حين يقومون بذلك يكون الواحد منهم فرداً في مواجهة أمة تعانده وتكذبه وتعاديه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، وكلما كان القوم أشد عناداً وأكثر إغراقاً في الضلال كانت حاجة نبيهم إلى الصبر أكثر كأولي العزم مثلاً، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.(3/156)
لقد كانت أوامر الرب - سبحانه - لمحمد - عليه الصلاة والسلام - بالصبر كثيرة في القرآن وما ذاك إلا لأنها دعوة شاملة تواجه أمم الأرض كلها فخصومها كثيرون وحاجة إمام الدعوة إلى الصبر أعظم لقد واجه النبي - صلى الله عليه وسلم - صنوف الأذى البدني والنفسي والمالي والاجتماعي والدعائي وغيره، وقاوم ذلك كله بالصبر الذي أمره به الله في عشرين موضعاً في القرآن كلها إبان العهد المكي لأنه عهد البلاء والفتنة والضعف وتسلط الكافر، وكان مما قاله الله له: ((تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك. ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين))، ((واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون... الآية)). ((واصبر لحكم ربك، فإنك بأعيننا، وسبح بحمد ربك حين تقوم)). فأمر بالصبر لحكمه وهو - سبحانه - لا يحكم إلا بالحق والعدل، وقال له ((فإنك بأعيننا)) فصيغة الجمع لزيادة التثبيت والتأنيس، وقال الله لموسى: ((ولتصنع على عيني)) ومن كان بعين الله ومرأى منه فلن يضيع ولن يغلب، ثم أمر بالتسبيح كما أمره به في جملة آيات على أعقاب أمره بالصبر، ولعل السر فيه أن التسبيح يعطى الإنسان شحنة روحية تحلو بها مرارة الصبر، ويحمل التسبيح بحمد الله معنيين جليلين لابد أن يرعاهما من ابتلي:
1- تنزيه الله - تعالى - أن يفعل عبثاً، بل كل فعله موافق للحكمة التامة، فبلاؤه لحكمة.
2- أن له - تعالى - في كل محنة منحة وفي كل بلية نعماء ينبغي أن تذكر فتشكر وتحمد وهذا هو سر اقتران التسبيح بالحمد هنا. وفي قوله (ربك) إيذان بكمال التربية ومزيد العناية.
ج حكمه:
الصبر من حيث الجملة واجب، ويدل لذلك:
أ - أمر الله به في غير ما آية قال - تعالى -: ((استعينوا بالصبر والصلاة)) ((اصبروا وصابروا)).
ب - نهيه عن ضده كما في قوله ((فلا تولوهم الأدبار)) وقوله ((ولا تبطلوا أعمالكم)) ((ولا تهنوا ولا تحزنوا)) ((فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم)).
ج - أن الله رتب عليه خيري الدنيا والآخرة وما كان كذلك كان تحصيله واجباً، أما من حيث التفصيل فحكمه بحسب المصبور عنه أو عليه، فهو واجب على الواجبات وواجب عن المحرمات، وهو مستحب عن المكروهات، ومكروه عن المستحبات، ومستحب على المستحبات، ومكروه على المكروهات، ومما يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً قوله - تعالى - ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين))، فالصبر عن مقابلة السيئة بمثلها ليس واجباً بل مندوباً إليه.
وقد أمر الله المؤمنين بالصبر والمصابرة والمرابطة فقال: ((يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون))، وصيغة المصابرة تفيد المفاعلة من الجانبين، والمعنى هنا: مغالبة الأعداء في الصبر، فإذا كنا نصبر على حقنا، فإن المشركين يصبرون على باطلهم؛ فلا بد أن نغلبهم بمصابرتنا، ثم أمرنا بالمرابطة على تلك المصابرة والثبات عليها لنحقق موعود الله ونظفر بالفلاح، فانتقلت الآية بالأمر من الأدنى إلى الأعلى فالصبر مع نفسك، والمصابرة بينك وبين عدوك والمرابطة: الثبات وإعداد العدة، وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك الرباط أيضاً لزوم ثغر القلب لئلا يهجم منه الشيطان فيملكه أو يخربه أو يناله بأذى. وعليه فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر - سبحانه - أن ملاك ذلك كله بالتقوى.
د درجاته:
الصبر نوعان، بدني ونفسي وكل منهما قسمان: اختياري واضطراري، فصارت أربعة:
أ - بدني اختياري، كتعاطي الأعمال الشاقة.
ب - بدني اضطراري كالصبر على ألم الضرب.
ج - نفسي اختياري كصبر النفس عن فعل مالا يحسن فعله شرعاً ولا عقلاً.
د - نفسي اضطراري كصبر النفس عن فقدان محبوبها الذي حيل بينها وبينه.
والبهائم تشارك الإنسان في النوعين الاضطراريين لكنه يتميز عليها بالنوعين الاختياريين، والصبر الاختياري أكمل من الاضطراري، فإن الاضطراري يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختياري، ولذلك كان صبر يوسف على مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله من السجن أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبويه، وباعوه بيع العبد، ومن الصبر الاختياري صبره على العز والتمكين الذي أورثه الله إياه فجعله مسخراً لطاعة الله ولم ينقله ذلك إلى الكبر والبطر، وكذلك كان صبر نوح والخليل وموسى الكليم والمسيح ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن صبرهم كان على الدعوة إلى الله ومجاهدة أعداء الله ولهذا سموا أولي العزم، وأمر الله رسوله أن يصبر كصبرهم ((فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)) ونهاه عن أن يتشبه بصاحب الحوت حيث لم يصبر فخرج مغاضباً قبل أن يؤذن له ((فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت)) ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على أولي العزم حتى ردوها إلى خيرهم وأفضلهم وأصبرهم.(3/157)
واعلم أن الصبر المتعلق بالتكليف وهو صبر إما على الطاعة أو عن المعصية أفضل من الصبر على مر القدر فإن هذا الأخير يأتي به البر والفاجر والمؤمن والكافر فلابد لكل أحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً، أما الصبر على الأوامر وعن النواهي فهو صبر أتباع الرسل، والصبر على الأوامر أفضل من الصبر عن النواهي لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الأمرين أفضل وأعلى...
2- فضائل الصبر في القرآن الكريم:
حديث القرآن عن فضائل الصبر كثير جداً، وهذه العجالة لا تستوعب كل ما ورد في ذلك لكن نجتزىء منه بما يلي:
1- علق الله الفلاح به في قوله: ((يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)).
2- الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره: ((أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا)) وقال: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)).
3- تعليق الإمامة في الدين به وباليقين: ((وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون)).
4- ظفرهم بمعية الله لهم: ((إن الله مع الصابرين)).
5- أنه جمع لهم ثلاثة أمور لم تجمع لغيرهم: ((أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)).
6- أنه جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به: ((واستعينوا بالصبر والصلاة)).
7- أنه علق النصر بالصبر والتقوى فقال: ((بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)).
8- أنه - تعالى - جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فما استجن العبد بأعظم منهما: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)).
9- أن الملائكة تسلم في الجنة على المؤمنين بصبرهم ((والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)).
10- أنه - سبحانه - رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال: ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)).
11- أنه - سبحانه - جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور: أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها وأشرفها: ((ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور)).
12- أنه - سبحانه - جعل محبته للصابرين: ((والله يحب الصابرين)).
13- أنه - تعالى - قال عن خصال الخير: إنه لا يلقاها إلا الصابرون: ((وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)).
14- أنه - سبحانه - أخبر أنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور: ((إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)).
15- أنه - سبحانه - أثنى على عبده أيوب أجل الثناء وأجمله لصبره فقال: ((إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، فمن لم يصبر فبئس العبد هو.
16- أنه حكم بالخسران التام على كل من لم يؤمن ويعمل الصالحات ولم يكن من أهل الحق والصبر: ((والعصر، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا... السورة)).
قال الإمام الشافعي: "لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم، وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه: قوة العلم، وقوة العمل، وهما: الإيمان والعمل الصالح وكما هو محتاج لتكميل نفسه فهو محتاج لتكميل غيره، وهو التواصي بالحق، وقاعدة ذلك وساقه إنما يقوم بالصبر".
17- أنه - سبحانه - خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال - تعالى -: ((ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة)).
18- أنه - تبارك و تعالى - قرن الصبر بمقامات الإيمان وأركان الإسلام وقيم الإسلام ومثله العليا، فقرنه بالصلاة ((واستعينوا بالصبر والصلاة)) وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات))، وجعله قرين التقوى ((إنه من يتق ويصبر))، وقرين الشكر ((إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور))، وقرين الحق ((وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))، وقرين المرحمة ((وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة))، وقرين اليقين ((لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون))، وقرين التوكل ((نعم أجر العاملين))، ((الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون))، وقرين التسبيح والاستغفار ((فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار))، وقرنه بالجهاد ((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)).
19- إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم ((ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)).
وبعد، فهذا غيض من فيض في باب فضائل الصبر ولولا الإطالة لاسترسلنا في ذكر تلك الفضائل والمنازل، ولعل فيما ذكر عبرة ودافع على الصبر فالله المستعان.
3- مجالات الصبر في القرآن الكريم:
أ - الصبر على بلاء الدنيا:(3/158)
لقد أخبرنا الله - تعالى - بطبيعة الحياة الدنيا، وأنها خلقت ممزوجة بالبلاء والفتن فقال: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد)) أي مشقة وعناء، وأقسم على ذلك بقوله: ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون،)) وإذا أطلق الصبر فلا يكاد ينصرف إلى غيره عند كثير من الناس.
ب - الصبر على مشتهيات النفس:
وهو ما يسمى بالسراء فإن الصبر عليها أشد من الصبر على الضراء، قال بعضهم: البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صِدِّيق، وقال عبد الرحمن بن عوف: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر". إن المؤمن مطالب بأن لا يطلق لنفسه العنان في الجري وراء شهواتها لئلا يخرجه ذلك إلى البطر والطغيان وإهمال حق الله - تعالى - فيما آتاه وبسط له، قال - تعالى -: ((ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون))، ويمكن أن نجمل حاجة الإنسان إلى الصبر في هذا النوع بأربعة أمور:
1- أن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله.
2- أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، وحرم الأكل والشرب والجماع.
3- أن يصبر على أداء حق الله - تعالى - فيها، ولا يضيعه فيسلبها.
4- أن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام، فإن احترز كل الاحتراز أوقعته في المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون وإنما كان الصبر على السراء شديداً لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره.
ومما يدخل في هذا النوع من الصبر، الصبر عن التطلع إلى ما بيد الآخرين من الدنيا، والصبر عن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين قال - تعالى -: ((أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)) وقد نهى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله: ((ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى))، فالمؤمن من يعتز بنعمة الهداية ويعلم أنما هم فيه من الدنيا ظل زائل وعارية مستردة ولا يبالي بمظاهر الفخامة التي يتبجح بها الطغاة، لقد قال الذين يريدون الحياة الدنيا لما رأوا قارون في زينته ((يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم))، أما أهل العلم والإيمان فقالوا: ((ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون)).
ج - الصبر على طاعة الله - تعالى -:
إن الصبر على طاعة الله أعظم مجالات الصبر وهو لذلك أشدها على النفوس وقد جاءت صيغة الأمر بالصبر على الطاعة مغايرة لغيرها فقال - تعالى -: ((رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته، هل تعلم له سمياً))، وقال: ((وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى))، فاستخدم صيغة الافتعال وهو يدل على المبالغة في الفعل إذ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لمشقة مجاهدة النفوس على القيام بحق العبودية في كل الأحوال. واعلم أن الصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:
1- قبل الطاعة، بتصحيح النية والصبر على شوائب الرياء، وعقد العزم على الوفاء ولعل هذا يظهر سر تقديم الصبر على العمل الصالح في قوله: ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)).
2- حال الطاعة بأن لا يغفل عن الله فيها، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابها وسننها، ولعله المراد بقوله: ((نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)) صبروا إلى تمام العمل.
3- بعد الفراغ منها فيصبر على عدم افشائها والمراءاة والإعجاب بها، وترك ما يبطلها قال - تعالى -: ((ولا تبطلوا أعمالكم))، وقال: ((لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)).
د - الصبر على مشاق الدعوة إلى الله:
غير خاف عليك ضرورة صبر الداعية على ما يلاقيه في دعوته، فإنه يأتي الناس بما لا يشتهونه ولا يألفونه، وبما يخالف ما وجدوا عليه آباءهم، فلذلك يقاومون الدعوة بكل ما أوتوا من قوة، ويوصلون الأذى بالداعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
- إن اعراضهم عن الدعوة يحتاج إلى صبر كصبر نوح الذي بقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وحكى الله عنه قوله: ((رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً... الآية)).(3/159)
- وما يحيكه المغرضون من مؤامرات الكيد التي تؤذي الداعية في أهله ونفسه وماله تحتاج إلى صبر، وهذا ما أكده الله - تعالى - بقوله: ((لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا، فإن ذلك من عزم الأمور))، وقد أمر الله رسوله بقوله: ((واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً))، وقد أجمع الأنبياء على رد أذى أقوامهم بالصبر ((ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون))، ((ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله))، وسحرة فرعون لما وقر الإيمان في قلوبهم قابلوا تهديده بالقتل والصلب بقولهم ((إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين)).
- إن طول الطريق، واستبطاء النصر يحتاج إلى صبر، وصبر حار شديد ولذا خوطب المؤمنون في القرآن بقوله - تعالى -: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب))، وقوله: ((حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)).
هـ الصبر حين البأس:
أي الصبر في الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفوف، فالصبر ثَمّ شرط للنصر، والفرار كبيرة، وقد أثنى الله - تعالى - على الصابرين في ساعة القتال فقال في آية البر: ((والصابرين في البأساء)) أي الفقر ((والضراء)) أي المرض، وحين البأس، ((أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)) ويوجبه على عباده بقوله: ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا، إن الله مع الصابرين)).
وعندما تضطرب أمور المعركة، وينفرط عقدها تكون الحاجة إلى الصبر أعظم وأشد كما حدث في أحد حين انكشف المسلمون وشاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل، انجفل فريق من المسلمين منهزمين، وصبر آخرون فنزل من القرآن إشادة بمن صبروا، وإنكار على أولئك: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) ثم لا يعذرهم في فرارهم وانهزامهم ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين)) إلى أن قال: ((وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)).
وقد حدثنا عن الثلة المؤمنة مع طالوت عندما انتصرت لما اعتصمت بالصبر، وقد اختبر طالوت من معه بقوله: ((إن الله مبتليكم بنهر..)) ((فصبر ثلة مؤمنة على ترك الشرب من النهر إلا غرفة باليد)) ((فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين))، لقد سألوا الله حين اللقاء صبراً وأوعبوا، فقالوا ((أفرغ))، إذ هم بحاجة إلى صبر كثير، وكانت النتيجة ((فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت.. )).
و - الصبر في مجال العلاقات الإنسانية:
لا تستقيم الحياة مع الناس إلا بالصبر بدءاً بأقرب من يعاشرك وهي الزوجة وانتهاءً بأبعد الناس عنك، وقد قال الله - تعالى - مبيناً ما ينبغي أن يتحلى به الزوج من صبر في مواجهة مشاكل الزوجية: ((وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً))، أي فاصبروا فعاقبة الصبر حميدة، ويوصي الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من الناس من ضر، وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها فيقول: ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)).
ومما يُنظم في هذا العقد صبر التلميذ على التعلم والمعلم، وهذا ما حدثنا عنه في القرآن عندما ذهب موسى إلى الخضر ليعلمه مما علمه الله، قال له الخضر إما لأن الله أخبره بالحقيقة أو تهييجاً على الصبر -قال: ((إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً))، فتعهد موسى بالصبر - قال: ((ستجدني إن شاء الله صابراً))...
- الأسباب المعينة على الصبر:
أ - المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا:(3/160)
إن من عرف طبيعة الدنيا وما جبلت عليه من الكدر والمشقة والعناء هان عليه ما يبتلى به فيها لأنه وقع في أمر يتوقعه، والشيء من معدنه لا يستغرب، وقد عرفنا الله بهذه الحقيقة فقال: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد))، أي في مشقة وعناء، وقال: ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه))، وبين جل جلاله أنها لا تدوم على حال بل يوم لك ويوم عليك ((إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس)).
إن من لا يعرف هذه الحقيقة سيفاجأ بوقائع الأحداث تصب على رأسه صباً فيظن أنه الوحيد من بين بني الإنسان الذي يصاب بذلك لشؤمه وسوء حظه، ولذلك يبادر بعضهم بالإجهاز على نفسه بالانتحار، لأنه ما علم أن لكل فرحة ترحة وما كان ضحك إلا كان بعده بكاء، وما ملئ بيت حبرة إلا ملىء عبرة، وما عبت دار من السرور إلا عبت من الحزن، "وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى: إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، وإن متعت قليلاً، منعت طويلاً... ".
ب - معرفتك بأنك وما بيدك ملك لله - تعالى - ومرجعك إليه:
قال - تعالى -: ((وما بكم من نعمة فمن الله))، وقد علمنا في كتاب ربنا أن نقول عند حلول المصائب: ((إنا لله وإنا إليه راجعون))، يقول ابن القيم: "وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته:
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله - عز وجل -، وقد جعل عند العبد عارية. وأيضاً، فإنه محفوف بعدمين، عدم قبله، وعدم بعده حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره. ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بدايته ونهايته، فكيف يفرح بموجود ويأسى على مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده أعظم علاج هذا الداء« ولذلك يقال عند تعزية المصاب (إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى). وقد أدركت أم سليم هذا المعنى عندما توفي ابنها، فلما جاء أبوه (أبو طلحة) يسأل عنه قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح (تعني الموت، وقد ظن أنها تريد النوم لمجيء العافية) وكانت قد هيأت نفسها لزوجها فتعرضت له فأصاب منها فلما أراد الخروج لصلاة الفجر، قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، إن العارية مؤداة إلى أهلها، فقالت: إن الله أعارنا فلاناً ثم أخذه منه فاسترجع... إلى آخر القصة.
ج - اليقين بحسن الجزاء عند الله - تعالى -:
أن مما يرغب الإنسان في العمل، ويزيده ثباتاً فيه علمه بحسن جزائه في الآخرة ولا نجد في القرآن شيئاً ضخم جزاؤه وعظم أجره مثل الصبر فيقول نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ويقول مبيناً أن الصابرين يجزون بأحسن ما عملوا: ((ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون))، ويصرح بأن أجرهم غير معدود ولا محدود فيقول: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب))، وقد ذُكِّر المؤمنون بهذه الحقيقة في الكلمة التي أمروا أن يقولوها عند حلول المصائب: ((إنا لله وإنا إليه راجعون))، فيتذكرون أنهم سيرجعون إلى الله فيجزيهم على عملهم وصبرهم أحسن الجزاء وأوفاه.
يقول أبو طالب المكي: "وأصل قلة الصبر: ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له، لأنه لو قوي يقينه، كان الآجل من الوعد عاجلاً إذا كان الواعد صادقاً، فيحسن صبره لقوة الثقة بالعطاء... ".
د - الثقة بحصول الفرج:
إن يقين العبد بأن النصر مقرون بالصبر وأن الفرج آت بعد الكرب وأن مع العسر يسراً يقويه على الصبر على ما يلاقيه، وقد كثرت الآيات الدالة على هذا المعنى لما له من أثر في مزيد التحمل والثبات، قال - تعالى -: ((فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا))، قال بعضهم: "لن يغلب عسر يسرين" يقصد بذلك أن العسر ورد معرفة في الموضعين والمعرفة إذا كررت في الجملة لا تفيد التعدد بخلاف النكرة وهي التي ورد به اليسر في الموضعين، فإذا قلت: جاء الرجل وأكرمت الرجل، كان الرجل في المواطنين واحداً، وإذا قلت: جاء رجلٌ وأكرمت رجلاً، كان المقصود رجلين. وقد جعل العسر في الآيتين مع العسر لا بعده أو عقبه لينبه إلى قرب تحققه بعده حتى كأنه معه ولينبه أيضاً إلى أن كل عسر مقرون بيسر وأكثر فما من مصيبة يبتلى بها عبد إلا ولله فيه إلطاف بأن لم يجعلها على نحو أعظم أو أكبر أو أطول مما هي عليه.
وقد تكرر في القرآن الأمر بالصبر مقروناً بالتذكير بأن وعد الله حق لا يتخلف أبداً قال - تعالى -: ((وعد الله لا يخلف الله الميعاد))، وقال: ((فاصبر إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)).(3/161)
إن اشتداد الأزمة في سنن الله تعني قرب انبلاج الفجر وظهور طلائع النصر كما قيل:
اشتدي أزمةُ تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
ولهذا نجد يعقوب يكون أمله في العثور على يوسف أشد عندما أخذ ابنه الثاني فيقول: ((فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً))، وقال لأبنائه ((يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)).
هـ - الاستعانة بالله:
مما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله - تعالى - ويلجأ إلى حماه فيشعر بمعيته - سبحانه - وأنه في حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يضام ولذا قال موسى لقومه بعد أن هددهم فرعون بما هددهم به ((استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)).
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ولعل حاجة الصابرين إلى الاستعانة بالله - تعالى - والتوكل عليه هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله في آيات كثيرة كقوله ((نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون))، وقوله عن رسله: ((ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون)).
و - الاقتداء بأهل الصبر:
إن التأمل في سير الصابرين يعطي الإنسان شحنة دافعة على الصبر، ومن هنا ندرك سر حرص القرآن المكي على ذكر صبر الأنبياء على ما لاقوه من أممهم وهذا ما صرح الله به في قوله: ((وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين))، وقال الله: ((ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبإي المرسلين)) [الأنعام/34]، وجاء الأمر صريحاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بالصابرين قبله: ((فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم))، وحين نزل البلاء بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءهم التذكير ببلاء من كان قبلهم: ((أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))، وقال لهم: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب)).
ز - الإيمان بقدر الله:
إن إيمان العبد بقدر الله النافذ واستسلامه له أكبر عون على تجشم مصاعب المصائب، وعلم العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه برد من اليقين يصب على فؤاده، قال - تعالى -: ((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم))، وركون المؤمن إلى قدر الله في مثل هذا المقام واحتجاجه به أمر لا غبار عليه لأنه إحالة على القدر فيما لا اختيار للعبد فيه.
واعلم أن الجزع والهلع والتبرم والضيق لا يرد من قدر الله شيئاً فلابد من الصبر أول الأمر لئلا يحرم العبد من المثوبة ولئن لم يصبر أول الصدمة فسيصبر بعد ذاك رغم أنفه ولا أجر له، قال حكيم: "العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد السبعة أيام". إن المبالغة في التشكي والتبرم لا يغير من الواقع شيئاً بل يزيد النفس هماً وكمداً ولهذا قال الله لرسوله: ((قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبوك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين. وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين)) [الأنعام/33-35]، فأزال الوحشة عن قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول آية بأن تكذيبهم ليس للرسول وإنما هو لله - تعالى -، ثم عزاه في الثانية وسلاه بما حدث لرسل الله فصبروا، ثم قال له: إن شق عليك إعراضهم وذهبت نفسك عليهم حسرات وضاق صدرك فليس لك إلا الصبر، وإلا فافعل ما بدا لك فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض تهرب منه أو سلماً في السماء، تصعد عليه فدونك فافعل. [1]
الآفات المعيقة عن الصبر:
1- الاستعجال: النفس موكولة بحب العاجل ((خلق الإنسان من عجل))، فإذا أبطأ على الإنسان ما يريد نفد صبره وضاق صدره واستعجل قطف الثمرة قبل أوانها فلا هو ظفر بثمرة طيبة ولا هو أتم المسير، ولهذا قال الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ((فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم))، أي العذاب فإن له يوماً موعوداً.
لقد باءت بعض الدعوات بالفشل ولم تؤت ثمرتها المرجوة بعلة الاستعجال، ولو أنهم صبروا لكان خيراً لهم، ثار بعضهم على الطغيان ولما يقم على ساقه ويشتد عوده وتكتمل آلته وتنضج دعوته وتمتد قاعدته فقضي على الدعوة ووئد الداعية وذهب الاثنان في خبر كان. والحديث عن الاستعجال أطول من هذا ولكن في الإشارة للبيب ما يغني عن العبارة.(3/162)
2- الغضب: قد يرى الداعية من المدعوين مالا يليق فيستفزه الغضب فيدفعه إلى مالا يحسن به مما يسيء إلى الدعوة ويلصق بجبين حاملها وصمة عار تبقى الدهر كله، ولهذا حذر الله رسوله من مغبة الغضب بأن لا يقع فيما وقع فيه يونس فقال: فاصبر لحكم ربك، ولا تكن كصاحب الحوت لقد فرغ صبره فضاق صدره فغادرهم غاضباً قبل أن يأذن الله له ظناً منه أن الله لن يضيق عليه فضيق الله عليه بأن جعله في بطن الحوت: ((وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين))، فتاب الله عليه: ((فاستجبنا له ونجيناه من الغم)).
3- اليأس: أعظم عوائق الصبر وهو الذي حذر يعقوب أبناءه من الوقوع فيه مع تكرار البحث عن يوسف وأخيه: ((يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون))، وهو الذي حرص القرآن على دفعه عن أنفس المؤمنين فبذر الأمل في صدورهم: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس))، وقال لهم: ((ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم))، إن إضاءة شعلة الأمل دواء اليأس وهذا ما ذكرت به الآيات المؤمنين وهو ما ذكر به موسى قومه فقال: ((استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين))، ولما شكا خباب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلاقيه من أذى قريش قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكره مصاب الصالحين في الأمم قبله: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
5- نماذج للصابرين: لقد ضُرب لنا في القرآن نماذج رائعة تجسدت فيهم حقيقة الصبر، واستحقوا أن يذكروا بصبرهم فيقتدى بهم الصابرون، وسنختار في هذه العجالة ثلاثة منها يتمثل في كل واحد منها لون من الصبر.
أ - الصبر على طاعة الله:
في قصة إبراهيم وإسماعيل التي حكاها الله لنا بقوله عن إبراهيم: ((وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي، قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين...)).
من أيهما تعجب من الأب الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه أم من الابن الذي يستسلم لأمر الله طواعية واختياراً، لقد كان الابن وحيد إبراهيم ولم يأته إلا على كبر فما ظنك بتعلق الأب بابنه، إنه تعلق لا يوصف، ولكن تعلقه بالله أعظم وطاعته لله فوق كل ذلك، لقد حطم إبراهيم كل نداءات الأرض لما جاء الأمر من السماء، وضرب للناس أروع الأمثال في الطاعة، ولقد كان الوحي في هذه المرة رؤيا فلم يتأولها إبراهيم لصالحه بدافع من غريزة الأبوة، ولكنه امتثل وعرض على ابنه ما رأى عرضاً في غاية الإيجاز والسهولة ولكنه يتضمن أمراً في غاية الخطورة، ولم يكن الابن صغيراً بحيث لم ير الأب من جدواه ما يجعله شديد التعلق به والاعتماد عليه، ولكنه بلغ مع أبيه السعي فأصبح فتى مفتول العضلات، قوي الساعد، وكانت إجابة الابن محيرة حقاً، لقد حسم الموقف بجملتين قالهما لأبيه خلدهما التاريخ له، وكانتا سبباً في تدوين اسمه في الصابرين: ((وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، كل من الصابرين))، قال إسماعيل: ((يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين))، أي لا تأخذ رأيي ولا تنتظر مشورتي بل نفذ ما أمرت به، ثم لا ينسى أن يستمد العون من الله على حاله بالصبر فهو لا يعتمد على قوته وشدة جلده بل يسأله من ربه، وصدقا وأسلم الوالد ولده، وتله أبوه للجبين، وتهيأ للذبح وجاءت البشرى عند ذاك بعد أن حقق الابتلاء ثمرته ((وناديناه أن يا إبراهيم... الآيات)).
ب - الصبر عن معصية الله:(3/163)
وأبرز الأمثلة وأشدها وضوحاً صبر يوسف - عليه السلام - على مراودة امرأة العزيز، لقد كان الصبر ظهير يوسف في محنته التي ابتلي بها اضطراراً واختياراً وكشف عن هذا حين عثر إخوته عليه فقال: ((أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين))، لقد رفض كل العروض والإغراءات وخرج من الفتنة بإيمانه وصبره، وكان صبره هذا أرقى من صبر أبيه يعقوب على الفراق وأرقى من صبر أيوب على ما بلي به لأن صبرهما كان اضطرارياً لا حيلة لهما في رفعه ولا دفعه بينما كان صبر يوسف اختياراً وحين تملك فلم يتكبر ولم يطغ صبراً اختيارياً، يقول ابن القيم نقلاً عن شيخه ابن تيميه - رحمهما الله -: "كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس، ولاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة:
1- فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية.
2- وعزباً ليس معه ما يعوضه ويرد شهوته.
3- وغريباً، والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي فيه بين أصحابه ومعارفه وأهله.
4- ومملوكاً، والمملوك أيضاً ليس وازعه كوازع الحر.
5- والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته.
6- وقد غاب الرقيب.
7- وهي الداعية إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص.
8- وتوعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار.
ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارياً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه" ا هـ.
لقد ضحى بدنياه من أجل دينه، وبحريته من أجل عقيدته، وقال قولته المشهورة: ((رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)).
ولما أفرج عنه من السجن الطويل واستدعي لمقابلة الملك، لم يستفزه هذا الخبر بل طلب التحقيق في القضية حتى تظهر براءته على الملأ وحدث ذلك فعلاً وعند ذلك ازداد إعجاب الملك به فقال: ((ائتوني به استخلصه لنفسي))، وكان في المرة الأولى قال ((ائتوني به))، فقط ((فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين)).
ج - الصبر على أقدار الله المؤلمة:
إن أشهر من يقرن اسمه بهذا اللون من الصبر نبي الله أيوب - عليه السلام -، لقد أصابه ضر عظيم في بدنه وأهله وماله فصبر، فخلد ذكره في القرآن فقال الله - تعالى -: ((واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب، وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، لقد ذكر له من ألوان التكريم وأوسمة الشرف ما هو جدير بمثله لعظيم صبره، فأولهما تكريمه بتخليد ذكره ومباهاة الله به عند رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وثانيه: تكريمه بقوله ((عبدنا))، حيث أضافه إليه، والعبودية من أشرف أوصاف الإنسان التي يتحلى بها، وثالثها: عندما استجاب نداءه وكشف ضره ووهب له أهله ومثلهم معهم، ورابعها: حينما جعل له مخرجاً من يمين حلفه على امرأته فكرمت وكرم بما يخلصه من مأزق الحنث، وكانت خاتمة ذلك هذا الوسام من الشرف العريض ((إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، فوصفه بالصبر حتى قرن الصبر بأيوب فلا يذكر إلا وهو معه، ثم قال: نعم العبد فكانت شهادة من الله بتمام عبوديته، ثم ختم ذلك بقوله إنه أواب، والأواب: المبالغ في شدة رجوعه إلى الله - تعالى -.
وقد ذكر الله - تعالى - صبره في موطن آخر فقال: ((وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين، وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين))، لقد كان نداء أيوب في ضرائه غاية في اللطف والأدب ولذا كانت الإجابة آية في التمام والكمال، لقد نادى ربه ولم يسأله شيئاً بعينه من الأهل والعافية وذكر ربه بما هو أهله وبما اتصف به ((إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين))، فاستجاب له دعاءه فكشف عنه الضر ورد عليه الأهل ومثلهم معهم وجعله ذكرى للعابدين وإماماً من الصابرين.
جعلني الله وإياك منهم وحشرنا معهم وآجرنا بأجرهم إنه ولي ذلك والقادر عليه...
من مراجع الموضوع:
1- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم.
2- الصبر في القرآن الكريم ليوسف القرضاوي.
-------------
[1] - هكذا قدر جواب الشرط المحذوف في الآية ولعل الصحيح تقدير الجواب: لم يؤمنوا.
http: //www.alsunnah.org
================
ثبات السحرة أمام بطش فرعون وجبروته(3/164)
قال تعالى : { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) [الأعراف/113-126] }
قال الرازي(1) :
قال تعالى : { وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص ، عن عاصم ، { إن لنا لأجراً } بكسر الألف على الخبر والباقون على الاستفهام ، ثم اختلفوا ، فقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة على أصله والباقون بهمزتين قال الواحدي رحمه الله : الاستفهام أحسن في هذا الموضع ، لأنهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا؟ ويقطعون على أن لهم الأجر ويقوي ذلك إجماعهم في سورة الشعراء على الهمز للاستفهام وحجة نافع وابن كثير على أنهما أرادا همزة الاستفهام ، ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ وقد تحذف همزة الاستفهام من اللفظ ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ } [ الشعراء : 22 ] فإنه يذهب كثير من الناس إلى أن معناه أو تلك بالاستفهام ، وكما في قوله : { هذا رَبّى } [ الأنعام : 78 ] والتقدير أهذا ربي وقيل : أيضاً المراد أن السحرة أثبتوا لأنفسهم أجراً عظيماً ، لأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر ، والتنكير للتعظيم كقول العرب : إن له لإبلاً ، وإن له لغنماً ، يقصدون الكثرة .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : هلا قيل : { وجاء السحرة فرعون قالوا ) .
وجوابه : هو على تقدير : سائل سأل : ما قالوا إذ جاؤه .
فأجيب بقوله : { قالوا أئن لنا لأجراً } أي جعلا على الغلبة .
فإن قيل : قوله : { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } معطوف ، وما المعطوف عليه؟
وجوابه : أنه معطوف على محذوف ، سد مسده حرف الإيجاب ، كأنه قال إيجاباً لقولهم : إن لنا لأجراً ، نعم إن لكم لأجراً ، وإنكم لمن المقربين . أراد أني لا أقتصر بكم على الثواب ، بل أزيدكم عليه ، وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي . قال المتكلمون : وهذا يدل على أن الثواب إنما يعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم ، والدليل عليه أن فرعون لما وعدهم بالأجر قرن به ما يدل على التعظيم ، وهو حصول القربة .
المسألة الثالثة : الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً ، وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام ، وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان ، وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون ، لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان ، فلم لم يقبلوا التراب ذهباً ، ولم لم ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم لم يجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا ، والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق ، وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب . والله أعلم .
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء والكسائي : في باب «أما وإما» إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة وإذا كانت مشترطاً أو شاكاً أو مخيراً فهي مكسورة تقول في المفتوحة أما الله فاعبدوه وأما الخمر فلا تشربوها وأما زيد فقد خرج .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 7 / ص 208)(3/165)
وأما النوع الثاني : فتقول : إذا كنت مشترطاً ، إما تعطين زيداً فإنه يشكرك ، قال الله تعالى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب فَشَرّدْ } [ الأنفال : 57 ] وتقول في الشك لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو ، وتقول في التخيير ، لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها ، وإما أن أبيعها والفرق بين ، أما إذا أتت للشك وبين أو ، أنك إذا قلت جاءت زيد أو عمرو فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشك فقلت أو عمرو فصار الشك فيهما جميعاً فأول الإسمين في «أو» يجوز أن يكون بحيث يحسن السكوت عليه ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ، ألا ترى أنك تقول : قام أخوك وتسكت ، ثم تشك فتقول : أو أبوك ، وإذا ذكرت إما فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك وليس يجوز أن تقول ضربت إما عبد الله وتسكت وأما دخول { أَن } في قوله : { إِمَّا أَن تُلْقِىَ } وسقوطها من قوله : { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] فقال الفراء : أدخل { أَن } في { إِمَّا } في هذه الآية لأنها في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب ، كقول القائل : اختر ذا أو ذا ، كأنهم قالوا اختر أن تلقي أو نلقي وقوله : { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } ليس فيه أمر بالتخيير . ألا ترى أن الأمر لا يصلح ههنا ، فلذلك لم يكن فيه «أن» والله أعلم .
المسألة الثانية : قوله : { إِمَّا أَن تُلْقِىَ } يريد عصاه { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } أي ما معنا من الحبال والعصي فمفعول الإلقاء محذوف وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن القوم راعوا حسن الأدب حيث قدموا موسى عليه السلام في الذكر وقال أهل التصوف إنهم لما راعوا هذا الأدب لا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب ثم ذكروا ما يدل على رغبتهم في أن يكون ابتداء الإلقاء من جانبهم وهو قولهم : { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } لأنهم ذكروا الضمير المتصل وأكدوه بالضمير المنفصل وجعلوا الخبر معرفة لا نكرة .
واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولاً وأظهروا ما يدل عى رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام : ألقوا ما أنتم ملقون وفيه سؤال : وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر وذلك كفر والأمر بالكفر كفر ، وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول ألقوا؟
والجواب عنه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك كقول القائل منا لغيره اسقني الماء من الجرة فهذا الكلام إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء في الجرة ، فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتة كذلك ههنا . الثاني : أن القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصي ، وعلم موسى عليه السلام أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير ، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم ، وقلة مبالاة بهم ، وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة ، وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبداً . الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر ، وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره ، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله . ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها؛ يقول له هات ، وقل ، واذكرها ، وبالغ في تقريرها ، ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها ، فكذا ههنا ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : { فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه . قال القاضي : لو كان السحر حقاً ، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم؟ فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه . قال الواحدي : بل المراد سحروا أعين الناس ، أي قلبوها عن صحة أدراكها بسبب تلك التمويهات ، وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق ، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي ، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً ، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها .
وأما قوله : { واسترهبوهم } فالمعنى : أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي . قال المبرد : { استرهبوهم } أرهبوهم ، والسين زائدة . قال الزجاج : استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس ، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك : أيها الناس احذروا ، فهذا هو الاسترهاب . وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى ، فأوحى الله عز وجل إليه { أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } قال المحققون : إن هذا غير جائز ، لأنه عليه السلام لما كان نبياً من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه ، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل ، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف .(3/166)
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : { فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } [ طه : 67 ] .
قلنا : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب ، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم .
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم : { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } روي أن السحرة قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء ، فإنه لا طاقة لنا به . وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً . وقيل : سبعين ألفاً . وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً . واختلفت الروايات ، فمن مقل ومن مكثر ، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد .
ثم قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي . وروى الواحدي عن ابن عباس : أنه قال : يريد وألهمنا موسى أن أَلْقِ عَصَاكَ .
ثم قال : { فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه حذف وإضمار والتقدير { فألقاها فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } .
المسألة الثانية : قرأ حفص عن عاصم { تَلْقَفْ } ساكنة اللام خفيف القاف ، والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام . وروي عن ابن كثير { تَلْقَفْ } بتشديد القاف . وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء . أما من خفف فقال ابن السكيت : اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفاً إذا أخذته ، فأكلته أو ابتلعته ، ورجل لقف سريع الأخذ ، وقال اللحياني : ومثله ثقف يثقف ثقاً وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة ، وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف ، وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى .
المسألة الثالثة : قال المفسرون : لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً . واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام ، وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي ، أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها وعلى كلا التقديرين ، فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى .
المسألة الرابعة : قوله : { مَا يَأْفِكُونَ } فيه وجهان : الأول : معنى الإفك في اللغة قلب الشيء عن وجهه ، ومنه قيل للكذب إفك لأنه مقلوب عن وجهه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : { مَا يَأْفِكُونَ } يريد يكذبون ، والمعنى : أن العصا تلقف ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه وعلى هذ التقدير فلفظة { مَا } موصوله والثاني : أن يكون { مَا } مصدرية ، والتقدير : فإذا هي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك .
ثم قال تعالى : { فَوَقَعَ الحق } قال مجاهد والحسن : ظهر . وقال الفراء : فتبين الحق من السحر . قال أهل المعاني : الوقوع : ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره ، وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا لوكان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، فلما فقدت ثبت أن ذلك إنما حصل بخلق الله سبحانه وتعالى وتقديره ، لا لأجل السحر ، فهذا هو الذي لأجله تميز المعجز عن السحر . قال القاضي قوله : { فَوَقَعَ الحق } يفيد قوة الثبوت والظهور بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً .
فإن قيل : قوله : { فَوَقَعَ الحق } يدل على قوة هذا الظهور ، فكان قوله : { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تكريراً من غير فائدة!
قلنا : المراد أن مع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي ، فعند ذلك ظهرت الغلبة ، فلهذا قال تعالى : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } لأنه لا غلبة أظهر من ذلك { وانقلبوا صاغرين } لأنه لا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله وحجته ، على وجه لا يمكن فيه حيلة ولا شبهة أصلاً قال الواحدي : لفظة { مَا } في قوله : { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يجوز أن تكون بمعنى «الذي» فيكون المعنى بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر أي زال وذهب بفقدانها ويجوز أن تكون بمعنى المصدر كأنه قيل بطل عملهم ، والله أعلم .
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
في الآية مسائل :(3/167)
المسألة الأولى : قال المفسرون : إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر ، بل هو أمر إلهي ، فاستدلوا به على أن موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى ، قال المتكلمون : وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم ، وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه ، فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر ، علموا أنه من المعجزات الإلهية ، لا من جنس التمويهات البشرية ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال ، لأنهم كانوا يقولون : لعله أكمل منا في علم السحر ، فقدر على ما عجزنا عنه ، فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر . فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان . فإذا كان حال علم السحر كذلك ، فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله تعالى : { وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } قالوا : دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين ، وما ذاك إلا الله رب العالمين فهذا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى . قال مقاتل : ألقاهم الله تعالى ساجدين . وقال المعتزلة : الجواب عنه من وجوه : الأول : أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين؛ فصار كأن ملقياً ألقاهم . الثاني : قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين . الثالث : أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود ، إلا أنا نقول : إن ذلك الملقي هو أنفسهم .
والجواب : أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى ، وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وهو محال . ثم إن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل . وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى فكان ذلك الفعل والأثر مسنداً إلى الله تعالى ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر أولاً أنهم صاروا ساجدين ، ثم ذكر بعده أنهم قالوا : { ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين } فما الفائدة فيه مع أن الأيمان يجب أن يكون متقدماً على السجود؟ وجوابه من وجوه : الأول : أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال ، وجعلوا ذلك السجود شكراً لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان ، وعلامة أيضاً على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهار الخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع .
الوجه الثاني : لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا : { ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين } وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والوجه الصحيح هو الأول .
المسألة الرابعة : احتج أهل التعليم بهذه الآية فقالوا : الدليل على أن معرفة الله لا تحصل إلا بقول النبي أن أولئك السحرة لما قالوا : { ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين } لم يتم إيمانهم فلما قالوا : { رَبِّ موسى وهارون } تم إيمانهم وذلك يدل على قولنا .
وأجاب العلماء عنه : بأنهم لما قالوا : { ءِامَنَّا بِرَبِّ العالمين } قال لهم فرعون إياي تعنون فلما قالوا : { رَبِّ موسى } قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا : { وهارون } زالت الشبهة ، وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء ، وقيل إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين لأن التقدير آمنا برب العالمين ، وهو الذي دعا إلى الإيمان به موسى وهرون . وقيل : خصهما بالذكر تفضيلاً وتشريفاً كقوله : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] .
قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية حفص { أَمِنتُمْ } بهمزة واحدة على لفظ الخبر وكذلك في طه والشعراء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي { أَأَمِنتُمْ } بهمزتين في جميع القرآن وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة في جميع على الاستفهام . قال الفراء : أما قراءة حفص { أَمِنتُمْ } بلفظ الخبر من غير مد ، فالوجه فيها أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم والإنكار عليهم ، وأما القراءة بالهمزتين فأصله { أَأَمِنتُمْ } على وزن أفعلتم .(3/168)
المسألة الثانية : اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى إسماع العوام ، لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام .
فالشبهة الأولى : قوله : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة } والمعنى : أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل ، بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك ، فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق .
والشبهة الثانية : أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ، ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب . وروى محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم : أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال موسى عليه السلام : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق؟ قال الساحر : لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر ، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما ، فهذا هو قول فرعون { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ } واعلم أن هذا يحتمل أنه كان قد حصل ، ويحتمل أيضاً أن فرعون ألقى هذا الكلام في البين ، ليصير صارفاً للعوام عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام . قال القاضي : وقوله : { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية ، لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره ، ثم قال : وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين .
أما قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } لا شبهة في أنه ابتداء وعيد ، ثم إنه لم يقتصر على هذا الوعيد المجمل ، بل فسره فقال : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } وقطع اليد والرجل من خلاف معروف المعنى ، وهو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين ، أما من اليد اليمنى والرجل اليسرى ، أو من اليد اليسرى والرجل اليمنى ، وأما الصلب فمعروف فتوعدهم بهذين الأمرين العظيمين ، واختلفوا في أنه هل وقع ذلك منه؟ وليس في الآية ما يدل على أحد الأمرين . واحتج بعضهم على وقوعه بوجوه : الأول : أنه تعالى حكى عن الملأ من قوم فرعون أنهم قالوا له :{ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض } [ الأعراف : 127 ] ولو أنه ترك أولئك السحرة وقومه أحياء وما قتلهم ، لذكرهم أيضاً ولحذرهم عن الإفساد الحاصل من جهتهم . ويمكن أن يجاب عنه بأنهم دخلوا تحت قومه فلا وجه لإفرادهم بالذكر . والثاني : أن قوله تعالى حكاية عنهم { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } يدل على أنه كان قد نزل بهم بلاء شديد عظيم ، حتى طلبوا من الله تعالى أن يصبرهم عليه . ويمكن أن يجاب عنه بأنهم طلبوا من الله تعالى الصبر على الإيمان وعدم الالتفات إلى وعيده . الثالث : ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وهذا هو الأظهرمبالغة منه في تحذير القوم عن قبول دين موسى عليه السلام . وقال آخرون : إنه لم يقع من فرعون ذلك ، بل استجاب الله تعالى لهم الدعاء في قولهم : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القتل والقطع وهذا الاستدلال قريب .
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه ، وهو قولهم لفرعون : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم ، بل يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل . يقال : نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء ، وقد مر عند قوله : { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } [ المائدة : 59 ] قال ابن عباس : يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا . والمراد : ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى .
ثم قالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } معنى الإفراغ في اللغة الصب . يقال : درهم مفرغ إذا كان مصبوباً في قالبه وليس بمضروب ، وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ ، فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإناء . قال مجاهد : المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع ، وفي الآية فوائد :
الفائدة الأولى : { أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أكمل من قوله : أنزل علينا صبراً ، لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية ، فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه .(3/169)
والفائدة الثانية : أن قوله { صَبْراً } مذكور بصيغة التنكير ، وذلك يدل على الكمال والتمام ، أي صبراً كاملاً تاماً كقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة } [ البقرة : 96 ] أي على حياة كاملة تامة .
والفائدة الثالثة : إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ، ثم إنهم طلبوه من الله تعالى ، وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه . قال القاضي : إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر ، وذلك معلوم في الأدعية .
والجواب : هذا عدول عن الظاهر ، ثم الدليل يأباه ، وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل ، فيكون الكل من الله تعالى .
وأما قوله : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ، ووجه الاستدلال به ظاهر . والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق .
المسألة الثانية : احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد . فقال إنهم قالوا أولاً { ءَامَنَّا بئايات رَبِّنَا } ثم قالوا ثانياً : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان ، وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر والله أعلم .
============
وقال الألوسي(1) :
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما ، وقيل : احبسهما ، واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس .
وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه؛ وقيل عليه أيضاً : إنه لم يكن قادراً على الحبس بعد أن رأى ما رأى ، وقوله : { لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } [ الشعراء : 29 ] في الشعراء كان قبل هذا ، وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه ، وقال أبو منصور : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهو الهم بقتله ، فقالوا : أخره ليتبين حاله للناس ، وليس بلازم كما لا يخف؛ وأصل أرجه أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمونة دون واو ثم حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل ، وجعل جه وكابل في إسكان وسطه ، وبذلك قرأ أبو عمرو . وأبو بكر . ويعقوب على أنه من أرجات ، وكذلك قراءة ابن كثير . وهشام . وابن عامر { *أرجئهو } بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الاشباع .
وقرأ نافع في رواية ورش . وإسماعيل . والكسائي { أرجهي } بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت ، وفي رواية قالون { ءانٍ أَرْجِهْ } بحذف الياء للاكتفاء عنها بالكسرة ، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان { *أرجئه } بالهمزة وكسر الهاء ، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان ، وهل هما ماذتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت؟ قولان ، وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان ، فقال الحوفي : إنها ليست بجيدة ، وقال الفارسي : إن ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة ، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين : أحدهما : أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت ، والثاني : أن الهمزة عرضة للتغيير كثيراً بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها وليست ياء ساكنة فلذا كسرت . وأورد على ذلك أو شامة أن الهمزة تعد حاجزاً وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظراً لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا : إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب ، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في الشعراء فإن فيها { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الشعراء : 34 ، 35 ] وهو صريح في أن { إِنَّ هذا لساحر } إلى { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الأعراف : 109 ، 110 ] كلام فرعون وما هنا صريح في نسبة قول ذلك للملا والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا منافاة؟ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين . الأول : أن هذا الكلام قاله فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم ، والثاني : أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملا نقلاً عنه .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 6 / ص 297)(3/170)
واختار الزمخشري أن ما هنا هو قول الملأ نقلاً عن فرعون بطريق التبليغ لا غير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم : أرجه الخ ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بارجئوا ، ولا سبيل إلى أنه كان نقلاً بطريق الحكاية لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلاً ، فتعين أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب . بقي أن يقال هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وههنا كلام سائر القوم . لكن لا منافاة لجواز تطابق الجوابين . وقول شيخ الإسلام : إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء ، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم ، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم : ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعاً لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه ، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام ، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهد ثك أنهم اختلفوا في قوله تعالى : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الأعراف : 110 ] فقيل : إنه من تتمة كلام الملأ ، واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل ، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم ، وقال الفراء . والجبائي : إن كلام الملا قد تم عند قوله سبحانه : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ } [ الأعراف : 110 ] ثم قال فرعون : فماذا تأمرون قالوا : أرجه ، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه . ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه . ثم قال : وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقاً لما في الشعراء في أن قوله : { مَاذَا * تَأْمُرُونَ } من كلام فرعون وقوله : { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } كلام الملأ . لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله : { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم } [ الأعراف : 109 ، 110 ] كلام فرعون للملأ . وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون ، ولعلهم يحملونه على أنه قال لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى . ويمكن أن يقال : إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال بعضهم لبعض : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطاً لهم وتصويباً لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضاً بما عنده مثل ماقالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا : أرجه وأخاه ، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم ، وحكى في«الشعراء» كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضاً المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة ، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى ، ويكون ههنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه { وَأَرْسِلْ فِى المدائن } أي البلاد جمع مدينة ، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به ، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع ، وأريد بها مطلق المدائن ، وقيل : مدائن صعيد مصر { حاشرين } أي رجالاً يجمعون السحرة ، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة ، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة ، وحكى في «القاموس» فتحها أيضاً ، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع ، ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف ومفعوله محذوف أيضاً كما أشير إليه ، وقد نص على ذلك الأجهوري .
{ يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب .
وقرأ حمزة . والكسائي { سَحَّارٍ } وجاء فيه الامالة وعدمها وهو صيغة مبالغة؛ وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت ، وقيل : الساحر : هو المبتدىء في صناعة السحر والسحار هو المنتهى الذي يتعلن منه ذلك .
{ وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ } بعدما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للإيذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال .
واختلف في عدتهم . فعن كعب أنهم إثنا عشر ألفاً ، وعن ابن إسحق خمسة عشر ألفاً ، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفاً ، وفي رواية تسعة عشر ألفاً؛ وعن السدي بضعة وثلاثون ألفاً ، وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفاً ، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفاً . وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال : السحرة ثلثمائة من قومه وثلمائة من العريش ويشكون في ثلثمائة من الاسكندرية .(3/171)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا سبعين ساحراً وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام ، وروى نحو ذلك عن الكلبي ، والظاهر عدم صحته لأن المجوسية ظهرت زمن زرادشت على المشهور ، وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام ، واسم رئيسهم كما قال مقاتل : شمعون وقال ابن جريج : هو يوحنا ، وقال ابن الجوزي نقلاً عن علماء السير : أن رؤساءهم سابور وعازور وحطحط ومصفى { قَالُواْ } استئناف بياني ولذا لم يعطف كأنه قيل : فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه؟ فقيل : قالوا الخ ، وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاءوا أي جاءوا قائلين { إِنَّ لَنَا لاجْرًا } أي عوضاً وجزاء عظيماً .
{ إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } والمقصود من الإخبار إيجاب الأجر واشتراطه كأنهم قالوا : بشرط أن تجعل لنا أجراً إن غلبنا ، ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الاستفهام وهو مطرد ، ويؤيد ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره { أئن } بإثبات الهمزة وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما؛ ومن هنا رجح الواحدي هذا الاحتمال ، وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة ، وقيل : له ، وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر ، أي كنا نحن الغالبين لاموسى عليه السلام .
{ قَالَ نَعَمْ } إن لكم لأجراً .
{ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } عطف على مقدر هو عين الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب ، ويسمى مثل هذا عطف التلقين ، ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ما ذكرنا ، والمعنى إن لكن لأجراً وإنكم مع ذلك لمن المقربين ، أي إني لا أقتصر لكم على العطاء وحده وأن لكم معه ما هو أعظم منه وهو التقريب والتعظيم لأن من أعطى شيئاً إنما يتهنأ به ويغتبط إذا نال معه الكرامة والرفعة ، وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما لا يخفى ، وروى عن الكلبي أنه قال لهم : تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج عنه . { قَالُواْ } استئناف كنظيره السابق { ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ } ما تلقى أو لا { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } لما نلقى أو لا أو الفاعلين للإلقاء أو لا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل من الله تعالى عليهم بما منّ ، أو إظهاراً للجلادة وأنه لا يختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير ، ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبى عنه تغييرهم للنظر بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتوكيد الضمير المستتر ، والظاهر أنه وقع في المحكى كذلك بما يرادفه ، وقول الجلال السيوطي : إن الضمير المنفصل إما أن يكون فصلاً أو تأكيداً ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لا يخفى . وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلاً وبين كونه توكيداً بأن التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر ، أي نحن نلقى البتة لا غيرنا ، والفصل يخصص الإلقاء بهم لتخصيص المسند إليه فيعرى عن التوكيد ، وتحقيق ذلك يطلب من محله .
{ قَالَ } أي موسى عليه السلام وثوقاً بشأنه وتحقيراً لهم وعدم مبالاة بهم { أَلْقَوْاْ } أنتم ما تلقون أو لا ، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال : إن إلقاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك ، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى : { أَوَّلَ مَنْ ألقى } [ طه : 65 ] فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم ، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة ، وقد يقال أيضاً : إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفرة بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام ، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا ما قالوا سمع موسى عليه السلام منادياً يقول؛ بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام ، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } ما القوا وكانمع كل واحد منهم حبل وعصا { سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه ، ولذا لم يقل سبحانه سحروا الناس فالآية على حد قوله جل شأنه : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] { واسترهبوهم } أي أرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم طلبوا إرهابهم { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } في بابه ، يروى أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً .(3/172)
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلاً في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي ، ويقال : إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصى زئبقاً أيضاً وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات . واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل ، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه ، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم .
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشيء على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك ، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار ، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى . نعم قال القرطبي : أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمر والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وانطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام . ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة ، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر . { وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى } بواسطة الملك كما هو الظاهر { ءانٍ * ألقى * عَصَاكَ } التي علمت من أمرها ما علمت و { ءانٍ } تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه ، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيماء ، والفاء في قوله سبحانه :
{ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي الخ ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلاً بالأمر بالإلقاء ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة ، واللقف كاللقفان التناول بسرعة ، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع ، والإفك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس . ومجاهد لكونه مقلوباً عن وجهه واشتهر ذلك فهي حتى صار حقيقة ، و { مَا } موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف ، وقرأ الجمهور { تَلْقَفْ } بالتشديد وحذف إحدى التاءين .{ فَوَقَعَ } أي ظهر وتبين كما قال الحسن . ومجاهد . والفراء { الحق } وهو أمر موسى عليه السلام ، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل بطل والباطل زائل ، وفائدة الاستعارة كما قيل : الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام ، وقيل : المراد من وقع الحق صيرورة العصاحية في الحقيقة وليس بشيء { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله { فَغُلِبُواْ } أي فرعون وقومه .
{ فَغُلِبُواْ } أي فرعون وقومه { هُنَالِكَ } أي في ذلك المجمع العظيم { وانقلبوا صاغرين } أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله(3/173)
سبحانه : { وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعاً ، وجوز رجوع ضمير غلبوا { وانقلبوا } [ الأعراف : 119 ] على الاحتمال الأول إلى السحرة أيضاً ، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم؛ والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه ، والمراد من { ألقى * السحرة } الخ أنهم خروا ساجدين ، وعبر بذلك دونه تنبيهاً على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحداً دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقى هو الله تعالى بالهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه ، ويحتمل أن يكون الكلام جارياً مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش ، وجوزأن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم ، يروى أن الاجتماع القوم كان بالإسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعاً فابتلعت متا صنعوا واحداً بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفاً ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام ، ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجداً ، والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته ، وقيل : إن موسى وهرون عليهما السلام سجداً شكراً لله تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما ، وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه .
{ قَالُواْ } استئناف .
وجوز أبو البقاء كونه حالاً من ضمير { انقلبوا } [ الأعراف : 119 ] وليس بشيء ، وقيل : هو حال من { السحرة } [ الأعراف : 120 ] أو من ضميرهم المستتر في { ساجدين } [ الأعراف : 120 ] أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين { ءامَنَّا بِرَبّ العالمين } أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم .
{ رَبّ موسى وهارون } بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربي موسى عليه السلام في صغره ، ولذا قدم هرون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سناً منه ، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة ، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل : إنه لا يضر ، وروى أنهم لما قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِين } [ الأعراف : 121 ] قال فرعون : أنا رب العالمين فقالوا رداً عليه : رب موسى وهرون ، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين ، وقيل : إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أن الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهرون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضاً ظاهراً جداً إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة ، ويعلم مما قدمنا سر تقديم السجود على هذا القول .
وقال الخازن في ذلك : إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجداً لله تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم ، وقيل : إنهم بادروا إلى السجود تعظيماً لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان ، ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم ، وأول من بادر بالإيمان كما وري عن ابن إسحق الرؤساء الأربعة الذيت ذكرهم ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعاً .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ } منكراً على السحرة موبخاً لهم على ما فعلوه { ءامَنْتُمْ بِهِ } أي برب موسى وهرون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى : { آمَنْتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ] فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ } [ طه : 71 ] الخ ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه ، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبراً لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع ، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد ذلكوالاستفهام للانكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك ، ويؤيد ذلك قراءة حمزة . والكسائي . وأبي بكر عن عاصم . وروح عن يعقوب { أَءمِنتُمْ } بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضاً .(3/174)
{ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } أي قبل أن آملاكم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى : { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } [ الكهف : 109 ] لا أن الاذن منه في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم ، والثانية من صلب الكلمة قلبت الفا لوقوعها ساكنة بعده مة { إِنَّ هَذَا } الصنيع { لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ } لحليلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة ، وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم ، قيل : وكذا قوله : { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } [ الأعراف : 321 ] { فِى المدينة } أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد .
أخرج ابن جرير . وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال : التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى : أرأيتك أن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر : لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهم وهو الذي نشأ عنه هذا القول { لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } عاقبة ما فعلتم ، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال : { لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي من كل جانب عضواً مغايراً للآخر كاليد من جانب والرجل منآخر ، والجار في موضع الحال أي مختلفة ، والقول بأن ( من ) تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد { ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم ، والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم ، ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك ، وهوكقطع الأيدي والأرحجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيماً لجرمهم ، ولهذا سماه سبحانه محاربة لله ولرسوله .
{ قَالُواْ } استئناف بياني { إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجداً رأوا منازلهم تبنى لهم ، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها ، ويحتمل أنهم أرادوا إنا ولا بد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته :
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
ويحتمل أيضاً أن المعنى إنا جميعاً ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا :
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط ، وعلى الثالث لهم ولفرعون ، وعلى الثاني يحتمل الأمرين .
{ وَمَا تَنقِمُ } أي ما تكره ، وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم { مِنَّا } معشر من آمن :
{ إلاَّ أنْ آمَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن ، والاستثناء مفرغ ، والمصدر في موضع المفعول به ، والكلام على حد قوله :
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن
وقيل : إن { تَنقِمُ } مضارب نقم بمعنى عاقب ، يقال : نقم نقماً وتنقاما وانتقم إذا عاقبه ، وإلى هذا يشير ما روى عن عطاء ، وعليه فيكون { مِنَّا إِلاَّ } في موضع المفعول له ، والمراد على التقديرين حسن طمع فرعون في نجع تهديده إياهم ، ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقاً لما أشاروا إليه أولاً من الرحمة والثواب . ثم أعرضوا عن خاطبته وفزعوا والتجأوا إليه سبحانه وقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء ، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون ، { فأفرغ } على الأول استعارة تبعية تصريحية و { مَعِىَ صَبْراً } قرينتها ، والمراد هب لنا صبراً تاماً كثيراً ، وعلى الثاني كيون { صَبْراً } استعارة أصلية مكنية و { أَفْرِغْ } تخييلية ، وقيل : الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وههنا التطهير ، وليس بذاك وأن جل قائله { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد . عن ابن عباس . والكلبي . والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به ، وقيل : لم يقدر عليه لقوله تعالى : { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا باياتنا أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] .
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض .
=============
وفي التفسير الوسيط (1):
حكى القرآن ما أشار به الملأ من قوم فرعون فقال : { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1666)(3/175)
أرجه : أصله أرجئه - وقد قرىء به - حذفت الهمزة وسكنت الهاء ، تشبيها للضمير المنفصل بالضمير المتصل . والإرجاء التأخير . يقال : ارجيت هذا الأمر وارجأته ، إذا أخرته . ومنه { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } والمدائن : أى : البلاد جمع مدينة ، وهى من مدن بالمكان - كنصر - إذا أقام به ، و { حَاشِرِينَ } أى : جامعين ، يقال : حشر الناس - من باب نصر وضرب - يحشرهم حشرا إذا جمعهم ، ومنه : يوم الحشر والمحشر .
والمعنى : قال الملأ من قوم فرعون حني استشارهم فى أمر موسى : أخر أمره وأمر أخيه ولا تتعجل بالقضاء فى شأنهما ، وأرسل فى مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة يجمعون إليك السحرة المهرة ، لكى يقفوا فى وجه هذا الساحر العليم ، ويكشفوا عن سحره ويبطلوه بسحر مثله أو أشد " وكان السحر فى عهد فرعون من الأعمال الغالبة التى يحسنها كثير من أهل مملكته .
وقال بعضهم : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر ، وهو الهم بقتله ، فقالوا له : أخره ليتبين حاله للناس .
وقال القاسمى : تدل الآية على معجزة عظيمة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه ، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه إلا الله وتدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمراً عظيما أن يعارضه ، فلذلك دعا فرعون بالسحرة وتدل على أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال ، لذلك قالوا { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } فيدل على أن من أقوى الدواعى إلى ترك الدين ، المحافظة على الرياسة والمال والجاه كما هى عادة الناس فى هذا الزمن " .
وقوله { فِي المدآئن } متعلق بأرسل ، و { حَاشِرِينَ } نعت لمحذوف أى : رجالا حاشرين . ومفعوله محذوف . أى : حاشرين السحرة ، بدليل ما بعده .
ولا يذكر السياق القرآنى بعد ذلك أنهم أرسلوا إلى السحرة ، ولا أنهم جمعوهم ، وإنما يترك ذلك للعقل يفهمه حيث لا داعى لذكر هذه التفاصيل . ويتجه القرآن إلى الحديث عما دار بين السحرة وبين فرعون بعد أن جمعوا من مدائن الصعيد بمصر حيث كان مقرهم هناك فيقول : { وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } .
أى : وأقبل السحرة سريعا على فرعون بعد أن أرسل إليهم فقالوا له بلغة المحترف الذى مقصده الأول مما يعمله الأجر والعطاء : إن لنا لأجراً عظيما إن كانت لنا الغلبة على هذا الساحر العليم؟ فهم يستوثقون أولا من جزالة الأجر وضخامته . وهنا يجيبهم فرعون بقوله : نعم لكم أجر مادى جزيل إذا انتصرتم عليه ، وفضلا عن ذلك فأنتم تكونون بهذا الانتصار من الظافرين بقربى وجوارى . فهو يغريهم بالأجر المادى ويعدهم بالقرب المعنوى من قلبه تشجيعا لهم على الإجادة ، وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والمهارة والتضليل ، وإنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة الغالبة التى لا يستطيع الوقوف فى وجهها الساحرون ولا المتجبرون وغيرهم .
هذا ، وقد اختلف الفسرون فى عدد هؤلاء السحرة فقيل ، كانوا اثنين وسبعين ساحراً ، وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير .
وبعد أن اطمأن السحرة على الأجر ، وتطلعت نفوسهم إليه ، يحكى لنا القرآن أنهم توجهوا إلى موسى بلغة الواثق من قوته ، المتحدى لخصمه : { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } .
أى : أنت يا موسى مخير بين أن تلقى عصاط أولا؛ وبين أن نلقى نحن أولا وأنت تفعل ما تشاء بعدنا ، وكأنهم يقولون له : وفى كلتا الحالتين فنحن على قة من الفوز والنصر فأرح نفسك واستسلم لنا مقدما .
ويرى الزمخشرى أن تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا فى الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا فى الصراع .
ولقد حكى لنا القرآن فى سورة طه أن موسى نصحهم بعدم الدخول معه فى معركة هم الخاسرون فيها قطعا فقال : { قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى } أما هنا فيحكى لنا القرآن أن موسى - عليه السلام - قد طلب منهم أن يلقوا أولا مستهينا بتحديهم له ، غير مبال بهم ولا بمن جمعهم ، لأنه قد اعتمد على خالقه { قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } .
أى : قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أولا ، فلما ألقوا ما كان معهم من الحبال والعصى { سحروا أَعْيُنَ الناس } أى : خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة فى الخارج مع أنه لم يكن إلا مجرد صنعة وخيال ، ولذا لم يقل - سبحانه - سحروا الناس .
وقوله { واسترهبوهم } أى : خوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر . { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أى : فى باب السحر ، أو فى عين من رآه ، فإنه ألقى كل واحد منهم عصاه ، فصارت كأنها ثعابين .(3/176)
والتعبير بقوله - سبحانه - { واسترهبوهم } تعبير مصور بليغ ، فهو يوحى بأنهم استجاشوا وجدان الناس قسرا ، وساقوهم سوقا بوسائل مصطنعة مفتعلة لا تستند إلى واقع سليم .
روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا ، فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادى يركب بعضها بعضا .
وروى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة . قيل : جعلوا فيها الزئبق .
وقال بعض العلماء : قيل إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا ، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً ملؤها نارا ، فلما طرحت عليها العصى المجوفة المملوءة عليها العصى المجوفة المملوءة بالزئبق حركها ، لأن شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير ، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته . فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية " .
ويمضى القرآن فيبين لنا أن هذا السحر العظيم الذى استرهب الناس وسحر أعينهم ، قد تهاوى فى لحظة ، وانطوى فى ومضة ، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذى سلحه به ربه ، استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ } .
اللقف : التناول بسرعة . يقال : لقف الشىء يلقفه لقفا ولقفانا ، أخذه بسرعة .
والإفك : الكذب . يقال أفَك يأفِك ، وأفك يأفك إفكا وأفكا - كضرب وعلم - إذا كذب ، واصله من الأفك - بفتح أوله - وهو بمعنى صرف الشىء عن وجهه الذى يجب أن يكون عليه . واطلق على الكذب إفك - بكسر الهمزة - لكونه مصروفا عن وجه الحق ، ثم صار حقيقة فيه .
والمعنى : وأوحينا إلى موسى - بعد أن أوجس خيفة مما رآه من أمر السحرة - أن الق عصاك ولا تخف إنك أنت الأعلى ، فألقاها فإذا هى تبتلع وتلتقم بسرعة ما يكذبون ويموهون به أولئك السحرة { فَوَقَعَ الحق } أى : ظهر وتبين الحق الذى عليه موسى - وفسد وبطل ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره . وترتب على ذلك أن أصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه وسحرته فى ذلك المجمع العظيم ، الذى حشر الناس له فى يوم عيدهم وزينتهم ، وانقلب الجميع إلى بيوتهم صاغرين أذلاء ، بعد أن أنزل بهم موسى الخذلان والخيبة .
وأن قوله { أَنْ أَلْقِ } يجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون مصدرية فتكون هى وما بعدها مفعول الإيحاء .
والفاء فى قوله { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } فصيحة أى : فألقاها فصارت حية فإذا هى تلقف ما يأفكون .
وإنما حذف هذا المقدر للإيذان بمسارعة موسى إلى الالقاء ، وبغاية سرعة الانقلاب ، كأن ابتلاعها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء .
و { مَا } فى قوله { مَا يَأْفِكُونَ } موصولة والعائد محذوف أى : الذى يأفكونه ، أو مصدرية وهى مع الفعل بمعنى المفعول أى : فإذا هى تلقف المأفوك .
وفى التعبير بقوله - سبحانه - { فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تجسيم لهذا الحق الذى كان عليه موسى ، وتثبيت واستقرار له ، حتى لكأنه شىء ذو ثقل نزل على شىء آخر خفيف الوزن فأزاله ومحاه من الوجود .
وهذه الآيات الكريمة تصور لنا كيف أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت ، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان ، حتى ليخيل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف . ولكن ما إن يواجهه الحق الهادىء الثابت المستقر بقوته التى لا تغالب حتى يزهق ويزول ، وينطفىء كشعلة الهشيم ، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصغار ، وهم يرون صروحهم تتهاوى ، وآمالهم تتداعى ، أمام نور الحق المبين ، وإذا بتحديهم الصريح ، وتطاولهم الأحمق يتحول إلى استسلام مهين ، وذل مشين .
ثم يحكى لنا القرآن بعد ذلك موقف السحرة بعد أن رأوا بأعينهم أن ما فعله موسى - عليه السلام - ليس من قبيل السحر فقال : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } أى : خبروا سجدا ، كأنما - كما قال الزمخشرى - قد القاهم ملق لشدة خرورهم أو لم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا فكأنهم ألقوا .
والمراد أن ظهور بطلان سحرهم ، وإدراكهم بأن موسى على الحق ، قد حملهم على السجود لله - تعالى - وأن ور الحق قد بهرهم وجعلهم يسارعون إلى الإيمان حتى لكأن أحدا قد دفعهم إليه دفعا ، وألقاهم إليه إلقاء .(3/177)
وقوله { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ } أى : قال السحرة بعد أن تبين لهم الحق وخروا ساجدين لله ، آمنا بمالك أمر العالمين ومدبر شئونهم ، والمتصرف فيهم ، وجملة { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } بدل من الجملة التى قبلها ، أو صفة لرب العالمين ، أو عطف بيان . وفائدة ذلك نفى توهم من يتوهم أن رب العالمين قد يطلق على غير الله - تعالى - كقول فرعون { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } وهكذا نرى أثر الحق عندما تخالط بشاشته القلوب الواعية ، لقد آمن السحرة وصرحوا بذلك أمام فرعون وشيعته ، لأنهم أدركوا عن يقين قطعى أن ما جاء به موسى - عليه السلام - ليس من قبيل السحر ، والعالم فى فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له ، ومن هنا فقد تحول السحرة من التحدى السافر إلى التسليم المطلق أمام صوله الحق الذى لا يجحده إلا مكابر حقود .
ولكن فرعون وملأه لم يرقهم ما شاهدوا من إيمان السحرة ، ولم يدركوا لانطماس بصيرتهم فعل الإيمان فى القلوب ، فأخذ يتوعدهم بالموت الأليم ويحكى القرآن ذلك فيقول : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } أى : قال فرعون منكراً على السحرة إيمانهم ، آمنتم برب موسى وهارون قبل أن آمركم أنا بذلك؟ فهو لغروره وجهله ظن أن الإيمان بالحق بعد أن تبين يحتاج إلى استئذان .
ثم أضاف إلى ذلك اتهامهم بأن إيمانهم لم يكن عن إخلاص ليصرف الناس عنهم فقال : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } أى : إن ما صنعتموه من الإيمان برب موسى وهارون ليس عن اقتناع منكم بذلك ، بل هو حيلة احتلتموها أنتم وموسى قبل أن يلقى كل منكم بسحره ، لكى تخرجوا من مصر أهلها الشرعيين ، وتخلص لكم ولبنى إسرائيل .
وغرضه من هذا القول إفهام قبط مصر أن إيمان السحرة كان عن تواطؤ مع موسى ، وأنهم يهدفون من وراء ذلك إلى إخراجهم من أوطانهم ، فعليهم . - أية القبط - أن يستمسكوا بدينهم وأن يعلنوا عداوتهم لموسى وللسحرة ولبنى إسرائيل .
ولا شك أن هذا لون من الكذب الخبيث أراد من ورائه فرعون صد الناس عن الإيمان بموسى - عليه السلام - .
ثم أتبع هذا الاتهام الباطل بالوعيد الشديد فقال : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أى : فسوف تعلمون عاقبة ما فعلتم . ثم فصل هذا الوعيد بقوله : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } .
أى : أقسم لأقطعن من كل شق منكم عضواً مغايراً للآخر ، كاليد من الجانب الأيمن ، والرجل من الجانب الأيسر ، ثم لأصلبنكم أجمعين تفضيحاً لكم ، وتنكيلا لأمثالكم . ومع أن فرعون قد توعد هؤلاء المؤمنين بالعذاب والتشويه والتنكيل والموت القاسى البطىء الموهوب ، فإننا نراهم يقابلون كل ذلك بالصبر الجميل ، والإيمان العميق ، والاستهانة ببطش فرعون وجبروته فيقولون له بكل ثبات واطمئنان : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } قال صاحب الكشاف : فيه أوجه : أن يريدوا إنا لا نبالى بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك .
أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب . أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون ننقلب إلى الله فيحكم بيننا . أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه " .
ثم قالوا له على سبيل الاستهزاء والتوبيخ { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } أى : وما تكره منا وتعيب إلا الإيمان بالله ، مع أن ما تكرهه منا وتعيبه علينا هو أعظم محاسننا ، لأنه خير الأعمال ، وأعظم المناقب ، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك .
يقال : نقم عليه أمره ، ونقمت منه نقما - من باب ضرب - عبته وكرهته أشد الكراهة .
قال الجمل : وقوله { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } يجوز أن يكون فى محل نصب مفعول به ، أى : ما تعيب علينا إلا إيماننا .
ويجوز أن يكون مفعولا من أجله . أى : ما تنال منا وتعذبنا لشىء من الأشياء إلا لإيماننا . وعلى كل من القولين فهو استثناء مفرغ " .
ثم ختموا مناقشتهم لفرعون بالانصراف عنه والالتجاء إلى الله - تعالى - فقالوا : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أى : يا ربنا افض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك ، وتوفنا إليك حالة كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك ، مستسلمين لقضائك .
وبذلك يكون السحرة قد ضربوا للناس فى كل زمان ومكان أروع الأمثال فى التضحية من أجل العقيدة ، وفى الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة ، وفى الصبر على المكاره والآلام ، وفى المسارعة إلى الدخول فى الطريق الحق بعد أن تبين لهم ، وفى التعالى عن كل مغريات الحياة .
قال قتادة : كانوا فى أول النهار كفاراً سحرة . وفى آخره شهداء بررة ، فرضى الله عنهم وحشرنا فى زمرتهم .
============
وقال الطاهر بن عاشور (1):
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 5 / ص 408)(3/178)
جرت جملة : { قال الملأ } على طريقة الفصل لأنها جرت في طريق المحاورة الجارية بين موسى وبين فرعون وملئه فإنه حوار واحد .
وتقدم الكلام على الملإِ آنفاً في القصص الماضية ، فملأ قوم فرعون هم سادتهم وهم أهل مجلس فرعون ومشورته ، وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله تعالى قال في آية أخرى { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } [ طه : 43 ] وقال في هذه الآية : { إلى فرعون وملائه } [ الأعراف : 103 ] وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة .
وإنما قالوا هذا الكلام على وجه الشورى مع فرعون واستنباط الاعتذار لأنفسهم عن قيام حجة موسى في وجوههم فاعتلوا لأنفسهم بعضهم لبعض بأن موسى إنما هو ساحر عليم بالسحر أظهر لهم ما لا عهد لهم بمثله من أعمال السحرة ، وهذا القول قد أعرب عن رأي جميع أهل مجلس فرعون ، ففرعون كان مشاركاً لهم في هذا لأن القرآن حكى عن فرعون في غير هذه السورة أنه قال للملإ حوله { إن هذا لساحر عليم } ، وهذه المعذرة قد انتحلوها وتواطأوا عليها تبعوا فيها ملكهم أو تبعهم فيها ، فكل واحد من أهل ذلك المجلس قد وطَّن نفسه على هذا الاعتذار ولذلك فالخطاب في قوله : { يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } خطاب بعضهم لبعض وهو حاصل من طوائف ذلك الملأ لطوائفَ يرددونه بينهم ويقوله بعضهم لبعض .
ووجه استفادتهم أن موسى يريد إخراجهم من أرضهم ، إما أنهم قاسوا ذلك عن قول موسى { فأرسل معى بني إسرائيل } [ الأعراف : 105 ] بقاعدة ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، يعنون أنه ما أظهر إخراج بني إسرائيل إلاْ ذريعة لإخراج كل من يؤمن به ليتخدهم تبعاً ويقيم بهم ملكاً خارجَ مصر . فزعموا أن تلك مكيدة من موسى لثلم ملك فرعون .
وإما أن يكون ملأ فرعون محتوياً على رجال من بني إسرائيل كانوا مقربين عند فرعون ومن أهل الرأي في المملكة ، فهم المقصود بالخطاب ، أي : يريد إخراج قومكم من أرضكم التي استوطنتموها أربعة قرون وصارت لكم موطناً كما هي للمصريين ، ومقصدهم من ذلك تذكيرهم بحب وطنهم ، وتقريبهم من أنفسهم ، وإنساؤهم ما كانوا يلقون من اضطهاد القبط واستذلالهم ، شعوراً منهم بحراجة الموقف .
وإما إنهم علموا أنه إذا شاع في الأمة ظهور حجة موسى وعَجْز فرعون وملئه أدخل ذلك فتنة في عامة الأمة فآمنوا بموسى وأصبح هو الملك على مصر فأخرج فرعونَ وملأه منها .
ويجوز أن يكون الملأ خاطبوا بذلك فرعون . فجرَتْ ضمائر الخطاب في قوله : { أن يخرجكم من أرضكم } على صيغة الجمع تعظيماً للملك كما في قوله تعالى : { قال رب ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] وهذا استعمال مطرد .
والأمر حقيقته طلبُ الفعل ، فمعنى { فماذا تأمرون } ماذا تطلبون أن نفعل ، وقال جماعة من أهل اللغة : غلب استعمال الأمر في الطلب الصادر من العلي إلى من دونه فإذا التزم هذا كان إطلاقه هنا على وجه التلطف مع المخاطبين ، وأياً ما كان فالمقصود منه الطلب على وجه الإفتاء والاشتوار لأن أمرهم لا يتعين العمل به ، فإذا كان المخاطب فرعون على ما تقدم ، كان مراداً من الأمر الطلب الذي يجب امتثاله كما قال ملأ بلقيس : { فانظُرِي ماذا تأمرين } [ النمل : 33 ] .
والساحر فاعل السحر ، وتقدم الكلام على السحر عند قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } في سورة البقرة ( 102 ) .
وجملة : { قالوا أرجه } جواب القوم المستشَارين ، فتجر يدها من حرف العطف لجريانها في طريق المحاورة ، أي : فأجاب بعض الملأ بإبداء رأي لفرعون فيما يتعين عليه اتخاذه . ويجوز أن تكون جملة : { قالوا أرجه } بدلاً من جملة : { قال الملأ من قوم فرعون } بإعادة فعل القول وهو العامل في المبدل منه إذا كان فرعون هو المقصود بقولهم : { فماذا تأمرون } .
وفعل { أرجه } أمر من الإرجاء وهو التأخير . قرأه نافع ، وعاصم ، والكسائي وأبو جعفر { أرجه } بجيم ثم هاء وأصله ( أرجئه ) بهمزة بعد الجيم فسُهلت الهمزة تخفيفاً ، فصارت ياء ساكنة ، وعوملت معاملة حرف العلة في حالة الأمر ، وقرأه الباقون بالهمز ساكناً على الأصل ولهم في حركات هاء الغيبة وإشباعها وجوه مقررة في علم القراءات .
والمعنى : أخّرْ المجادلة مع موسى إلى إحضار السحرة الذين يدافعون سحره ، وحكى القرآن ذكر الأخ هنا للإشارة إلى أنه طوي ذكره في أول القصة ، وقد ذكر في غير هذه القصة ابتداء .
وعدي فعل الإرسال ( بفي ) دون ( إلى ) لأن الفعل هنا غير مقصود تعديته إلى المرسل إليهم بل المقصود منه المرسَلون خاصة . وهو المفعول الأول . إذ المعنى : وأرسل حاشرين في المدائن يأتوك بالسّحرة ، فعُلم أنهم مرسلون للبحث والجلب . لا للإبلاغ وهذا قريب من قوله تعالى : { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم } في سورة المؤمنين ( 32 ) ، قال في { الكشاف } هنالك : «لم يُعَد الفعل بقي مثلَ ما يُعدى بإلى ، ولكن الأمة جعلت موضعاً للإرسال كما قال رؤبة :(3/179)
أرسلتَ فيها مُصْعَبا ذَا إقحام ... وقد جاء ( بَعَثَ ) على ذلك في قوله : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } [ الفرقان : 51 ] ، وقد تقدم آنفاً قريب منه عند قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبي } [ الأعراف : 94 ] .
والمَدائن : جمع مدينة ، وهي بوزن فعيلة ، مشتقة من مَدَن بالمكان إذا أقام ولعل ( مَدَن ) هو المشتق من المدينة لا العكس ، وأيّاً ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا ( صَحَائف ) جمع صحيفة . ولو كانت مَفْعَلة من دانه لقالوا في الجمع مداين بالياء مثل معايش .
ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله تعالى : { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين }
في سورة الشعراء ( 53 ) . قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر . والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم .
والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاءَ أهلَ سياسة ، فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى . وأن فرعون إنْ سجنه أو عاند ، تحقق الناس أن حجة موسى غلبت ، فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون ، فرأوا أن يلاينوا موسى ، وطمعوا أن يوجد في سحَرة مصر من يدافع آيات موسى ، فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس .
وجَزْم { يأتوك } على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان ، فالتقدير : إنْ تُرْسل يأتُوك ، وقد قيل : في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محْذوفة ، على أن الجملة بدل من { أرسلْ } بدلَ اشتمال . أي : أرسلهم آمراً لهم فليأتوك بكل ساحر عليم ، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو : { قل لعباديَ الذين آمنوا يُقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا .
و ( كل ) مستعمل في معنى الكثرة ، أي : بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع .
وقرأ الجمهور : { بكل ساحر } وقرأ جمزة ، والكسائي ، وخلف : { بكل سَحّار } ، على المبالغة في معرفة السحر ، فيكون وصف { عليم } تأكيداً لمعنى المبالغة لأن وصف { عليم } الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر ، وحذف متعلق { عليم } لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا . والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له . عطفت جملة { وجاء السحرة } على جملة : { قالوا أرجه وأخاه وأرْسلْ في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم } [ الأعراف : 111 ، 112 ] وفي الكلام إيجاز حذف . والتقدير : قالوا أرجه وأخاه وأرسل الخ ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا وجاء السحرة من المدائن فحضروا عند فرعون .
فالتعريف في قوله : { السحرة } تعريف العهد . أي السحرة المذكورون ، وكان حضور السحرة عند فرعون في اليوم الذي عينه موسى للقاء السحرة وهو المذكور في سورة طه .
وجملة : { قالوا إن لنا لأجراً } استئناف بياني بتقدير سؤال من يسأل : ماذا صدر من السحرة حين مثُلوا بين يدي فرعون؟ .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص ، وأبو جعفر { إن لنا لأجراً } ابتداء بحرف ( إن ) دون همزة استفهام ، وقرأه الباقون بهمزة استفهام قبل ( إن ) .
وعلى القراءتين فالمعنى على الاستفهام ، كما هو ظاهر الجواب ب { نعم } ، وهمزة الاستفهام محذوفة تخفيفاً على القراءة الأولى ، ويجوز أن يكون المعنى عليها أيضاً على الخبرية لأنهم وثقوا بحصول الأجر لهم ، حتى صيروه في حيز المخبر به عن فرعون ، ويكون جواب فرعون ب { نعم } تقريراً لما أخبروا به عنه .
وتنكير { أجراً } تنكير تعظيم بقرينة مقام المَلِك وعظم العمل ، وضمير { نحن } تأكيد لضمير { كنا } إشعاراً بجدارتهم بالغلَب ، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر ، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله ، وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر ، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر ، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسى عليه السلام .
وقول فرعون { نعم } إجابة عما استفهموا ، أو تقرير لما توسموا : على الاحتمالين المذكورين في قوله : { إن لنا لأجراً } آنفاً ، فحرف ( نعم ) يقرر مضمون الكلام الذي يجاب به ، فهو تصديق بعد الخبر ، وإعلام بعد الاستفهام ، بحصول الجانب المستفهم عنه ، والمعنيان محتملان هنا على قراءة نافع ومن وافقه ، وأما على قراءة غيرهم فيتعين المعنى الثاني .
وعُطف جملة : { إنكم لمن المقربين } على ما تضمنه حرف الجواب إذ التقدير : نعم لكم أجر وإنكم لمن المقربين ، وليس هو من عطف التلقين : لأن التلقين إنما يعتبر في كلامين من متكلميْن لا من متكلم واحد .
وفصلت جملة : { قالوا يا موسى } لوقوعها في طريقة المحاورة بينهم وبين فرعون وموسى ، لأن هؤلاء هم أهل الكلام في ذلك المجمع .
و { إمّا } حرف يدل على الترديد بين أحد شيئين أو أشياء ، ولا عمل له ولا هو معمول ، وما بعده يكون معمولاً للعامل الذي في الكلام . ويَكون ( إما ) بمنزلة جزء كلمة مثل أل المعرفة ، كقول تأبط شراً :
هُمَا خُطّتَا إما إسارٍ ومنّةٍ ... وإمّا دَممٍ والموتُ بالحر أجدر(3/180)
وقوله : { أنْ تُلْقي وقوله : أن نكون نحن الملقين } يجوز كونهما في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف ، أي إما إلقاؤك مقدم وإما كوننا ملقين مقدم ، وقد دل على الخبر المقام لأنهم جاءوا لإلقاء آلات سحرهم ، وزعموا أن موسى مثلهم .
وفي «الكشاف» في سورة طه ، جَعَل { إما أن تلقي } خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا ، ولما كان الواقع لا يخلو عن أحد هذين الأمرين لم يكن المقصود بالخبر الفائدة لأنها ضرورية ، فلا يحسن الإخبار بها مثل : السماء فوقنا ، فتعين أن يكون الكلام مستعملاً في معنى غير الإخبار ، وذلك هو التخيير أي : إِما أن تبتدىء بإلقاء آلات سحرك وإما أن نبتدىء ، فاختر أنت أحد مرين ومن هنا جازَ جَعل المصدرين المنسبكين في محل نصب بفعل تخيير محذوف ، كما قدره الفراء وجوزه في «الكشاف» في سورة طه ، أي : اختر أن تلقي أو كوننا الملقين ، أي : في الأولية ، ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم إظهاراً لثقتهم بمقدرتهم وإنهم الغالبون ، سواء ابتدأ السحرة موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين ، ووجه دلالة التخيير على ذلك أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادىء لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها ، فتكون النفوس أشد تأثراً بها من تأثرها بما يأتي بعدها ، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم ، فإن لاستضعاف النفس تأثيراً عظيماً في استرهابَها وإبطال حيلتها ، وقد جاءوا في جانبهم بكلام يسترهب موسى ويهول شأنهم في نفسه ، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله : { وإما أن نكون نحن الملقين } .
وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يُلقوا سحرهم قبل موسى ، لأن ذلك ينافي إظهار استواء الأمرين عندهم ، خلافاً لما في «الكشاف» وغيره ، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله : { ألْقُوا } استخفافٌ بأمرهم إذ مكّنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم ، لأن الله قوّى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقعَ حجةٍ وأقطع معذرة ، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى عليه السلام إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر ، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغاً ، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهوراً ، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغاً في إقامة الحجة عليهم ، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك ، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها .
وقوله { فلما ألقوا } عطف على محذوف للإيجاز ، والتقدير : فألْقَوا . لأن قوله : { فلما ألقوا } يؤذن بهذا المحذوف ، وحذف مفعول { ألقَوا } لظهوره ، أي : ألقوا آلات سحرهم .
ومعنى { سحروا أعين الناس } : جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقَوا من التخييلات والشعوذة .
وتعدية فعل { سحروا } إلى { أعين } مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك ، وهم إنما سحروا العقول ، ولذلك لو قيل : سحروا الناسَ لأفاد ذلك ، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية ، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى :
كذَلكَ فافْعَلْ ما حيَيتَ إذا شَتَوْا ... وَأقْدِم إذَا مَا أعْيُنُ النّاس تَفرقَ
أي إذا ما الناس تفرَق فَرَقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة .
والاسترهاب : طلب الرهب أي الخَوْف . وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين ، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم ، وتلك الأمور أقوال وأفعال توهم أن سيقع شيء مُخيف كأن يقولوا للناس : خُذوا حذركم وحاذروا ، ولا تقتربوا ، وسيقع شيء عظيم ، وسيحضر كبير السحرة ، ونحو ذلك من التمويهات ، والخزعبلات ، والصياح ، والتعجيب .
ولك أن تجعل السين والتاء في { واسترهبوهم } للتأكيد ، أي : أرهبوهم رهَبا شديداً ، كما يقال استكبر واستجاب .
وقد بينت في تفسير قوله تعالى : { يعلّمون الناس السحر } من سورة البقرة ( 102 ) أن مبنى السحر على التخييل والتخويف .
ووصف السحر بالعظيم لأنه من أعظم ما يفعله السحرة إذ كان مجموعاً مما تفرق بين سحرة المملكة من الخصائص المستورة بالتوهيم الخفية أسبابها عن العامة . جملة : { وأوحينا } معطوفة على جمل { سحروا أعين الناس ، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم } [ الأعراف : 116 ] ، فهي في حيز جواب لمّا ، أي : لمّا ألْقَوا سَحَروا ، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك .(3/181)
و { أن } تفسيرية لفعل { أوحينا } ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها ، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين ، إذ التقدير : فألقاها فدبّت فيها الحياة وانقلبت ثعباناً فإذا هي تلقف ، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء ، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان ، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعباناً بدون تبديل شكل .
والتلقف : مبَالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد .
و { ما } موصولة والعائد محذوف أي : ما يأفكونه . والإفك : الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكاً ، والكذب المصنوعُ إفكاً ، لأن فيه صرفاً عن الحق وإخفاء للواقع ، فلا يسمى إفكاً إلاّ الكذبُ المصطنع المموه ، وإنما جعل السحر إفكاً لأن ما يظْهَر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب .
وقرأ الجمهور { تَلَقّفَ } بقاف مشددة ، وأصله تتلقف ، أي تبالغ وتتكلف اللقف ما استطاعت ، وقرأ حفص عن عاصم : بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد .
والتعبير بصيغة المضارع في قوله : { تَلقف } و { يأفكون } للدلالة على التجديد والتكرير ، مع استحضار الصورة العجيبة ، أي : فإذا هي يتجدد تلقفها لِما يتجدد ويتكرر من إفكهم . وتسمية سحرهم إفكاً دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات .
وقوله { فوقع الحق } تفريع على { تلقّف ما يأفكون } . والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض ، ومنه : وقَع الطائر ، إذا نَزَل إلى الأرض ، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر ، لأن ظهوره كان بتأييد الهي فشبه بشيء نزل من علو ، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض ، وهي استعارة شائعة قال تعالى : { وإن الدين لَواقع } [ الذاريات : 6 ] أي : حاصل وكائن ، والمعنى فظهر الحق وحصل .
ولعل في اختيار لفظ ( وقع ) ، هنا دون ( نزل ) مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقَى يقع على الأرض فكانَ وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين .
و { الحق } : هو الأمر الثابت الموافق للبرهان ، وضده الباطل ، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى ، وأثَرِ قدرته .
و { بطل } : حقيقته اضمحل . والمراد : اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثَرٍ مزعوم لشيء يقال : بطَل سعيه ، أي : لم يأت بفائدة ، ويقال : بطَل عمله ، أي : ذهب ضياعاً وخُسر بلا أجر ، ومنه قوله تعالى : { ويُبْطلُ الباطلَ } [ الأنفال : 8 ] أي : يزيل مفعوله وما قصدوه منه ، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه ، أو لا خير فيه ، ومنه سمي ضد الحق باطلاً لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو ، وهو القبول لدى العقول المستقيمة .
وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم الجامد ، مدلوله هو ضد الحق ، ويطلق الباطل اسمَ فاعل من بطَل ، فيساوي المصدر في اللفظ ، ويتعين المراد منهما بالقرينة ، فصوغ فعل بطل يكون مشتقاً من المصدر وهو البطلان ، وقد يكون مشتقاً من الاسم وهو الباطل . فمعنى { بطل } حينئذٍ وُصف بأنه باطل مثل فَهِد وأسد ، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين ، فعلى الأول يكون المعنى : وانتفت حينئذٍ آثار ما كانوا يعملون ، وعلى الثاني يكون المعنى : واتصف ما يعملون بأنه باطل ، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث ، لأن كون ما يعملونه باطلاً وصف ثابت له من قبللِ أن يُلقيَ موسى عصاه ، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلاً ، ويبعّد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه ، خلافُ الأصل فلا يصار إليه بلا دَاع .
وأما من فسر { بطل } بمعنى : العدم . وفسر { ما كانوا يعملون } بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبُو عن الاستعمال ، وعن المقام .
وزيادة قوله : { وبطل ما كانوا يعملون } بعد قوله : { فوقع الحق } تقرير لمضمون جملة { فوقع الحق } لتسجيل ذم عملهم ، ونداءٌ بخيبتهم ، تأنيساً للمسلمين وتهديداً للمشركين وللكافرين أمثالها .
و { ما كانوا يعملون } هو السحر ، أي : بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات ، ولم يعبّر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحراً عجيباً تكلفوا له وأَتوا بمنتهى ما يعرفونه .
وقد عطف عليه جملة { فغُلبوا } بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم .
و { هنالك } اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر .
والانقلاب : مطاوع قَلَبَ والقلب تغيير الحال وتبدله ، والأكثر أن يكون تغييراً من الحال المعتادة إلى حال غريبة .
ويطلق الانقلاب شائعاً على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه ولأن الراجع قد عكس حال خروجه .
وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى ( صار ) وهو المراد هنا أي : صاروا صاغرين . واختيار لفظ { انقلبوا } دون ( رَجعُوا ) أو ( صاروا ) لمناسبته للفظ غُلبوا في الصيغة ، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون ، فكان لفظ ( انقلبوا ) أدخل في الفصاحة .(3/182)
والصّغَار : المذلة ، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم ، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون .
عَطْف على { فغُلبوا وانقَلبوا } [ الأعراف : 119 ] ، فهو في حيز فاء التعقيب ، أي : حصل ذلك كله عقب تلقف العصا ما يأفكون ، أي : بدون مهلة ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين ، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم ، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية ، ولذلك لما رأوا تلقف عصا موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر ، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق ، فلذلك سجدوا ، وكان هذا خاصاً بهم دون بقية الحاضرين ، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم .
والإلقاء : مستعمل في سرعة الهُوِي إلى الأرض ، أي : لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد .
وبُني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل ، وهو أنفسُهم ، والتقدير : وألقَوْا أنفسهم على الأرض .
و { ساجدين } حال ، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم ، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذٍ بظهور معجزة موسى عليه السلام والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين .
وجملة : { قالوا } بدل اشتمال من جملة : { ألقي السحرة } لأن الهوي للسجود اشتمل على ذلك القول ، وهم قصدوا من قولهم ذلك الإعلان بإيمانهم بالله لئلا يظن الناس أنهم سجدوا لفرعون ، إذ كانت عادة القبط السجود لفرعون ، ولذلك وصفوا الله بأنه رب العالمين بالعنوان الذي دَعا به موسى عليه السلام ، ولعلهم لم يكونوا يعرفون اسماً علماً لله تعالى ، إذ لم يكن لله اسم عندهم ، وقد عُلم بذلك أنهم كفروا بالإهية فرعون .
وزادوا هذا القصد بياناً بالإبدال من { رب العالمين } قولّهم { رب موسى وهارون } لئلا يُتوهم المبالغة في وصف فرعون بأنه رب جميع العالمين ، وتعين في تعريف البدل طريق تعريف الإضافة لأنها أخصر طريق ، وأوضحه هنا ، لاسيما إذا لم يكونوا يعرفون اسماً علماً على الذات العلية . وهذا ما يقتضيه تعليم الله اسمه لموسى حين كلمه فقال : { إنني أنا الله } في سورة طه ( 14 ) . وفي سفر الخروج { وقال الله لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل ( يهوه ) إله آبائكم } الخ الإصحاح الثالث .
وفصلت جملة : { قال فرعون } لوقوعها في طريق المحاورة .
وقوله : { أآمنتم } قرأه الجمهور بصيغة الاستفهام بهمزتين فمنهم من حققها ، وهم : حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وروْح عن يعقوب ، وخلفٌ ، ومنهم من سهل الثانية مَدّة ، فصار بعد الهمزة الأولى مدتان ، وهؤلاء هم : نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وقرأه حفص عن عاصم بهمزة واحدة فيجوز أن يكون إخباراً ، ويجوز أن تكون همزة الاستفهام محذوفة وما ذلك ببدع .
والاستفهام للإنكار والتهديد مجازاً مرسلاً مركباً ، والإخبار مستعمل كذلك أيضاً لظهور أنه لا يقصد حقيقة الاستفهام ولا حقيقة الإخبار لأن المخاطبين صرحُوا بذلك وعلموه ، والضمير المجرور بالباء عائد إلى موسى ، أي : آمنتم بما قاله ، أو إلى رب موسى .
وجملة : { إن هذا لمكر } الخ . . . خبر مراد به لازم الفائدة أي : قد علمتُ مرادكم لأن المخاطَب لا يخبَر بشيء صَدر منه ، كقول عنترة :
إنْ كنتتِ أزمعتتِ الفراق فإنما ... زُمّتْ ركابُكُم بليل مظلم
أي : إن كنت أخفيتتِ عني عزمك على الفراق فقد علمتُ أنكم شددتُم رحالكم بليل لترحلوا خفية .
وقوله : { قَبْلَ أنْ آذنَ لكُم } ترق في موجب التوبيخ ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان ، وَفصْلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ .
والمكر تقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران ( 54 ) ، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { أفأمنوا مَكر الله } [ الأعراف : 99 ] والضمير المنصوب في { مكرتموه } ضمير المصدر المؤكّد لفعله .
و { في } ظرفية مجازية : جعل مكرهم كأنه موضوع في المدينة كما يوضع العنصر المفسد ، أي : أردتم إضرار أهلها ، وليست ظرفية حقيقية لأنها لا جدوى لها إذ معلوم لكل أحد أن مكرهم وقع في تلك المدينة ، وفسره في «الكشاف» بأنهم دبروه في المدينة حين كانوا بها قبل الحضور إلى الصحراء التي وقعت فيها المحاورة ، وقد تبين أن المراد بالظرفية ما ذكرناه بالتعليل الذي بعدها في قوله : { لتخرجوا منها أهلها } والمراد هنا بعض أهلها ، وهم بنو إسرائيل ، لأن موسى جاء طلباً لإخراج بني إسرائيل كما تقدم .
وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقاً لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة ، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة ، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فاتمروا بأمره ، كما في الآية الأخرى { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } [ طه : 71 ] .(3/183)
ويحتمل أنه قاله تمويهاً وبهتاناً ليصرف الناس عن اتباع السحرة ، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكاً في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها ، وأن ذلك مواطاة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة ، وهو موافق في قوله هذا ، لما كان أشار به .
الملأ من قومه حين قالوا : { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } [ الشعراء : 35 ] وأيّا ما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة ، بله أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة ، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت .
وَفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيدَ بقوله : { فسوف تعلمون } ، وحذف مفعول { تعلمون } لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب ، ثم بيّنه بجملة { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } . ووقوع الجمع معرفاً بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يدَ وكل رجْل من أيدي وأرجل السحرة .
و { منْ } في قوله : { من خلاف } ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني ، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله تعالى : { أو تُقطّعُ أيْدِيهمْ وَأرْجُلُهمْ من خلاف } في سورة المائدة ( 33 ) . فالمعنى : أنه يقطع من كل ساحر يداً ورجلاً متخالفتي الجهة غير متقابلتيها ، أي : إنْ قطعَ يدَه اليمنى قطعَ رجله اليسرى والعكس ، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكناً من المشي متوكئاً على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة .
ودلت ثُم } على الارتقاء في الوعيد بالثلب ، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء مشدوداً على خشبة ، وتقدم في قوله : { وما قتلوه وما صلبوه } في سورة النساء ( 157 ) ، وعلى هذا يكون توعّدهم بنوعين من العذاب . والوعيد موجّه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين : فريق يعذب بالقطع من خلاف ، وفريق يعذب بالصلب والقتل ، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم ، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذٍ ويحتمل أن يراد بالصلب : الصلب دون قتل ، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالاً ينذعر بهم الناس ، كيلا يُقدم أحد على عصيان أمره من بعد ، فتكون ( ثم ) دالة على الترتيب والمهلة ، ولعل المهلة قصد منها مدة كيّ واندمال موضع القطع ، وهذا هو المناسب لظاهر قوله : { أجمعين } المفيد أن الصلب ينالهم كلهم .
وفصلت جملة { قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } لوقوعها في سياق المحاورة .
والانقلابُ : الرجوع وقد تقدم قريباً . وهذا جواب عن وعيد فرعون بأنه وعيد لا يضيرهم ، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله رب الجميع ، وقد جاء هذا الجواب موجزاً إيجازاً بديعاً لأنه يتضمن أنهم يرجون ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون ، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم ، ويرجون العقابَ لفرعون على ذلك ، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين ، كان قولهم : { إنا إلى ربنا منقلبون } تشوقاً إلى حلول ذلك بهم محبة للقاء الله تعالى ، فإن الله تعالى لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبة لقائه ، ثم بينوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه ، لأنه لم يكن عن جناية تَصمهم بل كان على الإيمان بآيات لما ظهرت لهم . أي : فإنك لا تعرف لنا سبباً يوجب العقوبة غير ذلك .
والنّقْم : بسكون القاف وبفتحها ، الإنكار على الفعل ، وكراهة صدوره وحقد على فاعله ، ويكون باللسان وبالعمل ، وفعله من باب ضرب وتعب ، والأول أفصح ولذلك قرأه الجميع { ومَا تنقمُ } بكسر القاف .
والاستثناء في قولهم : { إلاّ أن آمنا بآيات ربنا } متصل ، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم ، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
وجملة { ربنا أفرغ علينا صبراً } من تمام كلامهم ، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى ، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها .
ومعنى قوله : { ربنا أفرغ علينا صبراً } اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون .
ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبراً قوياً ، يفوق المتعارف ، فشه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس ، على طريقة الاستعارة المكنية ، وشبه خلقُه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية ، فإن الإفراغ صّب جميع ما في الإناء ، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه ، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية .
وتقدم نظيره في قوله تعالى : { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً } في سورة البقرة ( 250 ) .
ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذاناً بأنهم غير راغبين في الحياة ، ولا مبالين بوعيد فرعون ، وأن همتهم لا ترجو إلاّ النجاة في الآخرة ، والفوزَ بما عند الله ، وقد انخذل بذلك فرعون ، وذهب وعيده باطلاً ، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة .(3/184)
والقرآن لم يتعرض هنا ، ولا في سورة الشعراء ، ولا في سورة طه ، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنّة .
وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات ( 26 ) : { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية .
والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يُرد جواباً .
وذكرُهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام .
والظاهر أن كلمة مسلمين } تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين ، وهي التي يجمعُ لفظُ الإسلام تفصيلها ، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله : { فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون } في سورة البقرة ( 132 ) .
=================(3/185)
==
وقال السيد رحمه الله (1):
فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) . .
إنها المفاجأة ! إن العصا تنقلب ثعباناً لا شك في ثعبانيته . .(مبين) . . وكما قيل في سورة أخرى: (فإذا هي حية تسعى) . . ثم إن يده السمراء - وقد كان موسى عليه السلام "آدم" أي مائلاً إلى السمرة - يخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء من غير سوء , بيضاء ليست عن مرض , ولكنها المعجزة , فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء !
هذه هي البينة والآية على الدعوى التي جاء بها موسى . . إني رسول من رب العالمين .
ولكن هل يستسلم فرعون وملؤه لهذه الدعوى الخطيرة ? هل يستسلمون لربوبية رب العالمين ? وعلام إذن يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه ? وعلام يقوم الملأ من قومه ومراكزهم التي هي من عطاء فرعون ورسمه وحكمه ?
علام يقوم هذا كله إن كان الله هو (رب العالمين) ?
إنه إن كان الله هو (رب العالمين) فلا حكم إلا لشريعة الله , ولا طاعة إلا لأمر الله . . فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذن , وهو لا يقوم على شريعة الله ولا يرتكن إلى أمره ? . . إن الناس لا يكون لهم(رب) آخر يعبدهم لحكمه وشرعه وأمره , إن كان الله هو ربهم . . إنما يخضع الناس لشرع فرعون وأمره حين يكون ربهم هو فرعون . فالحاكم - بأمره وشرعه - هو رب الناس . وهم في دينه أياً كان !
كلا ! إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب . ولا يسلم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة !
وفرعون وملؤه يخطئون فهم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى . بل إنهم ليعلنونها صريحة . ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة , باتهام موسى بأنه ساحر عليم:
(قال الملأ من قوم فرعون:إن هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم . فماذا تأمرون ?) . .
إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة . إنها الخروج من الأرض . . إنها ذهاب السلطان . . إنها إبطال شرعية الحكم . . أو . . محاولة قلب نظام الحكم ! . . بالتعبير العصري الحديث !
إن الأرض لله . والعباد لله . فإذا ردت الحاكمية في أرض لله , فقد خرج منها الطغاة , الحاكمون بغير شرع الله ! أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم . وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى , فيعبدون الناس لهذه الأرباب !
هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة . . وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة . . لقد قال الرجل العربي - بفطرته وسليقته - حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله:" هذا أمر تكرهه الملوك ! " . وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته:" إذن تحاربك العرب والعجم " . . لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته . كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً ! كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جديتها في حس هؤلاء العرب , لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيداً . فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد , ولا في أرض واحدة . شهادة أن لا إله إلا الله , مع الحكم بغير شرع الله ! فيكون هناك آلهة مع الله ! ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم "مسلمين" . . ذلك الفهم الباهت التافه الهزيل !
وهكذا قال الملأ من قوم فرعون , يتشاورون مع فرعون:
(إن هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم . فماذا تأمرون ?) .
واستقر رأيهم على أمر:
(قالوا:أرجه وأخاه , وأرسل في المدائن حاشرين , يأتوك بكل ساحر عليم) . .
وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد . وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر . ففي الوثنيات كلها تقريباً يقترن الدين بالسحر ; ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة ! وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها "علماء الأديان ! " فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة ! ويقول الملحدون منهم:إن الدين سيبطل كما بطل السحر ! وإن العلم سينهي عهد الدين كما أنهى عهد السحر ! . . إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه:"العلم" !
وقد استقر رأي الملأ من قوم فرعون , على أن يرجىء فرعون موسى إلى موعد . وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة . ذلك ليواجهوا "سحر موسى " - بزعمهم - بسحر مثله .
وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون , فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين ; في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين ! وتهديد السلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة !
الدرس الثالث:113-114 استعداد السحرة للمبارة
ويطوي السياق القرآني إجراء فرعون وملئه في جمع السحرة من المدائن ; ويسدل الستار على المشهد الأول , ليرفعه على المشهد التالي . . وذلك من بدائع العرض القرآني للقصص , كأنه واقع منظور , لا حكاية تروى !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 191)(3/186)
(وجاء السحرة فرعون , قالوا:إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين ? قال:نعم , وإنكم لمن المقربين) . .
إنهم محترفون . . . يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة ! والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك ! وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين ! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله , وإفراده - سبحانه - بالحاكمية ; وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله , احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين , وكافأهم على الاحتراف , وتبادل وإياهم الصفقة:هم يقرون سلطانه باسم الدين ! وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين !
ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم , ووعدهم مع الأجر القربى منه , زيادة في الإغراء , وتشجيعاً على بذل غاية الجهد . . وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل ; إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة , التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون !
ولقد اطمأن السحرة على الأجر , واشرأبت أعناقهم إلى القربى من فرعون , واستعدوا للحلبة . . ثم ها هم أولاء يتوجهون إلى موسى - عليه السلام - بالتحدي . . ثم يكون من أمرهم ما قسم الله لهم من الخير الذي لم يكونوا يحتسبون , ومن الأجر الذي لم يكونوا يتوقعون:
(قالوا:يا موسى , إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين . . قال:ألقوا) . .
ويبدو التحدي واضحاً في تخييرهم لموسى . وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة . . وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى - عليه السلام - واستهانته بالتحدي: قال ألقوا . . فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة , وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى . على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال , بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين .
ولكن السياق يفاجئنا بما فوجىء به موسى - عليه السلام - وبينما نحن في ظلال الاستهانة وعدم المبالاة , إذا بنا أمام مظهر السحر البارع , الذي يرهب ويخيف:
فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم , وجاءوا بسحر عظيم .
وحسبنا أن يقرر القرآن أنه سحر عظيم , لندرك أي سحر كان . وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا (أعين الناس) وأثاروا الرهبة في قلوبهم:(واسترهبوهم) لنتصور أي سحر كان , ولفظ "استرهب" ذاته لفظ مصور . فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً . ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه , أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة لنتصور حقيقة ما كان !
ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه , وتطالع السحرة الكهنة , وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم:
(وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك , فإذا هي تلقف ما يأفكون . فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون . فغلبوا هنالك , وانقلبوا صاغرين) . .
إنه الباطل ينتفش , ويسحر العيون , ويسترهب القلوب , ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب , وأنه جارف , وأنه مُحيق ! وما هو إلا أن يواجه الحق الهادىء الواثق حتى ينفثىء كالفقاعة , وينكمش كالقنفذ , وينطفئ كشعلة الهشيم ! وإذا الحق راجح الوزن , ثابت القواعد , عميق الجذور . . والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال , وهو يصور الحق واقعاً ذا ثقل: (فوقع الحق) . . وثبت , واستقر . . وذهب ما عداه فلم يعد له وجود: (وبطل ما كانوا يعملون) . . وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون:
(فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) . .
ولكن المفاجأة لم تختم بعد . والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى . . مفاجأة كبرى . .
وألقى السحرة ساجدين . قالوا:آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون . .
إنها صولة الحق في الضمائر . ونور الحق في المشاعر , ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين . . إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم , ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه . وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر , أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر . والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له , لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة , ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور . . ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق , الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين . .(3/187)
ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر ; ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان ; ولا كيف تلمسها حرارة اليقين . فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب - وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء - . . ومن ثم فوجىء فرعون بهذا الإيمان المفاجىء الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس ; ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر . . ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته:مفاجأة استسلام السحرة - وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين . رب موسى وهارون . بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين ! . . والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت . . وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت:
(قال فرعون:آمنتم به قبل أن آذن لكم ! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها . فسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ثم لأصلبنكم أجمعين) . .
هكذا . . (آمنتم به قبل أن آذن لكم !) . . كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق - وهم أنفسهم لاسلطان لهم عليها - أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم - وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئاً - أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم - وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها . أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق . أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار . أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين !
ولكنه الطاغوت جاهل غبي مطموس ; وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور !
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز:
(إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها) . .
وفي نص آخر: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) !
والمسألة واضحة المعالم . . إنها دعوة موسى إلى (رب العالمين) . . هي التي تزعج وتخيف . . إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين . وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته . وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون , ويعبدون الناس لما يشرعون ! . . إنهما منهجان لا يجتمعان . . . أو هما دينان لا يجتمعان . . أو هما ربان لا يجتمعان . . وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون . . ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين . فأولى أن يفزعوا الأن وقد ألقي السحرة ساجدين . قالوا:آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون ! والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون , وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين !
وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع:
(فسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ثم لأصلبنكم أجمعين) . .
إنه التعذيب والتشوية والتنكيل . . وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق , الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان . . وعدة الباطل في وجه الحق الصريح . .
ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان ; تستعلى على قوة الأرض , وتستهين ببأس الطغاة ; وتنتصر فيها العقيدة على الحياة , وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم . إنها لا تقف لتسأل:ماذا ستأخذ وماذا ستدع ? ماذا ستقبض وماذا ستدفع ? ماذا ستخسر وماذا ستكسب ? وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات ? . . لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك , فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق . .(قالوا:إنا إلى ربنا منقلبون . وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً , وتوفنا مسلمين) . .
إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع . كما أنه لا يخضع أو يخنع . الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها , ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره:
(قالوا:إنا إلى ربنا منقلبون) . .
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت . . وأنها معركة العقيدة في الصميم . . لا يداهن ولا يناور . . ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة , لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة:
(وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) . .
والذي يعرف أين يتجه في المعركة , وإلى من يتجه ; لا يطلب من خصمه السلامة والعافية , إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام:
(ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين) . .
ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان , وأمام الوعي , وأمام الاطمئنان . . يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب ! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام . فإذا هي مستعصية عليه , لأنها من أمر الله , لا يملك أمرها إلا الله . . وماذا يملك الطغيان إذارغبت القلوب في جوار الله ? وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله ? وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان !
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية . هذا الذي كان بين فرعون وملئه , والمؤمنين من السحرة . . السابقين . .(3/188)
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار "الإنسان" على "الشيطان" !
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية . فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة . والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح . ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية ! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز , وتمنى بالقرب من السلطان . . هي ذاتها التي تستعلي على فرعون ; وتستهين بالتهديد والوعيد , وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب . وما تغير في حياتها شيء , ولا تغير من حولها شيء - في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى . وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت , وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد . . وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة , فيلتقط القلب إيقاعات القدرة , ويتسمع الضمير أصداء الهداية , وتتلقى البصيرة إشراقات النور . . وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي ; ولكنها هي تغير الواقع المادي ; وترفع "الإنسان" في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال !
ويذهب التهديد . . ويتلاشى الوعيد . . ويمضي الإيمان في طريقه . لا يتلفت , ولا يتردد , ولا يحيد ! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد . . إن روعة الموقف تبلغ ذروتها ; وتنتهي إلى غايتها . وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض ; مع الهدف النفسي للقصة , على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني , في تناسق لا يبلغه إلا القرآن .
ولكننا نحن في هذه الظلال ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ . . .
نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين , رب موسى وهارون , يمثل خطراً على نظام ملكهم وحكمهم ; لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان , مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان . . وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل . . ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها . . إنه لا يجتمع في قلب واحد , ولا في بلد واحد , ولا في نظام حكم واحد , أن يكون الله رب العالمين , وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد , يباشره بتشريع من عنده وقوانين . . فهذا دين وذلك دين . .
ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة - بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم , وجعل لهم فرقاناً في تصورهم - أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة ; وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين .فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه ; ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون . . أو بتعبير آخر مرادف:من ربوبية فرعون , ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله . . وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده . فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله . . إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين ; وأن عدوهم على دين غير دينهم ; لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين . . فهو إذن من الكافرين . . وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين - على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل - إلا بمثل هذا اليقين بشقيه:أنهم هم المؤمنون , وأن أعداءهم هم الكافرون , وأنهم إنما يحاربونهم على الدين , ولا ينقمون منهم إلا الدين .
ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار "الإنسان" على الشيطان . وهو مشهد بالغ الروعة . . نعترف أننا نعجز عن القول فيه . فندعه كما صوره النص القرآني الكريم !
الدرس الخامس:127 فرعون يهدد المؤمنين بالعذاب
ثم نعود إلى سياق القصة القرآني . . حيث يرفع الستار عن مشهد رابع جديد . . إنه مشهد التآمر والتناجي بالإثم والتحريض . بعد الهزيمة والخذلان في معركة الإيمان والطغيان . مشهد الملأ من قوم فرعون يكبر عليهم أن يذهب موسى ناجياً والذين آمنوا معه - وما آمن له إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم . كما جاء في موضع آخر من القرآن - فإذا الملأ يتناجون بالشر والإثم , وهم يهيجون فرعون على موسى ومن معه ; ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم ; من ضياع الهيبة والسلطان ; باستشراء العقيدة الجديدة , في ربوبية الله للعالمين . فإذا هو هائج مائج , مهدد متوعد , مستعز بالقوة الغاشمة التي بين يديه , وبالسلطان المادي الذي يرتكن إليه !
(وقال الملأ من قوم فرعون:أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ? قال:سنقتل أبناءهم , ونستحيي نساءهم , وإنا فوقهم قاهرون) . .(3/189)
إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره ; أو أن له سلطاناً في عالم الأسباب الكونية . إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل ! بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه ; وأنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضى الأمور . وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه , وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره - وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي - كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له - فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك , كما هو ظاهر من قول الملأ له: (ويذرك وآلهتك) وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية . إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم , لا يعصون له أمراً , ولا ينقضون له شرعاً . . وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة . . فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه , وذلك هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود والنصارى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . . . الآية عندما سمعها منه عدي بن حاتم - وكان نصرانياً جاء ليسلم - فقال:يا رسول الله ماعبدوهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ; فاتبعوهم , فذلك عبادتهم إياهم " . . . [ أخرجه الترمذي ] .
أما قول فرعون لقومه: (ما علمت لكم من إله غيري) . . فيفسره قوله الذي حكاه القرآن عنه: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي , أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين . ولا يكاد يبين ? فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ? . . وظاهر أنه كان يوازن بين ما هو فيه من ملك ومن أسورة الذهب التي يحلى بها الملوك , وبين ما فيه موسى من تجرد من السلطان والزينة ! . وما قصد بقوله: (ما علمت لكم من إله غيري) إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء ; والذي يتبعون كلمته بلا معارض ! والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي ! وهي في الواقع ألوهية . فالإله هو الذي يشرع للناس وينفذ حكمه فيهم ! سواء قالها أم لم يقلها ! وعلى ضوء هذا البيان نملك أن نفهم مدلول قول ملأ فرعون:
(أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض , ويذرك وآلهتك ?) . .
فالإفساد في الأرض - من وجهة نظرهم - هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده ; حيث يترتب عليها تلقائياً بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله . إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره - أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه - وإذن فهو - بزعمهم - الإفساد في الأرض , بقلب نظام الحكم , وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر , وإنشاء وضع آخر مخالف تماماً لهذه الأوضاع , الربوبية فيه لله لا للبشر . ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه . .
ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة . . بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة ! وهي بنوة ليست حسية ! فلقد كان الناس يعرفون جيداً أن الفرعون مولود من أب وأم بشريين . إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته . فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين . وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون , فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف ; الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح . . وذلك كما يقول الله سبحانه:(فاستخف قومه فأطاعوه . . إنهم كانوا قوماً فاسقين) فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ . . وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه , لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله . . فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت , ولا يمكن أن يطيع له امراً , وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله . . ومن هنا كان يجيء التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى - عليه السلام - إلى (رب العالمين) وإيمان السحرة بهذا الدين , وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين . . ومن هنا يجيء التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده . . أو من شهادة أن لا إله إلا الله . . حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام . لا بمدلولها الباهت الهزيل الذي صار لها في هذه الأيام !
ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون , وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع:
(قال:سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) :
وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل - في إبان مولد موسى - مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه كما يقول الله تعالى في سورة القصص: (إن فرعون علا في الأرض , وجعل أهلها شيعاً , يستضعف طائفة منهم , يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) . .
إنه الطغيان في كل مكان وفي كل زمان . لا فرق بين وسائله اليوم ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام . . !
-----------------(3/190)
وقال تعالى :{ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)[الشعراء/38، 51] }
قال الألوسي (1):
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي آخر أمرهما إلى أن تأتيك السحرة من أرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة وهم الذين يؤخرون العمل لا يأتونه ويقولون : لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة .
وقرأ أهل المدينة . والكسائي . وخلف { أَرْجِهْ } بكسر الهاء ، وعاصم . وحمزة { أَرْجِهْ } بغير همز وسكون الهاء ، والباقون «أرجئه» بالهمز وضم العاء ، وقال أبو علي : لا بد من ضم الهاء مع الهمزة ولا يجوز غيره ، والأحسن أن لا يبلغ بالضم إلى الواو ، ومن قرأ بكسر الهاء فأرجه عنده من أرجيته بالياء دون الهمزة والهمز على ما نقل الطيبي أفصح ، وقد توصل الهاء المذكورة بياء فيقال : أرجهي كما يقال مررت بهي ، وذكر الزجاج أن بعض الحذاق بالنحو لا يجوز إسكان نحو هاء { أَرْجِهْ } أعني هاء الإضمار ، وزعم بعض النحويين جواز ذلك واستشهد عليه ببيت مجهول ذكره الطبرسي : وقال هو شعر لا يعرف قائله والشاعر يجوز أن يخطىء .
وقال بعض الأجلة : الإسكان ضعيف لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وقيل : المعنى أحبسه ، ولعله قالوا ذلك لفرط الدهشة أو تجلداً ومداهنة لفرعون وإلا فيكف يمكنه أن يحبسه مع ما شاهد منه من الآيات { وابعث فِى المدائن حاشرين } شرطاء يحشرون السحرة ويجمعونهم عندك { يَأْتُوكَ } مجزوم في جواب الأمر أي إن تبعثهم يأتوك { بِكُلّ سَحَّارٍ } كثير العمل بالسحر { عَلِيمٌ } فائق في علمه ، ولكون المهم هنا هو العمل أتوا بما يدل على التفضيل فيه ، وقرأ الأعمش . وعاصم في رواية { بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } { فَجُمِعَ السحرة } أي المعهودون على أن التعريف كما في المفتاح عهدي ، وقال الفاضل المحقق : إن المعهود قد يكون عاماً مستغرقاً كما هنا ولا منافاة بينهما كما يتوهم وفيه بحث فتأمل . { لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة على أن الميقات من صفات الزمان ، وفي الكشاف هو ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام
{ وَقِيلَ لِلنَّاسِ } استبطاء لهم في الاجتماع وحثا على التبادر إليه { هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } في ذلك الميقات فالاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال كما في قول تأبط شرا :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق
فإنه يريد ابعث أحدهما إلينا سريعاً ولا تبطىء به . { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة } أي في دينهم { إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } لا موسى عليه السلام ، وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى عليه السلام في دينه لكن ساقوا كلامهم مساق الكناية حملاً للسحرة على الاهتمام والجد في المغالبة ، وجوز أن يكون مرادهم اتباع السحرة أي الثبات على ما كانوا عليه من الدين ويدعي أنهم كانوا على ما يريدفرعون من الدين .
والظاهر أن فرعون غير داخل في القائلين ، وعلى تقدير دخوله لم يجوز بعضهم إرادة المعنى الحقيقي لهذا الكلام لامتناع اتباع مدعى الإلهية السحرة ، وجوزه أخرون لاحتمال أن يكون قال ذلك لما استولى عليه من الدهشة من أمر موسى عليه السلام كما طلب الأمر ممن حوله لذلك ، ولعل إتيانهم بأن للإلهاب وإلا فالأوفق بمقامهم أن يقولوا إذا كانوا هم الغالبين .
{ فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ * إِنَّ لَنَا لاجْرًا } أي لأجراً عظيماً { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } لا موسى عليه السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على أسلوب ما وقع غي كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 14 / ص 199)(3/191)
{ قَالَ } فرعون لهم { نِعْمَ } لكم ذلك { وَإِنَّكُمْ } مع ذلك { إِذاً لَّمِنَ المقربين } عندي ، قيل : قال لهم : تكونون أول من يدخل على وآخر من يخرج عني . و { أَذِنَ } عند جمع على ما تقتضيه في المشهور من الجواب والجزاء ، ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين أنها هنا مركبة من { إِذَا } التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع . وقد ذهب إلى ذلك في نظير لآية الكافيجي . والقاضي تقي الدين بن رزين . وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعني لها . والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم العالبين لمن المقربين . وقرىء { نِعْمَ } بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في { نِعْمَ } .
{ قَالَ لَهُمْ موسى } أي بعد ما قال له السحرة : { إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى } [ طه : 65 ] { أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } لم يرد عليه السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فإن السحر حرام وقد يكون كفراً فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الإذن بتقديم ما علم بالهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال : { مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } ليتوصل بذلك إلى إبطاله .
وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فإنه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الإذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع ، وما اشتهر من قولهم : الرضا بالكفر كفر ليس على إطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين .
{ فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ } أي وقد قالوا عند الالقاء { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ } أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم . أرض عزاز أي صلبة { إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } لا موسى عليه السلام ، والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر . وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم ، وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ } تعظيماً له ، وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية ، وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من أيمانهم لا يرضون بالقسم بالله تعالى وصفاته عز وجل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه حفينئذ يستوثق منه ، ولهم أشياء يعظونها ويحلفون بها غير ذلك ، ولا يبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذباً أقل إثماً من الحلف بها صدقاً وهذا مما عمت به البلوى ولا حوال ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم ، وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم : والأحرى أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول : إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك .
{ فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } أي تبتلع بسرعة ، وأصل التلقف الأخذ بسرعة . وقرأ أكثر السبعة { تَلْقَفْ } بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين . والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار { مَا يَأْفِكُونَ } أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى . فما موصولة حذف عائدها للفاصلة ، وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف أفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة .
{ فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } أي خروا ساجدين إثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه السلام لتصديقه ، وعبر عن الخرور بالالقاء لأنه ذكر مع الالقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضاً مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً فهناك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة ، وبحث في ذلك بعضهم بأن الله تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الالقاء فلا حاجة إلى التجوز .
وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لا يسمى إلقاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الإلقاء لو صرح به هو الله عز وجل بما خولهم من التوفيق ، وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال : ولك أن لا تقدر فاعلاً لأن { ألقى } بمعنى خروا وسقطوا . وتعقب هذا أبو حيان بأنه ليس بشيء إذ لا يمكن أن يبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لا يقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب ، ووجه ذلك صاحب الكشف بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تقدير فاعل آخر غير من أسند إليه المجهول لأن فاعل الالقاء ألا ترى إنك لو فسرت سقط بألقى نفسه لصح . والطيبي بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لا تعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي .(3/192)
وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب . وبالجملة لا بد من تأويل كلام صاحب الكشاف فإنه أجل من أن يريد ظاهره الذي يريد عليه ما أورده أبو حيان ، وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئاً لا حقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه السلام ومن أتى به فرعون أعلم أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم منه ولم يأتوا إلا بتمويه وتزويق كذا قيل . والتحقيق أن ذلك هو الغالب في السحر لا أن كل سحر كذلك .
وقول القزويني : إن دعوى أن في السحر تبديل صورة حقيقة من خرافات العوام وأسمار النسوة فإن ذلك مما لا يمكن في سحر أبداً لا يخلو عن مجازفة ، واستدل بذلك أيضاً على أن التبحر في كل علم نافع فإن أولئك السحرة لتبحرهم في علم السحر علموا حقية ما أتى به موسى عليه السلام وأنه معجزة فانتفعوا بزيادة علمهم لأنه أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان لفرقهم بين المعجزة والسحر .
وتعقب بأن هذا إنما يثبت حكما جزئياً كما لا يخفى ، وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقية ذلك بعد أن أخذ موسى عليه السلام العصا فعادت كما كانت وذلك أنهم لم يروا لحبالهم وعصيهم بعد أثراً ، وقالوا : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا؛ ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية وتفرقت أو عدمت لانطاع تعلق الإرادة بوجودها . وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السادس عشر والباب الأربعين من الفتوحات : إن العصا لم تلقف إلا صور الحيات من الحبال والعصى وأما هي فقد بقيت ولم تعدم كما توهمه بعض المفسرين ويدل عليه قوله تعالى : { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } [ طه : 69 ] وهو لم يصنعوا إلا الصور ولولا ذلك لوقعت الشبهة للسحرة في عصا موسى عليه السلام فلم يؤمنوا انتهى ملخصاً فتأمل .
بدل اشتمال من { ألقى } [ الشعراء : 46 ] لما بين الإلقاء المذكور وهذا القول من الملابسة أو حال بإضمار قد أو بدونه ، ويحتمل أن يكون استئنافاً بيانياً كأنه قيل : فما قالوا؟ فقيل : { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين } .
{ رَبّ موسى وهارون } عطف بيان لرب العالمين أو بدل منه جيء به لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك وللاشعار بأن الموجب لإيمانهم به تعالى ما أجراه سبحانه على أيديهما من المعجزة القاهرة . ومعنى كونه تعالى ربهما أنه جل وعلا خالقهما ومالك أمرهما .
وجوز أن يكون إضافة الرب إليهما باعتبار وصفهما له سبحانه بما تقدم من قول موسى عليه السلام : { رَبّ * السموات والارض * وَمَا بَيْنَهُمَا } [ الشعراء : 24 ] وقوله : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين } [ الشعراء : 26 ] وقوله : { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا } [ الشعراء : 28 ] فكأنهم قالوا : ءامنا برب العالمين الذي وصفه موسى هارون ، ولا يخفى ما فيه وإن سلم سماعهم للوصف المذكور بعد أن حشروا من المدائن .
{ قَالَ } فرعون للسحرة { ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } أي بغير أن آذن لكم بالإيمان له كما في قوله تعالى : { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } [ الكهف : 109 ] إلا أن الاذن منه ممكن أو متوقع { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر } فتواطأتم على ما فعلتم فيكون كقوله : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ } [ الأعراف : 123 ] الخ أو علمكم شيئاً دون شيء فلذلك غلبكم كما قيل ، ولا يرد عليه أنه لا يتوافق الكلامان حينئذ إذ يجوز أن يكون فرعون قال كلا منهما وإن لم يذكرا معا هنا ، وأراد اللعين بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق .
وقرأ الكسائي . وحمزة . وأبو بكر . وروح «أآمنتم» بهمزتين { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وبال ما فعلتم . واللام قيل للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف أي فلانتم سوف تعلمون . وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة . وجمعها مع سوف للدلالة على أن العلم كائن لا محالة وأن تأخر لداع ، وقيل : هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين النون فيما عدا صورة الفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس وصورة الفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 158 ] وقال أبو علي : هي اللام التي في لاقو من ونابت سوف عن احدى نوني التأكيد فكأنه قيل : فلتعلمن ، وقوله تعالى حكاية عنه : { لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } بيان لمفعول { تَعْلَمُونَ } المحذوف الذي أشرنا إليه وتفصيل لما أجمل ولذا فصل وعطف بالفاء في محل آخر ، وقد مر معنى { مّنْ خلاف } .(3/193)
{ قَالُواْ } أي السحرة { لاَ ضَيْرَ } أي لا ضرر علينا فيما ذكرت من قطع الأيدي وما معه ، والضمير مصدر ضار وجاء مصدره أيضاً ضوراً ، وهو اسم لا وخبرها محذوف وحذفه في مثل ذلك كثير ، وقوله تعالى : { إِنَّا إلى رَبّنَا } أي الذي آمنا به { مُنقَلِبُونَ } تعليل لنفي الضمير أي لا ضير في ذلك بل لنا فيه نفع عظيم لما يحصل لنا من الصبر عليه لوجه الله تعالى من الثواب العظيم أو لا ضير علينا فيما تفعل لأنه لا بد من الموت بسبب من الأسباب والانقلاب إلى الله عز وجل :
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
وحاصله نفى المبالاة بالقتل معللا بأنه لا بد من الموت ، ونظير ذلك قول علي كرم الله تعالى وجهه . لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت على ، أو لا ضير علينا في ذلك لأن مصيرنا ومصيرك إلى رب يحكم بيننا فينتقم لنا منك ، وفي معنى ذلك قوله :
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ولم يرتضه بعضهم لأن فيه تفكيك الضمائر لكونها للسحرة فيما قبل وبعد ومنع بدخولهم في ضمير الجمع فتأمل ، وقوله تعالى : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا } أي لأن كنا { أَوَّلُ المؤمنين } تعليل ثان لنفي الضير ولم يعطف إيذانا بأنه مما يستقل بالعلية ، وقيل إن عدم العطف لتعلق التعليل بالمعلل الأول مع تعليله وجوز أن يكون تعليلاً للعلة والأول أظهر أي لا ضير علينا في ذلك إنا نظمع أن يغفر بنا بنا خطايانا لكوننا أول المؤمنين ، والطمع أما على بابه كما استظهره أبو يحان لعدم الوجوب على الله عز وجل ، وإما بمعنى التيقن كما قيل به في قول إبراهيم عليه السلام : { والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] وقولهم : { أَوَّلُ المؤمنين } يحتمل أنهم أرادوا به أول المؤمنين من اتباع فرعون أو أول المؤمنين من أهل المشهد أو أول المؤمنين من أهل زمانهم ، ولعل الأخبار بكونهم كذلك لعدم علمهم بمؤمن سبقهم بالإيمان فهو إخبار مبني على غالب الظن ولا محذور فيه كذا قيل ، وقيل : أرادوا أول من أظهر الإيمان بالله تعالى وبرسوله عند فرعون كفاحاً بعد الدعوة وظهور الآية فلا يرد مؤمن من آل فرعون . وآسية ، وكذا لا يرد بن إسرائيل لأنهم كما في البحر كانوا مؤمنين قبلهم إما لعدم علم السحرة بذلك أو لأن كلا من المذكورين لم يظهر الإيمان بالله تعالى ورسوله عند فرعون كفاحاً بعد الدعوة وظهور الآية فتأمل .
وقرأ أبان بن تغلب . وأبو معاذ { أَن كُنَّا } بكسر همزة { ءانٍ } وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع ، وجعل صاحب اللوامح الجواب { إِنَّا نَطْمَعُ } المتقدم وقال : جاز حذف الفاء منه لتقدمه وهو مبني على مذهب الكوفيين . وأبي زيد . والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط ، وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين ، وقيل : كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تمليحاً وتضرعاً لله تعالى ، وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع { نَطْمَعُ } على ما هو الظاهر فيه ، وجوز أبو حيان أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي ، وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث : «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل» ، وقال الشاعر :
ونحن أباة الضيم من آل مالك ... وإن مالك كانت كرام المعادن
وعلى هذا الوجه يكونون جازمين بأنهم أول المؤمنين أتم جزم . واختلف في أن فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أولاً والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] وبعض هؤلاء زعم أنهم لما سجدوا رأوا الجنات والنيران والملكوت السموات والأرض وقبضت أرواحهم وهم ساجدون ، وظواهر الآيات تكذيب أمر الموت في السجود ، وأما رؤية أمر ما ذكر فلا جزم عندي بصدقه والله تعالى أعلم .
=============
وقال السعدي(1) :
{ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } قد واعدهم إياه موسى، وهو يوم الزينة، الذي يتفرغون فيه من أشغالهم.
{ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ } أي: نودي بعموم الناس بالاجتماع في ذلك اليوم الموعود. { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } أي: قالوا للناس: اجتمعوا لتنظروا غلبة السحرة لموسى، وأنهم ماهرون في صناعتهم، فنتبعهم، ونعظمهم، ونعرف فضيلة علم السحر، فلو وفقوا للحق، لقالوا: لعلنا نتبع المحق منهم، ولنعرف الصواب، فلذلك ما أفاد فيهم ذلك، إلا قيام الحجة عليهم.
{ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ } ووصلوا لفرعون قالوا له: { أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } لموسى؟
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 590)(3/194)
{ قَالَ نَعَمْ } لكم أجر وثواب { وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } عندي، وعدهم الأجر والقربة منه، ليزداد نشاطهم، ويأتوا بكل مقدورهم في معارضة ما جاء به موسى.
فلما اجتمعوا للموعد، هم وموسى، وأهل مصر، وعظهم موسى وذكرهم وقال: { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى } فتنازعوا وتخاصموا ثم شجعهم فرعون، وشجع بعضهم بعضا.
فـ { قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } أي: ألقوا كل ما في خواطركم إلقاؤه، ولم يقيده بشيء دون شيء، لجزمه ببطلان ما جاءوا به من معارضة الحق.
{ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } فإذا هي حيات تسعى، وسحروا بذلك أعين الناس، { وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } فاستعانوا بعزة عبد ضعيف، عاجز من كل وجه، إلا أنه قد تجبر، وحصل له صورة ملك وجنود، فغرتهم تلك الأبهة، ولم تنفذ بصائرهم إلى حقيقة الأمر، أو أن هذا قسم منهم بعزة فرعون والمقسم عليه، أنهم غالبون.
{ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } تبتلع وتأخذ { مَا يَأْفِكُونَ } فالتفت جميع ما ألقوا من الحبال والعصي، لأنها إفك، وكذب، وزور وذلك كله باطل لا يقوم للحق، ولا يقاومه.
فلما رأى السحرة هذه الآية العظيمة، تيقنوا - لعلمهم - أن هذا ليس بسحر، وإنما هو آية من آيات الله، ومعجزة تنبئ بصدق موسى، وصحة ما جاء به.
{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } لربهم.
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } وانقمع الباطل، في ذلك المجمع، وأقر رؤساؤه، ببطلانه، ووضح الحق، وظهر حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم، ولكن أبى فرعون، إلا عتوا وضلالا وتماديا في غيه وعنادا، فقال للسحرة: { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ }.
يتعجب ويعجب قومه من جراءتهم عليه، وإقدامهم على الإيمان من غير إذنه ومؤامرته.
{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } هذا، وهو الذي جمع السحرة، وملأه، الذين أشاروا عليه بجمعهم من مدائنهم، وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى، ولا رأوه قبل ذلك، وأنهم جاءوا من السحر، بما يحير الناظرين ويهيلهم، ومع ذلك، فراج عليهم هذا القول، الذي هم بأنفسهم، وقفوا على بطلانه، فلا يستنكر على أهل هذه العقول، أن لا يؤمنوا بالحق الواضح، والآيات الباهرة، لأنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان، إنه على خلاف حقيقته، صدقوه.
ثم توعد السحرة فقال: { لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي: اليد اليمنى، والرجل اليسرى، كما يفعل بالمفسد في الأرض، [ ص 592 ] { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } لتختزوا، وتذلوا. فقال السحرة - حين وجدوا حلاوة الإيمان وذاقوا لذته -: { لا ضَيْرَ } أي: لا نبالي بما توعدتنا به { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا } من الكفر والسحر، وغيرهما { أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } بموسى، من هؤلاء الجنود، فثبتهم الله وصبرهم.
فيحتمل أن فرعون فعل بهم ما توعدهم به، لسلطانه، واقتداره إذ ذاك ويحتمل، أن الله منعه منهم، ثم لم يزل فرعون وقومه، مستمرين على كفرهم، يأتيهم موسى بالآيات البينات، وكلما جاءتهم آية، وبلغت منهم كل مبلغ، وعدوا موسى، وعاهدوه لئن كشف الله عنهم، ليؤمنن به، وليرسلن معه بني إسرائيل، فيكشفه الله، ثم ينكثون، فلما يئس موسى من إيمانهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم من أسرهم، ويمكن لهم في الأرض، أوحى الله إلى موسى: { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي }.
أي: اخرج ببني إسرائيل أول الليل، ليتمادوا ويتمهلوا في ذهابهم. { إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } أي: سيتبعكم فرعون وجنوده.
ووقع كما أخبر، فإنهم لما أصبحوا، وإذا بنو إسرائيل قد سروا كلهم مع موسى.
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } يجمعون الناس، ليوقع ببني إسرائيل، ويقول مشجعا لقومه: { إِنَّ هَؤُلاءِ } أي: بني إسرائيل { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } ونريد أن ننفذ غيظنا في هؤلاء العبيد، الذين أبِقُوا منا.
{ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } أي: الحذر على الجميع منهم، وهم أعداء للجميع، والمصلحة مشتركة، فخرج فرعون وجنوده، في جيش عظيم، ونفير عام، لم يتخلف منهم سوى أهل الأعذار، الذين منعهم العجز.
قال الله تعالى: { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي: بساتين مصر وجناتها الفائقة، وعيونها المتدفقة، وزروع قد ملأت أراضيهم، وعمرت بها حاضرتهم وبواديهم.
{ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعجب الناظرين، ويلهي المتأملين، تمتعوا به دهرا طويلا وقضوا بلذته وشهواته، عمرا مديدا، على الكفر والفساد، والتكبر على العباد والتيه العظيم.(3/195)
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا } أي: هذه البساتين والعيون، والزروع، والمقام الكريم، { بَنِي إِسْرَائِيلَ } الذين جعلوهم من قبل عبيدهم، وسخروا في أعمالهم الشاقة، فسبحان من يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء بطاعته، ويذل من يشاء بمعصيته.
=============
وفي التفسير الوسيط (1):
أى : قال فرعون للملأ المحيطين به - بعد أن زلزلته معجزة موسى - { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } .
أى : لساحر بارع فى فن السحر ، فهو مع اعترافه بضخامة ما أتى به موسى ، يسميه سحرا .
ثم يضيف إلى ذلك قوله لهم : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ } هذا الساحر { مِّنْ أَرْضِكُمْ } التى نشأتم عليها { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أى : فبأى شىء تشيرون على وأنتم حاشتيى ومحل ثقتى؟
وفى هذه الجملى الكريمة تصوير بديع لنفس هذا الطاغية وأمثاله . . .
إنه منذ قليل كان يرغى ويزبد . وإذا به بعد أن فاجأه موسى بمعجزته ، يصاب بالذعر ويقول لمن زعم أنه ربهم الأعلى { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } .
وهكذا الطغاة عندما يضيق الخناق حول رقابهم يتذللون ويتباكون . . فإذا ما انفك الخناق من حول رقابهم ، عادوا إلى طغيانهم وفجورهم .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : " ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين ، وبقى لا يدرى أى طرفيه أطول ، حتى زل عنه ذكر دعوى الألوهية ، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية . وارتعدت فرائصه ، وانتفخ سَحَره - أى رئته - خوفا وفرقا ، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم : أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحس به من جهة موسى - عليه السلام - " .
ورد الملأ من قوم فرعون عليه بقولهم : { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أى : أخر أمرهما ، يقال : أرجأت هذا الأمر وأرجيته . إذا أخرته . ومنه أخذ لفظ المرجئة لتلك الفرقة التى تؤخر العمل وتقول : لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة .
{ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ } أى : وابعث فى مدن مملكتك رجالا من شرطتك يحشرون السحرة ، أى : يجمعونهم عندك لتختار منهم من تشاء .
وقوله : { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } مجزوم فى جواب الأمر . أى : إن تبعثهم يأتوك بكل سحار فائق فى سحره ، عليم بفنونه ومداخله .
ولبى فرعون طلب مستشاريه ، فأرسل فى المدائن من يجمع له السحرة { فَجُمِعَ السحرة } أى المعرفون ببراعتهم فيه { لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أى : جمعوا وطلب منهم الاستعداد لمنازلة موسى - عليه السلام - فى وقت معين هو " يوم الزينة " أى : يوم العيد . كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } ثم حكى - سبحانه - ما فعله أعوان فرعون من حض الناس على حضور تلك المباراة فقال : { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } أى : فى ذلك اليوم المعلوم الذى ينازل فيه السحرة موسى فالمقصود بالاستفهام الحض على الحضور والحث على عدم التخلف .
والترجى فى قولهم { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } المقصود به - أيضا - حض السحرة على بذل أقصى جهدهم ليتغلبوا على موسى - عليه السلام - ، فكأنهم يقولون لهم : ابذلوا قصارى جهدكم فى حسن إعداد سحركم فنحن نرجو أن تكون الغلبة لكم ، فنكون معكم لا مع موسى - عليه السلام - .
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله السحرة لفرعون عند التقائهم به فيقول : { فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ } بعد أن التقى بهم ليشجعهم على الفوز ، { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً } مجزيا { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } لموسى - عليه السلام - .
وهنا يرد عليهم فرعون ، فيعدهم . ويمنيهم { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } . أى : نعم لكم الأجر العظيم الذى يرضيكم ، وفضلا عن ذلك فستكونون عندى من الرجال المقربين إلى نفسى ، والذين سأخصهم برعايتى ومشورتى .
وهكذا يعد فرعون السحرة ويمنيهم { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله موسى للسحرة ، وما قال فرعون لهم بعد أن أعلنوا إيمانهم ، فقال - تعالى - : { قَالَ لَهُمْ . . . } .
{ قَالَ لَهُمْ موسى } أى للسحرة بعد أن أعدوا عدتهم لمنازلته ، ومن خلفهم فرعون وقومه يشجعونهم على الفوز قال لهم : { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } من السحر ، فسوف ترون عاقبة منازلتكم له .
وأسلوب الآية الكريمة يشعر بعدم مبالاة موسى - عليه السلام - بهم أو بتلك الحشود التى من ورائهم ، فهو مطمئن إلى نصر الله - سبحانه - له .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3158)(3/196)
{ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ } أى : عند إلقائهم لتلك الحبال والعصى { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ } أى : بقوته وجبروته وسطوته { إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } لا موسى - عليه السلام - ولم تفصل السورة هنا ما فصلته سورة الأعراف من أنهم حين ألقوا حبالهم وعصيهم { سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أو ما وضحته سورة طه من أنهم حين ألقوا حبالهم : { أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } ولعل السر فى عدم التفصيل هنا ، أن السورة الكريمة تسوق الأحداث متتابعة تتابعا سريعا ، تربط معها قلب القارىء وعقله بما ستسفر عنه هذه الأحداث من ظهر الحق ، ومن دحور الباطل .
ولذا جاء التعقيب السريع بما فعله موسى - عليه السلام - فقال - تعالى - : { فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أى : تبتلع بسرعة ، وتأخذ بقسوة { مَا يَأْفِكُونَ } أى : ما فعلوه وما يفعلونه من السحر ، الذيى يقلبون به حقائق الأشياء عن طريق التمويه والتخييل . ورأى السحرة بأعينهم ومعهم الحشود من خلفهم ، رأوا ما أجراه الله - تعالى - على يد موسى - عليه السلام - رأوا كل ذلك فذهلوا وبهروا وأيقنوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو شىء آخر فوق طاقة البشر ، ولو كان سحرا لعرفوه فهم رجاله ، وأيضا لو كان سحرا لبقيت حبالهم وعصيهم على الأرض ، ولكنها ابتلعتها عصا موسى - عليه السلام - عندئذ لم يتمالكوا أنفسهم ، بل فعلوا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله - سبحانه - : { فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } أى : فخروا ساجدين على وجوههم بدون تردد ، وهم يقولن : { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ } .
وهكذا بعد أن شاهد السحرة الحق يتلألأ أمام أبصارهم . لم يملكوا إلا أن ينطقوا به على رءوس الأشهاد ، وتحولوا من قوم يلتمسون الأجر من فرعون قائلين : { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } إلى قوم آخرين هجروا الدنيا . ومغانمها ، واستهانوا بالتهديد والوعيد ، ونطقوا بكلمة الحق فى وجه من كانوا يقسمون بعزته إنا لنحن الغالبون .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول فى حديثه الذى رواه الشيخان : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه " .
ثم يحكى - سبحانه - بعد ذلك موقف فرعون وقد رأى ما حطمه وزلزله فقال - تعالى - : { قَالَ } أى فرعون للسحرة { آمَنتُمْ لَهُ } أى : لموسى { قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } بالإيمان به .
. .
{ إِنَّهُ } أى : موسى - عليه السلام - { لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } أى : فأنتم متواطئون معه على هذه اللعبة { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما أنزله بكم من عذاب .
{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } أى : لأقطعن من كل واحد منكم يده اليمنى مع رجله اليسرى . { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أى : فى جذوع النخل - كما جاء فى آية أخرى - والمتأمل فى قول فرعون - كما حكاه القرآن عنه يرى فيه الطغيان والكفر ، فهو يستنكر على السحرة إيمانهم بدون إذن .
ويرى فيه الكذب الباطل الذى قصد من ورائه تشكيك قومه فى صدق موسى وفى نبوته فهو يقول لهم : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } .
ويرى فيه بعد هذا التلبيس على قومه ، التهديد الغليظ - شأن الطغاة فى كل زمان ومكان - فهو يقول للسحرة الذين صاروا مؤمنين : { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أى : بدون استثناء لواحد منهم .
ولم يتلفت السحرة إلى هذا التهديد والوعيد بعد أن استقر الإيمان فى قلوبهم ، بل قالوا - كما حكى القرآن عنهم - : { لاَ ضَيْرَ } مصدر ضاره الأمر يضوره ويضيره ضيرا ، أى : ضره وألحق به الأذى .
أى : قالوا - بكل ثبات وعدم مبالاة بوعيده - لا ضرر علينا من عقابك فسنتحمله صابرين فى سبيل الحق الذى آمنا به .
{ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } أى : راجعون إليه ، فيجازينا على صبرنا .
{ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ } التى وقعنا فيها قبل الإيمان ، كعبادة فرعون وكتعاطى السحر { أَن كُنَّآ } أى : لأن كنا { أَوَّلَ المؤمنين } بالحق بعد أن جاءنا .
=================(3/197)
=
وقال السيد رحمه الله (1):
هنا يسدل الستار على هذا المشهد ليرفع على مشهد السحرة يحشدون , والناس يجمعون للمباراة , وتبث فيهم الحماسة للسحرة ومن خلفهم من أصحاب السلطان ; وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل , أو بين الإيمان والطغيان .
(فجمع السحرة لميقات يوم معلوم . وقيل للناس:هل أنتم مجتمعون , لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ?) . . وتظهر من التعبير حركة الإهاجه والتحميس للجماهير: (هل أنتم مجتمعون , لعلنا نتبع السحرة) هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد , ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي ! والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الأمور , دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون , ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات , ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس . وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه السلام !
ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة ; يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين ; ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم !
فلما جاء السحرة قالوا لفرعون:أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ? قال:نعم , وإنكم لمن المقربين . .
وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرغون الطاغية ; تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره ; ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية , ولا شيء سوى الأجر والمصلحة . وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائما في كل مكان وفي كل زمان .
وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع . وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر . يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه . وهو بزعمه الملك والإله !
ثم إذا مشهد المباراة الكبرى وأحداثه الجسام:
(قال لهم موسى:ألقوا ما أنتم ملقون . فألقوا حبالهم وعصيهم , وقالوا:بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون:فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون , فألقي السحرة ساجدين . قالوا:آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون . قال:آمنتم له قبل أن آذن لكم ! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ولأصلبنكم أجمعين . قالوا:لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون . إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين) . .
ويبدأ المشهد هادئا عاديا . إلا أنه يشي منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه ; وقلة اكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن , المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة , ووراءهم فرعون وملؤه , وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة . . يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون:
(قال لهم موسى:ألقوا ما أنتم ملقون) . .
وفي التعبير ذاته ما يشي بالاستهانة: (ألقوا ما أنتم ملقون) . . بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام .
وحشد السحرة أقصى مهارتم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته:
(فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا:بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) . .
ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم , كما فصله في سورة الأعراف وطه , ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق , وينتهي مسارعا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل ; لأن هذا هو هدف السورة الأصيل .
(فألقى موسى عصاه , فإذا هي تلقف ما يأفكون) . .
ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة ; فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه ; وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه . وهم جمع كثير . محشود من كل مكان . وموسى وحده وليس معه إلا عصاه . ثم إذا هي تلقف ما يأفكون ; واللقف أسرع حركة للأكل . وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلا , ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقا . فلا تبقي لها أثرا . ولو كان ما جاء به موسي سحرا , لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها . ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا !
عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا . وهم أعرف الناس بأنه الحق:
(فألقي السحرة ساجدين . قالوا:آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون) . .
وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم , ولم يكونوا أصحاب عقيدةولا قضية . ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا . لقد كانت هزة رجتهم رجا , وخضتهم خضا ; ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم , فأزالت عنها ركام الضلال , وجعلتها صافية حيه خاشعة للحق , عامرة بالإيمان , في لحظات قصار . فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا , بغير إرادة منهم , تتحرك ألسنتهم , فتنطلق بكلمة الإيمان , في نصاعة وبيان: (آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون) .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 350)(3/198)
وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب , فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن . إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه " . وهكذا انقلب السحرة المأجورون , مؤمنين من خيار المؤمنين . على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه . لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج , ولايعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول .
ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجىء وقع الصاعقة على فرعون وملئه . فالجماهير حاشدة . وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة . عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي , ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره , ويريد أن يجعل الحكم لقومه ; وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه . . ثم ها هم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته . ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب ; ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله , ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله , ويخلعون عنهم عبادة فرعون , وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته , وانتظروا أجره , واستفتحوا بعزته !
وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون , إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش . أسطورة الألوهية , أو بنوته للآلهة - كما كان شائعا في بعض العصور - وهؤلاء هم السحرة . والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها . ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين , رب موسى وهارون , والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها . فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة ? والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما .
إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة , وذعر الملأ من حوله , إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة ; وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين .
عندئذ جن جنون فرعون , فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال . بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى !
قال:آمنتم له قبل أن آذن لكم ! إنه لكبيركم الذى علمكم السحر . فلسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ولأصلبنكم أجمعين . .
(آمنتم له قبل أن آذن لكم) . . لم يقل آمنتم به . إنما عده استسلاما له قبل إذنه . على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته , عارف بهدفه , مقدر لعاقبته . ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم . ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللماسات الوضيئة ? ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة - وهم من الكهنة - كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه , أو كان يختلف إليهم في المعابد . فارتكن فرعون إلىهذه الصلة البعيدة , وقلب الأمر فبدلا من أن يقول:إنه لتلميذكم قال:إنه لكبيركم . ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير !
ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين:
(فلسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين) . .
إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية , حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه , يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة , بلا تحرج من قلب أو ضمير . . وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول . . فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور !
إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان . القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان . القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير:
(قالوا:لا ضير . إنا إلى ربنا منقلبون . إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين) . .
لا ضير . لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف . لا ضير في التصليب والعذاب . لا ضير في الموت والاستشهاد . . لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون . . وليكن في هذه الأرض ما يكون:فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه (أن يغفر لنا ربنا خطايانا) جزاء (أن كنا أول المؤمنين) . . وأن كنا نحن السابقين . .
يا لله ! يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر . وإذ يفيض على الأرواح . وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس . وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين . وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر , فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد .
هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة . لا يزيد شيئا . ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق . وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب .
===============
ثبات صاحب ياسين(3/199)
قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) [يس/13] }
قال القرطبي(1) :
قوله تعالى : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون } ( خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أُمِر أن يضرب لقومه مثلاً بأصحاب القرية ) هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين فيما ذكر الماوردي . نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غُيِّر لما عُرِّب؛ ذكره السهيلي . ويقال فيها : أنتاكية بالتاء بدل الطاء . وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام؛ ذكره المهدوي ، وحكاه أبو جعفر النحاس عن كعب ووهب . فأرسل الله إليه ثلاثة : وهم صادق ، وصدوق ، وشلوم هو الثالث . هذا قول الطبري . وقال غيره : شمعون ويوحنا . وحكى النقاش : سمعان ويحيى ، ولم يذكرا صادقاً ولا صدوقاً . ويجوز أن يكون «مَثَلاً» و «أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ» مفعولين لاضرب ، أو «أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ» بدلاً من «مَثَلاً» أي اضرب لهم مثلَ أصحابِ القرية فحذف المضاف . أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار هؤلاء المشركين أن يحلّ بهم ما حلّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل . قيل : رسل من الله على الابتداء . وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله ، وهو قوله تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين } وأضاف الربّ ذلك إلى نفسه؛ لأن عيسى أرسلهما بأمر الربّ ، وكان ذلك حين رُفع عيسى إلى السماء . { فَكَذَّبُوهُمَا } قيل ضربوهما وسجنوهما . { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي فقوّينا وشدّدنا الرسالة «بِثالِثٍ» . وقرأ أبو بكر عن عاصم : «فَعَزَزْنَا بِثَالِثٍ» بالتخفيف وشدّد الباقون . قال الجوهري : وقوله تعالى : { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } يخفّف ويشدّد؛ أي قوّينا وشدّدنا . قال الأصمعي : أنشدني فيه أبو عمرو بن العلاء للمتلمِّس :
أُجُدٌّ إذا رَحَلَت تَعَزَّزَ لَحْمُها ... وإذا تُشَد بِنِسْعِها لا تَنْبِسُ
أي لا ترغو؛ فعلى هذا تكون القراءتان بمعنًى . وقيل : التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا؛ ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] . والتشديد بمعنى قوّينا وكثرنا . وفي القصة : أن عيسى أرسل إليهم رسولين ، فلقيا شيخاً يرعى غُنيمات له وهو حبيب النجار صاحب «ياس» فدعوه إلى الله وقالا : نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله . فطالبهما بالمعجزة فقالا : نحن نشفي المرضى وكان له ابن مجنون . وقيل : مريض على الفراش فمسحاه ، فقام بإذن الله صحيحاً؛ فآمن الرجل بالله . وقيل : هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، ففشا أمرهما ، وشَفَيَا كثيراً من المرضى ، فأرسل الملك إليهما وكان يعبد الأصنام يستخبرهما فقالا : نحن رسولا عيسى . فقال : وما آيتكما؟ قالا : نبرىء الأكمه والأبرص ونبرىء المريض بإذن الله ، وندعوك إلى عبادة الله وحده . فهمَّ الملكُ بضربهما . وقال وهب : حبسهما الملك وجلدهما مائة جلدة؛ فانتهى الخبر إلى عيسى فأرسل ثالثاً . قيل : شمعون الصفا رأس الحواريين لنصرهما؛ فعاشر حاشية الملك حتى تمكن منهم ، واستأنسوا به ، ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به ، وأظهر موافقته في دينه ، فرضي الملك طريقته؛ ثم قال يوماً للملك : بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى الله ، فلو سألت عنهما ما وراءهما .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4645)(3/200)
فقال : إن الغضب حال بيني وبين سؤالهما . قال : فلو أحضرتهما . فأمر بذلك؛ فقال لهما شمعون : ما برهانكما على ما تدّعيان؟ فقالا : نبرىء الأكمه والأبرص . فجيء بغلام ممسوح العينين؛ موضع عينيه كالجبهة ، فدعوا ربهما فانشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين طيناً فوضعاهما في خديه ، فصارتا مقلتين يبصر بهما؛ فعجب الملك وقال : إن هاهنا غلاماً مات منذ سبعة أيام ولم أدفنه حتى يجيء أبوه فهل يحييه ربكما؟ فدعوا الله علانية ، ودعاه شمعون سرًّا ، فقام الميت حيًّا ، فقال للناس : إني متّ منذ سبعة أيام ، فوُجدت مشركاً ، فأدخلتُ في سبعة أودية من النار ، فأحذِّركم ما أنتم فيه فآمِنوا بالله ، ثم فتحت أبواب السماء ، فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة شمعون وصاحبيه ، حتى أحياني الله ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن عيسى روح الله وكلمته ، وأن هؤلاء هم رسل الله . فقالوا له : وهذا شمعون أيضاً معهم؟ فقال : نعم وهو أفضلهم . فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم ، فأثر قوله في الملك ، فدعاه إلى الله ، فآمن الملك في قوم كثير وكفر آخرون . وحكى القشيري أن الملك آمن ولم يؤمن قومه ، وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي منهم من الكفار . وروي أن عيسى لما أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية قالوا : يا نبيّ الله إنا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم ولغاتهم . فدعا الله لهم فناموا بمكانهم ، فهبُّوا من نومتهم وقد حملتهم الملائكة فألقتهم بأرض أنطاكية ، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم؛ فذلك قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } فقالوا جميعاً : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق { وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ } يأمر به ولا ( من شيء ) ينهى عنه { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } في دعواكم الرسالة؛ فقالت الرسل : { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } وإن كذبتمونا { وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين } في أن الله واحد { قالوا } لهم { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي تشاءمنا بكم . قال مقاتل : حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا هذا بشؤمكم . ويقال : إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين . { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ } عن إنذارنا { لَنَرْجُمَنَّكُمْ } قال الفراء : لنقتلنكم . قال : وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل . وقال قتادة : هو على بابه من الرجم بالحجارة . وقيل : لنشتمنكم؛ وقد تقدّم جميعه . { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } قيل : هو القتل . وقيل : هو التعذيب المؤلم . وقيل : هو التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب . فقالت الرسل : { طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } أي شؤمكم معكم أي حظكم من الخير والشر معكم ولازمٌ في أعناقكم ، وليس هو من شؤمنا؛ قال معناه الضحاك .
وقال قتادة : أعمالكم معكم . ابن عباس : معناه الأرزاق والأقدار تتبعكم . الفراء : «طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ» رزقكم وعملكم؛ والمعنى واحد . وقرأ الحسن : «اطيركم» أي تطيركم . { أَإِن ذُكِّرْتُم } قال قتادة : إن ذكرتم تطيرتم . وفيه تسعة أوجه من القراءات : قرأ أهل المدينة : «أَيِنْ ذُكِّرْتُمْ» بتخفيف الهمزة الثانية . وقرأ أهل الكوفة : «أَإِنْ» بتحقيق الهمزتين . والوجه الثالث : «أَاإِنْ ذُكِّرْتُمْ» بهمزتين بينهما ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين . والوجه الرابع : «أاإنْ» بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة . والقراءة الخامسة «أَاأَنْ» بهمزتين مفتوحتين بينهما ألف . والوجه السادس : «أَأَنْ» بهمزتين محققتين مفتوحتين . وحكى الفراء : أنّ هذه القراءة قراءة أبي رُزَين .
قلت : وحكاه الثعلبي عن زِرّ بن حُبيش وابن السَّمَيْقَع . وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري : { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكِّرْتُم } بمعنى حيث . وقرأ يزيد بن القعقَاع والحسن وطلحة «ذُكِرْتُمْ» بالتخفيف؛ ذكر جميعه النحاس . وذكر المهدوي عن طلحة بن مُصَرِّف وعيسى الهَمَذانِي : «آنْ ذُكِّرْتُمْ» بالمد ، على أن همزة الاستفهام دخلت على همزة مفتوحة . الماجشون : «أَنْ ذُكِّرْتُمْ» بهمزة واحدة مفتوحة . فهذه تسع قراءات . وقرأ ابن هُرْمُز «طَيْرُكُمْ مَعَكُمْ» . «أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ» أي لإِن وُعِظتم؛ وهو كلام مستأنف ، أي إن وعظتم تطيرتم . وقيل : إنما تطيروا لما بلغهم أن كل نبي دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } قال قتادة : مسرفون في تطيّركم . يحيى بن سلاّم : مسرفون في كفركم . وقال ابن بحر : السرف هاهنا الفساد ، ومعناه بل أنتم قوم مفسدون . وقيل : مسرفون مشركون ، والإسراف مجاوزة الحد ، والمشرك يجاوز الحدّ .(3/201)
قوله تعالى : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى } هو حبيب بن مري وكان نجارا . وقيل : إسكافاً . وقيل : قصّاراً . وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : هو حبيب بن إسرائيل النجار وكان يَنْحَت الأصنام ، وهو ممن آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تُبّع الأَكبر وورَقة بن نوفل وغيرهما . ولم يؤمن بنبيّ أحدٌ إلا بعد ظهوره . قال وهب : وكان حبيب مجذوماً ، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان يَعكِفُ على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم ، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما استجابوا له ، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال : هل من آية؟ قالوا : نعم ، ندعو ربَّنا القادر فيفرج عنك ما بك . فقال : إن هذا لَعجب! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرِّج عني فلم تستطع ، ( فكيف ) يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا : نعم ، ربُّنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر . فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس؛ فحينئذٍ أقبل على التكسب ، فإذا أمسى تصدّق بكسبه ، فأطعم عياله نصفاً وتصدّق بنصف ، فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم ف { قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين } الآية . وقال قتادة : كان يعبد الله في غارٍ ، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى ، فقال للمرسلين : أتطلبون على ما جئتم به أجراً؟ قالوا : لا؛ ما أجرنا إلا على الله . قال أبو العالية : فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه ف«قَالَ يَا قَوْمِ اتبعوا الْمُرْسَلِينَ» . { اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي لو كانوا متَّهَمين لطلبوا منكم المال { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } فاهتدوا بهم . { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } قال قتادة : قال له قومه أنت على دينهم؟ا فقال : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } أي خلقني . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وهذا احتجاج منه عليهم . وأضاف الفطرة إلى نفسه؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر ، والبعث إليهم؛ لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكراً ، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثراً . { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } يعني أصناماً . { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ } يعني ما أصابه من السقم . { لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ } يخلصوني مما أنا فيه من البلاء { إني إِذاً } يعني إن فعلت ذلك { لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي خسران ظاهر . { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } قال ابن مسعود : خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم . ومعنى «فَاسْمَعُونِ» أي فاشهدوا ، أي كونوا شهودي بالإيمان . وقال كعب ووهب : إنما قال ذلك لقومه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به . وقيل : إنه لما قال لقومه { اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } رفعوه إلى الملك وقالوا : قد تبعت عدوّنا؛ فطوّل معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل ، إلى أن قال : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } فوثبوا عليه فقتلوه .
قال ابن مسعود : وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره ، وأُلقي في بئر وهي الرَّسُّ وهم أصحاب الرَّسِّ . وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة . وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهدي قومي حتى قتلوه . وقال الكلبي : حفروا حفرة وجعلوه فيها ، وردموا فوقه التراب فمات ردما . وقال الحسن : حرقوه حرقاً ، وعلّقوه من سور المدينة وقبره في سور أنطاكية؛ حكاه الثعلبي . وقال القشيري : وقال الحسن لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة ، فإذا أعاد الله الجنة أُدخلها . وقيل : نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه ، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها؛ فذلك قوله : { قِيلَ ادخل الجنة } فلما شاهدها { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } أي بغفران ربي لي؛ ف«ما» مع الفعل بمنزلة المصدر . وقيل : بمعنى الذي والعائد من الصلة محذوف . ويجوز أن تكون استفهاما فيه معنى التعجب ، كأنه قال ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي؛ قاله الفرّاء . واعترضه الكسائي فقال : لو صحّ هذا لقال بِم من غير ألف . وقال الفراء : يجوز أن يقال بما بالألف وهو استفهام وأنشد فيه أبياتاً . الزمخشري : «بِمَ غَفَرَ لِي» بطرح الألف أجود ، وإن كان إثباتها جائزاً؛ يقال : قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت . المهدوي : وإثبات الألف في الاستفهام قليل . فيوقف على هذا على «يَعْلَمُونَ» . وقال جماعة : معنى قيل «ادخل الْجَنَّةَ» وجبت لك الجنة؛ فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة؛ لأن دخولها يُستحق بعد البعث .
قلت : والظاهر من الآية أنه لما قُتل قيل له ادخل الجنة . قال قتادة : أدخله الله الجنة وهو فيها حيّ يرزق؛ أراد قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] على ما تقدم في «آل عمران» بيانه . والله أعلم .(3/202)
قوله تعالى : { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ } مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم الذي هو { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } وقرىء «مِنَ الْمُكَرَّمِينَ» وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته . الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حياً وميتاً . رفعه القشيري فقال : وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية : " إنه نصح لهم في حياته وبعد موته " وقال ابن أبي ليلى : سُبَّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب وهو أفضلهم ، ومؤمن آل فرعون ، وصاحب ياس ، فهم الصدّيقون؛ ذكره الزمخشري مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي هذه الآية تنبيه عظيم ، ودلالة على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه . ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام . فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه ، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم؛ فذلك قوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبيّ بعد قتله؛ قاله قتادة ومجاهد والحسن . قال الحسن : الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء . وقيل : الجند العساكر؛ أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر؛ بل أهلكهم بصيحة واحدة . قال معناه ابن مسعود وغيره . فقوله : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } تصغير لأمرهم؛ أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل ، أو من بعد رفعه إلى السماء . وقيل : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } على من كان قبلهم . الزمخشري : فإن قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؟ فقال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] ، وقال : { آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 124 125 ] .
قلت : إنما كان يكفي ملك واحد ، فقد أهلِكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة ، ولكن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلاً عن حبيب النجار ، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحداً؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنوداً من السماء ، وكأنه أشار بقوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا } . { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك ، وما كنا نفعل لغيرك . { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } قراءة العامة «وَاحِدَةً» بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة .
وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاع وشيبة والأعرج : «صَيْحَةٌ» بالرفع هنا ، وفي قوله { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث؛ فكأنه قال : ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة . وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف؛ كما تكون ما قامت إلا هندٌ ضعيفاً؛ من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند . قال أبو حاتم : فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال : إن كان إلا صيحةٌ . قال النحاس : لا يمتنع شيء من هذا ، يقال : ما جاءتني إلا جاريتك ، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية إلا جاريتك .
والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق ، قال : المعنى إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة ، وقدّره غيره : ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة . وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب . وقرأ عبد الرحمن بن الأسود ويقال إنه في حرف عبد الله كذلك «إنْ كَانَتْ إِلاَّ زَقْيَةً وَاحِدَةً» . وهذا مخالف للمصحف . وأيضاً فإن اللغة المعروفة زَقَا يَزْقو إذا صاح ، ومنه المثل : أثقلُ من الزَّوَاقي؛ فكان يجب على هذا أن يكون زَقْوة . ذكره النحاس .
قلت : وقال الجوهري : الزَّقْو والزَّقْي مصدر ، وقد زَقَا الصدى يَزقْو زقاء : أي صاح ، وكل صائح زاقٍ ، والزَّقْية الصّيحة .
قلت : وعلى هذا يقال : زَقْوة وزَقْية لغتان؛ فالقراءة صحيحة لا اعتراض عليها . والله أعلم . { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أي ميتون هامدون؛ تشبيهاً بالرماد الخامد . وقال قتادة : هلكى . والمعنى واحد .
قوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد } منصوب؛ لأنه نداء نكرة ولا يجوز فيه غير النصب عند البصريين . وفي حرف أُبَيّ «يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ» على الإضافة . وحقيقة الحسرة في اللغة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً . وزعم الفراء أن الاختيار النصب ، وأنه لو رفعت النكرة الموصولة بالصلة كان صواباً . واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب : يا مُهَتمُّ بأمرنا لا تهتمّ . وأنشد :(3/203)
يا دارُ غَيَّرها البِلَى تَغْييرَا ... قال النحاس : وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره؛ لأنه يرفع النكرة المحضة ، ويرفع ما هو بمنزلة المضاف في طوله ، وبحذف التنوين متوسطاً ، ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك . فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه؛ لأن تقدير يا مُهْتَمُّ بأمرنا لا تهتم على التقديم والتأخير ، والمعنى : يأيها المهتم لا تهتم بأمرنا . وتقدير البيت : يأيتها الدار ، ثم حوّل المخاطبة؛ أي يا هؤلاء غيّر هذه الدار البلى؛ كما قال الله جل وعز : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] . ف«حسرة» منصوب على النداء؛ كما تقول يا رجلاً أقبل ، ومعنى النداء : هذا موضع حضور الحسرة . الطبري : المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندُّماً وتلهُّفاً في استهزائهم برسل الله عليهم السلام . ابن عباس : «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ» أي يا ويلا على العباد . وعنه أيضاً : حلّ هؤلاء محلّ من يتحسر عليهم . وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد هاهنا الرسل؛ وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا : «يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ» فتحسروا على قتلهم ، وترك الإيمان بهم؛ فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان؛ وقاله مجاهد . وقال الضحاك : إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل . وقيل : «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ» من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، لما وثب القوم لقتله . وقيل : إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قتل القوم ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، وحلَّ بالقوم العذاب : يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا . وقيل : هذا من قول القوم قالوا لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل ، أو قتلوا الرجل مع الرسل الثلاثة ، على اختلاف الروايات : يا حسرة على هؤلاء الرسل ، وعلى هذا الرجل ، ليتنا آمنا بهم في الوقت الذي ينفع الإيمان . وتم الكلام على هذا ، ثم ابتدأ فقال : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ } . وقرأ ابن هُرْمُز ومسلم بن جُنْدب وعِكرمة : «يَا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبَادِ» بسكون الهاء للحرص على البيان وتقرير المعنى في النفس؛ إذ كان موضع وعظ وتنبيه والعرب تفعل ذلك في مثله ، وإن لم يكن موضعاً للوقف . ومن ذلك ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يُقَطِّعُ قراءته حرفاً حرفاً؛ حرصاً على البيان والإفهام .
==========
وقال السعدي (1):
أي: واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك، مثلا يعتبرون به، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير، وذلك المثل: أصحاب القرية، وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله.
وتعيين تلك القرية، لو كان فيه فائدة، لعينها اللّه، فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار، ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح، الوقوف مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم، من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل عليها، ولا حجة عليها ولا يحصل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها.
والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثلا للمخاطبين. { إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } [ ص 694 ] من اللّه تعالى يأمرونهم بعبادة اللّه وحده، وإخلاص الدين له، وينهونهم عن الشرك والمعاصي.
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي: قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناء من اللّه بهم، وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم، { فَقَالُوا } لهم: { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } فأجابوهم بالجواب الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل: فـ { قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أي: فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل لأممهم: { إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }
{ وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ } أي: أنكروا عموم الرسالة، ثم أنكروا أيضا المخاطبين لهم، فقالوا: { إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ }
فقالت هؤلاء الرسل الثلاثة: { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } فلو كنا كاذبين، لأظهر اللّه (1) خزينا، ولبادرنا بالعقوبة.
{ وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي: البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، وما عدا هذا من آيات الاقتراح، ومن سرعة العذاب، فليس إلينا، وإنما وظيفتنا -التي هي البلاغ المبين- قمنا بها، وبيناها لكم، فإن اهتديتم، فهو حظكم وتوفيقكم، وإن ضللتم، فليس لنا من الأمر شيء.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 693)(3/204)
فقال أصحاب القرية لرسلهم: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر، وهذا من أعجب العجائب، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد، وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، قد قدم بحالة شر، زادت على الشر الذي هم عليه، واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق، يصنع بصاحبه أعظم مما (2) يصنع به عدوه.
ثم توعدوهم فقالوا: { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } أي: نقتلنكم رجما بالحجارة أشنع القتلات { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
فقالت لهم رسلهم: { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } وهو ما معهم من الشرك والشر، المقتضي لوقوع المكروه والنقمة، وارتفاع المحبوب والنعمة. { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } أي: بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صلاحكم وحظكم، قلتم لنا ما قلتم.
{ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } متجاوزون للحد، متجرهمون في قولكم، فلم يزدهم [دعاؤهم] إلا نفورا واستكبارا.
{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل وآمن به، وعلم ما رد به قومه عليهم فقال [لهم]: { يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } فأمرهم باتباعهم ونصحهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة، ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه، فقال: { اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا } أي: اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير، وليس [يريد منكم أموالكم ولا أجرا على نصحه لكم وإرشاده إياكم، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه.
بقي] أن يقال: فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة، ولكنه ليس على الحق، فدفع هذا الاحتراز بقوله: { وَهُمْ مُهْتَدُونَ } لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا بما يشهد العقل الصحيح بقبحه.
فكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له على اتباع الرسل، وإخلاص الدين للّه وحده، فقال: { وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة، لأنه الذي فطرني، وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم، فالذي بيده الخلق والرزق، والحكم بين العباد، في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه ويمجد، دون من لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا عطاء ولا منعا، ولا حياة ولا موتا ولا نشورا، ولهذا قال: { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ } لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا، وَلا هُمْ يُنْقذون من الضر الذي أراده اللّه بي.
{ إِنِّي إِذًا } أي: إن عبدت آلهة هذا وصفها { لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فجمع في هذا الكلام، بين نصحهم، والشهادة للرسل بالرسالة، والاهتداء والإخبار بِتعيُّن (3) عبادة اللّه وحده، وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره باطلة، وذكر البراهين عليها، والإخبار بضلال من عبدها، والإعلان بإيمانه جهرا، مع خوفه الشديد من قتلهم، فقال: { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } فقتله قومه، لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.
فـ { قِيلَ } له في الحال: { ادْخُلِ الْجَنَّةَ } فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده وإخلاصه، وناصحا لقومه بعد وفاته، كما نصح لهم في حياته: { يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } أي: بأي: شيء غفر لي، فأزال عني أنواع العقوبات، { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } [ ص 695 ] بأنواع المثوبات والمسرات، أي: لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم، لم يقيموا على شركهم.
=================(3/205)
وقال الماوردي (1):
قوله عز وجل : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ } هذه القرية هي أنطاكية من قول جميع المفسرين .
{ إذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا } اختلف في اسميهما على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهما شمعون ويوحنا ، قاله شعيب .
الثاني : صادق وصدوق ، قاله ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه .
الثالث : سمعان ويحيى ، حكاه النقاش .
{ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فشددنا ، قاله مجاهد .
الثاني : فزدنا ، قاله ابن جريج .
الثالث : قوينا مأخوذ من العزة وهي القوة المنيعة ، ومنه قولهم : من عز وبز : واختلف في اسمه على قولين :
أحدهما : يونس قاله شعيب .
الثاني : شلوم ، قاله ابن عباس وكعب ووهب . وكان ملك أنطاكية أحد الفراعنة يعبد الأصنام مع أهلها ، وكانت لهم ثلاثة أصنام يعبدونها ، ذكر النقاش أن أسماءها رومس وقيل وارطميس .
واختلف في اسم الملك على قولين :
أحدهما : أن اسمه أنطيخس ، قاله ابن عباس وكعب ووهب .
الثاني : انطرا ، قاله شعيب .
قوله عز وجل : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } وهذا القول منهم إنكار لرسالته ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أنكم مثلنا غير رسل وإن جاز أن يكون البشر رسلاً .
الثاني : إن مثلكم من البشر لا يجوز أن يكونوا رسلاً .
{ وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْءٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك منهم إنكاراً للرحمن أن يكون إلهاً مرسلاً .
الثاني : أن يكون ذلك إنكاراً أن يكونوا للرحمن رسلاً .
{ إنْ أَنتُمْ إِلاَّ تُكْذِبُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تكذبون في أن لنا إلهاً .
الثاني : تكذبون في أن تكونوا رسلاً .
قوله عز وجل : { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } فإن قيل يعلم الله تعالى أنهم لا تكون حجة عند الكفار لهم .
قيل يحتمل قولهم ذلك وجهين :
أحدهما : معناه ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون بما يظهره لنا من المعجزات ، وقد قيل إنهم أحيوا ميتاً وأبرؤوا زمِناً .
الثاني : أن تمكين ربنا لنا إنما هو لعلمه بصدقنا .
واختلف أهل العلم فيهم على قولين :
أحدهما : أنهم كانوا رسلاً من الله تعالى إليهم .
الثاني : أنهم كانوا رسل عيسى عليه السلام من جملة الحواريين أرسلهم إليهم فجاز ، لأنهم رسل رسول الله ، أن يكونوا رسلاً لله ، قاله ابن جريج .
{ وَمَا عَلَيْنَآ إلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } يعني بالإعجاز الدال على صحة الرسالة أن الذي على الرسل إبلاغ الرسالة وليس عليهم الإجابة ، وإنما الإجابة على المدعوين دون الداعين .
قوله عز وجل : { قَالُواْ إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تشاءَمنا بكم ، وعساهم قالوا ذلك لسوء أصابهم ، قاله يحيى بن سلام . قيل إنه حبس المطر عن أنطاكية في أيامهم .
الثاني : معناه إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم ، قاله قتادة : تحذيراً من الرجوع عن دينهم .
الثالث : استوحشنا منكم فيما دعوتمونا إليه من دينكم .
{ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : لنرجمنكم بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : لنقتلنكم ، قاله السدي .
الثالث : لنشتمنكم ونؤذيكم ، قاله النقاش .
{ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه القتل .
الثاني : التعذيب المؤلم قبل القتل .
قوله عز وجل : { قَالُواْ طَآئِرَكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن أعمالكم معكم أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ، قاله قتادة .
الثاني : أن الشؤم معكم إن أقمتم على الكفر إذا ذكرتم ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه أن كل من ذكركم بالله تطيرتم به ، حكاه بعض المتأخرين .
الرابع : أن عملكم ورزقكم معكم ، حكاه ابن حسام المالكي .
{ بَل أَنتُمْ قومٌ مُّسْرفُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : في تطيركم ، قاله قتادة .
الثاني : مسرفون في كفركم ، قاله يحيى بن سلام . وقال ابن بحر : السرف ها هنا الفساد ومعناه بل أنتم قوم مفسدون ، ومنه قول الشاعر :
إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماءِ غمامة شتمي
وقيل : إن شمعون من بينهم أحيا بنت ملك أنطاكية من قبرها ، فلم يؤمن أحد منهم غير حبيب النجار فإنه ترك تجارته حين سمع بهم وجاءهم مسرعاً فآمن ، وقتلوا جميعاً وحبيب معهم ، وألقوا في بئر . قال مقاتل : هم أصحاب الرس : ولما عرج بروح حبيب إلى الجنة تمنى فقال { يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بَمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ }
قوله عز وجل : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } اختلف فيه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان إسكافاً ، قاله عمربن عبد الحكيم .
الثاني : أنه كان قصاراً ، قاله السدي .
الثالث : أنه كان حبيب النجار ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد .
{ قَالَ يَا قَومِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ } وفي علمه بنبوتهم وتصديقه لهم قولان :
__________
(1) - النكت والعيون - (ج 3 / ص 438)(3/206)
أحدهما : لأنه كان ذا زمانة أو جذام فأبرؤوه ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنهم لما دعوه قال أتأخذون على ذلك أجراً؟ قالوا لا ، فاعتقد صدقهم وآمن بهم ، قاله أبو العالية .
قوله عز وجل : { اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون قال ذلك تنبيهاً على صدقهم .
الثاني : أن يكون قال ذلك ترغيباً في أجابتهم .
{ وُهُم مُّهْتَدُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مهتدون لهدايتكم .
الثاني : مهتدون فاهتدوا بهم .
قوله عز وجل : { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } أي خلقني { وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ } أي تبعثون . فإن قيل : فلم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو معترف أن الله فطرهم جميعاً ويبعثهم إليه جميعاً؟
قيل : لأنه خلق الله تعالى له نعمة عليه توجب الشكر ، والبعث في القيامة وعيد يقتضي الزجر ، فكان إضافة النعمة ، إلى نفسه إضافة شكر ، وإضافة الزجر إلى الكافر أبلغ أثراً .
قال قتادة : بلغني أنهم لما قال لهم : وما لي لا أعبد الذي فطرني وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه وهو يقول : يا رب اهدِ قومي ، أحسبه قال : فإنهم لا يعلمون .
قوله عز وجل : { إِنِّي ءَامَنتُ بِرَبِّكُم فَاسْمَعُونِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه خاطب الرسل بذلك أنه يؤمن بالله ربهم { فَاسْمَعُونِ } أي فاشهدوا لي ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه خاطب قومه بذلك ، ومعناه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي ، قاله وهب بن منبه .
قوله عز وجل : { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أمر بدخول الجنة .
الثاني : أنه أخبر بأنه قد استحق دخول الجنة لأن دخولها يستحق بعد البعث .
{ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } في هذا التمني منه قولان :
أحدهما : أنه تمنى أن يعلموا حاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته .
الثاني : أنه تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حياً وميتاً .
ويحتمل قوله : { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكرَمِينَ } وجهين :
أحدهما : ممن أكرمه بقبول عمله . الثاني : ممن أحله دار كرامته .قوله عز وجل { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء } فيه قولان : أحدهما : معنى جند من السماء أي رسالة ، قاله مجاهد ، لأن الله تعالى قطع عنهم الرسل حين قتلوا رسله .
الثاني : أن الجند الملائكة الذين ينزلون الوحي على الأنبياء ، قاله الحسن .
{ وما كنا منزلين } أي فاعلين .
{ إن كانت إلا صيحة واحدةً } فيها قولان :
أحدهما : أنَّ الصيحة هي العذاب .
الثاني : أنها صيحة من جبريل عليه السلام ليس لها مثنوية ، قاله السدي .
{ فإذا هم خامدون } أي ميتون تشبيهاً بالرماد الخامد .
================
وفي التفسير الوسيط(1) :
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية } وهذه القرية هى " أنطاكية " فى قول جميع المفسرين . . . والمرسلون : قيل : هم رسل من الله على الابتداء . وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله - تعالى - .
ولم يرتض ابن كثير ما ذهب إليه القرطبى والمفسرون من أن المراد بالقرية " أنطاكية " كما أنه لم يرتض الرأى القائل بأن الرسل الثلاثة كانوا من عند عيسى - عليه السلام - فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : وقد تقدم عن كثير من السلف ، أن هذه القرية هى أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عيسى - عليه السلام - وفى ذلك نظر من وجوه :
أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله - عز وجل - لا من جهة عيسى ، كما قال - تعالى - : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ . . . } .
الثانى : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل عيسى إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح عليه السلام ، ولهذا كانت عند النصارى ، إحدى المدن الأربعة التى فيها بتاركه - أى ، علماء بالدين المسيحى . .
الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب عيسى ، كانت بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغيره ، أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين . . .
والذى يبدو لنا أن ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير هو الأقرب إلى الصواب وأن القرآن الكريم لم يذكر من هم أصحاب القرية ، لأن اهتمامه فى هذه القصة وأمثالها ، بالعبر والعظات التى تؤخذ منها .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3528)(3/207)
وضرب المثل فى القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل فى تطبيق حالة غريبة ، بأخرى تشبهها ، كما فى قوله - تعالى - { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } فيكون المعنى : واجعل - أيها الرسول الكريم - حال أصحاب القرية ، مثلا لمشركى مكة فى الإِصرار على الكفر والعناد ، وحذرهم من أن مصيرهم سيكون كمصير هؤلاء السابقين ، الذين كانت عاقبتهم أن أخذتهم الصيحة فإذا هم خامدون ، لأنهم كذبوا المرسلين .
وقوله - سبحانه - : { إِذْ جَآءَهَا المرسلون } بدل اشتمال من { أَصْحَابَ القرية } .
والمراد بالمرسلين : الذين أرسلهم الله إلى أهل تلك القرية ، لهدايتهم إلى الحق .
وقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا . . } بيان لكيفية الإِرسال ولموقف أهل القرية ممن جاءوا لإِرشادهم إلى الدين الحق .
أى : إن موقف المشركين منك - أيها الرسول الكريم - ، يشبه موقف أصحاب القرية من الرسل الذين أرسلناهم لهدايتهم ، إذ أرسلنا إلى أصحاب هذه القرية اثنين من رسلنا ، فكذبوهما .
وأعرضوا عن دعوتهما .
والفاء فى قوله { فكذبوهما } للإِفصاح ، أى : أرسلنا إليهم اثنين لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لنا فذهبا إليه فكذبوهما .
وقوله : فعززنا بثالث أى : فقوينا الرسالة برسول ثالث ، من التعزيز بمعنى التقوية ، ومنه قولهم : تعزز لحم الناقة ، إذا اشتد وقوى . وعزز المطر الأرض ، إذا قواها وشدها . وأرض عزاز ، إذا كانت صلبة قوية .
ومفعول { فعززنا } محذوف لدلالة ما قبله عليه أى : فعززناهما برسول ثالث { فقالوا } أى الرسل الثلاثة لأصحاب القرية : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } ال إلى غيركم ، فأطيعونا فيما ندعوكم إليه من إخلاص العبادة لله - تعالى - ، ونبذ عبادة الأصنام .
ثم حكى - سبحانه - ما دار بين الرسل وأصحاب القرية من محاورات فقال : { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } .
أى : قال أصحاب القرية للرسل على سبيل الاستنكار والتطاول : أنم لستم إلا بشراً مثلنا فى البشرية ، ولا مزية لكم علينا ، وكأن البشرية فى زعمهم تتنافى مع الرسالة ، ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : وما أنزل الرحمن من شئ مما تدعوننا إليه .
ثم وصفوهم بالكذب فقالوا لهم : ما أنتم إلا كاذبون ، فيما تدعونه من أنكم رسل إلينا .
وهكذا قابل أهل القرية رسل الله ، بالإِعراض عن دعوتهم وبالتطاول عليهم ، وبالإِنكار لما جاءوا به ، وبوصفهم بالكذب فيم يقولونه .
ولكن الرسل قابلوا كل ذلك بالأناة والصبر ، شأن الواثق من صدقه ، فقالوا لأهل القرية : { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين }
أى : قالوا لهم بثقة وأدب : ربنا - وحده - يعلم إنا إليكم لمرسلون ، وكفى بعلمه علما ، وبحكمه حكما ، وما علينا بعد ذلك بالنسبة لكم إلا أن نبلغكم ما كلفنا بتبيلغه إليكم تبليغا واضحا ، لا غموض فيه ولا التباس .
فأنت ترى أن الرسل لم يقابلوا سفاهة أهل القرية بمثلها ، وإنما قابلوا تكذيبهم لهم . بالمنطق الرصين ، وبتأكيد أنهم رسل الله ، وأنهم صادقون فى رسالتهم ، لأن قولهم { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } جار مجرى القسم فى التوكيد .
وقوله : { وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين } تحديد للوظيفة التى أرسلهم الله - تعالى - من أجلها .
ولكن أهل القرية لم يقتنعوا بهذا المنطق السليم ، بل ردوا على الرسل ردا قبيحا ، فقالوا لهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } والتطير : التشاؤم . أى قالوا فى الرد عليهم : إنا تشاءمنا من وجودكم بيننا ، وكرهنا النظر إلى وجوهكم ، وإذا لم ترحلوا عنا ، وتكفوا عن دعوتكم لنا إلى ما لا نريده ، لنرجمنكم بالحجارة ، وليمسنكم منا عذاب شديد الألم قد ينتهى بقتلكم وهلاككم .
قال صاحب الكشاف : قوله { تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أى : تشاءمنا بكم ، وذلك أنهم كرهوا دينهم ، ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شئ مالوا إليه ، واشتهوه وآثروه وقبلته طباعتهم ، ويتشاءموا مما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم خير أو بلاء ، قالوا : ببركة هذا وبشؤم هذا .
ولكن الرسل قابلوا هذا التهديد - أيضا - بالثبات ، والمنطق الحكيم فقالوا لهم : { طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } .
أى : قال الرسل لأهل القرية : ليس الأمر كما ذكرتم من أننا سبب شؤمكم ، بل الحق أن شؤمكم معكم ، ومن عند أنفسكم ، بسبب إصراركم على كفركم ، وإعراضكم عن الحق الذى جئناكم به من عند خالقكم .(3/208)
وجواب الشرط لقوله : { أَإِن ذُكِّرْتُم } محذوف ، والتقدير : أئن وعظتم وذكرتم بالحق ، وخوفتهم من عقاب الله . . تطيرتم وتشاءمتم .
وقوله : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } إضراب عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سببا للشؤم .
أى : ليس الأمر كما ذكرتم من أن وجودنا بينكم هو سبب شؤمكم ، بل الحق أنكم قوم عادتكم الإِسراف فى المعاصى ، وفى إيثار الباطل على الحق ، والغى على الرشد ، والتشاؤم على التيامن .
ثم بين - سبحانه - بعد تلك المحاورة التى دارت بين أهل القرية وبين الرسل ، والتى تدل على أن أهل القرية كانوا مثلا فى السفاهة والكراهة للخير والحق .
بين - سبحانه - بعد ذلك ما دار بين أهل القرية ، وبين رجل صالح منهم ساءه أن يرى من قومه تنكرهم لرسل الله - تعالى - وتطاولهم عليهم ، وتهديدهم لهم بالرجم : فقال - تعالى - : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ . . } .
قوله - سبحانه - : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى . . } معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة ، والتقدير :
وانتشر خبر الرسل بين أصحاب القرية ، وعلم الناس بتهديد بعضهم لهم { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة } أى : رجل ذو قطرة سليمة ، يسرع الخطا لينصح قومه ، وينهاهم عن إيذاء السرل ويأمرهم باتباعهم .
قالوا : وهذا الرجل كان اسمه حبيب النجار ، لأنه كان يشتغل بالنجارة .
وقد أكثر بعض المفسرين هنا من ذكر صناعته وحاله قبل مجيئه ، ونحن نرى أنه لا حاجة إلى ذلك ، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه فيما ذكروه عنه .
ويكفيه فخرا هذا الثناء من الله - تعالى - عليه بصرف النظر عن اسمه أو صنعته أو حاله ، لأن المقصود من هذه القصة وأمثالها فى القرآن الكريم هو الاعتبار والافتداء بأهل الخير .
وعبر هنا بالمدينة بعد التعبير عنها فى أول القصة بالقرية للإِشارة إلى سعتها وإلى أن خبر هؤلاء الرسل قد انتشر فيها من أولها إلى آخرها .
والتعبير بقوله : { يسعى } : يدل على صفاء نفسه ، وسلامه قلبه ، وعلو همته ، ومضاء عزيمته ، حيث أسرع بالحضور إلى الرسل وإلى قومه ، ليعلن أمام الجميع كلمة الحق ، ولم يرتض أن يقبع فى بيته - كما يفعل الكثيرون - بل هرول نحو قومه ، ليقوم بواجبه فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وقوله - تعالى - : { قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين } بيان لما بدأ ينصح قومه به بعد وصوله إليهم .
أى : { قال } لقومه على سبيل الإِرشاد والنصح { ياقوم اتبعوا المرسلين } الذين جاءوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم ، ولإِنقاذكم من الضلال المبين الذى انغمستم فيه .
ثم أكد هذه الدعوة بقوله : { اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } اتبعوا هؤلاء الرسل الذين جاءوا بأمر ربكم إليكم ، ليرشدوكم إلى الطريق الحق ، والحال أنهم فى أنفسهم ثابتون على الهدى ، راسخون فى التمسك بالعقيدة السليمة .
ثم أخذ بعد ذلك فى حض قومه على اتباع الحق ، عن طريق بيان الأسباب التى حملته على الإِيمان ، حتى يستثير قلوبهم نحو الهدى ، فقال - كما حكى القرآن عنه - : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ . إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ . إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } .
أى : قال الرجل الصالح لقومه : وأى مانع يمنعنى من أن أعبد الله - تعالى - وحده ، لأنه هو الذى خلقنى ولم أكن قبل ذلك شيئا مذكورا ، وهو الذى إليه يكون مرجعكم بعد مماتكم ، فيحاسبكم على أعمالكم فى الدنيا ، ويجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب .
والاستفهام فى قوله : { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً .. } للإِنكار والنفى .
أى : لا يصح ولا يجوز أن اتخذ معه فى العبادة آلهة أخرى ، كائنة ما كانت هذه الآلهة ، لأنه { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } من النفع ، حتى ولو كان هذا النفع فى نهاية القلة والحقارة .
{ وَلاَ يُنقِذُونَ } : ولا تستطيع هذه الآلهة إنقاذى وتخليصى مما يصيبنى من ضر أراد الرحمن أن ينزله بى .
{ إني إِذاً } لو اتخذت هذه الآلهة شريكا مع الله فى العبادة { لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أى : لأكونن فى ضلال واضح لا يخفى على أحد من العقلاء .
ثم ختم حديثه معهم بإعلان إيمانه بكل صراحة وقوة فقال : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } ، الذى خلقكم ورزقكم { فاسمعون } أى : فاسمعوا ما نطقت به ، واشهدوا لى بأنى آمنتت بربكم الذى خلقكم وخلقنى ، وكفرت بهؤلاء الشركاء ، ولن أشرك معه - سبحانه - فى العبادة أحدا . مهما كانت النتائج .
وهكذا نرى الرجل الصالح الذى استقر الإِيمان فى قلبه ومشاعره ووجدانه يدافع عن الحق الذى آمن به دفاعا قويا دون أن يخشى أحد إلا الله ، ويدعو قومه بشتى الأساليب إلى اتباعه ويقيم لهم ألوانا من الأدلة على صحة ما يدعو إليه .(3/209)
ثم يصارحهم فى النهاية ، ويشهدهم على هذه المصارحة ، بأنه قد آمن بما جاء به الرسل إيمانا لا يقبل الشك أو التردد ، ولا يثنيه عنه وعد أو وعيد أو إيذاء أو قتل .
ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد أجاد فى تصوير هذه المعانى فقال ما ملخصه : قوله { اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } كلمة جامعة فى الاستجابة لدعوة الرسل ، أى : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وتربحون صحة دينكم ، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة .
ثم أبرز الكلام فى مرض المناصحة لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ، وليتلطف بهم وبداريهم . . . فقال : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
ثم قال : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } يريد فاسمعوا قولى وأطيعونى ، فقد نيهتكم على الصحيح الذى لا معدل عنه ، أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم .
ولكن هذه النصائح الغالية الحكيمة من الرجل الصالح لقومه ، لم تصادف أذنا واعية بل إن سياق القصة بعد ذلك ليوحى بأن قومه قتلوه ، فقد قال - تعالى - بعد أن حكى نصائح هذا الرجل لقومه ، { قِيلَ ادخل الجنة . . }
أى : قالت الملائكة لهذا الرجل الصالح عند موته على سبيل البشارة : ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الطيب .
قال الآلوسى : قوله : { قِيلَ ادخل الجنة . . } استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك .
والظاهر أن الأمر المقصود به الإِذن له بدخول الجنة حقيقة ، وفى ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الحياة ، فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه . .
وقيل : الأمر للتبشير لا للإِذن بالدخول حقيقة ، أى : قالت ملائكة الموت وذلك على سبيل البشارة له بأنه من أهل الجنة - يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث .
وقوله - تعالى - : { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } استئناف بيانى لبيان ما قاله عند البشارة .
أى : قيل له ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الصالح ، فرد وقال : يا ليت قومى الذين قتلونى ولم يسمعوا نصحى ، يعلمون بما نلته من ثواب من ربى ، فقد غفر لى - سبحانه - وجعلنى من المكرمين عنده ، بفضله وإحسانه . .
قال ابن كثير : ومقصوده - من هذا القول - أنهم لو اطلعوا على ما حصل عليه من ثواب ونعيم مقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمه الله ورضى عنه ، فلقد كان حريصا على هداية قومه .
روى ابن أبى حاتم أن عروة بن مسعود الثقفى ، قال للنبى صلى الله عليه وسلم : " ابعثنى إلى قومى أدعوهم إلى الإِسلام ، فقال له صلى الله عليه وسلم " إنى أخاف أن يقتلوك " فقال : يا رسول الله ، لو وجدونى نائما ما أيقظونى . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " انطلق إليهم " فانطلق إليهم ، فمر على اللات والعزى ، فقال : لأصْبِحَنك غدا بما يسؤوك ، فغضبت ثقيف فقال لهم : يا معشر ثقيف : أسلموا تسلموا - ثلاث مرات - . فرماه رجل منهم فأصاب أكْحَلَه فقتله - والأكحل : عرق فى وسط الذراع - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال : " هذا مثله كمثل صاحب يس { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } " .
وقال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله : { ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ . . } إنما تمنى علم قومه بحاله ، ليكون علمهم بما سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم ، بالتوبة عن الكفر ، والدخول فى الإِيمان . . وفى حديث مرفوع : " نصح قومه حيا وميتا " .
وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه فى غمار الأشرار وأهل البغى ، والتشمر فى تخليصه ، والتلطف فى افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به ، والدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، وللباغين له الغوائل وهم كفرة وعبدة أصنام .
ثم بين - سبحانه - ما نزل بأصحاب القرية من عذاب أهلكهم فقال : { وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ } أى : من بعده موته .
{ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء } لأنهم كانوا أحقر وأهون من أن نفعل معهم ذلك .
{ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } أى : وما صح وما استقام فى حكمتنا أن ننزل عليهم جندا من السماء ، لهوان شأنهم ، وهوان قدرهم .
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أى : ما كانت عقوبتنا لهم إلا صيحة واحدة صاحها بهم جبريل بأمرنا .
{ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أى : هامدون ميتون ، شأنهم فى ذلك كشأن النار التى أصابها الخمود والانطفاء ، بعد أن كانت مشتعلة ملتهبة ، يقال .خمدت النار تخمد خمودا . إذا سكن لهيبها ، وانطفأ شررها ، وخمد الرجل - كقعد - إذا مات وانقطعت أنفاسه .
وهذكا كانت نهاية الذين كذبوا المرسلين ، وقتلوا المصلحين ، فقد نزلت بهم عقوبة الله - تعالى - فجعلتهم فى ديارهم جاثمين .
وبعد أن بين - سبحانه - سوء مصارع المكذبين ، أتبع ذلك بدعوة الناس إلى الاتعاظ بذلك من قبل فوات الأوان ، فقال - تعالى - : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }(3/210)
والحسرة : الغم والحزن على ما فات ، والندم عليه ندما لا نفع من ورائه ، كأن المتحسر قد انحسرت عنه قواه وذهبت ، وصار فى غير استطاعته إرجاعها .
و " يا " حرف نداء و " حسرة " منادى ونداؤها على المجاز بتنزيلها منزلة العقلاء .
والمراد بالعباد : أولئك الذين كذبوا الرسل ، وآثروا العمى على الهدى ، ويدخل فيهم دخولا أوليا أصحاب تلك القرية المهلكة كانوا فى دنياهم ما يأتيهم من رسول من الرسل ، إلا كانوا به يستهزئون ، ويتغامزون ، ويستخفون به وبدعوته ، مع أنهم - لو كانوا يعقلون . لقابلوا دعوة رسلهم بالطاعة والانقياد .
قال صاحب الكشاف : قوله : { ياحسرة عَلَى العباد . . . } نداء للحسرة عليهم ، كأنما قيل لها : تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التى حقك أن تحضرى فيها ، وهى حال استهزائهم بالرسل .
والمعنى : أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ، ويتلهف علهيم المتلهفون . أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين .
وقرئ : يا حسرة العباد منهم على أنفسهم ، بسبب تكذيبهم لرسلهم ، واستهزائهم بهم .
=============
وقال السيد رحمه الله (1):
لم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ولا ما هي القرية . وقد اختلفت فيها الروايات . ولا طائل وراء الجري مع هذه الروايات .
وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئاً في دلالة القصة وإيحائها . ومن ثم أغفل التحديد , ومضى إلى صميم العبرة ولبابها . فهي قرية أرسل الله إليها رسولين . كما أرسل موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - إلى فرعون وملئه . فكذبهما أهل تلك القرية , فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله . وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد (فقالوا:إنا إليكم مرسلون) . .
هنا اعترض أهل القرية عليهم بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات . .
(قالوا:ما أنتم إلا بشر مثلنا) . . (وما أنزل الرحمن من شيء) . . (إن أنتم إلا تكذبون) . .
وهذا الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك , كما يبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول . قد كانوا يتوقعون دائماً أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير . . أليس رسول السماء إلى الأرض فكيف لا تحيط به الأوهام والأساطير ? كيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها ?! شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلىء بها الأسواق والبيوت ?!
وهذه هي سذاجة التصور والتفكير . فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة والرسالة . وليست في هذه الصورة الساذجة الطفولية . وإن هنالك لسراً هائلاً ضخماً , ولكنه يتمثل في الحقيقة البسيطة الواقعة . حقيقة إيداع إنسان من هؤلاء البشر الاستعداد اللدني الذي يتلقى به وحي السماء , حين يختاره الله لتلقي هذا الوحي العجيب . وهو أعجب من أن يكون الرسول ملكاً كما كانوا يقترحون !
والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية . وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي . النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به . وهم بشر . فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يقلدوه .
ومن ثم كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معروضة لأنظار أمته . وسجل القرآن - كتاب الله الثابت - المعالم الرئيسية في هذه الحياة بأصغر تفصيلاتها وأحداثها , بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون . ومن هذه التفصيلات حياته المنزلية والشخصية . حتى خطرات قلبه سجلها القرآن في بعض الأحيان , لتطلع عليها الأجيال وترى فيها قلب ذلك النبي الإنسان .
ولكن هذه الحقيقة الواضحة القريبة هي التي ظلت موضع الاعتراض من بني الإنسان !
ولقد قال أهل تلك القرية لرسلهم الثلاثة: (ما أنتم إلا بشر مثلنا) . . وقصدوا أنكم لستم برسل . . (وما أنزل الرحمن من شيء) . . مما تدعون أنه نزله عليكم من الوحي والأمر بأن تدعونا إليه . (إن أنتم إلا تكذبون) . . وتدعون أنكم مرسلون !
وفي ثقة المطمئن إلى صدقه , العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل:
(قالوا:ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون . وما علينا إلا البلاغ المبين) . .
إن الله يعلم . وهذا يكفي . وإن وظيفة الرسل البلاغ . وقد أدوه . والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لأنفسهم من تصرف . وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار . والأمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك التبليغ عن الله ; فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى الله .
ولكن المكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير ; ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى (فتأخذهم العزة بالإثم) ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر عربيد:
(قالوا:إنا تطيرنا بكم ! لئن لم تنتهوا لنرجمنكم , وليمسنكم منا عذاب أليم) . .
قالوا:إننا نتشاءم منكم ; ونتوقع الشر في دعوتكم ; فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم , ولن ندعكم في دعوتكم: (لنرجمنكم , وليمسنكم منا عذاب أليم) . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 398)(3/211)
وهكذا أسفر الباطل عن غشمه ; وأطلق على الهداة تهديده ; وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة , وعربد في التعبير والتفكير !
ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق:
(قالوا:طائركم معكم) . .
فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية . والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة ; وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم . إنما هو معهم . مرتبط بنواياهم وأعمالهم , متوقف على كسبهم وعملهم . وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيراً أو أن يجعلوه شراً . فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه , ومن خلال اتجاهه , ومن خلال عمله . وهو يحمل طائره معه . هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح . أو التشاؤم بالوجوه , أما التشاؤم بالأمكنة أو التشاؤم بالكلمات . . فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم !
وقالوا لهم: أئن ذكرتم ? . .
يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم ! أفهذا جزاء التذكير ?
(بل أنتم قوم مسرفون) . .
تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير ; وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد ; وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب !
تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل . وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى ; وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك .
فأما النموذج الآخر الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب , فكان له مسلك آخر وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة:
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ; قال:يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون . ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ? أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ? إني إذاً لفي ضلال مبين . إني آمنت بربكم فاسمعون . .
إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة . فيها الصدق . والبساطة . والحرارة . واستقامة الإدراك .
وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين .
فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه . وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتاً ; ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور ; ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره . سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون . وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق , وفي كفهم عن البغي , وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين .
وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان . ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته . ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها . .
(قال:يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) . .
إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة , وهو لا يطلب أجراً , ولا يبتغي مغنماً . . إنه لصادق . وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله ? ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة ? ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة ? والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم , وهو لا يجني من ذلك كسباً , ولا يطلب منهم أجراً ?
(اتبعوا من لا يسألكم أجراً) . . (وهم مهتدون) . .
وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم . فهم يدعون إلى إله واحد . ويدعون إلى نهج واضح . ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض . فهم مهتدون إلى نهج سليم , وإلى طريق مستقيم .
ثم عاد يتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه , ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم:
ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ? أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ? إني إذاً لفي ضلال مبين . .
إنه تساؤل الفطرة الشاعرة بالخالق , المشدودة إلى مصدر وجودها الوحيد . . (ومالي لا أعبد الذي فطرني ?) وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر على النفس أول ما يخطر ? إن الفطر مجذوبة إلى الذي فطرها , تتجه إليه أول ما تتجه , فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها . ولا تلتوي إلا بمؤثر آخر ليس من طبيعتها . والتوجه إلى الخالق هو الأولى , وهو الأول , وهو المتجه الذي لا يحتاج إلى عنصر خارج عن طبيعة النفس وانجذابها الفطري . والرجل المؤمن يحس هذا في قرارة نفسه , فيعبر عنه هذا التعبير الواضح البسيط , بلا تكلف ولا لف ولا تعقيد !
وهو يحس بفطرته الصادقة الصافية كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية . كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل . فيقول:
(وإليه ترجعون) . .
ويتساءل لم لا أعبد الذي فطرني , والذي إليه المرجع والمصير ? ويتحدث عن رجعتهم هم إليه . فهو خالقهم كذلك . ومن حقه أن يعبدوه .
ثم يستعرض المنهج الآخر المخالف للمنهج الفطري المستقيم . فيراه ضلالاً بيناً:(أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ?) . .(3/212)
وهل أضل ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه , وينحرف إلى عبادة غير الخالق بدون ضرورة ولا دافع ? وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهة ضعاف لا يحمونه ولا يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلاله ?
(إني إذاً لفي ضلال مبين) . .
والآن وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة يقرر قراره الأخير في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين . لأن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد ومن كل تكذيب:
(إني آمنت بربكم فاسمعون) . .
وهكذا ألقى بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة . وأشهدهم عليها . وهو يوحي إليهم أن يقولوها كما قالها . أو أنه لايبالي بهم ماذا يقولون !
ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه . وإن كان لا يذكر شيئاً من هذا صراحة . إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها , وعلى القوم وما هم فيه ; ويرفعه لنرى هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق , متبعاً صوت الفطرة , وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل . نراه في العالم الآخر . ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة . تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد:
(قيل:ادخل الجنة . قال:يا ليت قومي يعلمون . بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) . .
وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الآخرة . ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء . وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة . ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق . ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم . ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين .
ونرى الرجل المؤمن . وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة , يذكر قومه طيب القلب رضي النفس , يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضى والكرامة , ليعرفوا الحق , معرفة اليقين .
هذا كان جزاء الإيمان . فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره . فهو ضعيف ضعيف:
(وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء . وما كنا منزلين . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) . .
ولا يطيل هنا في وصف مصرع القوم , تهويناً لشأنهم , وتصغيراً لقدرهم . فما كانت إلا صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم . . ويسدل الستار على مشهدهم البائس المهين الذليل !
===============
صبر موسى عليه السلام وقومه على فتنة فرعون
قال تعالى :{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) [الأعراف/127-129] }
قال القرطبي (1):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 2176)(3/213)
قوله تعالى : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض } أي بإيقاع الفرقة وتشتيت الشَّمل . { وَيَذَرَكَ } بنصب الراء جواب الاستفهام ، والواو نائبة عن الفاء . { وَآلِهَتَكَ } قال الحسن : كان فرعون يعبد الإصنام ، فكان يَعْبُد ويُعْبَد . قال سليمان التيِميُّ : بلغني أن فرعون كان يعبد البقر . قال التيِميّ : فقلت للحسن هل كان فرعون يعبد شيئاً؟ قال نعم ، إنه كان يعبد شيئاً كان قد جعله في عنقه . وقيل : معنى «وآلهتك» أي وطاعتك ، كما قيل في قوله تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] إنهم ما عبدوهم ولكن أطاعوهم؛ فصار تمثيلاً . وقرأ نُعيم بن ميسرة «وَيَذَرُكَ» بالرفع على تقدير وهو يَذرُكَ . وقرأ الأشهب العقيليّ «وَيَذرْك» مجزوماً مخفف يذرُك لثقل الضمة . وقرأ أنس ابن مالك «ونذرُك» بالرفع والنون . أخبروا عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيَّاً . وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن عباس والضحّاك «وإلاَهتك» ومعناه وعبادتك . وعلى هذه القراءة كان يُعْبَد ولا يَعْبُد ، أي ويترك عبادته لك . قال أبو بكر الأنباريّ : فَمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] و { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] نفى أن يكون له رب وإلاهة . فقيل له : ويذرك وإلاهتك؛ بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك . وقراءة العامة «وَآلهِتَكَ» كما تقدّم وهي مبنية على أن فرعون ادعى الرُّبُوبيّة في ظاهر أمره وكان يعلم أنه مَرْبُوب . ودليل هذا قولُه عند حضور الحمام { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } [ يونس : 90 ] فلم يقبل هذا القول منه لما أتى به بعد إغلاق باب التوبة . وكان قبل هذه الحال له إله يعبده سراً دون رب العالمين جل وعز؛ قاله الحسن وغيره . وفي حرف أبَيّ «أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك» . وقيل : والإهتك» قيل : كان يعبد بقرة ، وكان إذا استحسن بقرة أمر بعبادتها ، وقال : أنا ربكم ورب هذه . ولهذا قال : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً } [ طاه : 18 ] . ذكره ابن عباس والسُّدِّي . قال الزجاج : كان له أصنام صغار يعبدها قومُه تقرباً إليه فنُسبت إليه؛ ولهذا قال : «أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى» . قال إسماعيل بن إسحاق : قول فرعون : «أنا ربُّكُم الأعلى» . يدل على أنهم كانوا يعبدون شيئاً غيره . وقد قيل : إن المراد بالإلاهة على قراءة ابن عباس البقرة التي كان يعبدها . وقيل : أرادوا بها الشمس وكانوا يعبدونها . قال الشاعر :
وأعْجَلْنَا الإلاهة أن تَؤُبَا ... ثم آنس قومه فقال : «سَنَقْتُلُ أبْنَاءَهُمْ» بالتخفيف ، قراءة نافع وابن كثير . والباقون بالتشديد على التكثير . { وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ } أي لا تخافوا جانبهم . { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } آنسهم بهذا الكلام . ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه . وعن سعيد بن جُبير قال : كان فرعون قد مُلىء من موسى رُعْباً؛ فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار . ولما بلغ قوم موسى من فرعون هذا قال لهم موسى : { استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ } أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر . { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } أي الجنة لمن اتقى وعاقبة كل شيء . آخره . ولكنها إذا أطلقت فقيل : العاقبة لفلان فُهِم منه في العُرْف الخير .
قوله تعالى : { قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } أي في ابتداء ولادتك بقتل الأبناء واسترقاق النساء . { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي والآن أُعِيد علينا ذلك؛ يعنون الوعيد الذي كان من فرعون . وقيل : الأذى من قبلُ تسخيرهم لبني إسرائيل في أعمالهم إلى نصف النهار ، وإرسالهم بقيته ليكتسبوا لأنفسهم . والأذى من بعدُ : تسخيرُهم جميع النهار كله بلا طعام ولا شراب؛ قاله جُوَيْبر . وقال الحسن : الأذى من قبلُ ومن بعدُ واحد ، وهو أخذ الجزية . { قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض } «عسى» من الله واجب؛ جدّد لهم الوعد وحقّقه . وقد استخلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليهما السلام ، وفَتحُوا بيت المقدس مع يُوشَع بن نون؛ كما تقدّم . ورُوي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى وتبعهم فرعون فكان وراءهم والبحر أمامهم ، فحقّق الله الوعيد بأن غرّق فرعون وقومه وأنجاهم . { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } تقدّم نظائره . أي يرى ذلك العمل الذي يجب به الجزاء؛ لأن الله لا يجازيهم على ما يعلمه منهم ، إنما يجازيهم على ما يقع منهم .
==========
وفي التفسير الوسيط (1):
قوله - تعالى - { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1672)(3/214)
أى : قال الزعماء والوجهاء من قوم فرعون له ، بعد أن أصابتهم الهزيمة والخذلان فى معركة الطغيان والإيمان ، قالوا له على سبيل التهييج والإثارة : أتترك موسى وقومه أحراراً آمنين فى أرضك ، ليفسدوا فيها بإدخال الناس فى دينهم ، أو جعلهم تحت سلطانهم ورياستهم .
روى أنهم قالوا له ذلك بعد أن رأوا عدداً كبيراً من الناس ، قد دخل فى الإيمان متبعاً السحرة الذين قالوا { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } وقوله { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } معناه : أتتركهم أنت يعبدون رب موسى وهارون ، ويتركون عبادتك وعبادة آلهتك ، فيظهر للناس عجزك وعجزها ، فتكون الطامة الكبرى التى بها بفسد ملكك .
قال السدى : إن فرعون كان قد صنع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها ، وسمى نفسه الرب الأعلى .
وقال الحسن إنه كان يعبد الكواكب ويعتقد أنها المربية للعالم السفلى كله ، وهو رب النوع الإنسانى .
وقد قرىء { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } بالنصب والرفع أما النصب فعلى أنه معطوف على { لِيُفْسِدُواْ } وأما الرفع فعلى أنه عطف على { أَتَذَرُ } أو على الاستئناف ، أو على أنه حال بحذف المبتدأ أى : وهو يذرك .
والمتأمل فى هذا الكلام الذى حكاه القرآن عن الملأ من قوم فرعون ، يراه يطفح بأشد ألوان التآمر والتحريض . فهم يخوفونه فقدان الهيبة والسلطان بتحطيم الأوهام التى يستخدمها السلطان ، لذا نراه يرد عليهم بمنطق الطغاة المستكبرين فيقول : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .
أى : لا تخافوا ولا ترتاعوا أيها الملأ فإن قوم موسى أهون من ذلك ، وسننزل بهم ما كنا نفعله معهم من قبل وهو تقتيل الأبناء ، وترك النساء أحياء ، وإنا فوقهم غالبون كما كنا ما تغير شىء من حالنا ، فهم الضعفاء ونحن الأقوياء ، وهم الأذلة ونحن الأعزة .
فأنت ترى أن ما قاله الملأ من قوم فرعون هو منطق حاشية السوء فى كل عهود الطغيان فهم يرون أن الدعوة إلى وحدانية الله إفساد فى الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد . ولأنها هى الدعوة إلى وحدانية الله إفساد فى الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد . ولأنها هى الدعوة إلى وحدانية الله التى ستحرر الناس من ظلمهم وجبرتهم ، وتفتح العيون على النور الذى يخشاه أولئك الفاسقون .
وترى أن ما قاله فرعون هو منطق الطغاة المستكبرين دائماً . فهم يلجأون إلى قوتهم المادية ليحموا بها آثامهم ، وشهواتهم ، وسلطانهم القائم على الظلم ، والبطش ، والمنافع الشخصية .
ويبلغ موسى وقومه هذا التهديد والوعيد من فرعون وملئه فماذا قال موسى - عليه السلام -؟ لقد حكى القرآن عنه أنه لم يحفل بهذا التهديد بل أوصى قومه بالصبر ، ولوح لهم بالنصر .
استمع إلى القرآن وهو يحكى قول موسى - عليه السلام - فيقول :
{ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } .
أى : قال موسى لقومه على سبيل التشجيع والتسلية حين ضجوا وارتعبوا من تهديدات فرعون وملئه : يا قوم استعينوا بالله فى كل أموركم . واصبروا على البلاء ، فهذه الأرض ليست ملكا لفرعون وملئه ، وإنما هى ملك لله رب للعالمين ، وهو - سبحانه - يورثها لمن يشاء من عباده ، وقد جرت سنته - سبحانه - أن يجعل العاقبة الطيبة لمن يخشاه ولا يخشى أحداً سواه .
بهذا الأسلوب المؤثر البليغ ، وبهذه الوصايا الحكيمة ، وصى موسى قومه بنى إسرائيل فماذا كان ردهم عليه؟ لقد كان ردهم يدل على سفاهتهم ، فقد قالوا له : { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أى : قال بنو إسرائيل لموسى رداً على نصيحته لهم : لقد أصابنا الأذى من فرعون قبل أن تأتينا يا موسى بالرسالة ، فقد قتل منا ذلك الجبار الكثير من أبنائنا وأنزل بنا ألواناً من الظلم والاضطهاد وأصابنا الأذى بعد أن جئتنا بالرسالة كما ترى من سوء أحوالنا . واشتغالنا بالأشغال الحقيرة المهينة ، فنحن لم نستفد من رسالتك شيئاً ، فإلى متى نسمع منك تلك النصائح التى لا جدوى من ورائها؟
ومع هذا الرد السفيه من قوم موسى عليه ، نراه يرد عليهم بما يليق به فيقول : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } فرعون الذى فعل بكم ما فعل من أنواع الظلم ، وتوعدكم بما توعد من صنوف الاضطهاد .
{ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض } أى يجعلكم خلفاء فيها من بعد هلاكه هو وشيعته . { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أى : فيرى - سبحانه - الكائن منكم من العمل ، حسنه وقبيحه ، ليجازيكم على حسب أعمالكم ، فإن استخلافكم فى الأرض من بعد هلاك أعدائكم ليس محاباة لكم ، وإنما هو استخلاف للاختبار والامتحان ، فإن أحسنتم زادكم الله من فضله ، وإن أسأتم كان مصيركم كمصير أعدائكم .(3/215)
وفى التعبير " بعسى " الذى يدل على الرجاء ، أدب عظيم من موسى مع ربه - عز وجل - : وتعليم للناس من بعده أن يلتزموا هذا الأدب السامى مع خالقهم ، وفيه كذلك منع لهم من الاتكال وترك العمل ، لأنه لو جزم لهم فى الوعد فقد يتركون السعى والجهاد اعتماداً على ذلك .
وقيل : إن موسى ساق لهم ما وعدهم به فى صيغة الرجاء لئلا يكذبوه ، لضعف نفوسهم بسبب ما طال عليهم من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه ، واستعظامهم لملكه وقوته ، فكأنهم يرون أن ما قاله موسى مستبعد الحصول ، لذا ساقه لهم فى صورة الرجاء .
=============
وقال السيد رحمه الله (1):
إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره ; أو أن له سلطاناً في عالم الأسباب الكونية . إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل ! بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه ; وأنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضى الأمور . وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه , وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره - وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي - كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له - فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك , كما هو ظاهر من قول الملأ له: (ويذرك وآلهتك) وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية . إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم , لا يعصون له أمراً , ولا ينقضون له شرعاً . . وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة . . فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه , وذلك هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود والنصارى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . . . الآية عندما سمعها منه عدي بن حاتم - وكان نصرانياً جاء ليسلم - فقال:يا رسول الله ماعبدوهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ; فاتبعوهم , فذلك عبادتهم إياهم " . . . [ أخرجه الترمذي ] .
أما قول فرعون لقومه: (ما علمت لكم من إله غيري) . . فيفسره قوله الذي حكاه القرآن عنه: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي , أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين . ولا يكاد يبين ? فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ? . . وظاهر أنه كان يوازن بين ما هو فيه من ملك ومن أسورة الذهب التي يحلى بها الملوك , وبين ما فيه موسى من تجرد من السلطان والزينة ! . وما قصد بقوله: (ما علمت لكم من إله غيري) إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء ; والذي يتبعون كلمته بلا معارض ! والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي ! وهي في الواقع ألوهية . فالإله هو الذي يشرع للناس وينفذ حكمه فيهم ! سواء قالها أم لم يقلها ! وعلى ضوء هذا البيان نملك أن نفهم مدلول قول ملأ فرعون:
(أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض , ويذرك وآلهتك ?) . .
فالإفساد في الأرض - من وجهة نظرهم - هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده ; حيث يترتب عليها تلقائياً بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله . إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره - أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه - وإذن فهو - بزعمهم - الإفساد في الأرض , بقلب نظام الحكم , وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر , وإنشاء وضع آخر مخالف تماماً لهذه الأوضاع , الربوبية فيه لله لا للبشر . ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه . .
__________
(1) في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 192)(3/216)
ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة . . بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة ! وهي بنوة ليست حسية ! فلقد كان الناس يعرفون جيداً أن الفرعون مولود من أب وأم بشريين . إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته . فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين . وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون , فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف ; الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح . . وذلك كما يقول الله سبحانه:(فاستخف قومه فأطاعوه . . إنهم كانوا قوماً فاسقين) فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ . . وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه , لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله . . فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت , ولا يمكن أن يطيع له امراً , وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله . . ومن هنا كان يجيء التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى - عليه السلام - إلى (رب العالمين) وإيمان السحرة بهذا الدين , وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين . . ومن هنا يجيء التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده . . أو من شهادة أن لا إله إلا الله . . حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام . لا بمدلولها الباهت الهزيل الذي صار لها في هذه الأيام !
ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون , وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع:
(قال:سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) :
وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل - في إبان مولد موسى - مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه كما يقول الله تعالى في سورة القصص: (إن فرعون علا في الأرض , وجعل أهلها شيعاً , يستضعف طائفة منهم , يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) . .
إنه الطغيان في كل مكان وفي كل زمان . لا فرق بين وسائله اليوم ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام . . !
ويدع السياق فرعون وملأه يتآمرون , ويسدل الستار على مشهد التآمر والوعيد , ليرفعه على مشهد خامس من مشاهد القصة ندرك منه أن فرعون قد مضى ينفذ الوعيد . . إنه مشهد النبي موسى - عليه السلام - مع قومه , يحدثهم بقلب النبي ولغته , ومعرفته بحقيقة ربه ; وبسنته وقدره , فيوصيهم باحتمال الفتنة , والصبر على البلية , والاستعانة بالله عليها . ويعرفهم بحقيقة الواقع الكوني . فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده . والعاقبة لمن يتقون الله ولا يخشون أحداً سواه . . فإذا شكوا إليه أن هذا العذاب الذي يحل بهم قد حل بهم من قبل أن يأتيهم , وهو يحل بهم كذلك بعدما جاءهم , حيث لا تبدو له نهاية , ولا يلوح له آخر ! أعلن لهم رجاءه في ربه أن يهلك عدوهم , ويستخلفهم في الأرض ليبتليهم في أمانة الخلافة:
(قال موسى لقومه:استعينوا بالله واصبروا , إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده , والعاقبة للمتقين . قالوا:أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا . قال:عسى ربكم أن يهلك عدوكم , ويستخلفكم في الأرض , فينظر كيف تعملون) .
إنها رؤية "النبي" لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه . ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه . ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون . .
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد , وهو الملاذ الحصين الأمين , وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين . وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه . وألا يعجلوا , فهم لا يطلعون الغيب , ولا يعلمون الخير . .
وإن الأرض لله . وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها . والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين , إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها . . فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها !
وإن العاقبة للمتقين . . طال الزمن أم قصر . . فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير . ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد , فيحسبونهم باقين . .
إنها رؤية "النبي" لحقائق الوجود الكبير . .
ولكن إسرائيل هي إسرائيل !
(قالوا:أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) :
إنها كلمات ذات ظل ! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم ! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك . وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية !
ويمضي النبي الكريم على نهجه . يذكرهم بالله , ويعلق رجاءهم به , ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم . واستخلافهم في الأرض . مع التحذير من فتنة الاستخلاف .
(قال:عسى ربكم أن يهلك عدوكم , ويستخلفكم في الأرض , فينظر كيف تعملون) .(3/217)
إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة الله , تجري وفق وعده , للصابرين , وللجاحدين ! ويرى من خلال سنة الله هلاك الطاغوت وأهله , واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده . فيدفع قومه دفعاُ إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد . . وهو يعلمهم - منذ البدء - أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم . ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه - كما زعموا - فلا يعذبهم بذنوبهم ! وليس جزافاً بلا غاية . وليس خلوداً بلا توقيت . إنه استخلاف للامتحان: (فينظر كيف تعملون) . . وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون . ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان , ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم .
ويدع السياق موسى وقومه ; ويسدل عليهم الستار , ليرفعه من الجانب الآخر على مشهد سادس:مشهد فرعون وآله , يأخذهم الله بعاقبة الظلم والطغيان ; ويحقق وعد موسى لقومه , ورجاءه في ربه ; ويصدق النذير الذي يظلل جو السورة , وتساق القصة كلها لتصديقه .
ويبدأ المشهد هوناً ; ولكن العاصفة تتمشى فيه شيئاً فشيئاً , فإذا كان قبيل إسدال الستار دمدمت العاصفة , فدمرت كل شيء , وعصفت بكل شيء , وخلا وجه الأرض من الطاغية وذيول الطاغية , وعلمنا أن بني إسرائيل قد صبروا فلقوا جزاء صبرهم الحسنى , وأن فرعون وآله فجروا فلقوا جزاء فجورهم الدمار وصدق وعد الله ووعيده ; وجرت سنة الله في أخذ المكذبين بالهلاك بعد أخذهم بالضراء والسراء:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا:لنا هذه ! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه . ألا إنما طائرهم عند الله , ولكن أكثرهم لا يعلمون . وقالوا:مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . آيات مفصلات . . فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . ولما وقع عليهم الرجز قالوا:يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل . فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ; وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل . . بما صبروا . . ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون . .
لقد مضى فرعون وملؤه إذن في جبروتهم ; ونفذ فرعون وعيده وتهديده , فقتل الرجال واستحيا النساء . ولقد مضى موسى وقومه يحتملون العذاب , ويرجون فرج الله , ويصبرون على الابتلاء . . وعندئذ . . عندما نمحص الموقف:إيمان يقابله الكفر . وطغيان يقابله الصبر . وقوة أرضية تتحدى الله . . عندئذ أخذت القوة الكبرى تتدخل سافرة بين المتجبرين والصابرين:
(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) . .
إنها إشارة التحذير الأولى . . الجدب ونقص الثمرات . . و(السنين) تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط . وهي في أرض مصر , المخصبة المثمرة المعطاء , تبدو ظاهرة تلفت النظر , وتهز القلب , وتثير القلق , وتدعو إلى اليقظة والتفكر ; لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت - بفسقهم عن دين الله - فيطيعونه , لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا ; ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات ; ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده ; ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية . . لأن هذه العلاقة من عالم الغيب . . وهم أغلظ حساً وأجهل قلباً من أن يروا وراء الواقع المحسوس - الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه - شيئاً ! وإذا رأوا شيئاً من عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة ; وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة , التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة .
وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده - حتى وهم يكفرون ويفجرون . كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم ; وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون , كما تصرف حياة الناس ; والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيماناً صحيحاً . . الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى , ولا يمضي عبثاً , إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة . . وهذه هي "العقلية العلمية " الحقيقية . وهي عقلية لا تنكر "غيب الله" لأنه لا تعارض بين "العلمية " الحقيقية و"الغيبية " ; ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة , لأن وراءها الله الفعال لما يريد ; الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض , والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض . .(3/218)
لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله , وبغيهم وظلمهم لعباد الله . . وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات . . في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء , ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون !
لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم . ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقاً طبيعياً لهم ! وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم .
(فإذا جاءتهم الحسنة قالوا:لنا هذه ! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) . .
وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله , فإنها لا ترى يده - سبحانه - في تصريف هذا الوجود ; ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث . وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة . فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة . لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط ; وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة ; لا تلتقي عند قاعدة , ولا تجتمع وفق نظام - وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية "العلمية ! " عن معاكسة "الطبيعة ! " لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات ! وكما يقول الذين يمضون مع هذه "العلمية " المدعاة في تعليل مثل هذه الأحداث . . وهم ينكرون قدر الله . . وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه "مسلم" وهو ينكر أصول الإيمان بالله !
وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث . الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها . والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم , ومن تحت رأسهم !
وأصل "التطير" في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه . . فقد كان الرجل منهم إذا أراد أمرا , جاء إلى عش طائر فهيجه عنه , فإذا طار عن يمينه - وهو السانح - استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده . وإذا طار الطائر عن شماله - وهو البارح - تشاءم به ورجع عما عزم عليه ! فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي ; وأحل محله التفكير "العلمي" - العلمي الصحيح - وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود ; وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها ;وأقام الأمور على أسس "علمية " يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده ; وتوضع في موضعها الصحيح , في إطار المشيئة الإلهية الطليقة , وقدره النافذ المحيط:
(ألا إنما طائرهم عند الله ; ولكن أكثرهم لا يعلمون) . .
إن ما يقع لهم مصدره كله واحد . . إنه من أمر الله . . ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء . . وتصيبهم السيئة للابتلاء: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) . . ويصيبهم النكال للجزاء . . ولكن أكثرهم لا يعلمون . . كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم "العقلية العلمية " ! وكالذين ينسبون إلى الطبيعة المعاكسة باسم "الاشتراكية العلمية " كذلك !!! وكلهم جهال . . وكلهم لا يعلمون !
ويمضي آل فرعون في عتوهم , تأخذهم العزة بالإثم ; ويزيدهم الابتلاء شماساً وعناداُ:
(وقالوا:مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) . .
فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة ; ولا يرده برهان ; ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر , لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان - قطعاً للطريق على البرهان ! - وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق ; وتجبههم البينة , ويطاردهم الدليل . . بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم . . كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل !
عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة:
(فأرسلنا عليهم الطوفان , والجراد , والقمل , والضفادع والدم . . آيات مفصلات . .)
للإنذار والابتلاء . . آيات مفصلات . . واضحة الدلالة , منسقة الخطوات , تتبع الواحدة منها الأخرى , وتصدق اللاحقة منها السابقة .
ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة , التي جاءتهم مفرقة . واحدة واحدة . وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها ; ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها , وإذا رفع عنهم هذا(الرجز) , أي العذاب , الذي لا قبل لهم بدفعه:
(ولما وقع عليهم الرجز قالوا:يا موسى ادع لنا ربك - بما عهد عندك - لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك , ولنرسلن معك بني إسرائيل) . .
وفي كل مرة ينقضون عهدهم , ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم:
(فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون) . .
جمع السياق الآيات كلها , كأنما جاءتهم مرة واحدة . وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة . ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة , وكانت نهايتها واحدة كذلك . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها ; ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك . . ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة ; لايفيد منها شيئاً , ولا يجد فيها عبرة . .(3/219)
فأما كيف وقعت هذه الآيات , فليس لنا وراء النص القرآني شيء . ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها شيئاً . ونحن على طريقتنا في هذه "الظلال" نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع . لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة . وذلك تحرزاًمن الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها ; والتي تسربت - مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها , حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير ; وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة . .
وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس , وعن سعيد بن جبير , وعن قتادة , وعن ابن إسحاق . . رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره . وهذه واحدة منها:
"حدثنا ابن حميد , قال:حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن المغيرة , عن سعيد بن جبير قال:لما أتى موسى فرعون قال له:أرسل معي بني إسرائيل , فأبى عليه , فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئاً , فخافوا أن يكون عذاباً , فقالوا لموسى:ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فلم يؤمنوا , ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ; فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ . فقالوا:هذا ما كنا نتمنى ! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ , فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لايبقي الزرع . فقالوا:يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك , ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فكشف عنهم الجراد , فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ! فداسوا وأحرزوا في البيوت , فقالوا:قد أحرزنا ! فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة . فقالوا:ياموسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل , فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه فكشف عنهم , فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون , إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون:ما تلقى أنت وقومك من هذا ! فقال:وما عسى أن يكون كيد هذا ?! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع , ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه . فقالوا لموسى:ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع , فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فكشف عنهم فلم يؤمنوا . فأرسل الله عليهم الدم , فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار , أو ما كان في أوعيتهم , وجدوه دماً عبيطاً . فشكوا إلى فرعون فقالوا:إنا قد ابتلينا بالدم , وليس لنا شراب ! فقال:إنه قد سحركم ! فقالوا:من أين سحرنا , ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً ? فأتوه فقالوا:يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم , فنؤمن لك , ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه , فكشف عنهم , فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل " .
والله أعلم أي ذلك كان . . والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات . فالله - سبحانه - أرسلها بقدره , في وقت معين , ابتلاء لقوم معينين ; وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون .
ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم ; وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم , يلجأون إلى موسى - عليه السلام - ليدعو ربه بما عهد عنده , ليكشف عنهم البلاء . . وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب . لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر ; وتفزع من ربوبية الله لهم . إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله ! . . أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلط الآفات على زروعهم , فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله البتة ! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات , - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة ! - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء , قال لهم أصحاب "العلمية ! " الكاذبة:هذا الاتجاه خرافة "غيبية ! " وتندروا عليهم وسخروا منهم ! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين !
ثم تجيء الخاتمة - وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء - وتقع الواقعة . ويدمر الله على فرعون وملئه - بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه - ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين , بعد إهلاك الطغاة المتجبرين:
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم , بأنهم كذبوا بآياتنا , وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا , ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه , وما كانوا يعرشون . .(3/220)
والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق , ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور . ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل ; فلا يعرض لشيء من التفصيل . . إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس !
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم . .
ضربة واحدة , فإذا هم هالكون . ومن التعالي والتطاول والاستكبار , إلى الهويّ في الأعماق والأغوار , جزاء وفاقاً:
(بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) . .
فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها , وبين هذا المصير المقدور . ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة , ولا تمضي فلتات عابرة , كما يظن الغافلون !
وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى - صفحة استخلاف المستضعفين - ذلك أن استخلاف بني إسرائيل - في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد - لم يكن في مصر , ولم يكن في مكان فرعون وآله . إنما كان في أرض الشام , وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون - بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى - ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث , ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك السنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه , وما كانوا يعرشون . .
على أننا نحن البشر - الفانين المقيدين بالزمان - إنما نقول "قبل" و"بعد" لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها ! لذلك نقول:إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون , كان متأخراً عن حادث الإغراق . . ذلك إدراكنا البشري . . فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما "قبل" عنده وما "بعد" ?!والصفحة كلها معروضة له سواء , مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان . . ولله المثل الأعلى . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . .
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب ; وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر . . وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون , وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة , وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان , وما كانوا يعرشون من كروم وثمار . . إذا هذا كله حطام , في ومضة عين , أو في بضع كلمات قصار !
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة , المطاردة من الشرك وأهله ; ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته , ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض , فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة - بما صبروا - لينظر كيف يعملون !
=================(3/221)
قصة أصحاب الأخدود
قال تعالى : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) [البروج/1-12] }
قال القرطبي (1):
قوله تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } أي لعن . قال ابن عباس : كل شيء في القرآن «قُتل» فهو لُعِن . وهذا جواب القسم في قول الفرّاء واللام فيه مضمرة ، كقوله : { والشمس وضحاها - ثم قال - قد أفلح من زكاها } [ الشمس : 1-9 ] أي لقد أفلح . وقيل : فيه تقديم وتأخير؛ أي قتل أصحاب الأخدود والسماءِ ذات البُروج؛ قاله أبو حاتم السجستانيّ . ابن الأنباريّ : وهذا غَلَط؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول : والله قام زيد؛ على معنى قام زيد والله . وقال قوم : جواب القسم { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما . وقيل : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } [ البروج : 10 ] . وقيل : جواب القسم محذوف ، أي والسماء ذات البروج لَتُبْعَثُنَّ . وهذا اختيار ابن الأنباريّ . والأخدود : الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق ، وجمعه أخاديد . ومنه الخدّ لمجاري الدموع ، والمخدّة؛ لأن الحدّ يوضع عليها . ويقال : تخدّد وجه الرجل : إذا صارت فيه أخاديد من جراح ، قال طَرَفة :
ووجهٌ كأنّ الشمسَ حلتْ رداءها ... عليه نَقيُّ اللونِ لم يَتَخدّدِ
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 6040)(3/222)
{ النار ذَاتِ الوقود } «النار» بدل من «الأخدود» بدل الاشتمال . و «الوقود» بفتح الواو قراءة العامة ، وهو الحَطَب . وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم ( بضم الواو ) على المصدر؛ أي ذات الاتقاد والالتهاب . وقيل : ذات الوُقود بأبدان الناس . وقرأ أشهب العُقَيلي وأبو السَّمال العدويّ وابن السميقع «النار ذات» بالرفع فيهما؛ أي أحرقتهم النار ذات الوقود . { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } أي الذين خدّدوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين ، وكانوا بنجرانَ في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقد اختلفت الرواة في حديثهم . والمعنى متقارب . ففي صحيح مسلم عن صُهَيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر؛ فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاماً يعلمه؛ فكان في طريقه إذا سَلَك ، راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه ، فأعجبه؛ فكان إذا أتي الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه؛ فإذا أتى الساحر ضربه؛ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحرَ فقل : حبسني أهلي . وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر . فبينما هو كذلك إذ أتي على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة ، حتى يمضي الناس؛ فرماها فقتلها ومضى الناس . فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني؛ أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى؛ فإن ابتليت فلا تدلَّ عليّ . وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص ، ويداوي الناس من سائر الأدواء . فسمع جليس للملك كان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني . فقال : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفِي الله؛ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك؛ فآمن بالله فشفاه الله . فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس؛ فقال له الملك : مَنْ ردّ عليك بصرك؟ قال ربيِّ . قال : ولك رب غيري؟! قال : ربي وربُّك الله . فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دَلَّ على الغلام؛ فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل؟! قال : إنا لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله . فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب؛ فجيء بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك . فأبى فدعا بالمنشار ، فوضع المنشار في مَفْرِق رأسِه فشقه حتى وقع شِقاه . ثم جيء بِجلِيس الملِكِ فقيل له : ارجع عن دينك؛ فأبى فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه ، فشقه به حتى وقع شِقاه . ثم جيء بالغلام فقبَل له : ارجع عن دينك ، فأبي فدفعه إِلى نفرٍ من أصحابه فقال : اذهبوا به إِلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذِروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ فذهبوا به فصعِدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شِئت ، فرجف بهم الجبل ، فسقطوا . وجاء يمشي إلى الملِك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانِيهم الله . فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قُرْقور ، فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه؛ فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت؛ فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا . وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله . فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرُك به . قال : وما هو؟ قال : تجمع الناس في صعيدٍ واحدِ ، وتصلبني على جِذع ، ثم خذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : باسم الله رب الغلام ، ثم ارمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناسَ في صعيد واحد ، وصلبه على جِذْع ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله رب الغلام؛ ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه ، في موضع السهم ، فمات؛ فقال الناس : آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملِك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر؟ قد واللَّهِ نزل بك حَذرك ، قد آمن الناس؛ فأمر بالأخدودٍ في أفواه السِّكك ، فخدّت ، وأضرم النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا؛ حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : «يا أمَّة اصبري فإنِك على الحق» "(3/223)
خرجه الترمذي بمعناه . وفيه : « وكان على طريق الغلام راهب في صومعة » قال معمر : أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين . وفيه : « أن الدابة التي حَبَستِ الناس كانت أَسداً ، وأن الغلام دُفن قال فيذكر أنه أُخرج في زمن عمر ابن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتِل » وقال : حديث حسن غريب . ورواه الضحاك عن ابن عباس قال : كان مَلِك بنَجْران ، وفي رعِيته رجل له فتى ، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر ، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل؛ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب ، فدخل في دين الراهب؛ فأقبل يوماً فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم ، فأخذ حجراً فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما؛ فقتلها . وذكر نحو ما تقدم . وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك : لا إله إلا إله عبد الله بن ثامر؛ وكان اسم الغلام ، فغضب الملك ، وأمر فخُدّت أخاديد ، وجُمع فيها حطب ونار ، وعَرَض أهل مملكته عليها ، فمن رجعِ عن التوحيد تركه ، ومن ثبت على دينه قذفه في النار . وجيء بامرأة مُرْضعِ فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك قال فأشفقت وهمَّت بالرجوع ، فقال لها الصبيّ المُرْضَع : يا أمي ، اثبتي على ما أنت عليه ، فإنما هي غميضة؛ فألقَوها وابنها . وروي أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذِراعاً فأحرقتهم . وقال الضحاك : هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مَبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تُبّع الحميري ، وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً ، وحفر لهم أخدوداً وأحرقهم فيه . حكاه الماورديّ ، وحكى الثعلبيّ عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذُوا رجالاً ونساء ، فخدّوا لهم الأخاديد ، ثم أوقدوا فيها النار ، ثم أقيم المؤمنون عليها . وقيل لهم : تكفرون أو تُقْذَفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه؛ وقاله عَطِية العوفِيّ . ورُوي نحو هذا عن ابن عباس . وقال عليّ رضي الله عنه : إن مِلكاً سُكِر فوقع على أخته ، فأراد أن يجعل ذلك شرعاً في رعِيته فلم يقبلوا ، فأشارت إليه أن يخطُب بأن الله عز وجل أحل نكاح الأخوات ، فلم يُسمع منه . فأشارت إليه أن يخدّ لهم الأخدود ، ويلقي فيه كل من عصاه . ففعل . قال : وبقاياهم ينكِحون الأخوات وهم المَجُوس ، وكانوا أهل كتاب . ورُوي عن عليّ أيضاً أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبياً بعثه الله تعالى إلى الحبشة ، فاتبعه ناس ، فحذّ لهم قومهم أخدوداً ، فمن اتبع النبيّ رمي فيها ، فجيء بامرأة لها بُنَيّ رضيع فجزِعت ، فقال لها : يا أمّاه ، امضي ولا تجزعي .(3/224)
وقال أيوب عن عِكرمة قال : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } قال : كانوا من قومك من السجِستان . وقال الكلبيّ : هم نصارى نجران ، أخَذوا بها قوماً مؤمنين ، فخدّوا لهم سبعة أخاديد ، طول كل أخدود أربعون ذراعاً ، وعرضه اثنا عشر ذراعاً . ثم طرح فيه النفط والحطب ، ثم عرضوهم عليها؛ فمن أبى فذقوه فيها . وقيل : قوم من النصارى كانوا بالقُسْطنطينية زمان قُسْطَنطين . وقال مقاتل : أصحاب الأخدود ثلاثة؛ واحد بنجران ، والآخر بالشام ، والآخر بفارس . أمّا الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي ، وأما الذي بفارس فبختنصر ، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نُواس . فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً ، وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران . وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة ، والآخر بنجران ، آجر أحدهما نفسه ، فجعل يعمل ويقرأ الإِنجيل؛ فرأت ابنة المستأجِر النورَ في قراءة الإنجيل ، فأخبرت أباها فأسلم . وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة ، بعد ما رفع عيسى ، فخدّ لهم يوسف بن ذي نُواس بن تُبَّعٍ الحِميرِيّ أخدوداً ، وأوقد فيه النار؛ وعرضهم على الكفر ، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار ، وقال : من رجع عن دين عيسى لم يقذف . وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم ، فرجعت ، فقال لها ابنها : يا أمّاه ، إني أرى أمامك ناراً لا تُطْفَأ ، فقَذَفا جميعاً أنفسهما في النار ، فجعلها الله وابنها في الجنة . فقُذِف في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً . وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه : كان رجل من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام ، يقال له قيميون ، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة ، وكان سائحاً في القرى ، لا يُعْرَف بقرية إلا مضى عنها ، وكان بَنَّاء يعمل الطين . قال محمد بن كعب القُرَظيّ : وكان أهل نَجْرانَ أهل شرك يعبدون الأصنام ، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر؛ فلما نزل بها قيميون ، بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر ، فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر؛ فبعث إليه الثامرُ عبدَ الله ابن الثامر ، فكان مع غلمان أهل نجران ، وكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته ، فجعل يجلس إليه ويسمع منه ، حتى أسلم ، فوحَّد الله وعبده ، وجعل يسأله عن اسم الله الأعظم ، وكان الراهب يعلمه ، فكتمه إياه وقال : يا بن أخي ، إنك لن تحمله ، أخشى ضعفك عنه؛ وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان . فلما رأى عبد الله أن الراهب قد بخِل عليه بتعليم اسم الله الأعظم ، عمد إلى قِداح فجمعها ، ثم لم يُبق لله تعالى اسما يعلمه إلا كتبه في قِدْح ، لكل اسم قِدْح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً ، ثم جعل يقذفها فيها قِدْحاً قِدْحاً ، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدحه ، فوثب القِدْح حتى خرج منها لم يضرَّه شيء؛ فأخذه ثم قام إلى صاحبه ، فأخبره أنه قد علم اسم الله الأعظم الذي كتمه إِياه؛ فقال : وما هو؟ قال : كذا وكذا .(3/225)
قال : وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع . فقال له : يابن أخي ، قد أصبته ، فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل . فجعل عبد الله ابن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضُرُّ إلا قال : يا عبد الله ، أتوحِّد الله وتدخل في ديني ، فأدعوَ الله لك فيعافِيكَ مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول : نعم؛ فيوحِّد الله ويسلم ، فيدعو الله له فيُشْفَى ، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي؛ حتى رُفِع شأنه إلى ملكهم ، فدعاه فقال له : أفسدت عليّ أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين آبائي ، فلأمثلنّ بك . قال : لا تقدر على ذلك؛ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل ، فيطرح عن رأسه ، فيقع على الأرض ليس به بأس . وجعل يبعث به إلى مياه نجرانَ ، بحار لا يلقَى فيها شي إلا هلك ، فيلقَى فيها فيجرج ليس به بأس؛ فلما غلبه قال له عبد الله ابن الثامر : والله لا تقدر على قتلي حتى توحِّد الله وتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سُلِّطت عليّ وقتلتني . فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته ، ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة ، فقتله ، وهلك الملك مكانَه ، واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحُكْمه . ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث؛ فمن ذلك كان أصل النصرانية بنجران . فسار إليهم ذو نُواس اليهوديّ بجنوده من حِمْير ، فدعاهم إلى اليهودية ، وخيرهم بين ذلك أو القتل ، فاختاروا القتل ، فخدّ لهم الأخدود؛ فحَّرق بالنار وقتل بالسيف ، ومَثَّل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفاً . وقال وهب بن منبه : اثني عشر ألفاً . وقال الكلبيّ : كان أصحاب الأخدود سبعين ألفاً . قال وهب : ثم لما غَلَب أرياط على اليمن خرج ذو نُواس هارباً ، فاقتحم البحر بفرسه فغرِق . قال ابن إسحاق : وذو نُواس هذا اسمه زُرْعة بن تُبّان أسعد الحميريّ ، وكان أيضاً يسمى يوسف ، وكان له غدائر من شعرٍ تَنُوسُ ، أي تضطرب ، فسمى ذا نُواس؛ وكان فعل هذا بأهل نجران ، فأفلت منهم رجل اسمه دَوْسٌ ذو ثَعْلَبان ، فساق الحبشة لينتصر بهم ، فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر؛ ألقى نفسه فيه؛ وفيه يقول عمرو بن معدي كرب :
أَتُوعِدني كأنك ذو رُعَيْنٍ ... بأَنعم عِيشةٍ أو ذو نُواسِ
وكائِنْ كان قبلَك من نَعِيم ... ومُلْكٍ ثابتٍ في الناس راسِ
قديمٍ عهدُه من عهدِ عادٍ ... عظيم قاهرِ الجبروت قاسِ
أزال الدهرُ مُلْكَهم فأضحى ... يُنَقَّل من أناس في أناس
وذو رُعين : ملك من ملوك حمير . ورُعَين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير بن سَبَأ .
مسألة : قال علماؤنا : أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية ، ما كان يلقاه من وَحَّد قبلهم من الشدائد ، يُؤنِّسهم بذلك . وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام ، والمشقات التي كانوا عليها ، ليتأسّوا بمثل هذا الغلام ، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به ، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته ، ودخول الناس في الدين مع صِغر سنه وعظم صبره . وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نُشِر بالمنشار . وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم ، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم . ابن العربي : وهذا منسوخ عندنا ، حَسْب ما تقدم بيانه في سورة «النحل» .
قلت : ليس بمنسوخ عندنا ، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى ، قال الله تعالى مخبراً عن لقمان : { يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } : وروى أبو سعيد الخُدرِيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر " خرجه الترمذيّ وقال : حديث حسن غريب ، ورَوَى ابن سنجر ( محمد بن سنجر ) " عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كنت أوضىء النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجل ، قال : أوصني : فقال : «لا تشرك بالله شيئاً وإن قُطِّعت أو حُرِّقْت بالنار . . . » " الحديث : قال علماؤنا : ولقد امتُحِن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصَّلْب والتعذيب الشديد ، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك : ويكفيك قصة عاصم وخُبيب وأصحابهما وما لَقُوا من الحروب والمِحَن والقتل والأسر والحرق ، وغير ذلك ، وقد مضى في «النحل» أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك ، فتأمله هناك .(3/226)
قوله تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } دعاءٌ على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى : وقيل : معناه الإخبار عن قتل أولئك المؤمنين ، أي إنهم قُتلوا بالنار فصبروا : وقيل : هو إخبار عن أولئك الظالمين ، فإنه رُوِي أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار ، وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود : وقيل : إن المؤمنين نَجَوا ، وأحرقت النار الذين قعدوا ، ذكره النحاس ، ومعنى «عليها» أي عندها وعلى بمعنى عند : وقيل : «عليها» على ما يدنو منها منها من حافات الأخدود ، كما قال :
وباتَ على النارِ النَّدى والمحلَّقُ ... العامل في { إِذْ } ، { قُتِلَ } أي لعنوا في ذلك الوقت : { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } أي حضور : يعني الكفار ، كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين ، فمن أبى ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة ثم بالجد في ذلك : وقيل : «على» بمعنى مع ، أي وهم : مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود .
قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } وقرأ أبو حَيْوة «نقِموا» بالكسر ، والفصيح هو الفتح ، وقد مضى في «براءة» القول فيه : أي ما نَقَم الملِك وأصحابه من الذين حَرَّقهم : { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } أي إلا أن يصدّقوا : { بالله العزيز } أي الغالب المنيع : { الحميد } أي المحمود في كل حال . { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } لا شريك له فيهما ولا نديد { والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي عالم بأعمال خلقه لا تخفى عليه خافية .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } أي حَرَّقوهم بالنار . والعرب تقول : فَتن فلانٌ الدرهمَ والدينارَ ، إذا أدخله الكور ، لينظر جودته . ودينار مفتون . ويسمى الصائغ الفتان ، وكذلك الشيطان ، وورِق فتين ، أي فضة محترقة . ويقال للحَرّة فتين ، أي كأنها أحرقت حجارتها بالنار ، وذلك لسوادها . { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } أي من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الآيات والبينات على يد الغلام . { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } لكفرهم . { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار . وقد تقدم عن ابن عباس . وقيل : «ولهم عذاب الحريق» أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين . وقيل : لهم عذاب ، وعذاب جهنم الحريق . والحريق : اسم من أسماء جهنم؛ كالسَّعير . والنار دركات وأنواع ولها أسماء . وكأنهم يعذبون بالزمهرير في جهنم ، ثم يعذّبون بعذاب الحريق . فالأول عذاب ببردها ، والثاني عذاب بحرها { إِنَّ الذين آمَنُواْ } أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله؛ أي صدقوا به وبرسله . { وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي } أي بساتين . { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } من ماء غير آسن ، ومن لبن لم يتغير طعمه ، ومن خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفَّى . { ذَلِكَ الفوز الكبير } أي العظيم ، الذي لا فوز يشبهه .
============
وقال الألوسي (1):
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 22 / ص 315)(3/227)
{ والسماء ذَاتِ البروج } أي القصور كما قال ابن عباس وغيره والمراد بها عند جمع البروج الإثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضاً وبروج والسماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة تتبعها مكنية وقيل شبه السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة ثمانية وعشرين منزلاً وقد تقدم الكلام فيها وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة هي النجوم وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثاً مرفوعاً بلفظ الكواكب بدل النجوم والله تعالى أعلم بصحته وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال هي النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجاً لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلف الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم وقيل هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازاً في الطرف وقيل في النسبة والبروج الإثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس وزعموا أنه العرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حساً دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلاً ليس إلا جزءاً من اثني عشر جزءاً من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم وبرج الثور ليس إلا جزءاً من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضاً وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا فعلى هذا وكون المراد بالروج البروج ازثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه ولذا يسمى فلك البروج وقيل السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السموات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهراً وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبواباً هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعاً ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين من الفلاسفة أفلاكاً تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روى في الشرع زعم أن سبعة منها هي السموات السبع والإثنين الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال البروج هي المنازل للكواكب مطلقاً التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل .
{ واليوم الموعود } أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين وقيل لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه { يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } [ المعارج : 43 ، 44 ] أو يوم طيء السماء كطيء السجل للكتب وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإسراء : 79 ] ولا يخفى أن جميع ذلك داخل في يوم القيامة .(3/228)
{ وشاهد وَمَشْهُودٍ } أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال والعجائب فيكون الله عز وجل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيماً لذلك اليوم وإرهاباً لمنكريه وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كما قيل في { علمت نفس ما أحضرت } [ التكوير : 14 ] وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعاً الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وروى ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً أيضاً وأخرج جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعاً أيضاً الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلاً سأل عن ذلك فقال هل سألت أحداً قبلي قال نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة قال لا ولكن الشاهد محمد وفي رواية جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] والمشهود يوم القيامة ثم قرأ { ذلك يوم مجموع له الناس } [ هود : 103 ] وذلك يوم مشهود وروى النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه الشاهد الله عز وجل والمشهود يوم القيامة وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته عليه الصلاة والسلام وعنه أيضاً هما الأنبياء عليهم السلام وأممهم وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الإثنين ويوم الجمعة وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم السلام وقرآن الفجر وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم والمشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلا ينادي أنى يوم جديد وأنى على ما يعمل في شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى اليوم القيامة وقيل أمة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم وجوز أن يراد بها المقربون والعليون لقوله تعالى : { كتاب مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون }
[ المطففين : 20 ، 21 ] وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك وقيل وقيل وجميع الأقوال في ذلك ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولاً والوصف على بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصم أو له شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا سعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج وأما شهادة اليوم فيمكن أن تكون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الساحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك وقال الشهاب الله تعالى قادر على أن يحضر الموت ليشهد ولم يبين كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئاً آخر بإن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو وإن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفاً عن الحسن إن كان بلسان القال أيضاً دون لسان الحال كا هو الأرجح عندي واختار أبو حيان من الأقوال على تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وأن المشهود من يشهد عليه فيه وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بإن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وإن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل وجواب القسم قيل هو قوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } [ البروج : 10 ] وقال المبرد هو قوله تعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى : { قُتِلَ أصحاب الاخدود } على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله
: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما ان من حديث ولا صالي(3/229)
وقيل على حذف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما اشتهر من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام وقد ولا يجوز الاقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام كما في قوله سبحانه قد أفلح من زكاها بعد قوله سبحانه : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } [ الشمس : 9 ] بعد قوله تعالى : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] الخ والبيت المذكور ولا يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد منها وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأياً ما كان فالجملة خبرية وقال بعض المحققين إن الأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش لملعونون أحقاء بأن يقال فيهم قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الايمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من التعذيب لأهل الايمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله عز وجل في كونهم ملعونين مطرودين فالقتل هنا عبارة عن أشد اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فاريد لازمه من السخط والطرد عن رحمته جل وعلا وقال بعضهم الأظهر أن يقدر أنهم لمقتولون كما قتل أصحاب الأخدود فيكون وعداً له صلى الله عليه وسلم بقتل الكفرة المتمردين لإعلاء دينه ويكون معجزة بقتل رؤسهم في غزوة بدر انتهى وظاهره إبقاء القتل على حقيقته واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكى في البحر أن الجواب محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائمه أي قوائم فرسه في أخاقيق جرذان .(3/230)
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه كان ملك من الملوك وكان ذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن انظروا إلى غلاماً فهماً فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه فنظروا له غلاماً على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعه فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله تعالى فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطىء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قال لك الكاهن أي كنت فقل عند أهلي وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم إنك كنت عند الكاهن فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسداً فأخذ الغلام حجراً فقال اللهم إن كان ما يقول الراهب حقاً فاسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقاً فأسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس من قتلها فقالوا الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد فسمع أعمى فجاءه فقال له إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك قال نعم فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى فقال الغلام للملك إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول بسم الله رب الغلام فأمر به فصلب ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات فقال الناس لقد علم هذا الغلام علماً ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك أجزعت إن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخذ أخدوداً ثم ألقى فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار فجعل يلقيهم في تلك الأخدود فقال يقول الله تعالى قتل أصحاب الأخدود حتى بلغ { العزيز الحميد } [ البروج : 8 ] وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي يا أمه اصبري فإنك على الحق وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجى قال شهدت علياً كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه اسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة فقال علي كرم الله تعالى وجهه أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك } [ غافر : 78 ] ومنهم من لم نقصص عليك فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فأنس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا وأخذ فأوثق فخددوا أخدوداً وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمى به فيها ومن تابعهم ترك وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي لها فجزعت فقال الصبي يا أمه اصبري ولا تماري فوقعت واخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت المخرج منه أن تخطب الناس فتقول أيها الناس إن الله أحل نكاح الأخوات أو البنات فقال الناس جمعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاءه به نبي أو نزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته وقال ويحك إن الناس قد أبوا على ذلك قالت إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا قالت فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا قالت فخذ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فخذ لهم أخدوداً وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه وقيل وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد وقيل سبعين ألفاً وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه اثني عشر ذراعاً ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجي السابق وأخرج عبد بن(3/231)
حميد وابن ا لمنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكى فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة ومنها أنهم من النبط وروى عن عكرمة ومنها أنهم من بني إسرائيل وروى عن ابن عباس وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن فقد قال عصام الدين لعل جميع ما روى واقع والقرآن شامل له فلا تغفل وقرأ الحسن وابن مقسم قتل بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلى الله عليه وسلم على ما أرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء .
{ النار } بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك وقرأ قوم النار بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال } [ النور : 36 ، 37 ] رجال على قراءة يسبح بالبناء للمفعول وقوله :
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحق من الله تعالى بعث على المؤمنين ريحاً فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي الأخدود وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه وإن حمل القتل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة أن النار خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعاً على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار { ذَاتِ الوقود } وصف لها بغاية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم وذو النون يأباه وكذا ذو العرض وقرأ الحسن وأبو بجار وأبو حيوة وعيسى الوقود بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به . وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه وقوله تعالى : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى :
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه والجمهور على أن المراد ذلك من غير تقدير . { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحداً لم يقصر فيما أمر به أو يشهدون عنده على ما حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح على ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم وقيل علي بمعنى مع والمعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لغاية قسوة قلوبهم ومن زعمم أن الله تعالى نجى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود وأياً ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بالمؤمنين والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضميرهم على ما يفعلون لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات .
{ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } أي ما أنكروا منهم وما عابوا وفي مفردات الراغب يقال نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وما نقموا بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب(3/232)
وكون الكفرة يرون الايمان أمراً منكراً والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز وجل جارياً على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هم الايمان بالله تعالى بل نفى ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحاً عما سمعت فتأمل ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه وفي المنتخب إنما قال سبحانه إلا أن يؤمنوا لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الايمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قال عز وجل إلا أن يدوموا على ايمانهم انتهى وكأنه حمل النقم على الانكار بالعقوبة ووصفه عز وجل بكونه عزيزاً غالباً يخشى عقابه وحميداً منعماً يرجى ثوابه وتأكيد ذلك بقوله سبحانه : { الذى لَهُ مُلْكُ * السموات والارض } للإشعار بمناط إيمانهم وقوله تعالى : { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلاً لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير .
{ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين أما أصحاب الأخدود والمطرحون فيه خاصة وأما الأعم ويدخل المذكورون دخولاً أولياً وهو الأظهر وقيل المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } قال ابن عطية يقوى أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتواعلى كفرهم وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من ماب وآمن وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } أي بسبب فتنهم ذلك { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبىء عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم وقال بعض الأجلة أي فلهم عذاب جهنم بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر ولهم عذاب الحريق بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصلح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما سببين في جانب الخبر على الترتيب وقيل أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روى عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاتله وتعقبه أبو حيان بأن ثم لم يتوبوا بأبي عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحداً منهم تاب بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر وعليه إنما أخر ولهم عذاب الحريق ورعاية للفواصل أو للتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضاً لا يتجاوزونه وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد ووصف بما يدل على أنه للمعبودين جداً عن رحمته عز وجل وعلى أنه عذاب هو محض الحريض وهو الحرق البالغ وكفى به عذاباً والظاهر أنه اعتبر الحريق مصدراً والإضافة بيانية ولا بأس بذلك إلا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف وقال بعضهم لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل وجملة فلهم عذاب الخ وقعت خبراً لأن أو الخبر الجار والمجرور وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدا من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش واستدل بالآية على بعض أجوهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } على الإطلاق من المفتونين وغيهرم { لَهُمْ } بسبب ما ذكر من الايمان والعمل الصالح { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وفصل الجملة قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا { *ذَلِكع } إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيها من معنى البعد للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره { ذَلِكَ الفوز الكبير } الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله .
===============(3/233)
وقال الرازي (1):
اعلم أنه لا بد للقسم من جواب ، واختلفوا فيه على وجوه أحدها : ما ذكره الأخفش وهو أن جواب القسم قوله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } واللام مضمرة فيه ، كما قال : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } [ الشمس : 9 ] يريد . لقد أفلح ، قال : وإن شئت على التقديم كأنه قيل : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج وثانيها : ما ذكره الزجاج ، وهو أن جواب القسم : { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] وهو قول ابن مسعود وقتادة وثالثها : أن جواب القسم قوله : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } [ البروج : 10 ] الآية كما تقول : والله إن زيداً لقائم ، إلا أنه اعترض بين القسم وجوابه ، قوله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } إلى قوله : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } [ البروج : 10 ] ورابعها : ما ذكره جماعة من المتقدمين أن جواب القسم محذوف ، وهذا اختيار صاحب «الكشاف» إلا أن المتقدمين ، قالوا : ذلك المحذوف هو أن الأمر حق في الجزاء على الأعمال وقال صاحب «الكشاف» : جواب القسم هو الذي يدل عليه قوله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء ، أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ، ويعلموا أن كفار مكة عند الله بمنزلة أولئك الذين كانوا في الأمم السالفة يحرقون أهل الإيمان بالنار ، وأحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش كما : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } أما قوله تعالى : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا قصة أصحاب الأخدود على طرق متباينة ونحن نذكر منها ثلاثة :
أحدها : أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضم إليه غلام ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً ، وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتلها بواسطة رمي الحجر إليها ، ثم رمى فقتلها ، فصار ذلك سبباً لإعراض الغلام عن السحر واشتغاله بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء ، فاتفق أن عمي جليس للملك فأبرأه فلما رآه الملك قال : من رد عليك نظرك؟ فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فأحضر الراهب وزجره عن دينه فلم يقبل الراهب قوله فقد بالمنشار ، ثم أتوا بالغلام إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا الله ، فرجف بالقوم فهلكوا ونجا ، فذهبوا به إلى سفينة لججوا بها ليغرقوه ، فدعا الله فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي ، وتقول : بسم الله رب الغلام ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام .
فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيران ، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق ، فصبرت على ذلك .
الرواية الثانية : روي عن علي عليه السلام أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها بعض ملوكها فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : إن الله تعالى قد أحل نكاح الأخوات ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : بعد ذلك حرمه ، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له : أبسط فيهم السوط فلم يقبلوا ، فقالت : أبسط فيهم السيف فلم يقبلوا ، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أتى فيها الذين أرادهم الله بقوله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 16 / ص 437)(3/234)
الرواية الثالثة : أنه وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فصار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا ، فأحرق منهم إثني عشر ألفاً في الأخاديد ، وقيل سبعين ألفاً ، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه إثنا عشر ذراعاً ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء » فإن قيل : تعارض هذه الروايات يدل على كذبها ، قلنا : لا تعارض فقيل : إن هذا كان في ثلاث طوائف ثلاث مرات مرة باليمن ، ومرة بالعراق ، ومرة بالشام ، ولفظ الأخدود ، وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع وهو كثير من القرآن ، وقال القفال : ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكاً كافراً كان حاكماً عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم ، ثم قال : وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيهاً لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنين على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال .
المسألة الثانية : الأخدود : الشق في الأرض يحفر مستطيلاً وجمعه الأخاديد ومصدره الخد وهو الشق يقال : خد في الأرض خداً وتخدد لحمه إذا صار طرائق كالشقوق .
المسألة الثالثة : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين ، والرواية المشهورة أن المقتولين هم المؤمنون ، وروي أيضاً أن المقتولين هم الجبابرة لأنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم ونجى الله المؤمنين منها سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواقدي وتأولوا قوله : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } [ البروج : 10 ] أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا . إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذكروا في تفسير قوله تعالى : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } وجوهاً ثلاثة وذلك لأنا إما أن نفسر أصحاب الأخدود بالقاتلين أو بالمقتولين . أما على الوجه الأول ففيه تفسيران أحدهما : أن يكون هذا دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود ، ونظيره قوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] { قُتِلَ الخراصون } [ الذاريات : 10 ] والثاني : أن يكون المراد أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على ما ذكرنا أن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم ، وأما إذا فسرنا ، أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن أولئك المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار ، فيكون ذلك خبراً لا دعاء .
المسألة الرابعة : قرىء قتل بالتشديد . أما قوله تعالى : { النار ذَاتِ الوقود } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : النار إنما تكون عظيمة إذا كان هناك شيء يحترق بها إما حطب أو غيره ، فالوقود اسم لذلك الشيء لقوله تعالى : { وَقُودُهَا النار والحجارة } [ البقرة : 24 ] وفي : { ذَاتِ الوقود } تعظيم أمر ما كان في ذلك الأخدود من الحطب الكثير .
المسألة الثانية : قال أبو علي : هذا بدل الاشتمال كقولك : سلب زيد ثوبه فإن الأخدود مشتمل على النار .
المسألة الثالثة : قرىء الوقود بالضم ، أما قوله تعالى : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : العامل في إذ قتل والمعنى لعنوا في ذلك الوقت الذي هم فيه قعود عند الأخدود يعذبون المؤمنين .
المسألة الثانية : في الآية إشكال وهو أن قوله : { هُمْ } ضمير عائد إلى أصحاب الأخدود ، لأن ذلك أقرب المذكورات والضمير في قوله : { عَلَيْهَا } عائد إلى النار فهذا يقتضي أن أصحاب الأخدود كانوا قاعدين على النار ، ومعلوم أنه لم يكن الأمر كذلك والجواب : من وجوه أحدها : أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود ، لكن المراد ههنا من أصحاب الأخدود المقتولون لا القاتلون فيكون المعنى إذ المؤمنين قعود على النار يحترقون مطرحون على النار وثانيها : أن يجعل الضمير في { عَلَيْهَا } عائد إلى طرف النار وشفيرها والمواضع التي يمكن الجلوس فيها ، ولفظ ، على مشعر بذلك تقول مررت عليها تريد مستعلياً بمكان يقرب منه ، فالقائلون كانوا جالسين فيها وكانوا يعرضون المؤمنين على النار ، فمن كان يترك دينه تركوه ومن كان يصبر على دينه ألقوه في النار وثالثها : هب أنا سلمنا أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود بمعنى القاتلين ، والضمير في عليها عائد إلى النار ، فلم لا يجوز أن يقال : إن أولئك القاتلين كانوا قاعدين على النار ، فإنا بينا أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار ارتفعت النار إليهم فهلكوا بنفس ما فعلوه بأيديهم لأجل إهلاك غيرهم ، فكانت الآية دالة على أنهم في تلك الحالة كانوا ملعونين أيضاً ، ويكون المعنى أنهم خسروا الدنيا والآخرة ورابعها : أن تكون على بمعنى عند ، كما قيل في قوله : { وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ } [ الشعراء : 14 ] أي عندي .(3/235)
أما قوله تعالى : { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } فاعلم أن قوله : { شُهُودٌ } يحتمل أن يكون المراد منه حضور ، ويحتمل أن يكون المراد منه الشهود الذين تثبت الدعوى بشهادتهم ، أما على الوجه الأول ، فالمعنى إن أولئك الجبابرة القاتلين كانوا حاضرين عند ذلك العمل يشاهدون ذلك فيكون الغرض من ذكر ذلك أحد أمور ثلاثة : إما وصفهم بقسوة القلب إذ كانوا عند التعذيب بالنار حاضرين مشاهدين له ، وأما وصفهم بالجد في تقرير كفرهم وباطلهم حيث حضروا في تلك المواطن المنفرة والأفعال الموحشة ، وأما وصف أولئك المؤمنين المقتولين بالجد دينهم والإصرار على حقهم ، فإن الكفار إنما حضروا في ذلك الموضع طمعاً في أن هؤلاء المؤمنين إذا نظروا إليهم هابوا حضورهم واحتشموا من مخالفتهم ، ثم إن أولئك المؤمنين لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين على دينهم الحق ، فإن قلت المراد من الشهود إن كان هذا المعنى ، فكان يجب أن يقال : وهم لما يفعلون شهود ولا يقال : وهم على ما يفعلون شهود؟ قلنا : إنما ذكر لفظة على بمعنى أنهم على قبح فعلهم بهؤلاء المؤمنين ، وهو إحراقهم بالنار كانوا حاضرين مشاهدين لتلك الأفعال القبيحة .
أما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد من الشهود الشهادة التي تثبت الدعوى بها ففيه وجوه أحدها : أنهم جعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به ، وفوض إليه من التعذيب وثانيها : أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين يؤدون شهادتهم يوم القيامة : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] ، وثالثها : أن هؤلاء الكفار مشاهدون لما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حتى لو كان ذلك من غيرهم لكانوا شهوداً عليه ، ثم مع هذا لم تأخذهم بهم رأفة ، ولا حصل في قلوبهم ميل ولا شفقة .
المعنى وما عابوا منهم وما أنكروا الإيمان ، كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ونظيره قوله تعالى : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بالله } [ المائدة : 59 ] وإنما قال : { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قيل : إلا أن يدوموا على إيمانهم ، وقرأ أبو حيوة : { نَقَمُواْ } بالكسر ، والفصيح هو الفتح ، ثم إنه ذكر الأوصاف التي بها يستحق الإله أن يؤمن به ويعبد فأولها : العزيز وهو القادر الذي لا يغلب ، والقاهر الذي لا يدفع ، وبالجملة فهو إشارة إلى القدرة التامة وثانيها : الحميد وهو الذي يستحق الحمد والثناء على ألسنة عباده المؤمنين وإن كان بعض الأشياء لا يحمده بلسانه فنفسه شاهدة على أن المحمود في الحقيقة هو هو ، كما قال : { وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] وذلك إشارة إلى العلم لأن من لا يكون عالماً بعواقب الأشياء لا يمكنه أن يفعل الأفعال الحميدة ، فالحميد يدل على العلم التام من هذا الوجه وثالثها : الذي له ملك السموات والأرض وهو مالكها والقيم بهما ولو شاء لأفناهما ، وهو إشارة إلى الملك التام وإنما أخر هذه الصفة عن الأولين لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة والعلم ، فثبت أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان هو المستحق للإيمان به وغيره لا يستحق ذلك ألبتة ، فكيف حكم أولئك الكفار الجهال يكون مثل هذا الإيمان ذنباً .
واعلم أنه تعالى أشار بقوله : { العزيز } إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين ، ولأطفأ نيرانهم ولأماتهم وأشار بقوله : { الحميد } إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل ، فإنه تعالى يوصل ثواب أولئك المؤمنين إليهم ، وعقاب أولئك الكفرة إليهم ، ولكنه تعالى لم يعالجهم بذلك لأنه لم يفعل إلا على حسب المشيئة أو المصلحة على سبيل التفضل ، فلهذا السبب قال : { والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فهو وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين .
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الأخدود ، أتبعها بما يتفرع عليها من أحكام الثواب والعقاب فقال : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : يحتمل أن يكون المراد منه أصحاب الأخدود فقط ، ويحتمل أن يكون المراد كل من فعل ذلك وهذا أولى لأن اللفظ عام والحكم عام فالتخصيص ترك للظاهر من غير دليل .
المسألة الثانية : أصل الفتنة الابتلاء والامتحان ، وذلك لأن أولئك الكفار امتحنوا أولئك المؤمنين وعرضوهم على النار وأحرقوهم ، وقال بعض المفسرين الفتنة هي الإحراق بالنار وقال ابن عباس ومقاتل : { فَتَنُواْ المؤمنين } حرقوهم بالنار ، قال الزجاج : يقال فتنت الشيء أحرقته والفتن أحجار سود كأنها محترقة ، ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] .(3/236)
المسألة الثالثة : قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } يدل على أنهم لو تابوا لخرجوا عن هذا الوعيد وذلك يدل على القطع بأن الله تعالى يقبل التوبة ، ويدل على أن توبة القاتل عمداً مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس .
المسألة الرابعة : في قوله : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } قولان :
الأول : أن كلا العذابين يحصلان في الآخرة ، إلا أن عذاب جهنم وهو العذاب الحاصل بسبب كفرهم ، وعذاب الحريق هو العذاب الزائد على عذاب الكفر بسبب أنهم أحرقوا المؤمنين ، فيحتمل أن يكون العذاب الأول عذاب برد والثاني عذاب إحراق وأن يكون الأول عذاب إحراق والزائد على الإحراق أيضاً إحراق ، إلا أن العذاب الأول كأنه خرج عن أن يسمى إحراقاً بالنسبة إلى الثاني ، لأن الثاني قد اجتمع فيه نوعا الإحراق فتكامل جداً فكان الأول ضعيفاً ، فلا جرم لم يسم إحراقاً .
القول الثاني : أن قوله : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } إشارة إلى عذاب الآخرة : { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } إشارة إلى ما ذكرنا أن أولئك الكفار ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها .
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المجرمين ذكر وعد المؤمنين وهو ظاهر وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما قال : { ذلك الفوز } ولم يقل تلك الدقيقة لطيفة وهي أن قوله : { ذلك } إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول هذه الجنات ، وقوله : تلك إشارة إلى الجنات وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً والفوز الكبير هو رضا الله لا حصول الجنة .
المسألة الثانية : قصة أصحاب الأخدود ولا سيما هذه الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى له أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك روى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : تشهد أني رسول الله فقال : نعم فتركه ، وقال للآخر مثله فقال : لا بل أنت كذاب فقتله فقال عليه السلام : « أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، وأما الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئاً له » .
=============
وفي التفسير الوسيط (1):
قال القرطبى : قوله : { والسمآء ذَاتِ البروج } : قسم أقسم الله - عز وجل - به . وفى البروج أربعة أقوال : أحدها : ذات النجوم . والثانى : ذات القصور . . الثالث : ذات الخَلْق الحسن . الرابع : ذات المنازل . . وهى اثنا عشر منزلا . .
وقوله : { واليوم الموعود } المقصود به : يوم القيامة ، لأن الله - تعالى - وعد الخلق به ، ليجازى فيه الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
وقوله : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قسم ثالث ببعض مخلوقاته - تعالى - . والشاهد اسم فاعل من المشاهدة بمعنى الرؤية ، فالشاهد هو الرائى ، أو المشهود عليه بأنه حق .
فالمراد بالشاهد : من يحضر ذلك اليوم من الخلائق المبعوثين ، وما يراه فيه من عجائب وأهوال ، من المشاهدة بمعنى الرؤية والحضور ، أو من يشهد فى ذلك اليوم على غيره ، من الشهادة على الخصم .
وقد ذكر المفسرون فى معنى هذين اللفظين ، ما يقرب من عشرين وجها .
قال صاحب الكشاف وقوله : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } يعنى : وشاهد فى ذلك اليوم ومشهود فيه . والمراد بالشاهد : من يشهد فيه من الخلائق كلهم . وبالمشهود : ما فى ذلك اليوم من عجائبه . ثم قال : وقد اضطربت أقوال المفسرين فيما ، فقيل : الشاهد والمشهود : محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة . وقيل : عيسى وأمته . وقيل : أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم . وقيل : يوم التروية ويوم عرفة . وقيل : يوم عرفة ويوم الجمعة . وقيل : الحجر الأسود ، والحجيج . وقيل : الأيام والليالى . وقيل : الحفظة وبنو آدم . .
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال والصواب : أن المراد بالشاهد هنا : الحاضر فى ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة ، والرائى لأهواله وعجائبه .
وأن المراد بالمشهود : ما يشاهد فى ذلك اليوم من أحوال يشيب لها الولدان .
وقال - سبحانه - { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } بالتنكير ، لتهويل أمرهما ، وتفخيم شأنهما .
وقوله - تعالى - { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } جواب القسم بتقدير اللام وقد .
أى : وحق السماء ذات البروج ، وحق اليوم الموعود ، وحق الشاهد والمشهود ، لقد قتل ولعن أصحاب الأخدود ، وطردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وبغيهم .
والأخدود : وهو الحفرة العظيمة المستطيلة فى الأرض ، كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجارى الدمع ، والمخدة : لأن الخد يوضع عليها .
ويقال : تخدد وجه الرجل ، إذا صارت فيه التجاعيد . . ومنه قول الشاعر :
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها ... عليه ، نقى اللون لم يتخدد
وقيل : إن جواب القسم محذوف ، دل عليه قوله - تعالى - : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة لملعونون كما لعن أصحاب الأخدود .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4476)(3/237)
وأصحاب الأخدود : هم قوم من الكفار السابقين ، حفروا حفرا مستطيلة فى الأرض ، ثم أضرموها بالنار ، ثم ألقوا فيها المؤمنين ، الذين خالفوهم فى كفرهم ، وأبوا إلا إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
وقوله - سبحانه - : { النار ذَاتِ الوقود } بدل اشتمال مما قبله وهو الأخدود .
والوقود : اسم لما توقد به النار كالحطب ونحوه . وذات الوقود : صفة للنار .
أى : قتل وطرد من رحمة الله أصحاب الأخدود ، الذين أشعلوا فيه النيران ذات اللهب الشديد ، لكى يلقوا المؤمنين فيها .
والظرف فى قوله - تعالى - { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } متعلق بقوله - تعالى - : { قتل } أى : لعنوا وطردوا من رحمة الله ، حين قعدوا على الأخدود ، ليشرفوا على من يعذبونهم من المؤمنين .
فالضمير " هم " يعود على أولئك الطغاة الذين كانوا يعذبون المؤمنين ويجلسون على حافات الأخدود ليروهم وهم وهم يحرقون بالنار ، أو ليأمروا أتباعهم وزبانيتهم بالجد فى التعذيب حتى لا يتهاونوا فى ذلك .
و { على } للاستعلاء المجازى : إذ من المعلوم أنهم لا يقعدون فوق النار ، وإنما هم يقعدون حولها ، لإِلقاء المؤمنين فيها .
وجملة { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } فى موضع الحال من الضمير فى قوله : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } . أى : أن هؤلاء الطغاة الظالمين ، لم يكتفوا بإشعال النار ، والقعود حولها وهم يعذبون المؤمنين ، بل أضافوا إلى ذلك ، أنهم يشهدون تعذيبهم ، ويرونه بأعينهم على سبيل التشفى منهم ، فقوله { شهود } بمعنى حضور ، أو بمعنى يشهد بعضهم لبعض أمام ملكهم الظالم ، بأنهم ما قصروا فى تعذيب المؤمنين ، وهذا الفعل منهم . يدل على نهاية القسوة والظلم ، وعلى خلو قلوبهم من أى رحمة أو شفقة .
قال الآلوسى : وقوله : { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } أى : يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به ، أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون . . أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة ، أو يشهدون على أنفسهم بذلك ، كما قال - تعالى - : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) .
وقيل : " على " بمعنى مع . أى : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور ، لا يرقون لهم ، لغاية قسوة قلوبهم . .
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى حملت هؤلاء الطغاة على إحراق المؤمنين فقال : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد . الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
والنقمة هنا بمعنى الإِنكار والكراهية . يقال : نقَم فلان هذا الشئ ، - من باب ضرب - إذا كرهه وأنكره .
أى : أن هؤلاء الكافرين ما كرهوا المؤمنين ، وما أنزلوا بهم ما أنزلوا من عذاب ، إلا لشئ واحد ، وهو أن المؤمنين أخلصوا عبادتهم لله - تعالى - صاحب العزة التامة ، والحمد المطلق ، والذى له ملك جميع ما فى السموات والأرض ، وهو - سبحانه - على كل شئ شهيد ورقيب ، لا يخفى عليه أمر من أمور عباده ، أو حال من أحوالهم .
فالمقصود من هاتين الآيتين الكريمتين ، التعجيب من حال هؤلاء المجرمين ، حيث عذبوا المؤمنين ، لا لشئ إلا من أجل إيمانهم بخالقهم ، وكأن الإِيمان فى نظرهم جريمة تستحق الإِحراق بالنار .
وهكذا النفوس عندما يستحوذ عليها الشيطان ، تتحول الحسنات فى نظرها إلى سيئات وقديما قال المنكوسون من قوم لوط - عليه السلام - { أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } والاستثناء فى قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله . . . } استثناء مفصح عن براءة المؤمنين مما يعاب وينكر ، فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كما فى قول القائل :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قال الإِمام ابن كثير : وقد اختلفوا فى أهل هذه القصة من هم؟ فعن على ابن أبى طالب : أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل زواج المحارم ، فامتنع عليه علماؤهم ، فعمد إلى حفر أخدود ، فقذف فيه من أنكر عليه منهم .
وعنه أنهم كانوا قوما من اليمن ، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم ، فتغلب مؤمنوهم على كفارهم ، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين ، فخذا لهم الأخاديد ، وأحرقوهم فيها .
ثم ذكر - رحمه الله - بعد ذلك جملة من الآثار فى هذا المعنى فارجع إليها إن شئت .
وعلى أية حال فالمقصود بهذه الآيات الكريمة ، تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإِيمان وتسليتهم عما أصابهم من أعدائهم ، وإعلامهم بأن ما نزل بهم من أذى ، قد نزل ما هو أكبر منه بالمؤمنين السابقين ، فعليهم أن يصبروا كما صبر أسلافهم ، وقد اقتضت سنته - تعالى - أن يجعل العاقبة للمتقين .(3/238)
ثم هدد - سبحانه - كفار قريش بسوء المصير ، إذا ما استمروا فى إيذائهم للمؤمنين ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } .
وقوله : { فتنوا } من الفتن ، بمعنى الاختبار والامتحان . تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فى النار لتعلم جودته من رداءته ، والمراد به هنا : والتحريق بالنار .
أى : إن الظالمين الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات ، وأحرقوهم بالنار ثم لم يتوبوا إلى الله - تعالى - من ذنوبهم ، ويرجعوا عن تعذيبهم للمؤمنين والمؤمنات ، فلهم فى الآخرة عذاب جهنم ، بسبب إصرارهم على كفرهم وعدوانهم ، ولهم نار أخرى زائدة على غيرها فى الإِحراق .
والمراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات : كفار قريش ، كأبى جهل وأمية ابن خلف . وغيرهما ، فقد عذبوا بلالا ، وعمار بن ياسر ، وأباه وأمه سمية .
ويؤيد أن المراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات كفار قريش ، قوله - تعالى - : { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } لأن هذه الجملة تحريض على التوبة ، وترغيب فيها للكافرين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم .
ويصح أن يراد بهم جميع من عذبوا المؤمنين والمؤمنات ، ويدخل فيه أصحاب الأخدود ، وكفار قريش دخولا أوليا .
وجمع - سبحانه - بين عذاب جهنم لهم ، وبين عذاب الحريق ، لبيان أن العذاب لهم مضاعف ، بسبب طغيانهم وشركهم .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمؤمنين والمؤمنات من ثواب وعطاه كريم فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } الأعمال { الصالحات لَهُمْ } أى : عند ربهم { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار { ذَلِكَ } العطاء هو { الفوز الكبير } الذى لا فوز يضارعه أو يقاربه .
============
وقال السيد رحمه الله (1):
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها ، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها .. كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ، ودور البشر فيها ، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض ، وأبعد مدى من الحياة الدنيا - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم ، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها ، واستعلنت حقيقة إيمانها . ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد ، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها ، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق !
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة ، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة ، ولم تفتن عن دينها ، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة ، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً ، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيِّرة الرفيقة الكريمة كانت هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة . وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار . يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون . جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار ، والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً . وكلما ألقي فتى أو فتاة ، صبية أو عجوز ، طفل أو شيخ ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة ، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ، فالوحش يفترس ليقتات ، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع ، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان . وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية .. لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !
ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ، كما لا تذكر النصوص القرآنية ، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط . أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
ففي حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة اسيفة أليمة !
__________
(1) - في المعالم(3/239)
أفهكذا ينتهي الأمر ، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ، التي ارتكست إلى هذه الحمأة ، ناجية ؟
حساب الأرض يحيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة !
ولكن القرآن يعلِّم المؤمنين شيئاً آخر ، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها ، وبمجال المعركة التي يخوضونها .
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان .. ليست هي القيمة الكبرى في الميزان .. وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة . والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة . فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة ، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان . وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة .. وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم ، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة ، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار .. وهذا هو الانتصار ..
إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب . ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق .. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضاً . إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير ، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً ، ومعنى كبير جداً ، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ، ربحوه وهم يجدون مس النار ، فتحرق أجسادهم الفانية ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها ، وليس هو الحياة الدنيا وحدها . وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال . إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها ، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها ، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً . والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس .. وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة . وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض ، ولا ينفصل عنه ، لا في الحقيقة الواقعة ، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح ، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
النظرة الأولى هي النظرة القصيرة المدى الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول . والنظرة الثانية الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .
ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة ، والصبر على الابتلاء ، والانتصار على فتن الحياة .. هو طمأنينة القلب :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ... [ الرعد : 28 ] .
وهو الرضوان والود من الرحمن :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] .
وهو الذكر في الملأ الأعلى :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد " ... [ أخرجه الترمذي ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . فإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذرعاً اقتربت منه باعاً ، وإن أتاني مشياً يمشي أتيته هرولة " . [ أخرجه الشيخان ] .
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }[ غافر : 7 ](3/240)
وهو الحياة عند الله للشهداء :
{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 169 - 171 ] .
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين .. وإن كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا .. ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير :
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 - 197 ] .
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } .. [ إبراهيم : 42 - 43 ] .
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ المعارج : 42 - 44 ] .
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى ، واتصلت الدنيا بالآخرة ، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والإيمان والطغيان . ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ، ولا موعد الفصل في هذا الصراع .. كما أن الحياة وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان ، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .
انفسح المجال في المكان ، وانفسح المجال في الزمان ، وانفسح المجال في القيم والموازين ، واتسعت آفاق النفس المؤمنة ، وكبرت اهتماماتها ، فصغرت الأرض وما عليها ، والحياة الدنيا وما يتعلق بها ، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات ، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله ، وموقف الداعية أمام كل احتمال .
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات ..
شهد مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، ونجاة الفئة المؤمنة القليلة العدد ، مجرد النجاة . ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة . وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجِّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك .
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ، ونجاة موسى وقومه ، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم . وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة ، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجاً للحياة شاملاً .. وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً ، مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط ، من قبل ولا من بعد .
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود ..
وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث . وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود ، إلى جانب النماذج الأخرى . القريب منها والبعيد ..
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون ، ولا يؤخذ فيه الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله . وأن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ، ثم يذهبوا ، وواجبهم أن يختاروا الله ، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة ، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم ، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء . وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان ، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله . أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !(3/241)
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب ، ورفعة في الشعور ، وجمالاً في التصور ، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب ، وتحرراً من الخوف والقلق ، في كل حال من الأحوال .
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة ، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً . رضوان الله ، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته ، يفعل بهم في الأرض ما يشاء .
* * *********************
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور ، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم . فأخرجوا أنفسهم من الأمر البتة ، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة ، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء .
كان - صلى الله عليه وسلم - يرى عماراً وأمه وأباه - رضي الله عنهم - يعذبون العذاب الشديد في مكة ، فما يزيد على أن يقول : " صبراً آل ياسر . موعدكم الجنة " ..
وعن خبّاب بن الأرثّ - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد برده في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ أو تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين . ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه . ما يبعده ذلك عن دينه . والله ليتممن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " .. [ أخرجه البخاري ] .
* * *****************
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ، ومدبر هذا الكون كله ، المطلع على أوله وآخره ، المنسق لأحداثه وروابطه . هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل .
وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته ، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن . لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ، ولأن سعة المجال في تصوره ، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال . فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان ..
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .
وكل الآيات التي ذكر فيها النصر ، وذكر فيها المغانم ، وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة .. بعد ذلك .. وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية ، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال .. فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام ، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !(3/242)
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله ، في كل أرض وفي كل جيل . فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ، وأن تثبِّت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته ، كيفما كانت هذه النهاية . ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون ، فلا يتلفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء ، وبالعرق والدماء ، إلى نصر أو غلبة ، أو فيصل بين الحق والباطل في هذه الأرض .. ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله .. لا جزاء على الآلام والتضحيات .. لا ، فالأرض ليست دار جزاء .. وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء ، وحسبهم هذا الاختيار الكريم ، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء .
* * *********************
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى :
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ..
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق . وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ..
إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ، ولا معركة عنصرية .. ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها ، وسهل حل إشكالها . ولكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما إيمان .. إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ، أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة .. وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم . فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة " إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ، كي يموِّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة . فمن واجب المؤمنين ألا يُخدَعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت . وأن الذي يغيِّر راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها ، النصر في أية صورة من الصور ، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود ، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة ، وأن تزور التاريخ ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار .. كلا .. إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر ، وفيهم صلاح الدين الكردي ، وتوران شاه المملوكي ، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
وصدق الله العظيم ، وكذب المموهون الخادعون !
=================(3/243)
رمي النبي إبراهيم عليه السلام بالنار
قال تعالى : { وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) [الأنبياء/51-71] }
قال الرازي (1):
اعلم أن قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الرشد قولان : الأول : أنه النبوة واحتجوا عليه بقوله : { وَكُنَّا بِهِ عالمين } قالوا : لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول . والثاني : أنه الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا قال تعالى : { فَإِنْ آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } وفيه قول ثالث وهو أن تدخل النبوة والاهتداء تحت الرشد إذ لا يجوز أن يبعث نبي إلا وقد دله الله تعالى على ذاته وصفاته ودله أيضاً على مصالح نفسه ومصالح قومه وكل ذلك من الرشد .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا في أن الإيمان مخلوق لله تعالى بهذه الآية فإنه لو كان الرشد هو التوفيق والبيان فقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم . أجاب الكعبي : بأن هذا يقال فيمن قبل لا فيمن رد ، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه . فيقال : أغنى فلان ابنه فيمن أثمر المال ، ولا يقال مثله فيمن ضيع . والجواب عنه : هذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرشد وذلك باطل ، لأن المسمى إذا كان مركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدور الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى ذلك الفاعل فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } صريح في أن ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل ما قالوه .
المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف» : قرىء رشده كالعدم والعدم ، ومعنى إضافته إليه أنه رشد مثله وأنه رشد له شأن .
أما قوله تعالى : { مِن قَبْلُ } ففيه وجوه : أحدها؛ آتينا إبراهيم نبوته واهتداءه من قبل موسى عليه السلام عن ابن عباس وابن جرير . وثانيها : في صغره قبل بلوغه حين كان في السرب وظهرت له الكواكب فاستدل بها . وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته عليه السلام قبل البلوغ عن مقاتل . وثالثها : يعني حين كان في صلب آدم عليه السلام حين أخذ الله ميثاق النبيين عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك .
أما قوله تعالى : { وَكُنَّا بِهِ عالمين } فالمراد أنه سبحانه علم منه أحوالاً بديعة وأسراراً عجيبة وصفات قد رضيها حتى أهله لأن يكون خليلاً له ، وهذا كقولك في رجل كبير : أنا عالم بفلان فإن هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت جلال كماله .
أما قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ } فقال صاحب «الكشاف» : إذ إما أن تتعلق بآتينا أو برشده أو بمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت .
أما قوله : { مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عاكفون } ففيه مسائل :
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 11 / ص 29)(3/244)
المسألة الأولى : التمثال اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى ، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به واسم ذلك الممثل تمثال .
المسألة الثانية : أن القوم كانوا عباد أصنام على صور مخصوصة كصورة الإنسان أو غيره ، فجعل عليه السلام هذا القول منه ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيبطلها عليهم .
المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف» : لم ينو للعاكفين مفعولاً وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقولك فاعلون للعكوف أو واقفون لها ، قال : فإن قلت هلا قيل عليها عاكفون كقوله : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } ؟ قلت : لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي علي .
أما قوله : { قَالُواْ وَجَدْنَا ءَابَاءنَا لَهَا عابدين } فاعلم أن القوم لم يجدوا في جوابه إلا طريقة التقليد الذي يوجب مزيد النكير لأنهم إذا كانوا على خطأ من أمرهم لم يعصمهم من هذا الخطأ أن آباءهم أيضاً سلكوا هذا الطريق فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله : { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضلال مُّبِينٍ } فبين أن الباطل لا يصير حقاً بسبب كثرة المتمسكين به ، فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصاً ورأوه ثابتاً على الإنكار قوى القلب فيه وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم ، فعند ذلك قالوا له : { أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جاداً في ذلك فعنده عدل صلى الله عليه وسلم إلى بيان التوحيد .
اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد وذلك بالقول أولاً وبالفعل ثانياً ، أما الطريقة القولية فهي قوله : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذي فطَرَهُنَّ } وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب . فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] قال صاحب «الكشاف» : الضمير في فطرهن للسموات والأرض أو للتماثيل ، وكونه للتماثيل أدخل في الاحتجاج عليهم .
أما قوله : { وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين } ففيه وجهان : الأول : أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم . والثاني : أنه عليه السلام عنى بقوله : { وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين } ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة ، وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة ، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم ، وأما الطريقة الفعلية فهي قوله : { وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : قرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه وبالله ، وقرىء تولوا بمعنى تتولوا ويقويها قوله : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } فإن قلت : ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت : إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها والتاء فيها زيادة معنى وهو التعجب ، كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته .
المسألة الثانية : إن قيل لماذا قال : { لأَكِيدَنَّ أصنامكم } والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام . وجوابه : قال ذلك توسعاً لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها ، وقيل : المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم .
المسألة الثالثة : في كيفية أول القصة وجهان : أحدهما : قال السدي : كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السلام : لو خرجت معنا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فلما مضوا وبقي ضعفاء الناس نادى وقال : { تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم } واحتج هذا القائل بقوله تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم } . وثانيها : قال الكلبي : كان إبراهيم عليه السلام من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه : أراني أشتكي غداً فذلك قوله؛(3/245)
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم * فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 88 ، 89 ] وأصبح من الغد معصوباً رأسه فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال : أما والله لأكيدن أصنامكم ، وسمع رجل منهم هذا القول فحفظه عليه ثم إن ذلك الرجل أخبر غيره وانتشر ذلك في جماعة فلذلك قال تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } واعلم أن كلا الوجهين ممكن . ثم تمام القصة أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنماً مصطفة ، وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وكان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الكبير ، ثم علق الفأس في عنقه .
أما قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : إن قيل لم قال : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } وهذا جمع لا يليق إلا بالناس ، جوابه : من حيث اعتقدوا فيها أنها كالناس في أنها تعظم ويتقرب اليها ، ولعل كان فيهم من يظن أنها تضر وتنفع .
/ المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف» : جذاذاً قطعاً من الجذ وهو القطع ، وقرىء بالكسر والفتح وقرىء جذاذاً جمع جذيذ وجذذاً جمع جذة .
المسألة الثالثة : إن قيل ما معنى : { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } قلنا : يحتمل الكبير في الخلقة ويحتمل في التعظيم ويحتمل في الأمرين .
وأما قوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } فيحتمل رجوعهم إلى إبراهيم عليه السلام ، ويحتمل رجوعهم إلى الكبير . أما الأول : فتقريره من وجهين : الأول : أن المعنى أنهم لعلهم يرجعون إلى مقالة إبراهيم ويعدلون عن الباطل . والثاني : أنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فبكتهم بما أجاب به من قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْئَلُوهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] أما إذا قلنا : الضمير راجع إلى الكبير ففيه وجهان : الأول : أن المعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك . وهذا قول الكلبي ، وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم . والثاني : أنه عليه السلام قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم ، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكلات .
المسألة الرابعة : إن قيل أولئك الأقوام إما أن يقال إنهم كانوا عقلاء أو ما كانوا عقلاء . فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أن تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها؟ أقصى ما في الباب أن يقال : القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب ، وكسرها لا يقدح في كونها معظمة من هذا الوجه . وإن قلنا : إنهم ما كانوا عقلاء وجب أن لا تحسن المناظرة معهم ولا بعثة الرسل إليهم . الجواب : أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل الكواكب وأنها طلسمات موضوعة بحيث أن كل من عبدها انتفع بها وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد ، ثم إن إبراهيم عليه السلام كسرها مع أنه ما ناله منها ألبتة ضرر فكان فعله دالاً على فساد مذهبهم من هذا الوجه .
أما قوله تعالى : { قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } أي [ أن ] من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم معدود في الظلمة إما لجراءته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام ، وإما لأنهم رأوا إفراطاً في كسرها وتمادياً في الاستهانة بها .
أما قوله تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الزجاج : ارتفع إبراهيم على وجهين : أحدهما : على معنى يقال هو إبراهيم . والثاني : على النداء على معنى يقال له يا إبراهيم ، قال صاحب «الكشاف» والصحيح أنه فاعل يقال لأن المراد الاسم دون المسمى .
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد ، فكأنهم كانوا من قبل قد عرفوا منه وسمعوا ما يقوله في آلهتهم فغلب على قلوبهم أنه الفاعل ولو لم يكن إلا قوله ما هذه التماثيل إلى غير ذلك لكفى .(3/246)
اعلم أن القوم لما شاهدوا كسر الأصنام ، وقيل إن فاعله إبراهيم عليه السلام قالوا فيما بينهم : { فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس } قال صاحب «الكشاف» : على أعين الناس في محل الحال أي فأتوا به مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر . فإن قلت : ما معنى الاستعلاء في على؟ قلت : هو وارد على طريق المثل أي يثبت إتيانه في الأعين ثبات الراكب على المركوب . أما قوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } ففيه وجهان : أحدهما : أنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فأرادوا أن يجيئوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه بما قاله فيكون حجة عليه بما فعل . وهذا قول الحسن وقتادة والسدي وعطاء وابن عباس رضي الله عنهم . وثانيهما : وهو قول محمد ابن إسحق أي يحضرون فيبصرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله ، وفيه قول ثالث : وهو قول مقاتل والكلبي أن المراد مجموع الوجهين فيشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه .
أما قوله تعالى : { قَالُواْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا } فاعلم أن في الكلام حذفاً ، وهو : فأتوا به وقالوا أأنت فعلت ، طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه ، فظهر منه ما انقلب الأمر عليهم حتى تمنوا الخلاص منه ، فقال : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } وقد علق الفأس على رقبته لكي يورد هذا القول فيظهر جهلهم في عبادة الأوثان ، فإن قيل قوله : بل فعله كبيرهم كذب . والجواب للناس فيه قولان : أحدهما : وهو قول كافة المحققين أنه ليس بكذب ، وذكروا في الاعتذار عنه وجوهاً . أحدها : أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، إنما قصد تقرير لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ، وهذا كما لو قال لك صاحبك ، وقد كتبت كتاباً بخط رشيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة ، فقلت له : بل كتبته أنت ، كأن قصدك بهذا الجواب تقرير ذلك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش ، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء به وإثبات للقادر . وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزبنة . وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته بها وحطمه لها ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسد إلى الحامل عليه . وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم على مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإن من حق من يعبد ويدعي إلهاً أن يقدر على هذا وأشد منه . وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها صاحب «الكشاف» . ورابعها : أنه كناية عن غير مذكور ، أي فعله من فعله وكبيرهم هذا ابتداء الكلام ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ثم يبتدىء كبيرهم هذا . وخامسها : أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله كبيرهم ثم يبتدىء فيقول هذا فاسألوهم ، والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم . وسادسها : أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فتكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين . وسابعها : قرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم أي فلعل الفاعل كبيرهم . القول الثاني : وهو قول طائفة من أهل الحكايات ، أن ذلك كذب واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله تعالى ، قوله : { إِنّى سَقِيمٌ } وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } وقوله لسارة هي أختي » وفي خبر آخر : « أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال : إني كذبت ثلاث كذبات » ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته ، فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان ، وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه ، وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو ، واعلم أن هذا القول مرغوب عنه . أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه ، فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه ، وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها ، ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام : « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب »
فأما قوله تعالى : { إِنّى سَقِيمٌ } فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه .
وأما قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } فقد ظهر الجواب عنه .
أما قوله لسارة : إنها أختي ، فالمراد أنها أخته في الدين ، وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق .(3/247)
أما قوله تعالى : { فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } ففيه وجوه : الأول : أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة ، وأنهم على غرور وجهل في ذلك . والثاني : قال مقاتل : فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير . وثالثها : المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب ، والأقرب هو الأول .
أما قوله تعالى : { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُؤُوسَهُمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } فقال صاحب «الكشاف» : نكسه قلبه فجعل أسفله أعلاه وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في المعنى وجوه : أحدها : أن المراد استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وأتوا بالفكرة الصالحة ، ثم انتكسوا فقلبوا عن تلك الحالة ، فأخذوا [ في ] المجادلة بالباطل وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة . وثانيها : قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخذالاً مما بهتهم به إبراهيم فما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة عليهم . وثالثها : قال ابن جرير ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم . أي قلبوا في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم ، فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } فأقروا بهذه للحيرة التي لحقتهم ، قال والمعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم .
المسألة الثانية : قرىء نكسوا بالتشديد ونكسوا على لفظ ما لم يسم فاعله ، أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود .
أما قوله تعالى : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فالمعنى ظاهر . قال صاحب «الكشاف» : أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر ، وإن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم ، وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل ، فتأفف بهم . ثم يحتمل أنه قال لهم ذلك وقد عرفوا صحة قوله . ويحتمل أنه قال لهم ذلك وقد ظهرت الحجة وإن لم يعقلوا . وهذا هو الأقرب لقوله : { أَفَتَعْبُدُونَ } ولقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم ، وأنهم : { قَالُواْ حَرّقُوهُ وانصروا ءَالِهَتَكُمْ } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ليس في القرآن من القائل لذلك والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح ، وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس ، وروى ابن جريج عن وهب عن شعيب الجبائي قال : إن الذي قال حرقوه رجل اسمه هيرين ، فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .(3/248)
المسألة الثانية : أما كيفية القصة فقال مقاتل : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة ، وذلك قوله : { قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم } [ الصافات : 97 ] ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجعلن حطباً لإبراهيم ، ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوماً ، فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ، ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه ، ثم اتخذوا منجنيقاً ووضعوه فيه مقيداً مغلولاً ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة ، أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه ، فخلوا بيني وبينه ، فلما أرادوا إلقاءه في النار ، أتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم عليه السلام : لا حاجة بي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : «اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، أنت حسبنا ونعم الوكيل» وقيل إنه حين ألقي في النار قال : «لا إله إلا أنت سبحانك ربك العالمين ، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك» ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به النار ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : يا إبراهيم هل لك حاجة ، قال : أما إليك فلا؟ قال : فاسأل ربك ، قال : حسبي من سؤالي ، علمه بحالي . فقال الله تعالى : { قُلْنَا يانار كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم } وقال السدي : إنما قال ذلك جبريل عليه السلام ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية مجاهد : ولو لم يتبع برداً سلاماً لمات إبراهيم من بردها ، قال : ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت ، ثم قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب ، وورد أحمر ، ونرجس . ولم تحرق النار منه إلا وثاقه ، وقال المنهال بن عمرو أخبرت أن إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً ، وقال : ما كنت أياماً أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها ، وقال ابن إسحق : بعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم ، فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة ، وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ، ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ، ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب ، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم ، قال : قم فاخرج ، فقام يمشي حتى خرج منها ، فلما خرج قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها . فقال نمروذ : إني مقرب إلى ربك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك . فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال إبراهيم عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دمت على دينك ، فقال نمروذ : لا أستطيع ترك ملكي ، ولكن سوف أذبحها له ، ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام ، ورويت هذه القصة على وجه آخر ، وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه ، ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام ، ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عليه من الغد ، فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً ، فقال لهم هاران أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته ، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته .
المسألة الثالثة : إنما اختاروا المعاقبة بالنار لأنها أشد العقوبات ، ولهذا قيل : { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصراً شديداً ، فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق .
أما قوله تعالى : { قُلْنَا يا نارُ كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قوله تعالى : { قُلْنَا يا نارُ كُونِي بَرْداً } المعنى أنه سبحانه جعل النار برداً وسلاماً ، لا أن هناك كلاماً كقوله : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي يكونه ، وقد احتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه ، والأكثرون على أنه وجد ذلك القول . ثم هؤلاء لهم قولان : أحدهما : وهو قول سدي : أن القائل هو جبريل عليه السلام . والثاني : وهو قول الأكثرين أن القائل هو الله تعالى ، وهذا هو الأليق الأقرب بالظاهر ، وقوله : النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة .(3/249)
المسألة الثانية : اختلفوا في أن النار كيف بردت على ثلاثة أقوال : أحدها : أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير . وثانيها : أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه ، كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة ، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار . وثالثها : أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه ، قال المحققون : والأول أولى لأن ظاهر قوله : { يانار كُونِي بَرْداً } أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها ، لا أن النار بقيت كما كانت ، فإن قيل : النار جسم موصوف بالحرارة واللطافة ، فإذا كانت الحرارة جزء من مسمى النار امتنع كون النار باردة ، فإذاً وجب أن يقال : المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى من المجازين الآخرين؟ قلنا : المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي المجازين اللذين ذكرتموهما لا يبقى ذلك فكان مجازنا أولى .
أما قوله تعالى : { كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم } فالمعنى أن البرد إذا أفرط أهلك كالحر بل لا بد من الإعتدال ثم في حصول الاعتدال ثلاثة أوجه : أحدها : أنه يقدر الله تعالى بردها بالمقدار الذي لا يؤثر . وثانيها : أن بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد . وثالثها : أنه تعالى جعل في جسمه مزيد حر فسلم من ذلك البرد بل قد انتفع به والتذ ثم ههنا سؤالات :
السؤال الأول : أو كل النار زالت وصارت برداً . الجواب : أن النار هو اسم الماهية فلا بد وأن يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية ، وقيل : بل اختص بتلك النار لأن الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها ، والمراد خلاص إبراهيم عليه السلام لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق .
السؤال الثاني : هل يجوز ما روي عن الحسن من أنه سلام من الله تعالى على إبراهيم عليه السلام . الجواب الظاهر كما أنه جعل النار برداً جعلها سلاماً عليه حتى يخلص ، فالذي قاله يبعد وفيه تشتيت الكلام المرتب .
السؤال الثالث : أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل وسلاماً لأتى البرد عليه . والجواب : ذلك بعيد لأن برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد فلا يجوز أن يقال : كان البرد يعظم لولا قوله سلاماً .
السؤال الرابع : أفيجوز ما قيل من أنه كان في النار أنعم عيشاً منه في سائر أحواله . والجواب : لا يمتنع ذلك لما فيه من مزيد النعمة عليه وكمالها ، ويجوز أن يكون إنما صار أنعم عيشاً هناك لعظم ما ناله من السرور بخلاصه من ذلك الأمر العظيم ولعظم شروره بظفره بأعدائه وبما أظهره من دين الله تعالى .
أما قوله تعالى : { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فجعلناهم الأخسرين } أي أرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين ، غالبوه بالجدال فلقنه الله تعالى الحجة المبكتة ، ثم عدلوا القوة والجبروت فنصره وقواه عليهم ، ثم إنه سبحانه أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجى لوطاً معه وهو ابن أخيه وهو لوط بن هاران إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين . وفي الأخبار أن هذه الواقعة كانت في حدود بابل فنجاه الله تعالى من تلك البقعة إلى الأرض المباركة ، ثم قيل : إنها مكة وقيل أرض الشام لقوله تعالى : { إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] والسبب في بركتها ، أما في الدين فلأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا منها وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينية فيها ، وأما في الدنيا فلأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب العيش ،
=============
وقال السعدي (1):
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما، فأراه الله ملكوت السماوات والأرض، وأعطاه من الرشد، الذي كمل به نفسه، ودعا الناس إليه، ما لم يؤته أحدا من العالمين، غير محمد، وأضاف الرشد إليه، لكونه رشدا، بحسب حاله، وعلو مرتبته، وإلا فكل مؤمن، له من الرشد، بحسب ما معه من الإيمان. { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي: أعطيناه رشده، واختصصناه بالرسالة والخلة، واصطفيناه في الدنيا والآخرة، لعلمنا أنه أهل لذلك، وكفء له، لزكائه وذكائه، ولهذا ذكر محاجته لقومه، ونهيهم عن الشرك، وتكسير الأصنام، وإلزامهم بالحجة، فقال: { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ } التي مثلتموها، ونحتموها بأيديكم، على صور بعض المخلوقات { الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } مقيمون على عبادتها، ملازمون لذلك، فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ وأين عقولكم، التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها، ونحتموها بأيديكم، فهذا من أكبر العجائب، تعبدون ما تنحتون.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 525)(3/250)
فأجابوا بغير حجة، جواب العاجز، الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا: { وَجَدْنَا آبَاءَنَا } كذلك يفعلون، فسلكنا سبيلهم، وتبعناهم على عبادتها، ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل ليس بحجة، ولا تجوز به القدوة، خصوصا، في أصل الدين، وتوحيد رب العالمين، ولهذا قال لهم إبراهيم مضللا للجميع: { لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي: ضلال بين واضح، وأي ضلال، أبلغ من ضلالهم في الشرك، وترك التوحيد؟" أي: فليس ما قلتم، يصلح للتمسك به، وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح، البين لكل أحد.
{ قَالُوا } على وجه الاستغراب لقوله، والاستعظام لما قال، وكيف بادأهم بتسفيههم، وتسفيه آبائهم: { أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ } أي: هذا القول الذي قلته، والذي جئتنا به، هل هو حق وجد؟ أم كلامك لنا، كلام لاعب مستهزئ، لا يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا، وإنما رددوا الكلام بين الأمرين، لأنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد، أن الكلام الذي جاء به إبراهيم، كلام سفيه لا يعقل ما يقول، فرد عليهم إبراهيم ردا بين به وجه سفههم، وقلة عقولهم فقال: { بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } فجمع لهم بين الدليل العقلي، والدليل السمعي.
أما الدليل العقلي، فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم، أن الله وحده، الخالق لجميع المخلوقات، من بني آدم، والملائكة، والجن، والبهائم، والسماوات، والأرض، المدبر لهن، بجميع أنواع التدبير، فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه، ودخل في ذلك، جميع ما عبد من دون الله.
أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز، أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه، لا يملك نفعا، ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟
أما الدليل السمعي: فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ما جاءوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحق، ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم: { وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ } أي: أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل { مِنَ الشَّاهِدِينَ } وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل الرحمن.
ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال: { وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } أي أكسرها على وجه الكيد { بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } عنها إلى عيد من أعيادهم، فلما تولوا مدبرين، ذهب إليها بخفية.
============
وقال الألوسي (1):
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية؛ وقيل الصحف ، وقيل : الحكمة ، وقيل : التوفيق للخير صغيراً ، واختار بعضهم التعميم .
وقرأ عيسى الثقفي { رُشْدَهُ } بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن { مِن قَبْلُ } أي من قبل موسى وهارون ، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب ، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام ، وقيل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والأول مروي عن ابن عباس . وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في «الكشف» : وهو الوجه الأوفق لفظاً ومعنى ، أما الأول فللقرب ، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام ، وقيل : { مِن قَبْلُ } لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ } [ الأنبياء : 76 ] أي من قبل هؤلاء المذكورين ، وقيل من قبل إبراهيم ولوط اه { وَكُنَّا بِهِ عالمين } أي بأحواله وما فيه من الكمالات ، وهذا كقولك في خير من الناس : أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل .
وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته ، وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك : علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر { إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ } ظرف ل { آتينا } [ الأنبياء : 51 ] على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله ، وجوز أن يكون ظرفاً لرشد أو لعالمين ، وأن يكون بدلاً من موضع { مِن قَبْلُ } [ الأنبياء : 51 ] وأن ينتصب بإضمار أعني أو اذكر ، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام في النصيحة والانقاذ من الضلال .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 12 / ص 405)(3/251)
والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين : { مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون } أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا إنه عبر عنها بالتماثيل تحقيراً لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به ، وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا ، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا ، وفي الإشارة إليها بما يشار به القريب إشارة إلى التحقير أيضاً ، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه ، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له ، وقيل اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع ، واللام في { لَهَا } للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى : { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [ الأعراف : 138 ] وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف .
واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة { عاكفون } محذوفة أي عاكفون على عبادتها ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الاسراء : 7 ] وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية .
وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد ، وقيل لا يبعد أن تكون اللام للاختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً و { عاكفون } خبر بعد خبر ، وأنت تعلم أن نفي بعده مكابرة . ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبي شيبة . وعبد بن حميد . وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . والبيهقي في الشعب عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفى خير له من أن يمسها ، وفيه نظر لا يخفى ، نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره ، ومع ذلك المقصود بالذات الاستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بالطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجؤا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث . { قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين } وأبطل عليه السلام ذلك على طريقة التوكيد القسمي حيث . { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ } الذين وجدتموهم كذلك { فِى ضلال } عجيب لا يقادر قدره { مُّبِينٌ } ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه ضلالاً لاستنادكم وأياهم إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع ، و { أَنتُمْ } تأكيد للضمير المتصل في { كُنتُمْ } ولا بد منه عند البصريين لجواز العطف على مثل هذا الضمير ، ومعنى كنتم في ضلال مطلق استقرارهم وتمكنهم فيه لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم ، وفي اختيار { فِى ضلال } على ضالين ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم ، وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقاً بكثرة المتمسكين به . { قَالُواْ } لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعاداً لكون ما هم عليه ضلالاً وتعجباً من تضليله عليه السلام أياهم على أتم وجه { أَجِئْتَنَا بالحق } أي بالجد { أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } أي الهازلين فالاستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب ، وقولهم : { أَمْ أَنتَ } الخ عديله كلام منصف مومىء فيه بالطف وجه أن الثابت هو القسم الثاني لما فيه من أنواع المبالغة ، وأشار في «الكشاف» كما في «الكشف» إلى أن الأصل هذا الذي جئتنا به أهو جد وحق أم لعب وهزل إلا أنه عدل عنه إلى ما عليه النظم الكريم لما أشير إليه .(3/252)
وقال «صاحب المفتاح» : أي أجددت وأحدثت عندنا تعاطى الحق أم أحوال الصبا بعد على الاستمرار وهو أقرب إلى الظاهر وفيه الإشارة إلى فائدة العدول عن المعادل ظاهراً وبيان المراد بالمجيء ، وظاهر كلام الشيخين أن أم متصلة . واختار العلامة الطيبي أنها منقطعة فقال : إنهم لما سمعوا منه عليه السلام ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليلهم وآبائهم على أبلغ وجه وشاهدوا منه الغلظة والجد طلبوا منه عليه السلام البرهان فكأنهم قالوا هب إنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه فهل معك دليل على ما ادعيت أجئتنا بالحق ثم أضربوا عن ذلك وجاؤا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة التقديرية فاضربوا ببل عما أثبتوا له وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت ، وذلك أنهم قطعوا أنه لاعب وليس بمحق البتة لأن إدخالهم إياه في زمرة اللاعبين أي أنت غريق في اللعب داخل في زمرة الذين قصارى أمرهم في إثبات الدعاوي اللعب واللهو على سبيل الكناية الإيمائية دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان ، وهذه الكناية توقفك على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعاً وكذا بل فيما بعد انتهى؛ والحق أن جواز الانقطاع مما لا ريب فيه ، وأما وجوبه ففيه ما فيه .
{ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ * السموات والارض *الذى فطَرَهُنَّ } أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جعلتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه ، وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفي عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة ، وضمير { فطَرَهُنَّ } أما للسموات والأرض واستظهره أبو حيان ، ووصفه تعالى بإيجادهن إثر وفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقاً للحق للحق وتنبيهاً على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة ، وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه ، وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل ، وقوله تعالى : { وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين } تذييل متضمن لرد نسبتهم إياه عليه السلام إلى اللعب والهزل ، والإشارة إلى المذكور ، والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلك من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بالوصف بعده وإن كان في صلة أل لا تساعهم في المظروف أقوال مشهورة ، والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه ولست من اللاعبين ، فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها .
وقال شيخ الإسلام : إن قوله : { بَل رَّبُّكُمْ } الخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أرباباً لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم الخ؛ وقال القاضي : هو إضراب عن كونه عليه السلام لاعباً بإقامة البرهان على ما أدعاه ، وجعله الطيبي إضراباً عن ذلك أيضاً قال : وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم ، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله : { بَل رَّبُّكُمْ } الآية لينبه به على أن إطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه .
وقوله : { وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين } تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم { أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } [ الأنبياء : 55 ] من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال : لست من اللاعبين في الدعاوي بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوي اه ، ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الإضراب أولى .
{ وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم } أي لأجتهدن في كسرها ، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهر خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه ، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليختاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت ، وكان هذا منه عليه السلام عزماً على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر ، ولا يأباه ما روى عن قتادة أنه قال : نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم ، وقيل : قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين : وقيل إثنين وسبعين .
وقرأ معاذ بن جبل . وأحمد بن حنبل { بالله } بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث أن الواو تفيد معنى قريباً من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة .(3/253)
وتعقبه في «البحر» بأنه لا يقوم على ذلك دليل ، وقد رده السهيلي ، والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلاً لآخر ، وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب ، وكان التعجب هنا من إقدامه عليه السلام على أمر فيه مخاطرة . ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم ، وفرق آخرون بينهما استعمالاً بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافاً إلى اللكعبة على قلة { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } من عبادتها إلى عيدكم . وقرأ عيسى بن عمر { تَوَلَّوْاْ } من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام ، ويعضد هذه القراءة قوله تعالى : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [ الصافات : 90 ] والفاء في
[ بم قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ } فصيحة أي فولوا فأتى إبراهيم عليه السلام الأصنام فجعلهم { جُذَاذاً } أي قطعاً فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع ، قال الشاعر
: بنو المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رماداً فلا أصل ولا طرف
فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر ، وقرأ الكسائي . وابن محيصن . وابن مقسم . وأبو حيوة . وحميد والأعمش في رواية { جُذَاذاً } بكسر الجيم ، وابن عباس . وابن نهيك . وأبو السمال { جُذَاذاً } بالفتح ، والضم قراءة الجمهور ، وهي كما روى ابن جني عن أبي حاتم لغات أجودها الضم؛ ونص قطرب أنه في لغات أجودها الضم؛ ونص قطرب أنه في لغاته الثلاث مصدر لا يثنى ولا يجمع ، وقال اليزيدي : جذاذاً بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة ، وقيل : بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام ، وقيل : هو بالفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود .
وقرأ يحيى بن وثابت { جُذَاذاً } بضمتين جمع جذيذ كسرير وسرر ، وقرىء { *جذذاً } بضم ففتح جمع جذة كقبة وقبب أو مخفف فعل بضمتين . روى أن آزر خرج به في عيد لهم فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا فذهبوا فلما كان إبراهيم عليه السلام في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] فدخل على الأصنام وهي مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كان في بده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه ، وقيل : في يده وذلك قوله تعالى : { جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } أي الأصنام كما هو الظاهر مما سيأتي إن شاء الله تعالى . وضمير العقلاء هنا وفيما مر على زعم الكفرة ، والكبر إما في لمنزلة على زعمهم أيضاً أو في الجثة ، وقال أبو حيان : يحتمل أن يكون الضمير للعبدة ، قيل : ويؤيده أنه لو كان للأصنام لقيل إلا كبيرهم { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } استئناف لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير ، وضمير { إِلَيْهِ } عند الجمهور عائد على إبراهيم عليه السلام أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى غيره فيحاجهم ويبكتهم بما سيأتي من الجواب إن شاء الله تعالى ، وقيل : الضمير لله تعالى أي لعلهم يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده حين يسألونه عليه السلام فيجيبهم ، ويظهر عجز آلهتهم ويعلم من هذا أن قوله سبحانه : { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } ليس أجنبياً في البين على هذا القول كما توهم نعم لا يخفى بعده .
وعن الكلبي أن الضمير للكبير أي لعلهم يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس في عنقك أو في يدك؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم ، وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها . ويحتمل أنه عليه السلام يعلم أنهم لا يرجعون إليه لكن ذلك من باب الاستهزاء والاستجهال واعتبار حال الكبير عندهم فإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل ، وعلى الاحتمالين لا إشكال في دخول لعل في الكلام ، ولعل هذا الوجه أسرع الأوجه تبادراً لكن جمهور المفسرين على الأول ، والجار والمجرور متعلق بيرجعون ، والتقديم للحصر على الأوجه الثلاثة على ماقيل ، وقيل : هو متعين لذلك في الوجه الأول وغير متعين له في الأخيرين بل يجوز أن يكون لأداء حق الفاصلة فتأمل .
وقد يستأنس بفعل إبراهيم عليه السلام من كسر الأصنام لمن قال من أصحابنا إنه لا ضمان على من كسر ما يعمل من الفخار مثلاً من الصور ليلعب به الصبيان ونحوهم وهو القول المشهور عند الجمهور .(3/254)
{ قَالُواْ } أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا { مَن فَعَلَ هذا } الأمر العظيم { بِئَالِهَتِنَا } قالوه على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع ، والتعبير عنها بالآلهة دون الأصنام أو هؤلاء للمبالغة في التشنيع ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } استئناف مقرر لما قبله ، وجوز أبو البقاء أن تكون { مِنْ } موصولة مبتدأ وهذه الجملة في محل الرفع خبره أي الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة أما لجرأته على إهانتها وهي الحفية بالإعظام أو لتعريض نفسه للهلكة أو لإفراطه في الكسر والحطم ، والظلم على الأوجه الثلاثة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه .
{ قَالُواْ } أي بعض منهم وهم الذين سمعوا قوله عليه السلام { وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] عند بعض { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } يعيبهم فلعله الذي فعل ذلك بهم ، وسمع كما قال بعض الأجلة حقه أن يتعدى إلى واحد كسائر أفعال الحواس كما قرره السهيلي ويتعدى إليه بنفسه كثيراً وقد يتعدى إليه بإلى أو اللام أو الباء ، وتعديه إلى مفعولين مما اختلف فيه فذهب الأخفش . والفارسي في الإيضاح . وابن مالك . وغيرهم إلى أنه إن وليه ما يسمع تعدى إلى واحد كسمعت الحديث وهذا متفق عليه وإن وليه ما لا يسمع تعدي إلى اثنين ثانيهما مما يدل على صوت .
واشترط بعضهم كونه جملة كسمعت زيداً يقول كذا دون قائلاً كذا لأنه دال على ذات لا تسمع ، وأما قوله تعالى : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فعلى تقدير مضاف أي هل يسمعون دعاءكم ، وقيل : ما أضيف إليه الظرف مغن عنه ، وفيه نظر ، وقال بعضهم : إنه ناصب لواحد بتقدير مضاف مسموع قبل اسم الذات ، والجملة أن كانت حال بعد المعرفة صفة بعد النكرة ولا تكون مفعولاً ثانياً لأنها لا تكون كذلك إلا في الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وليس هذا منها .
وتعقب بأنه من الملحقات برأي العلمية لأن السمع طريق العلم كما في «التسهيل وشروحه» فجوز هنا كون { فَتًى } مفعولاً أولاً وجملة { يَذْكُرُهُمْ } مفعولاً ثانياً ، وكونه مفعولاً والجملة صفة له لأنه نكرة ، وقيل إنها بدل منه ، ورجحه بعضهم باستغنائه عن التجوز والإضمار إذ هي مسموعة والبدل هو المقصود بالنسبة وإبدال الجملة من المفرد جائز . وفي «الهمع» أن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال ، وفي التصريح قد تبدل الجملة من المفرد بدل كل من كل فلا تغفل ، وقال بعضهم إن كون الجملة صفة أبلغ في نسبة الذكر إليه عليه السلام لما في ذلك من إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الواسطة فيفيد أنهم سمعوه بدون واسطة .
ووجه بعضهم الأبلغية بغير ماذكر مما بحث فيه ، ولعله الوجه المذكور مما يتأتى على احتمال البدلية فلا تفوت المبالغة عليه ، وقد يقال : إن هذا التركيب كيفما أعرب أبلغ من قولك سمعنا ذكر فتى ونحوه مما لا يحتاج فيه إلى مفعولين اتفاقاً لما أن { سَمِعْنَا } لما تعلق بفتى أفاد إجمالاً أن المسموع نحو ذكره إذ لا معنى لأن يكون نفس الذات مسموعاً ثم إذا ذكر { يَذْكُرُهُمْ } علم ذلك مرة أخرى ولما فيه من تقوى الحكم بتكرر الإسناد على ما بين في علم المعاني ولهذا رجح أسلوب الآية على غيره فتدبر .
وقوله تعالى : { يُقَالُ لَهُ إبراهيم } صفة لفتى ، وجوز أن يكون استئنافاً بيانياً والأول أظهر ، ورفع { إِبْرَاهِيمَ } على أن نائب الفاعل ليقال على اختيار الزمخشري . وابن عطية ، والمراد لفظه أي يطلق عليه هذا اللفظ ، وقد اختلف في جواز كون مفعول القول مفرداً لا يؤدي معناه جملة كقلت قصيدة وخطبة ولا هو مصدراً لقول أو صفته كقلت قولاً أو حقاً فذهب الزجاج . والزمخشري . وابن خروف . وابن مالك إلى الجمواز إذ أريد بالمفرد لفظه بل ذكر الدنوشري أنه إذا كان المراد بالمفرد الواقع بعد القول نفس لفظه تجب حكايته ورعاية إعرابه ، وآخرون إلى المنع قال أبو حيان : وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال فلان زيد ولا قال ضرب وإنما وقع القول في كلامهم لحكاية الجمل وما في معنتاها ، وجعل المانعون { إِبْرَاهِيمَ } مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذا إبراهيم والجملة محكية بالقول كما في قوله
: إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة ... وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي إبراهيم فاعله؛ وأن يكون منادي حذف منه حرف النداء أي يقال له حين يدعي يا إبراهيم ، وعندي أن الآية ظاهرة فيما اختاره الزمخشري . وابن عطية ويكفي الظهور مرجحاً في أمثال هذه المطالب ، وذهب الأعلم إلى أن { إِبْرَاهِيمَ } ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه إذ القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملاً والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم واحد واثنان إذا عدوا ولم يدخلوا عاملاً لا في اللفظ ولا في التقدير وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض ، ولا يخفى أن كلام هذا الأعلم لا يقوله إلا الأجهل ولأن يكون الرجل أفلح أعلم خير له من أن ينطق بمثله ويتكلم .(3/255)
{ قَالُواْ } أولئك القائلون { مَن فَعَلَ } [ الأنبياء : 59 ] الخ إذا كان الأمر كذا { فَأْتُواْ بِهِ } أي أحضروه { على أَعْيُنِ الناس } مشاهداً معايناً لهم على أتم وجه كما تفيده على المستعارة لتمكن الرؤية { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي يحضرون عقوبتنا له ، وقيل يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مبهم أو معهود والأول مروي عن ابن عباس . والضحاك ، والثاني عن الحسن . وقتادة ، والترجي أوفق به . { قَالُواْ } استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به بعد ذلك هل أتوا به أولاً؟ فقيل قالوا :
{ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا قَالُواْ ءأَنْتَ * إِبْرَاهِيمَ } اقتصاراً على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غني عن البيان ، والهمزة كما قال العلامة التفتازاني للتقرير بالفاعل إذ ليس مراد الكفرة حمله عليه السلام على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان بل على الإقرار بأنه منه كيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم : { فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا } وأيضاً .
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل . واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الاستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام . وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام قد حلف بقوله { تالله * لاكِيدَنَّ أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] الخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا { مَن فَعَلَ هذا } الخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام . ولقائل أن يقول : إن الحلف كما قاله كثير كان سراً أو سمعه رجل واحد ، وقوله سبحانه : { قَالُواْ سَمِعْنَا } [ الأنبياء : 60 ] الخ مع قوله تعالى : { قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا } [ الأنبياء : 59 ] الخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون { أانت فَعَلْتَ هذا } [ الأنبياء : 62 ] كلام ذلك البعض . وقد يقال : إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر فاأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل . وقد سلك عليه السلام في الجواب مسلكاً تعريضياً يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب فقد أبرز الكبير قولاً في معرض المباشر للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلاً بجعل الفاس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسناداً مجازياً عقلياً باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبي من زيادة تعظيم هذا ، وإنما لم يكسره وإن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة ، وتسمية ذلك كذباً كما ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز لما أن المعاريض تشبه صورتها صورته فبطل الاحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام ، وقيل في توجيه ذلك أيضاً : إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته يقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة .
ويحكى أنه عليه السلام قال : فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها ، قيل : فيكون حينئذٍ تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام ، وقيل إنه عليه السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمناً فيه الاستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا؟ فقلت له : بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الاستهزاء بمخاطبك . وتعقبه صاحب الفرائد بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائراً بينه عليه السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثاً .(3/256)
ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في { أأنت فَعَلْتَ هذا } [ الأنبياء : 62 ] تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع ، ولو سلم أن الاستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري ، نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبىء عنه قوله تعالى : { فَاسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا ، وقيل إن { فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } جواب قوله : { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } معنى وقوله : { فاسألوا } جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله
: فاعلم فعلم المرء ينفعه ... فيكون كون الكبير فاعلاً مشروطاً بكونهم ناطقين ومعلقاً به وهو محال فالمعلق به كذلك ، وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر ، وقيل : إن الكلام تم عند قوله : { فَعَلَهُ } والضمير المستتر فيه يعود على { فَتًى } [ الأنبياء : 60 ] أو إلى إبراهيم ، ولا يخفى أن كلاً من فتى وإبراهيم مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذٍ والمناسب في الجواب نعم ، ولا مقتضى للعدول عن الظاهر هنا كما قيل وعزى إلى الكسائي أنه جعل الوقف على { فَعَلَهُ } أيضاً إلا أنه قال : الفاعل محذوف أي فعله من فعله .
/ وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه .
وقيل يجوز أن يقال : أنه أراد بالحذف الإضمار ، وأكثر القراء اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء ، وقيل الوقف على { كَبِيرُهُمْ } وأراد به عليه السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم ، وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان ، ومثله أن يراد به الله عز وجل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها ، ويعزى للفراء أن الفاء في { فَعَلَهُ } عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف .
واستدل عليه بقراءة ابن السميقع { فَعَلَهُ } مشدد اللام ، ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا التخريج ، والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها ، وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم السلام لمصلحة جائز ، وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلاً وأن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ، وإنما قال عليه السلام : { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضاً لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل ، وقد حصل ذلك حسبما نطق به [ بم قوله تعالى : { فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ } فتفكروا وتدبروا وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا .
{ فَقَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } أي بعبادة ما لا ينطق قاله ابن عباس أو بسؤالكم إبراهيم عليه السلام وعدو لكم عن سؤالها وهي آلهتكم ذكره ابن جرير أو بنفس سؤالكم إبراهيم عليه السلام حيث كان متضمناً التوبيخ المستتبع للمؤاخذة كما قيل أو بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها أو بعبادة الأصاغر مع هذا الكبير قالهما وهب أو بأن اتهمتم إبراهيم عليه السلام والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل . وابن إسحاق ، والحصر إضافي بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام .
{ ثُمَّ نُكِسُواْ على } أصل النكس قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله ، ولا يلغو ذكر الرأس بل يكون من التأكيد أو يعتبر التجريد ، وقد يستعمل النكس لغة في مطلق قلب الشيء من حال إلى حال أخرى ويذكر الرأس للتصوير والتقبيح .(3/257)
وذكر الزمخشري على ما في «الكشف» في المراد به هنا ثلاثة أوجه ، الأول : أنه الرجوع عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليم أنفسهم إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها مع الاعتراف بتقاصر حالها عن الحيوان فضلاً أن تكون في معرض الإلهية فمعنى { رُءوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } لا يخفى علينا وعليك أيها المبكت بأنها لا تنطق أنها كذلك وإنا إنما اتخذناها آلهة مع العلم بالوصف ، والدليل عليه جواب إبراهيم عليه السلام الآتي ، والثاني : أنه الرجوع عن الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم : { مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا } [ الأنبياء : 59 ] وقولهم : { أأنت فَعَلْتَ هذا } [ الأنبياء : 62 ] إلى الجدال عنه بالحق في قولهم { لَقَدْ عَلِمْتَ } لأنه نفى للقدرة عنها واعتراف بعجزها وأنها لا تصلح للإلهية وسمي نكساً وإن كان حقاً لأنه ما أفادهم عقداً فهو نكس بالنسبة إلى ما كانوا عليه من الباطل حيث اعترفوا بعجزها وأصروا . وفي لباب التفسير ما يقرب منه مأخذاً لكنه قدر الرجوع عن الجدال عنه في قولهم : { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } [ الأنبياء : 64 ] إلى الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم : { لَقَدْ عَلِمْتَ } والثالث : أن النكس مبالغة في إطراقهم رؤوسهم خجلاً وقولهم : { لَقَدْ عَلِمْتَ } الخ رمى عن حيرة ولهذا أتوا بما هو حجة عليهم وجاز أن يجعل كناية عن مبالغة الحيرة وانخذال الحجة فإنها لا تنافي الحقيقة ، قال في «الكشف» . وهذا وجه حسن وكذلك الأول ، وكون المراد النكس في الرأي رواه أبو حاتم عن ابن زيد وهو للوجهين الأولين ، وقال مجاهد : { نُكِسُواْ على رُءوسِهِمْ } ردت السفلة على الرؤساء فالمراد بالرؤوس الرؤساء ، والأظهر عندي الوجه الثالث ، وأياً ما كان فالجار متعلق بنكسوا .
وجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالاً ، والجملة القسمية مقولة لقول مقدر أي قائلين { لَقَدِ } الخ ، والخطاب في { عَلِمَتِ } لإبراهيم عليه السلام لا لكل من يصلح للخطاب ، والجملة المنفية في موضع مفعولي علم إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد ، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما يوهمه صيغة المضارع ، وقرأ أبو حيوة . وابن أبي عبلة . وابن مقسم . وابن الجارود . والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف { نُكِسُواْ } ، وقرأ رضوان بن عبد المعبود { نُكِسُواْ } بتخفيف الكاف مبنياً للفاعل أي نكسوا أنفسهم وقيل : رجعوا على رؤسائهم بناءاً على ما يقتضيه تفسير مجاهد .
{ قَالَ } عليه السلام مبكتاً لهم { أَفَتَعْبُدُونَ } أي أتعلمون ذلك فتعبدون { مِن دُونِ الله } أي مجاوزين عبادته تعالى : { مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } من النفع ، وقيل : بشيء { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الاجتناب عن عبادته قطعاً . { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل بعد انقطاع العذر ووضوح الحق ، وأصل أف صوت المتضجر من استقذار شيء على ما قال الراغب ثم صار اسم فعل بمعنى أتضجر وفيه لغات كثيرة ، واللام لبيان المتأفف له ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ألا تتفكروا فلا تعقلون قبح صنيعكم . { قَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت بهم الحيل وهذا ديدن المبطل المحجوج إذا بهت بالحجة وكانت له قدرة يفزع إلى المناصبة { حَرّقُوهُ } فإن النار أشد العقوبات ولذا جاء لا يعذب بالنار إلا خالقها { وانصروا ءالِهَتَكُمْ } بالانتقام لها { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له ذلك وإلا فرطتم في نصرتها وكأنكم لم تفعلوا شيئاً ما فيها ، ويشعر بذلك العدول عن إن تنصروا آلهتكم فحرقوه إلى ما في «النظم الكريم» ، وأشار بذلك على المشهور ورضي به الجميع نمروذ بن كنعان بن سنحاريب بن نمروذ بن كوس بن حام بن نوح عليه السلام .(3/258)
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر فقال : أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قلت : لا قال : رجل من أعراب فارس يعني الأكراد ونص على أنه من الأكراد ابن عطية ، وذكر أن الله تعالى خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، واسمه على ما أخرج ابن جرير . وابن أبي حاتم عن شعيب الجباري هيون ، وقيل : هدير . وفي «البحر» أنهم ذكروا له اسماً مختلفاً فيه لا يوقف منه على حقيقة ، وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط في حدود بابل من العراق وذلك قوله تعالى : { قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم } [ الصافات : 97 ] فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً فأوقدوا ناراً عظيمة لا يكاد يمر عليها طائر في أقصى الجو لشدة وهجها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه ، وقيل : صنعه الكردي الذي أشار بالتحريق ثم خسف به ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فصاحت ملائكة السماء والأرض إلهنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم عليه السلام وأنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال جل وعلا : أن استغاث بأحد منكم فلينصره وأن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فأتاه خازن الرياح وخازن المياه يستأذنانه في إعدام النار فقال عليه السلام لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل ، وروي عن أبي بن كعب قال : حين أوثقوه ليلقوه في النار قال عليه السلام : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به فأتاه جبريل عليه السلام فقال : يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا قال : جبريل عليه السلام فاسأل ربك فقال : حسبي من سؤال علمه بحالي ، ويروى أن الوزغ كان ينفخ في النار ، وقد جاء ذلك في رواية البخاري .
وفي «البحر» ذكر المفسرون أشياء صدرت عن الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط والله تعالى أعلم بذلك ، فلما وصل عليه السلام الحظيرة جعلها الله تعالى ببركة قوله عليه السلام روضة ، وذلك
[ بم قوله سبحانه وتعالى : { قُلْنَا ياذا * نَّارٍ * كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم } أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي برداً غير ضار ، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه أحمد وغيره : لو لم يقل سبحانه : { وسلاما } لقتله بردها .(3/259)
وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأسورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وقيل : نصب { سَلاَماً } بفعله أي وسلمنا سلاماً عليه ، والجملة عطف على { قُلْنَا } وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار . روي أن الملائكة عليهم السلام أخذوا بضبعي إبراهيم عليه السلام فاقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه كما روي عن كعب ، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين يوماً ، وقال عليه السلام : ما كنت أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها ، قال ابن إسحاق : وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليهما السلام يؤنسه ، قالوا : وبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه ، وقال جبريل عليه السلام : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ، ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيطة به فنادى يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال إبراهيم عليه السلام : نعم قال : هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك؟ قال : لا قال : فقم فاخرج منها فقام عليه السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه ، وقال له : يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله إلى ربي ليؤنسني فيها فقال : يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له إبراهيم عليه السلام : إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام ، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ستة عشرة سنة ، وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه السلام لم يحترق قالوا : إنه سحر النار فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق ، وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه السلام سالماً لم يحرق منه غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام : إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارت شرارة إلى لحية هارون فأحرقته ، وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا لوط قال وكان عمه : إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقاً من النار فأحرقه ، والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في «البحر» : قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام ، والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه السلام برداً وسلاماً .
ثم الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها { كُونِى بَرْداً } الخ وأن هناك قولاً حقيقة ، وقيل القائل جبرائيل عليه السلام بأمره سبحانه ، وقيل قول ذلك مجاز عن جعلها باردة ، والظاهر أيضاً أن الله عز وجل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق ، وقيل إنها انقلبت هواءً طيباً وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق ، وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى : { على إبراهيم } وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظراً إلى مفهوم اللقب إذ الأكثرون على عدم اعتباره . وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده ، وأياً ما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم ، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من الفسقة الذين الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفاراً فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفراً وإن كان معها ما لا كفر فيه ، وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلى الله عليه وسلم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة ، ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي قدس سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعاً للسنة وأشدهم تجنباً عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل اتباعه قدس سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ ، قال في «العبر» : قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التاتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى .(3/260)
والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطاً لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلاً ، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة ، وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر ، والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون ، وقد رأيت منهم من يأخذ زق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنوراً كبيراً تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء ، وأقرب ما يقال في مثل ذلك : إنه استدراج وابتلاء ، وأما أن يقال : إن الله عز وجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كأني بك تقول بعدم جوازه ، وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له ، وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلى بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة .
هذا واستدل بالآية من قال : إن الله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسبما اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلاً بمجرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلاً وفي تلك خاصة الإحراق مثلاً لكن لا تحرق هذه ولا يروى ذاك إلا بإذنه عز وجل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال . ولا قائل بالفرق فتأمل .
{ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } مكراً عظيماً في الإضرار به ومغلوبيته { فجعلناهم الاخسرين } أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفار نور الحق قولاً وفعلاً برهاناً قاطعاً على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجباً لارتفاع درجته عليه السلام واستحقاقهم لأشد العذاب ، وقيل جعلهم الأخسرين من حيث أنه سبحانه سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم وسلط على نمروذ بعوضة أيضاً فبقيت تؤذيه إلى أن مات لعنه الله تعالى ، والمعول عليه التفسير الأول .
===========
وفي التفسير الوسيط (1):
قصة إبراهيم - عليه السلام - مع قومه ، قد وردت فى سور متعددة منها : سورة البقرة ، والعنكبوت ، والصافات .
وهنا تحدثنا سورة الأنبياء عن جانب من قوة إيمانه - عليه السلام - ومن سلامة حجته ومن تصميمه على تنفيذ ما يرضى الله - تعالى - بالقول والعمل .
والمراد بالرشد : الهداية إلى الحق والبعد عن ارتكاب ما نهى الله - تعالى - عنه .
والمراد بقوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } أى : من قبل أن يكون نبيا .
والمعنى : ولقد آتينا - بفضلنا وإحساننا - إبراهيم - عليه السلام - الرشد إلى الحق ، والهداية إلى الطريق المستقيم ، " من قبل " أى : من قبل النبوة بأن جنبناه ما كان عليه قومه من كفر وضلال .
وقد أكتفى الإمام ابن كثير بهذا المعنى فى قوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } فقال : يخبر - تعالى - عن خليله إبراهيم - عليه السلام - ، أنه آتاه رشده من قبل .
أى : من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه ، كما قال - تعالى - : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ . . . } ومن المفسرين من يرى أن المقصود بقوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } أى : من قبل موسى وهارون ، فقد كان الحديث عنهما قبل ذلك بقليل فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ . . . } فيكون المعنى : ولقد آتينا إبراهيم رشده وهداه ، ووفقنا للنظر والاستدلال على الحق ، من قبل موسى وهارون ، لأنه يسبقهما فى الزمان .
وقد رجح هذا المعنى الإمام الآلوسى فقال : " ولقد آتينا إبراهيم رشده " .
أى : الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار ، وهو الرشد الكامل ، أعنى : الاهتداء إلى وجوه الصلاح فى الدين والدنيا . . . " من قبل " أى : من قبل موسى وهارون ، وقيل : من قبل البلوغ . . . والأول مروى عن ابن عباس وابن عمر ، وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى ، أما لفظا فللقرب ، وأما معنى فلأن ذكر الأنبياء - عليهم السلام - للتأسى ، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى ، لكن روعى فى ذلك ترشيخ التسلى والتأسى ، فقد ذكر موسى ، لأن حاله وما قاساه من قومه . . . أشبه بحال نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للمعنيين . أى : أن الله - تعالى - قد أعطى إبراهيم رشده ، من قبل النبوة ، ومن قبل موسى وهارون لسبقه لهما فى الزمان .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2908)(3/261)
وقوله : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } بيان لكمال علم الله - تعالى - أى : وكنا به وبأحواله وبسائر شئونه عالمين ، بحيث لا يخفى علينا شىء من أحواله أو من أحوال غيره .
وقوله : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } بيان لما جابَهَ بِه إبراهيم أباه وقومه من قول سديد يدل على شجاعته ورشده .
أى : وكنا به عالمين . وقت أن قال لأبيه وقومه على سبيل الإرشاد والتنبيه : ما هذه التماثيل الباطلة التى أقبلتم عليها ، وصرتم ملازمين لعبادتها بدون انقطاع .
وسؤاله - عليه السلام - لهم بما التى هى لبيان الحقيقة ، من باب تجاهل العارف ، لأنه يعلم أن هذه الأصنام مصنوعة من الأحجار أو ما يشبهها ، وإنما أراد بسؤاله تنبيههم إلى فساد فعلهم . حيث عبدوا ما يصنعونه بأيديهم .
وعبر عن الأصنام بالتماثيل ، زيادة فى التحقير من أمرها ، والتوهين من شأنها ، فإن التماثيل هو الشىء المصنوع من الاحجار أو الحديد أو نحو ذلك ، على هيئة مخلوق من مخلوقات الله - تعالى - كالإنسان والحيوان ، يقال : مثلت الشىء بالشىء إذا شبهته به .
فهو - عليه السلام - سماها باسمها الحقيقى الذى تستحقه ، دون أن يجاريهم فى تسميتها آلهة .
وقوله : { عَاكِفُونَ } من العكوف بمعنى المداومة والملازمة . يقال : عكف فلان على الشىء إذا لازمه وواظب عليه ، ومنه الاعتكاف لأنه حبس النفس عن التصرفات العادية .
وفى التعبير عن عبادتهم لها بالعكوف عليها ، تفظيع لفعلهم وتنفير لهم منه ، حيث انكبوا على تعظيم من لا يستحق التعظيم ، وتعلقوا بعبادة تماثيل هم صنعوها بأيديهم .
وقوله - سبحانه - : { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } حكاية لما قالوه فى ردهم على إبراهيم - عليه السلام - وهو رد يدل على تحجر عقولهم ، وانطماس بصائرهم حيث قلدوا فعل آبائهم بدون تدبر أو تفكر .
أى : قالوا فى جوابهم على إبراهيم - عليه السلام - وجدنا آباءنا يعبدون هذه التماثيل فسرنا على طريقتهم .
وهنا يرد عليهم إبراهيم بقوله : { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
أى : لقد كنتم أنتم وآباؤكم الذين وجدتموهم يعبدون هذه الأصنام ، فى ضلال عجيب لا يقادر قدره ، وفى فساد ظاهر واضح لا يخفى أمره على عاقل ، لأن كل عاقل يعلم أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة أو التقديس أو العكوف عليها ، والباطل لا يصير حقا بفعل الآباء له .
وعندما واجههم إبراهيم - عليه السلام - بهذا الحكم البين الصريح ، قالوا له : { أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } .
أى : أجئتنا يا إبراهيم بالحق الذى يجب علينا اتباعه ، أم أنت من اللاعبين اللاهين الذين يقولون ما يقولون بقصد الهزل والملاعبة .
وسؤالهم هذا يدل على تزعزع عقيدتهم . وشكهم فيما هم عليه من باطل ، إلا أن التقليد لآبائهم . جعلهم يعطلون عقولهم " ويستحبون العمى على الهدى " .
ويجوز أن يكون سؤالهم هذا من باب الإنكار عليه . واستبعاد أن يكون آباؤهم على باطل ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " بقوا متعجبين من تضليله إياهم ، وحسبوا أن ما قاله ، إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجد ، فقالوا له : هذا الذى جئتنا به ، أهو جد وحق أم لعب وهزل .
وقد رد عليهم إبراهيم - عليه السلام - ردا حاسما يدل على قوة يقينه فقال : " بل ربكم رب السموات والأرض الذى فطرهن . . " .
أى : قال لهم إبراهيم بلغة الواثق بأنه على الحق : أنا لست هازلا فيما أقوله لكم ، وإنما أنا جاد كل الجد فى إخباركم أن الله - تعالى - وحده هو ربكم ورب آبائكم ، ورب السموات والأرض ، فهو الذى خلقهن وأنشأهن بما فيهن من مخلوقات بقدرته التى لا يعجزها شىء .
وقوله : { وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين } تذييل المقصود به تأكيد ما أخبرهم به ، وما دعاهم غليه . أى : وأنا على أن الله - تعالى - هو ربكم ورب كل شىء من الشاهدين ، الذين يثقون فى صدق ما يقولون ثقة الشاهد على شىء لا يشك فى صحته .
ثم أضاف إلى هذا التأكيد القولى ، تأكيداً آخر فعليا ، فقال لهم : { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } .
أى : وحق الله الذى فطركم وفطر كل شىء ، لأجتهدن فى تحطيم أصنامكم ، بعد أن تنصرفوا بعيدا عنها . وتولوها أدباركم .
وأصل الكيد : الاحتيال فى إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه . وقد عبر به إبراهيم عن تكسير الأصنام وتحطيمها ، لأن ذلك يحتاج إلى احتيال وحسن تدبير .
وقد نفذ إبراهيم ما توعد به الأصنام ، فقد انتهز فرصة ذهاب قومه بعيدا عنها فحطمها ، قال تعالى - { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } .
والفاء فى قوله : " فجعلهم " فصيحة . والجذاذ القطع الصغيرة جمع جذاذ من الجذ بمعنى القطع والكسر .(3/262)
أى : فولوا مدبرين عن الأصنام فجعلها بفأسه قطعا صغيرة ، بأن حطمها عن آخرها - سوى الصنم الأكبر لم يحطمه بل تركه من غير تكسير . لعلهم إليه يرجعون فيسألونه كيف وقعت هذه الواقعة وهو حاضر ، ولم يستطع الدفاع عن إخوته الصغار؟!!
ولعل إبراهيم - عليه السلام - قد فعل ذلك ليقيم لهم أوضح الأدلة على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تكون آلهة ، لأنها لم تستطع الدفاع عن نفسها ، وليحملهم على التكفير فى أن الذى يجب أن يكون معبوداً ، إنما هو الله الخالق لكل شىء ، والقادر على كل شىء .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير ، وضمير " إليه " عائد إلى إبراهيم ، أى : لعلهم يرجعون إلى إبراهيم ، فيحاجهم ويبكتهم .
وعن الكلبى : أن الضمير للكبير ، أى : لعلهم يرجعون إلى الكبير ، كما يرجع إلى العالم فى حل المشكلات فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة ، وما لك صحيحا ، والفأس فى عنقك أو فى يدك؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، ويظهر أنهم فى عبادته على جهل عظيم . . .
وعاد القوم إلى أصنامهم بعد تركهم إياها لفترة من الوقت ، فوجدوها قد تحطمت إلا ذلك الكبير ، فأصابهم ما أصابهم من الذهول والعجب ، ويصور القرآن الكريم ذلك فيقول : { قَالُواْ مَن فَعَلَ . . . } . أى : وحين رجع القوم من عيدهم ورأوا ما حل بأصنامهم " قالوا " على سبيل الفتجع والإنكار : " من فعل هذا " الفعل الشنيع " بآلهتنا " التى نعظمها " إنه " أى هذا الفاعل " لمن الظالمين " لهذه الآلهة . لإقدامه على إهانتها وهى الجديرة بالتعظيم - فى زعمهم - ، ولمن الظالمين لنفسه حيث سيعرضها للعقوبة منا .
{ قَالُواْ } أى : بعضهم وهم الذين سمعوا من إبراهيم قوله : " وتا الله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " . { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } والمراد بالذكر هنا : الذكر بالسوء والذم .
أى : سمعنا فتى يذكرهم بالنقص والذم والتهديد بالكيد ، وهذا الفتى يقال له إبراهيم ، ولعله هو الذى فعل بهم ما فعل .
وهنا تشاوروا فيما بينهم وقالوا . إذا كان الأمر كذلك : { فَأْتُواْ بِهِ } وأحضروه { على أَعْيُنِ الناس } أى : أمام أعينهم ليتمكنوا من رؤيته على أتم وجه { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } مساءلتنا له . ومواجهتنا إياه بالعقوبة التى يستحقها على فعله هذا ، أو يشهدون عليه بأنه هو الذى حطم الأصنام .
قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم ، أن يتبين فى هذا المحفل العظيم ، كثرة جهلهم ، وقلة عقلهم ، فى عبادة هذه الأصنام ، التى لا تدفع عن نفسها ضرا ، ولا تملك لها نصرا . . " .
وجاءوا بإبراهيم - عليه السلام - وقالوا له على سبيل الاستنكار والتهديد : " أأنت فعلت هذا " التكسير والتحطيم " بآلهتنا " التى نعبدها " يا إبراهيم "؟
وهنا يرد عليهم إبراهيم - عليه السلام - بتهكم ظاهر ، واستهزاء واضح فيقول : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } يعنى الذى تركه بدون تحطيم ، فإن كنتم لم تصدقوا قولى { فَاسْأَلُوهُمْ } عمن فعل بهم ذلك { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } أى : إن كانوا ممن يتمكن من النطق أجابوكم وأخبروكم عمن فعل بهم ما فعل .
فأنت ترى أن إبراهيم - عليه السلام - لم يقصد بقوله هذا الإخبار بأن كبير الأصنام هو الذى حطمها ، أو سؤالهم للأصنام عمن حطمها ، وإنما الذى يقصده هو الاستهزاء بهم ، والسخرية بأفكارهم ، فكأنه يقول لهم : إن هذه التماثيل التى تعبدونها من دون الله . لا تدرى إن كنت أنا الذى حطمتها أم هذا الصنم الكبير ، وأنتم تعرفون أنى قد بقيت قريبا منها بعد أن وليتم عنها مدبرين ، وإذا كان الأمر كذلك فانظروا من الذى حطمها إن كانت لكم عقول تعقل؟
قال صاحب الكشاف : هذا - أى قول إبراهيم لهم : بل فعله كبيرهم هذا - من معاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الخاصة من علماء المعانى .
والقول فيه أن قصد إبراهيم - عليه السلام - لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه ، وإثباته لها على أسلوب تعريضى ، يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم .
وهذا كما لو قال لك صاحبك ، وقد كتبت كتابا بخط رشيق - وأنت شهير بحسن الخط - : أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط ، ولا يقدر إلى على خربشة فاسدة - أى كتابة رديئة - فقلت له : بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب ، تقرير أن هذه الكتابة لك . مع الاستهزاء به . . .
وهذا التفسير للآية الكريمة من أن إبراهيم - عليه السلام - قد قال لقومه ما قال من سبيل الاستهزاء بهم ، هو الذى تطمئن إليه قلوبنا ، وقد تركنا أقوالا أخرى للمفسرين فى معنى الآية ، نظرا لضعف هذه الأقوال بالنسبة لهذا القول .
وقوله - سبحانه - : { فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } بيان للأثر الذى أحدثه رد إبراهيم - عليه السلام- .(3/263)
أى : أنهم بعد أن قال لهم إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } ، أخذوا فى التفكر والتدبر ، فرجعوا إلى أنفسهم باللوم ، وقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون ، حيث عبدتم مالا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حيث تركتم آلهتكم بدون حراسة .
ولكن هذا الأثر ، وهذا اللوم لأنفسهم ، لم يلبث إلا قليلا حتى تبدد ، بسبب استيلاء العناد والجحود عليهم ، فقد صور القرآن حالهم بعد ذلك فقال : { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } .
وقوله : { نُكِسُواْ } فعل مبنى للمجهول من النكس ، وهو قلب الشىء من حال إلى حال ، وأصله : قلب الشىء بحيث يصير أعلاه أسفله .
أى : ثم انقلبوا من لومه لأنفسهم لعبادتهم لما لا يقدر على دفع الأذى عنه ، إلى التصميم على كفرهم وضلالهم ، فقالوا لإبراهيم على سبيل التهديد : لقد علمت أن هذه الأصنام لا تنطق ، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ إن أمرك هذا لنا لهو دليل على أنك تسخر بعقولنا ، ونحن لن نقبل ذلك ، وسننزل بك العقاب الذى تستحقه .
وقد شبه القرآن الكريم عودتهم إلى باطلهم وعنادهم ، بعد رجوعهم إلى أنفسهم باللوم ، شبه ذلك بالانتكاس ، لأنهم بمجرد أى خطرت لهم الفكرة السليمة ، أطفأوها بالتصميم على الكفر والضلال ، فكان مثلهم كمثل من انتكس على رأسه بعد أن كان ماشيا على قدميه ، فياله من تصوير بديع لحالة من يعود إلى الظلام ، بعد أن يتبين له النور .
والجملة الكريمة { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } جواب لقسم محذوف ، معمول لقول محذوف ، والتقدير : ثم نكسوا على رءوسهم قائلين : والله لقد علمت ما هؤلاء ينطقون .
ولم يملك إبراهيم إزاء انتكاسهم على رءوسهم ، إلا أن يوبخهم بعنف وضيق ، - وهو الحليم الأواه المنيب - وقد قابلوا تأنيبه لهم بتوعده بالعذاب الشديد ، ولكن الله - تعالى - نجاه من مكرهم ، قال - تعالى - : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ . . . } . أى : قال إبراهيم لقومه بعد أن ضاق بهم ذرعا : أتتركون عبادة الله الذى خلقكم ، وتعبدون غيره أصناما لا تنفعكم بشىء من النفع ، ولا تضركم بشىء من الضر ، ثم يضيف إلى هذا التبكيت لهم ، الضجر منهم ، فيقول : { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
و " أف " اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر . وأصله صوت المتضجر من استقذار الشىء . واللام فى قوله { لَّكُمْ } لبيان المتضجر لأجله .
أى : سحقا وقبحا لكم ، ولما تعبدونه من أصنام متجاوزين بها عبادة الله - تعالى - عن جهل وسخف وطغيان .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما أنتم فيه من ضلال واضح ، فترجعون عنه إلى عبادة الواحد القهار .
وعندما وصل إبراهيم فى توبيخهم وتبكيتهم إلى هذا الحد أخذتهم العزة بالإثم ، شأنهم فى ذلك شأن كل طاغية جهول ، يلجأ إلى القوة الغاشمة بعد أن تبطل حجته ، فقالوا فيما بينهم : { حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } .
أى : قال بعضهم لبعض بعد أن عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة ، وبعد أن رأوا إبراهيم قد أفحمهم بمنطقة الحكيم : { حَرِّقُوهُ } أى : بالنار ، فإنها أشد العقوبات .
قيل : إن الذى اقترح عليهم ذلك هو رئيسهم : نمروذ بن كنعان . وقيل : هو رجل من الفرس اسمه : هينون .
وقوله : { وانصروا آلِهَتَكُمْ } بيان لسبب تحريقه بالنار .
أى : حرقوه بالنار من أجل الانتصار لآلهتكم التى حطمها فى غيبتكم { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } .
أى : إن كنتم بحق تريدون أن تنصروا آلهتكم نصرا يرضيها ، فاحرقوه بالنار .
قال صاحب الكشاف : أجمعوا رأيهم - لما غلبوا - بإهلاكه ، وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح . لم يكن أحد أبغض إليه من المحق ولم يبق له مفزع إلا مناصبته العداء ، كما فعلت قريش برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عجزوا عن المعارضة .
والذى أشار بإحراقه : نمروذ ، وعن ابن عمر : رجل من أعراب العجم . واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ، ولذلك جاء : " لا يعذب بالنار إلا خالقها " .
وقوله تعالى : { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ . . } مسبوق بكلام محذوف يفهم من سياق القصة .
والتقدير : وأحضر قوم إبراهيم الحطب ، وأضرموا نيرانا عظيمة ، وألقوا بإبراهيم فيها ، فلما فعلوا ذلك ، قلنا : يا نار كونى - بقدرتنا وأمرنا - ذات برد ، وذات سلام على إبراهيم ، فكانت كما أمرها الله - تعالى - ، وصدق - سبحانه - إذ يقول : { بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وتحولت النار إلى برد وسلام على إبراهيم ، وأراد الكافرون به كيدا ، أى إحراقا بالنار " فجعلناهم " بإرادتنا وقدرتنا " الأخسرين " حيث لم يصلوا إلى ما يريدون ، ولم يحققوا النصر لآلهتهم ، بل رد الله - تعالى - كيدهم فى نحورهم .
وقال - سبحانه - { فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين } بالإطلاق لتشمل خسارتهم كل خسارة سواء أكانت دنيوية أم أخروية .(3/264)
وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات آثارا منها : أن إبراهيم - عليه السلام - حين جىء به إلى النار ، قالت الملائكة : يا ربنا ما فى الأرض أحد يعبدك سوى إبراهيم ، وأنه الآين يحرف فأذن لنا فى نصرته!!
فقال - سبحانه - : إن استغاث بأحد منكم فلينصره ، وإن لم يدع غيرى فأنا أعلم به ، وأنا وليه ، فخلوا بينى وبينه ، فهو خليلى ليس لى خليل غيره .
فأتى جبريل - عليه السلام - إلى إبراهيم ، فقال له : ألك حاجة؟ فقال إبراهيم : أما إليك فلا ، وأما إلى الله فنعم!!
فقال له جبريل : فلم لا تسأله؟ فقال إبراهيم - عليه السلام - : حسبى من سؤالى علمه بحالى .
ثم بين - سبحانه - نعما أخرى أنعم بها على إبراهيم فقال : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } .
والضمير فى قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ } يعود إلى إبراهيم . و " لوطا " هو ابن أخيه ، وقيل : ابن عمه .
والمراد بالأرض التى باركنا فيها : أرض الشام على الصحيح وعدَّى { نَجَّيْنَاهُ } بإلى ، لتضمينه معنى أخرجناه .
أى : وأخرجناه ولوطا إلى الأرض التى باركنا فيها ، بأن جعلناها مهبطا للوحى ، ومبعثا للرسل لمدة طويلة ، وبأن جعلناها كذلك عامرة بالخيرات وبالأموال وبالثمرات للأجيال المتعاقبة .
والآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط - عليهما السلام - من أرض العراق التى كانا يقيما فيها ، إلى أرض الشام ، فرارا بدينهما ، بعد أن أراد قوم إبراهيم أن يحرقوه بالنار ، فأبطل الله - تعالى - كيدهم ومكرهم ، ونجاه من شرهم .
===========
وقال الطاهر بن عاشور (1):
أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه ، لأن إبراهيم كان هو المَثَل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذْ أقام للتوحيد هيكلاً بمكة هو الكعبة وبجَبل ( نابو ) من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينةٌ تسمى يومئذ ( لوزا ) ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة ( أورشليم ) في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد ، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهداً على بطلان الشرك الذي كان مماثلاً لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى الله عليه وسلم لقطع دابره . وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدُّهم إبراهيم على قومه ، وكفى بذلك حجة عليهم . وأيضاً فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى .
وتأكيد الخبر عنه بلام القَسم للوجه الذي بيناه آنفاً في تأكيد الخبر عن موسى وهارون ، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم أوتي رشداً وهدياً .
وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه .
والرشد : الهدى والرأي الحق ، وضده الغي ، وتقدم في قوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } في [ سورة البقرة : 256 ] . وإضافة { الرشد } إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي الرشد الذي أرْشِده . وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد ، أي رشداً يليق به؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم ، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخَافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى ، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به . وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه .
وزاده تنويهاً وتفخيماً تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى : { وكنا به عالمين } أي آتيناه رشداً عظيماً على عِلم منا بإبراهيم ، أي بكونه أهلاً لذلك الرشد ، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه ، أي علم من سريرته صفات قد رَضيها وأحمدَهَا فاستأهل بها اتخاذه خليلاً . وهذا كقوله تعالى : { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } [ الدخان : 32 ] وقوله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] .
وقوله { من قبل } أي من قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً . ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة .
و { إذ قال } ظرف لفِعل { آتينَا } أي كان إيتاؤه الرشد حينَ قال لأبيه وقومه : { ما هذه التماثيل } الخ ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه ، أي حينَ نزول الوحي إليه بالدَعوة إلى توحيد الله تعالى ، فذلك أول ما بُدىء به من الوحي .
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 9 / ص 174)(3/265)
وقوم إبراهيم كانوا من ( الكَلدان ) وكان يسكن بلداً يقال له ( كوثى ) بمثلثة في آخره بعدها ألف . وهي المسماة في التوراة ( أور الكلدان ) ، ويقال : أيضاً إنها ( أورفة ) في ( الرها ) ، ثم سكن هو وأبوه وأهله ( حاران ) وحاران هي ( حرّان ) ، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه : «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك» . ومات أبوه في ( حاران ) كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من ( حاران ) لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان . وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة ، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صوراً مجسمة .
والاستفهام في قوله تعالى : { ما هذه التماثيل } يتسلط على الوصف في قوله تعالى : { التي أنتم لها عاكفون } فكأنه قال : ما عبادتكم هذه التماثيل؟ . ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادىء الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها . وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيداً لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلاً مستعلماً ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم { وجدنا آباءنا لها عابدين } ؛ فإن شأن السؤال بكلمة ( مَا ) أنّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه .
والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية . والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي .
والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي ( بَعْل ) وهو أعظمها ، وكان مصوغاً من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس ، وعبدوا رموزاً للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح : ودّاً ، وسُواعاً ، ويغوثَ ، ويعوقَ ، ونسْراً ، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى . وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور ( إخوان الكلدان ) صنماً اسمه ( نَسْروخ ) وهو نَسْر لا محالة .
وجعْل العكوففِ مسنداً إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركاً لهم في ذلك فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم ، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى : { أنتم لها عاكفون } فيه معنى دوامهم على ذلك .
وضمن { عاكفون } معنى العبادة ، فلذلك عدّي باللام لإفادة ملازمة عبادتها .
وجاءوا في جوابه بما توهّموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلَهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق ، ولذلك لم يلبث أن أجابهم : { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } مؤكداً ذلك بلام القسم .
وفي قوله تعالى : { كنتم في ضلال } من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية ، إيماءٌ إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنّه ضلال بَواح لا شبهة فيه ، وأكدَ ذلك بوصفه ب { مبين . } فلما ذكروا له آباءَهم شرّكهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتّباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة .
ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالاً ، وإيقانِهم أن آباءهم على الحق ، شَكُّوا في حال إبراهيم أنطَق عن جِد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا { أجئتنا بالحق } ، فعبروا عنه { بالحق } المقابل للعب وذلك مسمى الجِدّ . فالمعنى : بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح ، فاستفهموا وسألوه { أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } . والباء للمصاحبة . والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحاً ، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّفَ معه وتجنبَ نسبته إلى الباطل استجلاباً لخاطره لما رأوا من قوة حجته .
وعُدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكناً في اللعب ومعدوداً من الفريق الموصوف باللعب .
وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم { أم أنت من اللاعبين } لإبطال أن يكون من اللاعبين ، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات ، أي وليست تلك التماثيل أرباباً إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى { قال أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكَر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلاّ مربوبة مخلوقة وليست أرباباً ولا خالقة . t فضمير الجمع في قوله تعالى { فطرهنّ } ضمير السماوات والأرض لا محالة .
فكان جواب إبراهيم إبطالاً لقولهم { أم أنت من اللاعبين } معَ مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق . وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي .(3/266)
وقوله تعالى : { وأنا على ذلكم من الشاهدين } إعلام لهم بأنه مُرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] ، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم ، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار .
ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القَسَم ، كقول الفرزدق :
شهد الفرزدق حين يلقى ربه ... أن الوليد أحقُّ بالعذر
ثم انتقل إبراهيم عليه السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلناً عزمه على ذلك بقوله : { وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين } مؤكداً عزمه بالقسم ، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها .
والتاء تختص بقسممٍ على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف } [ يوسف : 85 ] .
وسمى تكسيره الأصنام كَيْداً على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد . والكيْد : التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر . وقد تقدم عند قوله تعالى : { إن كيدكن عظيم } في [ سورة يوسف : 28 ] .
وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه ، وهذا من عزمه عليه السلام لأن المبادَرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلاً ، والمقصود من تغيير المنكر : إزالته بقدر الإمكان ، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة .
{ ومدبرين } حال مؤكدة لعاملها . وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى { ثم وليتم مدبرين } في [ سورة براءة : 25 ] .
الضميران البارزان في { جعلهم } وفي { لهم } عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل ، وضمير { لعلهم } عائد إلى قوم إبراهيم ، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى { وعمروها أكثر مما عمروها } [ الروم : 9 ] .
والجُذاذ بضم الجيم في قراءة الجمهور : اسم جمع جُذاذة ، وهي فُعالة من الجذّ ، وهو القطع مثل قُلامة وكُناسة ، أي كسرهم وجعلهم قطعاً . وقرأ الكسائي { جِذاذاً } بكسر الجيم على أنه مصدر ، فهو من الإخبار بالمصدر للمبالغة .
قيل : كانت الأصنام سبعين صنماً مصطفة ومعها صنم عظيم وكان هو مقابل باب بيت الأصنام ، وبعد أن كسرها جعل الفأس في رقبة الصنم الأكبر استهزاء بهم .
ومعنى { لعلهم إليه يرجعون } رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير . ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم .
وضمير { لهم } عائد إلى الأصنام من قوله { أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] . وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء ، ومثله ضمائر قوله بعده { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } [ الأنبياء : 63 ] .
وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام .
وقول قومه { من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } يدل على أنهم لم يخطر ببالهم أن يكون كبير الآلهة فَعل ذلك ، وهؤلاء القوم هم فريق لم يسمع توعد إبراهيم إياهم بأن يكيد أصنامهم والذين { قالوا سمعنا فتى يذكرهم } هم الذين توعد إبراهيم الأصنام بمسمع منهم .
والفتى : الذكر الذي قوي شبابه . ويكون من الناس ومن الإبل . والأنثى : فتاة ، وقد يطلقونه صفة مدح دالة على استكمال خصال الرجل المحمودة .
والذكر : التحدث بالكلام .
وحذف متعلق «يذكر» لدلالة القرينة عليه ، أي يذكرهم بتوعد . وهذا كقوله تعالى : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] كما تقدم .
وموضع جملتي { يذكرهم } و { يقال له } في موضع الصفة ل { فتىً } .
وفي قولهم يقال له إبراهيم } دلالة على أن المنتصبين للبحث في القضية لم يكونوا يعرفون إبراهيم ، أو أن الشهداء أرادوا تحقيره بأنه مجهول لا يعرف وإنما يُدعى أو يسمى إبراهيم ، أي ليس هو من الناس المعروفين .
ورُفع { إبراهيمُ } على أنه نائب فاعللِ { يُقال ، } لأن فعل القول إذا بني إلى المجهول كثيراً ما يضمن معنى الدعوة أو التسمية ، فلذلك حصلت الفائدة من تعديته إلى المفرد البحت وإن كان شأن فعل القول أن لا يتعدّى إلا إلى الجملة أو إلى مفرد فيه معنى الجملة مثل قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] .
ومعنى { على أعين الناس } على مشاهدة الناس ، فاستعير حرف الاستعلاء لتمكن البصر فيه حتى كأنّ المرئي مظروف في الأعين .
ومعنى { يشهدون } لعلهم يشهدون عليه بأنه الذي توعد الأصنام بالكيد .(3/267)
وقع هنا حذف جملة تقتضيها دلالة الاقتضاء . والتقدير : فأتَوا به فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا .
وقوله تعالى { بل } إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك ، فنفى أن يكون فعَل ذلك ، لأن ( بل ) تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه .
وقوله تعالى { فعله كبيرهم هذا } الخبر مستعمل في معنى التشكيك ، أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يَبق صحيحاً من الأصنام إلا الكبير . وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية ، وذلك تدرّج إلى دليل الوحدانية ، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم ، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأوْلى على نية أن يكر على ذلك كله بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه ، ولذلك قال { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } تهكُّماً بهم وتعريضاً بأن ما لا ينطق ولا يعرب عن نفسه غير أهل للآلهية .
وشمل ضمير { فاسألوهم } جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائماً . والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثاً عظيماً مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعلَه بهم . وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب ، فخلقه خارق العادة عند تحدّي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه .
وأما ما روي في «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثَ كَذبات ثنتين منه في ذات الله عزّ وجل قوله { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } . وبيْنَا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال : من هذه؟ قال : أختي . فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنككِ أختي فلا تكذبيني . . . " وساق الحديث .
فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه : { أأنت فعلت هذا بآلهتنا } حيث قال : { بل فعله كبيرهم هذا } ، لأن ( بل ) إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه . فقولهم : { أأنت فعلتَ هذا } سؤال عن كونه محطمَ الأصنام ، فلما قال : { بل } فقد نفى ذلك عن نفسه ، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب .
غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم ، فهذا الإضراب كان تمهيداً للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بآخره . ولذلك قال : { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم } الآية .
أما الإخبار بقوله { فعله كبيرهم هذا } فليس كذباً وإن كان مخالفاً للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها ، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء ، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهدّ لذلك كلاماً هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال : لو كان هذا إلهاً لما رضي بالاعتداء على شركائه ، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعلَ لذلك ، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلبَ الإلهية عن جميعهم بقوله { إن كانوا ينطقون } كما تقدم . فالمراد من الحديث أنها كذبات في بادىء الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها . وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقعُ بخلافه . فإذا كان الخبر يُعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضاً أو مزحاً أو نحوهما .
وأما ما ورد في حديث الشفاعة «فيقول إبراهيم : لست هناكم ويذكر كذَبات كذبها» فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاماً خِلافاً للواقع بدون إذن من الله بوحي ، ولكنه ارتكب قولَ خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف .
وقوله تعالى { فرجعوا إلى أنفسهم } يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض ، أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى : { فسلِّموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] ، أي فقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون .
وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في : ركب القومُ دوابهم ، ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه ، أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم . فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض { إنكم أنتم الظالمون } . وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف . والجملة مفيدة للحصرْ ، أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظَلَم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمّن فعلَ بها ذلك ، ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم .(3/268)
والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير ، كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره .
وفعل { نُكِسوا } مبني للمجهول ، أي نَكسهم ناكس ، ولمّا لم يكن لذلك النكس فاعل إلاّ أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى : انتَكَسوا على رؤوسهم . وهذا تمثيل .
والنكس : قلب أعلى الشيء أسفلَه وأسفله أعلاه ، يقال : صُلب اللص منكوساً ، أي مجعولاً رأسه مباشراً للأرض ، وهو أقبح هيئات المصلوب . ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصباً على قدميه فإذا نُكِّس صار انتصابه كأنه على رأسه ، فكان قوله هنا { نكسوا على رؤوسهم } تمثيلاً لتغيّر رأيهم عن الصواب كما قالوا { إنكم أنتم الظالمون } إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرؤوس منكوسين . فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع . وحرف ( على ) للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رؤوسهم بأن انكبوا انكباباً شديداً بحيث لا تبدو رؤوسهم . وتحتمل الآية وجوهاً أخرى أشار إليها في «الكشاف» .
والمعنى : ثم تغيرت آراؤهم بعد أن كادوا يعترفون بحجة إبراهيم فرجعوا إلى المكابرة والانتصار للأصنام ، فقالوا : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } ، أي أنت تعلم أن هؤلاء الأصنام لا تنطق فما أردت بقولك { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } إلا التنصل من جريمتك .
فجملة { لقد علمت } إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } .
وجملة { ما هؤلاء ينطقون } تفيد تقوي الاتصاف بانعدام النطق ، وذلك بسبب انعدام آلته وهي الألسُن .
وفعل { عَلمت } معلق عن العمل لوجود حرف النفي بعده ، فلما اعترفوا بأن الأصنام لا تستطيع النطق انتهز إبراهيم الفرصة لإرشادهم مفرعاً على اعترافهم بأنها لا تنطق استفهاماً إنكارياً على عبادتهم إياها وزائداً بأن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر .
وجعل عدم استطاعتها النفع والضر ملزوماً لعدم النطق لأن النطق هو واسطة الإفهام ، ومن لا يستطيع الإفهام تبين أنه معدوم العقل وتوابعه من العلم والإرادة والقدرة .
و { أُفّ } اسم فعل دالّ على الضجَر ، وهو منقول من صورة تنفس المتضجّر لضيق نفسه من الغضب . وتنوين { أف } يسمى تنوين التنكير والمرَاد به التعظيم ، أي ضجراً قوياً لكم . وتقدم في [ سورة الإسراء : 23 ] { فلا تقل لهما أف } واللام في { لكم } لبيان المتأفّف بسببه ، أي أف لأجلكم وللأصنام التي تعبدونها من دون الله .
وإظهار اسم الجلالة لزيادة البيان وتشنيع عبادة غيره .
وفَرَّع على الإنكار والتضجر استفهاماً إنكارياً عن عدم تدبرهم في الأدلة الواضحة من العقل والحس فقال : { أفلا تعقلون } .
لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مَخلَصاً إلا بإهلاكه . وكذلك المبطل إذا قَرعَت باطلَه حجة فساده غضب على المحقّ ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبتَه والتشفّي منه ، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة . واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعَاقب به وأفظعه .
والتحريق : مبالغة في الحرق ، أي حرقاً متلفاً .
وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملِكهم ، وهو ( النمروذ ) ، إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام . قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كُردي اسمه ( هينون ) ، واستحسن القومُ ذلك ، والذي أمر بالإحراق ( نمروذ ) ، فالأمر في قولهم { حرقوه مستعمل في المشاورة .
ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم ، وأنهم دبّروه ليبغتوه به خشيةَ هروبه لقوله تعالى : { وأرادوا به كيداً } [ الأنبياء : 70 ] .
ونمروذ هذا يقولون : إنه ابن ( كوش ) بن حَام بن نوح ، ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن ( كوش ) . فالصواب أن ( نمروذ ) من نسِل ( كوش ) . ويحتمل أن تكون كلمة ( نمروذ ) لقباً لملك ( الكلدان ) وليست عَلَماً . والمقدر في التاريخ أن مَلك مدينة ( أور ) في زمن إبراهيم هو ( ألغى بن أورخ ) وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } في [ سورة البقرة : 258 ] .
ونصر الآلهة بإتلاف عدوّها .
ومعنى { إن كنتم فاعلين } إن كنتم فاعلين النصر ، وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم .(3/269)
وجملة { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } مفصولة عن التي قبلها إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم { حرقوه } فأشبهت جمل المحاورة ، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق . وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى ، أي فألقَوْه في النار قلنا : يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم . وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم إذ وَجّه إلى النار تعلّقَ الإرادة بسلب قوة الإحراق ، وأن تكون برداً وسلاماً إن كان الكلام على الحقيقة ، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقَى فيككِ بحَرّك .
وأما كونها سلاماً فهو حقيقة لا محالة ، وذِكر { سلاماً } بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد ، فعُقب ذكره بذكر السلام لذلك . وعن ابن عباس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببَردها . وإنما ذكر { برداً } ثمّ أتبع ب { سلاماً } ولم يقتصر على { برداً } لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صيّر النار برداً .
و { على إبراهيم } يتنازعه { برداً وسلاماً } . وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له ، ويجوز أن يتعلق بفعل الكون .
تسمية عزمهم على إحراقه كيْداً يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه . ولعلّ قصدهم من ذلك أن لا يفرّ من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم .
والأخسر : مبالغة في الخاسر ، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة .
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر ، وهو قصرٌ للمبالغة كأنّ خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم . والمراد بالخسارة الخيبة . وسميت خيبتُهم خسارةً على طريقة الاستعارة تشبيهاً لخيبة قصدهم إحراقَه بخيبة التاجر في تجارته ، كما دل عليه قوله تعالى : { وأرادوا به كيداً } ، أي فخابوا خيبة عظيمة . وذلك أن خيبتهم جُمع لهم بها سلامةُ إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعَدوه للعقاب معجزة وتأييداً لإبراهيم عليه السلام .
وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذاباً كما دلّ عليه قوله تعالى في [ سورة الحج : 44 ] { فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير } وقد عَدّ فيهم قومَ إبراهيم ، ولم أرَ من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول . والظاهر أن الله سلّط عليهم الأشوريين فأخذوا بلادهم ، وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون ، وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلّطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة 2286 قبل المسيح . هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار ، هي نجاته من الحلول بين قوم عدّو له كافرين بربّه وربهم ، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد . وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد ( الكلدان ) إلى أرض ( فلسطين ) وهي بلاد ( كنعان ) .
============
وقال السيد رحمه الله(1) :
آتينا رشده , وكنا عالمين بحاله وباستعداده لحمل الأمانة التي يحملها المرسلون .
(إذ قال لأبيه وقومه:ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ?) . .
فكانت قولته هذه دليل رشده . . سمى تلك الأحجار والخشب باسمها: (هذه التماثيل) ولم يقل إنها آلهة , واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة . و كلمة(عاكفون) تفيد الانكباب الدائم المستمر . و هم لايقضون وقتهم كله في عبادتها . ولكنهم يتعلقون بها . فهو عكوف معنوي لا زمني . وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذة التماثيل !
فكان جوابهم وحجتهم أن
(قالوا:وجدنا آباءنا لها عابدين) !
وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة , في مقابل حرية الإيمان , وانطلاقه للنظر والتدبر , وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لاالتقليدية . فالإيمان باللة طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية , والوراثات المتحجرة التى لا تقوم على دليل:
(قال:لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) . .
وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذة التماثيل قيمة ليست لها , ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها . فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم , إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق .
وعندما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير , وبهذه الصراحة في الحكم , راحوا يسألون:
(قالوا:أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ?) . .
وهو سؤال المزعزع العقيدة , الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه , لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه . ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد . فهو لا يدري أي الأقوال حق . والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل ! وهذا هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير .
فأما إبراهيم فهو مستيقن واثق عارف بربه , متمثل له في خاطره وفكره , يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه:
(قال:بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن , وأنا على ذلكم من الشاهدين) .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 323)(3/270)
فهو رب واحد . رب الناس ورب السماوات والأرض . ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق . فهما صفتان لا تنفكان: (بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) . . فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة , لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب , في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق , وأن الخالق هو الله . ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا وهم يعلمون !
إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه: (وأنا على ذلكم من الشاهدين) . . وإبراهيم - عليه السلام - لم يشهد خلق السماوات والأرض , ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه . . ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين . . إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر . وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبر , وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه .
ثم يعلن إبراهيم لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار . أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمرا لا رجعة فيه:
(وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) . .
ويترك ما اعتزمه من الكيد للأصنام مبهما لا يفصح عنه . . ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه . ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدا . فتركوه !
(فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) . .
وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة . . إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم (لعلهم إليه يرجعون) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغارر الآلهة ! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها , فيرجعون إلى صوابهم , ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت .
وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا إلا ذلك الكبير ! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها:إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا . وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها ? لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال , لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير , ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر . فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حطم آلهتهم , وصنع بها هذا الصنيع:
(قالوا:من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) . .
عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة هذه التماثيل , ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها !
(قالوا:سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) . .
ويبدو من هذا أن إبراهيم - عليه السلام - كان شابا صغير السن , حينما آتاه الله رشده , فاستنكر عبادة الأصنام وحطمها هذا التحطيم . ولكن أكان قد أوحي إليه بالرسالة في ذلك الحين ? أم هو إلهام هداه إلى الحق قبل الرسالة . فدعا إليه أباه , واستنكر على قومه ما هم فيه ?
هذا هو الأرجح . .
وهناك احتمال أن يكون قولهم: (سمعنا فتى) يقصد به إلى تصغير شأنه بدليل تجهيلهم لأمره في قولهم: (يقال له إبراهيم !) للتقليل من أهميته , وإفادة أنه مجهول لا خطر له ? قد يكون . ولكننا نرجح أنه كان فتى حديث السن في ذلك الحين .
(قالوا:فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) . .
وقد قصدوا إلى التشهير به , وإعلان فعلته على رؤوس الأشهاد !
(قالوا:أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ?) . .
فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة وهي جذاذ مهشمة . فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم , وهو فرد وحده وهم كثير . ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر , وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون:
(قال:بل فعله كبيرهم هذا . فاسألوهم إن كانوا ينطقون) . .
والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر . فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم - عليه السلام - والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون . فالأمر أيسر من هذا بكثير ! إنما أراد أن يقول لهم:إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا . فهي جماد لا إدراك له أصلا . وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل . فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها ! (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) !
ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا , وردهم إلى شيء من التدبر والتفكر:(فرجعوا إلى أنفسهم , فقالوا:إنكم أنتم الظالمون) . .
وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف , وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم . وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم , وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون .
ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام , وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:
(ثم نكسوا على رؤوسهم . لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) !(3/271)
وحقا لقد كانت الأولى رجعة إلى النفوس , وكانت الثانية نكسة على الرؤوس ; كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب . . كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر . أما الثانية فكانت انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير . وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم . وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون ?!
ومن ثم يجبههم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم . لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم:
(قال:أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ? أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ?!)
وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر , وغيظ النفس , والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف .
عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل , فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:
(قالوا:حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) . .
فيالها من آلهة ينصرها عبادها , وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ; ولا تحاول لها ولا لعبادها نصرا !
(قالوا:حرقوه) ولكن كلمة أخرى قد قيلت . . فأبطلت كل قول , وأحبطت كل كيد . ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد:
(قلنا:يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) . .
فكانت بردا وسلاما على إبراهيم . .
كيف ?
ولماذا نسأل عن هذه وحدها . و(كوني) هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان , وتنشأ بها عوالم , وتخلق بها نواميس:(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له:كن فيكون) .
فلا نسأل:كيف لم تحرق النار إبراهيم , والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية ? فالذي قال للنار:كوني حارقة . هو الذي قال لها:كوني بردا وسلاما . وهي الكلمة الواحدة التي تنشيء مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول . مألوفا للبشر أو غير مألوف .
إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون:كيف كان هذا ? وكيف أمكن أن يكون ? فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين , واختلاف الأداتين , فإنهم لا يسألون أصلا , ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلا . علميا أو غير علمي . فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلا . ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر . وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه , لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود .
إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان , لأن صانعه يملك أن يكون . أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام ? وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار . . فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود . وليس لنا سوى النص القرآني من دليل .
وما كان تحويل النار بردا وسلاما على إبراهيم إلا مثلا تقع نظائره في صور شتى . ولكنها قد لا تهز المشاعر كما يهزها هذا المثل السافر الجاهر . فكم من ضيقات وكربات تحيط بالأشخاص والجماعات من شأنها أن تكون القاصمة القاضية , وإن هي إلا لفتة صغيرة , فإذا هي تحيي ولا تميت , وتنعش ولا تخمد , وتعود بالخير وهي الشر المستطير .
إن (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) لتتكرر في حياة الأشخاص والجماعات والأمم ; وفي حياة الأفكار والعقائد والدعوات . وإن هي إلا رمز للكلمة التي تبطل كل قول , وتحيط كل كيد , لأنها الكلمة العليا التي لا ترد !
(وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) . .
وقد روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب "بالنمرود" وهو ملك الآراميين بالعراق . وأنه قد أهلك هو والملأ من قومه بعذاب من عند الله . تختلف الروايات في تفصيلاته , وليس لنا عليها من دليل . المهم أن الله قد أنجى إبراهيم من الكيد الذي أريد به , وباء الكائدون له بخسارة ما بعدها خسارة (فجعلناهم الأخسرين) هكذا على وجه الإطلاق دون تحديد !
- - - - - - - - - - - - - -
ثانيا- صور من الثبات عند الأمم السابقة
ثبات ماشطة بنت فرعون(3/272)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِى أُسْرِىَ بِى فِيهَا أَتَتْ عَلَىَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ فَقَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلاَدِهَا. قَالَ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا قَالَ بَيْنَا هِىَ تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِى قَالَتْ لاَ وَلَكِنْ رَبِّى وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ . قَالَتْ أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا فَقَالَ يَا فُلاَنَةُ وَإِنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِى قَالَتْ نَعَمْ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِىَ وَأَوْلاَدُهَا فِيهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ وَمَا حَاجَتُكِ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِى وَعِظَامَ وَلَدِى فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا. قَالَ ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ. قَالَ فَأَمَرَ بِأَوْلاَدِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِداً وَاحِداً إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِىٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِى فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ ». قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَشَاهِدُ يُوسُفَ وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ.(1)
---------
الإسراء وقصة ماشطة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديًا ومبشرًا ونذيرًا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله. أما بعد فيا عباد الله إني أحبكم في الله وأوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم والسير على خطى رسوله الكريم يقول الله تبارك وتعالى في القرءان الكريم: ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? إخوة الإيمان: تمر علينا في هذا الشهر الكريم رجب ذكرى الإسراء والمعراج، فإنها مناسبة سامية لذكرى راقية يُحْتَفَل بها لعظيم مدلولها وجلال قدرها، كيف لا وهي معجزة كبرى خُص بها محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي الأمين، خاتم الأنبياء وأوفى الأوفياء فقد كان إسراؤه من مكة المكرمة للأقصى الشريف حيث جمع الله عز وجل له الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من آدم فمن بعده فصلى بهم إمامًا.
في القدس صليّت يا خير النبيّين *** وقدسنا اليوم نبكيها وتبكينا
إليك مني رسول الله معذرة *** ماذا أقول إذا ضاعت أراضينا
نعم إخوة الإيمان ليقف الواحد منا عند هذه المناسبة العظيمة ليبكي حال الأمة ليبكي حال الأقصى الأسير ليبكي الأمّ الثكلى والطفل المذبوح في أرض الأقصى مسرى نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
ولكن لنأخذ العزيمة والثبات والعبرة من موقف ماشطة بنت فرعون التي كانت تسرح شعر بنت فرعون فوقع المشط من يدها فقالت بسم الله، فقالت لها بنت فرعون: أَوَلَك رب إله غير أبي؟ فكان جوابها: ربي ورب أبيك هو الله، فأخبرت البنت أباها فطلب منها فرعون الرجوع عن دينها وأي التزام التزام الماشطة، وأي موقف موقف الماشطة، أبت أن ترجع عن الحق والدين أبت أن ترجع عن الإسلام.
وكان فرعون جبارًا لا يرحم ويكفر بإله الكون ويقتل من أسلم. فحمّى لها ماء وقال ارجعي يا ماشطة قالت بقلب ثابت الله رب منتقم، الله رب منتقم.
وأحمي التنور وتحته النيران، والزيت معه الماء في القدر وبدأ يرمي بأولادها أمام عينيها، فكان يرمي بالولد فينفصل عظمه عن لحمه وهي ثابتة متمسكة بدين الإسلام، وبقي بين يديها طفل رضيع فأنطقه الله فقال : يا أماه اصبري فإن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فلا تتقاعسي فإنك على الحق. أنطقه الله الذي أنطق كل شىء أليس الله على كل شىء قديرًا؟ بلى ونحن على ذلك من الشاهدين.
__________
(1) - مسند أحمد برقم(2875) صحيح
البقرة : قدر كبير واسع أو شىء يسع بقرة تامة بتوابلها فسميت بذلك -المدرى : مشط له أسنان يسيرة(3/273)
فقالت لفرعون لي عندك طلب أن تجمع العظام وتدفنها في مكان واحد فقال لها : لك ذلك، فرماها هي ورضيعها في الزيت الحامي فماتت هي وأولادها شهداء. وبعد مئات السنين لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها بالعطر فاح، شّم رسول الله من قبرها رائحة طيبة عطرة وكأنها تقول السلام عليك يا رسول الله وكأنها تقول أنا على دينك يا رسول الله.
كان إسراؤه صلى الله عليه وسلم بجسده وروحه وفي اليقظة فهذا ليس بعزيز على الله. واعلموا إخوة الإيمان أنه لا خلاف في الإسراء برسول الله إذ فيه نصٌ صريح قرءاني.
لذلك قال العلماء: " إن من أنكر الإسراء فقد كذّب القرءان والذي يكذب القرءان لا يكون من المسلمين، وعليه الرجوع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين بقول : أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله ".
=================(3/274)
ثبات أصحاب الأخدود
عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّى قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِى أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.
فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.
ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.(3/275)
فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ »(1).
بعض الدروس من القصة
إنها قصة غلام نور الله بصيرته ، وآتاه من الإيمان والثبات ، والذكاء والفطنة ، ما استطاع به أن يغير حال أمة بأكملها ، وأن يزلزل عرش ذلك الطاغية المتجبر ، الذي ادعى الألوهية من دون الله ، فقد كان لهذا الملك ساحر يعتمد عليه في تثبيت ملكه ، وإرهاب الناس لينصاعوا لأمره ، فكبر سن هذا الساحر ، وطلب من الملك أن يرسل له غلاما ، ليرث علمه ، ويخلفه في مهمته ، وكان من إرادة الله الخير لهذا الغلام أن كان هو المرشح لهذه المهمة ، وتعرف في أثناء ذهابه إلى الساحر وعودته من عنده على راهب مؤمن ، دعاه إلى الإيمان والتوحيد فاستجاب له وآمن ، ودله الراهب على ما يتخلص به من تأنيب الساحر وتأنيب أهله في حال تأخره عنهم ، وقد أراد الغلام أن يزداد يقينا واطمئنانا بصحة ما دعاه إليه الراهب ، فوجد الفرصة سانحة عندما اعترضت دابة عظيمة طريق الناس فعلم وتيقن أنه على الحق والهدى .
وعندها عرف الراهب أنه سيكون لهذا الغلام شأن عظيم فأخبره بطبيعة ما سيلقاه في هذا السبيل ، وتعرضه لألوان من الابتلاء .
__________
(1) -صحيح مسلم برقم(7703 )
المئشار : المنشار =الأخدود : الشق العظيم فى الأرض =القرقور : السفينة قيل الصغيرة وقيل الكبيرة =تقاعست : توقفت ولزمت موضعها وامتنعت عن التقدم =الكنانة : وعاء السهام
شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 390)
هَذَا الْحَدِيث فِيهِ إِثْبَات كَرَامَات الْأَوْلِيَاء .
وَفِيهِ جَوَاز الْكَذِب فِي الْحَرْب وَنَحْوهَا ، وَفِي إِنْقَاذ النَّفْس مِنْ الْهَلَاك ، سَوَاء نَفْسه أَوْ نَفْس غَيْره مِمَّنْ لَهُ حُرْمَة . وَالْأَكْمَه الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى . وَالْمِئْشَار
مَهْمُوز فِي رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ ، وَيَجُوز تَخْفِيف الْهَمْزَة بِقَلْبِهَا يَاء ، وَرُوِيَ الْمِنْشَار بِالنُّونِ ، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ سَبَقَ بَيَانهمَا قَرِيبًا .
وَذُرْوَة الْجَبَل أَعْلَاهُ ، هِيَ بِضَمِّ الذَّال ، وَكَسْرهَا
وَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَل أَيّ اِضْطَرَبَ وَتَحَرَّكَ حَرَكَة شَدِيدَة ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ رَوَاهُ : فَزَحَفَ بِالزَّايِ وَالْحَاء ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْحَرَكَة ، لَكِنَّ الْأَوَّل هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور .
وَالْقُرْقُور بِضَمِّ الْقَافَيْنِ السَّفِينَة الصَّغِيرَة ، وَقِيلَ : الْكَبِيرَة ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي الصَّغِيرَة بَعْد حِكَايَته خِلَافًا كَثِيرًا .
وَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَة أَيْ اِنْقَلَبَتْ وَالصَّعِيد هُنَا الْأَرْض الْبَارِزَة . وَكَبِد الْقَوْس مِقْبَضهَا عِنْد الرَّمْي .
قَوْله : ( نَزَلَ بِك حَذَرك ) أَيْ مَا كُنْت تَحْذَر وَتَخَاف .
وَالْأُخْدُود هُوَ الشَّقّ الْعَظِيم فِي الْأَرْض ، وَجَمْعه أَخَادِيد وَالسِّكَك الطُّرُق ، وَأَفْوَاههَا أَبْوَابهَا .
قَوْله : ( مَنْ لَمْ يَرْجِع عَنْ دِينه فَأَحْمُوهُ فِيهَا ) هَكَذَا هُوَ فِي عَامَّة النُّسَخ : ( فَأَحْمُوهُ ) بِهَمْزَةِ قَطَعَ بَعْدهَا حَاء سَاكِنَة ، وَنَقَلَ الْقَاضِي اِتِّفَاق النُّسَخ عَلَى هَذَا . وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ بِلَادنَا : ( فَأَقْحِمُوهُ ) بِالْقَافِ ، وَهَذَا ظَاهِر ، وَمَعْنَاهُ اِطْرَحُوا فِيهَا كُرْهًا . وَمَعْنَى الرِّوَايَة الْأُولَى اِرْمُوهُ فِيهَا مِنْ قَوْلهمْ حَمَيْت الْحَدِيدَة وَغَيْرهَا إِذَا أَدْخَلْتهَا النَّار لِتُحْمَى .
قَوْله : ( فَتَقَاعَسَتْ ) أَيْ تَوَقَّفَتْ وَلَزِمَتْ مَوْضِعهَا ، وَكَرِهَتْ الدُّخُول فِي النَّار . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .(3/276)
ثم ذاع أمر الغلام واشتهر بين الناس ، وأجرى الله على يديه الكرامات من شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص ، وكان يتخذ من ذلك وسيلة لنشر دعوته وتبليغ رسالته ، حتى وصل خبره إلى الملك عن طريق جليسه الذي دعا له الغلام فشفاه الله ، وشعر الملك من كلام الوزير ببوادر فتنة تهدد عرشه ، عندما صرح بالألوهية والربوبية لغيره ، فأراد أن يعرف أصل هذه الفتنة ومصدرها ، حتى وصل إلى الغلام ثم إلى الراهب ، وأراد أن يصدهم عن ما هم عليه ، فأبوا واحتملوا العذاب والقتل على الكفر بالله ، وأما الغلام فلم يقتله قتلا مباشرا كما فعل مع الوزير والراهب ، بل استخدم معه طرقا متعددة لتخويفه وإرهابه ، طمعا في أن يرجع عن ما هو عليه ، ويستفيد منه في تثبيت دعائم ملكه ، وفي كل مرة ينجيه الله ، ويعود إلى الملك عودة المتحدي ، وكان الناس يتابعون ما يفعله الغلام خطوة بخطوة ، ويترقبون ما سيصل إليه أمره ، فلما يئس الملك من قتله أخبره الغلام أنه لن يستطيع ذلك إلا بطريقة واحدة يحددها الغلام نفسه ، ولم يكن الغلام يطلب الموت أو الشهادة ، بل كان يريد أن يؤمن الناس كلهم ، وأن يثبت عجز الملك وضعفه، في مقابل قدرة الله وقوته ، فأخبره أنه لن يستطيع قتله إلا بأن يجمع الناس في صعيد واحد ، ويصلبه على خشبة ، ثم يأخذ سهمًا - وليس أي سهم ، بل سهمًا من كنانة الغلام - ويرميه به قائلاً : بسم الله رب الغلام .
وكان للغلام ما أراد ووقع السهم في صدغه ثم وضع يده على مكان السهم ومات ، وما كاد الغلام أن يسقط ميتاً ويتنفس الملك الصعداء بعد أن ظن أنه اقتلع هذه الفتنة من جذورها ، حتى تنادى الناس من كل حدب وصوب مؤمنين بالله جل وعلا ، مرددين : " آمنا برب الغلام " .
وهنا جن جنون الملك ، وثارت ثائرته ، فقد وقع الأمر الذي كان يحذره ومن أجله قتل الغلام ، فحفر الأخاديد ، وأضرم فيها النيران ، وتوعد كل من أصر على دينه بأن يقذف فيها ، ولكن هيهات بعد أن كسر الغلام حاجز الخوف والرهبة في نفوسهم ، وبين لهم بأبلغ رسالة وأفصح بيان عجز الملك وضعفه أمام قدرة الله وقوته ، فرضي الناس بالتضحية بالنفس في سبيل الله ، على الرغم من أنه لم يمض على إيمانهم إلا ساعات قلائل بعد الذي عاينوه من دلائل الإيمان ، وشواهد اليقين ، وأنطق الله الرضيع عندما تقاعست أمه عن اقتحام النار، فكانت آية ثبت الله بها قلوب المؤمنين
إن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار الحقيقي هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة ، وأن الحياة الدنيا وما فيها من المتاعب والآلام ليست هي الميزان الذي يوزن به الربح والخسارة ، لقد انتصر هذا الغلام عدة مرات في معركة واحدة وموقف واحد ، انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور ، وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ، متخطيا جميع العقبات ، ومستعليا على الشهوات ، ومتاع الحياة الدنيا ، وانتصر عندما تحقق ما كان يدعو إليه وما قدم نفسه من أجله ، وانتصر عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، وانتصر عندما خلد الله ذكره في العالمين ، وجعل له لسان صدق في الآخرين ، صحيح أن الناس كلهم يموتون ، ولكنهم لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار
---------------
قصة أصحاب الأخدود(1)
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
أيها المسلمون: سنعيش هذه الجمعة حدثاً حدث في تاريخ العالم أو قل بلاء ثبت فيه المؤمنون الصادقون بلاء وأي بلاء، إنه بلاء تزول له الجبال الرواسي، وتنقطع دونه الأرواح الأوابي، بلاء تتفطر الأسماع عند سماعه، وتجود العيون عند فصوله وأحداثه.
نعم، إن الحدث وقع على لحم ودم، ولكنه الإيمان حينما تخالط بشاشته القلوب.
إن القلوب حين يباشرها الإيمان ويستقر في سويدائها يهون عليها كل عسير، ويلذذ لها كل صعب وخطير، فتصبح الآلام راحةً، والعذاب نعيماً، والبكاء فرحاً.
وسترى في هذا الحدث العظيم كيف يصنع الإيمان الرجال وإن كانوا صغاراً في السن وربما ازدرتهم الأعين أو استقلتهم النفوس، لكن الإيمان يسموا بهم فيصنعون ما لا يصنعه الرجال.
غلام صغير يبتلى ويؤذى ويعرض للقتل مراراً بل يذهب به إلى القتل فيمشي وكأنه يزف ليوم زفافه، غلام داعية إلى الله، غلام يحمل في نفسه همّ إصلاح الناس، يحمل في طياته وكوامن نفسه همّ هداية الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجود هذا الغلام بكل وسيلة وطريقة لإصلاح الناس حتى إذا نفذ ما لديه من ذلك جاد بأعلى ما يملك جاد بحياته، جاد بروحه رجاء هداية الناس، فكان ما أراد.
وإذا كانت النفوس كباراً …تعبت في مرادها الأجسام
__________
(1) -موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1430)(3/277)
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا هداب بن خالد حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر)) (أقول وهذه القصة كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما من الله السلام).
قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر. (وفي رواية الترمذي): وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً أو قال: فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا، فأتي أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه)).
(قال الإمام مسلم في روايته): ((فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه ضربة لأنه تأخر عليه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر، فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة (وفي رواية أحمد) (فظيعة) (وعند الترمذي) فبينما الغلام على ذلك (أي بين الساحر والراهب) إذ مرّ بجماعة من الناس كثير قد حسبهم دابة فقال بعضهم إن تلك الدابة أسداً)).
قال الإمام مسلم: ((فقال: (أي الغلام) اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس)) (ولاحظوا أن الغلام بدأ بالراهب لأنه مستقر في نفسه أن أمر الراهب أفضل ولكن أراد أن يطمئن قلبه).
نعم، لأن هناك فرق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن إن لكلام أولياء الرحمن نور في النفس وراحة في القلب أما كلام أولياء الشيطان من الكفرة والملحدين ظلمة في النفس وضيق في القلب.
((فرماها (رمى الغلام الدابة بالحجارة) فقتلها ومضى الناس، (وفي رواية الترمذي) فقال الناس: من قتلها؟ قالوا: الغلام ففزع الناس، وقالوا لقد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد)).
(قال الإمام مسلم): ((فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى)).
((وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ.
وكان الغلام يَبرئ الأكمه والأبرص (ومعنى الأكمه الذي خلق أعمى) ويداوي الناس من سار الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال ما ههنا لك أجمعُ إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفِ أحداً إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله)).
نعم، أعطاه الشفائين شفاء القلوب وشفاء الأمراض، وصف له الدواء الإيماني وثم أعطاه الدواء الجسماني، وهنا درس للأطباء أن يعطوا مع الدواء الجسماني الدواء الرحماني.
نعم، هكذا ينبغي أن يكون المجتمع بأسره يحمل هم إصلاح الناس، فالطبيب في عيادته، والمدرس في فصله، والمهندس في عمله، والموظف في وزارته، وهكذا ينبغي أن يكون الناس.
أما أن تكون الدعوة والنصح والإرشاد حكراً على فئة معينة من الناس وطبقة من طبقات المجتمع فلا وألف لا، نعم نحن لا نقول كل إنسان يخطب ويحاضر ويتكلم لا، لا نقصد هذا ولكن لا أقل من تساهم في مجالك بالكلمة الطيبة أو النصيحة الهادفة أو مساعدة من يملك القدرة على الكلمة.
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.
قال الإمام مسلم: ((فآمن بالله(يعني جليس الملك) فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه لم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه)).
انظروا للبلاء أيها الأخوة، يوقف الرجل فيبدأ بالنشر من مفرق رأسه حتى يقع شقاه ما يرده ذلك عن دينه سبحان الله، أي إيمان بلغ بهؤلاء حتى صبروا هذا الصبر العظيم، فأين هؤلاء الذين يشق عليهم حتى المجيء للمسجد للصلاة مع الناس بضع دقائق.
انظر يا أخي كيف كان يبتلى الناس وكيف أوذوا في جنب الله، وأنت تؤمر بأوامر سهلة ويسيرة على النفس، ومع ذلك تثقل عليك العبادة ويصعب عليك أداؤها، وهؤلاء يقتلون بل ينشرون بالمنشار حتى يموتوا وهو سهل عليهم لأنه قالوا: ربنا الله.
وأنت تؤمر بصلاة الفجر مع الجماعة فيصعب عليك فانتبه يا أخي وراجع إيمانك.
ثم قال: ((ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته (أي أعلاه) فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك)).(3/278)
أيها الأخوة: نعم رجع إلى الملك ليبين له أن ربه ورب الناس جميعاً هو الله وليس أنت أيها الملك.
((وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي (السفينة الصغيرة) فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال وما هو، قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني)).
(يريد أن يضحي هذا الغلام الصغير بأعلى شيء يملكه يضحي بنفسه التي بين جنباته لكي يعبد الله وحده لا شريك له، والله أكبر ولله أكبر، هذه اهتمامات هذا الغلام الصغير، فما هي اهتمامات غلماننا اليوم أو قل شبابنا فما هي اهتماماتهم إلا آخر شريط نزل للمغني الفلاني أو آخر فلم عربي أو غربي صدر هذه الأيام أو قصات أو موضات أو سيارات.
وإلى الله المشتكى، وغلام ناعم الأظفار، صغير الجسم، ضعيف القوى، يضحي بروحه في سبيل الله، فلله درّ هذه القلوب حين خالطها الإيمان، ولله در هذه النفوس حين عانقها الإسلام.
ثم قال: ((فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها))، ومعنى احموه: أي ارموه فيها، وفي بعض نسخ مسلم: ((فأقحموه)) بالقاف ومعناه اطرحوه فيه كرهاً.
قال: من لم لمن يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم، شق لهم في الأرض أخدوداً أي سكة، وأشعلوا فيها النار فإذا النار تلتهب ويأكل بعضها بعضاً، وعلا لهيب النار ليغطي الأخدود فكأن النار على سطح الأرض والناس طوابير.
من ربك فإن قال: الله، ألقوه فيها أو قيل له: ألقِ نفسك، فاقتحم الناس النار وتسابقوا إليها، وكأنهم يردون ماءاً عذباً أو يدعون إلى وليمة، لكنها والله الجنة التي يرحض في سبيلها كل غالي ويبذل لنيلها كل نفيس.
(ثم قالت الرواية): ((حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست (أي توقفت) أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أُمّه اصبري فإنك على الحق)).
هكذا كان البلاء وهكذا صبر المؤمنون.
---------------
ِأصحاب الأخدود في القرن الحادي والعشرين
خالد الحر
إن عقول هذه الفئة الكافرة لم تتغير منذ قديم الزمان إلى عصرنا الحالي (القرن الواحد والعشرين). فنرى اليهود ارتكبوا أبشع الجرائم في فلسطين المسلمة. والروس قاموا بأفظع المذابح في أفغانستان، والصرب قتلوا وشردوا ويتموا الكثير من العوائل في البوسنة والهرسك ومن بعدها في كوسوفا، ويعود الروس ثانية لجرح المسلمين جرحاً جديداً في الشيشان.
فنظرة البشر لكل شيء تطورت مع مرور الزمن إلا نظرة الكفار للمسلمين ودمائهم.
فنرى الجمعيات التي أنشأت للرفق بالحيوان، والمحافظة على البيئة، ولكن لم يتخذ أي إجراء حقيقي ولم تنشأ أي جمعية أو رابطة لحفظ دماء المسلمين وأعراضهم.
ولكن إخوتي الكرام.. لماذا كل هذا الحقد على المسلمين من جهة، وتجاهلهم من الجهة الآخر؟
لقد بين الله عز وجل هذا العداء وسببه في كتابه العزيز، حيث قال جل جلاله: }وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ{ البقرة 120
إنها قاعدة ربانية واضحة، تبين طبيعة العلاقة بين اليهود والنصارى وبين المسلمين (ولا يخفى على أحد دور اليهود والنصارى وتأثيرهم في إدارة العالم كله).. إن هذه العلاقة مبنية على الكره والحقد من هؤلاء (الضالين والمغضوب عليهم) تجاه المسلمين، والسبب في ذلك، هو أن المسلمين عرفوا الحق فاتبعوه، أما اليهود والنصارى عرفوا الحق فحاربوه، فهم يحسدون المسلمين على اتباعهم المنهج الصحيح الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ ويشير الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: }وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ البقرة 109(3/279)
ومع وضوح هذه الآيات والتوجيهات الربانية، نجد من يوالي اليهود والنصارى، فيعقد اتفاقيات السلام، واتفاقيات الدفاع المشترك، وغيرها من الاتفاقيات.. وقد نهانا الله في آيات كثيرة عن هذا الفعل المجانب للصواب، حيث قال جل شأنه: } لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلآ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ المجادلة 22
فبين المولى أن هذه المولاة من صفات المنافقين، أما الذين آمنوا فهم أبعد ما يكونون عن موالاة من حاد الله ورسوله ولو كانوا أولى قرباً لهم.
وأود أن أختم مقالي هذا بتوضيح أمر هام جداً، أو سبب هذه الابتلاءات التي تصيب المسلمين، من أقتل وتشريد وانتهاك أعراض وسلب أموال وغيرها. إن هناك سببين رئيسيين لهذه الابتلاءات هما:
الأول: اختبار المسلمين وتمحيصهم لمعرفة المؤمن من المنافق، وتربية المؤمنين وتعويدهم على الشدائد، ورفع مقام المؤمنين عند الله بزيادة حسناتهم لصبرهم على هذا الابتلاء.
الثاني: الابتعاد عن الدين. وفي قول سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إشارة واضحة لهذا المعنى حيث قال: ((نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)). فلن ينفعنا الشرق ولا الغرب إذا ابتعدنا عن الإسلام.
وفي الختام.. اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً.. اللهم آمين
المصدر : http://www.alnoor-world.com
--------------
أصحاب الأخدود(1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7].
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء اللذين فتنوا في ديِنهم..
هؤلاء الذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم.
وما نقموا منهم إلا أن يأمنوا بالله العزيز الحميد.
وكان نكالاً دنيوياً بالغَ القسوة وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهارِ إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار، هم ونساؤهم وأطفالهم ليلقوا فيها لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله جل وعلا.
حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها تكعكعت، لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل.
فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيدا مثبتاً مصبراً: يا أمه اصبري فأنك على الحق.
فتتقحم المرأةُ الضعيفةُ والطفل الرضيع، تتقحمان هذه النار.
إنه مشهدُ مريعُ وجريمةُ عظيمةٌ يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها، فإذا هي قصةُ مليئةُ بالدروسُ، مشحونة بالعبر، فهل من مدكر؟
ولكنا نطوي عبرَها كلها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، آية عظمى تومض من خلال هذا العرض للقصة، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ وذكرت تلك النهايةُ المروعةُ الأليمة لتلك الفئةُ المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفرُ التي أضرمت فيها النار.
بينما لم يرد خبرُ في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين اللذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات:
لم تذكرُ الآياتُ عقوبةُ دنيوية حلت بهم.لم تذكر أن الأرض خسفت بهم.
ولا أن قارعة من السماءِ نزلتَ عليهم.
انتهاء عرضُ القصةِ بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود.
والإعراض عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تُذكر عقوبتهم الدنيوية ولا الانتقام الأرضي منهم. فلما أغفل مصيرُ الظالمينَ؟
أهكذا ينتهي الأمر، أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود؟
بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة تذهبُ ناجية؟
هنا تبرزٌ الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ الكتاب وأعادت، وكررت وأكدت وهي:
أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه.
ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية:
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ [البروج:7-8].
فهذا الذي جرى كلِه جرى في ملكِه ليس بعيداً عن سطوتِه، وليسَ بعيداً عن قدرتِه، إنما في ملكه: وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [البروج:9].
فهذا الذي جرى لم يجري في غفلةٍ من الله ولا في سهو من الله.
كلا… ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيدُ على ذلك، مطلعُ عليه.
إذا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟
__________
(1) -موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1894) عبد الوهاب بن ناصر الطريري =الرياض(3/280)
كيف يقترفون ما قارفوا، ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟ يأتي الجوابُ، كلا لم يفلتوا.
إن مجال الجزاء ليس الأرضَ وحدَها.
وليسَ الحياةَ الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقيُ لم يجئ بعد.
وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة.
أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقةُ والجزاء الحقيقي فهناك:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
هولا الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيحرقون ولكن أين؟
أين؟ في جهنم.
في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة.
وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق!
أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق، من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق ؟
أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات، من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله؟
أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله، من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله؟
هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة.
أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربةَ ماء.
إن الدنيا هينةُ على الله جل وعلا، مر النبيُ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم، تلقى عليها النفايات، الفضلات، الجيف.
فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ينفردُ عن أصحابه ويتجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوهِ الخلقةِ قد مات، مشوه الخلقة، صغير الأذن قد انكمشت أذنه.
فأمسك النبيُ صلى الله عليه وسلم بهذا التيس الميتَ فرفعه.
ثم أقام مزاداً علنياً ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطباً أصحابه: ((أيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم ؟)) من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟
وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر.ليس لها قيمة شرائية ولذا ألقيت مع الفضلات.
قالوا يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حياً لما ساوى درهماً. لأنه مشوه. فكيف وهو ميت؟
لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم؟
فألقاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهوت الجيفة على السباطة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((للدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم)).
إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة.
وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ جلا جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه.
وأيضاً لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه.
كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين.
استمع إلى هذه الآيات: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين.
كلا.. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه: وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].
ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة.
هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع.
ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلاءهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله جل وعل: متاع قليل [آل عمران:179].
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ [آل عمران:196].
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8].
نعم قليلاً، تمتع بكفرك قليلاً، قد يكون هذا القليل ستون سنة.
قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟
كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء.
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ [المؤمنون:12-13].
قالوا يوماً..ثم تكاثروا اليوم، فرجعوا: أو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ.
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [المؤمنون:14].(3/281)
كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يوماً، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين.
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:14].
هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي.
ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك:
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46].
قد ترى شيئاً من عقوبتهم، وقد يتوفاك قبل ذلك.
ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلقون رباً كان شهيداً على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافياً على الله، كان مطلعاً عليه:
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ [الزخرف:83].
حينها كيف سيكون حالهم؟
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].
وطالما نظرت أبصارهم بجرائه.
وطالما اشمخرت أنوفهم بكبرياء.
أما اليوم فأبصارهم خاشعة، وكبرياؤهم ذليلة، لماذا ؟…. ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44].
لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ.
وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا، فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه.
وما أسرع ما شاهدوه.
وما أسرع ما أحاطَ بهم أمره، ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44]. هنا أيها المؤمنون بلقاء الله جل وعلا تأثرُ هذه الحقيقةُ العظمى في نفسِ المؤمنِ ووجدانِه.
فيعلم أن من اجترأ على الله وإن عاش كما يعيشُ الناس.
بل ومات كما يموت الناس فإن الجزاء الحقيقيَ ينتظر هناك.
إن الدنيا ليست دارُ جزاء ولكن دارُ عمل، وأما الآخرةُ فهي دارُ جزاء، ولا عمل.
نعم قد يعجلُ اللهُ العقوبة لبعضِ المتمردين لحكمةٍ يعلمها.
فأهلك قومَ نوحٍ، وقوم هود وقوم صالح، أهلك أمماً، وأهلك أفراداً.
أهلك فرعون وقارون وهامان وأبا جهل وأبي بن خلف.
ولكن هذا تعجيل لبعض العقوبة، وقد يتخلف هذا التعجيل فتدخر العقوبةُ كلُها ليوفى المجرم يوم القيامة فإذا عقوبته كاملة لم يعجل له منها شيء.
ولكن كل ما قارفَه في الدنيا، وإن عاش في الدنيا كما يعيش الناس، وتمتع في الدنيا كما يتمتع الناس، ثم مات ميتة طبيعية كما يموت الناس فإن كل ما فعله لم يكن يتم في غفلة من الله:
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42-43].
هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا.
ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة.
ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجتراءهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله،لم يجرِ في غفلةٍ من الله.
ثم ليست كلُ عقوبةٍ لابد أن تكون ماثلةً للعيان، فهناك عقوباتُ تدبُ وتسري إلى المعاقبينَ بخفية، تسري فيهم وتمضي منهم وتتمكن من هؤلاء وهم - لمكر الله بهم - لا يشعرون.
قد يملي اللهُ لظالمِ ولكن ليزدادَ من الإثمِ وليحيطَ به الظلمُ، ثم يوافي اللهَ بآثامه كلِها وجرائمهِ كلِها، ليوافي حينئذٍ جزاءه عند ربٍ كان في الدنيا مطلعاً عليه، شهيداً عليه، رقيباً عليه.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].
ليزدادوا إثماً، وانظر إلى عقوبة أخرى:
وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ [التوبة:75-76]. فماذا كانت العقوبة؟
هل احترقت أموالهم؟
هل قصمت أعمارهم؟
هل نزلت عليهم قارعة من السماء؟
هل ابتلعتهم الأرض؟
ماذا كانت العقوبة التي حلت بهم؟
استمع إلى العقوبة:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة:77].
كان الجزاء أن أعقبهم الله نفاقاً مستحكماً في القلوب إلى يوم يلقونه، فهو حكم عليهم بسوء الخاتمة.
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].(3/282)
هذه عقوبات تتسرب إلى القلوب في غفلة من الناس ومن الظالمِ نفسه، ولكنها عقوبات بالغة الخطورة.
ولكن العبرة بالمصير، بالمصير، يوم يفضي هذا الظالم إلى الله جل جلاله فيوافي عقوبة لا يستطيع أحد من البشر، من الخلق الذين كانوا في الدنيا يحبونه، ويوالونه وينصرونه، لا يستطيع أحد منهم أن ينصره أو يكفيه أو يتحمل عنه شيئاً من العذاب.
كانوا في الدنيا يقولون له: نحن فداك، نحن نكفيك.
لكن في الآخرة لا فداء لأن الفداء نار تلظى، لأن الفداء نار شديدة محرقة وخلود فيها، فمن الذي يفدي؟
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى الأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
يود ذلك! لكن يأتي الجواب ..كلا:
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج:15-17].
فمن الذي عنده استعداد للفداء.
أمة الإسلام، أيها المؤمنون بالله ولقائه نفضي من هذا كله إلى وقفات سريعة:
الوقفة الأولى:
أنا إذا رأينا إملاء اللهِ للظالمين وتمكينه للمجرمين فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاءَ مدخرٌ هناك، ولذا فلا دعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم.
إنك تشفق على بعض الطيبين عندما تراهم يجهدون أنفسهم في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو ذاك المجرم، حتى إذا لم يجدوا شيئاً قالوا الموت هو العقوبة.. كلا.
لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، ولكن العبرة هناك في دار الجزاء.
الوقفة الثانية:
أن لا يغترَ أحدُ بأي مظهرٍ من مظاهر القوةِ أُتيها، فمظاهرُ القوةِ في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقفُ العبدُ بين يدي اللهَ جل جلاله.
إن الرجل يتمتع بقوة نسبية على المرأة تلك التي لا تملك إلا الدموع تستنصر بها.
لكن عليه أن يتذكر أنه إن ظلمها فلم تستطع أن تنتصر منه في الدنيا ومشى أمام الناس بطوله ورجولته فهناك موعد تذهب فيه قوته وقوامته ويتم القِصاص منه للمظلوم ولو كان ضعيفاً.
يتذكر شرطي المرور أو الدوريات:
أنه عندما يأمر بمسكين إلى التوقيف، ثم يوقف ذلك المسكين دون أن يساءل هو، وإن سئل فهو المصدق، ثم يذهب هو إلى بيته ويجلس إلى أهله ويتناول طعامه.
وذاك في التوقيف يحاول الاتصال بأهله هاتفياً وقد لا يستطيع.
ليتذكر أن هذه القوة الدنيوية ستنمحي، ستنمحي، وسيوقف هو وهذا الذي ظلمه فلم يجد في الدنيا من ينتصر له، سيوقف هو وإياه بين يدي من ينتصر له.
ليتذكر الكفيل غربة العامل وحاجة العامل:
فيجور عليه ويكلفه بما ليس من عمله ويماطله في حقه، ليتذكر أن هذه الفوارق ستنتهي.
وهذه القوة الجزئية التي يتمتع بها ستنمحي.
وهذا الضعف الذي يهيمن على هذا العامل الآن سيذهب.
وسيوقفان جميعاً بين يدي رب لا يظلم أحداً، وليس أمامه تمايز في القوى.
إن القوة التي تستمدها من جنسيتك أو بلدك ستذهب لأنك ستحشر ولكن ليس في بلدك، وستوقف أمام الله وليست معك جنسيتك، ولكن بين يدي رب لا يظلم أحداً.
ليتذكر المسؤول الإداري مهما كانت منزلته، مهما كانت مسئوليته أنه عندما يجور على موظف بنقل تعسفي أو جور إداري وهو مطمئن إلى أن هذا الموظف لا يستطيع أن ينتصف منه في الدنيا، وأن المسؤول الأعلى مصدق له مكذب للموظف المسكين.
ليتذكر أن هذا يدور في أرض لا يعزب عن الله فيها شيء، وأن هذا التفاوت في القوة سينتهي وينمحي وستوقف أنت وإياه بين يدي رب لا يظلم أحداً.
قد لا تفضي إليك العقوبة في الدنيا، قد تنال ترقياتك كاملة ورواتبك موفاة وتنال تقاعدك أو تأمينك بانتظام، بل وتموت من غير عاهة مستعصية، ولكن كل ذلك لا يعني أنك قد أفلت من العقوبة.
التاجر الذي يستغل ذكاءه التجاري فيدلس على محتاج أتى إلى سلعة:
ويستغل عبارة ركيكة مكتوبة في آخر الوصفة (البضاعة التي تشترى لا ترد ولا تستبدل).
ينبغي أن يتذكر أن هناك موقفاً لا تجديه فيه هذه الورقة، ولا ينفعه فيه الذكاء التجاري لأنه موقف بين يدي علام الغيوب المطلع على السر وأخفى.
ليتذكر كل من يتمتع بأي مظهر من مظاهر هذه القوة أن هذه القوة وإن كثرت وقويت فهي تنتهي سريعاً وتمضي جميعاً.
والعبرة بالمثول بين يدي رب تنتهي كل موازين القوى أمامه جل وتقدس وتعالى.
أما أنت أيها المظلوم فتذكر أن الله ناصرك لا محالةَ لأنك في ملكِ من حرم الظلمَ على نفسه، وحرمَه بين عباده، وسينتهي بك المصيرُ إلى يومٍ يقتصُ اللهُ فيه للشاة الجماء من الشاة القرناء، فكيف بك أنت!
لن يفوت شيء من حقك في الآخرة وإن فات في الدنيا.
الوقفة الثالثة:
أن هذا المعنى وهو انتظار الجزاء الأخروي كما هو دافع رهبة فهو دافع رغبة.
توفي زين العابدين على بن الحسين، فلما وضع على لوح الغسل وجد المغسلون في أكتافه ندوباً سوداء، فتفكروا ! مم أتت هذه الندوب في ظهر هذا الرجل الصالح؟(3/283)
واكتشف الأمر بعد، لقد كان هذا العابد يستتر بظلمة الليل وحلكة الظلام ينقل أكياس الطعام إلى أسر فقيرة لا يدرون من الذي كان يأتيهم بها، عرفوا بعدما مات فانقطعت تلك الصلة من الطعام.
ما الذي يحمل زين العابدين على أن يتوارى بعمل الخير ويستتر به؟
إن الذي يحمله على ذلك انتظار الجزاء الأخروي، يريد أن يوافي ربه بأجره موفوراً.
وكذا كل منا عليه أن يجعل بينه وبين ربه معاملة خاصة، سر بينه وبين الله يجهد جهده أن لا يطلع عليه أحد من الخلق حتى يوافي ربه بعمل يستوفي جزاءه منه.
الوقفة الأخيرة:
وما هي بأخيرة: أن في استحضار هذا الأمر مدد للسائرين في طريق العمل للدين والدعوة إلى الله.
إن الذي يشخص ببصره إلى الجزاء الأخروي ينظر إلى العوائق فإذا هي يسيرة.
وإلى الصعوبات فإذا هي هينة.
وإلى الضيق فإذا هو سعة لأنه ينتظر جزاء أتم وأوفى.
قتل مصعب بن عمير، وقتل حمزة بن عبد المطلب فلم يوجد ما يوارى به أحدهم إلا بردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه، فأمر نبيك صلى الله عليه وسلم أن تغطى رؤوسهما وأن يوضع على أرجلهما من ورق الشجر.
هكذا انتهت حياة العمل للدين من غير أن يُتعجل شيء من أجورهم أو يروا شيئاً من جزائهم.
ولكن عند الله الموعد وعنده الجزاء الأوفى.
------------
أصحاب الأخدود(1)
أيها المسلمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيوْمِ الْمَوْعودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7].
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء الذين فتنوا في دينهم، هؤلاء الذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. وكان نكالاً دنيويًا بالغَ القسوة وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهار إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار، هم ونساؤهم وأطفالهم؛ ليلقوا فيها، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها ترددت، لا خوفًا من النار ولكن رحمةً بالطفل، فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيّدا مثبّتًا مصبِّرًا: يا أمّاه، اصبري فإنك على الحق، فتلقِي المرأةُ الضعيفةُ بنفسها وهي تحمل طفلها الرضيع في تلكم النار.
إنه مشهد مروّع وجريمة عظيمةٌ، يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها، فإذا هي قصة مليئة بالدروس مشحونة بالعبر، فهل من مدكر؟!
__________
(1) -موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4659) -ناصر بن محمد الأحمد -الخبر -24/8/1425 -النور(3/284)
لقد ذكر النبي قصة أصحاب الأخدود لأصحابه كاملة واضحة، ورواها الإمام مسلم في صحيحه، فَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((كَانَ مَلِكٌ فيِمَنْ كَانَ قبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِك: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابعَثْ إِلَيَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يعَلِّمُهُ، وَكَانَ في طَريقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمهُ فأَعْجَبهُ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِب وَقَعَدَ إِلَيْه، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فقال: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِر فَقُلْ: حبَسَنِي أَهْلي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحرُ. فَبيْنَمَا هُو عَلَى ذَلِكَ إذْ أتَى عَلَى دابَّةٍ عظِيمَة قدْ حَبَسَت النَّاس فقال: اليوْمَ أعْلَمُ السَّاحِرُ أفْضَل أم الرَّاهبُ أفْضلَ، فأخَذَ حجَرًا فقالَ: اللهُمَّ إنْ كان أمْرُ الرَّاهب أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هَذِهِ الدَّابَّة حتَّى يمْضِيَ النَّاسُ، فرَماها فقتَلَها ومَضى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهب فأخبَرهُ، فقال لهُ الرَّاهبُ: أي بُنيَّ، أَنْتَ اليوْمَ أفْضلُ منِّي، قدْ بلَغَ مِنْ أمْركَ مَا أَرَى، وإِنَّكَ ستُبْتَلَى، فإنِ ابْتُليتَ فَلاَ تدُلَّ عليَّ، وكانَ الغُلامُ يبْرئُ الأكْمةَ والأبرصَ، ويدَاوي النَّاس مِنْ سائِرِ الأدوَاءِ. فَسَمعَ جلِيسٌ للملِكِ كانَ قدْ عمِي، فأتَاهُ بهداياَ كثيرَةٍ فقال: ما ها هنا لك أجْمَعُ إنْ أنْتَ شفَيْتني، فقال إنِّي لا أشفِي أحَدًا، إِنَّمَا يشْفِي الله تعَالى، فإنْ آمنْتَ بِاللَّهِ تعَالَى دعوْتُ الله فشَفاكَ، فآمَنَ باللَّه تعَالى فشفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فأتَى المَلِكَ فجَلَس إليْهِ كما كانَ يجْلِسُ فقالَ لَهُ المَلكُ: منْ ردَّ علَيْك بصَرك؟ قال: ربِّي، قَالَ: ولكَ ربٌّ غيْرِي؟! قَالَ: رَبِّي وربُّكَ الله، فأَخَذَهُ فلَمْ يزلْ يُعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الغُلاَمِ فجيءَ بِالغُلاَمِ، فقال لهُ المَلكُ: أي بُنَيَّ، قدْ بَلَغَ منْ سِحْرِك مَا تبْرئُ الأكمَهَ والأبرَصَ وتَفْعلُ وَتفْعَلُ فقالَ: إِنَّي لا أشْفي أَحَدًا، إنَّما يشْفي الله تَعَالَى، فأخَذَهُ فَلَمْ يزَلْ يعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهبِ، فجِيء بالرَّاهِبِ فقيل لَهُ: ارجَعْ عنْ دِينكَ، فأبَى، فدَعا بالمنْشَار فوُضِع المنْشَارُ في مفْرقِ رأْسِهِ، فشقَّهُ حتَّى وقَعَ شقَّاهُ، ثُمَّ جِيء بجَلِيسِ المَلكِ فقِيلَ لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ فأبَى، فوُضِعَ المنْشَارُ في مفْرِقِ رَأسِهِ، فشقَّهُ به حتَّى وقَع شقَّاهُ، ثُمَّ جيء بالغُلامِ فقِيل لَهُ: ارجِعْ عنْ دينِكَ، فأبَى، فدَفعَهُ إِلَى نَفَرٍ منْ أصْحابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ إِلَى جبَلِ كَذَا وكذَا فاصعدُوا بِهِ الجبلَ، فإذَا بلغتُمْ ذروتهُ فإنْ رجعَ عنْ دينِهِ وإِلاَّ فاطرَحوهُ، فذهبُوا به فصعدُوا بهِ الجَبَل فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شئْت، فرجَف بِهمُ الجَبَلُ فسَقطُوا، وجَاءَ يمْشي إِلَى المَلِكِ، فقالَ لَهُ المَلكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقالَ: كفانيهِمُ الله تعالَى، فدفعَهُ إِلَى نَفَرَ منْ أصْحَابِهِ فقال: اذهبُوا بِهِ فاحملُوه في قُرقُور وَتَوسَّطُوا بِهِ البحْرَ، فإنْ رَجَعَ عنْ دينِهِ وإلاَّ فَاقْذفُوهُ، فذَهبُوا بِهِ فقال: اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شِئْت، فانكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفينةُ فغرِقوا، وجَاءَ يمْشِي إِلَى المَلِك، فقالَ لَهُ الملِكُ: ما فَعَلَ أَصحَابكَ؟ فقال: كفانِيهمُ الله تعالَى، فقالَ للمَلِكِ إنَّك لسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تفْعلَ ما آمُركَ بِهِ، قال: ما هُوَ؟ قال: تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ، وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ خُذ سهْمًا مِنْ كنَانتِي، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل: بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ، ثُمَّ ارمِنِي، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي. فجَمَع النَّاس في صَعيدٍ واحِدٍ، وصلَبَهُ عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سهْمًا منْ كنَانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ في كبدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِهِ، فَوضَعَ يدَهُ في صُدْغِهِ فمَاتَ، فقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ، فَأُتِيَ المَلكُ فَقِيلُ لَهُ: أَرَأَيْت ما كُنْت تحْذَر قَدْ وَاللَّه نَزَلَ بِك حَذرُكَ، قدْ آمنَ النَّاسُ، فأَمَرَ بِالأخدُودِ بأفْوَاهِ السِّكك فخُدَّتَ، وَأضْرِمَ فِيها النيرانُ، وقالَ: مَنْ لَمْ يرْجَعْ عنْ دينِهِ فأقْحمُوهُ فِيهَا أوْ قيلَ لَهُ: اقْتَحمْ، ففعَلُوا حتَّى جَاءتِ امرَأَةٌ ومعَهَا صَبِيٌّ لهَا، فَتقَاعَسَت أنْ تَقعَ فِيهَا، فقال لَهَا الغُلاَمُ: يا أمَّاهْ، اصبرِي فَإِنَّكَ عَلَى الحَقِّ)) روَاهُ مُسْلَمٌ.(3/285)
إن قصة أصحاب الأخدود كما وردت في سورة البروج وكما ذكرها النبي حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل، فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها كان يخط بها خطوطًا عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ودور البشر فيها واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع، وهو أوسع رقعة من الأرض، وأبعد مدى من الحياة. إنها قصة فئة آمنت بربها واستعلنت حقيقة إيمانها، ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين مستهترين بحق الإنسان في حرية الاعتقاد والإيمان بالله العزيز الحميد، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها، ويتلهّون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق. وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تُفتن عن دينها وهي تُحرق بالنار حتى تموت. لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة، فلم يستذلها حبّ البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعًا، وارتفعت على ذواتها.
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيّرة الكريمة هناك قلوب جاحدة شريرة مجرمة لئيمة، جلس أصحابها على النار، يشهدون كيف يتعذّب المؤمنون ويتألمون، جلسوا يتلهّون بمنظر الحياة تأكلها النار، والبشر يتحولون وقودًا وترابًا، وكلما ألقي فتى أو فتاة صبية أو عجوز طفل أو شيخ من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوسهم، وعربَد السعار المجنون بالدماء والأشلاء.
أيها المسلمون، والتاريخ يتكرّر ولكن بصور أخرى، الحقيقة واحدة والشكل يتغير. إن عقول الفئة الكافرة لم تتغير منذ قديم الزمان إلى عصرنا الحالي، فنرى اليهود قد ارتكبوا أبشع الجرائم في فلسطين المسلمة، والروس قاموا بأفظع المذابح في أفغانستان، والصرب قتلوا وشردوا ويتّموا الكثير من العوائل في البوسنة والهرسك ومن بعدها في كوسوفا، ويعود الروس ثانية لجرح المسلمين جرحًا جديدًا في الشيشان، والآن تمارس الصليبية ما تمارس من أقسى أنواع الوحشية وأشد صور الإجرام في العراق. إنّ كل هؤلاء ظلمة مجرمون وإن اختلف شكل الأخدود.
إن قصة أصحاب الأخدود تتكرّر عبر الزمان في أكثر من مكان، وضحيتها هو هذا الإنسان.
إن نظرة البشر لكل شيء تطوّرت مع مرور الزمن إلا نظرة الكفار للمسلمين ودمائهم، فنرى الجمعيات أنشئت للرفق بالحيوان والمحافظة على البيئة، ولكن لم يتخذ أي إجراء حقيقي ولم تنشأ أي جمعية أو رابطة لحفظ دماء المسلمين وأعراضهم. لماذا كل هذا الحقد على المسلمين من جهة وتجاهلهم من جهة أخرى؟! الجواب في قول الله تعالى في قصة أصحاب الأخدود: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُّؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.
حقيقة ينبغي أن يتأمّلها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل؛ إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئًا آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. إنها ليست معركة سياسية، ولا معركة اقتصادية، ولا معركة عنصرية، ولا معركة من أجل البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ولا معركة لمحاربة الإرهاب وهم أصحاب الإرهاب، ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام.
وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدوًا لهم، فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة، إِلاَّ أَن يُّؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة؛ راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية، كي يموّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة. فمن واجب المؤمنين أن لا يُخدعوا، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيّت، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها.(3/286)
أيها المسلمون، ولنرجع إلى قصة أصحاب الأخدود، ولنطوِ عبرَها كلّها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، تومض من خلال هذا العرض للقصة، تنفعنا هذه العبرة ونحن نواجه اليوم أشد أنواع المكر والكيد من كفار الأرض، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ، وذكرت تلك النهاية المروعة الأليمة لتلك الفئة المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفر التي أضرمت فيها النار، بينما لم يرد خبر في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، لم تذكر الآياتُ عقوبة دنيويّة حلّت بهم، لم تذكر أن الأرض خسفت بهم، ولا أن قارعة من السماءِ نزلت عليهم، انتهت القصّة بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود، والإعراضِ عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تذكر عقوبتهم الدنيويّة ولا الانتقام الأرضي منهم. فلماذا أُغفل مصيرُ الظالمينَ؟! أهكذا ينتهي الأمر؟! أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود، بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة، تذهبُ ناجية؟! هنا تبرز الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ القرآن وأعادت وكررت وأكدت وهي أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه؛ ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية: وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ [البروج:8، 9]. فهذا الذي جرى كلّه جرى في ملكِه ليس بعيدًا عن سطوتِه، وليسَ بعيدًا عن قدرتِه، إنما في ملكه: وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيء شَهِيدٌ [البروج:9]. فهذا الذي جرى لم يجر في غفلةٍ من الله، ولا في سهو من الله، كلا، ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيد على ذلك، مطلع عليه، إذًا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟ كيف يقترفون ما قارفوا ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟! يأتي الجوابُ: كلا لم يفلتوا، إن مجال الجزاء ليست الأرض وحدَها، وليست الحياة الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقي لم يجئ بعد، وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة، أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقيةُ والجزاء الحقيقي فهناك: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، هؤلاء الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيُحرقون، ولكن أين؟ في جهنم، نعم في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة، وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق في شدته وفي مدته، أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق؟! أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله؟! أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله؟! أين حريق الدنيا باستخدام الصواريخ الملتهبة والقنابل الذكية وحريق نار جهنم الذي أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة؟! هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه، وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة، أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء.
إن الدنيا هينة على الله جل وعلا، مر النبيُ وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم تلقى عليها النفايات والفضلات والجيف، فإذا بالرسول ينفردُ عن أصحابه ويتّجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوّهِ الخلقةِ قد مات، مشوّه الخلقة، صغير الأذن، قد انكمشت أذنه، فأمسك النبيُ بهذا التيس الميت فرفعه، ثم أقام مزادًا علنيًّا ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطبًا أصحابه: ((أيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم؟)): من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟ وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة شرائية، ولذا ألقيت مع الفضلات، قالوا: يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حيًا لما ساوى درهمًا لأنه مشوه، فكيف وهو ميت؟! لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم؟! فألقاهُ النبي ، وهوت الجيفة على السباطة، والنبي يقول: ((للدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم)).(3/287)
إن الدنيا هينة على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفة التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. وإذا كانتِ الدنيا هينة على اللهِ هذا الهوان فإن اللهَ جل جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه، وأيضًا لم يجعل العذاب فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه، كلا، إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين، قال الله تعالى: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزّل على رسول الله تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقيّ والعقوبةَ الحقيقيةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبّرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25، 26]، وقال الله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ومن متاع وحرمان ليست هي الغاية، وليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرّر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة. إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة، وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة، وانتصرت على الفتنة انتصارًا يشرّف الجنس البشري كلّه في جميع الأعصار، وهذا هو الانتصار.
إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعًا لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحرّرون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى.
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يَقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد؟ إنه معنى كريم جدًا، ومعنى كبير جدًا، هذا الذي ربحوه وهم بعد في هذه الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار، فتحرق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار.
إن القلوب حين يباشرها الإيمان ويستقر في سويدائها يهوّن عليها كل عسير، ويذلِّل لها كلَّ صعب وخطير، فتصبح الآلام راحة والعذاب نعيما والبكاء فرحا. ولقد رأيت ـ يا أخي الحبيب ـ في هذا الحدث العظيم كيف يصنع الإيمان الرجال وإن كانوا صغارًا في السن، وربما ازدرتهم الأعين أو استقلّتهم النفوس، لكن الإيمان يسمو بهم، فيصنعون ما لا يصنعه الرجال.
غلام صغير يبتلَى ويؤذى ويعرَّض للقتل مرارًا، بل يُذهب به إلى القتل فيمشي وكأنه يُزف ليوم زفافه، غلام داعية إلى الله، غلام يحمل في نفسه همّ إصلاح الناس، يحمل في طياته وكوامن نفسه همّ هداية الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجود هذا الغلام بكل وسيلة وطريقة لإصلاح الناس حتى إذا نفد ما لديه من ذلك جاد بأغلى ما يملك، جاد بحياته، جاد بروحه رجاء هداية الناس، فكان ما أراد.
أيها المسلمون، هكذا سجّل هذا الغلام أعظم تضحية عرفها التاريخ، فقدم نفسه لإعلاء كلمة الله، ولكي يُعبد الله وحده لا شريك له، فيموت كما يموت الشهداء، فلا يجد من ألم الطعنة إلا كما يجد أحدنا من القرصة، ويأتي يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك.(3/288)
واليوم نشاهد أطفال الحجارة في فلسطين، وهم أطفال في أجسامهم، لكنهم أبطالٌ في أفعالهم، رجال في مواقفهم، فقد تربّوا على مائدة القرآن، يجاهدون في سبيل الله، لا يهابون طلقات القذائف، بل يتصدون لها بصدورهم وقلوبهم، إنها هِمَمُ رجال ترفض المهانة والذل. هؤلاء الأطفال اعتُقِل آباؤهم، وهُدّمت بيوتهم وهم يشهدون ذلك بناظريهم، إن هذا الطفل لا يملك سوى حجر، لكنه يرى نفسه شامخًا يتحدى دبابة الاحتلال دون خوفٍ أو وجل. والأمهات يباركن خطوات فلذات أكبادهن نحو الموت والشهادة. صَبر هذا الشعب طويلاً وقدّم تضحياتٍ جسيمة، ودماؤه تُراق على أرض فلسطين، وهم بأحجارهم وعصيهم وقفوا ضد اعتداء الغاصبين الذين نهبوا الأموال وقتّلوا الأبرياء وحفروا الأخاديد ونقضوا العهود والمواثيق.
إن طفل الحجارة اليوم يريد أن يحقّق ما جاء في سورة الإسراء من وعد بالنصر حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله.
أيها المسلمون، لقد سجل أبناء تلك الأرض بطولات وتضحيات لا تتوقف أمام ذلك الصلف اليهودي الذي أقدم وما يزال على أبشع ما عرفت البشرية من وحشية. لماذا يُحجم العالم الذي يزعم أنه متحضر عن ردع المعتدي والأخذِ على يديه؟! أين المعاهدات؟! أين المواثيق التي تنص على ضمان السلام والتقليل من الإجرام؟! أين الأخذ على يد المعتدي ونصرة المظلوم؟! أين دعاة السلام والداعون له؟! أين المنظّرون لثقافته؟! أين محاربة الإرهاب في العالم وهذه المذابح والبنادق والصواريخ تُخرب الديار وتحرق القلوب والأجساد، أجساد الشيوخ الركع والأطفال الرضع؟! إن هذه الدماء لن تثمر بإذن الله إلا نفوسًا أبيّة لن ترضى الدنيّة في دينها، ولتسقط تلك الدعاوى الساقطة، ولتنكسر تلك الأقلام الهزيلة التي ما زالت تُزيّن السلام غير العادل بزينة كالحة.
اللهم دمّر اليهود الغاصبين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم إن اليهود والنصارى طغوا وبغوا وأسرفوا في طغيانهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وصب العذاب عليهم من فوقهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم اجعلهم حصيدًا خامدين، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم...
---------------
قتل أصحاب الأخدود(1)
أيها المؤمنون، يا طرف الجسد الذي تكوي الصهيونية طرفه الآخر، يا بقية الدم الذي يريقه اليهود في فلسطين ولبنان، أيتها القلوب المحترقة غيظا وألَمًا لِما يحلّ بها هناك وإن كانت الأجساد هنا، حين تشتد وطأة الظلم على المستضعفين ويجثم الليل على طريق المظلومين فليس للقلوب بلسم كالإيمان، الإيمان الذي يقطر من آي القرآن، فيغسل القلوب بماء اليقين، ويغرس فيها الأمل الذي يستشرف الغد الحقيقي في ظل العدالة الكبرى يوم يقوم الناس لرب العالمين، فهلُمَّ نقف وقفات سريعة مع قصة قصها الله على المؤمنين المستضعفين في مكة، نستلهم بعض معانيها، ونستشرف بعض آفاقها؛ لنكون في ظل المحنة التي نعيشها اليوم كما يريد ربنا أن نكون.
يقول تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [سورة البروج].
إنها قصة فئة آمنت بربها، ثم تعرّضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق الإنسان في أن يؤمن بالله العزيز الحميد، قلوبٌ امتلأت بحبّ الله وإيثار الله والرضا بالله، ارتفع الإيمان بها على الفتنة فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تفتن عن دينها وهي تحرق بالنار حتى تموت.
__________
(1) -موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4882) -ياسر بن محمد بابطين -جدة -جامع الأمين(3/289)
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيِّرة الكريمة كانت هناك قلوب جاحدة مجرمة لئيمة، جلس أصحابها على النار يتلهّون بمنظر الحياة تأكلها النار، والأناسي الكرام يتحوّلون وقودًا وترابًا. وكلما ألقي في النار فتى أو فتاة شيخ أو عجوز أو حتى تلك الأُمّ التي تحمل رضيعها، كلما ألقي مؤمن ومؤنة ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء.
وفي حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وأن هذا الإيمان لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان، فالآيات وروايات القصة لا تذكران أنّ الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة كما أخذ قوم نوح، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
في حساب الأرض تبدو خاتمة الصراع بين الحق والباطل في قصّة الأخدود أسيفة أليمة؛ عُذّب فيها المؤمنون وحرِّقوا، ونجَا الظالمون وأفلتوا، إن حساب الأرض يحيك في الصدر شيئا أمام هذه الخاتمة الأسيفة. ولكن القرآن يعلِّم المؤمنين شيئًا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى، ويبصّرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها، وبمجال المعركة التي يخوضونها.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام أو متاع وحرمان ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، ثم إن النصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهي ليست إلا صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة.
إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكنهم لا ينتصرون جميعًا هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى تلك الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، بل وفي دنيا الناس أيضًا.
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها، وليس هو الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس وحدهم، إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض، وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق. وبعد ذلك كله هناك الآخرة، وهي المستقر وخاتمة طريق الدنيا ونهاية مطاف أهلها.
فالمعركة إذًا لم تنته، وخاتمتها الحقيقية لم تجئ بعد، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح؛ لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد.
هكذا تكون قد اتصلت حياة الناس بالملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر والحق والباطل والإيمان والطغيان، ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف، ولا موعد الفصل في هذا الصراع، ولا القيمة العليا في الميزان.
لقد انفسح المجال في المكان، وانفسح المجال في الزمان، وانفسح المجال في القيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة، وكبرت اهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات.
نتألم كثيرا حين نرى إخواننا يُقتّلون تِباعا في وحشية وهمجية يغذيهما الحقد الصهيوني الصليبي، نحزن كثيرا على الأبرياء الذين تراق دماؤهم لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، نذرف الدمع على قوافل الشهداء في طول العالم وعرضه، ونتمنى لو كانوا مكاننا في الأمن والدعة والرخاء، أما هم فإنهم أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، يودّ أحدهم لو رد إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله مرة أخرى لما يرى من الفضل والكرامة عند رب العالمين.(3/290)
لقد ربى القرآنُ المستضعفين في مكة على هذه المعاني الجليلة، لا لييأسوا من الجولة الأولى على هذه الأرض، أو يكفوا عن الإعداد للنصر والفتح القريب، وينتظر كل واحد منهم منزله من الجنة يوم يُقتل شهيدا، كلا، فإن الله جل في علاه قد وعدهم بالنصر هنا وهناك، في الدنيا والآخرة، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، لكننا يجب أن نرى آفاق المعركة كاملة، ونعي صورَ النصر كلها، فلا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد لأنه مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، ولا تهزّنا التضحيات ولا ما يسمونه خسائر في الأرواح أو الممتلكات، فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ، ولا سواء؛ قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، ولا تضحية تضيع عند الله، فلا ضير إذًا أن تذهب أجيالٌ ولمَّا ترَ النصر الموعود، ولما تذق ثمرة المقاومة والكفاح الطويل، فالمهم أنها بذلت وستلقى عند الله ثوابها في مقام كريم.
تبدأ هذه السورة بقسم وثيق الصلة بهذا المعنى العميق الذي تغرسه الآيات في قلوب المؤمنين، فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة، واليوم الموعود وأحداثه الضخام، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه. تربط بين هذا كله وبين هذا الحادث الذي جرى على هذه الأرض، فتلتقي السماء ذات البروج واليوم الموعود والشاهد والمشهود. تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود، وتوحي جميعا بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث، وتوزن فيه حقيقته، ويصفى فيه حسابه، إنه مجال أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجَلها المحدود.
ثم تبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة وغضب الله على الفعلة وفاعليها، قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، الوقود الذي يؤجّجها من الحطب وأبدان الناس، وتلتحم لحظة اللعن والغضب بلحظة الجريمة البشعة؛ لأن الله لعنهم، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، فقد لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين, يشاهدون أطوار التعذيب وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار, كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع.
ثم تأتي حقيقة الصراع في قوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. إنها حقيقة ينبغي أن يتأمّلها المؤمنون في كل أرض وفي كل جيل.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق. إن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. إنها ليست معركة سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، ولو كانت شيئًا من هذا لسهل وقفها، وسهل حلّ إشكالها، ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام.
ولئن كانت الصليبية والصهيونية فيما مضى تحاولان أن تخدَعانا عن حقيقة المعركة لننصرف عن سلاح النصر الحقيقي فيها، فماذا بقي وقد سقطت الأقنعة وانكشف النقاب عن وجه الكيد والحقد الذي يؤجّج الصراع في كل شبر يوحّد الله، وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية
بعد أن عرضت الآيات أحداث القصة عرضًا سريعا مشحونا بالإشارات إلى ما يخفى على عيون البشر ويغيب عن أذهانهم وهم يستعرضون الحدَث، بعد هذا يشير السياق إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكلّ ما يقع في السماوات والأرض الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
إنها لمسةٌ تُطمئن قلوب المؤمنين, وتهدّد العتاة المتجبرين، فالله كان شهيدا، وكفى بالله شهيدا.
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث، وليس نهاية المطاف، فالبقية آتية هناك، والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آتٍ لا محالة؛ لذا تنقل الآيات رحى المعركة إلى الجولة الأخيرة منها، الجولة التي لم تشهدها هذه الأرض، الجولة التي يُصفَى فيها الحساب من كل جبار غرّته دنياه وغره حِلم الله وإمهاله.(3/291)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فتنوهم ومضوا في ضلالتهم سادرين، لم يندموا على ما فعلوا، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، وما أوسع رحمة الله وهي تظلّ هذا الخطاب المليء بالغضب والنقمة والتهديد من الجبار المقتدر، لتفتح باب الأمل أمام التائبين النادمين وإن كانوا في ماضيهم طغاة جبارين، أما إذا لم يتوبوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ، وينص على الحريق وهو مفهوم من عذاب جهنم، ولكنه ينطق به وينصّ عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود، وبنفس اللفظ الذي يدلّ على الحدث، ولكن أين حريق من حريق في شدته أو في مدته؟! حريق الدنيا بنار يوقدها الخلق، وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق. حريق الدنيا لحظات وتنتهي, وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله. ومع حريق الدنيا رضا الله عن المؤمنين والانتصار والرفعة، ومع حريق الآخرة غضب الله والارتكاس الهابط الذميم.
هذه خاتمة الطغيان تقابلها خاتمة الإيمان يحفها رضا الله وإنعامه، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ، ولئن كانت النجاة من عذاب الآخرة فوزا فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار?! إنه ليس فوزا فحسب، ولكنه الفوز الكبير كما يصفه العلي الكبير سبحانه.
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه، وهي الخاتمة الحقيقية للموقف، فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه، لا يتم به تمامه، وهذه هي الحقيقة التي غرستها الآيات لتستقر في قلوب المؤمنين المضطهدين في مكة حين نزلت الآيات، ثم في كل وقت ومكان يفتن فيه المؤمنون، حتى تستقر في قلوب المؤمنين في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان، وفي قلوب كل من يؤلمه مصاب المؤمنين هناك.
ثم يعقب سبحانه على الحدث بعد أن تكاملت صورته فيقول: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مرّ في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرا شديدا، فالبطش الشديد هو بطش الجبار الذي له ملك السماوات والأرض، لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلّطون على رقعة من الأرض محدودة, في رقعة من الزمان محدودة.
وتلقي كلمة (رَبِّكَ) المضافة إلى المخاطب ظلالا من الأمن والاطمئنان يحفّ ذلك المؤمن الذي يستنصر ربه ذا البطش الشديد.
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، ففي كل لحظة بدء وإنشاء, وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات، وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة يبدو حادث الأخدود مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير، إلا أن بعده إعادة في ظل العدالة الحقيقية يوم يقوم الأشهاد.
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، الحبيب لعباده المؤمنين الرؤوف بهم، ألا هانت الحياة، وهان الألم، وهان العذاب، وهان كلّ غال عزيز, في سبيل لمحة رضا ونفحة حبّ يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد.
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، فهو يريد مرّة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها، ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها، يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض، ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود؛ ولذا يُذَكِّر جل في علاه بمشاهدَ أراد فيها أن يُهلك الطغاة في الدنيا، فأهلكهم وهم مدججون بالسلاح محفوفون بالقوى، ولكنها قوى البشر الهزيلة الضعيفة أمام قوة القوي العزيز ذي البطش الشديد، هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، هل أتاك حديثهم?! وكيف فعل ربك بهم ما يريد?! ما يريد هو وحده لا ما يريد العباد، فلله حكمة وراء كل أمر يقضيه وقدر يجريه، فهو مدبر هذا الكون كله، المطلع على أوله وآخره، المقدر لأحداثه، وهو وحده الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور.
لقد أغرق فرعون ذا الأوتاد بين الأمواج التي أفسحت الطريق لينجو المؤمنون، وأهلك ثمود بالصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا، ونجى صالحا والذين آمنوا برحمة منه، ومع كل هذه الحقائق التي شهد بها التاريخ الماضي والواقع الحاضر وسيشهد عَليها الغد الموعود إلا أن الكفر سادر في غيه مغرور بما بين يديه، ولكن الله تعالى بالمرصاد، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ.
-----------
أصحاب الأخدود(1)
[كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] وهذه هي بداية القصة، دون ذكر للزمان والمكان ليمكن اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط، أو التعلق بظروفها وملابساتها.
وفي قوله: [فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ] يريد فيما مضى، فيربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده فيقول: [قَبْلَكُمْ] حيث أن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان. وهذا هو المعنى الأول المأخوذ من تلك البداية.
__________
(1) -موسوعة المقالات والبحوث العلمية - (ج 201 / ص 1) -بقلم: خالد الحر(3/292)
والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية: [كَانَ مَلِكٌ] أبرزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة. وبذلك نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجرد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.
وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً، أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه؛ ستكون قتيلة بسنن الوجود، وتُلفظ من واقع الناس؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلة الاستضعاف تأكيداً لأبعاد الدعوة من البداية، ودون اعتبار للإمكانيات، أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.
ولقد كانت قريش من الذين لم يفهموا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فظنت أنه لايريد إلا الحكم- فعرض عليه سادتها أن يكون سيداً عليهم، فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم تلك السيادة.
فالحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين له، ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل؛ ليكون ولاية شرعية حقيقية.
ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم، وليس في تلك المواجهة -دون اعتبار للإمكانيات المادية- أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله، فقال: [سَيِّد الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ ظَالِمٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ] رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الأوسط . لأنه أكد مايؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان، ويزيد عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة، وهو يواجه باحتمال واحد وهو الشهادة.
[وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ] تفيد أن الساحر للملك والسحر للحكم، وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع، فلابد أنه واقع فاسد، قائم بالظلم، ومحكوم بالهوى. ولابد أن المنهج وهم، وأن القيادة قهر، وأن الفكر خرافة، والواقع ضياع، وعندئذ يكون الإنسان إما متكبراً لا يعجبه إلا نفسه، أو مقهوراً لا يشعر بنفسه.
وهذه ضرورة الحكم الظالم؛ لأن الحكم الجاهلي يقوم على تفتيت كيان الفرد، وتشتيت كيان المجتمع؛ لأن الحكم الجاهلي لايريد إلا السيطرة دائماً، ولو إلى الدمار، وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه غبياً جاهلاً ضعيفاً.
وأي منهج ليس من عند الله يخضع له الناس يحقق نتائج السحر، وليس هناك فارق بينهما إلا في الشكل والاسم، وأي منهج يتخيل الإنسان أنه سليم بتأثير الإرهاب الذي يُفرض به المنهج من خلال الجهل والضعف؛ يحقق نتائج السحر.
[فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ] ومن هذا القول نجد نموذجاً لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها، وينعمون فيها، ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى، فكان أول ما قالوا:{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ[113]قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[114]}[سورة الأعراف]. فلم يسألوا عمن سيواجهون، وما هي قضيته.. فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الأجر
[فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا] وقد جاء طلب الساحر - في رواية الترمذي - بعبارة: [انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي] وهذا يكشف بُعداً خطيراً للخطة الجاهلية الرامية إلى إفساد الفطرة، وهي التركيز على النابهين المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.
[فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ]وتلمح من النص أن الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب؛ لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كلما تأخر عنه. وهذا الضرب يمثل بالنسبة للغلام بلاءاً وامتحاناً -إذا راعينا أنه غلام صغير- . ولكن الله يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة، ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقاً مع طبيعتها؛ لأن هذا الغلام سيكون منطلقاً أساسياً لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها.
لذا كان لابد من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة، والذي لا يتحقق ولا يتم إلا بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع.(3/293)
فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.
وبذلك أراد الله أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة، وأن لا تشذ شخصيته عن تكاليفها، فابتلاه الله في لحظات التكوين، ووقت النمو، وفترة التربية؛ فصدق وصبر.
ودائماً..مع شدة البلاء والأذى تظهر الآيات التى تعين على الصبر وتطمئن النفوس: [فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ].
وهنا نكتشف أن الغلام كان قلقاً لتلقيه من الراهب والساحر في وقت واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير؛ لأن السماع حينئذ سيكون مجرداً من التأثر، وسيصبح الدين والسحر عند الغلام مجرد فكر وكلام ولكن القلق نشأ بسبب تأثره العميق بكلام الراهب، وإدراكه السليم لمعنى الدين.
ومن هنا ندرك الصعوبة الكبيرة التي يعانيها المسلم الأصيل في مواجهة الواقع الفاسد وندرك أن الأصالة الإسلامية لابد أن تحرك المسلم لتحديد موقفه كما فعل الغلام.
ويدل طلب الغلام لليقين -من خلال الواقع - بفضل الراهب على الاتجاه الذي يريد الغلام أن يأخذه بدينه؛ لأنه كان يريد أن يتحرك به في حياة الناس، وسيواجههم بما يؤمن به مواجهة واقعية عملية، فلابد أن تبدأ هذه المواجهة بيقين من خلال هذا الواقع، فليست الدعوة في نظر الغلام مجرد فكرة واقتناع شخصي بها، ولكنها فوق ذلك واقع يتحقق بالقَدَر الذي يسير به الوجود.
[فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ] ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام ذلك، ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية، فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.
ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه الإنسان موقفاً يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة، وأقدر على تحقيق مصلحتها. ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً: [ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يعلم ليقال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع؛ ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه؛ فيجعل من نفسه نقطة على محيط دائرة النمو العقيدي والحركي للغلام، فيقول له: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] .
وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغيراً سناً، وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب فإننا ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة؛ فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان، ولكن بالإيمان والكفاءة، والأثر. وبذلك يمثل الراهب في واقع الدعوة ضرورة القيادة الزاهدة، ويمثل الغلام ضرورة الاستجابة الفطرية.
فالقائد لايريد حظاً من الدنيا، والمستجيب كان غلاماً حديث عهد بالدنيا. فالقيادة الزاهدة والاستجابة الفطرية هي الارتباط الصحيح الذي يبارك الله فيه ليكون بداية البناء وأساسه، وهي المقياس الذي يقبل به أي ارتباط، أو يرفض منذ البداية حتى يتم البناء.
وبعد أن رأينا التجرد نرى التربية الصحيحة، إذ أن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التى تقع عليه باعتبار تلك الميزة، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأن الإحساس بتكاليفها يجعل الإنسان يعيش في شعور دائم بميزاته، فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور، ولهذا لما قال الراهب للغلام: [أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي] قال له: [وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى].
[وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ]وهكذا حدد الغلام قضية دعوته وربط تلك القضية بواقع الناس وألف قلوبهم عليها. فأصبح للدعوة تياراً قوياً امتد إلى كل مجالات المجتمع.
وحتى هذه اللحظة لم يكن الملك قد علم بخبر الغلام، ولكن الله قدر أن لا يعلم الملك بخبر الغلام إلا من خلال هذا الجليس وبعد أن أصبح للدعوة تيار قوي. وهذه كانت مرحلة البداية.(3/294)
[فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي] ويرد الغلام على الجليس مبيناً له أنه ليس هو الذي يشفي، ولكنه الله سبحانه، فيقول: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ] ويتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليس- فكرة الهدايا- والتي لم تنل من إحساسه شيئاً، ويقول له: [فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ] وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان في تصور الجليس؛ لأن شفاؤه سيكون بهذا الإيمان، ولأن الأمر بالإيمان كان بديلاً للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديراً واعتباراً، فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام [فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].
وعندما قال الغلام: [ إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ]إنما أكد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدمها للجليس.
[فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ].
وهكذا في بساطة، وهذا يؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجح في كشف حقيقة الإيمان الكامنة في كيان الإنسان. حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة .
ولذلك نلاحظ أن الغلام لم ينطق في تبليغه لقضية الدعوة إلا بثلاث عبارات في القصة كلها:
قوله: [ إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ] رداً على الجليس عندما طلب الشفاء، ورداً على الملك عندما ادعى أن مايفعله الغلام إنما هو سحر.
وقوله: [كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] رداً على الملك بعد نجاته من الموت فوق الجبل، وفي السفينة.
وقوله: [ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] عندما دل الملك على الكيفية التي يستطيع أن يقتله بها.
ولكن هذه العبارات الثلاث تمثل في الحقيقة ثلاث نقاط في خط الإثبات العقيدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع: فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية.
ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها، والحقيقة أن البداية لهذا الخط -كما جاء في القصة -ترجع إلى إيمان الغلام نفسه.. وذلك عندما طلب الغلام اليقين من خلال الواقع، فدعا الله أن يقتل هذه الدابة إذا كان أمر الراهب أحب إليه سبحانه من أمر الساحر، وهذا يعني أن طبيعة التلقي لحقائق هذا الدين واليقين به هي التي تحدد طبيعة الدعوة إليه في خط واحد.
نعود إلى القصة، فنجد الجليس قد أتى إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس من قبل فقال له الملك: [مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّي قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ]. وفظيع جداً أن يدعى الإنسان الربوبية لنفسه، ولكن كيف يكون هذا الإدعاء؟ فمن خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة نجد أن القرآن سجلها على فرعون، وعلى الملك النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه، وهذان يتفقان مع هذا الملك في أمرين هما: الكفر بالله، والملك على الناس.
فبدأ الأمر بكفر الإنسان بالله، ومنه الكفر بقضائه وقدره، ومنه ظن الكافر أنه هو الذي يصنع حياته ويصرفها برغبته، وإن كان متسلطاً على الخلق ظن أنه يؤثر بذاته في معيشتهم، ويصنع حياتهم فهو يأمر فيطاع، ويحكم فيستبد، ويتصرف بالهوى دون معارضة أو مراقبة، وهو الذي يتصرف في مقدرات الناس دون منازع، وهو الذي يعلو في الأرض ويستكبر على الأتباع كما قال فرعون:{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ[51]}[سورة الزخرف]. وقال:{...مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29]}[سورة غافر]. ثم قال:{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي...[38]}[سورة القصص].
ولكن المؤمن لايبالي بمثل هؤلاء الناس فيواجههم بقوة وصراحة كما فعل الجليس مع الملك، فقال له: [ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ] ولم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة إلا إذا خالط قلبه بشاشة الإيمان؛ لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطلاقة والقوة، وهؤلاء هم سحرة فرعون يسجدون لله بعد أن علموا أن موسى رسول الله، وليس ساحراً، فيهددهم فرعون قائلاً:{ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[71]}[سورة طه]. فيردون عليه قائلين: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]} [سورة طه]..
وهكذا أيضاً تعامل الملك مع الجليس: [فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ] لم يقتله فوراً حتى يكشف بقية الجماعة.(3/295)
[فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ] الملك الطاغوت يقول: [أَيْ بُنَيَّ] كلمة كلها مكر وخبث، وضغط على نفس الغلام، وإغراء له بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر، وحياة مترفة.
ويقول الملك: [قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ] وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام.
وهذا ما يصنعه الذين لايريدون الاعتراف بالحق فيفسرونه بأي شيء غير الحق:
وهذا ما فعله فرعون لما هزمه موسى فقال:{...إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ...[71]}[سورة طه]. ولما ناقشه موسى في قضاياه ومسلمات حياته بجرأة وحزم: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ[27]}[سورة الشعراء].
وهذا مافعله أيضاً المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما رأوه ينفي الألوهية عن أصنامهم بجرأة وقوة قالوا:{...مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ[14]}[سورة الدخان].
ولما رأوه يواجههم بالبلاغة القرآنية قالوا:{...شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ[30]}[سورة الطور].
ولما رأوا الصحابة واثقين في دعوتهم قالوا:{...غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ...[49]}[سورة الأنفال] والملاحظة الدقيقة في تفسير أصحاب الباطل للحق بغير الحق هي شرط أن يكون هذا التفسير مقبولاً عند الناس.
ومن هنا كان تفسير المعجزة بالسحر والجرأة بالجنون والبلاغة بالشعر والثقة بالغرور ولذلك عقدت قريش مؤتمراً نراها فيه تحاول محاولة دقيقة للاتفاق على الوصف الذي سيصفون به الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بحيث تراعي فيه هذه الشروط.
قالوا: نقول : كاهن؟ قال: لا والله، ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: نقول مجنون.قال ما هو مجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ماهو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولاعقدهم. قالوا: ما نقول ياأبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن قرعه لجناه، ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وعرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.
ويفشل الملك في إغراء الغلام: [فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ]. ليست خيانة ولا عمالة ولكنها الطاقة البشرية المحدودة. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وأي إنسان يقف موقف الغلام عندما دل على الراهب يتألم ألماً أكبر من ألم التعذيب، ثم يتضائل أمام نفسه.. ينطوي عليها.. يحتقرها.. يكرهها، ثم يظل يرقب من بعيد نظرة فيها الرحمة، وطلاقة وجه فيها الإعذار، ويد فيها العون، ويكون هذا واجب الجماعة في ذلك الموقف.
ولكن حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام لا يكون إلا بعد بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات وهذا هو الحد الفاصل بين أن يكون المتكلم في محنة التعذيب معذوراً أو مقصراً.
وبلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبت لايكون إلا بمعرفة إمكانية المواجهة الصحيحة لمحنة التعذيب.
وأهم عناصر هذه الإمكانية هي دخول المحنة بالعزم المسبق على مقاومة الانهيار، حيث إن دخول مرحلة التعذيب تجعل الفرد في حالة شبه لا إرادية والعزم المسبق هو الذي يحقق المقاومة.
وكذلك الأمر في التعذيب حيث ينشىء العزم المسبق نوعاً من الإرادة ومقاومة الانهيار.
والمقاومة الدائمة هي أكبر إمكانيات المواجهة.
وأهم العوامل المساعدة على المقاومة هي المتابعة الذهنية عند الفرد لمراحل التعذيب والغرض المحدد لكل مرحلة؛ فمثلاً مرحلة أن يبدأ تعذيب الفرد برؤيته لتعذيب الآخرين - كما فعل الملك مع الغلام- يكون الغرض منها تحطيم العزم المسبق بعدم الكلام.. وجعل الفرد يدخل محنة التعذيب بلا عزم على الصبر والتحمل والثبات، وذلك من خلال استغلال الخوف الذي يسبق الدخول في التعذيب وهذا الخوف أشد من آثار التعذيب ذاته.
وإدراك مثل هذه الأغراض هو الذي يمكن الفرد من تفادي الأثر المطلوب منها. كما أن وصول الفرد الممتحن إلى مرحلة الانهيار لايعنى هدم كل خطوط الدفاع النفسية. حيث إن هناك خطاً قوياً يجب الانتباه إليه، وهو خط العلاقة النفسية بين الفرد الواقع تحت التعذيب والأفراد الذين سينالهم الأذى بانهياره، فكلما كان الحب قوياً وشديداً كانت إرادة الصبر والتحمل قوية وشديدة أيضاً.(3/296)
وأساليب التعذيب لا تتجاوز في مجموعها غرض سلب الإرادة ولعل أخطر هذه الأساليب المحققة لهذا الغرض هو الإهانة النفسية.. لإفقاد الفرد كرامته لأن العلاقة بين الكرامة والإرادة علاقة مطردة، فإذا قويت كرامة الفرد وعزيمته قويت إرادته.
ومن هنا: فإن الشعور بالاستعلاء والعزة من أهم موانع فقد الإرادة والانهيار، فلا يؤثر السب والبصق والركل بالقدم على الاستعلاء والعزة، بل واليقين بأنك تمتلىء عزة واستعلاء بالقدر الذي يمتلىء فيه من يعذبك حقارة ومهانة.
والفزع والترويع هما أخطر آثار التعذيب، ولا يبطل هذا الخطر إلا الطمأنينة والسكينة، ولا يحقق الطمأنينة والسكينة إلا الذكر {...أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]}[سورة الرعد] وعلى أن يكون الذكر هو الواجب الأول والدائم على من يقع في محنة التعذيب، كما أن الصيغ المتعددة للذكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعددة التعذيب.
فدعاء الدخول على ذوى السلطان الظالمين يكون عند لحظة المواجهة الأولى، والاستغفار يرفع الذنوب التي قد تكون سبباً في وقوع المحنة، وعندما ترفع الذنوب تذهب أسباب المحنة، وتتحقق العافية، ومع الاستغفار يكون دعاء تفريج الكرب. وكذلك التكبير الذي يحقق الشعور بإكبار الله فيهون التعذيب والقائمين عليه.. وكذلك يهون التعذيب والقائمين عليه برضى الله سبحانه. وهذا المعنى مأخوذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف. وفي نهايته: [...إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَليَّ فَلَا أُبَالِي وَلَكِنَّ عَافِيَتك أَوْسَع لِي] قال الهيثمي في مجمع الزوائد [35/6]:'رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة'.
ولعل من صيغ الأذكار المناسبة لمحنة التعذيب هي الاستعاذة الواردة في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [...أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ]رواه الترمذي وأحمد.
لأن الانهيار هو الذي يجر السوء على النفس وعلى المسلمين. وفي النهاية فإن ما يذهب بمحنة التعذيب، وكأنها لا تكون هو تذكر عذاب الله، وعدم المقارنة بين فتنة الناس وعذاب الله كما في قوله سبحانه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...[10]}[سورة العنكبوت]. حيث لا وجه للمقارنة.
فعذاب الله يلازمه سخط الله والمهانة الحقيقية كما أنه يتضاعف ولاينفع معه الصبر وليس له نهاية وليست منه نجاة، وفتنة الناس والإيذاء في الله يحقق رضى الله والعزة لمن يؤذى في سبيل الله . كما أن فتنة الناس تَضْعُف وينفع معها الصبر ولها نهاية ومنها النجاة بإذن الله.
وبعد معالجة مشكلة التعذيب يتقرر حقيقة هامة وهي أن التوكل على الله هو الشعور الذي يدخل به المسلم تلك المحنة، وأن التسليم بقدر الله هو الشعور الذي يتقبل به المسلم نتيجة تلك المحنة حيث إن محنة التعذيب مع ما ذكر من عناصر لمعالجتها هي في النهاية بيد الله وحده.
ولعلنا نفهم من هذا الموقف أن ما بين التوكل الذي ندخل به المحنة والرضى بالقدر الذي نخرج به منها تكون ضرورة التفكير العملي للمحافظة على واقع الدعوة، وعدم الارتكاز في ذلك بصفة كلية على إيمان الأتباع. فقد كان من الممكن أن يغير الراهب مكانه حتى إذا ضعف الغلام، وأراد أن يدل عليه لا يجده، ولكن قدر الله وما شاء فعل.(3/297)
[فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ] وهذا الذي حدث من الملك مع الراهب والجليس هو الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما شكوا إليه الاستضعاف: عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا فَقَالَ: [قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ]رواه البخاري. وهكذا يتعامل الظلمة مع دعاة الحق فلا فرصة للمناقشة، ولا سبيل إلى الإقناع، ولئن كان الملك ظالماً وسبيل بقائه في الحكم هو السحر؛ إذن فلا قضية عنده ولا مبدأ، ولهذا لم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل.
ونلاحظ أن الملك كان حريصاً على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما؛ لأن ارتدادهما قتل للدعوة، وقتلهما حياة لها؛ ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة، ويئس من الاستجابة.
[ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا] وأما هنا فنلحظ حرص الملك الشديد على ارتداد الغلام حتى لا يسبب قتله حرجاً للملك، وبلبلة في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفاً لهؤلاء الناس بأعماله الطيبة وبحبه للخير..هذا من ناحية..
ومن ناحية أخرى: فإن الملك أراد أن تخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدث الناس أن الغلام لم يكن على شيء؛ لأنه ارتد عن دعوته.
ومن ناحية ثالثة: فإن الملك كان طامعاً في أن يستفيد من هذا الغلام في تثبيت موقفه بجعله ساحراً له، وداعياً إلى ملكه طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يشفي الناس من أدوائهم، والذي يؤكد لنا حرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامل به معه:
فقد أخره عن الراهب والجليس حتى يشهد مصرعهما، فيتأثر ويضعف،
وكذلك فإن الملك اختار وسيلة غير الوسيلة التي قتل بها الراهب والجليس، وسيلة فيها فرصة للتردد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل،
والذي يؤكد لنا أن الملك كان يفعل ذلك بقصد ردة الغلام هو أنه طلب من أصحابه أن يعرضوا عليه الارتداد في ذروة الجبل وقبل أن يقذفوه.
وابتداءاً من تعذيب الجليس، ثم تعذيب الغلام، ثم قتل الراهب والجليس قبل الغلام: ثم قول الملك للغلام: [أَيْ بُنَيَّ] ثم تحديد كيفية معينة لقتل الغلام.. تجدها كلها تصرفات محسوبة ومدروسة..
متى يكون التعذيب؟ ومتى يكون اللين؟ ثم متى يكون القتل؟ وكيف؟ ولهذه التصرفات دائماً هدف واحد محدد هو التخلص من الدعوة: إما بارتداد الدعاة، أو قتلهم.
غير أن أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدين، أو المساومة فيه بصيغة المبنى للمجهول: [ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ] ذلك للراهب والجليس والغلام.
وأما القتل فعلاً فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم وهو الملك: [ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ] والسبب في ذلك: هو أن المساومة مع أصحاب الدعوة لايتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة فإنها توكل بها مجهول يساوم خفية لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها.
ولكن الغلام يدعو الله فوق الجبل: [اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ] بأي كيفية يرضاها الله سبحانه، وبأي سبب يختاره عز وجل، فليس التوكل على الله عند المؤمن محدوداً بخبرة الواقع، ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته، وجوهر معناه، انطلاقاً إيمانياً لا يتقيد بضيق الواقع، وارتفاعاًَ وجدانياً لا يهبط بشدة الظروف.(3/298)
وعندما يتحقق التوكل... تتحقق الاستجابة بإذن الله..[ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ] وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة، أو الحرص على الموت.
والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن، أو للارتداد عن سبيل الله.
فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أومنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً، ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.
[وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ]لم تؤثر محنته على منهجه..لم يحدث التصرف الذي غالباً مايتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد، ومنهج جديد.
لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة..عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها..نفس الموقف الذي كان فيه..موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع، ولا حتى التأجيل.
ولما ذهب إلى الملك سأله: [مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ] لا يريد أن ينسب الأصحاب إليه؛ لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه، ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه كما قال النص: [فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ].
قال الغلام: [كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام هذا للملك بعد النجاة كان مثل قوله قبل النجاة : [اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ] نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل بلا زيادة ولاتغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ، ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله، ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله، أو تصرف تصرفه.
ويحاول الملك قتله مرة ثانية..[فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ] إن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجاً لطبيعة تطور المواجهة الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر الله وحده. تلك المادية التى أعمت أصحابها عن قدر الله السافر فوق ذروة الجبل حيث اهتز الجبل، فسقطوا هم، وعاد هو سالماً.
أحداث ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام الدعوة، أدرك الغلام هذه الحقيقة، فجاء يمشي إلى الملك.
ويقين الغلام بعجز الملك عن قتله- وإن كان موقفاً خاصاً إلا أنه- تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس في حديثه: [...وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ]رواه الترمذي وأحمد. ولن تكون الحركة صحيحة إلا إذا تحقق في ضمير كل داعية هذا الاطمئنان الذي كان عند الغلام.
فقال للملك: [إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ] ونرى في كلمات الغلام شيئين:
إثبات عجز الملك.. والأمر الذي سيأمر الملك به.. ولعل هذا أول أمر يتلقاه الملك في حياته، ويجد نفسه مضطراً إلى تنفيذه. وبذلك ينهي الغلام ادعاء الربوبية الذي يدعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يصدر إليه. ولقد حرص الغلام على إنهاء هذا الإدعاء في ذلك الموقف؛ لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الإدعاء الفظيع.
ويكون الأمر هو: [تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ] حتى يشهدوا الأحداث، ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر؛ لأنه يعلم أن مثل هؤلاء الحكام يخفون الحقائق التي تفيد الناس، وتساعدهم على الإيمان، ومعرفة الحق. وهذا هو ماقصده موسى عندما طلب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة: يوم اجتماع الناس:{...يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى[59]}[سورة طه].(3/299)
ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز: [وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ] حتى يكتمل ضعف الغلام في إحساس الناس، فيكون غلاماً صغيراً مصلوباً في جذع شجرة،حتى يسهل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهرت الملك، والتي تقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب.. قوة الله رب الغلام.
[ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي]واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو؛ فيكون سبب القتل من عنده، وتتأكد رغبته في القتل. [ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ] والطبيعي أن يوضع السهم في كبد القوس، ولكن الغلام جعل التصرف الطبيعي تنفيذاً لأمر منه حتى لايتحرك الملك أي حركة من تلقاء نفسه؛ ليكون خضوعه كاملاً ونهائياً لأوامر الغلام التي جعلها الله صياغة لإرادته هو سبحانه.
[ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيراً للموقف، فيكون قتله رغبة منه وسبباً من عنده..يتحقق بقدر الله بعد أن عجز الملك.
ويستجيب الملك لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ].
استجاب الملك لأوامر الغلام لأنه وجد نفسه أمام ثلاثة أمور:
إما: أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء.. وكان هذا الحال سينتهي بإيمان الناس.
وإما: أن يستمر في تأكيد عجزه عن ذلك، وتتأكد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام، وكان هذا الحال أيضاً سينتهي بإيمان الناس.
والأمر الثالث: وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتل الغلام، وأيضاً آمن الناس، فقد أراد الله أن يؤمن الناس، وأن تعلو كلمته، وقضى بذلك سبحانه وحكم، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وعلى أساس هذا الموقف نفهم قول الله الذي جاء في سورة البروج:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ[20]}[سورة البروج].
[ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ]وقد كانت هذه الحقيقة القدرية الأخيرة التي تتحدد بها العلاقة السبب والنتيجة. سبقها عدة حقائق، ففي القصة:
النتيجة التي تتحقق بعكس مقصود البشر من السبب: فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال.. يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب، ويجلس إليه، ويسمع منه، ويعجبه كلامه.
وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط.. مثلما قتل الغلام الدابة التي كانت تسد على الناس الطريق بحجر صغير. وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك ووقوع ما كان يحذره بسبب هذا الغلام الصغير.
وفي القصة النتيجة المختلفة بالسبب الواحد.. وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل، فرجف بهم الجبل، وجاء إلى الملك، وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك. ومن مجموع هذه الحقائق نفهم من سورة البروج قول الله سبحانه:{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[16]}[سورة البروج]. لأن هذه الآية هي حقيقة كل الحقائق.
ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ] وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان، فقد كانوا يعرفونه محباً لهم، وساعياً لمنفعتهم، ومداوياً لأدوائهم، وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام رباً هداه إلى محبتهم، وأذن له بشفائهم.
باسمه تحقق عجز الملك، وباسمه سيموت الغلام راغباً من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك، فبعد أن كان يدعي الربوبية، ويعذب، ويقتل من لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه.. [بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ].
ولذلك لم يكن الغلام خائفاً من أن تنعكس رؤية الناس له وهو يموت خوفاً من الملك بعد قهره بهذا الموقف. كما أن الغلام لم يكن خائفاً لأنه استطاع أن ينشئ تعاطفاً كاملاً له في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك، وبموقف الموت ذاته حيث تحدد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جذع شجرة، وبين الملك الظالم.
وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور، وبدأ التعاطف مع الغلام الداعية؛ بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف.. غلام صغير يحب الناس، ويقدم بهم المنافع والخير.. يموت برغبته من أجلهم.. بعد أن أثبت عجز الملك وضعفه من أجل أن يؤمنوا بالله رب الغلام.
واستجاب الناس.. فاندفعوا من كل مكان بلا خوف يرددون نداءات الإيمان [آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ].. ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل.. وفي لحظة العزة بعد القهر والذل..وفي لحظة القوة بعد الوهن والضعف.. يؤمن الناس.
[فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ] وتغيرت ملامح المجتمع، وأنهت الجماهير ادعاء الحاكم الكاذب، فجاء إلى الملك من يقسم له بالله على هزيمته وعجزه ويقول له: [قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ].(3/300)
[فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ] ورغم هذا لم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق، وفي كل السكك، وواصلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران.
وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: [مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا] ليقاوم كل إنسان بنفسه حب البقاء في نفسه، فيكون أقل مقدار للضعف كافياً وسبباً للارتداد، وقد كانت هذه الفكرة آخر ما أفرزته رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر. ولكن الإيمان أبطل أثرها، وعالجت قوة الاندفاع الأصيل إلى الموت أثر أي ضعف كان كامناً في النفوس.
ويلتقط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لمعالجة الإيمان لإحساس التعلق بالحياة فيه [حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ].
جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تفصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود، واشتعلت مشاعر الأمومة، وكراهية الموت فيها، فترددت أن تقع بابنها، ولكن الطفل يطفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتلقي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود.. قصة الانتصار للحق.
وتبقى مشاهد العذاب، وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة.. ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن استضعافاً في الأرض، وجاهلية في الحياة ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة.
وفي ذلك جاء قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ[1]وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ[2]وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ[3]قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ[4]النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ[5]إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[6]وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ[7]وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]}[سورة البروج].
من كتاب:'أصحاب الأخدود' للأستاذ/ رفاعي سرور
------------
قصة أصحاب الأخدود(3/301)
قصة أصحاب الأخدود قصة عظيمة ، أشار الله عز وجل إليها في كتابه إشارة مختصرة - على طريقة القران في الإيجاز , وعدم الخوض في التفصيلات - ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل القصة وأحداثها في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان ملك فيمن كان قبلكم , وكان له ساحر , فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر , فبعث إليه غلاما يعلمه , فكان في طريقه إذا سلك راهب , فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه , فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه , فإذا أتى الساحر ضربه , فشكا ذلك إلى الراهب , فقال : إذا خشيتَ الساحر فقل : حبسني أهلي , وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر , فبينما هو كذلك , إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس , فقال : اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل , فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس , فرماها فقتلها , ومضى الناس , فأتى الراهب فأخبره , فقال له الراهب : أي بني , أنت اليوم أفضل مني , قد بلغ من أمرك ما أرى , وإنك ستبتلى , فإن ابتليت فلا تدل علي , وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص , ويداوي الناس من سائر الأدواء , فسمع جليس للملك كان قد عمي , فأتاه بهدايا كثيرة , فقال ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني , فقال إني لا أشفي أحدا , إنما يشفي الله , فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك , فآمن بالله , فشفاه الله , فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس , فقال له الملك : من رد عليك بصرك , قال : ربي , قال : ولك رب غيري , قال : ربي وربك الله , فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام , فجيء بالغلام , فقال له الملك : أي بني , قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص , وتفعل وتفعل , فقال : إني لا أشفي أحدا , إنما يشفي الله , فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب , فجيء بالراهب , فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى , فدعا بالمئشار , فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه , ثم جيء بجليس الملك , فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى , فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه , ثم جيء بالغلام , فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى , فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا , فاصعدوا به الجبل , فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه , فذهبوا به فصعدوا به الجبل , فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت , فرجف بهم الجبل فسقطوا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك : ما فعل أصحابك , قال : كفانيهم الله , فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر , فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه , فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت , فانكفأت بهم السفينة فغرقوا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك : ما فعل أصحابك , قال : كفانيهم الله , فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به , قال وما هو , قال : تجمع الناس في صعيد واحد , وتصلبني على جذع , ثم خذ سهما من كنانتي , ثم ضع السهم في كبد القوس , ثم قل : باسم الله رب الغلام , ثم ارمني , فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني , فجمع الناس في صعيد واحد , وصلبه على جذع , ثم أخذ سهما من كنانته , ثم وضع السهم في كبد القوس , ثم قال : باسم الله رب الغلام , ثم رماه , فوقع السهم في صُدْغِهِ , فوضع يده في صُدْغِهِ في موضع السهم فمات , فقال الناس : آمنا برب الغلام , آمنا برب الغلام , آمنا برب الغلام , فأُتِيَ الملكُ فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر , قد والله نزل بك حَذَرُكَ , قد آمن الناس , فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت , وأَضْرَمَ النيران , وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها , أو قيل له : اقتحم ففعلوا , حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها , فتقاعست أن تقع فيها , فقال لها الغلام : يا أُمَّهِ اصبري فإنك على الحق ) .(3/302)
إنها قصة غلام نور الله بصيرته , وآتاه من الإيمان والثبات , والذكاء والفطنة , ما استطاع به أن يغير حال أمة بأكملها , وأن يزلزل عرش ذلك الطاغية المتجبر , الذي ادعى الألوهية من دون الله , فقد كان لهذا الملك ساحر يعتمد عليه في تثبيت ملكه , وإرهاب الناس لينصاعوا لأمره , فكبر سن هذا الساحر , وطلب من الملك أن يرسل له غلاما , ليرث علمه , ويخلفه في مهمته , وكان من إرادة الله الخير لهذا الغلام أن كان هو المرشح لهذه المهمة , وتعرف في أثناء ذهابه إلى الساحر وعودته من عنده على راهب مؤمن , دعاه إلى الإيمان والتوحيد فاستجاب له وآمن , ودله الراهب على ما يتخلص به من تأنيب الساحر وتأنيب أهله في حال تأخره عنهم , ثم أراد أن يزداد يقينا واطمئنانا بصحة ما دعاه إليه الراهب , فوجد الفرصة سانحة عندما اعترضت الدابة طريق الناس , ثم ذاع أمر الغلام واشتهر بين الناس , وأجرى الله على يديه الكرامات من شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص , وكان يتخذ من ذلك فرصة لدعوة الناس إلى التوحيد والإيمان , حتى وصل خبره إلى الملك عن طريق جليسه الذي دعا له الغلام فشفاه الله , وشعر الملك من كلام الوزير ببوادر فتنة تهدد عرشه , عندما صرح بالألوهية والربوبية لغيره , فأراد أن يعرف أصل هذه الفتنة ومصدرها , فوصل إلى الغلام ثم إلى الراهب عن طريق التعذيب , وأراد أن يصدهم عن ما هم عليه , فأبوا واحتملوا العذاب والقتل على الكفر بالله , وأما الغلام فلم يقتله قتلا مباشرا كما فعل مع الوزير والراهب ,
بل استخدم معه طرقا متعددة لتخويفه وإرهابه , طمعا في أن يرجع عن ما هو عليه , ويستفيد منه في تثبيت دعائم ملكه , وفي كل مرة ينجيه الله , ويعود إلى الملك عودة المتحدي , وكان الناس يتابعون ما يفعله الغلام خطوة بخطوة , ويترقبون ما سيصل إليه أمره ، فلما يئس الملك من قتله أخبره الغلام أنه لن يستطيع ذلك إلا بطريقة واحدة يحددها الغلام نفسه , ولم يكن الغلام يطلب الموت أو الشهادة , بل كان يريد أن يؤمن الناس كلهم , وأن يثبت عجز الملك وضعفه, في مقابل قدرة الله وقوته ، فأخبره أنه لن يستطيع قتله إلا إذا جمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على خشبة ، ثم أخذ سهمًا - وليس أي سهم , بل سهمًا من كنانة الغلام - ثم رماه به قائلاً : بسم الله رب الغلام .
فقام الملك بتطبيق قول الغلام ، ومات الغلام , وتحقق للملك ما أراد , وآمن الناس كلهم , فجن جنون الملك , وحفر لهم الأخاديد , وأضرم فيها النيران , ورضي الناس بالتضحية في سبيل الله , على الرغم من أنه لم يمض على إيمانهم إلا ساعات قلائل بعد الذي عاينوه من دلائل الإيمان , وشواهد اليقين , وأنطق الله الرضيع عندما تقاعست أمه عن اقتحام النار , وكانت آية ثبت الله بها قلوب المؤمنين .
إن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار الحقيقي هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة , فالحياة الدنيا وما فيها من المتاعب والآلام ، ليست هي الميزان ، الذي يوزن به الربح والخسارة , والناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكنهم لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار .
===============
أصحاب الأخدود في القرن الحادي والعشرين
تحدث القرآن الكريم عن أصحاب الأخدود، حيث قال تعالى في محكم آياته: ((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8))) البروج 4-8
ولكن.. من هم أصحاب الأخدود؟
لنقرأ معا قصتهم على لسان سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم:
فَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : « كَانَ مَلِكٌ فيِمَنْ كَانَ قبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِك : إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابعَثْ إِلَيَّ غُلاَماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَماً يعَلِّمُهُ ، وَكَانَ في طَريقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمهُ فأَعْجَبهُ ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِب وَقَعَدَ إِلَيْه ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فقال : إِذَا خَشِيتَ السَّاحِر فَقُلْ : حبَسَنِي أَهْلي ، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحرُ .(3/303)
فَبيْنَمَا هُو عَلَى ذَلِكَ إذْ أتَى عَلَى دابَّةٍ عظِيمَة قدْ حَبَسَت النَّاس فقال : اليوْمَ أعْلَمُ السَّاحِرُ أفْضَل أم الرَّاهبُ أفْضلَ ؟ فأخَذَ حجَراً فقالَ : اللهُمَّ إنْ كان أمْرُ الرَّاهب أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هَذِهِ الدَّابَّة حتَّى يمْضِيَ النَّاسُ ، فرَماها فقتَلَها ومَضى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهب فأخبَرهُ . فقال لهُ الرَّاهبُ : أىْ بُنيَّ أَنْتَ اليوْمَ أفْضلُ منِّي ، قدْ بلَغَ مِنْ أمْركَ مَا أَرَى ، وإِنَّكَ ستُبْتَلَى ، فإنِ ابْتُليتَ فَلاَ تدُلَّ عليَّ ، وكانَ الغُلامُ يبْرئُ الأكْمةَ والأبرصَ ، ويدَاوي النَّاس مِنْ سائِرِ الأدوَاءِ . فَسَمعَ جلِيسٌ للملِكِ كانَ قدْ عمِىَ، فأتَاهُ بهداياَ كثيرَةٍ فقال : ما ههُنَا لك أجْمَعُ إنْ أنْتَ شفَيْتني ، فقال إنِّي لا أشفِي أحَداً، إِنَّمَا يشْفِي الله تعَالى، فإنْ آمنْتَ بِاللَّهِ تعَالَى دعوْتُ الله فشَفاكَ ، فآمَنَ باللَّه تعَالى فشفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فأتَى المَلِكَ فجَلَس إليْهِ كما كانَ يجْلِسُ فقالَ لَهُ المَلكُ : منْ ردَّ علَيْك بصَرك؟ قال : ربِّي . قَالَ: ولكَ ربٌّ غيْرِي ؟، قَالَ : رَبِّي وربُّكَ الله ، فأَخَذَهُ فلَمْ يزلْ يُعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الغُلاَمِ فجئَ بِالغُلاَمِ ، فقال لهُ المَلكُ : أىْ بُنَيَّ قدْ بَلَغَ منْ سِحْرِك مَا تبْرئُ الأكمَهَ والأبرَصَ وتَفْعلُ وَتفْعَلُ فقالَ : إِنَّي لا أشْفي أَحَداً ، إنَّما يشْفي الله تَعَالَى، فأخَذَهُ فَلَمْ يزَلْ يعذِّبُهُ حتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهبِ ، فجِئ بالرَّاهِبِ فقيل لَهُ : ارجَعْ عنْ دِينكَ، فأبَى ، فدَعا بالمنْشَار فوُضِع المنْشَارُ في مفْرقِ رأْسِهِ، فشقَّهُ حتَّى وقَعَ شقَّاهُ ، ثُمَّ جِئ بجَلِيسِ المَلكِ فقِلَ لَهُ : ارجِعْ عنْ دينِكَ فأبَى ، فوُضِعَ المنْشَارُ في مفْرِقِ رَأسِهِ ، فشقَّهُ به حتَّى وقَع شقَّاهُ ، ثُمَّ جئ بالغُلامِ فقِيل لَهُ : ارجِعْ عنْ دينِكَ ، فأبَى ، فدَفعَهُ إِلَى نَفَرٍ منْ أصْحابِهِ فقال : اذهبُوا بِهِ إِلَى جبَلِ كَذَا وكذَا فاصعدُوا بِهِ الجبلَ ، فإذَا بلغتُمْ ذروتهُ فإنْ رجعَ عنْ دينِهِ وإِلاَّ فاطرَحوهُ فذهبُوا به فصعدُوا بهِ الجَبَل فقال : اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شئْت ، فرجَف بِهمُ الجَبَلُ فسَقطُوا ، وجَاءَ يمْشي إِلَى المَلِكِ ، فقالَ لَهُ المَلكُ : ما فَعَلَ أَصحَابكَ ؟ فقالَ : كفانيهِمُ الله تعالَى ، فدفعَهُ إِلَى نَفَرَ منْ أصْحَابِهِ فقال : اذهبُوا بِهِ فاحملُوه في قُرقُور وَتَوسَّطُوا بِهِ البحْرَ ، فإنْ رَجَعَ عنْ دينِهِ وإلاَّ فَاقْذفُوهُ ، فذَهبُوا بِهِ فقال : اللَّهُمَّ اكفنِيهمْ بمَا شِئْت ، فانكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفينةُ فغرِقوا ، وجَاءَ يمْشِي إِلَى المَلِك . فقالَ لَهُ الملِكُ : ما فَعَلَ أَصحَابكَ ؟ فقال : كفانِيهمُ الله تعالَى . فقالَ للمَلِكِ إنَّك لسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تفْعلَ ما آمُركَ بِهِ . قال : ما هُوَ ؟ قال : تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ ، وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ ، ثُمَّ خُذ سهْماً مِنْ كنَانتِي ، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل : بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ ثُمَّ ارمِنِي ، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي . فجَمَع النَّاس في صَعيدٍ واحِدٍ ، وصلَبَهُ عَلَى جذْعٍ ، ثُمَّ أَخَذَ سهْماً منْ كنَانَتِهِ ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ في كبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ : بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ ، ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِهِ ، فَوضَعَ يدَهُ في صُدْغِهِ فمَاتَ . فقَالَ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ ، فَأُتِىَ المَلكُ فَقِيلُ لَهُ : أَرَأَيْت ما كُنْت تحْذَر قَدْ وَاللَّه نَزَلَ بِك حَذرُكَ . قدْ آمنَ النَّاسُ . فأَمَرَ بِالأخدُودِ بأفْوَاهِ السِّكك فخُدَّتَ وَأضْرِمَ فِيها النيرانُ وقالَ : مَنْ لَمْ يرْجَعْ عنْ دينِهِ فأقْحمُوهُ فِيهَا أوْ قيلَ لَهُ : اقْتَحمْ ، ففعَلُوا حتَّى جَاءتِ امرَأَةٌ ومعَهَا صَبِيٌّ لهَا ، فَتقَاعَسَت أنْ تَقعَ فِيهَا ، فقال لَهَا الغُلاَمُ : يا أمَّاهْ اصبِرِي فَإِنَّكَ عَلَي الحَقِّ » روَاهُ مُسْلَمٌ.
إن عقول هذه الفئة الكافرة لم تتغير منذ قديم الزمان إلى عصرنا الحالي (القرن الواحد والعشرين). فنرى اليهود ارتكبوا ابشع الجرائم في فلسطين المسلمة. والروس قاموا بأفظع المذابح في أفغانستان، والصرب قتلوا وشردوا ويتموا الكثير من العوائل في البوسنة والهرسك ومن بعدها في كوسوفا، ويعود الروس ثانية لجرح المسلمين جرحا جديدا في الشيشان.
فنظرة البشر لكل شيء تطورت مع مرور الزمن إلا نظرة الكفار للمسلمين ودمائهم.
فنرى الجمعيات التي أنشأت للرفق بالحيوان، والمحافظة على البيئة، ولكن لم يتخذ أي إجراء حقيقي ولم تنشأ أي جمعية أو رابطة لحفظ دماء المسلمين وأعراضهم.
ولكن اخوتي الكرام.. لماذا كل هذا الحقد على المسلمين من جهة، وتجاهلهم من الجهة الآخر؟(3/304)
لقد بين الله عز وجل هذا العداء وسببه في كتابه العزيز، حيث قال جل جلاله: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) البقرة 120
إنها قاعدة ربانية واضحة، تبين طبيعة العلاقة بين اليهود والنصارى وبين المسلمين (ولا يخفى على أحد دور اليهود والنصارى وتأثيرهم في إدارة العالم كله).. إن هذه العلاقة مبنية على الكره والحقد من هؤلاء (الضالين والمغضوب عليهم) تجاه المسلمين، والسبب في ذلك، هو أن المسلمين عرفوا الحق فاتبعوه، أما اليهود والنصارى عرفوا الحق فحاربوه، فهم يحسدون المسلمين على اتباعهم المنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.. ويشير الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) البقرة 109
ومع وضوح هذه الآيات والتوجيهات الربانية، نجد من يوالي اليهود والنصارى، فيعقد اتفاقيات السلام، واتفاقيات الدفاع المشترك، وغيرها من الاتفاقيات.. وقد نهانا الله في آيات كثيرة عن هذا الفعل المجانب للصواب، حيث قال جل شأنه: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) المجادلة 22
فبين المولى أن هذه المولاة من صفات المنافقين، أما الذين آمنوا فهم أبعد ما يكونون عن موالاة من حاد الله ورسوله ولو كانوا أولى قربا لهم.
وأود أن أختم مقالي هذا بتوضيح أمر هام جدا، أو سبب هذه الابتلاءات التي تصيب المسلمين، من أقتل وتشريد وانتهاك أعراض وسلب أموال وغيرها. إن هنالك سببين رئيسيين لهذه الابتلاءات هما:
الأول: اختبار المسلمين وتمحيصهم لمعرفة المؤمن من المنافق، وتربية المؤمنين وتعويدهم على الشدائد، ورفع مقام المؤمنين عند الله بزيادة حسناتهم لصبرهم على هذا الابتلاء.
الثاني: الابتعاد عن الدين. وفي قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إشارة واضحة لهذا المعنى حيث قال: ((نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)). فلن ينفعنا الشرق ولا الغرب إذا ابتعدنا عن الإسلام.
وفي الختام.. اللهم ردنا إلى الإسلام ردا جميلا.. اللهم آمين
================
صاحب جريج
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَانَ رَجُلٌ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ ، يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ ، يُصَلِّى ، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا ، فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّى ثُمَّ أَتَتْهُ ، فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ . وَكَانَ جُرَيْجٌ فِى صَوْمَعَتِهِ ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ لأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا . فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى ، فَأَتَتْ رَاعِيًا ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلاَمًا ، فَقَالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ . فَأَتَوْهُ ، وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ ، فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ قَالَ الرَّاعِى . قَالُوا نَبْنِى صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ . قَالَ لاَ إِلاَّ مِنْ طِينٍ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 2482 ) ومسلم برقم(6672)
وفي شرح ابن بطال - (ج 12 / ص 130)
وذهب الكوفيون والشافعى وأبو ثور إلى أن من هدم حائطا لرجل فإنه يبنى مثله على ظاهر هذا الحديث، واختلف قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه فى العتبية: فى رجل له خليج يجرى تحت جدار رجل آخر، فجرى السيل فيه فهدمه، قال مالك: أرى أن يقضى يبنيانه على صاحب الخليج الذى أفسد حائط الرجل.
وقال فى المدونة: ما انهدم من الربع بيد الغاصب، وإن لم يكن بسببه فعليه قيمته يوم الغصب. وقوله فى مسألة الخليج أشبه بالحديث.
قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه المطالبة بالدعوى، كما طالبت بنو إسرائيل جريجًا بما ادعته المرأة عليه، وفيه استنقاذ عباد الله تعالى لصالح عباده وأوليائه عند جور العامة وأهل الجهل عليهم بآية يريهم الله إياها، فإن كانت عرض فى الإسلام فبكرامة يكرمه الله بها، وسبب يسببه له، لا بخرق عادة، ولا قلب عين، وإنما كانت الآيات فى بنى إسرائيل؛ لأن النبوة كانت ممكنة فيهم غير ممتنعة عليهم.
ولا نبى بعد محمد، فليس يجرى من الآيات بعده ما يكون خرقًا للعادة ولا قلب العين، إنما تكون كرامة لأوليائه مثل: دعوة مجابة، ورؤيا صالحة، وبركة ظاهرة، وفضل بين توفيق من الله إلى الإبرار مما اتهم به الصالحون، وامتحن به المتقون.
وفى دعاء أمه عليه وهو فى الصلاة دليل أن دعاء الوالدين إذا كان بنية خالصة أنه قد يجاب، وإن كان فى حال ضجر وحرج ولم يكونا على صواب؛ لأنه قد أجيب دعاء أمه بأن امتحن مع المرأة التى كذبت عليه، إلا أنه تعالى استنقذه بمراعاته لأمر ربه، فابتلاه وعافاه، وكذلك يجب للإنسان أن يراعى أمر ربه ودينه، ويقدمه على أمور دنياه فتحمد عاقبته.
وقوله: « فتوضأ وصلى » فيه رد على من قال أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم، وأنهم يأتون لذلك غرًا محجلين يوم القيامة، فبان بهذا الحديث أن الوضوء كان فى غير هذه الأمة، ووضح أن الذى خصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم إنما هو الغرر والتحجيل ليمتازوا بذلك من بين سائر الأمم، وقد جاء فى حديث سارة حين أخذها الكافر من إبراهيم أنها قامت فتوضأت وصلت حتى غط الكافر برجله، ذكره البخارى فى كتاب الإكراه، وقد روى عن الرسول أنه توضأ ثلاثًا وقال: « هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى » فثبت بهذا كله أن الوضوء مشروع قبل أمه محمد - صلى الله عليه وسلم - .(3/305)
.
-------------
حب الصحابة الكرام وحب جريج العابد(1)
إن حب أحد عباد الأمم السابقة أمر محمود إن لم يؤد لاعتقاد أنه أفضل من الصحابة، وأما التأثر عند تذكره أكثر من الصحابة من دون تفضيل له عليهم فهو غير محرم، إلا أن السبب قد يكون لعدم سعة اطلاعك على أخبار الصحابة رضوان عليهم، فقد كان لهم من الكرامات الربانية واستجابة الدعاء أكثر مما كان لجريج ، فراجع كتب السيرة التي تتحدث عنهم كالإصابة والبداية والنهاية وسير أعلام النبلاء وصفة الصفوة وحلية الأولياء وحياة الصحابة ، فستجد فيها من أخبارهم ما يجعلك تتأثر بالصحابة إن شاء الله، واعلم أن جريجا كان مخطئا في تقديم نافلة الصلاة على طاعة أمه، فكان الأولى به أن يخفف الصلاة ويسلم أو يقطعها ويجيب أمه، وقد ذكر النووي في شرح حديث جريج في باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها: أن الصواب في حقه إجابة أمه لأن إجابة الأم واجب وعقوقها حرام، وراجع الفتوى رقم : 27309 وراجع في مشروعية العمرة عنه الفتوى رقم : 26516 والفتوى رقم : 69673 والله أعلم
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
-----------------
قصتي جريج العابد وأويس القرني (2)
أيها المؤمنون، روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مُسْتَجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)).
أيها الناس، حديثنا اليوم عن إحدى هذه الدعوات المُسْتَجابات، عن دعوة الوالد على ولده.
والوالد كلمة جامعة تعني مَن وَلَدك، فتشمل الآباء والأمهات، وهذا الحديث فيه ترغيب وترهيب، ترغيب في بر الوالدين حتى يتقي العبد دعوة والديه عليه، فدعاؤهما أو أحدهما عليه يُوبِقُ دنياه وأخراه، وترهيب من دعوة الأب أو الأم على الأبناء أو البنات، وقد قُرِنت في هذا الحديث بدعوة المظلوم التي استقر عند الناس الوَجَلُ منها والخوف، فكيف إذا كان المظلوم هو الأب أو الأم والظالم لهما هو ابنهما لكونه قصَّرَ في حقهما، ولم يستجب لأمر الله تعالى في التلطّف معهما ومراعاة حقوقهما؟!
قال الله تعالى في كتابه الكريم: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
لقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، وهذا تأكيد منه على التزام أمرهما والإحسان إليهما، وقد أكد الله تعالى هذا المعنى في آية أخرى فقال جل وعلا: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج))، فوصف أبو هريرة لصفة رسول الله أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، ((فقالت: يا جُرَيج، أنا أمك كلّمني، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات))، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن)).
تأمّلوا رحمكم الله، جُرَيج رجل عابد تقي دعته أمه ولم يكن في لهو، بل كان في صلاة وعبادة فلم يجبها حتى غضبت عليه، ودعت عليه بهذه الدعوة: أن يرى وجوه المُومِسَات، أي: الزَّوَانِي، فجاءه البلاء حينئذ:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3321) -رقم الفتوى 73777 حب الصحابة الكرام وحب جريج العابد -تاريخ الفتوى : 26 ربيع الأول 1427
(2) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4528) -غازي بن سالم بن صالح
دبي -سالم بن بخيت البخيت(3/306)
حسده بنو إسرائيل وكادوا به ليصرفوه عما هو عليه، ولولا أن ثبته الله لضل، يقول النبي : ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغى يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم))، قال: ((فتعرضت له فلم يلتفت إليها))، وهذا من البلاء العظيم أيها الناس، امرأة ذات جمال تتعرض لشاب في خلوة ثم لا يبالي بها، ماذا صنعت هذه المرأة بنفسها؟ يقول : ((فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه))، استجاب الله دعوة أمه، ونزلت عليه العقوبة وهو من أولياء الله الصالحين العابدين، هُدِمَت صومَعَتُه، وأُخرِج منها، وسبّوه، قالوا له: أنت مُراءٍ، أنت كذّاب مخادع، تدّعي التعبّد وأنت زانٍ كذّاب، كل ذلك وهو لا يدري ما الذي يقولون، هُدِم بيتُه، واتُّهِم في عِرْضه بدعوة واحدة.
ولكن الله تعالى رحيم بعباده، فقد جعل لهذا العبد الصالح مخرجًا من هذا البلاء، يقول النبي : ((فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
فاتقوا الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ في آبائكم وأمهاتكم، واتقوا دعواتهم عليكم ببرهم والإحسان إليهم.
وأنتم أيها الآباء والأمهات، ارفقوا بأولادكم، واصبروا عليهم، ولا تدعوا عليهم، فقد قال النبي : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
-------------------------
الخطبة الثانية
روى مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أُوَيس بن عامر؟ حتى أتى على أُوَيس فقال: أنت أُوَيس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُرَاد ثم من قَرَن؟ قال: نعم، قال: فكان بك بَرَصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، فقال عمر : سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أُوَيس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مُرَاد، ثم من قَرَن، كان به بَرَصٌ فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرّ، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل))، فاستغفر لي. فاستغفر له.
أيها المسلم، لقد نال أُوَيس القَرَني هذه المنزلة العظيمة ببرّه لأمه، أُوحِي إلى النبي بخبره، وأخبر النبي بنعته ووصفه وخبره، وحثَّ الفاروقَ المبشَّرَ بالجنة أن يطلب منه أن يستغفر له إن هو أدركه. عمر أفضل من أُوَيس القَرَني بلا خلاف، ويطلب من أُوَيس القَرَني أن يستغفر له! فرضي الله عن عمر، ورضي الله عن أُوَيس. وما أعظم برّ الوالدين!
فلنتق الله في آبائنا وأمهاتنا؛ فإن الجنة عند أقدامهما، ولنطع الله فيهما كما أمرنا الله ورسوله .
---------------
قصة جريج العابد
كان في الأمم السابقة أولياء صالحون , وعباد زاهدون , وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل , وأظهر على أيديهم الكرامات , بعد أن تربص به المفسدون , وحاولوا إيقاعه في الفاحشة , ثم تشويه سمعته بالباطل , وهكذا أهل الفجور في كل زمان ومكان , لا يهنأ لهم بال , ولا يطيب لهم عيش إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم , والقصة أخرجها البخاري و مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة , عيسى ابن مريم , وصاحب جريج , وكان جريج رجلا عابدا , فاتخذ صومعة فكان فيها, فأتته أمُّه وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : أي رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات .
فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته , وكانت امرأة بغي يُتَمثَّلُ بحسنها , فقالت : إن شئتم لأفْتِنَنَّه لكم , قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها, فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته , فأمكنته من نفسها , فوقع عليها , فحملت , فلما ولدت قالت : هو من جريج , فأتوه فاستنزلوه , وهدموا صومعته , وجعلوا يضربونه , فقال : ما شأنكم , قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك , فقال : أين الصبي , فجاءوا به , فقال : دعوني حتى أصلي , فصلى , فلما انصرف أتى الصبي فطَعَنَ في بطنه , وقال : يا غلام , من أبوك ؟ قال : فلان الراعي , قال : فأقبلوا على جريج يقَبِّلونه ويتمسحون به, وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب , قال : لا , أعيدوها من طين كما كانت , ففعلوا ) .(3/307)
كان جريج في أول أمره تاجراً , وكان يخسر مرة ويربح أخرى , فقال : ما في هذه التجارة من خير , لألتمسن تجارة هي خير من هذه التجارة , فانقطع للعبادة والزهد , واعتزل الناس , واتخذ صومعة يترهَّب فيها , وكانت أمه تأتي لزيارته بين الحين والحين , فيطل عليها من شُرْفة في الصومعة فيكلمها , فجاءته في يوم من الأيام وهو يصلي , فنادته , فتردد بين تلبية نداء أمه وبين إكمال صلاته , فآثر إكمال الصلاة على إجابة نداء أمه , ثم انصرفت وجاءته في اليوم الثاني والثالث , فنادته وهو يصلي كما فعلت في اليوم الأول , فاستمر في صلاته ولم يجبها , فغضبت غضبا شديداً , ودعت عليه أن لا يميته الله حتى ينظر في وجوه الزانيات , ولو دعت عليه أن يفتن لفتن - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى لهذا الحديث - , فاستجاب الله دعاء الأم , وهيأ أسبابه , وعرضه للبلاء
فقد تذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وزهده , فسمعت بذلك امرأة بغي يضرب الناس المثل بحسنها وجمالها , فتعهدت لهم بإغوائه وفتنته , فلما تعرضت له لم يأبه بها , وأبى أن يكلمها , ولم يعرها أي اهتمام , فازدادت حنقا وغيظا , حيث فشلت في ما ندبت نفسها له من فتنة ذلك العابد , فعمدت إلى طريقة أخرى تشوه بها سمعته , ودبرت له مكيدة عظيمة , فرأت راعياً يأوي إلى صومعة جريج , فباتت معه , ومكنته من نفسها , فزنى بها , وحملت منه في تلك الليلة , فلما ولدت ادَّعت بأن هذا الولد من جريج , فتسامع الناس أن جريجا العابد قد زنى بهذه المرأة , فخرجوا إليه , وأمروه بأن ينزل من صومعته , وهو مستمر في صلاته وتعبده , فبدءوا بهدم الصومعة بالفؤوس , فلما رأى ذلك منهم نزل إليهم , فجعلوا يضربونه ويشتمونه ويتهمونه بالرياء والنفاق , ولما سألهم عن الجرم الذي اقترفه , أخبروه باتهام البغي له بهذا الصبي , وساقوه معهم , وبينما هم في الطريق , إذ مروا به مروا به قريبا من بيوت الزانيات , فخرجن ينظرن إليه , فلما رآهن تبسم , ثم أمر بإحضار الصبي , فلما جاءوا به طلب منهم أن يعطوه فرصة لكي يصلي ويلجأ إلى ربه , ولما أتم صلاته جاء إلى الصبي , فطعنه في بطنه بإصبعه , وسأله والناس ينظرون , فقال له: من أبوك ؟ فأنطق الله الصبي بقدرته , وتكلم بكلام يسمعه الجميع ويفهمه , فقال : أبي فلان الراعي , فعرف الناس أنهم قد أخطئوا في حق هذا الرجل الصالح , وأقبلوا عليه يقبلونه ويتمسحون به , وأرادوا أن يكفروا عما وقع منهم تجاهه , فعرضوا عليه أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب , فرفض وأصر أن تعاد من الطين كما كانت , ثم سألوه عن السبب الذي أضحكه عندما مروا به من عند بيوت الزانيات , فقال : ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليَّ أمي .
إن قصة جريج مليئة بالعبر والعظات , فهي تبين لنا خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما , وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسان , فكل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها هذا العبد الصالح , كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه , ومن فوائد القصة ضرورة أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد , والصلاة هي خير ما يُفْزع إليه عند الكرب , ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة , وأن الله ينجي العبد ويجعل له فرجاً ومخرجاً , بصلاحه وتقواه كما أنجى جريجا وبرأه مما نسب إليه .
ومن الفوائد التي لها علاقة بالواقع , أن الماضين كانوا يعتبرون مجرد النظر إلى وجوه المومسات نوعاً من البلاء والعقوبة , ولهذا دعت أم جريج على ابنها بتلك العقوبة , فكيف بحالنا في هذا العصر الذي انفتح الناس فيه على العالم انفتاحا شديدا , عبر وسائل الاتصال الحديثة , وعرضت المومسات على الناس صباح مساء عبر أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية وعبر شبكة الإنترنت , ولا شك أن ذلك من العقوبات العامة التي تستوجب من المسلم أن يكون أشد حذرا على نفسه من الوقوع في فتنة النظر الحرام , فضلا عن مقارفته وارتكاب الفاحشة والعياذ بالله .
وهكذا ظهر لنا أن الابتلاء فيه خير للعبد في دنياه وأخراه , إذا صبر وأحسن الظن بالله, فجريج كان بعد البلاء أفضل عند الله وعند الناس منه قبل الابتلاء , نسأل الله السلامة من الفتن وأن يثبتنا عند البلاء .
-------------
قصة جريج العابد(1)
__________
(1) - (الشبكة الإسلامية)(3/308)
كان في الأمم السابقة أولياء صالحون ، وعباد زاهدون ، وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل ، وأظهر على أيديهم الكرامات ، بعد أن تربص به المفسدون ، وحاولوا إيقاعه في الفاحشة ، وتشويه سمعته بالباطل ، وقد قص علينا خبره - نبينا صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج ، وكان جريج رجلا عابدا ، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمُّه وهو يصلي ، فقالت : يا جريج ، فقال : يا رب أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فانصرفت ، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي ، فقالت : يا جريج ، فقال : يا رب أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فانصرفت ، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي ، فقالت : يا جريج ، فقال : أي رب أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات ، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته ، وكانت امرأة بغي يُتَمثَّلُ بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفْتِنَنَّه لكم ، قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها ، فحملت ، فلما ولدت قالت : هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه ، فقال : ما شأنكم ، قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك ، فقال : أين الصبي ، فجاءوا به ، فقال : دعوني حتى أصلي ، فصلى ، فلما انصرف أتى الصبي فطَعَنَ في بطنه ، وقال : يا غلام ، من أبوك ؟ قال : فلان الراعي ، قال : فأقبلوا على جريج يقَبِّلونه ويتمسحون به، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا ، أعيدوها من طين كما كانت ، ففعلوا ) .
كان جريج في أول أمره تاجرا ، وكان يخسر مرة ويربح أخرى ، فقال : ما في هذه التجارة من خير ، لألتمسن تجارة هي خير من هذه التجارة ، فانقطع للعبادة والزهد ، واعتزل الناس ، واتخذ صومعة يترهَّب فيها ، وكانت أمه تأتي لزيارته بين الحين والحين ، فيطل عليها من شُرْفة في الصومعة فيكلمها ، فجاءته في يوم من الأيام وهو يصلي ، فنادته ، فتردد بين تلبية نداء أمه وبين إكمال صلاته ، فآثر إكمال الصلاة على إجابة نداء أمه ، ثم انصرفت وجاءته في اليوم الثاني والثالث ، فنادته وهو يصلي كما فعلت في اليوم الأول ، فاستمر في صلاته ولم يجبها ، فغضبت غضبا شديداً ، ودعت عليه بأن لا يميته الله حتى ينظر في وجوه الزانيات ، ولو دعت عليه أن يفتن لفتن - كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى ، فاستجاب الله دعاء الأم ، وهيأ أسبابه ، وعرضه للبلاء .
فقد تذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وزهده ، فسمعت بذلك امرأة بغي يضرب الناس المثل بحسنها وجمالها ، فتعهدت لهم بإغوائه وفتنته ، فلما تعرضت له لم يأبه بها ، وأبى أن يكلمها ، ولم يعرها أي اهتمام ، فازدادت حنقا وغيظا ، حيث فشلت في ما ندبت نفسها له من فتنة ذلك العابد ، فعمدت إلى طريقة أخرى تشوه بها سمعته ، ودبرت له مكيدة عظيمة ، فرأت راعيا يأوي إلى صومعة جريج ، فباتت معه ، ومكنته من نفسها ، فزنى بها ، وحملت منه في تلك الليلة ، فلما ولدت ادَّعت بأن هذا الولد من جريج ، فتسامع الناس أن جريجا العابد قد زنى بهذه المرأة ، فخرجوا إليه ، وأمروه بأن ينزل من صومعته ، وهو مستمر في صلاته وتعبده ، فبدؤوا بهدم الصومعة بالفؤوس ، فلما رأى ذلك منهم نزل إليهم ، فجعلوا يضربونه ويشتمونه ويتهمونه بالرياء والنفاق ، ولما سألهم عن الجرم الذي اقترفه ، أخبروه باتهام البغي له بهذا الصبي ، وساقوه معهم ، وبينما هم في الطريق ، إذ مروا به قريباً من بيوت الزانيات ، فخرجن ينظرن إليه ، فلما رآهن تبسم ، ثم أمر بإحضار الصبي ، فلما جاءوا به طلب منهم أن يعطوه فرصة لكي يصلي ويلجأ إلى ربه ، ولما أتم صلاته جاء إلى الصبي ، فطعنه في بطنه بإصبعه ، وسأله والناس ينظرون ، فقال له : من أبوك ؟ فأنطق الله الصبي ، وتكلم بكلام يسمعه الجميع ويفهمه ، فقال : أبي فلان الراعي ، فعرف الناس أنهم قد أخطؤوا في حق هذا الرجل الصالح ، وأقبلوا عليه يقبلونه ويتمسحون به ، ثم أرادوا أن يكفروا عما وقع منهم تجاهه ، فعرضوا عليه أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب ، فرفض وأصر أن تعاد من الطين كما كانت ، ولما سألوه عن السبب الذي أضحكه عندما مروا به على بيوت الزواني ، قال : ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليَّ أمي .
هذه هي قصة جريج كما رواتها لنا كتب السنة وهي قصة مليئة بالعبر والعظات تبين خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما ، وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسان ، وأن كل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها ذلك العبد الصالح ، كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه .
كما تؤكد هذه القصة على ضرورة الصلة بالله ومعرفته في زمن الرخاء ، وأن يكون عند الإنسان رصيد من عمل صالح وبر وإحسان ، ينجيه الله به في زمن الشدائد والأزمات ، كما أنجى جريجاً وبرأه من التهمة بسبب صلاحه وتقاه .(3/309)
وفيها كذلك بيان حال الصالحين والأولياء من عباد الله الذين لا تضطرب أفئدتهم عند المحن ، ولا تطيش عقولهم عند الفتن ، بل يلجؤون إلى من بيده مقاليد الأمور ، كما لجأ جريج إلى ربه وفزع إلى صلاته ، وكذلك كان نبينا - صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
وهي تكشف لنا عن مواقف أهل الفساد والفجور من الصالحين والأخيار في كل زمان ومكان ، ومحاولتهم تشويه صورتهم ، وتلطيخ سمعتهم ، واستخدام أي وسيلة لإسقاطهم من أعين الناس وفقد الثقة فيهم ، وبالتالي الحيلولة دون وصول صوتهم ورسالتهم إلى الآخرين .
فهؤلاء الساقطون في أوحال الرذيلة لا يطيقون حياة الطهر والعفاف ولا يهنأ لهم بال ، ولا يطيب لهم عيش إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم ، بل ويستنكفون أن يكون في عباد الله من يستعلي على الشهوات ومتع الحياة الزائلة ، كما قال عثمان رضي الله عنه : " ودت الزانية لو زنى النساء كلهن " .
كما أن هذه القصة تبين وقع المصيبة ، وعظم الفاجعة عند الناس ، عندما يفقدون ثقتهم فيمن اعتبروه محلاً للأسوة والقدوة ، وعنواناً للصلاح والاستقامة ، ولذا تعامل أهل القرية مع جريج بذلك الأسلوب حين بلغتهم الفرية ، حتى هدموا صومعته وأهانوه وضربوه .
مما يوجب على كل من تصدى للناس في تعليم أو إفتاء أو دعوة أن يكون محلاً لهذه الثقة ، وعلى قدر المسؤولية ، فالخطأ منه ليس كالخطأ من غيره ، والناس يستنكرون منه ما لا يستنكرون من غيره ، لأنه محط أنظارهم ، ومهوى أفئدتهم .
وقصة جريج تكشف عن جزء من مخططات الأعداء في استخدامهم لسلاح المرأة والشهوة ، لشغل الأمة وتضييع شبابها ، ووأد روح الغيرة والتدين ، وهو مخطط قديم وإن تنوعت وسائل الفتنة والإغراء ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم- : ( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه أحمد .
وانظر كيف كان مجرد النظر إلى وجوه الفاجرات والعاهرات يؤذي قلوب الأولياء والصالحين ، ويعتبرونه نوعا من البلاء والعقوبة ، فكان أقصى ما تدعو به المرأة على ولدها أن يرى وجوه المومسات كما فعلت أم جريج ، وقارنه بحال البعض في هذا العصر الذي انفتح الناس فيه على العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة ، وعرضت المومسات صباح مساء عبر أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت ، فأصبحوا بمحض اختيارهم وطوع إرادتهم يتمتعون بالنظر الحرام ، لا إلى وجوه المومسات فقط ، بل إلى ما هو أعظم من ذلك !! ، ولا شك أن ذلك من العقوبات العامة التي تستوجب من المسلم أن يكون أشد حذرا على نفسه من الوقوع في فتنة النظر ، فضلا عن ارتكاب الفاحشة والعياذ بالله .
وهكذا يظهر لنا أن الابتلاء فيه خير للعبد في دنياه وأخراه ، إذا صبر وأحسن واتقى الله في حال الشدة والرخاء فجريج كان بعد البلاء أفضل عند الله وعند الناس منه قبل الابتلاء
=================(3/310)
الأبرص والأقرع والأعمى
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ح وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ ثَلاَثَةً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا ، فَأَتَى الأَبْرَصَ . فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ ، قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ . قَالَ فَمَسَحَهُ ، فَذَهَبَ عَنْهُ ، فَأُعْطِىَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا . فَقَالَ أَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الإِبِلُ - أَوْ قَالَ الْبَقَرُ هُوَ شَكَّ فِى ذَلِكَ ، إِنَّ الأَبْرَصَ وَالأَقْرَعَ ، قَالَ أَحَدُهُمَا الإِبِلُ ، وَقَالَ الآخَرُ الْبَقَرُ - فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ . فَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا . وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا ، قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ . قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ ، وَأُعْطِىَ شَعَرًا حَسَنًا . قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ . قَالَ فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلاً ، وَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا . وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِى ، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ . قَالَ فَمَسَحَهُ ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ . قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ . فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا ، فَأُنْتِجَ هَذَانِ ، وَوَلَّدَ هَذَا ، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ . ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ ، تَقَطَّعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِى ، فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِى أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِى سَفَرِى . فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ . فَقَالَ لَهُ كَأَنِّى أَعْرِفُكَ ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ . فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ ، وَأَتَى الأَقْرَعَ فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا ، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ . وَأَتَى الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِى ، فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ، ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِى رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِى سَفَرِى . فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِى ، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِى ، فَخُذْ مَا شِئْتَ ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَىْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ . فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ ، فَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3464 ) ومسلم برقم(7619 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 265)
قَوْله : ( فَقَدْ رَضِيَ عَنْك ) بِضَمِّ أَوَّله عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ فِي رَضِيَ وَسَخِطَ ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ مَا مُحَصَّله : كَانَ مِزَاج الْأَعْمَى أَصَحّ مِنْ مِزَاج رَفِيقَيْهِ ، لِأَنَّ الْبَرَص مَرَض يَحْصُل مِنْ فَسَاد الْمِزَاج وَخَلَل الطَّبِيعَة وَكَذَلِكَ الْقَرَع ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِم ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُون مِنْ أَمْر خَارِج فَلِهَذَا حَسُنَتْ طِبَاع الْأَعْمَى وَسَاءَتْ طِبَاع الْآخَرَيْنِ . وَفِي الْحَدِيث جَوَاز ذِكْر مَا اِتَّفَقَ لِمَنْ مَضَى لِيَتَّعِظ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَكُون ذَلِكَ غِيبَة فِيهِمْ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَرْك تَسْمِيَتهمْ ، وَلَمْ يُفْصِح بِمَا اِتَّفَقَ لَهُمْ بَعْد ذَلِكَ ، وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْأَمْر فِيهِمْ وَقَعَ كَمَا قَالَ الْمَلَك . وَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ كُفْرَان النِّعَم وَالتَّرْغِيب فِي شُكْرهَا وَالِاعْتِرَاف بِهَا وَحَمْد اللَّه عَلَيْهَا ، وَفِيهِ فَضْل الصَّدَقَة وَالْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَآرِبهمْ ، وَفِيهِ الزَّجْر عَنْ الْبُخْل ، لِأَنَّهُ حَمَلَ صَاحِبه عَلَى الْكَذِب ، وَعَلَى جَحْد نِعْمَة اللَّه تَعَالَى .
شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 350)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَا يَطْلُبُونَ مِمَّا يُمْكِن ، وَالْحَذَر مِنْ كَسْر قُلُوبهمْ وَاحْتِقَارهمْ .
وَفِيهِ التَّحَدُّث بِنِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى ، وَذَمّ جَحْدهَا . وَاَللَّه أَعْلَم .(3/311)
.
قال الشيخ صالح بن عثيمين رحمه الله (1):
قوله ثلاثة من بني إسرائيل وإسرائيل هو إسحاق بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أخو إسماعيل ومن ذرية إسرائيل موسى وهارون وعيسى وجميع بني إسرائيل كلهم من ذرية إسحاق عليه الصلاة والسلام وإسماعيل أخو إسحاق فهم والعرب أبناء عم وقد جاءت أخبار كثيرة عن بني إسرائيل وهي ثلاثة أقسام الأول ما جاء في القرآن والثاني ما جاء في صحيح السنة والثالث ما جاء عن أخبارهم وعن علمائهم فأما الأول والثاني فلا شك في أنه حق ولا شك في قبوله مثل قوله تعالى ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ومن السنة مثل هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما روى عن أخبارهم وعلمائهم فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما شهد الشرع ببطلانه، فهذا باطل يجب رده وهذا يقع كثيرا فيما نقل من الإسرائيليات في تفسير القرآن فإنه ينقل في تفسير القرآن كثير من الأخبار الإسرائيلية التي يشهد الشرع ببطلانها والثاني: ما شهد الشرع بصدقه، فهذا يقبل لا لأنه من أخبار بني إسرائيل ولكن لأن الشرع شهد بصدقه وأنه حق والثالث: ما لم يكن في الشرع تصديقه ولا تكذيبه: فهذا يتوقف فيه لا يصدقون ولا يكذبون، لأننا إن صدقناهم فقد يكون باطلا فيكون قد صدقناهم بباطل، وإن كذبناهم فقد يكون حقا فقد كذبناهم بحق، ولهذا نتوقف فيه ولا حرج من التحديث به، فيما ينفع في ترغيب أو ترهيب .
ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن ثلاثة من بني إسرائيل ابتلاهم الله عز وجل بعاهات في أبدانهم، أحدهم أبرص، والثاني أقرع ليس على رأسه شعر، والثالث أعمى لا يبصر، فأراد الله سبحانه أن يبتليهم ويختبرهم لأن الله سبحانه يبتلي العبد بما شاء يبلوه هل يصبر أو يضجر إذا كان ابتلاه بضراء وهل يشكر أو يقتر إذا كان قد ابتلاه بسراء فبعث الله إليهم ملكا من الملائكة وأتاهم يسألهم أي شيء أحب إليهم فبدأ بالأبرص فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس به، لأن أهم شيء عند الإنسان أن يكون معافى من العاهات ولاسيما العاهات المكروهة عند الناس فمسحه الملك فبرأ بإذن الله وزال عنه البرص وأعطى لونا حسنا وجلدا حسنا ثم قال له: أي المال أحب إليك ؟ قال: الإبل أو قال البقر والظاهر أنه قال: الإبل لأنه في قصة الأقرع أعطى البقر، فأعطاه ناقة عشراء، وقال له: بارك الله لك فيها فذهب عنه البقر، وذهب عنه العيب البدني ودعا له الملك بأن يبارك الله له في هذه الناقة .
ثم أتى الأقرع وقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس به، فمسحه فأعطى شعرا حسنا وقيل له أي المال أحب إليك ؟ قال: البقر فأعطى بقرة حاملا، وقال له: بارك الله لك فيها أما الأعمى فجاءه الملك فقال له: أي شيء أحب إليك ؟ قال: أن يرد الله علي بصري فأبصر به الناس وتأمل قول الأعمى هذا .
فإنه لم يسأل إلا بصرا يبصر به الناس فقط، أما الأبرص والأقرع فإن كل واحد منهما تمنى شيئا أكبر من الحاجة لأن الأبرص قال: جلدا حسنا ولونا حسنا ذاك قال: شعرا حسنا فليس مجرد جلد أو شعر أو لون بل تمنيا شيئا أكبر أما هذا فإن عنده زهدا لذا لم يسأل إلا بصرا يبصر به فقط ثم سأله: أي المال أحب إليك ؟ قال الغنم وهذا من زهده فلم يتمن الإبل ولا البقر بل الغنم ونسبة الغنم للبقر والإبل قليلة فأعطاه شاه والدا وقال: بارك الله لك فيها فبارك الله للأول في إبله والثاني في بقره وللثالث في غنمه وصار لكل واحد منهما واد مما أعطي .
ثم إن الملك أتى الأبرص في صورته وهيئته، صورته البدنية وهيئته الرثة، ولباسه لباس الفقير وقال له إني رجل فقير وابن سبيل، قد انقطعت بي الحال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك فتوسل إليه بذكر حاله أنه فقير وأنه ابن سبيل أي: مسافر وأن الحبال أي: الأسباب التي توصله إلى أهله قد انقطعت به وأنه لا بلاغ له إلا بالله ثم به وقال له اسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري لكنه قال: الحقوق كثيرة، وبخل بذلك مع أن له واديا من الإبل لكنه قال: الحقوق كثيرة وهو فيما يظهر والله أعلم أنه لا يؤدي شيئا منها ؛ لأن هذا أحق من يكون لأنه مسافر وفقير وانقطع به الحبال ومن أحق ما يكون استحقاقا للمال
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 1 / ص 312)(3/312)
ومع ذلك اعتذر له فذكره بما كان عليه من قبل فقال له: قد كنت أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله المال وأعطاك اللون الحسن والجلد الحسن ولكنه قال والعياذ بالله إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر وأنكر نعمة الله فقال له الملك إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت أي: إن كنت كاذبا فيما تقول فصيرك الله إلى ما كنت من الفقر والبرص والذي يظهر أن الله استجاب دعاء الملك وإن كان دعاء مشروطا كان كاذبا بلا شك فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط وأتى الأقرع فقال له مثلما قال الأبرص ورد عليه مثلما رد عليه الأبرص، فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأعمى وذكره بنعمة الله عليه فقال له: قد كنت أعمى فرد الله علي بصري وكنت فقيرا فأعطاني الله المالفأقر بنعمة الله عليه فخذ ما شئت ودع ما شئت من الغنم فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله أي: لا أمنعك ولا أشق عليك بالمنع بشيء أخذته لله عز وجل انظر إلى الشكر والاعتراف بالنعمة فقال له الملك: أمسك عليك مالك إنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وأسخط على صاحبيك وهذا يدل على أن القصة كانت مشهورة بين الناس ولهذا قال: سخط على صاحبيك فأمسك ماله وبقى قد أنعم الله عليه بالبصر وأما الآخران فإن الظاهر أن الله ردهما إلى ما كانا عليه من الفقر والعاهة والعياذ بالله وفي هذا دليل: على أن شكر نعمة الله على العبد من أسباب بقاء النعمة وزيادتها كما قال تعالى { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } وفي قصتهم آيات من آيات الله عز وجل: منها: إثبات الملائكة والملائكة هم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور وجعل لهم قوة في تنفيذ أمر الله وجعل لهم إرادة في طاعة الله فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومنها: أن الملائكة قد يكونون على صورة بني آدم، فإن الملك أتى لهؤلاء الثلاثة في المرة الثانية بصورة وهيئة ومنها: أيضا يتكيفون بصورة الشخص المعين كما جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى في المرة الثانية بصورة وهيئة ومنها: أيضا أنه يجوز الاختبار للإنسان في أن يأتي الشخص على هيئة معينة ليختبره فإن هذا الملك جاء على صورة الإنسان المحتاج المصاب بالعاهة ليرق له هؤلاء الثلاثة مع أن الملك فيما يبدو والعلم عند الله لا يصاب في الأصل بالعاهات ولكن الله سبحانه وتعالى جعلهم يأتون على هذه الصورة من أجل الاختبار ومنها: أن الملك مسح الأقرع والأبرص والأعمى مسحة واحدة فأزال الله عيبهم بهذه المسحة ؛ لأن الله إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون ولو شاء الله لأذهب عنهم العاهة، ولكن الله جعل هذا سببا للابتلاء والامتحان ومنها: أن الله قد يبارك للإنسان بالمال حتى ينتج منه الشيء الكثير، فإن هؤلاء النفر الثلاثة صار لواحد واد من الإبل وللثاني واد من البقر وللثالث واد من الغنم وهذا من بركة الله عز وجل وقد دعا الملك لكل واحد منهم بالبركة ومنها: تفاوت بني آدم في شكر نعمة الله نفع عباد الله فإن الأبرص والأقرع وقد أعطاهم الله المال الأهم والأكبر، ولكن جحدا نعمة الله قالا: إنما ورثنا هذا المال كابرا عن كابر، وهم كذبة في ذلك فإنهم كانوا فقراء وأعطاهم الله المال أما الأعمى فقد شكر نعمة الله واعترف بالفضل ولذلك وفق وهداه الله وقال للملك خذ ما شئت ودع ما شئت ومنها أيضا: إثبات الرضا والسخط لله سبحانه وتعالى وهما من الصفات التي يجب أن نثبتها لربنا سبحانه وتعالى ؛ لأنه وصف نفسه بها ففي القرآن الكريم: الرضا { رضي الله عنهم ورضوا عنه } وفي القرآن { أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } وفي القرآن الكريم: الغضب { وغضب الله عليه ولعنه } وهذه الصفات وأمثالها يؤمن بها أهل السنة والجماعة بأنها ثابتة لله على وجه الحقيقة لكنها لا تشبه صفات المخلوقين كما أن الله لا يشبه المخلوقين فكذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين ومن فوائد هذا الحديث: أن في بني إسرائيل من العجب والآيات ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينقل لنا من أخبارهم حتى نتعظ، ومثل هذا الحديث قصة النفر الثلاثة الذين لجأوا إلى غار فانطبقت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار وعجزوا عن زحزحتها وتوسل كل واحد منهم إلى الله بصالح عمله فالنبي عليه الصلاة والسلام يقص علينا من أنباء بني إسرائيل ما يكون فيه الموعظة والعبرة، فعلينا أن نأخذ من هذا الحديث عبرة بأن الإنسان إذا شكر نعمة الله واعترف لله بالفضل، وأدى ما يجب عليه في ماله فإن ذلك من أسباب البقاء والبركة في ماله، والله الموفق
-------------
قصة الأبرص والأقرع والأعمى(1)
اقتضت حكمة الله جل وعلا أن تكون حياة الإنسان في هذه الدار مزيجاً من السعادة والشقاء ، والفرح والترح ، والغنى والفقر والصحة والسقم ، وهذه هي طبيعة الحياة الدنيا سريعة التقلب ، كثيرة التحول كما قال الأول :
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
__________
(1) - الشبكة الإسلامية >> الحديث الشريف >> القصص النبوي(3/313)
وهو جزء من الابتلاء والامتحان الذي من أجله خلق الإنسان : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } (الانسان 2) .
وربنا جل وعلا سبحانه يبتلي عباده بالضراء كما يبتليهم بالسراء ، وله على العباد عبودية في الحالتين ، فيما يحبون وفيما يكرهون .
فأما المؤمن فلا يجزع عند المصيبة ، ولا ييأس عند الضائقة ، ولا يبطر عند النعمة بل يعترف لله بالفضل والإنعام ، ويعمل جاهدا على شكرها وأداء حقها .
وأما الفاجر والكافر فيَفْرَق عند البلاء ، ويضيق من الضراء ، فإذا أعطاه الله ما تمناه ، وأسبغ عليه نعمه كفرها وجحدها ، ولم يعترف لله بها ، فضلا عن أن يعرف حقها ، ويؤدي شكرها .
وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم- عن هذين الصنفين من الناس ، الكافرين بالنعمة ، والشاكرين لها ، في القصة التي أخرجها البخاري و مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه قَذَرُه ، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل ، قال : فأعطي ناقة عُشَراء ، فقال : بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن ، ويذهب عني هذا الذي قد قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملا ، فقال : بارك الله لك فيها ،قال : فأتى الأعمى ، فقال : أي شيء أحب إليك ، قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ، قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان وولد هذا ، قال : فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم ، قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا أتَبَلَّغُ عليه في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة : فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس ؟! فقيرا فأعطاك الله ؟! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأقرع في صورته ، فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت ، فوالله لا أَجْهَدُكَ اليوم شيئا أخذته لله ، فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم ، فقد رُضِيَ عنك ، وسُخِطَ على صاحبيك ).
إنها قصة ثلاثة نفر من بني إسرائيل ، أصيب كل واحد منهم ببلاء في جسده ،فأراد الله عز وجل أن يختبرهم ، ليظهر الشاكر من الكافر ، فأرسل لهم مَلَكًا ، فجاء إلى الأبرص فسأله عن ما يتمناه ، فتمنى أن يزول عنه برصه ، وأن يُعطى لونا حسنا وجلدا حسنا ، فمسحه فزال عنه البرص ، وسأله عن أحب المال إليه ، فاختار الإبل ، فأعطي ناقة حاملاً، ودعا له الملك بالبركة ، ثم جاء إلى الأقرع ، فتمنى أن يزول عنه قرعه ، فمسحه فزال عنه، وأعطي شعرا حسنا ، وسأله عن أحب المال إليه فاختار البقر ، فأعطي بقرة حاملاً ، ودعا الملك له بالبركة ، ثم جاء الأعمى ، فسأله كما سأل صاحبيه ، فتمنى أن يُرَدَّ عليه بصره ، فأعطي ما تمنى ، وكان أحب الأموال إليه الغنم ، فأعطي شاة حاملاً .(3/314)
ثم مضت الأعوام ، وبارك الله لكل واحد منهم في ماله ، فإذا به يملك واديًا من الصنف الذي أخذه ، فالأول يملك واديًا من الإبل ، والثاني يملك واديًا من البقر ، والثالث يملك واديًا من الغنم ، وهنا جاء موعد الامتحان الذي يفشل فيه الكثير وهو امتحان السراء والنعمة ، فعاد إليهم الملك ، وجاء كلَّ واحد منهم في صورته التي كان عليها ليذكر نعمة الله عليه ، فجاء الأول على هيئة مسافر فقير أبرص ، انقطعت به السبل وأسباب الرزق ، وسأله بالذي أعطاه الجلد الحسن واللون الحسن ، والمال الوفير ، أن يعطيه بعيرًا يواصل به سيره في سفره ، فأنكر الرجل النعمة ، وبخل بالمال ، واعتذر بأن الحقوق كثيرة ، فذكَّره الملك بما كان عليه قبل أن يصير إلى هذه الحال ، فجحد وأنكر ، وادعى أنه من بيت ثراء وغنى ، وأنه ورث هذا المال كابرا عن كابر ، فدعا عليه المَلَك إن كان كاذبًا أن يصير إلى الحال التي كان عليها ، ثم جاء الأقرع في صورته ، وقال له مثل ما قال للأول ، وكانت حاله كصاحبه في الجحود والإنكار ، أما الأعمى فقد كان من أهل الإيمان والتقوى ، ونجح في الامتحان ، وأقر بنعمة الله عليه ، من الإبصار بعد العمى ، و الغنى بعد الفقر ، ولم يعط السائل ما سأله فقط ، بل ترك له الخيار أن يأخذ ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وأخبره بأنه لن يشق عليه برد شيء يأخذه أو يطلبه من المال ، وهنا أخبره الملك بحقيقة الأمر وتحقق المقصود وهو ابتلاء للثلاثة ، وأن الله رضي عنه وسخط على صاحبيه .
إن هذه القصة تبين بجلاء أن الابتلاء سنة جارية وقدر نافذ ، يبتلي الله عباده بالسراء والضراء والخير والشر ، فتنة واختباراً كما قال سبحانه : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (الأنبياء 35 ) ، ليتميز المؤمن من غيره ، والصادق من الكاذب :{ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } (العنكبوت 1-2 ) فبالفتنة تتميَّز معادن الناس ، فينقسمون إلى مؤمنين صابرين ، وإلى مدَّعين أو منافقين ، وعلى قدر دين العبد وإيمانه يكون البلاء ، وفي المسند عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة ) .
كما تشير القصة إلى معنىً عظيم ، وهو أن الابتلاء بالسراء والرخاء قد يكون أصعب من الابتلاء بالشدة والضراء ، وأن اليقظة للنفس في الابتلاء بالخير ، أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر .
وذلك لأن الكثيرين قد يستطيعون تحمُّل الشدَّة والصبر عليها، ولكنهم لا يستطيعون الصبر أمام هواتف المادَّة ومغرياتها .
كثير هم أولئك الذين يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف ، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة .كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل ، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الغنى والثراء ، وما يغريان به من متاع ، وما يثيرانه من شهوات وأطماع ، كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء ، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الرغائب والمناصب .
وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول : "ابتُلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالضراء فصبرنا ، ثم ابتلينا بالسَّرَاء بعده فلم نصبر " .
ولعل السر في ذلك أن الشدَّة تستنفر قوى الإنسان وطاقاته ، وتثير فيه الشعور بالتحدِّي والمواجهة ، وتشعره بالفقر إلى الله تعالى ، وضرورة التضرُّع واللجوء إليه فيهبه الله الصبر ، أما السراء ، فإن الأعصاب تسترخي معها ، وتفقد القدرة على اليقظة والمقاومة ، فهي توافق هوى النفس ، وتخاطب الغرائز الفطريَّة فيها ، من حب الشهوات والإخلاد إلى الأرض ، فيسترسل الإنسان معها شيئًا فشيئًا ، دون أن يشعر أو يدرك أنه واقع في فتنة ، ومن أجل ذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء - كما فعل الأبرص والأقرع- ، وذلك شأن البشر ، إلا من عصم الله ، فكانوا ممن قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) رواه مسلم ، فاليقظة للنفس في حال السراء أولى من اليقظة لها في حال الضراء ، والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان .
كما تؤكد القصة على أن خير ما تحفظ به النعم شكر الله جل وعلا الذي وهبها وتفضل بها ، وشكره مبنيٌ على ثلاثة أركان لا يتحقق بدونها : أولها الاعتراف بها باطناً ، وثانيها التحدث بها ظاهراً ، وثالثها تصريفها في مراضيه ومحابه ، فبهذه الأمور الثلاثة تحفظ النعم من الزوال ، وتصان من الضياع .
--------------
قصة الأبرص والأقرع والأعمى(3/315)
المؤمن هو الذي يعرف ربه , ويعترف له بنعمه , ويؤدي شكرها في جميع الأحوال , في حال الشدة والرخاء , والضراء والسراء , وهذا هو مقتضى العبودية لله رب العالمين , ولذلك نعى الله في كتابه على طائفة من الناس لا يعرفون الله إلا عند نزول البلاء والشدة, فإذا كشفها عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعناد والاستكبار ,كأن لم يصابوا بشيء قبل ذلك , قال سبحانه : {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } (يونس:12).
والناس عند الشدائد والمصائب صنفان:
فمن الناس من إذا ابتلي بالفقر أو المرض أو أي نوع من أنواع البلاء , تمنى أن يزول عنه ما به , فإذا أعطاه الله ما تمناه , وبدل مرضه عافية , وفقره غنى , نسي البلاء الذي كان به , ولم يعترف لله بنعمه , فضلا عن أن يؤدي شكرها .
ومنهم من إذا زال عنه ضرُّه , وكُشِف كربُه , اعترف لله بالفضل والإنعام , وعمل جاهدا على شكر هذه النعمة وأداء حقها , وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذين الصنفين من الناس ، الكافرين بالنعمة والشاكرين لها ، في القصة التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى , فأراد الله أن يبتليهم , فبعث إليهم ملكا , فأتى الأبرص , فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن , وجلد حسن , ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس , قال : فمسحه فذهب عنه قَذَرُه , وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا , قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل , قال : فأعطي ناقة عُشَراء , فقال : بارك الله لك فيها , قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن , ويذهب عني هذا الذي قد قَذِرَني الناس , قال : فمسحه فذهب عنه , وأعطي شعرا حسنا , قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر , فأعطي بقرة حاملا , فقال : بارك الله لك فيها ,قال : فأتى الأعمى , فقال : أي شيء أحب إليك , قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس , قال : فمسحه فرد الله إليه بصره , قال : فأي المال أحب إليك , قال : الغنم , فأعطي شاة والدا , فأنتج هذان وولد هذا , قال : فكان لهذا واد من الإبل , ولهذا واد من البقر , ولهذا واد من الغنم , قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته , فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري , فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك , أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال , بعيرا أتَبَلَّغُ عليه في سفري , فقال : الحقوق كثيرة : فقال له : كأني أعرفك , ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس ؟! فقيرا فأعطاك الله ؟! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر , فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت , قال : وأتى الأقرع في صورته , فقال له مثل ما قال لهذا , ورد عليه مثل ما رد على هذا , فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت , قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته , فقال : رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري , فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك , أسألك بالذي رد عليك بصرك , شاة أتبلغ بها في سفري , فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري , فخذ ما شئت ودع ما شئت , فوالله لا أَجْهَدُكَ اليوم شيئا أخذته لله , فقال : أمسك مالك , فإنما ابتليتم , فقد رُضِيَ عنك , وسُخِطَ على صاحبيك ).
هذه قصة ثلاثة نفر من بني إسرائيل , أصيب كل واحد منهم ببلاء في جسده ،فأراد الله عز وجل أن يختبرهم , ليظهر الشاكر من الكافر , فأرسل لهم مَلَكًا ، فجاء إلى الأبرص فسأله عن ما يتمناه , فتمنى أن يزول عنه برصه ، وأن يعطى لونا حسنا وجلدا حسنا ، فمسحه فزال عنه البرص ، وسأله عن أحب المال إليه ، فاختار الإبل ، فأعطي ناقة حاملاً، ودعا له الملك بالبركة , ثم جاء إلى الأقرع ، فتمنى أن يزول عنه قرعه , فمسحه فزال عنه, وأعطي شعرا حسنا ، وسأله عن أحب المال إليه فاختار البقر ، فأعطي بقرة حاملاً ، ودعا الملك له بالبركة , ثم جاء الأعمى , فسأله كما سأل صاحبيه , فتمنى أن يُرَدَّ عليه بصره ، فأعطي ما تمنى ، وكان أحب الأموال إليه الغنم ، فأعطي شاة حاملاً .(3/316)
ثم مضت الأعوام ، وبارك الله لكل واحد منهم في ماله ، فإذا به يملك واديًا من الصنف الذي أخذه ، فالأول يملك واديًا من الإبل ، والثاني يملك واديًا من البقر ، والثالث يملك واديًا من الغنم , وهنا جاء موعد الامتحان الذي يفشل فيه الكثير وهو امتحان السراء والنعمة فبعض الناس قد يصبر على الشدة ولكنه لا يعرف حق النعمة , مع أن الكل بلاء وفتنة , قال عز وجل { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } الأنبياء (35 ). فعاد إليهم الملك ، وجاء كل واحد منهم في صورته التي كان عليها ،ليذكر نعمة الله عليه, فجاء الأول على هيئة مسافر فقير أبرص , انقطعت به السبل وأسباب الرزق , وسأله بالذي أعطاه الجلد الحسن واللون الحسن ، والمال الوفير ، أن يعطيه بعيرًا يواصل به سيره في سفره , فأنكر الرجل النعمة , وبخل بالمال ، واعتذر بأن الحقوق كثيرة ، فذكره الملك بما كان عليه قبل أن يصير إلى هذه الحال , فجحد وأنكر ، وادعى أنه من بيت ثراء وغنى, وأنه ورث هذا المال كابرا عن كابر، فدعا عليه المَلَك إن كان كاذبًا أن يصير إلى الحال التي كان عليها , ثم جاء الأقرع في صورته , وقال له مثل ما قال للأول , وكان حاله كصاحبه في الجحود والإنكار , أما الأعمى فقد كان من أهل الإيمان والتقوى ، ونجح في الامتحان , وأقر بنعمة الله عليه , من الإبصار بعد العمى , و الغنى بعد الفقر , ولم يعط السائل ما سأله فقط , بل ترك له الخيار أن يأخذ ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وأخبره بأنه لن يشق عليه برد شيء يأخذه أو يطلبه من المال ، وهنا أخبره الملك بحقيقة الأمر وتحقق المقصود وهو ابتلاء الثلاثة وأن الله رضي عنه وسخط على صاحبيه .
فهؤلاء الثلاثة يمثلون أصناف الناس , الشاكرون لأنعم الله , والكافرون بها ، وهو يدل على أن الله لايزال يبتلي العباد بالسراء والضراء كما ابتلى هؤلاء الثلاثة , ليتبين الشاكر من الكافر , وأن النعم إنما تدوم بالشكر , وهو الاعتراف بها للمنعم , والتحدث بها بين الناس , وتصريفها في مرضاته , فبهذه الأمور تحفظ النعم من الزوال والضياع .
- - - - - - - - - - - - - - - -
ثالثا- تحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الشدائد في الله(1)
قول المقداد في الحال التي بعث عليها النبي عليه السلام
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَلَسْنَا إِلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ يَوْماً فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ طُوبَى لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاللَّهِ لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ وَشَهِدْنَا مَا شَهِدْتَ. فَاسْتُغْضِبَ فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مَا قَالَ إِلاَّ خَيْراً ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يَتَمَنَّى مَحْضَراً غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَدْرِى لَوْ شَهِدَهُ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ فِيهِ وَاللَّهِ لَقَدْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْوَامٌ أَكَبَّهُمُ اللَّهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِى جَهَنَّمَ لَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ أَوَلاَ تَحْمَدُونَ اللَّهَ إِذْ أَخْرَجَكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ إِلاَّ رَبَّكُمْ مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلاَءَ بِغَيْرِكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فِيهِ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فِى فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِيناً أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِراً وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ قُفَْلَ قَلْبِهِ لِلإِيمَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ فَلاَ تَقَرُّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِى النَّارِ وَإِنَّهَا لَلَّتِى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ )(2).
==============
قول حذيفة في هذا الباب
__________
(1) - انظر كتاب حياة الصحابة - الباب الثالث باب تحمل الشدائد في الله
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يتحمّلون الشدائد والأذى، والجوع والعطش، إِظهاراً للدين المتين. وكيف هانت عليهم نفوسهم في الله لإِعلاء كلمته.
(2) - مسند أحمد {6/3} برقم(24539) وهو صحيح(3/317)
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ، قَالَ: ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَو كُنَّا شَهِدْنَا لَفَعَلْنَا وَلَفَعَلْنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لا تَمَنَّوْا ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الأَحْزَابِ، وَنَحْنُ صَافُّونَ قُعُودًا أَبُو سُفْيَانَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وَقُرَيْظَةُ الْيَهُودِ أَسْفَلُ مِنَّا، نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِينَا، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا لَيْلَةٌ أَشَدُّ ظُلْمَةً، وَلا أَشَدُّ رِيحًا مِنْهَا فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ، وَهِيَ مُظْلِمَةٌ مَا يَرَى أَحَدُنَا إِصْبَعَهُ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَيَقُولُونَ: بُيوتُنَا عَوْرَةٌ، وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ، فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلا أَذِنَ لَهُ فَيَأْذَنَ لَهُمْ فَيَنْسَلُّونَ، وَنَحْنُ ثَلاثُمِائَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، إِذِ اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلا رَجُلا، فَقَالَ: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ اللَّيْلَةَ جَعَلَهُ اللَّهُ رَفِيقًا لِمُحَمَّدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟، قَالَ: فَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ يَقُومُ، قَالَ: فَمَا زَالَ يَسْتَقْبِلُهُمْ رَجُلا رَجُلا حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ، وَمَا عَلَيَّ جُنَّةٌ مِنَ الْعَدُوِّ، وَلا مِنَ الْبَرْدِ إِلا مِرْطٌ لا يُجَاوِزُ رُكْبَتِي، قَالَ: فَأَتَانِي وَأَنَا جَاثِي عَلَى رُكْبَتِي، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ: حُذَيْفَةُ؟، فَتَقَاصَرْتُ بِالأَرْضِ، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَقُومَ، فَقَالَ: قُمْ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ الرِّجَالِ فَزَعًا وَأَشَدُّهُمْ قُرًّا، فَخَرَجْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ، وَمِنْ تَحْتِهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَزَعًا وَلا قُرًّا أَجِدُهُ فِي جَوْفِي إِلا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لَهُمْ تُوقَدُ، وَإِذَا رَجُلٌ ضَخْمٌ آدَمٌ يَقُولُ بِيَدَيْهِ عَلَى النَّارِ وَيُسَخِّنُ خَاصِرَتَهُ، وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ فَأَضَعُهُ عَلَى كَبِدِ قَوْسِي لأَرْمِي بِهِ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِي، فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي، ثُمَّ إِنِّي شَجَّعْتُ نَفْسِي حَتَّى دَخَلْتُ الْعَسْكَرَ، فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ بَنِي عَامِرٍ، وَيَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ، الرَّحِيلَ، لا مُقَامَ لَكُمْ، وَإِنَّ الرِّيحَ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تُجَاوِزُ عَسْكَرَهُمْ شِبْرًا، قَدْ دَفَنَتْ رِحَالَهُمْ وَطَنَافِسَهُمْ، يَسْتَتِرُونَ بِهَا مِنَ التُّرَابِ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَمَّا اسْتَوَيْتُ بَيْنَهُمَا قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: اللَّيْلَةُ لَيْلَةُ طَلائِعٍ، فَلْيَسْأَلْ كُلُّ رَجُلٍ جَلِيسَهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ وَفُرُشِهِمْ، الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا فَقُلْتُ لِلَّذِي عَنْ يَمِينِي: مَنْ أَنْتَ؟ وَقُلْتُ لِلَّذِي عَنْ شِمَالِي مَنْ أَنْتَ؟ ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا انْتَصَفَ بِيَ الطَّرِيقُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا مُعْتَمِّينَ، فَقَالُوا لِي: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاهُ الْقَوْمَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ بِشَمْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ رَجَعَ إِلَيَّ الْقُرُّ رَجَعْتُ أُقَرْقِفُ، فَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ بِيَدِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَأَسْبَلَ عَلَيَّ شَمْلَتَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى فَأُخْبِرَ خَبَرَ الْقَوْمِ، وَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ يَتَرَحَّلُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا}[سورة الأحزاب آية 9 ]، إِلَى آخِرِ الآيَةِ.(1)
===============
__________
(1) - مسند أبي عوانة مشكلا - (ج 4 / ص 174) برقم(5482 ) وهو صحيح(3/318)
تحمل النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد والأذى في الدعوة إلى الله قوله صلى الله عليه وسلم
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ومَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَأُخِفْتُ فِى اللَّهِ ومَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَىَّ ثَلاَثَةٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ومَا لِى وَلِعِيَالِى طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ ما يُوَارِى إِبْطُ بِلاَلٍ »(1).
=================
__________
(1) - مسند أحمد برقم(12541) صحيح(3/319)
ما قاله صلى الله عليه وسلم لعمِّه حين ظنَّ ضعفه عن نُصرْته
عَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ ، إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَأْتِينَا فِي أَفْنِيَتِنَا ، وَفِي نَادِينَا ، فَيُسْمِعُنَا مَا يُؤْذِينَا بِهِ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا فَافْعَلْ . فَقَالَ لِي : يَا عَقِيلُ ، الْتَمَسْ لِي ابْنَ عَمِّكَ ، فَأَخْرَجْتُهُ مِنْ كِبْسٍ مِنْ أَكْبَاسِ أَبِي طَالِبٍ ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي مَعِي يَطْلُبُ الْفَيْءَ يَمْشِي فِيهِ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ : يَا ابْنَ أَخِي ، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنْ كُنْتَ لِي لَمُطَاعًا ، وَقَدْ جَاءَ قَوْمُكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَأْتِيهِمْ فِي كَعْبَتِهِمْ ، وَفِي نَادِيهِمْ تُسْمِعُهُمْ مَا يُؤْذِيهِمْ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكُفَّ عَنْهُمْ . فَحَلَّقَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : " وَاللَّهِ مَا أَنَا بِأَقْدَرَ أَنْ أَدَعَ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنْ أَنْ يُشْعِلَ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ " . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : وَاللَّهِ مَا كَذَبَ ابْنُ أَخِي قَطُّ ، ارْجِعُوا رَاشِدِينَ(1) .
و عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالُوا : إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا وَمَسْجِدِنَا ، فَانْهَهُ عَنَّا . فَقَالَ : يَا عَقِيلُ انْطَلِقْ فَأْتِنِي بِمُحَمَّدٍ ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ كِبْسٍ أَوْ قَالَ : مِنْ حِفْشٍ يَقُولُ : بَيْتٌ صَغِيرٌ فَجَاءَ بِهِ فِي الظَّهِيرَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ : إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : " أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ , قَالَ : " فَمَا أَنَا بِأَقْدَرِ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً " فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : وَاللَّهِ مَا كَذَّبْتَ ابْنَ أَخِي قَطُّ فَارْجِعُوا "(2)
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ ، أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : يَا ابْنَ أَخِي ، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جاءُونِي فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ أَنَا وَلَا أَنْتَ ، فَاكْفُفْ عَنْ قَوْمِكِ مَا يَكْرَهُوَنَ مِنْ قَوْلِكَ ، فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَضَعُفَ عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا عَمِّ لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرُ فِي يَسَارِي مَا تَرَكْتُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ أَهْلِكَ فِي طَلَبِهِ " ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَى ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ حِينَ رَأَى مَا بَلَغَ الْأَمْرُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا ابْنَ أَخِي فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " امْضِ عَلَى أَمْرِكَ وَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا " قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرٍ قَالَهُ حِينَ أَجْمَعَ لِذَلِكَ مِنْ نُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ قَوْمِهِ :
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَامْضِي لِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ أَبْشِرْ وَقِرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيونَا
__________
(1) - مجمع الزوائد - (ج 11 / ص 28) -25 - 2 - ( بَابُ تَبْلِيغِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أُرْسِلَ بِهِ ، وَصَبْرِهِ عَلَى ذَلِكَ ) 9809 - وقال : رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : مَنْ جَلْسٍ ، مَكَانَ : كِبْسٍ . وَأَبُو يَعْلَى بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَرِجَالُ أَبِي يَعْلَى رِجَالُ الصَّحِيحِ .
(2) - دلائل النبوة للبيهقي برقم(494 ) وهو حسن(3/320)
وَدَعَوتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي فَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارِي سُبَّةً لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
. وَذُكِرَ لِأَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا " وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَصَمَهُ بِعَمِّهِ ، مَعَ خِلَافِهِ إِيَّاهُ فِي دِينِهِ ، وَقَدْ كَانَ يَعْصِمُهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ عَمُّهُ بِمَا شَاءَ ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ (1)
==============
تحمَّله عليه السلام من الأذى بعد موت عمه
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا ، فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ ، فَأَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَتَبْكِي قَالَ : فَجَعَلَ يَقُولُ : " أَيْ بُنَيَّةُ ، لَا تَبْكِيَنَّ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَانِعٌ أَبَاكِ " ، وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ : " مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ "(2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ تَحَيَّنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " يَا عَمُّ ، مَا أَسْرَعَ مَا وَجَدْتُ فَقْدَكَ " (3)
===============
ما لقيه عليه السلام من الأذى من قريش ما أجابهم به
عن الْحَارِثِ بن الْحَارِثِ الْغَامِدِيُّ ، قَالَ : قُلْتُ لأَبِي : مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ الْقَوْمُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ ، قَالَ : فَنَزَلْنَا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالإِيمَانِ بِهِ ، وَهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ ، حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ وَانْصَدَعَ عَنْهُ النَّاسُ ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا نَحْرُهَا تَحْمِلُ قَدَحًا وَمِنْدِيلا ، فَتَنَاوَلَهُ مِنْهَا وَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : " يَا بنيَّةُ خَمِّرِي عَلَيْكِ نَحْرَكِ ، وَلا تَخَافِي عَلَى أَبِيكِ " ، قُلْنَا : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالُوا : زَيْنَبُ بنتُهُ.(4)
وعن الْحَارِثَ بن الْحَارِثِ الْغَامِدِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي:مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ، قَالَ: فَأَشْرَفْتُ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالإِيمَانِ بِهِ حَتَّى ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَتَصَدَّعَ عَنْهُ النَّاسُ، فَإِذَا امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا نَحْرُهَا تَبْكِي تَحْمِلُ قَدَحًا وَمِنْدِيلا فَتَنَاوَلَهُ مِنْهَا فَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا بنيَّةُ خَمِّرِي عَلَيْكِ نَحْرَكِ وَلا تَخَافِي عَلَى أَبِيكِ غَلَبَةً وَلا ذُلا، فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ زَيْنَبُ بنتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(5)
و عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِىِّ - وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ - فَقَالَ َأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَصَرَ عَيْنِى بِسُوقِ ذِى الْمَجَازِ يَقُولُ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا ». وَيَدْخُلُ فِى فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً يَقُولُ شَيْئاً وَهُوَ لاَ يَسْكُتُ يَقُولُ « أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا ». إِلاَّ أَنَّ ورَاءَهُ رَجُلاً أَحْوَلَ وَضِىءَ الْوَجْهِ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. فَقُلْتُ َنْ هَذَا قَالُوا ُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ. قُلْتُ مَنْ هَذَا الَّذِى يُكَذِّبُهُ قَالُوا َمُّهُ أَبُو لَهَبٍ.
قُلْتُ ِنَّكَ كُنْتَ يَوْمَئِذٍ صَغِيراً. قَالَ َ وَاللَّهِ إِنِّى يَوْمَئِذٍ لأَعْقِلُ.(6)
__________
(1) - دلائل النبوة برقم(495 )صحيح مرسل
(2) - دلائل النبوة للبيهقي برقم(640 ) وفيه جهالة
(3) - الطبراني في الأوسط برقم(3960 ) حسن لغيره
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 433)برقم(3295) حديث حسن
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 290)برقم(18485 ) وهو حسن
(6) - مسند أحمد برقم(16446) وهو صحيح(3/321)
وعَنْ أَشْعَثَ قَالَ حَدَّثَنِى شَيْخٌ مِنْ بَنِى مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسُوقِ ذِى الْمَجَازِ يَتَخَلَّلُهَا يَقُولُ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا ». قَالَ وَأَبُو جَهْلٍ يَحْثِى عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ فَإِنَّمَا يُرِيدُ لِتَتْرُكُوا آلِهَتَكُمْ وَتَتْرُكُوا اللاَّتَ وَالْعُزَّى. قَالَ وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قُلْنَا انْعَتْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ أَحْمَرَيْنِ مَرْبُوعٌ كَثِيرُ اللَّحْمِ حَسَنُ الْوَجْهِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ سَابِغُ الشَّعَرِ.(1)
وٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِى بِأَشَدِّ شَىْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى فِى حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِى مُعَيْطٍ ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِى عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ ) الآيَةَ .(2)
و عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى أَخْبِرْنِى بِأَشَدِّ شَىْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِى مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَلَوَى ثَوْبَهُ فِى عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقاً شَدِيداً فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ). (3)
__________
(1) - مسند أحمد برقم(17055) وهو صحيح
(2) - صحيح البخارى برقم(3856 )
(3) - مسند أحمد برقم(7087)صحيح(3/322)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى قَالَ قُلْتُ لَهُ مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشاً أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ. قَالَ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْماً فِى الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ. أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ يَمْشِى حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ. قَالَ فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ « تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ ». فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَئُوهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ انْصَرِفْ رَاشِداً فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولاً. قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِى الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ فَبَيْنَمَا هُمْ فِى ذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِى تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ قَالَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ أَنَا الَّذِى أَقُولُ ذَلِكَ ». قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ. قَالَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِى ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ) . ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشاً بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ.(1)
و عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : مَا رَأَيْت قُرَيْشًا أَرَادُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ يَوْمًا ائْتَمَرُوا بِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ , فَقَامَ إلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَجَعَلَ رِدَاءَهُ فِي ، عَنْقِهِ ، ثُمَّ جَذَبَهُ حَتَّى وَجَبَ لِرُكْبَتَيْهِ سَاقِطًا , وَتَصَايَحَ النَّاسُ فَظَنُّوا ، أَنَّهُ مَقْتُولٌ , فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذَ بِضَبْعَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ : أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ , أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ , مَا أُرْسِلْت إلَيْكُمْ إلاَّ بِالذَّبْحِ , وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ : يَا مُحَمَّدُ , مَا كُنْت جَهُولاً ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَنْتَ مِنْهُمْ .(2)
__________
(1) -
مسند أحمد برقم(7233) صحيح = يرفئوه : يسكنوا ويرفقوا ويدعوا
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 14 / ص 109)برقم(36561) صحيح(3/323)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قُلْتُ : مَا أَكْثَرُ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ ؟ قَالَ : قَدْ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا ، وَشَتَمَ آبَاءَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَسَبَّ آلِهَتَنَا ، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ، أَوْ كَمَا قَالُوا ، فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ ، إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ، فَمَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ ، قَالَ : وَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، ثُمَّ مَضَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، ثُمَّ مَضَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ ، غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ : " أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ " . قَالَ : فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا لَكَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَطْأَةً قَبْلَ ذَلِكَ يَتَوَقَّاهُ بِأَحْسَنِ مَا يُجِيبُ مِنَ الْقَوْلِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ : انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، انْصَرِفْ رَاشِدًا ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا . فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ ، وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ ، حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ ، وَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَأَحَاطُوا بِهِ ، يَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا - لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ " . قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ ، وَقَالَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي : أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ؟ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشُدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ(1)
و عن هِشَامَ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بن عَمْرٍو: مَا أَشَدُّ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَشَدُّ مَا رَأَيْتُهُمْ نَالُوا مِنْهُ أَنِّي رَأَيْتُهُمْ تَوَاعَدُوا لَهُ يَوْمًا، فَأَخَذُوا، وَهُوَ يَطُوفُ، فَأَخَذُوا بِجَامِعِ رِدَائِهِ، فَقَالُوا: أَنْتَ الَّذِي تَسُبُّ آلِهَتَنَا، وَتَنْهَانَا عَمَّا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"نَعَمْ، أَنَا ذَاكَ"، قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ يَحْتَضِنُهُ، يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ وَعَيْنَاهُ تَنْضَحَانِ،(2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان برقم( 6687)صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 20 / ص 109)برقم(1463) وهو صحيح(3/324)
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهَا : مَا أَشَدُّ مَا رَأَيْتِ الْمُشْرِكِينَ بَلَغُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَتْ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَعَدُوا فِى الْمَسْجِدِ يَتَذَاكَرُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى آلِهَتِهِمْ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامُوا إِلَيْهِ ، وَكَانُوا إِذَا سَأَلُوا عَنْ شَىْءٍ صَدَقَهُمْ ، فَقَالُوا : أَلَسْتَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ : « بَلَى ». فَتَشَبَّثُوا بِهِ بِأَجْمَعِهِمْ ، فَأَتَى الصَّرِيخُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقِيلَ بَادْرِ صَاحِبَكَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا وَإِنَّ لَهُ لَغَدَائِرَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَقُولُ : وَيْلَكُمْ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) قَالَ : فَلَهَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِى بَكْرٍ ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ لاَ يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَائِرِهِ إِلاَّ جَاءَ مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ : تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ .(1)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : لَقَدْ ضَرَبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يُنَادِي : وَيْلَكُمُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ؟ ! فَقَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : أَبُو بَكْرٍ الْمَجْنُونُ . (2)
== =============
قول علي في شجاعة أبي بكر رضي الله عنهما في خطبة له
__________
(1) - مسند الحميدى برقم(343)حسن لغيره
(2) - مجمع الزوائد برقم( 9815 ) واتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 7 / ص 19)[6349] صحيح(3/325)
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ ؟ قَالُوا : - أَوْ قَالَ - قُلْنَا : أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : أَمَا إِنِّي مَا بَارَزْتُ أَحَدًا إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ قَالُوا : لَا نَعْلَمُ ، فَمَنْ ؟ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشًا فَقُلْنَا : مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا ؟ يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَوَاللَّهِ ، مَا دَنَا مِنْهُ إِلَّا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا أَهْوَى عَلَيْهِ فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ فَقَالَ كَانَتْ عَلَيْهِ فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ : أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ أَمُؤْمِنُ آلِ َدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي ثُمَامَةَ الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ : نا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ الْعِجْلِيُّ ، قَالَ : نا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَرْمَانِيُّ ، قَالَ : نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ ؟ قَالُوا : - أَوْ قَالَ - قُلْنَا : أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : أَمَا إِنِّي مَا بَارَزْتُ أَحَدًا إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ قَالُوا : لَا نَعْلَمُ ، فَمَنْ ؟ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشًا فَقُلْنَا : مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا ؟ يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَوَاللَّهِ ، مَا دَنَا مِنْهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا أَهْوَى عَلَيْهِ فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ فَقَالَ عَلِيٌّ : وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ فَهَذَا يَجَؤُهُ وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ وَهُمْ يَقُولُونَ : أَنْتَ الَّذِي جَعَلْتَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ ، يَضْرِبُ هَذَا وَيُجَاءُ هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا وَهُوَ يَقُولُ : وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَ عَلِيٌّ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ : أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ أَبُو بَكْرٍ فَسَكَتَ الْقَوْمُ فَقَالَ : أَلَا تُجِيبُونِي فَوَاللَّهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ ذَاكَ رَجُلٌ كَتَمَ إِيمَانَهُ وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ .(1)
================
طرح رؤساء قريش الفَرْث عليه صلى الله عليه وسلم وانتصار أبي البختري له
__________
(1) - البزار برقم(689 ) وفيه لين(3/326)
عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ ، وَشَيْبَةُ ، وَعُتْبَةُ ، ابْنَا رَبِيعَةَ ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : وَرَجُلانِ آخَرَانِ لاَ أَحْفَظُ أَسْمَاءَهُمَا كَانُوا سَبْعَةً وَهُمْ فِي الْحِجْرِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلَّى ، فَلَمَّا سَجَدَ أَطَالَ السُّجُودَ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : أَيُّكُمْ يَأْتِي جَزُورَ بَنِي فُلانٍ فَيَأْتِينَا بِفَرْثِهَا فَيُلْقِيَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ؟ فَانْطَلَقَ أَشْقَاهُمْ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَتَى بِهِ ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَيْهِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَأَنَا قَائِمٌ لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لَيْسَ عِنْدِي عَشِيرَةٌ تَمْنَعَنِي فَأَنَا أَرْهَبُ ، إِذْ سَمِعْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ فَأَقْبَلَتْ حَتَّى أَلْقَتْ ذَلِكَ عَنْ عَاتِقِهِ ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ قُرَيْشًا فَسَبَّتْهُمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا شَيْئًا ، وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُهُ عِنْدَ تَمَامِ سُجُودِهِ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلاتَهُ ، قَالَ : اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ، ثَلاثًا عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ ، وَعُقْبَةَ ، وَأَبِي جَهْلٍ ، وَشَيْبَةَ ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ ، وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَوْطٌ يَتَخَصَّرُ بِهِ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ وَجْهُهُ ، فَقَالَ : مَا لَكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : خَلِّ عَنِّي ، قَالَ : عَلِمَ اللَّهُ لاَ أُخَلِّي عَنْكَ ، أَوْ تُخْبِرُنِي مَا شَأْنُكَ فَلَقَدْ أَصَابَكَ شَيْءٌ ، فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ غَيْرُ مُخَلٍّ عَنْهُ أَخْبَرَهُ فَقَالَ : إِنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ فَطُرِحَ عَلَيَّ فَرْثٌ ، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ : هَلُمَّ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ فَدَخَلا الْمَسْجِدَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ : يَا أَبَا الْحَكَمِ ، أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَ بِمُحَمَّدٍ فَطُرِحَ عَلَيْهِ الْفَرْثُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ ، قَالَ : فَثَارَتِ الرِّجَالُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، قَالَ : وَصَاحَ أَبُو جَهْلٍ : وَيْحَكُمْ هِيَ لَهُ إِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ أَنْ يُلْقِيَ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَيَنْجُوَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.(1)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِى مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - فَأَخَذَتْ مِنْ ظَهْرِهِ ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِى مُعَيْطٍ ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ - أَوْ أُبَىَّ بْنَ خَلَفٍ » . فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ ، فَأُلْقُوا فِى بِئْرٍ ، غَيْرَ أُمَيَّةَ أَوْ أُبَىٍّ ، فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلاً ضَخْمًا ، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِى الْبِئْرِ . (2)
__________
(1) - مسند البزار 1-14 - (ج 2 / ص 429) برقم(1853) وهو حديث حسن
(2) - صحيح البخارى برقم(3185 ) ومسلم برقم(4751 )
السلى : الغشاء الذى يكون فيه جنين البهيمة
شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 251)
قَوْله : ( فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْم ) هُوَ : عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة ، وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِشْكَال ، فَإِنَّهُ يُقَال : كَيْف اِسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاة مَعَ وُجُود النَّجَاسَة عَلَى ظَهْره ؟ وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاض : بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَجِسٍ . قَالَ : لِأَنَّ الْفَرْث وَرُطُوبَة الْبَدَن طَاهِرَانِ ، وَالسَّلَا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا النَّجِس الدَّم ، وَهَذَا الْجَوَاب يَجِيء عَلَى مَذْهَب مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ رَوْث مَا يُؤْكَل لَحْمه طَاهِر ، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَآخَرِينَ نَجَاسَته ، وَهَذَا الْجَوَاب الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي ضَعِيف أَوْ بَاطِل ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّلَا يَتَضَمَّن النَّجَاسَة مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَنْفَكّ مِنْ الدَّم فِي الْعَادَة ، وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَة عُبَّاد الْأَوْثَان فَهُوَ نَجِس ، وَكَذَلِكَ اللَّحْم ، وَجَمِيع أَجْزَاء هَذَا الْجَزُور .
وَأَمَّا الْجَوَاب الْمُرْضِيّ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَم مَا وُضِعَ عَلَى ظَهْره ، فَاسْتَمَرَّ فِي سُجُوده اِسْتِصْحَابًا لِلطَّهَارَةِ ، وَمَا نَدْرِي هَلْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاة فَرِيضَة فَتَجِب إِعَادَتهَا عَلَى الصَّحِيح عِنْدنَا أَمْ غَيْرهَا فَلَا تَجِب ؟ فَإِنْ وَجَبَتْ الْإِعَادَة فَالْوَقْت مُوَسَّع لَهَا فَإِنْ قِيلَ يَبْعُد أَلَّا يُحِسّ بِمَا وَقَعَ عَلَى ظَهْره ، قُلْنَا : وَإِنْ أَحَسَّ بِهِ فَمَا يَتَحَقَّق أَنَّهُ نَجَاسَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَة طَرَحْته ) هِيَ بِفَتْحِ النُّون ، وَحُكِيَ إِسْكَانهَا ، وَهُوَ شَاذّ ضَعِيف ، وَمَعْنَاهُ : لَوْ كَانَ لِي قُوَّة تَمْنَع أَذَاهُمْ ، أَوْ كَانَ لِي عَشِيرَة بِمَكَّةَ تَمْنَعنِي ، وَعَلَى هَذَا ( مَنَعَة ) جَمْع ( مَانِع ) كَكَاتِبِ وَكَتَبَة .
قَوْله : ( وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا ) فِيهِ : اِسْتِحْبَاب تَكْرِير الدُّعَاء ثَلَاثًا . وَقَوْله : ( وَإِذَا سَأَلَ ) هُوَ الدُّعَاء ، لَكِنْ عَطَفَهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ تَوْكِيدًا .
قَوْله : ( ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ عَلَيْك بِأَبِي جَهْل بْن هِشَام وَعُتْبَةَ بْن رَبِيعَة وَشَيْبَة بْن رَبِيعَة وَالْوَلِيد بْن عُقْبَةَ ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم ( وَالْوَلِيد بْن عُقْبَةَ ) بِالْقَافِ ، اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ غَلَط ، وَصَوَابه ( وَالْوَلِيد بْن عُتْبَةَ ) بِالتَّاءِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر اِبْن أَبِي شَيْبَة بَعْد هَذَا ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَغَيْره مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث عَلَى الصَّوَاب ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان فِي آخِر الْحَدِيث فَقَالَ : الْوَلِيد بْن عُقْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث غَلَط ، قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْوَلِيد بْن عُقْبَةَ بِالْقَافِ هُوَ اِبْن أَبِي مُعَيْط ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْت مَوْجُودًا أَوْ كَانَ طِفْلًا صَغِيرًا جِدًّا ، فَقَدْ أَتَى بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْفَتْح وَهُوَ قَدْ نَاهَزَ الِاحْتِلَام لِيَمْسَحَ عَلَى رَأْسه .
قَوْله : ( وَذَكَرَ السَّابِع وَلَمْ أَحْفَظهُ )وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ تَسْمِيَة السَّابِع أَنَّهُ عُمَارَة بْن الْوَلِيد .
قَوْله : ( وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْت الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْم بَدْر ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيب قَلِيب بَدْر ) هَذِهِ إِحْدَى دَعَوَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَابَة ، ( وَالْقَلِيب ) : هِيَ الْبِئْر الَّتِي لَمْ تُطْوَ ، وَإِنَّمَا وُضِعُوا فِي الْقَلِيب تَحْقِيرًا لَهُمْ ، وَلِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاس بِرَائِحَتِهِمْ ، وَلَيْسَ هُوَ دَفْنًا لِأَنَّ الْحَرْبِيّ لَا يَجِب دَفْنه ، قَالَ أَصْحَابنَا : بَلْ يُتْرَك فِي الصَّحْرَاء ، إِلَّا أَنْ يُتَأَذَّى بِهِ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : اِعْتَرَضَ بَعْضهمْ عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي قَوْله : رَأَيْتهمْ صَرْعَى بِبَدْرٍ ، وَمَعْلُوم أَنَّ أَهْل السِّيَر قَالُوا : إِنَّ عُمَارَة بْن الْوَلِيد وَهُوَ أَحَد السَّبْعَة ، كَانَ عِنْد النَّجَاشِيّ ، فَاتَّهَمَهُ فِي حَرَمه ، وَكَانَ جَمِيلًا ، فَنَفَخَ فِي إِحْلِيله سِحْرًا فَهَامَ مَعَ الْوُحُوش فِي بَعْض جَزَائِر الْحَبَشَة فَهَلَكَ ، قَالَ الْقَاضِي : وَجَوَابه أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ رَأَى أَكْثَرهمْ بِدَلِيلِ أَنَّ عُقْبَةَ بْن أَبِي مُعَيْط مِنْهُمْ وَلَمْ يُقْتَل بِبَدْرٍ ، بَلْ حُمِلَ مِنْهَا أَسِيرًا ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبْرًا بَعْد اِنْصِرَافه مِنْ بَدْر بِعِرْقِ الظُّبْيَة ، قُلْت : الظُّبْيَة : ظَاء مُعْجَمَة مَضْمُومَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة سَاكِنَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة تَحْت ثُمَّ هَاء ، هَكَذَا ضَبَطَهُ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابه الْمُؤْتَلِف فِي الْأَمَاكِن ، قَالَ : قَالَ الْوَاقِدِيُّ : هُوَ مِنْ الرَّوْحَاء عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة .(3/327)
=================
إيذء أبي جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضب حمزة على أبي جهل
عَنْ يَعْقُوبَ بن عُتْبَةَ بن الْمُغِيرَةِ بن الأَخْنَسِ بن شَرِيقٍ حَلِيفِ بني زُهْرَةَ ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفَا فَآذَاهُ ، وَكَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَاحِبَ قَنْصٍ وَصَيْدٍ ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ فِي قَنْصِهِ ، فَلَمَّا رَجَعَ , قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ ، وَكَانَتْ قَدْ رَأَتْ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا عُمَارَةَ ، لَوْ رَأَيْتَ مَا صَنَعَ ، تَعْنِي أَبَا جَهْلٍ ، بِابْنِ أَخِيكَ ؟ فَغَضِبَ حَمْزَةُ ، وَمَضَى كَمَا هُوَ قَبْل أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ ، وَهُوَ مُعَلِّقٌ قَوْسَهُ فِي عُنُقِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَوَجَدَ أَبَا جَهْلٍ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قُرَيْشٍ ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى عَلا رَأْسَهُ بِقَوْسِهِ فَشَجَّهُ ، فَقَامَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى حَمْزَةَ يُمْسِكُونَهُ عَنْهُ ، فَقَالَ حَمْزَةُ : " دِينِي دِينُ مُحَمَّدٍ ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، فَوَاللَّهِ لا أَنْثَنِي عَنْ ذَلِكَ ، فَامْنَعُونِي عَنْ ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَزَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ ، وَثَبَتَ لَهُمْ بَعْضُ أَمْرِهِمْ وهابَتْهُ قُرَيْشٌ ، وَعَلِمُوا أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَيَمْنَعُهُ .(1)
وعن أُسَامَةِ بن زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بن كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ ، يَقُولُ : كَانَ إِسْلامُ حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَمِيَّةً ، وَكَانَ رَجُلا رَامِيًا ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ فَيَصْطَادُ ، فَإِذَا رَجَعَ مَرَّ بِمَجْلِسِ قُرَيْشٍ ، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ عِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَيَمُرُّ بِهِمْ ، فَيَقُولُ : رَمَيْتُ كَذَا ، وَصَنَعَتُ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ إِلَى مَنْزِلِهِ ، وَأَقْبَلَ مِنْ رَمْيِهِ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : يَا أَبَا عُمَارَةَ ، مَاذَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مِنْ أَبِي جَهْلِ بن هِشَامٍ ؟ وَتَنَاوَلَهُ وَفَعَلَ بِهِ وَفَعَلَ ، فَقَالَ : : " هَلْ رَآهُ أَحَدٌ ؟ " قَالَتْ : إِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَآهُ نَاسٌ ، فَأَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ وَأَبُو جَهْلٍ فِيهِمْ ، فَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ ، فَقَالَ : " رَمَيْتُ كَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا " ، ثُمَّ جَمَعَ يَدَهُ بِالْقَوْسِ ، فَضَرَبَ بِهَا بَيْنَ أُذُنَيْ أَبِي جَهْلٍ ، فَدَقَّ سِيَتَهَا ، ثُمَّ قَالَ : " خُذْهَا بِالْقَوْسِ ، وَأُخْرَى بِالسَّيْفِ ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " ، قَالُوا : يَا أَبَا عُمَارَةَ ، إِنَّهُ سَبَّ آلِهَتَنَا ، وَلَوْ كُنْتَ أَنْتَ ، وَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُ ، مَا أَقْرَرْنَاكَ وَذَاكَ ، وَمَا كُنْتَ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَاحِشًا .(2)
=================
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 229)برقم(2857)حسن مرسل
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 228)برقم(2856)صحيح مرسل(3/328)
إيذاء أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم وانتصار طليب بن عمير له
عَنْ بَرَّةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةٍ ، قَالَتْ : كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تُنْكِرُ صَلَاةَ الضُّحَى إِنَّمَا تُنْكِرُ الْوَقْتَ " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْعَصْرِ تَفَرَّقُوا إِلَى الشِّعَابِ فَصَلَّوْا فُرَادَى وَمَثْنَى " ، فَمَشَى طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَحَاطِبُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ يُصَلُّونَ بِشِعْبِ أَجْنَادٍ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْبَعْضِ ، إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِمْ ابْنُ الْأُصَيْدِيِّ وَابْنُ الْقِبْطِيَّةِ ، وَكَانَا فَاحِشَيْنِ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ سَاعَةً حَتَّى خَرَجَا وَانْصَرَفَا وَهُمَا يَشْتَدَّانِ ، وَأَتَيَا أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا لَهَبٍ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ ، فَذَكَرُوا لَهُمُ الْخَبَرَ ، فَانْطَلَقُوا لَهُمْ فِي الصُّبْحِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ فِي غَلَسِ الصُّبْحِ ، فَيَتَوَضَّئُونَ وَيُصَلُّونَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي شِعْبٍ إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَعُقْبَةُ وَأَبُو لَهَبٍ وَعِدَّةٌ مِنْ سُفَهَائِهِمْ ، فَبَطَشُوا بِهِمْ ، فَنَالُوا مِنْهُمْ وَأَظْهَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ وَتَكَلَّمُوا بِهِ وَنَادَوْهُمْ وَذَبُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَتَعَمَّدَ طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى أَبِي جَهْلٍ ، فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ ، فَأَخَذُوهُ وَأَوْثَقُوهُ ، فَقَامَ دُونَهُ أَبُو لَهَبٍ حَتَّى حَلَّهُ ، وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ فَقِيلَ لِأَرْوَى بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : أَلَا تَرَيْنَ إِلَى ابْنِكِ طُلَيْبٍ قَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا وَصَارَ عَرَضًا لَهُ ، وَكَانَتْ أَرْوَى قَدْ أَسْلَمَتْ ، فَقَالَتْ : خَيْرُ أَيَّامِ طُلَيْبٍ يَوْمٌ يَذُبُّ عَنِ ابْنِ خَالِهِ وَقَدْ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا : وَقَدِ اتَّبَعْتِ مُحَمَّدًا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَبِي لَهَبٍ فَأَخْبَرَهُ ، فَأَقْبَلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : عَجَبًا لَكِ وَلِاتِّبَاعِكِ مُحَمَّدًا وَتَرَكْتِ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، قَالَتْ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَقُمْ دُونَ ابْنِ أَخِيكَ فَاعْضُدْهُ وَامْنَعْهُ فَإِنْ ظَهَرَ أَمْرُهُ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَدْخُلَ مَعَهُ أَوْ تَكُونَ عَلَى دِينِكَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كُنْتَ قَدْ أَعْذَرْتَ ابْنَ أَخِيكَ ، قَالَ : وَلَنَا طَاقَةٌ بِالْعَرَبِ قَاطِبَةً ، ثُمَّ يَقُولُونَ : إِنَّهُ جَاءَ بِدِيِنٍ مُحْدَثٍ ، قَالَ : ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو لَهَبٍ (1)
=============
إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم من جارَيه: أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدُّئَلِيِّ قَالَ : مَا أَسْمَعُكُمْ تَقُولُونَ : إِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَنَالُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ ; أَنَّ مَنْزِلَهُ كَانَ بَيْنَ مَنْزِلِ أَبِي لَهَبٍ ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَكَانَ يَنْقَلِبُ إِلَى بَيْتِهِ فَيَجِدُ الْأَرْحَامَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَنْحَاتَ قَدْ نُصِبَتْ عَلَى بَابِهِ ، فَيُنَحِّي ذَلِكَ بِسِنَةِ قَوْسِهِ ، وَيَقُولُ : " بِئْسَ الْجِوَارُ هَذَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ (2)
================
ما تحمّله عليه السلام من الأذى في الطائف
__________
(1) - المستدرك برقم(6970 ) فيه ضعف
(2) - المعجم الأوسط للطبراني برقم(11174) وفيه ضعف(3/329)
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا » .(1)
و عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِب تَوَجَّهَ إِلَى الطَّائِف رَجَاء أَنْ يُؤْوُوهُ ، فَعَمَدَ إِلَى ثَلَاثَة نَفَر مِنْ ثَقِيف وَهُمْ سَادَتهمْ وَهُمْ إِخْوَة عَبْد يَالِيلَ وَحَبِيب وَمَسْعُود بَنُو عَمْرو فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسه وَشَكَا إِلَيْهِمْ مَا اِنْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمه فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَقْبَح رَدّ (2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3231 ) ومسلم برقم(4754 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 16)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان شَفَقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمه ، وَمَزِيد صَبْره وَحَمْله ، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْت لَهُمْ ) وَقَوْله ( وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) .
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 16)أخرجه موسى بن عقبة مرسلا وهو صحيح مرسل(3/330)
و عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : لَمَّا أَفْسَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَحِيفَةَ مَكْرِهِمْ خَرَجَ النبيِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَعَاشُوا وَخَالَطُوا النَّاسَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفٍ لَا يَسْأَلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَمْنَعُوهُ وَيَقُولُ : لَا أُكْرِهُ مِنْكُمْ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مَنْ رَضِيَ الَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ قَبِلَهُ وَمَنْ كَرِهَهُ لَمْ أُكْرِهْهُ إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تَحُوزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ فَتَحُوزُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَيَقْضِي اللَّهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا أَتَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالُوا : قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ أَفَتَرَى رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ ؟ وَذَلِكَ لِمَا ادَّخَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْأَنْصَارِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَازْدَادَ مِنَ الْبَلَاءِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةٌ فَعَمَدَ إِلَى ثَقِيفٍ يَرْجُو أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ فَوَجَدَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ سَادَةَ ثَقِيفٍ وَهُمْ إِخْوَةٌ : عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرٍو وَحَبِيْبَ بْنَ عَمْرٍو وَمَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَشَكَا إِلَيْهِمُ الْبَلَاءَ وَمَا انْتَهَكَ قَوْمُهُ مِنْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَسْرِقُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ بَعَثَكَ بشَيْءٍ قَطُّ وَقَالَ الْآخَرُ : وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ مَجْلِسِكَ هَذَا كَلِمَةً وَاحِدَةً أَبَدًا لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا لَأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًّا مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ وَقَالَ الْآخَرُ : أَعَجَزَ اللَّهُ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَكَ وَأَفْشَوْا ذَلِكَ فِي ثَقِيفٍ الَّذِي قَالَ لَهُمْ وَاجْتَمَعُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ فَأَخَذُوا بِأَيْدِيهِمُ الْحِجَارَةَ فَجَعَلَ لَا يَرْفَعُ رِجْلَهُ وَلَا يَضَعُهَا إِلَّا رَضَخُوهَا بِالْحِجَارَةِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَسْتَهْزِءُونَ وَيَسْخَرُونَ فَلَمَّا خَلَصَ مِنْ صَفَّيْهَمْ وَقَدَمَاهُ تَسِيلَانِ الدِّمَاءَ عَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ كُرُومِهِمْ فَأَتَى ظِلَّ حَبْلَةٍ مِنَ الْكَرْمِ فَجَلَسَ فِي أَصْلِهَا مَكْرُوبًا مُوجَعًا تَسِيلُ قَدَمَاهُ الدِّمَاءَ فَإِذَا فِي الْكَرْمِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَلَمَّا أَبْصَرَهُمَا كَرِهَ أَنْ يَأْتِيَهُمَا ؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَدَاوَتِهِمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَبِهِ الَّذِي بِهِ فَأَرْسَلَا إِلَيْهِ غُلَامَهُمَا عَدَّاسًا بِعِنَبٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى فَلَمَّا أَتَاهُ وَضَعَ الْعِنَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بِسْمِ اللَّهِ فَعَجِبَ عَدَّاسٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ ؟ قَالَ : أَنَا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى فَقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ؟ فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ : وَمَا يُدْرِيكَ مَنْ يُونُسُ بْنُ مَتَّى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَأْنِ يُونُسَ مَا عَرَفَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْقِرُ أَحَدًا يُبَلِّغُهُ رِسَالَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي خَبَرَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَلَمَّا أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَأْنِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ خَرَّ سَاجِدًا للِرَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَهُمَا تَسِيلَانِ الدِّمَاءَ فَلَمَّا أَبْصَرَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ مَا فَعَلَ غُلَامُهُمَا سَكَتَا فَلَمَّا أَتَاهُمَا قَالَا لَهُ : مَا شَأْنُكَ سَجَدْتَ لِمُحَمَّدٍ وَقَبَّلْتَ قَدَمَيْهِ وَلَمْ نَرَكَ فَعَلْتَ هَذَا بِأَحَدٍ مِنَّا ؟ قَالَ : هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ حَدَّثَنِي عَنْ أَشْيَاءَ عَرَفْتُهَا مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْنَا يُدْعَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَضَحِكَا وَقَالَا : لَا يَفْتِنْكَ عَنْ نَصْرَانِيَّتِكَ إِنَّهُ رَجُلٌ يَخْدَعُ ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى(3/331)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ " (1)
و عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ لَا يَسَلْهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَرَوْهُ وَيَمْنَعُوهُ وَيَقُولُ : " لَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ ، وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ ، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تُحْرِزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَحَتَّى يَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ اللَّهُ " فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالَ : قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ ، أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ وَلَفَظُوهُ ؟ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْأَنْصَارِ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ . فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ ارْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ مَا كَانَ ، فَعَمَدَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ رَجَاءَ أَنْ يَأْوُوَهُ ، فَوَجَدَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ يَوْمَئِذٍ وَهُمْ أُخْوَةٌ : عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرٍو ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرٍو ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ ، وَشَكَا إِلَيْهِمُ الْبَلَاءَ وَمَا انْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمُهُ . فَقَالَ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَمْرُقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ بَعَثَكَ بِشَيْءٍ قَطُّ . وَقَالَ الْآخَرُ : أَعَجَزَ اللَّهُ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَكَ . وَقَالَ الْآخَرُ : وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ مَجْلِسِكَ هَذَا أَبَدًا ، وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًّا مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ لَأَنْتَ أَشَرُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ . وَتَهَزَّءُوا بِهِ وَأَفْشَوْا فِي قَوْمِهِمُ الَّذِي رَاجَعُوهُ بِهِ ، وَقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ صَفَّيْهِمْ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ ، وَكَانُوا أَعَدُّوهَا حَتَّى أَدْمَوْا رِجْلَيْهِ . فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ ، فَعَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِهِمْ ، وَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْهُ ، وَهُوَ مَكْرُوبٌ مُوجَعٌ ، تَسِيلُ رِجْلَاهُ دَمًا ، فَإِذَا فِي الْحَائِطِ عُقْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، فَلَمَّا رَآهُمَا كَرِهَ مَكَانَهُمَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَدَاوَتِهِمَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَرْسَلَا إِلَيْهِ غُلَامًا لَهُمَا يُدْعَى عَدَّاسًا وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى مَعَهُ عِنَبٌ ، فَلَمَّا جَاءَهُ عَدَّاسٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ ؟ " قَالَ لَهُ عَدَّاسٌ : أَنَا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَى ، فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ : وَمَا يُدْرِيكَ مَنْ يُونُسُ بْنُ مَتَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَا يَحْقِرُ أَحَدًا أَنْ يُبَلِّغَهُ رِسَالَةَ رَبِّهِ : " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَنِي خَبَرَ يُونُسَ بْنِ مَتَى " . فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَأْنِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ، خَرَّ عَدَّاسٌ سَاجِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ . فَلَمَّا أَبْصَرَ عُقْبَةُ وَشَيْبَةُ مَا يَصْنَعُ غُلَامُهُمَا سَكَنَا ، فَلَمَّا أَتَاهُمَا ، قَالَا : مَا شَأْنُكَ سَجَدْتَ لِمُحَمَّدٍ ، وَقَبَّلْتَ قَدَمَيْهِ ، وَلَمْ نَرَكَ فَعَلْتَهُ بِأَحَدٍ مِنَّا ؟ قَالَ : هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ ، أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ عَرَفْتُهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا يُدْعَى يُونُسَ بْنَ مَتَى ، فَضَحِكَا بِهِ ، وَقَالَا : لَا يَفْتِنُكَ عَنْ نَصْرَانِيَّتِكَ ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ خَدَّاعٌ ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ (2)
================
__________
(1) - دلائل النبوة لأبي نعيم برقم(216 ) وهو حسن مرسل
(2) - دلائل النبوة للبيهقي برقم(690 )صحيح مرسل(3/332)
دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الرجوع من الطائف
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَانْصَرَفَ ، فَأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ ، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي ، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ، إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانًا عَلَيَّ ، فَلَا أُبَالِي ، إِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ "(1)
و قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ ، يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ .
[ نُزُولُ الرّسُولِ بِثَلَاثَةِ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَتَحْرِيضُهُمْ عَلَيْهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ ، عَمَدَ إلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ وَهُمْ إخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ عَبْدُ يَالَيْل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَكَلّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللّهُ أَرْسَلَك ، وَقَالَ الْآخَرُ أَمَا وَجَدَ اللّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَك وَقَالَ الثّالِثُ وَاَللّهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا . لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ وَلَئِنْ كُنْت تَكْذِبُ عَلَى اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَك . فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - : إذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ : وَلَقَدْ أَتَانِي عَنْ تَمِيمٍ أَنّهُمْ ذَئِرُوا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَعَصّبُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ حَتّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُمَا فِيهِ وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ فَعَمَدَ إلَى ظِلّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ . وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إلَيْهِ وَيَرَيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطّائِفِ ، وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - الْمَرْأَةَ الّتِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَقَالَ لَهَا : مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِك ؟
__________
(1) - الطبراني الكبير برقم(13655) وهو حديث حسن(3/333)
فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - : اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك
قَالَ فَلَمّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لَقِيَ تَحَرّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا ، فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيّا ، يُقَالُ لَهُ عَدّاسٌ فَقَالَا لَهُ خُذْ قِطْفًا ( مِنْ هَذَا ) الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطّبَقِ ثُمّ اذْهَبْ بِهِ إلَى ذَلِكَ الرّجُلِ فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ . فَفَعَلَ عَدّاسٌ ثُمّ أَقْبَلَ بِهِ حَتّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ لَهُ كُلْ فَلَمّا وَضَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ يَدَهُ قَالَ بِاسْمِ اللّهِ ثُمّ أَكَلَ فَنَظَرَ عَدّاسٌ فِي وَجْهِهِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمِنْ أَهْلِ أَيّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدّاسُ وَمَا دِينُك ؟ قَالَ نَصْرَانِيّ ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَرْيَةِ الرّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى ، فَقَالَ لَهُ عَدّاسٌ وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُسُ بْنُ مَتّى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاكَ أَخِي ، كَانَ نَبِيّا وَأَنَا نَبِيّ ، فَأَكَبّ عَدّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ قَالَ يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَمّا غُلَامُك فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْك . فَلَمّا جَاءَهُمَا عَدّاسٌ قَالَا لَهُ وَيْلَك يَا عَدّاسُ مَالَكَ تُقَبّلُ رَأْسَ هَذَا الرّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ؟ قَالَ يَا سَيّدِي مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلّا نَبِيّ ، قَالَا لَهُ وَيْحَك يَا عَدّاسُ لَا ، يَصْرِفَنّك عَنْ دِينِك ، فَإِنّ دِينَك خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ (1)
================
ما لقيه عليه السلام من الأذى يوم أُحد
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِى رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ « كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ)(2)
وعن عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ جُرِحَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَغْسِلُ الدَّمَ وَكَانَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إِلاَّ كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ.(3)
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 419) والسيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 329) و صحيح السيرة النبوية، 136، 137. (2) انظر: التاريخ الإسلامي، (3/22).
(2) - صحيح مسلم برقم(4746 ) يَسلت : يقطع نزول الدم ويزيله
(3) - صحيح مسلم برقم(4743 )بيضة : خوذة -المجن : الترس
شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 248)
وَفِي هَذَا وُقُوع الِانْتِقَام وَالِابْتِلَاء بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ لِيَنَالُوا جَزِيل الْأَجْر ، وَلِتَعْرِفَ أُمَمهمْ وَغَيْرهمْ مَا أَصَابَهُمْ ، وَيَتَأَسَّوْا بِهِمْ ، قَالَ الْقَاضِي : وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ مِنْ الْبَشَر تُصِيبهُمْ مِحَن الدُّنْيَا ، وَيَطْرَأ عَلَى أَجْسَامهمْ مَا يَطْرَأ عَلَى أَجْسَام الْبَشَر ، لِيَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ ، وَلَا يُفْتَتَن بِمَا ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهمْ مِنْ الْمُعْجِزَات ، وَتَلْبِيس الشَّيْطَان مِنْ أَمْرهمْ مَا لَبَّسَهُ عَلَى النَّصَارَى وَغَيْرهمْ .
فِيهِ : اِسْتِحْبَاب لُبْس الْبَيْضَة وَالدُّرُوع وَغَيْرهَا مِنْ أَسْبَاب التَّحَصُّن فِي الْحَرْب ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي التَّوَكُّل .(3/334)
و عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ : كُنْتُ فِي أَوَّلِ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَاتِلُ عَنْهُ ، وَأُرَاهُ قَالَ : وَيَحْمِيهِ ، قَالَ : فَقُلْتُ : كُنْ طَلْحَةَ حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي ، قَالَ : وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمَشْرِقِ رَجُلٌ لاَ أَعْرِفُهُ ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ ، وَهُوَ يَخْطَفُ السَّعْيَ خَطْفًا لاَ أَخْطَفُهُ ، فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، فَدَفَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعًا ، وَقَدْ كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ ، وَقَدْ دَخَلَ فِي وَجْنَتَيْهِ حَلْقَتَانِ مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عَلَيْكُمْ بِصَاحِبِكُمْ يُرِيدُ طَلْحَةَ ، وَقَدْ نَزَفَ فَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَقْبَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَرَدْتُ مَا أَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَطَلَبَ إِلَيَّ فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى تَرَكْتُهُ ، وَكَانَ حَلْقَتُهُ قَدْ نَشِبَتْ ، وَكَرِهَ أَنْ يُزَعْزِعَهَا بِيَدِهِ ، فَيُؤْذِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَزَّمَ عَلَيْهِ بِثَنِيَّتِهِ ، وَنَهَضَ وَنَزَعَهَا ، وَابْتَدَرَتْ ثَنِيَّتُهُ فَطَلَبَ إِلَيَّ وَلَمْ يَدَعْنِي حَتَّى تَرَكْتُهُ فَأَكَارَ عَلَى الأُخْرَى ، فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ وَنَزَعَهَا ، وَابْتَدَرَتْ ثَنِيَّتُهُ فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ اهْتَمَّ الثَّنَايَا(1)
=================
__________
(1) - المستدرك للحاكم برقم(5159) وفتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 393) وزاد المعاد - (ج 3 / ص 180) وهو ضعيف(3/335)
تحمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه الشدائد
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا , أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهُورِ , فَقَالَ : " يَا أَبَا بَكْرٍ , إِنَّا قَلِيلٌ " , فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ , كُلُّ رَجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ , وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا , فَكَانَ أَوَّلَ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَضُرِبُوا فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا , وَوُطِيَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا , فَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ وَثَنَى عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ , وَجَاءَتْ بَنُو تَيْمٍ يَتَعَادَوْنَ وَأَجْلَتِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَحَمَلَتْ بَنُو تَيْمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ , وَلَا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ , ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَيْمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالُوا : وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ , فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةَ وَبَنُو تَيْمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ , فَتَكَلَّمَ آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ : مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَعَذَلُوهُ , ثُمَّ قَامُوا وَقَالُوا لَأُمِّهِ أُمِّ الْخَيْرِ بِنْتِ صَخْرٍ : انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا , أَوْ تَسْقِيهِ إِيَّاهُ , فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ , وَجَعَلَ يَقُولُ : مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : وَاللَّهِ مَا لِي عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ , فَقَالَ : اذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلٍ بِنْتِ الْخَطَّابِ فَسَلِيهَا عَنْهُ , فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فَقَالَتْ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , فَقَالَتْ : مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ , فَإِنْ تُحِبِّينَ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِفًا , فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ وَقَالَتْ : وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمًا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لَأَهْلُ فِسْقٍ وَكُفْرٍ , وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ لَكَ مِنْهُمْ , قَالَ : فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : هَذِهِ أُمُّكَ تَسْمَعُ , قَالَ : فَلَا شَيْءَ عَلَيْكِ فِيهَا , قَالَتْ : سَالِمٌ صَالِحٌ , قَالَ : فَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالَتْ : فِي دَارِ أَبِي الْأَرْقَمِ , قَالَ : فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَذُوقَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمْهَلَتَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ , خَرَجَتَا بِهِ يَتَّكِي عَلَيْهِمَا حَتَّى أَدْخَلَتَاهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : وَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَبَّلَهُ ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ , وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِقَّةً شَدِيدَةً , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ , لَيْسَ مِنْ بَأْسٍ إِلَّا مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي , وَهَذِهِ أُمِّي بَرَّةٌ بِوَلَدِهَا , وَأَنْتَ مُبَارَكٌ , فَادْعُهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَادْعُ اللَّهَ لَهَا ؛ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ , قَالَ : فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ دَعَاهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَسْلَمَتْ , فَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّارِ شَهْرًا وَهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا , وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو(3/336)
بَكْرٍ , فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ , وَأَصْبَحَ عُمَرُ , وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ , فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ , وَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ , وَخَرَجَ ابْنُ الْأَرْقَمِ وَهُوَ أَعْمَى كَافِرٌ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِبَنِي عُبَيْدٍ الْأَرْقَمِ ؛ فَإِنَّهُ كَفَرَ , فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , عَلَى مَا نُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقِّ , وَيَظْهَرُ دِينُهُمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ : " يَا عُمَرُ , إِنَّا قَلِيلٌ ؛ فَإِنَّكَ قَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِينَا " , فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ , ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْشٍ وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ , فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ لِعُمَرَ : أَرَى أَنَّكَ صَبَوْتَ , فَقَالَ عُمَرُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ , وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَةَ فَبَرَكَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي عَيْنَيْهِ , فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ , فَتَنَحَّى النَّاسُ , فَقَامَ عُمَرُ فَجَعَلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَ بِشَرِيفٍ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ حَتَّى أَعْجَزَ النَّاسَ , وَاتَّبَعَ الْمَجَالِسَ الَّتِي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ , ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : مَا عَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي , وَاللَّهِ مَا بَقِيَ مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ غَيْرَ هَايِبٍ وَلَا خَائِفٍ , فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى الظُّهْرَ مُعْلِنًا , ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الْأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ , ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ وَصَلَّى , ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
__________
(1) - حَدِيثِ خَيْثَمَةَ بْنِ سُليْمَانَ >> بَابُ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضَائِلِهِ >> برقم(66 ) وفيه جهالة
وفي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 211)
دروس وعبر وفوائد:
أ- حرص أبي بكر - رضي الله عنه - على إعلان الإسلام، وإظهاره أمام الكفار، وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته، وقد تحمل الأذى العظيم حتى إن قومه كانوا لا يشكون في موته.
ب- مدى الحب الذي كان يكنه أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إنه- وهو في تلك الحال الحرجة- يسأل عنه ويلح إلحاحًا عجيبًا في السؤال، ثم يحلف ألا يأكل ولا يشرب حتى يراه، كيف يتم ذلك وهو لا يستطيع النهوض بل المشي؟ ولكنه الحب في الله، والعزائم التي تقهر الصعاب، وكل مصاب في سبيل الله ومن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم هين ويسير.
ج- إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر.
د- الحس الأمني لأم جميل -رضي الله عنها- فقد برز في عدة تصرفات لعل من أهمها:
* إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار:
عندما سألت أم الخير أم جميل، عن مكان الرسول صلى الله عليه وسلم أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله، فهذا تصرف حذر سليم، إذ لم تكن أم الخير ساعتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن تكون عينًا لقريش(2).
* استغلال الموقف لإيصال المعلومة:
فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لأبي بكر - رضي الله عنه -، وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير إمعانًا في السرية والكتمان، فاستغلت الموقف لصالحها قائلة: «إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت»، وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء، وحسن التصرف، فقولها: «إن كنت تحبين» وهي أمه وقولها: «إلى ابنك» ولم تقل لها: إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: «نعم» وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها.
* استغلال الموقف في كسب عطف أم أبي بكر:
يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستغلت وضع أبي بكر - رضي الله عنه - الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبَّت من قام بهذا الفعل بقولها: «إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر» فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تكن شيئًا من الحب لأم جميل، وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير وثقتها، الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - .
* الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة:
لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر، من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير؛ لأنها ما زالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها أبو بكر - رضي الله عنه -، عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: «هذه أمك تسمع؟» فقال لها: لا شيء عليك منها، فأخبرته ساعتها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سالم صالح ، وزيادة في الحيطة والحذر والتكتم لم تخبره بمكانه، إلا بعد أن سألها عنه قائلا: أين هو؟ فأجابته في دار الأرقم.
* تخير الوقت المناسب لتنفيذ المهمة:
حين طلب أبو بكر - رضي الله عنه - الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما، فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء، حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات .
د- قانون المنحة بعد المحنة، حيث أسلمت أم الخير أم أبي بكر، بسبب رغبة الصديق في إدخال أمه إلى حظيرة الإسلام، وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لها، لما رأى من برها به، وقد كان - رضي الله عنه - حريصًا على هداية الناس الآخرين فكيف بأقرب الناس إليه .
هـ- إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نظرا لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه، فينبري الصديق مدافعًا عنه وفاديًا إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان .(3/337)
=================
إبتلاء المسلمين وخروج أبي بكر إلى الحبشة مهاجراً وقصته مع ابن الدغنة
عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ . وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ قَطُّ ، إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ، فَلَمَّا ابْتُلِىَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ - وَهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ - فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِى قَوْمِى فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِى الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّى . قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ . فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِى بَكْرٍ ، فَطَافَ فِى أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ ، وَلاَ يُخْرَجُ ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِى دَارِهِ ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا . قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِى بَكْرٍ ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِى دَارِهِ ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِى غَيْرِ دَارِهِ ، ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ ، وَبَرَزَ فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا لَهُ إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا ، فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِى بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ . قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِى عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَىَّ ذِمَّتِى ، فَإِنِّى لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّى أُخْفِرْتُ فِى رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنِّى أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ . وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ » . وَهُمَا الْحَرَّتَانِ ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِى » . قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِى أَنْتَ قَالَ « نَعَمْ » . فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ(3/338)
وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .(1)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَمَا حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ ( ابْنِ شِهَابٍ ) الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكّةُ وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَى ، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى ، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا ، حَتّى إذَا سَارَ مِنْ مَكّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَقِيَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ الْأَحَابِيشِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ ( بْنِ الزّبَيْرِ ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ فَقَالَ ابْنُ الدّغُنّةِ أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ قَالَ أَخْرَجَنِي قَوْمِي وَآذَوْنِي ، وَضَيّقُوا عَلَيّ قَالَ وَلِمَ ؟ فَوَاَللّهِ إنّك لَتَزِينُ الْعَشِيرَةَ وَتُعِينُ عَلَى النّوَائِبِ وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ارْجِعْ فَأَنْتَ فِي جِوَارِي . فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى إذَا دَخَلَ مَكّةَ ، قَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّي قَدْ أَجَرْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ ، فَلَا يَعْرِضَنّ لَهُ أَحَدٌ إلّا بِخَيْرِ . قَالَتْ فَكَفّوا عَنْهُ
قَالَتْ وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحٍ ، فَكَانَ يُصَلّي فِيهِ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا ، إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى . قَالَتْ فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنّسَاءُ يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ . قَالَتْ فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى ابْنِ الدّغُنّةِ فَقَالُوا ( لَهُ ) يَا ابْنَ الدّغُنّةِ إنّك لَمْ تُجِرْ هَذَا الرّجُلَ لِيُؤْذِيَنَا إنّهُ رَجُلٌ إذَا صَلّى وَقَرَأَ مَا جَاءَ بَهْ مُحَمّدٌ يَرِقّ وَيَبْكِي ، وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ فَنَحْنُ نَتَخَوّفُ عَلَى صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضَعَفَتِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ فَأْتِهِ فَمُرْهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ . قَالَتْ فَمَشَى ابْنُ الدّغُنّةِ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا بَكْر ٍ مَكَانَك الّذِي أَنْتَ فِيهِ وَتَأَذّوْا بِذَلِكَ مِنْك ، فَادْخُلْ بَيْتَك ، فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ قَالَ أَوَأَرُدّ عَلَيْك جِوَارَك وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللّهِ ؟ قَالَ فَارْدُدْ عَلَيّ جِوَارِي ، قَالَ قَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْك قَالَتْ فَقَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدّ عَلَيّ جِوَارِي فَشَأْنُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، قَالَ لَقِيَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى الْكَعْبَةِ ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا . قَالَ فَمَرّ بِأَبِي بَكْر ٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، أَوْ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ . قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْر ٍ أَلَا تَرَى إلَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السّفِيهُ ؟ قَالَ أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِك . قَالَ وَهُوَ يَقُولُ أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك (2)
==============
تحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشدائد
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2297 )
نخفر : ننقض العهد =المعدوم : الشىء المعدوم الذى لا يجدونه أو الفقير الذى صار كالمعدوم =يتقصف : يزدحم =تكسب : تعطى المال للفقير
(2) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 372) وهو صحيح وآخره صحيح مرسل(3/339)
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ أَيّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ ؟ فَقِيلَ لَهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ . قَالَ فَغَدَا عَلَيْهِ . قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : فَغَدَوْت أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلّ مَا رَأَيْتُ حَتّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْت : وَدَخَلْت فِي دِينِ مُحَمّدٍ ؟ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتّى قَامَ يَجُرّ رِدَاءَهُ وَاتّبَعَهُ عُمَرُ وَاتّبَعْت أَبِي ، حَتّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، أَلَا إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَدْ صَبَأَ . قَالَ ( و ) يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ كَذَبَ وَلَكِنّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . وَثَارُوا إلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتّى قَامَتْ الشّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ . قَالَ وَطَلِحَ فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنّا ثَلَاثَ مِئَةِ رَجُلٍ ( لَقَدْ ) تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا ، قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، عَلَيْهِ حُلّةٌ حِبْرَةٌ وَقَمِيصٌ مُوَشّى ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : صَبَا عُمَرُ فَقَالَ فَمَهْ رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا خَلّوا عَنْ الرّجُلِ . قَالَ فَوَاَللّهِ لَكَأَنّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ . قَالَ فَقُلْت لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ : يَا أَبَتْ مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك بِمَكّةَ يَوْمَ أَسْلَمْت ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَك ؟ فَقَالَ ذَاكَ أَيْ بُنَيّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ قَالَ يَا أَبَتْ مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك ( بِمَكّةَ ) يَوْمَ أَسْلَمْتَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَك ، جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا . قَالَ يَا بُنَيّ ذَاكَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ لَا جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بَعْضِ آلِ عُمَرَ أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ لَمّا أَسْلَمْتُ تِلْكَ اللّيْلَةَ تَذَكّرْت أَيّ أَهْلِ مَكّةَ أَشَدّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَدَاوَةً حَتّى آتِيَهُ فَأُخْبِرَهُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالَ قُلْت : أَبُو جَهْلٍ - وَكَانَ عُمَرُ لِحَنْتَمَةَ بِنْتِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ - قَالَ فَأَقْبَلْت حِينَ أَصْبَحْتُ حَتّى ضَرَبْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ . قَالَ فَخَرَجَ إلَيّ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ أُخْتِي ، مَا جَاءَ بِك ؟ قَالَ جِئْتُ لِأُخْبِرَك أَنّي قَدْ آمَنْت بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمّدٍ وَصَدّقْت بِمَا جَاءَ بِهِ قَالَ فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي وَقَالَ قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ مَا جِئْت بِهِ .(1)
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 348)صحيح(3/340)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ ؟ قِيلَ لَهُ : جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ ، قَالَ : فَغَدَا عَلَيْهِ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ أَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ ، وَأَنَا غُلَامٌ ، وَجَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ هُوَ جَدُّ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ بْنِ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ - أَعْقِلُ كُلَّمَا رَأَيْتُ ، حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : فَوَاللَّهِ ، مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ ، وَاتَّبَعْتُ أَبِي ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ - أَلَا إِنَّ عُمَرَ قَدْ صَبَا ، قَالَ : يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ : كَذَبَ ، وَلَكِنْ قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، قَالَ : وَثَارُوا إِلَيْهِ ، قَالَ : فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، قَالَ : وَطَلَحَ فَقَعَدَ ، وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ : افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ ، فَأَحْلِفُ أَنْ لَوْ كُنَّا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا ، قَالَ : فَبَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ حِبَرَةٌ وَقَمِيصٌ قُومِسُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : صَبَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : فَمَهْ ، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ ؟ هَكَذَا عَنِ الرَّجُلِ ، قَالَ : فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِفَ عَنْهُ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ : يَا أَبَتِ ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ ؟ قَالَ : ذَاكَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ . (1)
=================
__________
(1) - فضائل الصحابة لعبد الله برقم( 353 ) وهو صحيح(3/341)
تحمل عثمان بن عفان رضي الله عنه الشدائد
عن محمد بن إبراهيم التَيْمي قال: لما أسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً، وقال: أترغب عن ملَّة آبائك إلى دين مُحْدَث؟ والله لا أحلّك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين. فقال عثمان: والله لا أدعه أبداً ولا أُفارقه. فلما رأى الحَكَم صلابته في دينه تركه.(1)
==============
تحمل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الشدائد
عَنْ مَسْعُودِ بْنِ حِرَاشٍ ، قَالَ : " بَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِذَا نَاسٌ كَثِيرٌ يَتَّبِعُونَ إِنْسَانًا قَالَ : فَنَظَرْتُ فَإِذَا فَتًى شَابٌّ مُوثِقُ يَدَيْهِ فِي عُنُقِهِ " . فَقُلْتُ : مَا شَأْنُ هَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا : هَذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَدْ صَبَأَ . " وَإِذَا وَرَاءَهُ امْرَأَةٌ تَذْمُرُهُ وَتَسُبُّهُ " . قُلْتُ : " مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ ؟ " قَالُوا : هَذِهِ أُمُّهُ الصَّعْبَةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ طَلْحَةُ : فَأَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَرَنَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِيَحْبِسَهُ عَنِ الصَّلَاةِ وَيَرُدَّهُ عَنْ دِينِهِ وَحَرَزَ يَدَهُ وَيَدَ أَبِي بَكْرٍ فِي قِدٍّ فَلَمْ يَدَعْهُمْ إِلَّا وَهُوَ يُصَلِّي مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2)
و عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ : قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ : " حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ يَقُولُ : سَلُوا أَهْلَ هَذَا الْمَوْسِمِ أَفِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ قَالَ طَلْحَةُ : قُلْتُ : نَعَمْ , أَنَا . فَقَالَ : هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : وَمَنْ أَحْمَدُ ؟ قَالَ : ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ ، وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ ، مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ وَحَرَّةٍ وَسِبَاخٍ فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ . قَالَ طَلْحَةُ : فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ فَقُلْتُ : هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ , مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِينُ ، تَنَبَّأَ ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ قَالَ : فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ : أَتَبِعْتَ هَذَا الرَّجُلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ ، فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ ، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ ، فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ ، أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ ابْنِ الْعَدَوِيَّةِ ، فَشَدَّهُمَا فِي حَبَلٍ وَاحِدٍ ؛ وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ ، وَكَانَ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ يُدْعَى أَسَدَ قُرَيْشٍ ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ الْقَرِينَيْنِ(3)
================
تحمل الزبير بن العوام رضي الله عنه الشدائد
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَكَانَ عَمُّ الزُّبَيْرِ يُعَلِّقُ الزُّبَيْرَ فِي حَصِيرٍ ، وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ ، وَيَقُولُ : ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ : " لَا أَكْفُرُ أَبَدًا "(4)
__________
(1) - الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 3 / ص 55)ضعيف
(2) - تاريخ البخاري مدقق - (ج 3 / ص 388)برقم([ 1849 ] )
و جُزْءُ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ برقم(23 ) وهو حسن
(3) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ برقم(472 ) فيه ضعف وانقطاع
(4) - المستدرك برقم( 5559 ) صحيح مرسل(3/342)
و عن حَفْصَ بْنِ خَالِدٍ ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ ، قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمَوْصِلِ قَالَ : صَحِبْتُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَأَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ بِأَرْضٍ قَفْرٍ ، فَقَالَ : اسْتُرْنِي ، فَسَتَرْتُهُ ، فَحَانَتْ مِنِّي إِلَيْهِ الْتِفَاتَةٌ فَرَأَيْتُهُ مُجَذَّعًا بِالسُّيُوفِ ، قُلْتُ : وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِكَ آثَارًا مَا رَأَيْتُهَا بِأَحَدٍ قَطُّ ، قَالَ : وَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : " أَمَا وَاللَّهِ مَا مِنْهَا جِرَاحَةٌ إِلَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ "(1)
==============
أذى من أظهر إسلامه أولاً معه عليه السلام
عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الإسْلاَمَ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ وَخَبَّابٌ وَصُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَسُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ ، قَالَ : فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ عَمُّهُ , وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ وَأُخِذَ الآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ ، ثُمَّ صَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى بَلَغَ الْجُهْدُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ , فَأَعْطَوْهُمْ كُلَّ مَا سَأَلُوا , فَجَاءَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَوْمُهُ بِأَنْطَاعِ الأَدَمِ فِيهَا الْمَاءُ فَأَلْقَوْهُمْ فِيهِ ، ثُمَّ حُمِلُوا بِجَوَانِبِهِ إلاَّ بِلاَلٌ , فَجَعَلُوا فِي ، عَنْقِهِ حَبْلاً ، ثُمَّ أَمَرُوا صِبْيَانَهُمْ يَشْتَدُّونَ بِهِ بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ وَجَعَلَ يَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ.(2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةً رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِى طَالِبٍ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِى الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ إِنْسَانٌ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلاَّ بِلاَلٌ فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِى اللَّهِ وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ وَأَخَذُوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ.(3)
================
ما لقي بلال من الأذى في الله
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَبِلَالٌ ، وَخَبَّابٌ ، وَصُهَيْبٌ ، وَعَمَّارٌ ، وَسُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ . قَالَ : فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ عَمُّهُ ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ ، وَأُخِذَ الْآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ ، ثُمَّ صَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى بَلَغَ الْجَهْدُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ ، فَأَعْطَوْهُمْ مَا سَأَلُوا ، فَجَاءَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَوْمَهُ بِأَنْطَاعِ الْأُدْمِ فِيهَا الْمَاءُ فَأَلْقَوْهُمْ فِيهِ ، وَحَمَلُوا بِجَوَانِبِهِ إِلَّا بِلَالًا ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ جَاء أَبُو جَهْلٍ فَجَعَلَ يَشْتِمُ سُمَيَّةَ وَيَرْفُثُ ، ثُمَّ طَعَنَهَا فَقَتَلَهَا ، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ اسْتُشْهِدَ فِي الْإِسْلَامِ ، إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ حَتَّى مَلُّوهُ ، فَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلًا ، ثُمَّ أَمَرُوا صِبْيَانَهُمْ أَنْ يَشْتَدُّوا بِهِ بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ ، فَجَعَلَ بِلَالٌ يَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ " (4)
و عن عُروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: كان بلال لجارية من بني جُمَح، وكانوا يعذبونه برَمْضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء لكي يشرك، فقول: أُحد أُحد، فيمر به وَرَقَة ــــ وهو على تلك الحال ــــ فيقول: أُحد، أُحد، يا بلال. والله، لئن قتلتموه لأتخذنَّه حناناً،(5)
__________
(1) - الحلية برقم( 278 ) فيه جهالة
(2) - مصنف ابن أبي شيبة برقم(32328) صحيح مرسل
(3) - مسند أحمد برقم(3909)صحيح لغيره
(4) - ابن سعد برقم( 3373 ) صحيح مرسل
(5) - أخرجه الزبير بن بكار وهذا مرسل جيد الإصابة في معرفة الصحابة - (ج 3 / ص 244)(3/343)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ ، وَهُوَ يَقُولُ : أَحَدٌ ، أَحَدٌ ، فَيَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ اللَّهُ يَا بِلَالُ ، ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلَالٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ ، فَيَقُولُ : أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَاتَّخَذْتُهُ حَنَانًا ، حَتَّى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ يَوْمًا ، وَهُمْ يَصْنَعُونَ بِهِ ذَلِكَ ، وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحَ ، فَقَالَ لِأُمَيَّةَ : أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ ، حَتَّى مَتَى ؟ قَالَ : أَنْتَ أَفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَفْعَلُ ، عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ ، أُعْطِيكَهُ بِهِ ، قَالَ : قَدْ قَبِلْتُ ، قَالَ : هُوَ لَكَ . فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلَامَهُ ذَلِكَ ، وَأَخَذَ بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَّ رِقَابٍ - بِلَالٌ سَابِعُهُمْ - عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا ، وَأُمَّ عُبَيْسٍ ، وَزِنَّيْرَةَ ، فَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا أَذْهَبْ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى ، فَقَالَتْ : حُرِقُوا ، وَبَيْتِ اللَّهِ مَا يَضُرُّ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَا يَنْفَعَانِ ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهَا بَصَرَهَا ، وَأَعْتَقَ النَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا ، وَكَانَتَا لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، فَمَرَّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا سَيِّدَتُهُمَا تَطْحَنَانِ لَهَا ، وَهِيَ تَقُولُ : وَاللَّهِ لَا أَعْتِقُكُمَا أَبَدًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : حِلًّا يَا أُمَّ فُلَانٍ ، قَالَتْ : حِلًّا ، أَنْتَ أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا ، قَالَ : فَبِكَمْ هُمَا ؟ قَالَتْ : بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ : قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرَّتَانِ ، أَرْجِعَا إِلَيْهَا طَحِينَهَا ، قَالَتَا : أَوَنَفْرُغَ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، ثُمَّ نَرُدُّهُ عَلَيْهَا ؟ قَالَ : أَوَذَاكَ إِنْ شِئْتُمَا . وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمَّلٍ ، حَيٍّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَذِّبُهَا لَتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ ، وَهُوَ يَضْرِبُهَا حَتَّى إِذَا مَلَّ قَالَ : إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكِ ، إِنِّي لَمْ أَتْرُكْكِ إِلَّا مَلَالَةً ، فَعَلَ اللَّهُ بِكِ ، فَتَقُولُ كَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ، فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَهُوَ يَذْكُرُ بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ ، وَإِعْتَاقَ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهُمْ ، وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا :
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا عَنْ بِلَالٍ وَصَحْبِهِ عَتِيقًا وَأَخْزَى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلِ
عَشِيَّةَ هُمَا فِي بِلَالٍ بِسَوْءَةٍ وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذَرُ الْمَرْءُ ذُو الْعَقْلِ
بِتَوْحِيدِهِ رَبَّ الْأَنَامِ وَقَوْلِهِ شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي عَلَى مَهْلِ
فَإِنْ يَقْتُلُونِي يَقْتُلُونِي وَلَمْ أَكُنْ لِأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْلِ
فَيَا رَبَّ إِبْرَاهِيمَ وَالْعَبْدِ يُونُسَ وَمُوسَى وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لَا تُمْلِ
لِمَنْ ظَلَّ يَهْوَى الْغَيَّ مِنْ آلِ غَالِبٍ عَلَى غَيْرِ بِرٍّ كَانَ مِنْهُ وَلَا عَدْلِ(1)
__________
(1) - فَضَائِلُ الصِّحَابَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ برقم(83 )صحيح مرسل(3/344)
و عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَهُوَ يَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ ، فَيَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ ، اللَّهَ يَا بِلَالُ ، ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَهُوَ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلَالٍ فَيَقُولُ : أَحْلِفُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا ، حَتَّى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَوْمًا وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَقَالَ لِأُمَيَّةَ : أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ ، حَتَّى مَتَى ؟ قَالَ : أَنْتَ أَفْسَدْتَهُ ، فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَفْعَلُ ، عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَهُ بِهِ ، قَالَ : قَدْ قَبِلْتُ ، قَالَ : هُوَ لَكَ ، فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلَامَ ذَلِكَ وَأَخَذَ بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَّ رِقَابٍ ، بِلَالٌ سَابِعُهُمْ " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : " وَكَانَ بِلَالٌ مُولَى أَبِي بَكْرٍ لِبَعْضِ بَنِي جُمَحَ ، مُوَلِّدًا مِنْ مُوَلِّدِيهِمْ ، وَهُوَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ ، كَانَ اسْمَ أُمِّهِ حَمَامَةُ ، وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ طَاهِرَ الْقَلْبِ ، فَكَانَ أُمَيَّةُ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ ، أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَعْبُدَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ : أَحَدٌ أَحَدٌ "(1)
=================
__________
(1) - الحلية برقم( 482 ) صحيح مرسل(3/345)
تحمل عمّار بن ياسر وأهل بيته رضي الله عنهم الشدائد
عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَهْلِهِ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَقَالَ : " أَبْشِرُوا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ "(1)
و عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : كَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ أَهْلَ بَيْتِ إِسْلامٍ ، وَكَانَ بَنُو مَخْزُومٍ يُعَذِّبُونَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ(2)
و عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ قَالَ دَعَا عُثْمَانُ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَقَالَ إِنِّى سَائِلُكُمْ وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ تَصْدُقُونِى نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُؤْثِرُ قُرَيْشاً عَلَى سَائِرِ النَّاسِ وَيُؤْثِرُ بَنِى هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ. فَسَكَتَ الْقَوْمُ فَقَالَ عُثْمَانُ لَوْ أَنَّ بِيَدِى مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ لأَعْطَيْتُهَا بَنِى أُمَيَّةَ حَتَّى يَدْخُلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. فَبَعَثَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَقَالَ عُثْمَانُ أَلاَ أُحَدِّثُكُمَا عَنْهُ - يَعْنِى عَمَّاراً - أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آخِذاً بِيَدِى نَتَمَشَّى فِى الْبَطْحَاءِ حَتَّى أَتَى عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَيْهِ يُعَذَّبُونَ فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ الدَّهْرَ هَكَذَا فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « اصْبِرْ ». ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لآلِ يَاسِرٍ وَقَدْ فَعَلْتَ ».(3)
==============
سمية أم عمّار أول شهيد في الإِسلام
عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : " أَوَّلُ شَهِيدٍ اسْتُشْهِدَ فِي الْإِسْلَامِ أُمُّ عَمَّارٍ , طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بِحَرْبَةٍ فِي قُبُلِهَا " (4)
===============
إشتداد الأذى على عمَّار حتى أكره على قول الكفر وقلبه مطمئن بالإِيمان
عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى نَالَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا وَرَاءَكَ ؟ " ، قَالَ : شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاللَّهِ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ : " فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟ " ، قَالَ : مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، قَالَ : " فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ " (5)
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني برقم(1566) حديث صحيح
(2) - المستدرك للحاكم برقم(5644) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 3 / ص 253) صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد برقم(447)فيه انقطاع
وفي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 221)
لم يكن في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم شيئًا لآل ياسر، رموز الفداء والتضحية، فليسوا بأرقاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكل ما يستطيعه صلى الله عليه وسلم أن يزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة، ويحثهم على الصبر، لتصبح هذه الأسرة المباركة قدوة للأجيال المتلاحقة، ويشهد الموكب المستمر على مدار التاريخ هذه الظاهرة «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة».
أما عمار - رضي الله عنه - فقد عاش بعد أهله زمنًا يكابد من صنوف العذاب ألوانًا، فهو يصنف في طائفة المستضعفين الذين لا عشائر لهم بمكة تحميهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بمكة أنصاف النهار، ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول ، ولما أخذه المشركون ليعذبوه لم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شر، والله ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنًا بالإيمان، قال: «فإن عادوا فعد»، ونزل الوحي بشهادة الله تعالى على صدق إيمان عمار، قال تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [النحل: 106] وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حادثتي بلال وعمار فقه عظيم يتراوح بين العزيمة والرخصة، يحتاج من الدعاة أن يستوعبوه، ويضعوه في إطاره الصحيح، وفي معاييره الدقيقة دون إفراط أوتفريط.
(4) - ابن أبي شيبة برقم ( 35119 ) صحيح مرسل
(5) - ابن سعد برقم(3426 ) صحيح لغيره(3/346)
و عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ ، قَالَ : أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " مَا وَرَاءَكَ ؟ " قَالَ : شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نُلْتُ مِنْكَ ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟ (1)
و عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : " أَحْرَقَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ بِالنَّارِ ، قَالَ : فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَقُولُ : " يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " (2)
================
تحمل خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه الشدائد
عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : دَخَلَ خَبَّابٌ بن الْأَرَتَ عَلَى عُمَرَ بِنِ الْخَطَّابِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مُتَّكَئِهِ وَقَالَ : " مَا عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ " ، قَالَ لَهُ خَبَّابٌ : مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : " بِلَالٌ " قَالَ : فَقَالَ لَهُ خَبَّابٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَا هُوَ بِأَحَقِّ مِنِّي ، إِنَّ بِلَالًا كَانَ لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمْنَعُهُ اللَّهُ بِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا أَخَذُونِي وَأَوْقَدُوا لِي نَارًا ، ثُمَّ سَلَقُونِي فِيهَا ، ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي ، فَمَا اتَّقَيْتُ الْأَرْضَ ، أَوْ قَالَ : بَرْدَ الْأَرْضِ إِلَّا بِظَهْرِي ، قَالَ : ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرِصَ " .(3)
و عَنْ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ قَالَ : " جَاءَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ : ادْنُهْ ، فَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْكَ إِلَّا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَجَعَلَ خَبَّابٌ يُرِيهُ آثَارًا فِي ظَهْرِهِ مِمَّا عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ ".(4)
و عَنْ مَسْرُوقٍ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ كُنْتُ رَجُلاً قَيْنًا فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَاجْتَمَعَ لِى عِنْدَهُ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ . فَقُلْتُ أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلاَ . قَالَ وَإِنِّى لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِى ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأَقْضِيكَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا )(5)
و عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ أَعُودُهُ وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ ، قَالَ : فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ " ، لَأَلْفَانِي قَدْ تَمَنَّيْتُهُ ، وَقَدْ أُتِيَ بِكَفَنِهِ قَبَاطِيُّ ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ : لَكِنَّ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ ، فَإِذَا مُدَّتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ ، وَإِذَا مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ قَلَصَتْ عَنْ قَدَمَيْهِ ، حَتَّى جُعِلَ عَلَيْهِ إِذْخِرٌ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَمْلِكُ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّ فِي نَاحِيَةِ بَيْتِي فِي تَابُوتِي لَأَرْبَعِينَ أَلْفٍ وَافٍ ، وَلَقَدْ خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا "(6)
__________
(1) - الحلية برقم (449 ) صحيح لغيره
(2) - ابن سعد برقم(3421)حسن مرسل
(3) - الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 3 / ص 165) برقم( 3085 ) حسن مرسل
(4) - الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 3 / ص 165) برقم(3084 ) حسن
(5) - صحيح البخارى برقم(2275 ) القين : الحداد والصائغ
(6) - ابن سعد برقم( 3088 ) وهو صحيح(3/347)
و عن بَيَانِ وَإِسْمَاعِيلَ قَالاَ سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً ، وَهْوَ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهْوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ « لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ » . (1)
=================
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3852 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 171)
قَالَ اِبْن التِّين : كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فُعِلَ بِهِمْ ذَلِكَ أَنْبِيَاء أَوْ أَتْبَاعهمْ ، قَالَ : وَكَانَ فِي الصَّحَابَة مَنْ لَوْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ لَصَبَرَ ، إِلَى أَنْ قَالَ : وَمَا زَالَ خَلْق مِنْ الصَّحَابَة وَأَتْبَاعهمْ فَمَنْ بَعْدهمْ يُؤْذَوْنَ فِي اللَّه ، وَلَوْ أَخَذُوا بِالرُّخْصَةِ لَسَاغَ لَهُمْ .
قَوْله : ( وَلَيُتِمَّنَّ اللَّه هَذَا الْأَمْر )بِالنَّصْبِ ، وَفِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة " وَاَللَّه لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْر " بِالرَّفْعِ ، وَالْمُرَاد بِالْأَمْرِ الْإِسْلَام .(3/348)
تحمل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الشدائد
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأَخِيهِ ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِى ، فَاعْلَمْ لِى عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ ، يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ، ثُمَّ ائْتِنِى . فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِى ذَرٍّ ، فَقَالَ لَهُ رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ ، وَكَلاَمًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ . فَقَالَ مَا شَفَيْتَنِى مِمَّا أَرَدْتُ ، فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ ، فَالْتَمَسَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ يَعْرِفُهُ ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ ، فَرَآهُ عَلِىٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ . فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَىْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ ، وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلاَ يَرَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَمْسَى ، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ ، فَمَرَّ بِهِ عَلِىٌّ فَقَالَ أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ فَأَقَامَهُ ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَىْءٍ ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الثَّالِثِ ، فَعَادَ عَلِىٌّ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُحَدِّثُنِى مَا الَّذِى أَقْدَمَكَ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتَنِى عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنَّنِى فَعَلْتُ فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ . قَالَ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِى ، فَإِنِّى إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّى أُرِيقُ الْمَاءَ ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِى حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِى . فَفَعَلَ ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَخَلَ مَعَهُ ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ، وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِى » . قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ ، وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ قَالَ وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ لِمِثْلِهَا ، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ . (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (3861 ) ومسلم برقم (6516 )(3/349)
و عن أبي جَمْرَةَ قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسِ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِإِسْلاَمِ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْنَا بَلَى . قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ كُنْتُ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ ، فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ ، فَقُلْتُ لأَخِى انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَأْتِنِى بِخَبَرِهِ . فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقُلْتُ مَا عِنْدَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ . فَقُلْتُ لَهُ لَمْ تَشْفِنِى مِنَ الْخَبَرِ . فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لاَ أَعْرِفُهُ ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِى الْمَسْجِدِ . قَالَ فَمَرَّ بِى عَلِىٌّ فَقَالَ كَأَنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ . قَالَ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ . قَالَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُنِى عَنْ شَىْءٍ ، وَلاَ أُخْبِرُهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ لأَسْأَلَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُخْبِرُنِى عَنْهُ بِشَىْءٍ . قَالَ فَمَرَّ بِى عَلِىٌّ فَقَالَ أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ انْطَلِقْ مَعِى . قَالَ فَقَالَ مَا أَمْرُكَ وَمَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ قَالَ قُلْتُ لَهُ إِنْ كَتَمْتَ عَلَىَّ أَخْبَرْتُكَ . قَالَ فَإِنِّى أَفْعَلُ . قَالَ قُلْتُ لَهُ بَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ ، فَأَرْسَلْتُ أَخِى لِيُكَلِّمَهُ فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْفِنِى مِنَ الْخَبَرِ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَلْقَاهُ . فَقَالَ لَهُ أَمَا إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ ، هَذَا وَجْهِى إِلَيْهِ ، فَاتَّبِعْنِى ، ادْخُلْ حَيْثُ أَدْخُلُ ، فَإِنِّى إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا أَخَافُهُ عَلَيْكَ ، قُمْتُ إِلَى الْحَائِطِ ، كَأَنِّى أُصْلِحُ نَعْلِى ، وَامْضِ أَنْتَ ، فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ ، حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ لَهُ اعْرِضْ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ . فَعَرَضَهُ فَأَسْلَمْتُ مَكَانِى ، فَقَالَ لِى « يَا أَبَا ذَرٍّ اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ ، وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ » . فَقُلْتُ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ . فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، وَقُرَيْشٌ فِيهِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إِنِّى أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . فَقَالُوا قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ . فَقَامُوا فَضُرِبْتُ لأَمُوتَ فَأَدْرَكَنِى الْعَبَّاسُ ، فَأَكَبَّ عَلَىَّ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارَ ، وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ . فَأَقْلَعُوا عَنِّى ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ ، فَقَالُوا قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ . فَصُنِعَ { بِى } مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالأَمْسِ وَأَدْرَكَنِى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَىَّ ، وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ بِالأَمْسِ . قَالَ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلاَمِ أَبِى ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ . (1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3522 )(3/350)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِى أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا فَنَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ فَقَالُوا إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا عَلَيْنَا الَّذِى قِيلَ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ وَلاَ جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ. فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ فَجَعَلَ يَبْكِى فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا فَأَتَيَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَانَا أُنَيْسٌ بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا - قَالَ - وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابْنَ أَخِى قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِثَلاَثِ سِنِينَ. قُلْتُ لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ. قُلْتُ فَأَيْنَ تَوَجَّهُ قَالَ أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِى رَبِّى أُصَلِّى عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّى خِفَاءٌ حَتَّى تَعْلُوَنِى الشَّمْسُ. فَقَالَ أُنَيْسٌ إِنَّ لِى حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِى. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ عَلَىَّ ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ مَا صَنَعْتَ قَالَ لَقِيتُ رَجُلاً بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ.
قُلْتُ فَمَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. قَالَ أُنَيْسٌ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِى أَنَّهُ شِعْرٌ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ قُلْتُ فَاكْفِنِى حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ. قَالَ فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَتَضَعَّفْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ فَقُلْتُ أَيْنَ هَذَا الَّذِى تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ فَأَشَارَ إِلَىَّ فَقَالَ الصَّابِئَ. فَمَالَ عَلَىَّ أَهْلُ الْوَادِى بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَىَّ - قَالَ - فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّى نُصُبٌ أَحْمَرُ - قَالَ - فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنِّى الدِّمَاءَ وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَا ابْنَ أَخِى ثَلاَثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ مَا كَانَ لِى طَعَامٌ إِلاَّ مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِى وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِى سُخْفَةَ جُوعٍ - قَالَ - فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِى لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانَ إِذْ ضُرِبَ عَلَى أَسْمِخَتِهِمْ فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ وَامْرَأَتَيْنِ مِنْهُمْ تَدْعُوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ - قَالَ - فَأَتَتَا عَلَىَّ فِى طَوَافِهِمَا فَقُلْتُ أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الأُخْرَى - قَالَ - فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا - قَالَ - فَأَتَتَا عَلَىَّ فَقُلْتُ هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ غَيْرَ أَنِّى لاَ أَكْنِى. فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلاَنِ وَتَقُولاَنِ لَوْ كَانَ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا. قَالَ فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا هَابِطَانِ قَالَ « مَا لَكُمَا ». قَالَتَا الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا قَالَ « مَا قَالَ لَكُمَا ». قَالَتَا إِنَّهُ قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلأُ الْفَمَ.(3/351)
وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ ثُمَّ صَلَّى فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ أَبُو ذَرٍّ. فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلاَمِ - قَالَ - فَقُلْتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ». ثُمَّ قَالَ « مَنْ أَنْتَ ». قَالَ قُلْتُ مِنْ غِفَارٍ - قَالَ - فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ فَقُلْتُ فِى نَفْسِى كَرِهَ أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ. فَذَهَبْتُ آخُذُ بِيَدِهِ فَقَدَعَنِى صَاحِبُهُ وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّى ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ « مَتَى كُنْتَ هَا هُنَا ». قَالَ قُلْتُ قَدْ كُنْتُ هَا هُنَا مُنْذُ ثَلاَثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ قَالَ « فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ ». قَالَ قُلْتُ مَا كَانَ لِى طَعَامٌ إِلاَّ مَاءُ زَمْزَمَ . فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِى وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِى سُخْفَةَ جُوعٍ قَالَ « إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى فِى طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ. فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا فَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا ثُمَّ غَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِى أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ لاَ أُرَاهَا إِلاَّ يَثْرِبَ فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّى قَوْمَكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ ». فَأَتَيْتُ أُنَيْسًا فَقَالَ مَا صَنَعْتَ قُلْتُ صَنَعْتُ أَنِّى قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. قَالَ مَا بِى رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ فَإِنِّى قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَأَتَيْنَا أُمَّنَا فَقَالَتْ مَا بِى رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا فَإِنِّى قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِىُّ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ. وَقَالَ نِصْفُهُمْ إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ أَسْلَمْنَا. فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمُ الْبَاقِى وَجَاءَتْ أَسْلَمُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِخْوَتُنَا نُسْلِمُ عَلَى الَّذِى أَسْلَمُوا عَلَيْهِ. فَأَسْلَمُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ ».(1)
و عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : " أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَعَلَّمَنِي الْإِسْلَامَ ، وَقَرَأْتُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ دِينِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ " ، قُلْتُ : لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ قُتِلْتَ ، قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي ، فَجِئْتُ وَقُرَيْشٌ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَانْتَفَضَتِ الْخَلْقُ فَقَامُوا فَضَرَبُونِي ، حَتَّى تَرَكُونِي كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُونِي ، فَأَفَقْتُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى مَا بِي مِنَ الْحَالِ ، فَقَالَ لِي : أَلَمْ أَنْهَكَ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِي فَقَضَيْتُهَا ، فَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " الْحَقْ بِقَوْمِكَ ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورِي فَأْتِنِي "(2)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(6513 )
الخفاء : الكساء وكل ما غطيت به شيئا =راث : أبطأ =الأسمخة : جمع السماخ وهو ثقب الأذن الذى يدخل فيه الصوت والمعنى أنهم ناموا =الصرمة : القطعة الواحدة من الإبل =الإضحيان : المضيئة المنيرة =تضعفت : اخترت رجلا ضعيفا =غبر : بقى =قدع : كف ومنع =نثا : أشاع وأفشى =النصب : حجر كانوا ينصبونه فى الجاهلية ويتخذونه صنما فيعبدونه والجمع أنصاب =نافر : تفاخر فى الشعر ثم تحاكم ومن معه إلى غيرهما
(2) - الحلية برقم( 513 ) حسن(3/352)
و عَن أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : كَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ : أُنَيْسٌ ، وَكَانَ شَاعِرًا ، فَذَكَرَ إِسْلَامَهُ ، وَقَالَ فِيهِ : إِذْ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي وَرَاءَهُ ، فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " قَالَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ فِيهِ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا طَعَامٌ ، وَشَرَابٌ ، وَإِنَّهَا مُبَارَكَةٌ " ، قَالَهَا ثَلَاثًا وَزَادَ : فَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَعَلَّمَنِي الْإِسْلَامَ ، وَقَرَأْتُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ دِينِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ " قُلْتُ : لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ قُتِلْتُ ، قَالَ : " إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ " قَالَ : لَا بُدَّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنْ قُتِلْتُ ، قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي ، فَجِئْتُ وَقُرَيْشٌ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَتَنَقَّضْتُ الْحِلَقَ فَقَامُوا فَضَرَبُونِي حَتَّى تَرَكُونِي كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُونِي ، فَأَفَقْتُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى مَا بِي مِنَ الْحَالِ ، فَقَالَ لِي : " أَلَمْ أَنْهَكَ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِي فَقَضَيْتُهَا ، فَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " الْحَقْ بِقَوْمِكَ ، فَإِذَا بَلَغَ ظُهُورِي فَأْتِنِي(1)
__________
(1) - معرفة الصحابة برقم( 1479) صحيح(3/353)
و عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : كَانَ لِي أَخٌ يُقَالَ لَهُ أُنَيْسٌ وَكَانَ شَاعِرًا فَتَنَافَرَ هُوَ وشَاعِرٌ آخَرُ ، فَقَالَ أُنَيْسٌ : أَنَا أَشْعَرُ مِنْكَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَا أَشْعَرُ ، قَالَ أُنَيْسٌ : فَمَنْ تَرْضَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا ؟ قَالَ : أَرْضَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا كَاهِنُ مَكَّةَ قَالَ : نَعَمْ ، فَخَرَجَا إِلَى مَكَّةَ ، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ الْكَاهِنِ ، فَأَنْشَدَهُ هَذَا كَلَامَهُ ، وَهَذَا كَلَامَهُ فَقَالَ لِأُنَيْسٍ : قَضَيْتَ لِنَفْسِكَ ، فَكَأَنَّهُ فَضَّلَ شِعْرَ أُنَيْسٍ ، فَقَالَ : يَا أَخِي ، بِمَكَّةَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، وَهُوَ عَلَى دِينِكَ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ : وَمَا كَانَ دِينُكَ ؟ قَالَ : رَغِبَتُ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِي الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ ، فَقُلْتُ : أَيَّ شَيْءٍ كُنْتَ تَعْبُدُ ؟ قَالَ : لَا شَيْءَ ، كُنْتُ أُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَسْقُطَ كَأَنِّي خِفَاءٌ ، حَتَّى يُوقِظَنِي حَرُّ الشَّمْسِ ، فَقُلْتُ : أَيْنَ كُنْتَ تُوَجِّهُ وَجْهَكَ ؟ قَالَ : حَيْثُ وَجَّهَنِيَ رَبِّي ، فَقَالَ : لِي أُنَيْسٌ : وَقَدْ سَئِمُوهُ ، يَعْنِي : كَرِهُوهُ ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ : فَجِئْتُ حَتَّى دَخَلْتُ مَكَّةَ ، فَكُنْتُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَيَوْمًا أَخْرُجُ كُلَّ لَيْلَةٍ فَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ، فَمَا وَجَدْتِ عَلَى كَبِدِي سَحْقَةَ جُوعٍ ، وَلَقَدْ تَعَكَّنَ بَطْنِي ، فَجَعَلَتِ امْرَأَتَانِ تَدْعُوَانِ لَيْلَةً آلِهَتَهُمَا ، وَتَقُولُ إِحْدَاهُمَا : يَا إِسَافُ ، هَبْ لِي غُلَامًا ، وَتَقُولُ الْأُخْرَى : يَا نَائِلُ ، هَبْ لِي كَذَا وَكَذَا . فَقُلْتُ : هُنَّ بِهِنَّ ، فَوَلَّتَا وجَعَلَتَا تَقُولَانِ : الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا ، إِذْ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي وَرَاءَهُ ، فَقَالَتَا : الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامٍ قَبَّحَ مَا قَالَتَا ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ : فَظَنَنْتُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " ، ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ لِي : " مُنْذُ كَمْ أَنْتَ هَاهُنَا ؟ " قُلْتُ : مُنْذُ خَمْسَ عَشْرَةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَالَ : " فَمِنْ أَيْنَ كُنْتَ تَأْكُلُ ؟ " قَالَ : كُنْتُ آتِي زَمْزَمَ كُلَّ لَيْلَةٍ نِصْفَ اللَّيْلِ ، فَأَشْرَبُ مِنْهَا شَرْبَةً ، فَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَحْقَةَ جُوعٍ ، وَلَقَدْ تَعَكَّنَ بَطْنِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا طُعْمٌ وَشِرْبٌ ، وَهِيَ مُبَارَكَةٌ " ، قَالَهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِمَّنْ أَنْتَ ؟ " فَقُلْتُ : مِنْ غِفَارٍ قَالَ : وَكَانَتْ غِفَارٌ يَقْطَعُونَ عَلَى الْحَاجِّ ، وَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَبَضَ عَنِّي ، فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : " انْطَلِقْ بِنَا يَا أَبَا بَكْرٍ " فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي بَكْرٍ ، فَقَرَّبَ لَنَا زَبِيبًا ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ، وَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَنِي الْإِسْلَامَ ، وَقَرَأْتُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ دِينِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ " ، قُلْتُ : لَا بُدَّ مِنْهُ . قَالَ : " إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ " ، قُلْتُ : لَا بُدَّ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنْ قُتِلْتُ ، فَسَكَتَ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقُرَيْشٌ حِلَقٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَتَنَفَّضَتِ الْحِلَقُ ، فَقَامُوا إِلَيَّ ، فَضَرَبُونِي حَتَّى تَرَكُونِي كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُونِي ، فَقُمْتُ ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَأَى مَا بِي مِنَ الْحَالِ ، فَقَالَ لِي : " أَلَمْ أَنْهَكَ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِي فَقَضَيْتُهَا . فَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لِي : " الْحَقْ بِقَوْمِكَ ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورِي فَأْتِنِي " ، فَجِئْتُ وَقَدْ(3/354)
أَبْطَأْتُ عَلَيْهِمْ ، فَلَقِيتُ أُنَيْسًا ، فَبَكَى ، وَقَالَ : يَا أَخِي ، مَا كُنْتُ أَرَاكَ إِلَّا قَدْ قُتِلْتَ لَمَّا أَبْطَأْتَ عَلَيْنَا ، مَا صَنَعْتَ ؟ أَلَقِيتَ صَاحِبَكَ الَّذِي طَلَبْتَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ أُنَيْسٌ : يَا أَخِي ، مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهَ ، ثُمَّ أَتَيْتُ أُمِّي ، فَلَمَّا رَأَتْنِي بَكَتْ ، وَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ ، أَبْطَأْتَ عَلَيْنَا ، حَتَّى تَخَوَّفْتُ أَنْ قَدْ قُتِلْتَ ، مَا صَنَعْتَ ؟ ، أَلَقِيتَ صَاحِبَكَ الَّذِي طَلَبْتَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَتْ : فَمَا صَنَعَ أُنَيْسٌ ؟ قُلْتُ : أَسْلَمَ ، فَقَالَتْ : وَمَا بِي عَنْكُمَا رَغْبَةٌ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَأَقَمْتُ فِي قَوْمِي ، فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ ، حَتَّى بَلَغَنَا ظُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَيْتُهُ(1)
================
تحمل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة أخت عمر رضي الله عنهما الشدائد
َعنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِى مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِى عَلَى الإِسْلاَمِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ ، وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا ارْفَضَّ لِلَّذِى صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ { مَحْقُوقًا أَنْ يَرْفَضَّ } .(2)
و عن قَيْسَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ لِلْقَوْمِ لَوْ رَأَيْتُنِى مُوثِقِى عُمَرُ عَلَى الإِسْلاَمِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ ، وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ ، بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ . (3)
__________
(1) - الطبراني في الأوسط برقم( 2871 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى برقم(3862 ) -ارفض : زال من مكانه
فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 184)
قَوْله : ( لَقَدْ رَأَيْتُنِي ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاة ، وَالْمَعْنَى رَأَيْت نَفْسِي
( وَإِنَّ عُمَر لَمُوثِقِي عَلَى الْإِسْلَام ) أَيْ رَبَطَهُ بِسَبَبِ إِسْلَامه إِهَانَة لَهُ وَإِلْزَامًا بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِسْلَام . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ فِي مَعْنَاهُ : كَانَ يُثَبِّتنِي عَلَى الْإِسْلَام وَيُسَدِّدنِي ، كَذَا قَالَ ، وَكَأَنَّهُ ذَهَلَ عَنْ قَوْله هُنَا " قَبْل أَنْ يُسْلِم " ، فَإِنَّ وُقُوع التَّثْبِيت مِنْهُ وَهُوَ كَافِر لِضَمْرِهِ عَلَى الْإِسْلَام بَعِيد جِدًّا ، مَعَ أَنَّهُ خِلَاف الْوَاقِع ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَاب الْإِكْرَاه " بَاب مَنْ اِخْتَارَ الضَّرْب وَالْقَتْل وَالْهَوَان عَلَى الْكُفْر " وَكَأَنَّ السَّبَب فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ زَوْج فَاطِمَة بِنْت الْخَطَّاب أُخْت عُمَر ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي آخِر بَاب إِسْلَام عُمَر " رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَر عَلَى الْإِسْلَام أَنَا وَأُخْته " وَكَانَ إِسْلَام عُمَر مُتَأَخِّرًا عَنْ إِسْلَام أُخْته وَزَوْجهَا ، لِأَنَّ أَوَّل الْبَاعِث لَهُ عَلَى دُخُوله فِي الْإِسْلَام مَا سَمِعَ فِي بَيْتهَا مِنْ الْقُرْآن فِي قِصَّة طَوِيلَة ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْره .
قَوْله : ( وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا اِرْفَضَّ ) أَيْ زَالَ مِنْ مَكَانه ، فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة " اِنْقَضَّ " بِالنُّونِ وَالْقَاف بَدَل الرَّاء وَالْفَاء أَيْ سَقَطَ ، وَزَعَمَ اِبْن التِّين أَنَّهُ أَرْجَح الرِّوَايَات ، وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ بِالنُّونِ وَالْفَاء وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّل .
قَوْله : ( لَكَانَ ) فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة " لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضّ " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " لَكَانَ حَقِيقًا " أَيْ وَاجِبًا تَقُول حَقّ عَلَيْك أَنْ تَفْعَل كَذَا وَأَنْتَ حَقِيق أَنْ تَفْعَلهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ سَعِيد لِعَظْمِ قَتْل عُثْمَان ، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْله تَعَالَى : ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) قَالَ اِبْن التِّين : قَالَ سَعِيد ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل ، وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : مَعْنَاهُ لَوْ تَحَرَّكَتْ الْقَبَائِل وَطَلَبَتْ بِثَأْرِ عُثْمَان لَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَهَذَا بَعِيد مِنْ التَّأْوِيل .
(3) - صحيح البخارى برقم(3867 ) -انقض : زال من مكانه(3/355)
و عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : " قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَتُحِبُّونَ أَنْ أُعْلِمَكُمْ كَيْفَ كَانَ إِسْلَامِي ؟ قَالَ : قُلْنَا : نَعَمْ , قَالَ : كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَبَيْنَا أَنَا فِي يَوْمٍ حَارٍّ شَدِيدِ الْحَرِّ بِالْهَاجِرَةِ فِي بَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ ، إِذْ لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْتُ : أُرِيدُ الَّتِي وَالَّتِي وَالَّتِي قَالَ : عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ فِي بَيْتِكَ . قَالَ : قُلْتُ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : أُخْتُكَ قَدْ أَسْلَمَتْ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ مُغْضَبًا حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ مِمَّنْ لَا شَيْءَ لَهُ ضَمَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي فِي يَدِهِ السَّعَةِ ، فَيَنَالَاهُ مِنْ فَضْلِ طَعَامِهِ ، وَقَدْ كَانَ ضَمَّ إِلَى زَوْجِ أُخْتِي رَجُلَيْنِ ، فَلَمَّا قَرَعْتُ الْبَابَ قِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قُلْتُ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَتَبَادَرُوا فَاخْتَفَوْا مِنِّي ، وَقَدْ كَانُوا يَقْرَءُونَ صَحِيفَةً بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تَرَكُوهَا أَوْ نَسُوهَا . فَقَامَتْ أُخْتِي تَفْتَحُ الْبَابَ ، فَقُلْتُ : يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا أَصَبَوْتِ ؟ وَضَرَبْتُهَا بِشَيْءٍ فِي يَدِي عَلَى رَأْسِهَا ، فَسَالَ الدَّمُ ، فَلَمَّا رَأَتِ الدَّمَ بَكَتْ ، فَقَالَتْ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا كُنْتَ فَاعِلًا ، فَافْعَلْ ، فَقَدْ صَبَوْتُ . قَالَ : وَدَخَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى السَّرِيرِ فَنَظَرْتُ إِلَى الصَّحِيفَةِ وَسْطَ الْبَيْتِ ، فَقُلْتُ : مَا هَذَا ؟ نَاوِلِينِيهَا ، فَقَالَتْ : لَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا أَنْتَ لَا تَطْهُرُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَهَذَا كِتَابٌ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ . فَمَا زِلْتُ بِهَا حَتَّى نَاوَلَتْنِيهَا ، فَفَتَحْتُهَا فَإِذَا فِيهَا : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذُعِرْتُ مِنْهُ ، فَأَلْقَيْتُ الصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَتَنَاوَلْتُهَا ، فَإِذَا فِيهَا سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَلَمَّا مَرَرْتُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ذُعِرْتُ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي ، فَقَرَأْتُهَا حَتَّى بَلَغْتُ : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَخَرَجُوا إِلَيَّ مُتَبَادِرِينَ وَكَبَّرُوا وَقَالُوا : أَبْشِرْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَعِزَّ دِينَكَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ : إِمَّا أَبُو جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، وَإِمَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَإِنَا نَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ فَأَبْشِرْ . قَالَ : قُلْتُ : فَأَخْبِرُونِي أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَلَمَّا عَرَفُوا الصِّدْقَ مِنِّي قَالُوا : فِي بَيْتٍ بِأَسْفَلِ الصَّفَا ، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ قُلْتُ : ابْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : وَقَدْ عَلِمُوا مِنْ شِدَّتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِي ، فَمَا اجْتَرَأَ أَحَدٌ يَفْتَحُ الْبَابَ حَتَّى قَالَ : " افْتَحُوا لَهُ ، إِنْ يُردِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يَهْدِهِ " فَفَتَحُوا لِيَ الْبَابَ فَأَخَذَ رَجُلَانِ بِعَضُدَيَّ حَتَّى أَتَيَا بِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " خَلُّوا عَنْهُ " ثُمَّ أَخَذَ بِمَجَامِعِ قَمِيصِي ، ثُمَّ جَذَبَنِي إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : " أَسْلِمْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، اللَّهُمَّ اهْدِهِ " فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِفِجَاجِ مَكَّةَ ، وَكَانُوا مُسْتَخْفِينَ ، فَلَمْ أَشَأْ أَنْ أَرَى رَجُلًا يُضْرَبُ فَيَضْرِبُ إِلَّا رَأَيْتُهُ ، وَلَا يُصِيبُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ . فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ خَالِي ، وَكَانَ شَرِيفًا ، فَقَرَعْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟(3/356)
فَقُلْتُ : ابْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : فَخَرَجَ إِلَيَّ فَقُلْتُ : عَلِمْتَ أَنِّي قَدْ صَبَوْتُ قَالَ : أَوَفَعَلْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : لَا تَفْعَلْ ، فَقُلْتُ : قَدْ فَعَلْتُ : فَدَخَلَ ، وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي ، فَقُلْتُ : مَا هَذَا شَيْءٌ ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ ، فَنَادَيْتُهُ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ فَقُلْتُ مِثْلَ مَقَالَتِي لِخَالِي ، وَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ وَدَخَلَ وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي . فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : مَا هَذَا شَيْءٌ ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يُضْرَبُونَ ، وَأَنَا لَا أُضْرَبُ . فَقَالَ لِي رَجُلٌ : أَتُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ بِإِسْلَامِكَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : فَإِذَا جَلَسَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ , فَأْتِ فُلَانًا - لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ يَكْتُمُ السِّرَّ - فَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ : إِنِّي قَدْ صَبَوْتُ ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يَكْتُمُ السِّرَّ . قَالَ : فَجِئْتُ وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ فَقُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ : إِنِّي قَدْ صَبَوْتُ . قَالَ : أَوَفَعَلْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ ، فَبَادَرَ إِلَيَّ أُولَئِكَ النَّاسُ ، فَمَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ وَيَضْرِبُونَنِي فَاجْتَمَعَ عَلَيَّ النَّاسُ . فَقَالَ خَالِي : مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ ؟ قِيلَ : عُمَرُ قَدْ صَبَأَ ، فَقَامَ عَلَى الْحِجْرِ فَأَشَارَ بِكُمِّهِ هَكَذَا ، أَلَا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أَخِي ، فَتَكَشَّفُوا عَنِّي ، فَكُنْتُ لَا أَشَاءُ أَنْ أَرَى رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَضْرِبُ وَيُضْرَبُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فَقُلْتُ : مَا هَذَا بِشَيْءٍ حَتَّى يُصِيبَنِي ، فَأَتَيْتُ خَالِي فَقُلْتُ : جِوَارُكَ عَلَيْكَ رَدٌّ ، فَقُلْ مَا شِئْتَ ، فَمَا زِلْتُ أَضْرِبُ وَأُضْرَبُ حَتَّى أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ " (1)
__________
(1) - دلائل النبوة للبيهقي برقم( 518 ) حسن لغيره(3/357)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : خَرَجَ عُمَرُ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ ، فَقَالَ لَهُ : أَيْنَ تَعَمِدُ يَا عُمَرُ ؟ فَقَالَ : أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا قَالَ : وَكَيْفَ تَأْمَنُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ، وَبَنِي زُهْرَةَ ، وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا ؟ قَالَ : فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ صَبَوْتَ وَتَرَكْتَ دِينَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى الْعَجَبِ ، إِنَّ خَتَنَكَ وَأُخْتَكَ قَدْ صَبَوَا وَتَرَكَا دِينَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ قَالَ : فَمَشَى عُمَرُ ذَامِرًا حَتَّى أَتَاهُمَا ، وَعِنْدَهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُقَالُ لَهُ خَبَّابٌ قَالَ : فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ بِحِسِّ عُمَرَ تَوَارَى فِي الْبَيْتِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا ، فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الَّتِي سَمِعْتُهَا عِنْدَكُمْ ؟ قَالَ : وَكَانُوا يَقْرَءُونَ : طه فَقَالَا : مَا عَدَا حَدِيثًا تَحَدَّثْنَاهُ بَيْنَنَا . قَالَ : فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوْتُمَا ، فَقَالَ لَهُ خَتَنُهُ : يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ ؟ قَالَ : فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى خَتَنِهِ ، فَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا . قَالَ : فَجَاءَتْ أُخْتُهُ لِتَدْفَعَهُ عَنْ زَوْجِهَا ، فَنَفَحَهَا نَفْحَةً بِيَدِهِ ، فَدَمِيَ وَجْهُهَا ، فَقَالَتْ وَهِيَ غَضْبَى : وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالَ عُمَرُ : أَعْطُونِي الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ قَالَ : وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ : إِنَّكَ رِجْسٌ ، وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأْ . قَالَ : فَقَامَ عُمَرُ فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ طه حَتَّى انْتَهَى إِلَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعَبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ ، فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرَ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ ، فَقَالَ : أَبْشِرْ يَا عُمَرُ ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ : " اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أَوْ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّارِ الَّتِي فِي أَصْلِ الصَّفَا . قَالَ : فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ ، وَعَلَى بَابِ الدَّارِ حَمْزَةُ وَطَلْحَةُ ، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَأَى حَمْزَةُ وَجَلَ الْقَوْمِ مِنْ عُمَرَ فَقَالَ حَمْزَةُ : هَذَا عُمَرُ إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِعُمَرَ خَيْرًا يُسْلِمْ فَيَتْبَعِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ يُرِدْ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا . قَالَ : وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلٌ يُوحَى إِلَيْهِ قَالَ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عُمَرَ ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ ، فَقَالَ : مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ أَوِ الدِّينَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " فَقَالَ عُمَرُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَسْلَمَ وَقَالَ : اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي الْمَغَازِي ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ ، فَقَرَأَ طه حَتَّى إِذَا بَلَغَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ، إِلَى قَوْلِهِ فَتَرْدَى وَقَرَأَ : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ حَتَّى بَلَغَ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحَضَرَتْ فَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ (1)
__________
(1) - دلائل النبوة للبيهقي برقم( 519 ) حسن(3/358)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " خَرَجَ عُمَرُ مُتَقَلِّدَ السَّيْفِ ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ قَالَ : أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ ؟ فَقَالَ : أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا ، قَالَ : وَكَيْفَ تَأْمَنُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا ، ؟ قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ صَبَوْتَ وَتَرَكْتَ دِينَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ، قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى الْعَجَبِ يَا عُمَرُ ، إِنَّ خَتْنَكَ وَأُخْتَكَ قَدْ صَبَوَا وَتَرَكَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ، قَالَ : فَمَشَى عُمَرُ ذَامِرًا حَتَّى أَتَاهُمَا وَعِنْدَهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُقَالُ لَهُ : خَبَّابٌ قَالَ : فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابَ حِسَّ عُمَرَ تَوَارَى فِي الْبَيْتِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الَّتِي سَمِعْتُهَا عِنْدَكُمْ ؟ قَالَ : وَكَانَوا يَقْرَؤُونَ طه ، فَقَالَا : مَا عَدَا حَدِيثًا تَحَدَّثْنَاهُ بَيْنَنَا ، قَالَ : فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوْتُمَا ؟ قَالَ : فَقَالَ لَهُ خَتْنُهُ : أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ ؟ قَالَ : فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى خَتْنِهِ فَوَطِئَهُ وَطْأً شَدِيدًا ، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ فَدَفَعَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا فَنَفَحَهَا بِيَدِهِ نَفْحَةً فَدَمِيَ وَجْهُهَا ، فَقَالَتْ وَهِيَ غَضْبَى : يَا عُمَرُ ، إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ ، اشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَاشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَلَمَّا يَئِسَ عُمَرُ قَالَ : أَعْطُونِي هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَؤُهُ ، قَالَ : وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ : إِنَّكَ رِجْسٌ وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأْ ، قَالَ : فَقَامَ عُمَرُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ طه حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرَ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ : أَبْشِرْ يَا عُمَرُ ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ : " اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ " قَالَ : وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّارِ الَّتِي فِي أَصْلِ الصَّفَا ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ قَالَ : وَعَلَى بَابِ الدَّارِ حَمْزَةُ وَطَلْحَةُ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَأَى حَمْزَةُ وَجَلَ الْقَوْمِ مِنْ عُمَرَ قَالَ حَمْزَةُ : نَعَمْ ، فَهَذَا عُمَرُ فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِعُمَرَ خَيْرًا يُسْلِمْ وَيَتْبَعِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ يُرِدْ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا ، قَالَ : وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَاخِلٌ يُوحَى إِلَيْهِ ، قَالَ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عُمَرُ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ فَقَالَ : " أَمَا أَنْتَ مُنْتَهِيًا يَا عُمَرُ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ مِنَ الْخِزْي وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، اللَّهُمَّ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " ، قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَأَسْلَمَ ، وَقَالَ : اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللَّهِ "(1)
__________
(1) - ابن سعد برقم( 3494 ) صحيح(3/359)
و عَنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِعُمَرَ بن الْخَطَّابِ ، وَقَدْ ضَرَبَ أُخْتَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَهِي تَقْرَأُ : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق : 1 ] حَتَّى أَظُنَّ أَنَّهُ قَتَلَهَا ، ثُمَّ قَامَ مِنَ السَّحَرِ فَسَمِعَ صَوْتَهَا ، تَقْرَأُ : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق : 1 ] ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا هَذَا بِشِعْرٍ ، وَلا هَمْهَمَةٍ ، فَذَهَبَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَجَدَ بِلالا ، عَلَى الْبَابِ فَدَفَعَ الْبَابَ ، فَقَالَ بِلالٌ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : عُمَرُ بن الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ بِلالٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عُمَرُ بِالْبَابِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِعُمَرَ خَيْرًا ، أَدْخَلَهُ فِي الدِّينِ ، فَقَالَ لِبِلالٍ : افْتَحْ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِضَبْعَيْهِ فَهَزَّهُ ،فَقَالَ : مَا الَّذِي تُرِيدُ ، وَمَا الَّذِي جِئْتَ ؟ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : اعْرِضْ عَلَيَّ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ ، قَالَ : تَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَأَسْلَمَ عُمَرُ مَكَانَهُ ، وَقَالَ : اخْرُجْ.(1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 2 / ص 116) برقم( 1412) وفيه ضعف(3/360)
و عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَتُحِبُّونَ أَنْ أُعْلِمَكُمْ ، أَوَّلَ إِسْلَامِي ؟ قَالَ : قُلْنَا : نَعَمْ ، قَالَ : كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا أَنَا فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فِي بَعْضِ طُرُقِ مَكَّةَ إِذْ رَآنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ : أَيْنَ تَذْهَبُ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ قُلْتُ : أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ ، فَقَالَ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ هَذَا الْأَمْرُ فِي مَنْزِلِكَ وَأَنْتَ تَقُولُ هَكَذَا ، فَقُلْتُ : وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ أُخْتَكَ قَدْ ذَهَبَتْ إِلَيْهِ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ مُغْتَضِبًا حَتَّى قَرَعْتُ عَلَيْهَا الْبَابَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَسْلَمَ بَعْضُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ ضَمَّ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَيْنِ إِلَى الرَّجُلِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ قَالَ : وَكَانَ ضَمَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى زَوْجِ أُخْتِي ، قَالَ : فَقَرَعْتُ الْبَابَ ، فَقِيلَ لِي : مَنْ هَذَا ؟ قُلْتُ : أَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَقَدْ كَانُوا يَقْرَءُونَ كِتَابًا فِي أَيْدِيهِمْ ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتِي قَامُوا حَتَّى اخْتَبَئُوا فِي مَكَانٍ وَتَرَكُوا الْكِتَابَ ، فَلَمَّا فَتَحَتْ لِي أُخْتِيَ الْبَابَ قُلْتُ : أَيَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا أَصَبَوْتِ ؟ قَالَ : وَأَرْفَعُ شَيْئًا فَأَضْرِبُ بِهِ عَلَى رَأْسِهَا ، فَبَكَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ لِي : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، اصْنَعْ مَا كُنْتَ صَانِعًا فَقَدْ أَسْلَمْتُ ، فَذَهَبْتُ فَجَلَسْتُ عَلَى السَّرِيرِ فَإِذَا بِصَحِيفَةٍ وَسَطَ الْبَابِ ، فَقُلْتُ : مَا هَذِهِ الصَّحِيفَةُ هَا هُنَا ؟ فَقَالَتْ لِي : دَعْنَا عَنْكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَإِنَّكَ لَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَلَا تَتَطَهَّرُ ، وَهَذَا لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، فَمَا زِلْتُ بِهَا حَتَّى أَعْطَتْنِيهَا فَإِذَا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَلَمَّا قَرَأْتُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَذَكَّرْتُ مِنْ أَيْنَ اشْتُقَ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَقَرَأْتُ فِي الصَّحِيفَةِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ذَكَرْتُ اللَّهَ ، فَأَلْقَيْتُ الصَّحِيفَةَ مِنْ يَدِي ، قَالَ : ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى نَفْسِي فَأَقْرَأُ فِيهَا سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حَتَّى بَلَغَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولُهُ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ قَالَ : قُلْتُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَخَرَجَ الْقَوْمُ مُبَادِرِينَ فَكَبَّرُوا اسْتَبْشَارًا بِذَلِكَ ، ثُمَّ قَالُوا لِي : أَبْشِرْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ ، إِمَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَإِمَّا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ ، فَقُلْتُ : دُلُّونِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ هُوَ ؟ فَلَمَّا عَرَفُوا الصِّدْقَ مِنِّي دَلُّونِي عَلَيْهِ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، فَجِئْتُ حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - وَقَدْ عَلِمُوا شِدَّتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي - فَمَا اجْتَرَأَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لِي حَتَّى قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " افْتَحُوا لَهُ فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يَهْدِهِ " قَالَ : فَفُتِحَ لِي الْبَابُ ، فَأَخَذَ رَجُلَانِ بِعَضُدِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَرْسِلُوهُ " فَأَرْسَلُونِي ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ قَمِيصِي ثُمَّ قَالَ : " أَسْلِمْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، اللَّهُمَّ اهْدِهِ " فَقُلْتُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ فِيَ طُرُقِ مَكَّةَ ، قَالَ : وَقَدْ كَانُوا سَبْعِينَ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا(3/361)
أَسْلَمَ فَعَلِمَ بِهِ النَّاسُ يَضْرِبُونَهُ وَيَضْرِبُهُمْ ، قَالَ : فَجِئْتُ إِلَى رَجُلٍ فَقَرَعْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قُلْتُ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ فَقُلْتُ لَهُ : أَعَلِمْتَ أَنِّي قَدْ صَبَوْتُ ؟ قَالَ : أَوَ فَعَلْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ ، قَالَ : وَدَخَلَ الْبَيْتَ فَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي ، قَالَ : فَذَهَبْتُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ مِنْ قُرَيْشٍ فَنَادَيْتُهُ فَخَرَجَ فَقُلْتُ لَهُ : أَعَلِمْتَ أَنِّي قَدْ صَبَوْتُ ، فَقَالَ : أَوَ فَعَلْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : لَا تَفْعَلْ وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي ، فَقُلْتُ : مَا هَذَا بِشَيْءٍ ، قَالَ : فَإِذَا أَنَا لَا أُضْرَبُ وَلَا يُقَالُ لِي شَيْءٌ ، فَقَالَ الرَّجُلُ أَتُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ إِسْلَامُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : إِذَا جَلَسَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ فَأْتِ فُلَانًا فَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ : أَشَعَرْتَ أَنِّي قَدْ صَبَوْتُ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يَكْتُمُ الشَّيْءَ ، فَجِئْتُ إِلَيْهِ وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ فَقُلْتُ لَهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ : أَشَعَرْتَ أَنِّي قَدْ صَبَوْتُ ؟ قَالَ : فَقَالَ : أَفَعَلْتَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : أَلَا إِنَّ عُمَرَ قَدْ صَبَا ، قَالَ : فَثَارَ إِلَيَّ أُولَئِكَ النَّاسُ فَمَا زَالُوا يَضْرِبُونِي وَأَضْرِبُهُمْ حَتَّى أَتَى خَالِي فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ عُمَرَ قَدْ صَبَا ، فَقَامَ عَلَى الْحِجْرِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : أَلَا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أُخْتِي فَلَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ ، قَالَ : فَانْكَشَفُوا عَنِّي فَكُنْتُ لَا أَشَاءُ أَنْ أَرَى أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُضْرَبُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فَقُلْتُ : مَا هَذَا بِشَيْءٍ ، إِنَّ النَّاسَ يُضْرَبُونَ وَأَنَا لَا أُضْرَبُ ، وَلَا يُقَالُ لِي شَيْءٌ فَلَمَّا جَلَسَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ جِئْتُ إِلَى خَالِي فَقُلْتُ : اسْمَعْ ، جِوَارُكَ عَلَيْكَ رَدٌّ ، قَالَ : لَا تَفْعَلْ ، قَالَ : فَأَبَيْتُ فَمَا زِلْتُ أُضْرَبُ وَأَضْرِبُ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ(1)
=================
__________
(1) - مسند البزار برقم( 279 ) ضعيف
وقال : َهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ عُمَرَ إِلَّا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحُنَيْنِيُّ ، وَلَا نَعْلَمُ يُرْوَى فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عُمَرَ إِسْنَادٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ ، عَلَى أَنَّ الْحُنَيْنِيَّ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْمَدِينَةِ فَكَفَّ وَاضْطَرَبَ حَدِيثُهُ *(3/362)
تحمل عثمان بن مظعون رضي الله عنه الشدائد
عَنْ عُثْمَانَ ، قَالَ : لَمَّا رَأَى عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَلَاءِ ، وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ : " وَاللَّهِ إِنَّ غُدُوِّي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَأَصْحَابِي وَأَهْلُ دِينِي يَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى وَالْبَلَاءِ مَا لَا يُصِيبُنِي ، لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِي " . فَمَشَى إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ لَهُ : " يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ وَفَتْ ذِمَّتُكَ ، قَدْ رَدَدْتُ إِلَيْكَ جِوَارَكَ " قَالَ : لِمَ يَا ابْنَ أَخِي ؟ لَعَلَّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي ؟ قَالَ : " لَا ، وَلَكِنِّي أَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ " قَالَ : فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي عَلَانِيَةً كَمَا أَجَرْتُكَ عَلَانِيَةً ، قَالَ : فَانْطَلَقَا ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ ، فَقَالَ لَهُمُ الْوَلِيدُ : هَذَا عُثْمَانُ قَدْ جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوَارِي ، قَالَ لَهُمْ : " قَدْ صَدَقَ ، قَدْ وَجَدْتُهُ وَفِيًّا كَرِيمَ الْجِوَارِ ، وَلَكِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ " ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِلَابٍ الْقَيْسِيُّ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قُرَيْشٍ يُنْشِدُهُمْ ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ عُثْمَانُ ، فَقَالَ لَبِيدٌ وَهُوَ يُنْشِدُهُمْ :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ فَقَالَ : عُثْمَانُ : صَدَقْتَ ، فَقَالَ : وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
فَقَالَ : عُثْمَانُ : " كَذَبْتَ نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ " قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ ، فَمَتَى حَدَثَ فِيكُمْ هَذَا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِنَّ هَذَا سَفِيهٌ فِي سُفَهَاءٍ مَعَهُ قَدْ فَارَقُوا دِينَنَا ، فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ مِنْ قَوْلِهِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتَّى سَرَى - أَيْ عَظُمَ - أَمْرُهُمَا ، فَقَامَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَضَرَهَا ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ مِنْ عُثْمَانَ ، فَقَالَ : أَمَا وَاللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أَصَابَهَا لَغَنِيَّةً ، لَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : " بَلَى وَاللَّهِ إِنَّ عَيْنِي الصَّحِيحَةَ لَفَقِيرَةٌ إِلَى مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللَّهِ ، وَإِنِّي لَفِي جِوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزُّ مِنْكَ وَأَقْدَرُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ " فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِيمَا أُصِيبَ مِنْ عَيْنِهِ : "
فَإنْ تَكُ عَيْنِي فِي رِضَا الرَّبِّ نَالَهَا يَدَا مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ بِمُهْتَدِ
فَقَدْ عَوَّضَ الرَّحْمَنُ مِنْهَا ثَوَابَهُ وَمَنْ يَرْضَهُ الرَّحْمَنُ يَا قَوْمُ يَسْعَدِ
فَإِنِّي وَإِنْ قُلْتُمْ غَوِيٌّ مُضَلَّلٌ سَفِيهٌ عَلَى دِينِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ
أُرِيدُ بِذَاكَ اللَّهَ وَالْحَقُّ دِينُنَا عَلَى رَغْمِ مَنْ يَبْغِي عَلَيْنَا وَيَعْتَدِي "
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا أُصِيبَ مِنْ عَيْنِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
أَمِنْ تَذَكُّرِ دَهْرٍ غَيْرِ مَأْمُونٍ أَصْبَحْتَ مُكْتَئِبًا تَبْكِي كَمَحْزُونِ
أَمِنْ تَذَكُّرِ أَقْوَامٍ ذَوِي سَفَهٍ يَغْشَوْنَ بِالظُّلْمِ مَنْ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ
لَا يَنْتَهُونَ عَنِ الْفَحْشَاءِ مَا سَلِمُوا وَالْغَدْرُ فِيهِمْ سَبِيلٌ غَيْرُ مَأْمُونِ
أَلَا تَرَوْنَ أَقَلَّ اللَّهُ خَيْرَهُمُ أَنَّا غَضِبْنَا لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ
إِذْ يَلْطُمُونَ وَلَا يَخْشَوْنَ مُقْلَتَهُ طَعْنًا دَرَاكًا وَضَرْبًا غَيْرَ مَأْفُونِ
فَسَوْفَ يَجْزِيهِمُ إِنْ لَمْ يَمُتْ عَجِلًا كَيْلًا بِكَيْلٍ جَزَاءً غَيْرَ مَغْبُونِ(1)
__________
(1) - الحلية برقم( 323) فيه جهالة(3/363)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ ، دَخَلَ يَوْمًا الْمَسْجِدَ ، وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ قَدْ تَخَلَّلَتْ فَرَقَّعَهَا بِقِطْعَةٍ مِنْ فَرْوَةٍ ، فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَقَّ أَصْحَابُهُ لِرِقَّتِهِ ، فَقَالَ : " كَيْفَ أَنْتُمْ يَوْمَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى ، وَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَصْعَةٌ وَتُرْفَعُ أُخْرَى ، وَسَتَرْتُمُ الْبُيُوتَ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةَ ؟ " ، قَالُوا : وَدِدْنَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَصَبْنَا الرَّخَاءَ وَالْعَيْشَ ، قَالَ : " فَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ " (1)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حِينَ مَاتَ ، فَانْكَبَّ عَلَيْهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ حَنَى الثَّانِيَةَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ حَنَى الثَّالِثَةَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، وَلَهُ شَهِيقٌ ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ يَبْكِي فَبَكَى الْقَوْمُ ، فَقَالَ : " أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ اذْهَبْ عَنْهَا أَبَا السَّائِبِ فَقَدْ خَرَجْتَ مِنْهَا وَلَمْ تَلْبَسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ "(2)
==============
تحمل مصعب بن عمير رضي الله عنه الشدائد
عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ العَبْدَرِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالًا وَسَبِيبًا , وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانِهِ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً كَثِيرَةَ الْمَالِ ، تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ وَأَرَقَّهُ , وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ يَلْبَسُ الْحَضْرَمِيَّ مِنَ النِّعَالِ , فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهُ وَيَقُولُ : " مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحَدًا أَحْسَنَ لِمَّةً ، وَلَا أَرَقَّ حُلَّةً ، وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ " ، فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ فِي دَارِ أَرْقَمَ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ , فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ وَخَرَجَ فَكَتَمَ إِسْلَامَهُ خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ , فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرًّا فَبَصُرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ يُصَلِّي , فَأَخْبَرَ أُمَّهُ وَقَوْمَهُ فَأَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى , ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا فَرَجَعَ مُتَغَيِّرَ الْحَالِ قَدْ حَرَجَ , يَعْنِي غَلُظَ , فَكَفَّتْ أُمُّهُ عَنْهُ مِنَ الْعَذْلِ " (3)
و عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : " لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مُصْعَبٍ الْأَنْصَارِيِّ مَقْتُولًا عَلَى طَرِيقِهِ ، فَقَرَأَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ "(4)
===============
تحمل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه الشدائد
__________
(1) - الحلية برقم( 329 ) صحيح لغيره
(2) - الحلية برقم ( 327 ) حسن
(3) - ابن سعد برقم (2886 ) وفيه ضعف
(4) - المسنتدرك برقم ( 4893 ) حسن(3/364)
عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : وَجَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَسَرَهُ الرُّومُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ ، فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ، فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ : هَلْ لَكَ أَنْ تَتَنَصَّرَ وَأُشِرِكُكَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : " لَوْ أَعْطَيْتَنِي جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ ، وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتْهُ الْعَرَبُ - وَفِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ : وَجَمِيعَ مَمْلَكَةِ الْعَرَبِ - عَلَى أَنْ أرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، مَا فَعَلْتُ " ، قَالَ : إِذًا أَقَتُلُكَ ، قَالَ : " أَنْتَ وَذَاكَ " ، قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ، وَقَالَ لِلرُّمَاةِ : ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ يَدَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رِجْلَيْهِ وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَأْبَى ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ ، ثُمَّ دَعَا بِقِدْرٍ وَصَبَّ فِيهَا مَاءً حَتَّى احْتَرَقَتْ ، ثُمَّ دَعَا بِأَسِيرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلْقِيَ فِيهَا وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ وَهُوَ يَأْبَى ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا ، فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ بَكَى ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ بَكَى فَظَنَّ أَنَّهُ رَجَعَ ، فَقَالَ : رُدُّوهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ فَأَبَى ، قَالَ : فَمَا أَبْكَاكَ ؟ قَالَ : " أَبْكَانِي أَنِّي قُلْتُ هي نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تُلْقَى هَذِهِ السَّاعَةَ فِي هَذَا الْقِدْرِ فَتَذْهَبُ ، فَكُنْتُ أشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعَرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تَلْقَى هَذَا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ، قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ : هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبِّلَ رَأْسِي وَأُخَلِّيَ عَنْكَ ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ ؟ " قَالَ : وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " فَقُلْتُ فِي نَفْسِي عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ أُقَبِّلُ رَأْسَهُ ويُخَلِّي عَنِّي وَعَنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ لَا أُبَالِي قال فَدَنَا مِنْهُ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ " ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأُسَارَى ، فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى عُمَرَ فَأُخْبِرَ عُمَرُ بِخَبَرِهِ ، فَقَالَ : حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ ، وَأَنَا أَبْدَأُ فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ "(1)
__________
(1) -شعب الإيمان للبيهقي برقم( 1590) وقد ورد من طرق متعددة تقويه - قال في الإِصابة : وأخرج ابن عساكر لهذه القصة شاهداً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما موصولاً، وآخر من فوائد، هشام بن عثمان من مرسل الزهري. انتهى.
من عبد الله بن حذافة إلى شباب المسلمين
عبدالملك القاسم
دار القاسم …
استوقفني شاب مسلم اسمه عبد الله يرتفع الآذان وتقام الصلاة بجواره وهو غير عابئ بذلك النداء وكأنه موجه لغيره من أصحاب الديانات الأخرىوأطلقت بصري فإذا شاب آخر اسمه عبد الله وهو يهز رأسه طرباً ويهتز لحمه وعظمه على أنغام أصوات مغنٍ غربي! وقلبت إحدى المجلات فإذا بمن اسمه عبد الله وهوايته الرقص والموسيقى! وشرقت وغربت.. وتأملت فإذا الأمر أعظم من ذلك؟
عندها انطلقت استحث الخطا وأسابق الركب عبر أربعة عشر قرناً لأرى حال من كان اسمه عبد الله! فإذا أمة من الناس رفعوا للأمة رأساً وأعلوا للدين مناراً، ولا يزال التاريخ يردد جهادهم وصبرهم على صغر سن فيهم وحداثة دين منهم! لكن نتوقف مع شخص مرت به أحداث خطيرة ومواقف عظيمة وقابل رؤساء أعظم دول عصره، استقبله كسرى ملك الفرس وقيصر عظيم الروم وهو الرجل العربي الذي لا تهمه البرتوكولات ولا التقاليد الرسمية.. لا يعرف إلا شمساً محرقة وسماء صافية وخباءٍ في ظل شجرة يحوي كسرة خبز!
أقبل ميمماً وجهه نحو إيوان كسرى وملك قيصر ففُتحت له الكنوز والخزائن! وألقت إليه الحضارة في حينه بركابها لكنه أبى أن يمتطيها وأعرض عن زينتها.. قاسمة كسرى ملكه الواسع وغناه الفاحش لكنه رفض! قدم له ابنته الفاتنة لكنه أشاح بوجهه وأبى! نعم رفض تمييع دينه وأبى ترك ملته وجانب الدنيا.. مؤمنٌ يستشرف الجنة ويسعى إلى نيلها! لننطلق نرى ما يقوله أصحاب السير عن هذا الرجل الفذ!
مع إقامة الدولة الإسلامية في المدينة ولرغبة إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ولتبليغ هذا الدين إلى أقصى الأرض.. في السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث عمر بن الخطاب جيشاً لحرب الروم فيه وجوه الأمة ورجالها. وقد أفزع قيصر عظيم الروم هذا الزحف القادم من صحراء جزيرة العرب القاحلة وناله الرعب واستولى على قلبه الهلع. فأمر رجاله إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين أن يأتوا به إليه ليرى حالهم ويسمع من أفواههم.. وكان ذلك الأسير الذي أخذ إلى ملك الروم هو عبد الله بن حذافة رضي الله عنه!.. لم يكن قيصر إلا رجلاً داهية وسياسياً محنكاً يعرف مواطن الضعف عند الرجال ويعلم محبة النفوس للدنيا.. تأمل قيصر في طلعة عبد الله بن حذافة وصلابة عوده وقوة شكيمته فبادره قائلاً: إني أعرض عليك أمراً.. أعرض عليك أن تتنصر فإن فعلت خليت سبيلك وأكرمت مثواك!
إنه عرض مغر لأسير ينتظر الموت لكن القلوب تختلف والرجال تتباين.. كان الرد الفوري والحازم ممن عمر الإيمان قلبه: هيهات هيهات.. إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه!
تعجب قيصر وأعاد الكرة مرة أخرى بعرض آخر يسيل له لعاب الكثير.. قال له: إني لأرى فيك صفات الرجل الشهم العاقل.. فأجبني إلى ما أعرضه عليك.. فإن أجبتني أشركتك في ملكي وقاسمتك سلطاني! تعال أيها العربي - الذي أحرقت الشمس وجهه - أقاسمك مملكة الروم العظيمة وأزوجك ابنة سيد الروم الجميلة!
عروض متتالية لرجل فقير مسكين رث الثياب مُجهد الخطوات.. لا يملك حفنة من الأرض مقيد بالسلاسل ومكبل بالقيود والموت يحوم فوق رأسه! فماذا كان جوابه في تلك اللحظات الفاصلة في حياته!
قال عبد الله بن حذافة بثقة المؤمن بربه الراغب فيما عنده: والله لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت! نعم ليس ملكك فحسب.. وليس تنصراً مستمراً.. بل رجوع طرفة عين ما فعلت!
رأي قيصر أن هذا المؤمن لا تلين له قناة ولن تنفع معه وسائل الإغراء وطرق الترغيب.. فهب واقفاً وهو يصرخ متهدداً متوعداً: إذا أقتلك! قال ذلك والجلاد على رأس عبد الله والسيف مجرد من غمده.. وانتظر قيصر الجواب من عبد الله فإذا به يأتي كالسهم محمل بالإيمان والثبات: أفعل ما بدا لك!
فأمر به فصُلب وقال لقناصته: ارموه قريباً من يديه وهو يعرض عليه التنصر! ولكن عبد الله والسهام تتخطفه أبى! فقال: ارموه قريباً من رجليه وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى!
عندها دعا قيصر بقدر عظيم فصب فيه الزيت ورفعه على النار حتى غلى الزيت وارتفع صوته وعبد الله ينظر ثم أتي بأسير من أسارى المسلمين، فأمر به أن يُلقى فيها فألقي أمام عين عبد الله.. فإذا لحمه يتفتت وينسلخ ويظهر عظمه..
عند هذا المنظر الرهيب والموقف العصيب التفت قيصر إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية والأحداث متسارعة والقدر تغلي.. لكن عبد الله كان أشد إباء لها من قبل فلم تلّن له قناة ولم تفت منه عضد!
زاد حنق قيصر.. وقال ما هذا الرجل الذي أمامي أعرض عليه ملكي وابنتي فيرفض وأعرض بين يديه النار والقدر تغلي زيتاً فيأبى.. عندها أمر رجاله وقد تطاير الشرر من عينه: هيا ألقوا به مثل صاحبيه!
حُمل عبد الله على عجل وارتفعت الأيدي لتلقي به في القدر.. فأبصر أحد رجال قيصر منه دمعة تحدرت.. فقال لقيصر فرحاً بالانتصار: لقد بكى! وظن أنه قد جزع من ما يرى من الأهوال والشدائد ورضي بالعروض المقدمة إليه، فقال قيصر: ردوه عليَّ!
فملما ردوه إليه ومثل أمامه عرض عليه النصرانية فرفضها. فقال له متعجباً: ويحك ماذا أبكاك!
قال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: أبكاني أني قلت في نفسي: تُلقى الآن في هذه القدر فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنُفس فتُلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله.
فتعجب الطاغية الظالم وقال: هل لك أن تُقبل رأسي وأطلق سراحك. فقال عبد الله وهو يرى أمة من المسلمين في الأسر: وعن جميع أسارى المسلمين كلهم!
وافق القيصر وعبد الله يقول في نفسه: أتى الفرج لهؤلاء الأسرى.. نعم أقبل رأس الظالم ويطلق أسارى المسلمين..
دنا بعزة وهيبة وقبل رأس قيصر!
وعندما وطأت قدما عبد الله بن حذافة المدينة النبوية كان الخبر قد سبقه إلى أهلها.. قال له عمر بن الخطاب وهو فرح مسرور بثبات عبد الله وقوة إيمانه: حقُّ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك! فقام وقبل رأس عبد الله بن حذافة رضي الله عنه.
يا عبد الله - هذا الزمن - دعنا نقبل رأسك وانطلق إلى المسجد مصلياً.. دعنا نقبل رأسك وكن ثابت الإيمان قوي الرسوخ! يا عبد الله دعنا نقبل رأسك وفك أسرك من رق الشهوات ومواطن الريب والخنا. دعنا نقبل رأسك مرات ومرات ولا تكن إمعة يسيرك الأعداء حيث شاءوا وهو ما نراه في مظهرك ومخبرك!(3/365)
=================
تحمل عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : يَا أَبَا عَبَّاسٍ أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ ؟ فَقَالَ : " نَعَمْ ، وَاللَّهِ إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعْطِشُونَهُ حَتَّى مَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي بِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ (1)
=== ===============
خبره عليه السلام وأصحابه في المدينة بعد الهجرة
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْمَدِينَةَ وَآوَتْهُمُ الْأَنْصَارُ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ كَانُوا لَا يَبِيتُونَ إِلَّا بِالسِّلَاحِ وَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا فِيهِ ، فَقَالُوا : " تَرَوْنَ أَنَّا نَعِيشُ حَتَّى نَبِيتَ آمِنَيْنِ مُطْمَئِنَّيْنِ لَا نَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ؟ فَنَزَلَتْ : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (النور: 55)." (2)
__________
(1) - سنن البيهقي برقم( 15486) وفيه ضعف
(2) - المستدرك برقم(3471 ) وهو حسن
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ?
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) . . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) . . ولقد كانوا خائفين , لا يأمنون , ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة .
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية:كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده , وإلى عبادته وحده بلا شريك له , سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة , فقدموها , فأمرهم الله بالقتال , فكانوا بها خائفين , يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ; فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال:يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم - " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة " . وأنزل الله هذه الآية , فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب , فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه , فأدخل الله عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط , وغيروا فغير بهم
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . . الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله . .
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) . . لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء , وجازت الابتلاء , وخافت فطلبت الأمن , وذلت فطلبت العزة , وتخلفت فطلبت الاستخلاف . . كل ذلك بوسائله التي أرادها الله , وبشروطه التي قررها الله . . تحقق وعد الله الذي لا يتخلف , ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 342)(3/366)
و عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَآوَاهُمُ الْأَنْصَارُ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ ، عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَكَانُوا لَا يَبِيتُونَ إِلَّا بِالسِّلَاحِ وَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا فِيهِ فَقَالُوا : تَرَوْنَ أَنَّا نَعِيشُ حَتَّى نَبِيتَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ لَا نَخَافُ إِلَّا اللَّهَ فَنَزَلَتْ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ يَعْنِي : بِالنِّعْمَةِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قَالَ الشَّيْخُ : وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُعَذَّبِينَ بِمَكَّةَ حينَ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا ظُلِمُوا فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، يَعْنِي بِهَا الرِّزْقَ الْوَاسِعَ فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ فَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا أَعْطَى الرَّجُلَ عَطَاءَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ : خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ ، وَحِينَ امْتَنَعَ أَبُو لَهَبٍ مِنَ الْإِسْلَامِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ فَمَاتَ أَبُو لَهَبٍ عَلَى شِرْكِهِ وَصَلِيَ النَّارَ بِكُفْرِهِ وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ وَأَبُو لَهَبٍ حَيٌّ فَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى تَكْذِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقْضِ كَلِمَتِهِ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ لِيُشَكِّكَ النَّاسَ فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيمَا أَخْبَرَهُمْ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلَى الَاتِّفَاقِ وَتَسْتَمِرَّ عَلَى الصِّدْقِ فَلَا يَخْتَلِفُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ . وَأَمَّا الصَّرْفَةُ وَالتَّعْجِيزُ مَعَ تَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ مِنْهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ عَاقِلٌ مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَنَقْضِ كَلِمَتِهِ ، وَلَمَا خَرَجُوا فِي أَمْرِهِ إِلَى نَصْبِ الْقِتَالِ وَالتَّغْرِيرِ بِالْأَنْفُسِ وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْطَانِ وَلَكَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْخُطُوبِ وَمُقَاسَاةِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوهُ دَلَّ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ رَجُلٍ عَاقِلٍ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ وَبِحَضْرَتِهِ مَاءٌ فَجَعَلَ يَتَلَوَّى مِنْ شِدَّةِ الظَّمَأِ وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ فَلَا يَشُكُّ شَاكٌّ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ شُرْبِهِ أَوْ مَمْنوعٌ لِسَبَبٍ يَعُوقُهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُ اخْتِيَارًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي لَهُ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ مِنْهُ إِلَيْهِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . وَمِنْ دَلَائِلِ صِدْقِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ عِنْدَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَقَدْ قَطَعَ الْقَوْلَ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ مَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ فَقَالَ : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلنْ تَفْعَلُوا فَلَوْلَا عِلْمُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ خِلَافٌ وَإِلَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ عَقْلُهُ فِي أَنْ يَقْطَعَ الْقَوْلَ فِي شَيْءٍ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَهُوَ بِعَرَضِ أَنْ يَكُونَ . (1)
=================
__________
(1) - الاعتقاد للبيهقي برقم( 251 )(3/367)
غزوة ذات الرِّقاع وما لقيه عليه السلام وأصحابه من الأذى
عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى غَزَاةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَاىَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِى ، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ ، لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنَ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا ، وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا ، ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ ، قَالَ مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ . كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَىْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ .(1)
و عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ ، وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا فَنَقِبَتْ قَدَمَايَ ، وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي ، فَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ ، قَالَ : فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِمَّا كُنَّا نَعْصِبُ عَلَى أَرْجُلِنَا مِنَ الْخِرَقِ فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ : فَحَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى بِهَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ ، قَالَ : مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ ، وَقَالَ : وَاللَّهُ يَجْزِي بِهِ قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ : قَالَ أَبُو أُسَامَةَ : وَزَادَنِي غَيْرُهُ : وَاللَّهُ يَجْزِي بِهِ (2)
===============
ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه يوم أحد
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (4128 ) ومسلم برقم (4802 )
(2) - أبو عوانة برقم( 5508 ) صحيح(3/368)
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ ، قَالَ : جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ : " إِنْ رَأَيْتُمُونَا يَتَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْتُهُمْ " ، وَقَالَ حُسَيْنٌ : " وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ " ، قَالَ : فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدُّونَ عَلَى الْجَبَلِ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وَسُوقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ الْغَنِيمَةَ : أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ ظَهْرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ ؟ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ : أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ، فَقَالُوا : إِنَّا وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ ، وَقَالَ حُسَيْنٌ : فَذَلِكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَىأَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا ، قَالَ فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ : كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي ، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ اعْلُ هُبَلْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ " ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ ؟ ، قَالَ : " قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ " ، قَالَ : إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ " ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ ؟ ، قَالَ : " قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَهُمْ " هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ بِمِثْلِهِ ، وَقَالَ : اعْلُ هُبَلْ ، اعْلُ هُبَلْ مَرَّتَيْنِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا تُجِيبُونَهُ ؟ " ، وَقَالَ : " قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَهُمْ " أَوْ " لَكُمْ " ، وَالْبَقِيَّةُ كُلَّهُ مِثْلَهُ (1)
و عن أبي إِسْحَاقَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يُحَدِّثُ ، قَالَ : جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَضَعَهُمْ مَكَانًا ، وَقَالَ لَهُمْ : " إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ " وَسَارُوا ، وَقَالُوا : مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ مَعَهُ فَهَزَمَهُمْ ، فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ عَلَى الْجَبَلِ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وَسُوقُهُنَّ رَافِعَاتٍ بِثَوْبِهِنَّ ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ ، وَقَالَ : فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ ، وَقَالَ : " قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ (2)
__________
(1) - أبو عوانة برقم( 5509 ) صحيح
(2) - أبو عوانة برقم( 5510) صحيح(3/369)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : " كَانَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُمِّيتُ بِهِ ، لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا ، فَقَالَ : أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِبْتُ عَنْهُ ، أَمَا وَاللَّهِ لَإنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرَانِي مَا أَصْنَعُ ، فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ شَهِدَ أُحُدًا ، فَلَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ ؟ ، فَقَالَ : وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ ، قَالَ : فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، فَوُجِدَ بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ بَيْنَ رَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ ، قَالَتْ أُخْتُهُ : فَمَا عَرَفْنَا أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ ، وَكَانَ حَسَنَ الْبَنَانِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ الْآيَةَ ، فَكُنَّا نَرَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ ،(1)
و عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَرْمِي يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ، وَكَانَ رَامِيًا ، وَكَانَ إِذَا رَمَى رَفَعَ رَأْسَهُ يَنْظُرُ أَيْنَ يَقَعُ سَهْمُهُ ؟ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَرْفَعُ صَدْرَهُ ، يَقُولُ : هَكَذَا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا يُصِيبُكَ سَهْمٌ ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يُشْرِفُ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَوِيٌّ جَلْدٌ ، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ وابْعَثْنِي فِي حَوَائِجِكَ ،(2)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفُضُ الدَّمَ عَنْ جَبْهَتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَيَقُولُ : " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ،(4)
و عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جُرِحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ ، وَبِمَاذَا دُووِيَ بِهِ ، كُسِرَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَجُرِحَ وَجْهُهُ " ، قَالُوا : هَاتِ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنَا ، قَالَ : " كَانَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَغْسِلُهُ ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً ، أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا ، وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ " ،(5)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَكَى نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ حَتَّى أَدْمَوْا وَجْهَهُ ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَيَقُولُ : " رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " (6)
__________
(1) - أبو عوانة برقم( 5513 ) صحيح
(2) - أبو عوانة برقم( 5514) صحيح
(3) - أبو عوانة برقم( 5516 ) صحيح وهذه الأحاجيث غالبها في الصحيحين
(4) - نفسه برقم( 5517 ) صحيح
(5) - نفسه برقم( 5519 ) صحيح
(6) - نفسه برقم( 5524 ) صحيح(3/370)
و عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، قَالَ : هَذَا مَا ثنا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ ، وَقَالَ : " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "(1)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَهِقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ ، قَالَ : " مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ؟ " ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ أَيْضًا ، قَالَ : " مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ " ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ : " مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا " (2)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَمَّا رَهِقَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَمَعَهُ سَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ " ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَهَا ، فَقَامَ آخَرُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَهَا ، فَقَامَ آخَرُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ جَمِيعًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ : " مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا " (3)
قلت : ويكفيهم قول الله تعالى فيهم : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}[آل عمران/172، 175]
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة , ومرارة الهزيمة , وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا , فقل عددهم , فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح) , ونزل بهم الضر , وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى , وتومى ء إلى حقائق كبرى , نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم , هو شعور الهزيمة , وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش , وتعقبها , كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء , وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء , وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء , إنما هي واحدة وتمضي , ولهم الكرة عليهم , متى نفضوا عنهم الضعف والفشل , واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش , وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
__________
(1) - نفسه برقم( 5526 ) صحيح وهو فيهما
(2) - تفسه برقم( 5527 ) صحيح
(3) - نفسه برقم( 5528 ) صحيح(3/371)
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أن يشعر المسلمين , وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم , بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها , وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها , فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها , ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها , ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد , وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -:
(الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل) . .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:
قال محمد بن إسحاق:حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال:شهدنا أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي , فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو , قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ? - والله ما لنا من دابة نركبها , وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحا منه , فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق:كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال , فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال , أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو , وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال:يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال:يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة , في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا , وترضى به وحده وتكتفي , وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة , وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس:(حسبنا الله , ونعم الوكيل) . .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه , المكتفي به , المتجردين له:(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله) .
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
(بنعمة من الله وفضل) . .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء:نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع , فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله , لأن هذا هو الأصل الكبير , الذي يرجع إليه كل فضل , وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
(والله ذو فضل عظيم) . .
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد , وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله , صورتهم هذه , وموقفهم هذا , وهي صورة رفيعة , وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف , فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة , التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . . لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا . أطار الغبش , وأيقظ القلوب , وثبت الأقدام , وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
نعم . وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير . .
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب , وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان , وأن يبطلوا محاولته . فلا يخافوا أولياءه هؤلاء , ولا يخشوهم . بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر , الذي ينبغي أن يخاف:(3/372)
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) .
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه , ويلبسهم لباس القوة والقدرة , ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول , وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه , وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد , وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب , فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم , ودفعهم عن الشر والفساد .والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل , وأن يتضخم الشر , وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا , لا تقف في وجهه معارضة , ولا يصمد له مدافع , ولا يغلبه من المعارضين غالب . . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة , وفي ظل الإرهاب والبطش , يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ! يقلبون المعروف منكرا , والمنكر معروفا , وينشرون الفساد والباطل والضلال , ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل , ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم , ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له , وجلاء الحق الذي يطمسونه . .
والشيطان ماكر خادع غادر , يختفي وراء أوليائه , وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . . ومن هنا يكشفه الله , ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة:حقيقة مكره ووسوسته , ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه , ويستند إلى قوته . . إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله , وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . . لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:(فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين)(1)
=================
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 73)(3/373)
تحمل الجوع في الدعوة إلى الله ورسوله
جوعه صلى الله عليه وسلم
عَنْ سِمَاكٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ أَلَسْتُمْ فِى طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ.(1)
و عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ يَخْطُبُ قَالَ ذَكَرَ عُمَرُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِى مَا يَجِدُ دَقَلاً يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ.(2)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يُصَلِّي جَالِسًا , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا أَصَابَكَ ؟ قَالَ : " الْجُوعُ " , قَالَ : فَرُعِبْتُ , فَقَالَ : " لَا تُرَعْ إِنَّ شِدَّةَ الْقِيَامَةِ لَا تُصِيبُ الْجَائِعَ إِذَا احْتَسَبَ فِي دَارِ الدُّنْيَا " (3)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا ، فَقُلْتُ لَهُ : تُصَلِّي جَالِسًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَمَا أَصَابَكَ ؟ قَالَ : " الْجُوعُ " ، قَالَ : فَبَكَيْتُ ، فَقَالَ : " لَا تَبْكِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُصِيبُ الْجَائِعَ إِذَا احْتَسَبَ فِي دَارِ الدُّنْيَا " (4)
و عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ أَرْسَلَ إِلَيْنَا آلُ أَبِى بَكْرٍ بِقَائِمَةِ شَاةٍ لَيْلاً فَأَمْسَكْتُ وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. أَوْ قَالَتْ أَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَطَعْتُ. قَالَتْ تَقُولُ لِلَّذِى تُحَدِّثُهُ هَذَا عَلَى غَيْرِ مِصْبَاحٍ. قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّهُ لَيَأْتِى عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ مَا يَخْتَبِزُونَ خُبْزاً وَلاَ يَطْبُخُونَ قِدْراً. قَالَ حُمَيْدٌ فَذَكَرْتُ لِصَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ فَقَالَ لاَ بَلْ كُلُّ شَهْرَيْنِ. (5)
و عَنْ هِصَّانَ بْنِ كَاهِنٍ قَالَ : أَخْبَرْتِنِي عَائِشَةُ ، قَالَتْ : " أُهْدِيَ لَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ رِجْلُ شَاةٍ مِنْ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ " ، قَالَتْ : " وَاللَّهِ إِنِّي لَأُمْسِكُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُزُّهَا " أَوْ " أَمْسَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَجُزُّهَا " ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، عَلَى مِصْبَاحٍ ذَاكَ ؟ قَالَتْ : " لَوْ كَانَ عِنْدَنَا دُهْنُ مِصْبَاحٍ لَأَكْلَنْاهُ ، إِنْ كَانَ لَيَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ مَا يَخْتَبِزُونَ فِيهِ خُبْزًا ، وَلَا يَطْبُخُونَ فِيهِ " (6)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَمُرُّ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هِلاَلٌ ثُمَّ هِلاَلٌ لاَ يُوقَدُ فِى شَىْءٍ مِنْ بُيُوتِهِمُ النَّارُ لاَ لِخُبْزٍ وَلاَ لِطَبِيخٍ فَقَالُوا بِأَىِّ شَىْءٍ كَانُوا يَعِيشُونَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بِالأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ وَكَانَ لَهُمْ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَجَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْراً لَهُمْ مَنَائِحُ يُرْسِلُونَ إِلَيْهِمْ شَيْئاً مِنَ لَبَنٍ.(7)
و عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِى ، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ . فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتِ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَلْبَانِهِمْ ، فَيَسْقِينَا (8)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 7650 ) =الدقل : ردىء التمر ويابسه
(2) - صحيح مسلم برقم( 7652 )
(3) - الشعب برقم( 10037 ) حسن
(4) - مسند إبراهيم بن أدهم برقم( 8 ) حسن
(5) - مسند أحمد برقم( 25368) وفيه انقطاع
(6) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ برقم( 9119 ) حسن
(7) - مسند أحمد برقم (9487) {2/405} معتلى 9438 مجمع 10/315 حسن
المنائح : جمع منيحة وهى الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها
(8) - صحيح البخارى برقم(2567 )(3/374)
و عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، قَالَ : قَالَ لِي عُرْوَةُ . قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ : " إِنْ كُنَّا لَنَمْكُثُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، لَا نُوقِدُ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْبَاحًا وَلَا غَيْرَهُ ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ ؟ قَالَتْ : بِالْأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ ، إِذَا وَجَدْنَا " (1)
و عَنْ عُرْوَةَ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى أُمِّي فَقَالَتْ : أَيْ بُنَيَّ . فَقُلْتُ : لَبَّيْكِ . قَالَتْ : " وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَنَمْكُثُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مَا يُوقَدُ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارُ مِصْبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّهْ ، فَبِمَا كُنْتُمْ تَعِيشُونَ ؟ قَالَتْ : بِالْأَسْوَدَيْنِ الْمَاءِ وَالتَّمْرِ (2)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً قَالَ : وَكَانَ عَامَّةُ خُبْزِهِمُ الشَّعِيرَ (3)
و عن مُحَمَّدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ جَاءَتْ بِكَسْرَةِ خُبْزٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ ؟ " قَالَتْ : قُرْصٌ خَبَزْتُهُ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ ، فَقَالَ : " أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ " (4)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشُدُّ صُلْبَهُ بِالْحَجَرِ مِنَ الْغَرَثِ (5)
و عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : بَيْنَمَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُحَدِّثُنِي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ بَكَتْ ، فَقُلْتُ : مَا يُبْكِيكِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَتْ : مَا مَلَأْتُ بَطْنِي مِنْ طَعَامٍ فَشِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ إِلَّا بَكَيْتُ ، أَذَكَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ(6)
وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُبْكِيكِ ؟ قَالَتْ : مَا أَشْبَعُ فَأَشَاءُ أَنْ أَبْكِيَ إِلَّا بَكَيْتُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَأْتِي عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مَا يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ(7)
و و عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ غَدَاءً وَعَشَاءً مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ (8)
و عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ثَلَاثًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى قُبِضَ ، وَمَا رُفِعَ عَنْ مَائِدَتِهِ كِسْرَةٌ فَضْلًا حَتَّى قُبِضَ (9)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ يَمُرُّ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِلَالٌ ، ثُمَّ هِلَالٌ ، ثُمَّ هِلَالٌ لَا يُوقَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ لَا لِخُبْزٍ وَلَا لِطَبِيخٍ ، قَالُوا : بِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَعِيشُونَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : بِالْأَسْوَدَيْنِ : التَّمْرِ وَالْمَاءِ ، قَالَ : وَكَانَ لَهُ جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا لَهُمْ مَنَائِحُ يُرْسِلُونَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ لَبَنٍ(10)
__________
(1) - تهذيب الآثار للطبري برقم ( 615 ) صحيح
(2) - نفسه برقم( 616) صحيح
(3) - ابن سعد برقم 892 ) صحيح
(4) - نفسه برقم( 893 ) صحيح
(5) - نفسه برقم (894) حسن - الغرث الجوع
(6) - نفسه برقم(895 ) حسن
(7) - نفسه برقم( 896 ) حسن
(8) - نفسه برقم( 897 ) صحيح
(9) - نفسه برقم(898) صحيح
(10) - نفسه برقم( 899) حسن(3/375)
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْتُ وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ - قَالَ - فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ . قَالَ فَقُلْتُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ ، فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ . قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِى مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِى ، فَإِنْ كَانَ لِى عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ - قَالَ - ثُمَّ قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ - قَالَ - فَبَيْنَا أَنَا فِى أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِى لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا - قَالَ - فَقُلْتُ لَهَا مَالَكِ وَلِمَا هَا هُنَا فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِى أَمْرٍ أُرِيدُهُ . فَقَالَتْ لِى عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ . فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ . فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ . فَقُلْتُ . تَعْلَمِينَ أَنِّى أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِى أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِى مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِى كُلِّ شَىْءٍ ، حَتَّى تَبْتَغِى أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَزْوَاجِهِ . فَأَخَذَتْنِى وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِى عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا ، وَكَانَ لِى صَاحِبٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِى بِالْخَبَرِ ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ ، وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا ، فَقَدِ امْتَلأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ ، فَإِذَا صَاحِبِى الأَنْصَارِىُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ افْتَحِ افْتَحْ . فَقُلْتُ جَاءَ الْغَسَّانِىُّ فَقَالَ بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ . اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَزْوَاجَهُ . فَقُلْتُ رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ . فَأَخَذْتُ ثَوْبِىَ فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ ، وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ . فَأَذِنَ لِى - قَالَ عُمَرُ - فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَىْءٌ ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِى جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ « مَا يُبْكِيكَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالَ « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ » (1).
و عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَاسِي النَّاسَ بِنَفْسِهِ حَتَّى جَعَلَ يُرَقِّعُ إِزَارَهُ بِالْأَدَمِ , وَمَا جَمَعَ بَيْنَ عَشَاءٍ وَغَدَاءٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وِلَاءً حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ (2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 4913 ) - القرظ : شجر يدبغ به
(2) - ابن أبي شيبة برقم(33781 ) صحيح مرسل(3/376)
و عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ . قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ .(1)
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ كُنَّا نَأْتِى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ قَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ ، وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ . (2)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَبِيتُ اللَّيَالِىَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا وَأَهْلُهُ لاَ يَجِدُونَ عَشَاءً وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ.(3)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ ، فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنَ الْخُبْزِ الشَّعِيرِ .(4)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ فَاطِمَةَ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ فَقَالَ « هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ». (5)
و عن مُحَمَّدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ جَاءَتْ بِكَسْرَةِ خُبْزٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ ؟ " قَالَتْ : قُرْصٌ خَبَزْتُهُ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتَكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ ، فَقَالَ : " أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ "(6)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بِطَعَامٍ سُخْنٍ فَأَكَلَ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا دَخَلَ بَطْنِى طَعَامٌ سُخْنٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا ».(7)
و عَنْ أَبِى حَازِمٍ قَالَ سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَقُلْتُ هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّقِىَّ فَقَالَ سَهْلٌ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّقِىَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ . قَالَ فَقُلْتُ هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنَاخِلُ قَالَ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنْخُلاً مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ . قَالَ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ قَالَ كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ وَمَا بَقِىَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ . (8)
و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " مَا كَانَ يَبْقَى عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ " (9)
و عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : " مَا رُفِعَتْ مَائِدَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا فَضْلَةٌ مِنْ طَعَامٍ قَطُّ (10)
===============
وضعه عليه السلام والصحابة الحجر على بطونهم من الجوع
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِى طَلْحَةَ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْجُوعَ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ حَجَرَيْنِ. (11)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم( 5386 ) - السكرجة : إناء صغير يؤكل فيه القليل من الطعام
(2) - صحيح البخارى برقم( 5421 ) -المرقق : الأرغفة الواسعة الرقيقة -السميط : المشوية بجلدها
(3) - سنن الترمذى برقم( 2534 ) صحيح - الطاوى : الجائع خالى البطن
(4) - صحيح البخارى برقم( 5414 ) -المصلية : المشوية
(5) - مسند أحمد برقم (13567) صحيح
(6) - ابن سعد برقم( 893 ) صحيح
(7) - سنن ابن ماجه برقم(4289 ) صحيح
(8) - صحيح البخارى برقم(5413)
(9) - الطبراني في الأوسط برقم( 1627 ) حسن
(10) - الطبراني في الأوسط برقم(903 ) صحيح
(11) - سنن الترمذى برقم(2545 ) حسن لغيره(3/377)
و عَنِ ابْنِ الْبُجَيْرِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوعٌ يَوْمًا فَوَضَعَ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ ثُمَّ قَالَ : " أَلَا رُبَّ نَفْسٍ طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَائِعَةٍ عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَلَا يَا رُبَّ نَفْسٍ جَائِعَةٍ عَارِيَةٍ فِي الدُّنْيَا طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَلَا يَا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ أَلَا يَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ أَلَا يَا رُبَّ مُتَخَوِّضٍ وَمُنْفِقٍ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلَاقٍ أَلَا وَإِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزَنَةٌ بِرَبْوَةٍ أَلَا وَإِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلَةٌ بِشَهْوَةٍ أَلَا يَا رُبَّ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ صَاحِبَهَا حُزْنًا طَوِيلًا "(1)
===============
جوعه عليه السلام وأبي بكر، وعمر وخبرهم مع أبي أيوب
__________
(1) - الآحاد والمثاني برقم(2382 ) قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : إِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ عَنْ ثِقَاتٍ حَسَنٌ *(3/378)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ ، فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قَالَ : مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا مَا أَجِدُ مِنْ حَاقِّ الْجُوعِ ، قَالَ : وَأَنَا وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ ، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ " ، قَالَا : وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنَا إِلَّا مَا نَجِدُ فِي بُطُونِنَا مِنْ حَاقِّ الْجُوعِ ، قَالَ : " وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ ، فَقُومَا " ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَابَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَّخِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا أَوْ لَبَنًا ، فَأَبْطَأَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ ، فَلَمْ يَأْتِ لِحِينِهِ ، فَأَطْعَمَهُ لِأَهْلِهِ وَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلِهِ يَعْمَلُ فِيهِ ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ خَرَجَتِ امْرَأَتُهُ ، فَقَالَتْ : مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ ، فَقَالَ لَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَأَيْنَ أَبُو أَيُّوبَ ؟ " فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ فِي نَخْلٍ لَهُ ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ بِالْحِينِ الَّذِي كُنْتَ تَجِيءُ فِيهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقْتَ " قَالَ : فَانْطَلَقَ فَقَطَعَ عِذْقًا مِنَ النَّخْلِ فِيهِ مِنْ كُلِّ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا ، أَلَا جَنَيْتَ لَنَا مِنْ تَمْرِهِ " فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ تَمْرِهِ وَرُطَبِهِ وَبُسْرِهِ ، وَلَأَذْبَحَنَّ لَكَ مَعَ هَذَا ، قَالَ : " إِنْ ذَبَحْتَ فَلَا تَذْبَحَنَّ ذَاتَ دَرٍّ " ، فَأَخَذَ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَذَبَحَهُ ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : اخْبِزِي وَاعْجِنِي لَنَا ، وَأَنْتِ أَعْلَمُ بِالْخَبْزِ ، فَأَخَذَ الْجَدْيَ فَطَبَخَهُ وَشَوَى نِصْفَهُ ، فَلَمَّا أَدْرَكَ الطَّعَامُ ، وُضِعَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، فَأَخَذَ مِنَ الْجَدْيِ فَجَعَلَهُ فِي رَغِيفٍ ، فَقَالَ : " يَا أَبَا أَيُّوبَ أَبْلِغْ بِهَذَا فَاطِمَةَ ، فَإِنَّهَا لَمْ تُصِبْ مِثْلَ هَذَا مُنْذُ أَيَّامٍ " ، فَذَهَبَ بِهِ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى فَاطِمَةَ ، فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَبِعُوا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَتَمْرٌ وَبُسْرٌ وَرُطَبٌ " وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فَهَذَا النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : " بَلْ إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا ، فَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ ، فَقُولُوا : بِسْمِ اللَّهِ ، وَإِذَا شَبِعْتُمْ فَقُولُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَا " فَلَمَّا نَهَضَ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ : " ائْتِنَا غَدًا " وَكَانَ لَا يَأْتِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مَعْرُوفًا إِلَّا أَحَبَّ أَنْ يُجَازِيَهُ ، قَالَ : وَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَكَ أَنْ تَأْتِيَهَ غَدًا ، فَأَتَاهُ مِنَ الْغَدِ ، فَأَعْطَاهُ وَلِيدَتَهُ ، فَقَالَ : " يَا أَبَا أَيُّوبَ اسْتَوْصِ بِهَا خَيْرًا ، فَإِنَّا لَمْ نَرَ إِلَّا خَيْرًا مَا دَامَتْ عِنْدَنَا " فَلَمَّا جَاءَ بِهَا أَبُو أَيُّوبَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا أَجِدُ لَوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْ أَنْ أَعْتِقَهَا ، فَأَعْتَقَهَا (1)
__________
(1) - صحيح ابن حبان برقم( 5306 ) صحيح(3/379)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، سَمِعَ عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا عِنْدَ الظَّهِيرَةِ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أَخْرَجَكَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ " قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَكَ ؟ قَالَ : " أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكَ ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ " قَالَ : أَخْرَجَنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي أَخْرَجَكُمَا ، فَقَعَدَ مَعَهُمَا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُهُمَا فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَلْ بِكُمَا مِنْ قُوَّةٍ فَتَنْطَلِقَانِ إِلَى هَذَا النَّخْلِ فَتُصِيبَانِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ؟ " فَقُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَنْزِلَ مَالِكِ بْنِ التَّيِّهَانِ أَبِي الْهَيْثَمِ الْأَنْصَارِيِّ ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِمْ ، وَأُمُّ أَبِي الْهَيْثَمِ تَسْمَعُ السَّلَامَ تُرِيدُ أَنْ يَزِيدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّلَامِ فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْصَرِفَ ، خَرَجَتْ أُمُّ أَبِي الْهَيْثَمِ تَسْعَى فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : قَدْ سَمِعْتُ تَسْلِيمَكَ وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَزِيدَنَا مِنْ سَلَامِكَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ ؟ " قَالَتْ : قَرِيبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ ، ادْخُلُوا ، السَّاعَةَ يَأْتِي ، فَبَسَطَتْ لَهُمْ بِسَاطًا تَحْتَ شَجَرَةٍ حَتَّى جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ مَعَ حِمَارِهِ وَعَلَيْهِ قِرْبَتَانِ مِنْ مَاءٍ فَفَرِحَ بِهِمْ أَبُو الْهَيْثَمِ وَقَرَّبَ تَحِيَّتَهُمْ وَصَعِدَ أَبُو الْهَيْثَمِ عَلَى نَخْلَةٍ فَصَرَمَ أَعْذَاقًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حَسْبُكَ يَا أَبَا الْهَيْثَمِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْكُلُونَ مِنْ بُسْرِهِ وَمِنْ رُطَبِهِ ، وَتَلَذُّوا بِهِ ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بِمَاءٍ فَشَرِبُوا عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ " ، ثُمَّ قَامَ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى شَاةٍ لِيَذْبَحَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِيَّاكَ وَاللَّبُونَ " ، ثُمَّ قَامَ أَبُو الْهَيْثَمِ فَعَجَنَ لَهُمْ وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رُءُوسَهُمْ فَنَامُوا فَاسْتَيْقَظُوا وَقَدْ أَدْرَكَ طَعَامُهُمْ ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ ، وَأَتَاهُمْ أَبُو الْهَيْثَمِ بِبَقِيَّةِ الْأَعْذَاقِ فَأَصَابُوا مِنْهُ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُمْ بِخَيْرٍ ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي الْهَيْثَمِ : " إِذَا بَلَغَكَ أَنَّهُ قَدْ أَتَانَا رَقِيقٌ فَأْتِنَا " قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ : فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقِيقٌ أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسًا فَكَاتَبْتُهُ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَمَا رَأَيْتُ رَأْسًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةٍ مِنْهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى : فَحَدَّثْتُ بِهِ إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيَّ فَحَدَّثَنِي بِنَحْوِهِ ، وَزَادَ فِيهِ : فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ أَبِي الْهَيْثَمِ : لَوْ دَعَوْتَ لَنَا فَقَالَ : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ "(1)
__________
(1) - البزار برقم(213 ) فيه ضعف(3/380)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " فَاتَنِي الْعَشَاءُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُلْتُ لِأَهْلِي : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالُوا : لَا , فَلَمَّا أَخَذْتُ مَضْجَعِي جَعَلْتُ أَتَقَلَّبُ عَلَى فِرَاشِي فَلَا يَأْتِينِي النَّوْمُ , فَقُلْتُ : إِنِّي لَوْ خَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ رَكَعَاتٍ فَتَعَلَّلْتُ حَتَّى أُصْبِحَ , فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ رَكَعَاتٍ , ثُمَّ جَلَسْتُ , فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ طَلَعَ عُمَرُ فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قُلْتُ : هَذَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ : مَا أَخْرَجَكَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ : وَأَنَا وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا ذَلِكَ , فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ جَالِسَانِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَدَرَنِي عُمَرُ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا أَنَا عُمَرُ , قَالَ : " مَا أَخْرَجَكُمَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ " قَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ سَوَادًا فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : هَذَا أَبُو بَكْرٍ , فَقُلْتُ لَهُ : مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ فَقَالَ الْجُوعُ , فَقُلْتُ لَهُ : وَأَنَا وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا الْجُوعُ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَأَنَا مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا , انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْوَاقِفِيِّ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ لَعَلَّنَا نُصِيبُ عِنْدَهُ شَيْئًا " فَانْطَلَقْنَا فِي الْقَمَرِ حَتَّى أَتَيْنَا الْحَائِطَ فَقَرَعْنَا الْبَابَ , فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ عُمَرُ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , فَفَتَحَتْ لَنَا الْبَابَ , فَدَخَلْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيْنَ بَعْلُكِ ؟ " قَالَتْ : ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ حِسْيِ بَنِي حَارِثَةَ وَالَآنَ يَأْتِيكُمْ , فَجَلَسْنَا حَتَّى أَتَى بِقِرْبَةٍ فَمَلَأَهَا فَعَلَّقَهَا بِكِرْنَافَةٍ مِنْ كَرَانِيفِ النَّخْلِ , ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ : مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصَاحِبَيْهِ , مَا زَارَ النَّاسَ مِثْلُ مَنْ زَارَنِي اللَّيْلَةَ , ثُمَّ قَطَعَ عَذْقًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِينَا , فَجَعَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهُ , ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَجَالَ فِي الْغَنَمِ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَذْبَحَ لَنَا ذَاتَ دَرٍّ " فَذَبَحَ وَسَلَخَ وَقَطَّعَ فِي الْقَدْرِ , وَقَامَتِ الْمَرْأَةُ فَطَحَنَتْ وَعَجَنَتْ وَخَبَزَتْ حَتَّى بَلَغَ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ , ثُمَّ ثَرَدَ وَغَرَفَ , ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِينَا , فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا , ثُمَّ قَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ وَقَدْ سَفَتْهَا الرِّيحُ , حَتَّى بَرَدَتْ فَصَبَّ مِنْهَا فِي الْإِنَاءِ , ثُمَّ نَاوَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ , ثُمَّ نَاوَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ خَرَجْنَا لَمْ يُخْرِجْنَا إِلَّا الْجُوعُ , ثُمَّ لَمْ نَرْجِعْ حَتَّى أَصَبْنَا هَذَا , هَذَا وَرَبِّكُمُ النَّعِيمُ , لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا " ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَا لَكَ خَادِمٌ يَسْقِيكَ مِنَ الْمَاءِ ؟ " قَالَ : لَا , قَالَ : " فَانْظُرْ أَوَّلَ سَبْيٍ يَجِيئُنَا فَأْتِنَا حَتَّى نُخْدِمَكَ خَادِمًا " فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَتَاهَ سَبْيٌ , فَأَتَاهُ الْوَاقِفِيُّ فَقَالَ : مَوْعِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : " نَعَمْ , هَذَا سَبْيٌ اخْتَرْهُمْ " قَالَ : كُنْ أَنْتَ الَّذِي تَخْتَارُ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : " خُذْ هَذَا وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ " فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى أَتَى بِهِ امْرَأَتَهُ فَقَالَ : هَذَا مَوْعِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَتْ : مَا قُلْتَ لَهُ وَمَا قَالَ لَكَ ؟ قَالَ : قَالَ لِي : " هَذَا سَبْيٌ اخْتَرْهُمْ " فَقُلْتُ لَهُ : كُنْ أَنْتَ الَّذِي تَخْتَارُ لِي , فَقَالَ : " خُذْ هَذَا الْغُلَامَ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ " فَقَالَتْ : قَدْ قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْسِنْ إِلَيْهِ , فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ كَمَا أَمَرَكَ , قَالَ : وَمَا الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ قَالَتْ : أَنْ تَعْتِقَهَ , فَأَعْتَقَهُ (1)
__________
(1) - مسند أبي بكر برقم(54 ) فيه ضعف وله شواهد(3/381)
===============
جوع علي، وفاطمة رضي الله عنهما
عَنْ فَاطِمَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهَا يَوْمًا، فَقَالَ:أَيْنَ ابْنَاي؟ يَعْنِي حَسَنًا وَحُسَيْنًا، قَالَتْ: أَصْبَحْنَا وَلَيْسَ فِي بَيْتِنَا شَيْءٌ يَذُوقُهُ ذَائِقٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَذْهَبُ بِهِمَا فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ يَبْكِيَا عَلَيْكِ، وَلَيْسَ عِنْدَكِ شَيْءٌ، فَذَهَبَ إِلَى فُلانٍ الْيَهُودِيِّ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُمَا يَلْعَبَانِ فِي شَرَبَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا فَضْلٌ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، أَلا تَقْلِبُ ابْنِيَّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الْحَرُّ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَصْبَحْنَا وَلَيْسَ فِي بَيْتِنَا شَيْءٌ، فَلَوْ جَلَسْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَتَّى أَجْمَعَ لِفَاطِمَةَ تَمَرَاتٍ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اجْتَمَعَ لِفَاطِمَةَ شَيْءٌ مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَهُ فِي صُرَّتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا، وَعَلَيَّ الآخَرُ حَتَّى أَقْلِبَهُمَا.(1)
و عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ : نُبِّئْتُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : مَكَثْنَا أَيَّامًا لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ وَلَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَخَرَجْتُ فَإِذَا بِدِينَارٍ مَطْرُوحٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَمَكَثْتُ هُنَيْهَةً أُوَامِرَ نَفْسِي فِي أَخْذِهِ أَوْ تَرْكِهِ , ثُمَّ أَخَذْتُهُ لِمَا بِنَا مِنَ الْجَهْدِ فَأَتَيْتُ بِهِ الضَّفَّاطِينَ فَاشْتَرَيْتُ بِهِ دَقِيقًا , ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ فَاطِمَةَ فَقُلْتُ : اعْجِنِي وَاخْبِزِي , فَجَعَلَتْ تَعْجِنُ وَإِنَّ قِصَّتَهَا لَتَضْرِبُ حَرْفَ الْجَفْنَةِ مِنَ الْجَهْدِ الَّذِي بِهَا , ثُمَّ خَبَزَتْ , فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ : " كُلُوا ؛ فَإِنَّهُ رِزْقٌ رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "(2)
و عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ : أَنَّ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : " لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنِّي لارْبُطُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ ، وَإِنَّ صَدَقَتِي الْيَوْمَ لارْبَعُونَ أَلْفًا "(3)
===========
أمره عليه السلام أمَّ سليم بالصبر على الجوع
، عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، قَالَتْ: كُنْتُ فِي بَعْضِ حُجَرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عِنْدَهُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ، فَقَالَ:اصْبِرْ، فَوَاللَّهِ مَا فِي آلِ مُحَمَّدٍ شَيْءٌ مُنْذُ سَبْعٍ، وَلا أُوَقِدَ تَحْتَ بُرْمَةٍ لَهُمْ مُنْذُ ثَلاثٍ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ جِبَالَ تِهَامَةَ كُلَّهَا ذَهَبًا لَفَعَلَ.(4)
==============
جوع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
عَنْ بَعْضِ آلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : " كُنَّا قَوْمًا يُصِيبُنَا ظَلَفُ الْعَيْشِ بِمَكَّةَ وَشِدَّتُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمَّا أَصَابَنَا الْبَلَاءُ اعْتَرَفْنَا بِذَلِكَ وَصَبَرْنَا لَهُ وَمَرَنَّا عَلَيْهِ , وَكَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَنْعَمَ غُلَامٍ بِمَكَّةَ وَأَجْوَدَهُ حُلَّةً مَعَ أَبَوَيْهِ ، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُهُ جَهِدَ فِي الْإِسْلَامِ جَهْدًا شَدِيدًا حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ جِلْدَهُ يَتَحَسَّفُ تَحَسُّفَ جِلْدِ الْحَيَّةِ عَنْهَا حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَعْرِضُهُ عَلَى قِسِيِّنَا فنَحْمِلَهُ مِمَّا بِهِ مِنَ الْجَهْدِ وَمَا يَقْصُرُ عَنْ شَيْءٍ بَلَغْنَاهُ , ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةَ يَوْمَ أُحُدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ " (5)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 278)برقم(18473 )حسن
(2) - الزهد لهناد برقم(746 ) فيه انقطاع
(3) - مسند أحمد برقم(1336 )وفيه انقطاع
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 18 / ص 299)برقم(20804 ) ضعيف
(5) - الزهد لهناد برقم( 750 )فيه جهالة(3/382)
و عَنْ سَعْدٍ قَالَ : " كُنَّا قَوْمًا يُصِيبُنَا ظَلَفُ الْعَيْشِ بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِدَّتُهُ ، فَلَمَّا أَصَابَنَا الْبَلَاءُ اعْتَرَفْنَا لِذَلِكَ وَمَرَنَّا عَلَيْهِ وَصَبَرْنَا لَهُ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ خَرَجْتُ مِنَ اللَّيْلِ أَبُولُ ، وَإِذَا أَنَا أَسْمَعُ بِقَعْقَعَةِ شَيْءٍ تَحْتَ بَوْلِي ، فَإِذَا قِطْعَةُ جِلْدِ بَعِيرٍ ، فَأَخَذْتُهَا فَغَسَلْتُهَا ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ ، ثُمَّ اسْتَفَفْتُهَا وَشَرِبْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ ، فَقَوِيتُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا " (1)
و عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ سَعْدًا ، يَقُولُ : " لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ ، حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ " (2)
و عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدًا - رضى الله عنه - يَقُولُ إِنِّى لأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ الْبَعِيرُ أَوِ الشَّاةُ ، مَا لَهُ خِلْطٌ ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإِسْلاَمِ ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِى . وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ ، قَالُوا لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّى .(3)
===============
جوع المقداد بن الأسود وصاحبيه رضي الله عنهم
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، قَالَ : جِئْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي قَدْ كَادَتْ تَذْهَبُ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجَهْدِ فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْبَلُنَا أَحَدٌ حَتَّى انْطَلَقَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَحْلِهِ وَلِآلِ مُحَمَّدٍ ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ يَحْتَلِبُونَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَزِّعُ اللَّبَنَ بَيْنَنَا وَكُنَّا نَرْفَعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ فَيَجِئُ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُ الْيَقْظَانَ وَلَا يُوقِظُ النَّائِمَ فَقَالَ لِيَ الشَّيْطَانُ : لَوْ شَرِبْتَ هَذِهِ الْجَرْعَةَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ فَمَا زَالَ حَتَّى شَرِبْتُهَا فَلَمَّا شَرِبْتُهَا نَدَّمَنِي وَقَالَ : مَا صَنَعْتَ ؟ يَجِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجِدُ شَرَابَهُ فَيَدْعُوَ عَلَيْكَ فَتَهْلِكَ ، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَشَرِبَا شَرَابَهُمَا وَنَامَا وَأَمَّا أَنَا فَلَمْ يَأْخُذْنِي النَّوْمُ وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ لِي إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي بَدَتْ فِيهِ قَدَمَايَ وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ بَدَا رَأْسِي وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يَجِيءُ فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى شَرَابِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ : يَدْعُو عَلَيَّ الْآنَ فَأَهْلِكُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي " فَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ وَأَخَذْتُ الشَّمْلَةَ وَانْطَلَقْتُ إِلَى الْأَعْنُزِ أَجُسُّهُنَّ أَيُّهُنَّ أَسْمَنُ كَيْ أَذْبَحَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ فَأَخَذْتُ إِنَاءً لِآلِ مُحَمَّدٍ مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْلِبُوا فِيهِ فَحَلَبْتُ حَتَّى عَلَتْهُ الرَّغْوَةُ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ ، ثُمَّ نَاوَلْتُهُ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ ، ثُمَّ ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَقَالَ لِي : " إِحْدَى سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ " فَأَنْشَأْتُ أُخْبِرُهُ بِمَا صَنَعْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا كَانَتْ إِلَّا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ أَيْقَظْتَ صَاحِبَيْكَ فَأَصَابَا مِنْهَا " فَقُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُبَالِي إِذَا أَصَبْتَهَا أَنْتَ وَأَصَبْتُ فَضْلَكَ مَنْ أَخْطَأَتْ مِنَ النَّاسِ (4)
__________
(1) - الحلية برقم( 289 ) فيه جهالة
(2) - الحلية برقم(286 )صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم(3728 )
(4) - الطيالسي برقم( 1243 ) صحيح
(1) الأعنز : جمع عنز وهي الأنثى من المعز والظباء -(2) التُّحفة : طُرْفة الفاكهة وأحسنها، والجمع التحف ثم تُستعملُ في غير الفاكهةِ من الألْطاف والنَّعَص التي يُكَرمُ بها الأضياف وغيرهم -(3) الشملة : كساء يُتَغَطَّى به ويُتَلفَّف فيه -(4) بدا : وضح وظهر -(5) لشفرة : السكين العريضة -(6) جس الشيء بيده : مسه -(7) الحُفَّل : جمع حافل وهي الكثيرة اللبن(3/383)
و عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلْنَا الْمَدِينَةَ عَشَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً عَشَرَةً ، يَعْنِي : فِي كُلِّ بَيْتٍ ، قَالَ : فَكُنْتُ فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ ، قَالَ : وَلَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا شَاةٌ نَتَجَزَّأُ لَبَنَهَا ، قَالَ : فَكُنَّا إِذَا أَبْطَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبْنَا ، وَبَقَّيْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَبْطَأَ عَلَيْنَا ، قَالَ : وَنِمْنَا ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ : لَقَدْ أَطَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَا أُرَاهُ يَجِيءُ اللَّيْلَةَ ، لَعَلَّ إِنْسَانًا دَعَاهُ ، قَالَ : فَشَرِبْتُهُ ، فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ جَاءَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ ، قَالَ : فَلَمَّا شَرِبْتُهُ لَمْ أَنَمْ أَنَا ، قَالَ : فَلَمَّا دَخَلَ سَلَّمَ ، وَلَمْ يَشُدَّ ، ثُمَّ مَالَ إِلَى الْقَدَحِ ، فَلَمَّا لَمْ يَرَ شَيْئًا أَسْكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنَا اللَّيْلَةَ " قَالَ : وَثَبْتُ وَأَخَذْتُ السِّكِّينَ ، وَقُمْتُ إِلَى الشَّاةِ ، قَالَ : مَا لَكَ ؟ قُلْتُ : أَذْبَحُ قَالَ : " لَا ، ائْتِنِي بِالشَّاةِ " ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا ، فَخَرَجَ شَيْئًا ، ثُمَّ شَرِبَ وَنَامَ (1)
===============
جوع أبي هريرة رضي الله عنه
عن مُجَاهِدَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى ، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ ، مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ » . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنَ لِى ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ » . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى » . قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا ، فَسَاءَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
__________
(1) - مسند أحمد برقم(23281 )صحيح(3/384)
قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ » . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ » . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ » . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ » . فَشَرِبْتُ ، فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ » . حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ « فَأَرِنِى » . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى ، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (6452 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 272)
وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ : اِسْتِحْبَاب الشُّرْب مِنْ قُعُود ، وَأَنَّ خَادِم الْقَوْم إِذَا دَار عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْرَبُونَ يَتَنَاوَل الْإِنَاء مِنْ كُلّ وَاحِد فَيَدْفَعهُ هُوَ إِلَى الَّذِي يَلِيه وَلَا يَدْعُ الرَّجُل يُنَاوِل رَفِيقه لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَوْع اِمْتِهَان الضَّيْف . وَفِيهِ مُعْجِزَة عَظِيمَة ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهَا نَظَائِر فِي عَلَامَات النُّبُوَّة مِنْ تَكْثِير الطَّعَام وَالشَّرَاب بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهِ جَوَاز الشِّبَع وَلَوْ بَلَغَ أَقْصَى غَايَته أَخْذًا مِنْ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة " لَا أَجِد لَهُ مَسْلَكًا " وَتَقْرِير النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي اللَّبَن مَعَ رِقَّته وَنُفُوذه فَكَيْفَ بِمَا فَوْقه مِنْ الْأَغْذِيَة الْكَثِيفَة ، لَكِنْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ خَاصًّا بِمَا وَقَعَ فِي تِلْكَ الْحَال فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ . وَقَدْ أَوْرَدَ التِّرْمِذِيّ عَقِب حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة هَذَا حَدِيث اِبْن عُمَر رَفَعَهُ " أَكْثَرهمْ فِي الدُّنْيَا شِبَعًا أَطْوَلهمْ جُوعًا يَوْم الْقِيَامَة " وَقَالَ : حَسَن . وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ . قُلْت : وَحَدِيث أَبِي جُحَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِم وَضَعَّفَهُ أَحْمَد . وَفِي الْبَاب أَيْضًا حَدِيث الْمِقْدَام بْن مَعْد يَكْرِب رَفَعَهُ " مَا مَلَأ اِبْن آدَم وِعَاء شَرًّا مِنْ بَطْنه " الْحَدِيث أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا وَقَالَ حَسَن صَحِيح وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنْ يُحْمَل الزَّجْر عَلَى مَنْ يَتَّخِذ الشِّبَع عَادَة لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكَسَل عَنْ الْعِبَادَة وَغَيْرهَا ، وَيُحْمَل الْجَوَاز عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ نَادِرًا وَلَا سِيَّمَا بَعْد شِدَّة جُوع وَاسْتِبْعَاد حُصُول شَيْء بَعْده عَنْ قُرْب . وَفِيهِ أَنَّ كِتْمَان الْحَاجَة وَالتَّلْوِيح بِهَا أَوْلَى مِنْ إِظْهَارهَا وَالتَّصْرِيح بِهَا . وَفِيهِ كَرَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيثَاره عَلَى نَفْسه وَأَهْله وَخَادِمه . وَفِيهِ مَا كَانَ بَعْض الصَّحَابَة عَلَيْهِ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ضِيق الْحَال ، وَفَضْل أَبِي هُرَيْرَة وَتَعَفُّفه عَنْ التَّصْرِيح بِالسُّؤَالِ وَاكْتِفَاؤُهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ ، وَتَقْدِيمه طَاعَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَظّ نَفْسه مَعَ شِدَّة اِحْتِيَاجه ، وَفَضْل أَهْل الصُّفَّة . وَفِيهِ أَنَّ الْمُدَّعُو إِذَا وَصَلَ إِلَى دَار الدَّاعِي لَا يَدْخُل بِغَيْرِ اِسْتِئْذَان ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْث فِيهِ فِي كِتَاب الِاسْتِئْذَان مَعَ الْكَلَام عَلَى حَدِيث " رَسُول الرَّجُل إِذْنه " . وَفِيهِ جُلُوس كُلّ أَحَد فِي الْمَكَان اللَّائِق بِهِ . وَفِيهِ إِشْعَار بِمُلَازَمَةِ أَبِي بَكْر وَعُمَر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَدُعَاء الْكَبِير خَادِمه بِالْكُنْيَةِ . وَفِيهِ تَرْخِيم الِاسْم عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَالْعَمَل بِالْفَرَاسَةِ ، وَجَوَاب الْمُنَادَى بِلَبَّيْكَ ، وَاسْتِئْذَان الْخَادِم عَلَى مَخْدُومه إِذَا دَخَلَ مَنْزِله ، وَسُؤَال الرَّجُل عَمَّا يَجِدهُ فِي مَنْزِله مِمَّا لَا عَهْد لَهُ بِهِ لِيُرَتِّب عَلَى ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ ، وَقَبُول النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّة وَتَنَاوُله مِنْهَا وَإِيثَاره بِبَعْضِهَا الْفُقَرَاء ، وَامْتِنَاعه مِنْ تَنَاوُل الصَّدَقَة وَوَضْعه لَهَا فِيمَنْ يَسْتَحِقّهَا ، وَشُرْب السَّاقِي آخِرًا وَشُرْب صَاحِب الْمَنْزِل بَعْده ، وَالْحَمْد عَلَى النِّعَم ، وَالتَّسْمِيَة عِنْد الشُّرْب .(3/385)
و عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ فِيهِ ، فَمَرَّ بِي أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، وَمَرَّ بِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، حَتَّى مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِوَجْهِي ، وَمَا فِي نَفْسِي ، قَالَ : " أَبَا هِرٍّ " ، فَقُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ : " الْحَقْ " ، فَلَحِقْتُهُ ، فَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ ، فَأَذِنَ ، فَدَخَلْتُ ، فَإِذَا هُوَ بِلَبَنٍ فِي قَدَحٍ ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ : " مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ؟ " ، قَالَ : هَدِيَّةُ فُلَانٍ ، أَوْ قَالَ : فُلَانٌ ، فَقَالَ : " أَبَا هِرٍّ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ ، فَادْعُهُمْ " ، وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافٌ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ أَوْ مَالٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهَا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَشَرَكَهُمْ فِيهَا ، وَأَصَابَ مِنْهَا ، فَسَاءَنِي وَاللَّهِ ذَلِكَ . قُلْتُ : أَيْنَ يَقَعُ هَذَا اللَّبَنُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَأَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ، فَانْطَلَقْتُ فَدَعَوْتُهُمْ ، فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَدَخَلُوا وَأَخَذَ الْقَوْمُ مَجَالِسَهُمْ . قَالَ : " أَبَا هِرٍّ " ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " خُذْ ، فَنَاوِلْهُمْ " . قَالَ فَجَعَلْتُ أُنَاوَلُ رَجُلًا رَجُلًا ، فَيَشْرَبُ ، فَإِذَا رَوِيَ أَخَذْتُهُ ، فَنَاوَلْتُ الْآخَرَ حَتَّى رَوِيَ الْقَوْمُ جَمِيعًا ، ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَتَبَسَّمَ ، وَقَالَ : " أَبَا هِرٍّ ، أَنَا وَأَنْتَ " . قُلْتُ : صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " خُذْ ، فَاشْرَبْ " ، فَمَا زَالَ يَقُولُ : " اشْرَبْ " ، حَتَّى قُلْتُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ : " فَأَرِنِي الْإِنَاءَ " ، فَأَعْطَيْتُهُ الْإِنَاءَ ، فَشَرِبَ الْبَقِيَّةَ ، وَحَمِدَ رَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
و عن سُلَيْمَ بْنِ حَيَّانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِيَ ، يَقُولُ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ لَمْ أَطْعَمْ فِيهَا طَعَامًا ، فَجِئْتُ أُرِيدُ الصُّفَّةَ ، فَجَعَلْتُ أَسْقُطُ فَجَعَلَ الصِّبْيَانُ يُنَادُونَ : جُنَّ أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : فَجَعَلْتُ أُنَادِيهِمْ ، وَأَقُولُ : بَلْ أَنْتُمُ الْمَجَانِينُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الصُّفَّةِ ، فَوَافَقْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ ، فَدَعَا عَلَيْهَا أَهْلَ الصُّفَّةِ وَهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا ، فَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلُ كَيْ يَدْعُوَنِي ، حَتَّى قَامَ الْقَوْمُ وَلَيْسَ فِي الْقَصْعَةِ إِلاَّ شَيْءٌ فِي نَوَاحِي الْقَصْعَةِ ، فَجَمَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَتْ لُقْمَةً ، فَوَضَعَهَا عَلَى أَصَابِعِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِي : كُلْ بِاسْمِ اللهِ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا زِلْتُ آكُلُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعْتُ.(2)
و عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ فَقَالَ بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِى الْكَتَّانِ ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنِّى لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَىَّ ، فَيَجِىءُ الْجَائِى فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِى ، وَيُرَى أَنِّى مَجْنُونٌ ، وَمَا بِى مِنْ جُنُونٍ ، مَا بِى إِلاَّ الْجُوعُ .(3)
__________
(1) - صحيح ابن حبان برقم(6644 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 468)برقم(6533)صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم(7324 ) -الممشق : المصبوغ بالمشق وهو الطين الأحمر(3/386)
وعن سَلِيمَ بْنِ حَيَّانَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : " نَشَأْتُ يَتِيمًا ، وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا ، وَكُنْتُ أَجِيرًا لِابْنَةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي ، وَعُقْبَةِ رِجْلِي ، أَحْطِبُ لَهُمْ إِذَا نَزَلُوا ، وَأَحْدُو لَهُمْ إِذَا رَكِبُوا ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قِوَامًا ، وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا " (1)
وعنه قال : نَشَأْتُ يَتِيمًا , وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا , وَكُنْتُ أَجِيرًا لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ إِذَا نَزَلُوا ، وَأَحْدُو إِذَا رَكِبُوا فَزَوِّجْنِيهَا اللَّهُ , فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قِوَامًا , وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا (2)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَكْرَيْتُ نَفْسِي مِنَ ابْنَةِ غَزْوَانَ عَلَى طَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي قَالَ : فَكَانَتْ تُكَلِّفُنِي أَنْ أَرْكَبَ قَائِمًا وَأَنْ أُرْدِيَ أَوْ أُورَدَ حَافِيًا , فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ زَوَّجَنِيهَا اللَّهُ , فَكَلَّفْتُهَا أَنْ تَرْكَبَ قَائِمَةً وَأَنْ تَرِدَ أَوْ تُرْدِي حَافِيَةً (3)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ أَجِيرَ ابْنِ عَفَّانَ وَابْنَةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي أَسُوقُ بِهِمْ إِذَا رَكِبُوا ، وَأَخْدُمُهُمْ إِذَا نَزَلُوا ، فَقَالَتْ لِي يَوْمًا : لَتَرِدَنَّهُ حَافِيًا ، وَلَتَرْكَبَنَّهُ قَائِمًا . فَزَوَّجَنِيهَا اللَّهُ بَعْدُ , فَقُلْتُ : لَتَرِدِنَّهُ حَافِيَةً ، وَلَتَرْكَبِنَّهُ قَائِمَةً (4)
وعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : تَمَخَّطَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مِنْ كَتَّانٍ مُمَشَّقٍ , فَتَمَخَّطَ فِيهِ , فَقَالَ : بَخٍ بَخٍ يَتَمَخَّطُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْكَتَّانِ ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي آخِرًا فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ يَجِيءُ الْجَائِي يَرَى أَنَّ بِي جُنُونًا ، وَمَا بِي إِلَّا الْجُوعُ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَجِيرٌ لِابْنِ عَفَّانَ وَابْنَةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي أَسُوقُ بِهِمْ إِذَا ارْتَحِلُوا وَأَخْدُمُهُمْ إِذَا نَزَلُوا . فَقَالَتْ يَوْمًا : لَتَرِدَنَّهُ حَافِيًا ، وَلَتَرْكَبَنَّهُ قَائِمًا . قَالَ : فَزَوَّجَنِيهَا اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ لَهَا : لَتَرِدِنَّهُ حَافِيَةً ، وَلَتَرْكَبِنَّهُ قَائِمَ(5)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ سَنَةً فَقَالَ لِى ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَمَا لَنَا ثِيَابٌ إِلاَّ الْبِرَادُ الْمُتَفَتَّقَةُ وَإِنَّهُ لَيَأْتِى عَلَى أَحَدِنَا الأَيَّامُ مَا يَجِدُ طَعَاماً يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَأْخُذُ الْحَجَرَ فَيَشُدُّهُ عَلَى أَخْمَصِ بَطْنِهِ ثُمَّ يَشُدُّهُ بِثَوْبِهِ لِيُقِيمَ بِهِ صُلْبَهُ فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَنَا تَمْراً فَأَصَابَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا سَبْعَ تَمَرَاتٍ فِيهِنَّ حَشَفَةٌ فَمَا سَرَّنِى أَنَّ لِى مَكَانَهَا تَمْرَةً جَيِّدَةً. قَالَ قُلْتُ لِمَ قَالَ تَشُدُّ لِى مِنْ مَضْغِى. قَالَ فَقَالَ لِى مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ قُلْتُ مِنَ الشَّامِ. قَالَ فَقَالَ لِى هَلْ رَأَيْتَ حَجَرَ مُوسَى قُلْتُ وَمَا حَجَرُ مُوسَى قَالَ إِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى قَوْلاً تَحْتَ ثِيَابِهِ فِى مَذَاكِيرِهِ - قَالَ - فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى صَخْرَةٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ - قَالَ - فَسَعَتْ ثِيَابُهُ - قَالَ - فَتَبِعَهَا فِى أَثَرِهَا وَهُوَ يَقُولُ يَا حَجَرُ أَلْقِ ثِيَابِى يَا حَجَرُ أَلْقِ ثِيَابِى حَتَّى أَتَتْ بِهِ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ مُسْتَوِياً حَسَنَ الْخَلْقِ فَلَجَبَهُ ثَلاَثَ لَجَبَاتٍ فَوَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَوْ كُنْتَ نَظَرْتَ لَرَأَيْتَ لَجَبَاتِ مُوسَى فِيهِ.(6)
==============
جوع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
__________
(1) - ابن ماجة برقم( 2457 ) صحيح
(2) - ابن سعد برقم(5294 )صحيح
(3) - ابن سعد برقم( 5295 )صحيح
(4) - ابن سعد برقم( 5296 ) صحيح
(5) - ابن سعد برقم(5297 ) صحيح
(6) - مسند أحمد برقم(8524) صحيح(3/387)
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : كُنْتُ مَرَّةً فِي أَرْضٍ قَطَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي سَلَمَةَ وَالزُّبَيْرِ مِنْ أَرْضِ النَّضِيرِ ، فَخَرَجَ الزُّبَيْرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا جَارٌ مِنَ الْيَهُودِ ، فَذَبَحَ شَاةً فَطُبِخَتْ ، فَوَجَدْتُ رِيحَهَا فَدَخَلَنِي مِنْ رِيحِ اللَّحْمِ مَا لَمْ يَدْخُلْنِي مِنْ شَيْءٍ قَطُّ ، وَأَنَا حَامِلٌ بِابْنَةٍ لِي تُدْعَى خَدِيجَةَ ، فَلَمْ أَصْبِرْ ، فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَقْتَبِسُ مِنْهَا نَارًا لَعَلَّهَا تُطْعِمُنِي ، وَمَا بِي مِنْ حَاجَةٍ إِلَى النَّارِ ، فَلَمَّا شَمَمْتُ رِيحَهُ وَرَأَيْتُهُ ازْدَدْتُ شَرَهًا ، فَأَطْفَأْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ الثَّانِيَةَ أَقْتَبِسُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قَعَدْتُ أَبْكِي وَأَدْعُو اللَّهَ ، فَجَاءَ زَوْجُ الْيَهُودِيَّةِ فَقَالَ : أَدَخَلَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ ؟ قَالَتْ :لَا إِلَّا الْعَرَبِيَّةُ دَخَلَتْ تَقْتَبِسُ نَارًا . قَالَ : فَلَا آكُلُ مِنْهَا أَبَدًا أَوْ تُرْسِلِي إِلَيْهَا مِنْهَا . فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِقُدْحَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ . قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ : الْقُدْحَةُ : الْغَرْفَةُ .(1)
================
ما أصاب الصحابة من الجوع والقرّ ليلة الخندق
عن رَجُلٍ ، مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي جِهَادٍ ، وَكَانَ أَبُو جِهَادٍ ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : لِأَبِيهِ يَا أَبَتَاهُ ، رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَحِبْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاللَّهِ لَوْ رَأَيْتُهُ لَفَعَلْتُ وَلَفَعَلْتُ ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّ ، اتَّقِ اللَّهِ وَسَدِّدْ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَهُ لَيْلَةَ الْخَنْدَقِ ، وَهُوَ يَقُولُ : " مَنْ يَذْهَبُ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ ، جَعَلَهُ اللَّهُ رَفِيقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ : فَمَا قَامَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ ، فَمَا قَامَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ ، فَمَا قَامَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ ، مِنْ صَمِيمِ مَا بِنَا مِنَ الْجُوعِ وَالْقُرِّ ، حَتَّى نَادَى حُذَيْفَةَ بِاسْمِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا مَنَعَنِي أَنْ أَقُومَ إِلَّا خَشْيَةُ أَلَّا آتِيَكَ بِخَبَرِهِمْ ، فَقَالَ : " اذْهَبْ " ، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ "(2)
و عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْجُوعِ فِي وجُوهِ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : أَبْشِرُوا ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُغْدَى عَلَى أَحَدِكُمْ بِالْقَصْعَةِ مِنَ الثَّرِيدِ وَيُرَاحُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ ، قَالَ : بَلْ ، أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ.(3)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : " إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَأْكُلَهُ ، فَيَأْخُذُ الْجِلْدَةَ فَيَشْوِيهَا فَيَأْكُلَهَا ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَخَذَ حَجَرًا فَشَدَّ بِهِ صُلْبَهُ " (4)
و عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا - رضى الله عنه - يَقُولُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ :
اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ :
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا(5)
و عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَيَقُولُونَ :
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 17 / ص 350)برقم(19759) حسن
(2) - مَعْرِفَةُ الصِّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ برقم( 6127 )فيه جهالة
(3) - مسند البزار 1-14 - (ج 2 / ص 464)برقم(1941) حسن
(4) - الْجُوعُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا برقم(61 ) حسن
(5) - صحيح البخارى برقم(2834 )(3/388)
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الإِسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُجِيبُهُمْ وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَهْ فَبَارِكْ فِى الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ(1)
و عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ ن:
َحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الإِسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قَالَ يَقُولُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يُجِيبُهُمُ :
« اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَهْ ، فَبَارِكْ فِى الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ » .
قَالَ يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفَّى مِنَ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَىِ الْقَوْمِ ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ ، وَهْىَ بَشِعَةٌ فِى الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ (2)
و عن عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ جَابِرًا - رضى الله عنه - فَقَالَ إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ ، فَجَاءُوا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِى الْخَنْدَقِ ، فَقَالَ « أَنَا نَازِلٌ » . ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا ، فَأَخَذَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى إِلَى الْبَيْتِ . فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِى رَأَيْتُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا ، مَا كَانَ فِى ذَلِكَ صَبْرٌ ، فَعِنْدَكِ شَىْءٌ قَالَتْ عِنْدِى شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ . فَذَبَحْتُ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِى الْبُرْمَةِ ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ ، وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافِىِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ فَقُلْتُ طُعَيِّمٌ لِى ، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ . قَالَ « كَمْ هُوَ » . فَذَكَرْتُ لَهُ ، قَالَ « كَثِيرٌ طَيِّبٌ » . قَالَ « قُلْ لَهَا لاَ تَنْزِعُ الْبُرْمَةَ وَلاَ الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِىَ » . فَقَالَ « قُومُوا » . فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ . قَالَتْ هَلْ سَأَلَكَ قُلْتُ نَعَمْ . فَقَالَ « ادْخُلُوا وَلاَ تَضَاغَطُوا » . فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ ، وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِىَ بَقِيَّةٌ قَالَ « كُلِى هَذَا وَأَهْدِى ، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ » . (3)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2835 )
(2) - صحيح البخارى برقم(4100 )
(3) - صحيح البخارى برقم(4101 )-تضاغط : تتزاحم(3/389)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : احْتَفَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَنْدَقَ وَأَصْحَابُهُ قَدْ شَدُّوا الْحِجَارَةَ عَلَى بُطُونِهِمْ مِنَ الْجُوعِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " هَلْ دُلِلْتُمْ عَلَى أَحَدٍ يُطْعِمُنَا أَكَلَةً ؟ " ، قَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ ، قَالَ : " أَمَّا لَا فَتَقَدَّمْ ، فَدُلَّنَا عَلَيْهِ " ، فَانْطَلَقُوا إِلَى رَجُلٍ فَإِذَا هُوَ فِي الْخَنْدَقِ يُعَالِجُ نَصِيبَهُ مِنْهُ ، فَأَرْسَلَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ جِئْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَتَانَا ، فَجَاءَ الرَّجُلُ يَسْعَى فَقَالَ : بِأَبِي وَأُمِّي وَلَهُ مَعْزَةٌ وَمَعَهَا جَدْيُهَا ، فَوَثَبَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْجَدْيُ مِنْ وَرَائِنَا " فَذَبَحَ الْجَدْيَ ، وَعَمَدَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى طَحِينَةٍ لَهَا فَعَجَنَتْهَا وَخَبَزَتْ وَأَدْرَكَتِ الْقِدْرَ وَثَرَدَتْ قَصْعَتَهَا ، فَقَرَّبَتْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِصْبَعَهُ فِيهَا ، فَقَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهَا ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهَا ، اطَّعِمُوا " ، فَأَكَلُوا مِنْهَا حَتَّى صَدَرُوا ، وَلَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا إِلَّا ثُلُثَهَا وَبَقِيَ ثُلُثَاهَا ، فَسَرَحَ أُولَئِكَ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ : أَنِ اذْهَبُوا وَسَرِّحُوا إِلَيْنَا نُغَدِّيكُمْ ، فَذَهَبُوا وَجَاءَ أُولَئِكَ الْعَشْرَةُ مَكَانَهُ فَأَكَلُوا مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ قَامَ وَدَعَا لِرَبَّةِ الْبَيْتِ وَشَمَتَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا ،ثُمَّ مَشَوْا إِلَى الْخَنْدَقِ ، فَقَالَ : " اذْهَبُوا بِنَا إِلَى سَلْمَانَ " ، وَإِذَا صَخْرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ قَدْ ضَعُفَ عَنْهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ " دَعُونِي فَأَكُونَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَهَا " ، فَقَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ " فَضَرَبَهَا فَوَقَعَتْ فِلْقَةُ ثُلُثِهَا ، فَقَالَ : " اللَّهُ أَكْبَرُ ، قُصُورُ الرُّومِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ " ، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى فَوَقَعَتْ فِلْقَةٌ ، فَقَالَ : " اللَّهُ أَكْبَرُ قُصُورُ فَارِسَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ " ، فَقَالَ عِنْدَهَا الْمُنَافِقُونَ : نَحْنُ بِخَنْدَقٍ عَلَى أَنْفُسِنَا ] وَهُوَ يَعِدُنَا قُصُورَ فَارِسَ وَالرُّومِ . (1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 68)برقم(11884) صحيح(3/390)
و عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَكِّيِّ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتَهُ مِنْهُ أَرْوِيهِ عَنْكَ ، فَقَالَ جَابِرٌ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفُرُهُ فَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَطْعَمُ طَعَامًا ، وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَعَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذِهِ كُدْيَةٌ قَدْ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَرَشَشْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ أَوِ الْمِسْحَاةَ ثُمَّ سَمَّى ثَلَاثًا ، ثُمَّ ضَرَبَ فَعَادَتْ كَثِيبًا أَهْيَلَ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي ، قَالَ : فَأَذِنَ لِي ، فَجِئْتُ امْرَأَتِي ، فَقُلْتُ : ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ ، قَدْ رَأَيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا صَبْرَ لِي عَلَيْهِ ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَتْ : عِنْدِي صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، وَعَنَاقٌ قَالَ : فَطَحَنَّا الشَّعِيرَ ، وَذَبَحْنَا الْعَنَاقَ ، وَسَلَخْتُهَا ، وَجَعَلْتُهَا ، فِي الْبُرْمَةِ وَعَجَنْتُ الشَّعِيرَ قَالَ : ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِثْتُ سَاعَةً ، ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُهُ الثَّانِيَةَ فَأَذِنَ لِي ، فَجِئْتُ ، فَإِذَا الْعَجِينُ قَدْ أَمْكَنَ ، فَأَمَرْتُهَا بِالْخَبْزِ وَجَعَلْتُ الْقِدْرَ عَلَى الْأَثَاثِيِّ ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : إِنَّمَا هِيَ الْأَثَافِيُّ ، وَلَكِنْ كَذَا قَالَ : ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : إِنَّ عِنْدَنَا طُعَيِّمًا لَنَا ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقُومَ مَعِي أَنْتَ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ مَعَكَ ، فَقَالَ : " وَكَمْ هُوَ ؟ " قُلْتُ : صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، وَعَنَاقٌ ، فَقَالَ : " ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ وَقُلْ لَهَا لَا تَنْزِعِ الْقِدْرَ مِنَ الْأَثَافِيِّ ، وَلَا تُخْرِجِ الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ " ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ : " قُومُوا إِلَى بَيْتِ جَابِرٍ " ، قَالَ : فَاسْتَحْيَيْتُ حَيَاءً لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، فَقُلْتُ ، لِامْرَأَتِي : ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ قَدْ جَاءَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ ، فَقَالَتْ : أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَكَ : كَمِ الطَّعَامُ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَتْ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَدْ أَخْبَرْتَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَنَا ، قَالَ : فَذَهَبَ عَنِّي بَعْضُ مَا كُنْتُ أَجِدُ ، وَقُلْتُ : لَقَدْ صَدَقْتِ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : " لَا تَضَاغَطُوا " ، ثُمَّ بَرَّكَ عَلَى التَّنُّورِ وَعَلَى الْبُرْمَةِ ، قَالَ : فَجَعَلْنَا نَأْخُذُ مِنَ التَّنُّورِ الْخُبْزَ ، وَنَأْخُذُ اللَّحْمَ مِنَ الْبُرْمَةِ ، فَنُثَرِّدُ وَنَغْرِفُ لَهُمْ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لِيَجْلِسْ عَلَى الصَّحْفَةِ سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ " فَإِذَا أَكَلُوا كَشَفْنَا عَنِ التَّنُّورِ ، وَكَشَفْنَا عَنِ الْبُرْمَةِ ، فَإِذَا هُمَا أَمْلَأُ ممَا كَانَا ، فَلَمْ نَزَلْ نَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّمَا فَتَحْنَا التَّنُّورَ وَكَشَفْنَا عَنِ الْبُرْمَةِ ، وَجَدْنَاهُمَا أَمْلَأَ مَا كَانَا حَتَّى شَبِعَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ ، وَبَقِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الطَّعَامِ ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ مَخْمَصَةٌ ، فَكُلُوا وَأَطْعِمُوا " فَلَمْ نَزَلْ يَوْمَنَا نَأْكُلُ وَنُطْعِمُ ، قَالَ : وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِمِائَةٍ ، أَوْ قَالَ : ثَلَاثَمِائَةٍ ، قَالَ أَيْمَنُ : لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا قَالَ(1)
================
وقوع بعض الصحابة من قيامهم في الصلاة في الجوع والضعف
__________
(1) - الدارمي برقم( 44 و50) حسن(3/391)
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ فِى الصَّلاَةِ مِنَ الْخَصَاصَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ حَتَّى تَقُولَ الأَعْرَابُ هَؤُلاَءِ مَجَانِينُ أَوْ مَجَانُونَ فَإِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : « لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً ». قَالَ فَضَالَةُ :وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.(1)
=================
__________
(1) - سنن الترمذى برقم(2542 ) صحيح(3/392)
أكل الصحابة الورق في سبيل الله وبعض قصصهم في تحمل الجوع
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : إِنْ كَانَ السَّبْعَةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَمُصُّونَ التَّمْرَةَ الْوَاحِدَةَ ، وَأَكَلُوا الْخَبَطَ ، حَتَّى وَرِمَتْ أَشْدَاقُهُمْ(1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ جُوعٌ - قَالَ - وَنَحْنُ سَبْعَةٌ فَأَعْطَانِى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- سَبْعَ تَمَرَاتٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ تَمْرَةٌ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : خَرَجْتُ يَوْمًا مِنْ بَيْتِي إِلَى الْمَسْجِدِ لَمْ يُخْرِجْنِي إِلَّا الْجُوعُ ، فَوَجَدْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ ، فَقُلْتُ : مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا الْجُوعُ ، فَقَالُوا : نَحْنُ وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنَا إِلَّا الْجُوعُ ، فَقُمْنَا , فَدَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : " مَا جَاءَ بِكُمْ هَذِهِ السَّاعَةَ " ؟ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِنَا الْجُوعُ ، قَالَ : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَبَقٍ فِيهِ تَمْرٌ , فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا تَمْرَتَيْنِ , فَقَالَ : " كُلُوا هَاتَيْنِ التَّمْرَتَيْنِ وَاشْرَبُوا عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَاءِ , فَإِنَّهُمَا سَتَجْزِيَانِكُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا " ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَكَلْتُ تَمْرَةً وَجَعَلْتُ تَمْرَةً فِي حُجْرَتِي , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لِمَ رَفَعْتَ هَذِهِ التَّمْرَةَ " ؟ فَقُلْتُ : رَفَعْتُهَا لِأُمِّي ، فَقَالَ : " كُلَّهَا فَإِنَّا سَنُعْطِيكَ لَهَا تَمْرَتَيْنِ " ، فَأَكَلْتُهَا فَأَعْطَانِي لَهَا تَمْرَتَيْنِ (3)
و عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : إِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيَبْعَثُنَا فِي السَّرِيَّةِ مَا لَنَا طَعَامٌ ، إِلاَّ السَّلَفُ مِنَ التَّمْرِ فَنَقَبْضُ قَبْضَةً حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى تَمْرَةٍ.(4)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : " إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَبْعَثُنَا فِي السَّرِيَّةِ مَا لَنَا زَادٌ إِلَّا السَّلْفُ ، يَعْنِي الْجِرَابَ مِنَ التَّمْرِ ، فَيَقْسِمُهُ صَاحِبُهُ بَيْنَنَا قَبْضَةً قَبْضَةً حَتَّى يَصِيرَ إِلَى تَمْرَةٍ " ، قَالَ : فَقُلْتُ : وَمَا كَانَ يَبْلُغُ مِنَ التَّمْرَةِ ؟ قَالَ : " لَا تَقُلْ ذَلِكَ يَا بُنَيَّ ، وَلَبَعْدُ أَنْ فَقَدْنَاهَا فَاخْتَلَطْنَا إِلَيْهَا "(5)
=================
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني برقم(1131 )ضعيف
الخبط : ما سقط من ورق الشجر بالخبط والنفض = الشَّدْق : جانب الفم مما تحت الخد
(2) - مسند أحمد برقم(8185) صحيح
(3) - ابن سعد برقم(5304) حسن
(4) - مسند البزار 1-14 - (ج 5 / ص 262)برقم(3825) حسن
(5) - الحلية برقم(602 ) حسن(3/393)
تحمل أبي عبيدة وأصحابه الجوع في السفر
عَنْ جَابِرٍ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً - قَالَ - فَقُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا قَالَ نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِىُّ ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ قَالَ وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِىَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَيْتَةٌ ثُمَّ قَالَ لاَ بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا قَالَ فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلاَثُ مِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلاَلِ الدُّهْنَ وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ - أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ - فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَأَقْعَدَهُمْ فِى وَقْبِ عَيْنِهِ وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلاَعِهِ فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ « هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَىْءٌ فَتُطْعِمُونَا ». قَالَ فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهُ فَأَكَلَهُ.(1)
و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ قَالَ : " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ ، وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ، وَهُمْ ثَلَاثُ مِائَةٍ ، وَأَنَا فِيهِمْ ، قَالَ : فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ ، فَجُمِعَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدَ تَمْرٍ ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا ، حَتَّى فَنِيَ وَلَمْ يُصِبْنَا إِلَّا تَمْرَةً تَمْرَةً ، فَقُلْتُ : وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ ، قَالَ : لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حَيْثُ فَنِيَتْ ، قَالَ : ثُمَّ انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ ، فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ إِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً ، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِّلَتْ ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا وَلَمْ تُصِبْهُمَا " (2)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(5109 )
الخبط : الورق الساقط عند خبط الشجرة بالعصا وهو من علف الدواب =الفدر : جمع الفدرة وهى القطعة =الكثيب : الرمل المجتمع =الوشائق : جمع الوشيقة وهى لحم يقدد حتى ييبس أو يغلى قليلا ويحمل فى الأسفار -الوشائق : جمع الوشيقة وهى لحم يقدد حتى ييبس أو يغلى قليلا ويحمل فى الأسفار -الوقب : داخل العين ونقرتها
(2) - ابن حبان برقم(5352 ) صحيح(3/394)
عن سُفْيَانَ ، قَالَ : الَّذِي حَفِظْنَا مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، يَقُولُ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثَلَاثَمِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ ، فَأَتَيْنَا السَّاحِلَ ، فَأَقَمْنَا بِهِ نِصْفَ شَهْرٍ ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ ، حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ ، فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً ، يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ ، وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ ، حَتَّى ثَابِتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا ، قَالَ : فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنَ أَضْلَاعِهِ ، وَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ - أَو رَحْلٍ - مَعَهُ بَعِيرٌ ، فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهِ ، فَقَالَ عَمْرُو : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، يَقُولُ : وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ، ثُمَّ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ ، وَكَانَ عَمْرُو ، يَقُولُ : أَخْبَرَنِي أَبُو صَالِحٍ ، أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ ، قَالَ : كُنْتُ فِي الْجَيْشِ ، فَجَاعُوا قَالَ : انْحَرْ ، فَنَحَرْتُ ، ثُمَّ جَاعُوا ، فَقَالَ : انْحَرْ ، قَالَ : نَحَرْتُ ، ثُمَّ جَاعُوا ، قَالَ : انْحَرْ ، قَالَ : فَنَحَرْتُ ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ : سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ : أَخْرَجْنَا مِنْ حَجَاجِ عَيْنِهِ كَذَا ، وَكَذَا قُلَّةً مِنْ وَدَكٍ ، وَجَلَسَ فِي حَجَاجِ عَيْنَهُ أَرْبَعَةٌ ، قَالَ : فَسَأَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَلْ كَانَ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ " ، قَالَ : وَكَانَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ جِرَابٌ مِنْ تَمْرٍ ، فَكَانَ يُطْعِمُنَا مِنْهُ ، قَبْضَةً ، قَبْضَةً ، حَتَّى صَارَ إِلَى تَمْرَةٍ ، تَمْرَةٍ ، حَدَّثَنِي مُطَيَّنٌ ، قَالَ : ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : ثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عُمَرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِي سَرِيَّةٍ ثَلَاثَمِائَةِ رَاكِبٍ ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ ، وَجَهْدٌ ، فَأَلْقَى الْبَحْرُ لَنَا حُوتًا ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1)
و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ وَأَنَا فِيهِمْ ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِىَ الزَّادُ ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدَىْ تَمْرٍ ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلاً قَلِيلاً ، حَتَّى فَنِىَ فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ . فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِى تَمْرَةٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ . قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِىَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا .(2)
================
تحمله عليه السلام والصحابة الجوع في غزوة تِهامة
__________
(1) - أبو عوانة برقم( 6149) صحيح
(2) - صحيح البخارى برقم(2483 )-المزود : الوعاء يجعل فيه ما يُتَزَوَّد به فى السفر من طعام -الظرب : الجبل الصغير(3/395)
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا خُنَيْسٍ الْغِفَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تِهَامَةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِعُسْفَانَ جَاءَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَهَدَنَا الْجُوعُ فَأَذَنْ لَنَا فِي الظَّهْرِ نَأْكُلُهُ فَقَالَ : " نَعَمْ " فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ إِلَيَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا صَنَعْتَ أَمَرْتَ النَّاسَ يَأْكُلُوا الظَّهْرَ فَمَاذَا تَرْكَبُونَ ؟ قَالَ : " فَمَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ " قَالَ : أَرَى تَأْمُرُهُمْ وَأَنْتَ أَفْضَلُ رَأَيًا يَجْمَعُونَ فَضْلَ أَزْوَادِهِمْ فِي ثَوْبٍ وَيَدْعُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَجِيبُ لَكَ . فَأَمَرَهُمْ فَجَمَعُوا فَضْلَ أَزْوَادِهِمْ فِي ثَوْبٍ وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ : ائْتُوا بِأَوْعِيَتِكُمْ فَمَلَأَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُ وِعَاءَهُ ثُمَّ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحِيلِ ، فَلَمَّا ارْتَحِلُوا أُمْطِرُوا مَا شَاءُوا ثُمَّ نَزَلُوا فَشَرِبُوا مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمْ بِالْكِرَاعِ ثُمَّ خَطَبَ بِهِمْ ، فَجَاءَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ فَجَلَسَ اثْنَانِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ آخَرُ مُعْرِضًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ ؟ أَمَّا وَاحِدٌ فَاسْتَحَى مِنَ اللَّهِ فَاسْتَحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَقْبَلَ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " (1)
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ حَضَرَ وَهُمْ شِبَاعٌ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ : أَلَا نَنْحَرُ نَوَاضِحَنَا فَنُطْعِمُهَا النَّاسَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ طَعَامٍ فَلْيَجِئْ بِهِ " . فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْمُدِّ وَالصَّاعِ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ ، فَكَانَ جَمِيعُ مَا فِي الْجَيْشِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ صَاعًا ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جَنْبِهِ وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " خُذُوا وَلَا تَنْتَهِبُوا " . فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ فِي جِرَابِهِ وَفِي غِرَارَتِهِ ، وَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْبُطُ كُمَّ قَمِيصِهِ فَيَمْلَأَهُ ، فَفَرَغُوا وَالطَّعَامُ كَمَا هُوَ ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، لَا يَأْتِي بِهَا عَبْدٌ مُحِقٌّ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ حَرَّ النَّارِ "(2)
================
قصة المرأة التي كانت تطعم بعض الصحابة يوم الجمعة
عَنْ سَهْلٍ قَالَ كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِى مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا ، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِى قِدْرٍ ، ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا ، فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرْقَهُ ، وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا ، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا فَنَلْعَقُهُ ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ .(3)
__________
(1) - الآحاد والمثاني برقم( 2441 )حسن
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي برقم(215) حسن لغيره
(3) - صحيح البخارى برقم(938 ) -الأربعاء : جمع ربيع وهو الجدول الصغير
فتح الباري لابن حجر - (ج 3 / ص 353)
وَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ جَوَاز اَلسَّلَامِ عَلَى اَلنِّسْوَةِ اَلْأَجَانِب ، وَاسْتِحْبَاب اَلتَّقَرُّب بِالْخَيْرِ وَلَوْ بِالشَّيْءِ اَلْحَقِيرِ ، وَبَيَان مَا كَانَ اَلصَّحَابَة عَلَيْهِ مِنْ اَلْقَنَاعَةِ وَشِدَّة اَلْعَيْشِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى اَلطَّاعَةِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ .
قَوْله : ( بِهَذَا أَيْ بِالْحَدِيثِ اَلَّذِي قَبْلَهُ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ أَبَا غَسَّان وَعَبْد اَلْعَزِيز بْن أَبِي حَازِم اِشْتَرَكَا فِي رِوَايَةِ هَذَا اَلْحَدِيثِ عَنْ أَبِي حَازِم ، وَزَادَ عَبْد اَلْعَزِيز اَلزِّيَادَةَ اَلْمَذْكُورَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ " مَا كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ اَلْجُمُعَة " وَقَدْ رَوَاهَا أَبُو غَسَّان مُفْرَدَة كَمَا فِي اَلْبَابِ اَلَّذِي بَعْدَهُ ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْر اَلْغَدَاءِ ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ أَبِي غَسَّان وَعَبْد اَلْعَزِيز تَفَاوُت يَأْتِي بَيَانه فِي " بَابِ تَسْلِيمِ اَلرِّجَالِ عَلَى اَلنِّسَاءِ " مِنْ كِتَاب اَلِاسْتِئْذَان إِنْ شَاءَ اَللَّهُ تَعَالَى . وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا اَلْحَدِيثِ لِأَحْمَدَ عَلَى جَوَازِ صَلَاة اَلْجُمُعَةِ قَبْلَ اَلزَّوَالِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ اِبْن أَبِي شَيْبَة " بَاب مَنْ كَانَ يَقُولُ اَلْجُمُعَة أَوَّل اَلنَّهَارِ " وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث سَهْل هَذَا وَحَدِيث أَنَس اَلَّذِي بَعْدَهُ وَعَنْ اِبْن عُمَر مِثْله وَعَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَسَعْد وَابْن مَسْعُود مِثْله مِنْ قَوْلِهِمْ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ اَلْجُمُعَة قَبْلَ اَلزَّوَالِ ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاغَلُونَ عَنْ اَلْغَدَاءِ وَالْقَائِلَة بِالتَّهَيُّؤِ لِلْجُمُعَةِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ فَيَتَدَارَكُونَ ذَلِكَ . بَلْ اِدَّعَى اَلزَّيْنُ بْن اَلْمُنِيرِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ اَلْجُمُعَة تَكُونُ بَعْدَ اَلزَّوَالِ لِأَنَّ اَلْعَادَةَ فِي اَلْقَائِلَةِ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ اَلزَّوَالِ فَأَخْبَرَ اَلصَّحَابِيّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّهَيُّؤِ لِلْجُمُعَةِ عَنْ اَلْقَائِلَةِ وَيُؤَخِّرُونَ اَلْقَائِلَةَ حَتَّى تَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ اَلْجُمُعَة .(3/396)
===============
أكل الصحابة الجراد
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سَبْعَ غَزَوَاتٍ ، أَوْ سِتَّةً ، فَكُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ "
وعَنْ أَبِي يَعْفُورَ ، سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى ، يَقُولُ : " غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سَبْعَ غَزَوَاتٍ ، نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ " (1)
================
أكل الخبز بالسمن
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ ، قَالَ : " كُنَّا فِي غَزَاةٍ لَنَا ، فَلَقِينَا أُنَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَجْهَضْنَاهُمْ عَنْ مَلَّةٍ لَهُمْ ، فَوَقَعْنَا فِيهَا فَجَعَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا ، وَكُنَّا نَسْمَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ مَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ سَمِنَ ، فَلَمَّا أَكَلْنَا تِلْكَ الْخُبْزَةَ جَعَلَ أَحَدُنَا يَنْظُرُ فِي عِطْفَيْهِ هَلْ سَمِنَ " (2)
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " لَمَّا افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ مَرَرْنَا بِنَاسٍ يَهُودٍ يَخْبِزُونَ مَلَّةً لَهُمْ فَطَرَدْنَاهُمْ عَنْهَا ثُمَّ اقْتَسَمْنَا فَأَصَابَتْنِي كِسْرَةٌ إِنَّ بَعْضَهَا لَيَحْتَرِقُ ، قَالَ : وَقَدْ كَانَ بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ سَمِنَ فَأَكَلْتُهَا ثُمَّ نَظَرْتُ فِي عِطْفَيَّ هَلْ سَمُنْتُ " (3)
===============
تحمُّل شدة العطش في الدعوة إلى الله
ما أصاب الصحابة رضي الله عنهم من شدّة العطش في غزوة تبوك
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ : خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا أَصَابَنَا فِيهِ عَطِشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ حَتَّى أَنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا ، فَقَالَ : " أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، فَرَفَعَ يَدَيهُ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ السَّمَاءُ فَأَظْلَمَتْ ، ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَازَتِ الْعَسْكَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : " فَلَوْ كَانَ مَاءُ الْفَرْثِ إِذَا عُصِرَ نَجِسًا لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى كَبِدِهِ فَيَنْجُسَ بَعْضُ بَدَنِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَاءٍ طَاهِرٍ يَغْسِلُ مَوْضِعَ النَّجَسِ مِنْهُ ، فَأَمَّا شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ إِنْ لَمْ يَشْرَبْ ذَلِكَ الْمَاءَ فَجَائِزٌ إِحْيَاءُ النَّفْسِ بِشُرْبِ مَاءٍ نَجِسٍ ، إِذِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَبَاحَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِحْيَاءَ النَّفْسِ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ إِذَا خِيفَ التَّلَفَ إِنْ لَمْ يَأْكُلْ ذَلِكَ ، وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ نَجَسٌ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ مُبَاحٌ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ بِأَكْلِهِ ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْمُضْطَرِّ إِلَى الْمَاءِ النَّجِسِ أَنْ يُحْيِيَ نَفْسَهُ بِشُرْبِ مَاءٍ نَجِسٍ إِذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ شُرْبِهِ ، فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ مَاءً نَجِسًا عَلَى بَعْضِ بَدَنِهِ ، والْعِلْمُ مُحِيطٌ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَاءَ النَّجِسَ عَلَى بَدَنِهِ لَمْ يَخَفِ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا كَانَ فِي إِمْسَاسِ ذَلِكَ الْمَاءِ النَّجِسِ بَعْضَ بَدَنِهِ إِحْيَاءَ نَفْسِهِ بِذَلِكَ ، وَلَا عِنْدَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ يَغْسِلُ مَا نَجُسَ مِنْ بَدَنِهِ بِذَلِكَ الْمَاءِ فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ ، وَلَا وَاسِعٍ لِأَحَدٍ فِعْلُهُ " (4)
__________
(1) - أخرجهما أبو عوانة برقم(6239و 6240 ) وهو صحيح
(2) - ابن أبي شيبة بربم(23880 )حسن
(3) - الحلية برقم (9039 ) حسن صحيح
(4) - ابن خزيمة برقم(101) صحيح(3/397)
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ ، قَالَ : خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا ، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ ، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ عَوَّدَكَ اللَّهُ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا ، فَادْعُ لَنَا ، فَقَالَ : " أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَرَفَعَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ ، فَسَكَبَتْ ، فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : " فِي وَضْعِ الْقَوْمِ عَلَى أَكْبَادِهِمْ مَا عَصَرُوا مِنْ فَرْثِ الْإِبِلِ وَتَرْكِ أَمْرِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَسْلِ مَا أَصَابَ ذَلِكَ مِنْ أَبْدَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَرْوَاثَ مَا يُؤْكَلُ لُحُومُهَا طَاهِرَةٌ "(1)
==============
تحمُّل الحارث، وعكرمة، وعيّاش العطش يوم اليرموك
عن حَبِيبَ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، " أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ ، وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، خَرَجُوا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ حَتَّى أُثْبِتُوا ، فَدَعَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ بِمَاءٍ لِيَشْرَبَهُ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عِكْرِمَةُ ، فَقَالَ : ادْفَعْهُ إِلَى عِكْرِمَةَ ، فَلَمَّا أَخَذَهُ عِكْرِمَةُ نَظَرَ إِلَيْهِ عَيَّاشٌ ، فَقَالَ : ادْفَعْهُ إِلَى عَيَّاشٍ ، فَمَا وَصَلَ إِلَى عَيَّاشٍ حَتَّى مَاتَ ، فَمَا وَصَلَ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى مَاتُوا "(2)
و عن حَبِيبَ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، " أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ ، وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ارْتَأَوْا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَدَعَا الْحَارِثُ بِمَاءٍ لِيَشْرَبَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ عِكْرِمَةُ ، فَقَالَ الْحَارِثُ : ادْفَعُوهُ إِلَى عِكْرِمَةَ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ : ادْفَعُوهُ إِلَى عَيَّاشٍ ، فَمَا وَصَلَ إِلَى عَيَّاشٍ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى مَاتُوا وَمَا ذَاقُوهُ " (3)
===============
تحمُّل أبي عمرو الأنصاري العطش في سبيل الله
عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ : رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ بَدْرِيًّا عَقَبِيًّا أُحُدِيًّا وَهُوَ صَائِمٌ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ وَهُوَ يَقُولُ لِغُلَامٍ لَهُ : وَيْحَكَ تَرِّسْنِي، فَتَرَّسَهُ الْغُلَامُ حَتَّى نَزَعَ بِسَهْمٍ نَزْعًا ضَعِيفًا حَتَّى رَمَى بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - قَصَّرَ أَوْ بَلَغَ - كَانَ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَقُتِلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .(4)
=================
__________
(1) - صحيح ابن حبان برقم()1404 ) صحيح
(2) - معرفة الصحابة برقم(1891 )صحيح مرسل
(3) - المستدرك برقم( 5052) صحيح مرسل
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 238)برقم(18386) فيه ضعف - والحديث صحيح لغيره(3/398)
تحمل شدة البرد في الدعوة إلى الله
عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ ، فَأَوْيَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَرَفٍ ، فَأَصَابَنَا فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ ، حَتَّى رَأَيْنَا الرِّجَالَ يَحْفِرُ أَحَدُهُمُ الْحُفْرَةَ ، فَيَدْخُلُ فِيهَا وَيُكْفِئُ عَلَيْهِ حَجْفَتَهُ ، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : " مَنْ يَحْرُسُنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَأَدْعُو اللَّهَ لَهُ بِدُعَاءٍ يُصِيبُ فَضْلَهُ " ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " مَنْ أَنْتَ ؟ " قَالَ : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : " ادْنُهُ " ، فَدَنَا مِنْهُ ، وَأَخَذَ بِبَعْضِ ثِيَابِهِ ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِالدُّعَاءِ ، قَالَ أَبُو رَيْحَانَةَ : فَلَمَّا سَمِعْتُ مَا يَدْعُو بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِيِّ قُمْتُ ، فَقُلْتُ : أَنَا رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَسَأَلَنِي كَمَا سَأَلَهُ ، وَقَالَ لِي : " ادْنُهُ " كَمَا قَالَ لَهُ ، وَدَعَا لِي بِدُعَاءٍ دُونَ مَا دَعَا بِهِ لِلْأَنْصَارِيُّ ، ثُمَّ قَالَ : " حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ " " (1)
و عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَأَوَيْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَرَفٍ فَأَصَابَنَا فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى رَأَيْتُ الرِّجَالَ يَحْفِرُ أَحَدُهُمُ الْحُفْرَةَ فَيَدْخُلُ فِيهَا وَيُكْفِئُ عَلَيْهِ بِجُحْفَتِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَ : " مَنْ يَحْرُسُنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَأَدْعُو لَهُ بِدُعَاءٍ يُصِيبُ بِهِ فَضْلَهُ ؟ " فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَنا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : " مَنْ أَنْتَ " فَقَالَ : أَنا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : " ادْنُهْ " فَدَنَا مِنْهُ فَأَخَذَ بَعْضَ ثِيَابِهِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِدُعَاءٍ لَهُ فَلَمَّا سَمِعْتُ مَا يَدْعُو بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِيِّ قُمْتُ فَقُلْتُ أَنَا رَجُلٌ فَسَأَلَنِي كَمَا سَأَلَهُ ثُمَّ قَالَ : أَدْنِهِ كَمَا قَالَ لَهُ وَدَعَا لِي بِدُعَاءٍ دُونَ مَا دَعَا بِهِ لِلْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ قَالَ : " حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ " وَقَالَ الثَّالِثَةَ فَنَسِيتُهَا قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ بَعْدَ ذَلِكَ : " وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى "(2)
وعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ ، فَأَتَيْنَا ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى شَرَفٍ فَبِتْنَا عَلَيْهِ فَأَصَابَنَا بَرْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى رَأَيْتُ مَنْ يَحْفِرُ فِي الْأَرْضِ حُفْرَةً يَدْخُلُ فِيهَا وَيُلْقِي عَلَيْهِ الْحَجَفَةَ - يَعْنِي التُّرْسَ - فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النَّاسِ نَادَى : " مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ وَأَدْعُو اللَّهَ لَهُ بِدُعَاءٍ يَكُونُ فِيهِ فَضْلٌ ؟ " . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : " ادْنُهْ " . فَدَنَا فَقَالَ : " مَنْ أَنْتَ ؟ " فَتَسَمَّى لَهُ الْأَنْصَارِيُّ فَفَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدُّعَاءِ فَأَكْثَرَ مِنْهُ قَالَ أَبُو رَيْحَانَةَ : فَلَمَّا سَمِعْتُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ : أَنَا رَجُلٌ آخَرُ . فَقَالَ : " ادْنُهْ " . فَدَنَوْتُ فَقَالَ : " مَنْ أَنْتَ ؟ " فَقُلْتُ : أَبُو رَيْحَانَةَ ، فَدَعَا لِي بِدُعَاءِ هُوَ دُونَ مَا دَعَا لِلْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ قَالَ : " حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ - أَوْ بَكَتْ - مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " أَوْ قَالَ : " حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ أُخْرَى ثَالِثَةٍ " . لَمْ يَسْمَعْهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُمَيْرٍ .(3)
================
تحمل قلة الثياب في الدعوة إلى الله
__________
(1) - الطبراني في الأوسط برقم(8986 ) حسن
(2) - الحلية برقم(1442 )حسن
(3) - مسند أحمد برقم(17676) حسن
الحجفة : الترس من جلد بلا خشب وهو نوع من السلاح- الشرف : المرتفع من الأرض(3/399)
عَنْ خَبَّابٍ ، قَالَ : " لَقَدْ رَأَيْتُ حَمْزَةَ وَمَا وَجَدْنَا لَهُ ثَوْبًا نُكَفِّنُهُ فِيهِ غَيْرَ بُرْدَةٍ ، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ ، فَغَطَّيْنَا رَأْسَهُ ، وَوَضَعْنَا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ "(1)
و عَن خَبَّابٍ ، قَالَ : " لَقَدْ رَأَيْتُ حَمْزَةَ ، وَمَا وَجَدْنَا لَهُ ثَوْبًا يُكَفَّنُ فِيهِ غَيْرَ بُرْدَةٍ مَلْحَاءَ إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ ، حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ ، وَجُعِلَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِذْخِرٌ "(2)
==============
تحمّل أبي بكر قلّة الثياب
عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ ، قَدْ خَلَّهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَالِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ ؟ فَقَالَ : " يَا جِبْرِيلُ ، أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيَّ قَبْلَ الْفَتْحِ " . قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ، وَيَقُولُ لَكَ : قُلْ لَهُ : أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا أَبَا بَكْرٍ ، إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ، وَيَقُولُ لَكَ : أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ " ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَسْخَطُ عَلَى رَبِّي ؟ أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ ، أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ ، أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ . ثَلَاثًا " تَفَرَّدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ ، لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا أَحَدٌ (3)
===============
تحمل علي، وفاطمة قلة الثياب
عَنْ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : " لَقَدْ تَزَوَّجْتُ فَاطِمَةَ وَمَا لِي وَلَهَا فِرَاشٌ غَيْرُ جَلْدِ كَبْشٍ كُنَّا نَنَامُ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَنَعْلِفُ عَلَيْهِ النَّاضِحَ بِالنَّهَارِ , وَمَا لِي خَادِمٌ غَيْرُهَا " (4)
==============
تحمّل الصحابة لباس الصوف والمداومة على تناول التمر والماء
عَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ قَالَ لِى أَبِى يَا بُنَىَّ لَوْ رَأَيْتَنَا وَنَحْنُ مَعَ نَبِيِّنَا -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أَصَابَتْنَا السَّمَاءُ حَسِبْتَ أَنَّ رِيحَنَا رِيحُ الضَّأْنِ.(5)
و عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا بُنِيَّ لَوْ شَهِدْتَنَا وَنَحْنُ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَتْنَا السَّمَاءُ " لَحَسِبْتَ رِيحَنَا رِيحَ الضَّأْنِ مِنْ لِبَاسِنَا الصُّوفَ " (6)
و عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : حَدَّثَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ أَبِي : " لَوْ شَهِدْتَنَا وَنَحْنُ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذَا أَصَابَتْنَا السَّمَاءُ حَسِبْتَ أَنَّ رِيحَنَا رِيحُ الضَّأْنِ ، إِنَّمَا لِبَاسُنَا الصُّوفُ " (7)
================
تحمل أصحاب الصفة قلة الثياب
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ ، قَدْ رَبَطُوا فِى أَعْنَاقِهِمْ ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ .(8)
و عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ : " كُنْتُ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ , وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ تَامٌّ , وَقَدِ اتَّخَذَ الْعَرَقُ فِي جُلُودِنَا طُرُقًا مِنَ الْغُبَارِ وَالْوَسَخِ " (9)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 236)برقم(2872)حسن
(2) - معرفة الصحابة برقم(1716)حسن
البْرُدُ والبُرْدة : الشَّمْلَةُ المخطَّطة، وقيل كِساء أسود مُرَبَّع فيه صورٌ = الملحاء : التي بها خطوط سود وبيض = الإذخِر : حشيشة طيبة الرائِحة تُسَقَّفُ بها البُيُوت فوق الخشبِ ، وتستخدم في تطييب الموتى
(3) - معجم ابن المقرئ برقم( 125 ) حسن
(4) - هناد السري برقم(747 ) حسن
(5) - سنن أبى داود برقم(4035 )صحيح
(6) - السنن الكبرى للبيهقي برقم( 3897 ) صحيح
(7) - أحمد في مسنده برقم( 19398)صحيح
(8) - صحيح البخارى برقم( 442 )
(9) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ برقم(9943)صحيح(3/400)
و عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ، قَالَ : كُنْتُ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ تَامٌّ ، قَدِ اتَّخَذَ الْعَرَقُ فِي جُلُودِنَا طُرُقًا مِنَ الْوَسَخِ وَالْغُبَارِ "(1)
و عن عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ ، فَقَالَتِ ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِى ، انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِى الْبَيْتِ ، وَقَدْ كَانَ لِى مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلاَّ أَرْسَلَتْ إِلَىَّ تَسْتَعِيرُهُ .(2)
=================
__________
(1) - الحلية برقم( 1239 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى برقم(2628 ) -القطر : ثياب من غليظ القطن وغيره =تقين : تزين لزفافها(3/401)
تحمّل الصحابة شدة الخوف والجوع والبرد في ليلة الأحزاب
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ : ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ : أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا شَهِدْنَا ذَلِكَ لَفَعَلْنَا وَفَعَلْنَا ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : لَا تَمَنَّوْا ذَلِكَ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَنَحْنُ صَافُّونَ قُعُودٌ ، أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا ، وَقُرَيْظَةُ الْيَهُودِ أَسْفَلَ مِنَّا ، نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِيِّنَا ، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا لَيْلَةٌ قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا ، فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ وَهِيَ ظُلْمَةٌ ، مَا يَرَى أَحَدٌ مِنَّا إِصْبَعَهُ ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ، فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ ، فَيَتَسَلَّلُونَ ، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ إِذِ اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا رَجُلًا حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ ، وَمَا عَلَيَّ جُنَّةٌ مِنَ الْعَدُوِّ ، وَلَا مِنَ الْبَرْدِ ، إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتَيَّ ، قَالَ : فَأَتَانِي وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيَّ ، فَقَالَ : " مَنْ هَذَا ؟ " فَقُلْتُ : حُذَيْفَةُ ، فَقَالَ : " حُذَيْفَةُ " ، قَالَ : فَتَقَاصَرْتُ بِالْأَرْضِ فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَقُومَ ، قَالَ : " قُمْ " ، فَقُمْتُ ، فَقَالَ : " إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ ، فَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ " ، قَالَ : وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فَزَعًا ، وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا ، فَخَرَجْتُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، وَمِنْ خَلْفِهِ ، وَعَنْ يَمِينِهِ ، وَعَنْ شِمَالِهِ ، وَمِنْ فَوْقِهِ ، وَمِنْ تَحْتِهِ " ، قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي ، فَمَا أَجِدُ مِنْهُ شَيْئًا ، قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْتُ قَالَ : " يَا حُذَيْفَةُ ، لَا تُحْدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " ، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لَهُمْ تَوَقَّدُ ، وَإِذَا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلَى النَّارِ ، وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ وَيَقُولُ : الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ ، فَأَضَعُهُ عَلَى كَبِدِ قَوْسِي لِأَرْمِيَهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " ، فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي فِي كِنَانَتِي ، ثُمَّ إِنِّي شَجَّعْتُ نَفْسِي حَتَّى دَخَلْتُ الْمُعَسْكَرَ ، فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ يَقُولُونَ : يَا آلَ عَامِرٍ ، الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ ، لَا مُقَامَ لَكُمْ ، وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ ، مَا تُجَاوِزُ عَسْكَرَهُمْ شِبْرًا ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ ، وَفَرَسَتْهُمُ الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا . ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا انْتَصَفَ بِيَ الطَّرِيقُ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُعْتَمِّينَ ، فَقَالُوا : أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ الْقَوْمَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي ، فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ رَاجَعَنِي الْقُرُّ ، وَجَعَلْتُ أُقَرْقِفُ ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَأَسْبَلَ عَلَيَّ شَمْلَتَهُ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى ، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الْقَوْمِ ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي تَرَكْتُهُمْ يَتَرَحَّلُونَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا الْآيَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ ، عَلِيُّ بْنُ(3/402)