وسائل لنصرة المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
16/1/1429
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشعور بالمستضعفين من حقوق الأخوة. 2- ظاهرة تبلد الإحساس. 3- أهمية البدء بإصلاح النفوس. 4- ضرورة بيان زيف الشعارات الغربية. 5- الجهاد بالمال. 6- أهمية الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إن مشاركة المسلمين واستشعار ما يحلُ بهم من المصاب العريض في شتى أنحاء المعمورة من حقِّ المسلمِ على أخيه، فمرض المسلم مرضٌ للجميع، وفقره فقر للجميع، وموته موت للجميع، هم كالجسدِ الواحدِ إذا أشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، جاء عن أيوب السختياني رحمه الله تعالى أنه قال: "إني أخبرُ بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقدُ بعض أعضائي".
إن مما يؤسف له ـ أيها المسلمون ـ أن كثيرًا من الناسِ لا يُلقونَ للمستضعفين بالاً، لم يكلفوا أنفسهم متابعة أخبار إخوانهم، بل ولا السؤال عنهم، اللهم إلا ما يمرُ على أحدهم عرَضًا على سمعه وبصره، وكان الأولى به أن يكون مستشعرًا لحال إخوانه في محنتهم، فلهم حقٌّ في أن نشاركهم مشاعرهم، ولهم حقٌّ في أن نجعل لقضيتهم نصيبًا وافرًا من طرحنا ومجالسنا، وذلك كلُه شيءٌ من حق المسلم على أخيه المسلم.
عباد الله، إن من أهمّ وسائل نصرة المسلمين أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وتغيير حالنا ليتحقق لنا أملُنا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]. إن ما حدث ويحدث من تسلّط الأعداء على ديارنا ومقدساتنا إنما هو بسبب ذنوبنا ومعاصينا، ولا يظلم ربك أحدا، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30].
أيها المسلمون، إن أمةً تعيش مثل هذه الأوضاع يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو واللعب، وأنَّى لأمةٍ أن تواجه أعداءَها وهي بعدُ لم تنتصر على نفسها ولم تتغلب على شهواتها؟! فهل سيتحقق النصر لمن لا يأتون الصلاة وإلا وهم كسالى؟! وهل سيتحقق النصر ومن بيننا من يضمر العداوة للمسلمين ويوالي أعداء الدين؟! هل يتحقق النصر لمن لا يهتمّ بأمر المسلمين وتشغله الملاعب والمسارح والشاشات عن قضايا المسلمين؟!
إن كل واحدٍ منا جزءٌ من هذه الأمة، وبصلاحه أولاً ثم بصلاح من حوله تتسع دائرة الإصلاح لتشمل الأمة كلها، ويتحقق لنا حينها موعودُ الله لنا بالنصر، قال العباس رضي الله عنه: (اللهم إنه لم تنزل عقوبةٌ إلا بذنب، ولم تنكشف إلا بتوبة).
عباد الله، ومن وسائل نصرة المسلمين أن نغتنم هذه الأحداث لنكشفَ من خلالها العديد من المبادئ والمفاهيم التي يروّج لها الإعلام الغربي والإعلام العميل، وما يدندن به البعض من بني قومنا ممن انخدعوا ببريق الديمقراطية والعدالة الغربية. يجب علينا فضح تلك المفاهيم التي تروّج للسلام وترى أنه الطريق الوحيد للأمن والرخاء والتلذذ بالطعام والشراب وأنوار الكهرباء، وأن الشجاع الحر الأبي الذي يدافع عن أرضه وعرضه وقبل ذلك دينه ومقدساته هو الذي يقتل دون المسالم المقرّ للذل والهوان سواء في دينه وأرضه وعرضه. لقد حسب أولئك المخدوعون أن الجبناء أطول آجالاً وأكثر أعمارًا من الشجعان، ولأجل هذا يحرصون على الحياة ويهرعون ويدعون إلى السلم والمسالمة طمعًا في الحياة وإن كانت ذليلةً، وفي العيش وإن كان مرا.
يا مسلمون، حدثوني بربكم: هل من عاقل يقبل أن يتنازل عن أرضهِ ومقدساتهِ لمحتلّ مقابل أن يقدم له عدوه الغذاء والماء والكهرباء؟! وهل من عاقل يرى أرضهُ تغتصبُ ومقدساته تنتهكُ ونفسه تزهق ثم يبقى مسالمًا لا يطلق صاروخًا ولا يفجر دبابة ولا يواجه عدوًا؟!
يا مسلمون، إن المحاصَرين اليوم في غزة يمثلون البقية الباقية في هذه الأمة في ثباتهم على المبدأ ووعيهم بمخططات العدو وتفويتهم الفرص على مشاريع الاستسلام والتصدي لمحاولات التهويد في القدس، وهم البقيةُ الذين يقومون نيابةً عن هذه الأمة الغافلة بمقاومة المحتلّ وتعويق مشاريعه الصهيونية في المنطقة، كذلك نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدًا، لهذه المعاني والاعتبارات حوصِروا، ولهذه المواقف الواعية والمتصلبة حوربوا، ويراد لهم أن يركعوا كما سجد غيرهم، وحاشا لهم ذلك بإذن الله، فلسان حالهم:
أيا تاريخ ما اعتدنا السجودا لغير الله أو كنّا عبيدا
لئن دار الزمانُ وراح شعبي مع الْحرمانِ يقتاتُ الوعودا
فما زادته أحداث الليالِي وألوان الأسى إلا صمودا
هو الشعب الذي رغم الرزايا ورغم الْموت قد أضحى جنودا
هم قد أقسموا إمّا انتصارٌ وتَحرير وإمّا أن نبيدا
هم قد عاهدوا الرحْمن حقًا وما نقض الأباة لَهم عهودا
بأن يمضوا على درب الأضاحي وفوق القدس أن يرسوا البنودا
عباد الله، إن الجهاد بالمال من أعظم القربات، ودق قدّمه الله سبحانه على الجهاد بالنفس في العديد من المواضع؛ لأن بذل المال الكثير يكون نفعه متعديًا، ونفع النفس يكون قاصرًا على صاحبه أحيانًا، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15].
أيها المسلمون، إنّ دعمنا لإخواننا في فلسطين في مواصلة صمودهم يصبّ في مصلحتنا ومصلحة ديننا، فلو أنا تركناهم وشأنهم ولم يصمدوا في وجه العدوّ لتفرغ بعد ذلك لمحاربتنا وانتهاك حرمتنا، فعلينا أن نحصر العدو بدعم إخواننا الذين يقومون بمهمة تخدم المسلمين جميعًا، وليكن شكرنا وجزاؤنا لهم هو نصرتهم بالمال كأقل واجبٍ نقوم به بعد أن حالت بيننا وبين الجهاد بالنفس السدود.
يا مسلمون، أيهنأ لنا عيشٌ والمسلمون يتساقطون ضحايا بين فكي كماشة اليهود والنصارى؟! أي قلب لا يعتصره الأسى؟! أي مشاعر لا تتحرك وسط برك الدماء وعلى أشلاء الموتى والجرحى؟!
يا مؤمنون، ماذا بعد أن يستصرخ الناسُ: أنقذونا ولو بتكفين موتانا أو بحفر القبور لشهدائنا؟! وماذا بعد أن تستصرخ الفتيات: لا بأس أن تشاهدوا جنائزنا لكن استروا عوراتنا وأخلفونا في أهلينا بخير؟!
يا عباد الله، ماذا بعد أن تُبلّل دموع الشيوخ العجائز الثرى وهم يستصرخون إخوانهم في مد يد العون لهم قائلين: أين أنتم يا مسلمون؟!
يا معشر الأغنياء، شمروا عن سواعد الإنفاق، فإن النعم لا تدوم، وإن بعد الحياة موتًا، وإن بعد الموت حسابا، وما أموالكم إلا عَوانٍ وأمانات عندكم، استودعكم الله إياها ابتلاءً وامتحانًا لينظر كيف تعملون.
أيها المؤمنون، إن دين الله منصورٌ من قبَل الذي أنزله وشرعه، فهو أغير على دينه وحرماته منا، وإنما ننصر أنفسنا ونقدم لأنفسنا، والله تعالى أرحم بعباده منا، ولكننا ممتحنون في ولائنا للمؤمنين وبراءتنا من الكافرين، وممتحنون في الخوف من البشر أو من رب البشر.
ألا فثقوا بالله ونصره، وقدموا لأنفسكم خيرًا؛ تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرا، واستغفروا الله إن الله كان غفورًا رحيمًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن من أهم وسائل النصرة لإخواننا الدعاء، فهو سلاحُ الخطوب ودواء الكروب، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، ولو لم يكن في الدعاء لإخواننا إلا الشعور بالجسد الواحد والمواساة ورقة القلب لكفى، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43].
إن مما يقدر عليه جميع المسلمين ولا نعذر بتركه نصرةً لإخواننا إن ندعوَ لهم ونكرّر الدعاء بلا كللٍ ولا مللٍ، جاء في صحيح مسلم أن النبي استقبل القبلةَ يوم بدرٍ ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبدُ في الأرض)) ، فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال: 9].
فالله الله ـ أيها المسلمون ـ بالدعاء، اسألوا الله النصر لإخوانكم وأنتم موقنون بالإجابة، ولعل الله أن يجعل من بيننا من لو أقسم على الله لأبره.
اللهم يا ذا الأسماء الحسنى والصفات العلى، فرج هم المهمومين...
(1/5768)
نصرة غزة واجب ومسؤولية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يحيى بن سليمان العقيلي
اليرموك
مسجد موضي الصباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة حصار غزة. 2- سبب الحصار وأضراره على الشعب. 3- حصار المشركين للنبي وأصحابه في الشعب. 4- سنة الابتلاء. 5- نداء لنصرة أهل غزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي ـ عباد الله ـ بتقوى الله تعالى ولزوم أوامره، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.
معاشر المؤمنين، جريمة كبرى ما قام به الصهاينة المعتدون من حصار ظالم لغزّة في فلسطين المباركة، مسرى رسول الله ، سبعة أشهر من الحصار بل السجن للشعب الفلسطيني في غزة، أعقبوها بقطع الإمدادات والوقود لأيام متتالية، أطبقت الخناق على شعب جريرته أن يقول: ربي الله، وأن يرفض أن يركع إلا لله، ويأبى بشموخ وعزة أن يخضع للإملاءات الصهيونية ويتخلى عن أرضه ومقدساته وحقوقه، وأن يُذَلّ بترك الجهاد في سبيل الله وترك المقاومة لإعلاء كلمة الله ورسوله ، وأن يخضع كما خضع غيره لمؤامرات الاستسلام والخيانة ومعاهدات الذل والمهانة. يريدون منهم ـ عباد الله ـ ومن الأمّة جمعاء أن يتركوا كلام الله المنزّل وآياته المحكمة كقوله جل وعلا: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا، الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.
عباد الله، أكثر من 80 في المائة من الشعب الفلسطيني يعيش تحت خطّ الفقر، وتوفي أكثر من ثمانين مريضا، واستشهد العشرات، وجرح المئات؛ نتيجة ذلك الحصار الظالم والعدوان الآثم الذي صب نيران الظلم والطغيان بالطائرات والدبابات، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. نعم عباد الله، فالله جل وعلا شهيد عليم بما يقدم عليه أولئك الظلمة الفجرة، وبما يصبر عليه أولئك المؤمنون البررة.
لن يضير أصحاب العقيدة والمبدأ ـ عباد الله ـ تجويع ولا حصار، فقد فُعِلَ ذلك برسول الله ، فعندما عجزت قريش عن قتله أجمعوا على منابذته والمسلمين معه ومن يحميه من بين هاشم، فكتبوا لتلك المقاطعة الآثمة كتابا تعاهدوا فيه على أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يتركوا سببا من أسباب الرزق يصل إليهم ولا يقبلوا منهم صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلم بنو المطلب رسول الله لهم ليقتلوه، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وحوصر بنو هاشم وبنو المطلب ومن معهم من المسلمين ومعهم رسول الله في شعب بني المطلب، إلا ما كان من أبي لهب عم رسول الله فقد ظاهر على النبي وأصحابه وأرحامه، لم تأخذه في ذلك حمية ولا رحمة، كما يفعل اليوم بعض من باعوا دينهم وأرضهم وحقوقهم؛ يشاركون في جريمة الحصار بالاستمرار بما يسمى بالمفاوضات ومسيرة الاستسلام، فحالهم كما وصف ربنا جل وعلا فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ.
ويستمر الحصار ـ عباد الله ـ أعواما ثلاثة، وجهد النبي ومن معه جهدا شديدا، حتى إنهم كانوا يأكلون الخبَط وورق الشجر، كانت العير إذا دخلت مكة وذهب المسلمون للشراء قام أبو لهب يصيح: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم. فيزيدون بالأسعار أضعافا مضاعفة حتى يرجع المسلم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، ليس له حيلة ولا ملجأ إلا الله سبحانه، وبعد أن مضت الأعوام الثلاثة وبلغ بمن كان في الشعب ما بلغ من الجهد أخذت الغيرة والحمية خمسة من رؤساء المشركين، بدأها صريحة زهير بن أمية، فأقبل على الناس عند الكعبة فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟! والله، لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، وتكلم الخمسة معه، ثم قام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فمزقها، ثم انطلق الخمسة ومعهم جماعة إلى بني هاشم وبني عبد المطلب ومن معهم من المسلمين فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم، وانتهى أمر الحصار.
فبالله عليكم يا عباد الله، أين غيرة قادة الأمة وحكامها؟! أين جرأتهم لفك هذا الحصار الظالم؟! أما آن الأوان أن نخلع ثياب الذل والهوان؟! أما آن الأوان أن نصطلح مع رب الأرباب وملك الملوك جل في علاه، وأن نلتحم مع إرادة الأمة المسلمة بالوقوف صفا واحدا أمام ذلك العدوان الصهيوني الغاشم، وأن نذر الأوهام والسراب والوعود الزائفة لأولئك الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة من اليهود والنصارى؟! أما آن الأوان أن نسمع لكلام المولى جل وعلا ونذر وعودهم وأمانيهم الباطلة، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ.
وإننا نحمد الله تعالى أن قيض الله لعباده من ترجموا الأقوال بالفعال، وأزاحوا جدار الحصار عن غزة، كما مزق المطعم بن عدي الصحيفة؛ مما فرج عن أهل غزة شيئا من كربتهم ونفس عن الأمة جمعاء آلامهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المؤمنين، قد يتساءل البعض منا: إلى متى تتوالى النكبات وتتابع الأزمات وتكثر الآلام والمصيبات على أمتنا؟ ألسنا على الحق والدين؟! ألسنا عبادًا لرب العالمين؟! وهؤلاء المعتدون ومن معهم من أعداء الله والدين هم المنتصرون وجندهم هم الغالبون! هم في أمن وأمان وتقدم وازدهار، مشاكلهم سرعان ما تنقضي، ومحنهم سرعان ما تنجلي.
نقول لأولئك: معاشر المؤمنين، أنحن أكرم على الله أم محمد بن عبد الله أكرم البرية وسيد البشرية؟! أما حوصر المسلمون؟! أما آذاه الكافرون وعاداه المبلطون؟! كان يرى أصحابه بين يديه يقتّلون، وفي أحد سال دمه وكسرت رباعيته وشجّ رأسه، وقتل بين يديه أصحابه، ومثّل بعمه وأحبابه، وفي الخندق أما حاصره الأحزاب وبلغ بالمسلمين من الشدة والمحنة ما زاغت به الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؟! هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا.
إنها سنة الله تعالى الماضية، إنها حكمة الله البالغة عباد الله، إنه الابتلاء والاختبار والامتحان للأمة جميعا بقادتها وشعوبها، أليس الله بقادر على أن ينصر رسوله بكلمة كن فيكون؟! أما كان الله جل وعلا قادرا أن يمحق الكافرين وينصر المؤمنين دون عناء ومشقة، دون إزهاق للأنفس وإهدار للأموال؟! إنه اختبار وامتحان للمؤمنين الموحدين يا عباد الله، واستمعوا لكلام ربكم المحكم وآياته البينات الواضحات وحكمته البالغة وسنته الماضية بعد ما أصاب المسلمين ما أصابهم في أحد، نزلت تلك الآيات تربي المؤمنين في كل عصر ومصر، قال الله جل وعلا: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.
معاشر المؤمنين، إن أحداث غزة امتحان لنا جميعا في نصرتنا لإخواننا، نصرة باللسان والدعاء والدعم المادي والمعنوي، وامتحان لهم في صبرهم وثباتهم على الحق، وأن هذه المحنة قد كشفت ـ ولله الحمد ـ عن جوانب الخير والوحدة والتضامن بين أفراد الأمة، توحدت المشاعر وتفاعلت القلوب وسارعت الأيادي للدعم والتبرع، وهنا في كويت الخير كان الموقف مشرّفا ـ أميرا وحكومة وشعبا ـ في نصرة أهل غزة، فشكر الله الجميع، ونبشركم بأن أول قافلة أدوية دخلت إلى غزة كانت منها شاحنات من تبرعات لجان الخير في الكويت، أبت إلا أن تكون السباقة في النجدة والنصرة، فبارك الله فيكم يا أهل الكويت، وجعلكم ذخرا وسندا للأمة.
هذا، وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5769)
حصار غزة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
خلاف الغالبي
بركان
16/1/1429
مسجد الغفران
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حصار الشعب. 2- الحصار الجاهلي يتجدد. 3- واجبنا تجاه إخواننا في غزة: المساندة المالية، المساندة الفعلية من خلال المواقف الصحيحة الجريئة، المقاطعة الاقتصادية للبضائع الصهيونية والأمريكية غير الضرورية، المساندة الإعلامية، المساندة المعنوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
ميثاق الظلم والعدوان (حصار المسلمين الأوائل في شعب أبي طالب): اجتمع مشركو قريش وتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلّموا إليهم رسول اللَّه للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق: أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلّموا محمدا للقتل.
تم هذا الميثاق، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب، وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة. واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعامًا يدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغ بالمسلمين الجهد، والتجؤوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الاشتراء.
ها هو التاريخ يعيد نفسه: ها هي سياسة الحصار الجاهلية تظهر من جديد، وها هي إسرائيل دولة الاحتلال تطبّق حصارا ظالما على أزيد من مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة الصامدة؛ عقابا لهم على اختيارهم لحركة حماس، لعلّ هذا الشعب الجائع المحاصَر الذي يفتقد أدنى مقوّمات العيش ينتفض ضد من اختارهم بصورة شرعية، ويسقط من وضع ثقته فيهم. هذا الحصار الذي بدِئ تنفيذه منذ ستة أشهر وبلغ ذروته خلال هذا الأسبوع.
لقد كان الشاعر العربي صادق التعبير موفقا حين قال:
قتل امرئ فِي غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كاملٍ مسألة فيها نظر
إن قتل أو أسر جندي إسرائيلي ـ وهو الغاصب المحتلّ المعتدي) ـ تقوم له الدنيا ولا تقعد، وتتوالى الإدانات والتهديدات والاستنكارات، أما قتل شعبنا في غزة بالتجويع والحصار ومنع الدواء والغذاء والتدفئة والوقود وبالاستهداف المباشر وقصف المنازل فيواجه بالصمت المطبق؛ لأن الأمر فيه نظر.
أيها الإخوة والأخوات، لقد طال حصار النبي ومن معه في شعب أبي طالب ثلاثة أعوام كاملة، وكانت قريش بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهًا لها، وعلى رأسهم خمسة سعوا لنقض الوثيقة الظالمة الجائرة وهم: هشام بن عمرو، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وزهير بن أمية البختري.
لقد تم نقض الصحيفة وفكّ الميثاق الظالم عن النبيّ وصحبه وعشيرته في شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وفي شهر الله المحرم أيضا كان الكسر الجزئي للحصار، والذي صنعه أهل غزة بأياديهم الشريفة قبل يومين، بعد أن خذلهم العالم وخذلهم المتشدّقون بحقوق الإنسان، فلعله يكون بداية فك الحصار وبداية انفراج الأزمة عن أهلنا وإخوتنا المظلومين هناك.
إن وضع إخوتنا في فلسطين كلّها وفي غزة اليوم يملي علينا نحن المسلمين أينما كنا واجبات كثيرة، نذكر منها:
الواجب الأول: المساندة المالية:
يجب على المسلمين جميعا أفرادا وجماعات ومنظمات وحكومات أن يكسروا الحصار عن أهل غزة خاصة وفلسطين عامة ماليا، ولقد جاء ذكر الجهاد بالمال مقدما على الجهاد بالنفس في القرآن الكريم في أكثر من موضع، يقول تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41].
وفلسطين وغزة أرض جهاد ومقاومة، وإخوتنا في حاجة ماسة لكل شيء، هم في حاجة للغذاء والكساء والدواء، وهم في حاجة لدعم المقاومين وتجهيزهم، فعن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ((مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا)) رواه البخاري.
والمسلم الحق لا يتردّد في البذل والعطاء في مواطن الجهاد والفداء، هَا أَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
الواجب الثاني: المساندة الفعلية من خلال المواقف الصحيحة الجريئة:
إذا كانت مروءة العرب قد دفعت مشركي بني هاشم وبني المطلب أن يقفوا في خندق واحد مع النبي وأصحابه أثناء الحصار، ودخلوا معهم في هذه المقاطعة حتى كان يسمع أصوات غير المسلمين من النساء والأطفال والصبيان يتضاغون من الجوع، ألا نتعلم من هذا المساندة درسا يوجهنا نحو الموقف الذي تمليه المروءة على العرب والمسلمين قاطبة تجاه أهلهم في فلسطين؟! هل نحب أن نكون لإخوتنا في غزة كما كان أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب عموما لمحمد ومن معه من المسلمين، يجري علينا ما يجري على إخوتنا، ونعاني مما يعاني منه إخوتنا، ولا نخذلهم ولا نسلمهم لأعدائهم يفعلون بهم ما يشاؤون، أم نحب أن نكون كأبي لهب الذي حالف الظلمة ضد الحق وضد أهله ورحمه؟!
إذا كان خمسة من مشركي قريش قد سعوا فى نقض صحيفة مقاطعة النبي وأصحابه، فإننا نتساءل بحرقة: ألا يوجد في الأمة المسلمة مثل هؤلاء الخمسة (هشام بن عمرو، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وزهير بن أمية البختري)؟! الآن يجب أن ينبري مثل هؤلاء الخمسة الأشراف الأحرار من ذوي المروءات من كبار الأغنياء والوجهاء السياسيين والقادة والمسؤولين الحزبيين ممن يسعى لتقطيع وتمزيق هذا الحصار على الشعب الفلسطيني عامة وعلى أهل غزة خاصة، وعليه يجب كسر الحواجز التي وضعت على المعابر ومنافذ الحياة لإخواننا في غزة.
والمؤسف حقيقة أن هذا الحصار ما كان ليتم وغزّة تتمتع بعمق عربي إسلامي يتمثل في الحدود المشتركة مع مصر، هذا الاتصال الحدودي البري بين غزة ومصر المفروض منه أن يكسر كل حصار ويحطم كل مخطط لعزل إخوتنا في غزة وتجويعهم والتضييق عليهم، وأن يفشِل كل محاولة لإذلال الشعب الفلسطيني وتركيعه حتى يرضخ لرغبة الصهاينة ومن يحميهم ويدعمهم فيقبل بالحلول الاستسلامية المنقوصة المشوهة التي دفع الرئيس الراحل ياسر عرفات حياته ثمنا لرفضها، تلك الحلول الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وعلى رأسها مسألة القدس ومسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم. إنه لولا الاتفاقية القائمة بين مصر ودولة الكيان الصهيوني ما نجح هذا الحصار.
إن وقوفنا كالمتفرج على إخوتنا في غزة عاجزين عن القيام بأي شيء لَظلم شديد لهم، وما أشد ظلم الأهل والأحباب على النفوس، كما قال الشاعر العربي:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
إن ديننا الحنيف ينهانا عن خذلان إخوتنا المسلمين وظلمهم وتركهم لقمة سائغة أمام عدوهم مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
إن من المواقف التي يجب علينا القيام بها دعما لإخوتنا تلك المسيرات السلمية والتظاهرات الشعبية والمهرجانات الخطابية الداعمة لهم والمدافعة عن حقهم في المقاومة واسترداد ما سلب منهم، وهي ممارسات لا شك ترفع من معنويات إخوتنا في فلسطين وتزيد من همتهم، وما أحوجهم إلى رفع المعنويات وإعلاء الهمم، كما تضغط بشكل أو بآخر على النظام الدولي وعلى العدو للتخفيف من وطأته على أهلنا في الأرض التي بارك الله حولها.
الواجب الثالث: المقاطعة الاقتصادية للبضائع الصهيونية والأمريكية غير الضرورية:
إن محاربة السلوك الاستهلاكي للمنتجات الصهيونية والأمريكية جهاد اقتصادي أفتى به عدد كبير من علماء الأمة، وذلك في كل ما له بديل وفي كل ما لا ضرورة في استهلاكه. وقد كان للمقاطعة الاقتصادية دورها الحاسم في طرد الاستعمار من جميع بلدان العالم الإسلاميّ وغيره خلال القرن الماضي.
الواجب الرابع: المساندة الإعلامية:
إنها دعوة لذوي الأقلام الحرة والنفوس الأبية والحمية الإسلامية والغيرة العربية أن يعبّروا عن الرفض لهذا القهر والظلم الأمريكي الصهيوني لأمتنا عامة وإخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان وغزة خاصة، نريد أن يكتب أصحاب الأقلام في الصحف والشعراء والأدباء والقصاصون والرواة في دواوينهم والمنشدون في أناشيدهم والمسرحيون في عروضهم والفنانون والرسامون في لوحاتهم؛ وبالمناسبة نذكر أن جمعية ( Fair Event ) المتواجدة بفرنسا دعت عن طريق وزارة التعليم الفرنسية إلى مسابقة دولية في الرسم في نسختها لعام 2008م عنوانها: "ارسم لي السلام"، والمنظمة تحت شعار التسامح واكتشاف الآخر والتي تسعى إلى تجميع الأطفال الفائزين من عرب وإسرائيليين وأوروبيين في باريس لفترة معينة يتعارفون فيها فيما بينهم ويتعايشون. في هذا الوقت العصيب الذي يمر به أطفال فلسطين وأطفال غزة وهم يعانون من كل ألوان المعاناة وأصنافها مما لا يعلم مداه إلا الله، يطلب من أطفالنا في المغرب في المدارس الابتدائية والإعدادية المشاركة في هذه المسابقة التي تحمل عنوان "ارسم لي السلام"، وكان من الأجدر في هذه الظروف أن ننظم لأطفالنا مباراة في الرسم تحمل عنوان: "ارسم لي الغطرسة الصهيونية والظلم الدولي لأهل غزة"، أو: "ارسم لي الحق الفلسطيني في أرضه"، أو: "ارسم لي كيف تشعر بمعاناة أهل غزة تحت الحصار".
لا بد أن نحسّ بكافة المسلمين من حولنا، ونهتم بأمورهم، فقد روى الطبراني عن حذيفة أن النبي قال: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحًا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم)).
يجب أن تنطلق حملة إعلامية تواجه هذا الكذب المفضوح الذي يظهر الصهاينة المعتدين بمظهر الضحية والفلسطينيين المظلومين بمظهر الجلاد. إن هذه المساندة الإعلامية ثغر من ثغور الجهاد صارت اليوم من ضرورات الواقع، مواجهة لهذا القصف الإعلامي الصهيوني الذي يزيف الحقائق ويثير الفتن ويدعو إلى الرذيلة.
الواجب الخامس: المساندة المعنوية:
ولعل هذا النوع من المساندة يمثل الحد الأدنى الذي ليس وراءه حبة خردل من إيمان، وتتمثل في مضاعفتنا للصيام وإكثارنا من القيام، وأن نجأر بالدعاء إلى الملك العلام أن يكشف البلاء عن أهل غزة رمز العزة والإباء، ولعل دعاء المخلصين في مختلف بقاع الأرض لإخوانهم في فلسطين أن يكون أمضى من حجارتهم وبنادقهم وصواريخهم في أعدائهم من الصهاينة المعتدين. ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام في معركة بدر وقد وعده ربه بالنصر يتوجه إلى الباري جل وعلا بالدعاء قائلا: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا)).
كيف تكون مسلمًا تعيش آمنًا مطمئنًا ولا يشغلك حال مَن حولك؟! أين نحن من حديث النبي : ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رواه مسلم.
وإنه لمن المهمّ أن تتحوّل هذه المساندة بكل أشكالها وبشتى صنوفها وأنواعها إلى سلوك فرد وأسرة ومجتمع، حتى يأذن رب الأرض والسموات بالفرج القريب رغم أنف الصهاينة وأعوانهم من المتخاذلين والمتخاذلات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أدانت المملكة المغربية بشدة لجوء السلطات الإسرائيلية "لإنزال عقوبات جماعية على الأشقاء الفلسطينيين في خرق سافر لأحكام المواثيق الدولية والقانون الإنساني الدولي"، معبّرة عن انشغالها الكبير للتردي المتزايد للأوضاع الإنسانية في قطاع غزة بالأراضي الفلسطينية جراء الحصار المضروب من طرف إسرائيل. وذكر بلاغ لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون يوم الأربعاء أنه بتعليمات سامية من ملك البلاد محمد السادس رئيس لجنة القدس: "ما فتئ المغرب يقدم الدعم الكامل للشعب الفلسطيني الشقيق ويبذل المساعي العاجلة على الصعيد الدولي والأممي بتنسيق وتشاور مع المجموعة العربية والإسلامية لفك هذا الحصار بصفة نهائية وكاملة".
أفلا نكون في مستوى هذه التعليمات السامية ونقدم لإخوتنا في فلسطين وغزة كل ما نستطيع تقديمه، فإن الواجب يدعونا للدفاع عن شرف أمتنا وديننا وأوطاننا بكل الوسائل المشروعة والمتاحة، بالدعم المادي والإعلامي، بالدعاء والمسيرات وكل ما نستطيعه من وسائل التعبير والدعم، وذلك حتى آخر رمق من حياتنا.
لقد برهن المغاربة على مر التاريخ على ارتباطهم بأرض فلسطين شعوبا وقيادات، ولا يزال حي المغاربة المجاور للمسجد الأقصى شاهدا على مشاركة المغاربة الشرفاء في الدفاع عن المسجد الأقصى، كما يذكر التاريخ المغربي بفخر واعتزاز مساهمة السلطان يعقوب المنصور الموحدي في نصرة إخوانه المسلمين في مصر والشام إبان الحروب الصليبية، عندما أرسل أسطولا بحريا شارك في المعركة التي اندحر فيها الصليبيون الغزاة. أفلا نربط الحاضر بالماضي ونكون كأجدادنا الذين هبوا لنجدة الأقصى وفلسطين، فنهب لنجدة غزة والغزيين ونفدي الأقصى وفلسطين؟!
عباد الله، يجب علينا أن نعي حقيقة الوعي أننا في حاجة لإخوتنا في غزة وفلسطين مثل ما هم في حاجة إلينا أو أكثر، إنهم لا يدافعون عن أنفسهم وحقوقهم المشروعة فقط، إنهم يدافعون عن شرف الأمة الإسلامية جمعاء، إنهم بضعة ملايين يدافعون عن شرف مليار ونصف مليار مسلم ومسلمة، وإنهم وغيرهم من المجاهدين المقاومين في مواطن الجهاد الأخرى هم من يقف في وجه المشروع الصهيوني الأمريكي في أرض الإسلام والمسلمين الساعي إلى استغلال خيرات الأمة واستنزافها وإبقاء الأمة متخلفة متأخرة مذلولة تابعة لا تملك من أمر نفسها شيئا.
لقد كانت غزة هاشم الصخرة التي كسرت ظهر التتار الهمجيين (معركة عين جالوت عام 658 هـ، بقيادة الأمير المسلم قطز). ولعلها تكون أيضا الصخرة التي تقصم ظهر المشروع الاستيطاني الصهيوني في أرض الإسراء والمعراج أرض الأنبياء والرسالات، وتكون القاطرة التي تقود إلى فك الأسر عن الأقصى وتحرير فلسطين وتطهيرها من تدنيس الصهاينة المحتلين لها.
أيها الإخوة في الله، إنه ليس يصلُح أمرُ آخر هذه الأمة إلا بما صلَح به أولها، فلا بد في مواجهة هذا الصراع مع العدو الصهيوني الغاشم للأمة من العودة إلى الذات، إصلاحُ بنائها من الداخل، اعتصامُها بحبل الله وسنة رسوله ، والوقوفُ صفًا واحدًا أمام العدو المتربِّص، والتفطّنُ للعدو من الصديق. وإن التفريط في الثوابت ودخول النقص على الأفراد والمجتمعات في عقيدتها وقيمها وأخلاقها وفضائلها سببٌ لحلول الهزائم في الأمم والانتكاسات في الشعوب والمجتمعات، فلن يُحرَّر الأقصى إلا بالقيام بما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، ولن تُسترَدَّ المقدسات إلا برعاية العقيدة والشريعة في كل مناحي الحياة.
إن كل الأحداث التي تجري لا تخرج عن نطاق قدر الله، وإن الصراع الدائرة رحاه اليوم على أرض الرباط فلسطين السليبة سيؤول بالضرورة إلى انتصار الحق وأهله واندحار الظلم وأشياعه، مصداقا لقوله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص: 5].
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 277]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8].
(1/5770)
غزة بين كيد الأعداء وغدر الأدعياء
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يحيى بن سليمان العقيلي
اليرموك
مسجد موضي الصباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المجازر الصهيونية في القطاع. 2- جريمة الحصار. 3- خطر الفئة الخائنة. 4- ليسوا سواء. 5- صمود الشعب الفلسطيني هو دفاع عن الأمة جمعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فأوصيكم ونفسي ـ عباد الله ـ بتقوى الله تعالى، فالمتقون هم أولياؤه وأحباؤه، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63].
معاشر المؤمنين، كنت قد أعددت موضوعا لخطبة اليوم، ولكن المجازر الصهيونية المتتابعة على شعب فلسطين في غزة والضفة الغربية لم تدع لنا فسحة للحديث عن غيرها من الأحداث، شهر مضى والاعتداءات الصهيونية الجبانة تتوالى على الشعب الفلسطيني، منها مجزرة مخيم البريج التي دمرت بها سبعة بيوت تدميرا كاملا، وأصبحت خمسون أسرة في العراء وعشرات القتلى والجرحى، وبالأمس كانت المجزرة الجبانة، طفل رضيع لم يتجاوز عمره بضعة شهور، انتظرت أمه ولادته لسنوات خمس لم يكتب الله لها الولد، ولما قرت عينها به وإذ بالطائرات الجبانة تقصف الموقع الذي يقطنه مع خمسة أطفال آخرين، لتغتال براءته وتذبح طفولته وأكثر من عشرين شهيدا، وصدق الله العظيم إذ يقول: لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة: 82]، أما توراتهم المحرفة فيزعمون أنها تشرّع لهم قتل الطفل والشيخ والمرأة والعجوز وحتى البهائم، فغير اليهود أميون مستباحون كما قال الحق سبحانه وتعالى على لسانهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 75].
معاشر المؤمنين، مأساة عظيمة تلك التي يعيشها الشعب الفلسطيني، حصار ظالم، منعٌ للطعام والدواء والكهرباء، لولا الله تعالى ثم هبة الشعوب المؤمنة التي سارعت بمد يد العون لهم لكان الحال أشد أسى ومرارة، إلا أن هذه المساعدات أمام عظم الحاجة كشربة ماء وجرعة دواء، في ظل استمرار الحصار الظالم الذي لا بد أن تتواصل جهود الأمة لكسره نهائيا، وإلا عدّت تلك جريمة في مسلسل الجرائم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
معاشر المؤمنين، لن أتحدّث عن كيد اليهود وعدوانهم وطغيانهم، فهو كالدخان الأسود يراه القاصي والداني، والشعب الفلسطيني المرابط بقيادته المؤمنة المجاهدة صابر على مقاومته، ثابت على جهاده، متمسك بكامل حقوقه، ولكن الحديث عما هو أشد ألما، عن تلك الفئة التي خانت شعبها وباعت دينها وفرطت بحقوقها وارتمت في أحضان الصهاينة المعتدين ومن والاهم، إن كان اليهود يقتلون الفلسطينيين بقذائف الموت من الطائرات والدبابات فإن أولئك الخونة يقتلون المجاهدين في سجون الغدر والخيانة، وآخرهم الشيخ مجد البرغوثي إمام مسجد قرية كوبر في الضفة الغربية، عذبوه أشد العذاب ليفتري على المجاهدين الكذب ويقول فيهم مقالة السوء، ولكنه صَبَرَ صبْرَ الأبطال، وثبت ثبات المؤمنين حتى لقي الله تعالى من شدّة التعذيب وقد تشوه جسده الطاهر، وعندما شاهدت والدته آثار التعذيب أصيبت بسكتة دماغية وتوفيت من شدة الصدمة.
عباد الله، إن كان بعضنا يظن لوهلة من الزمان أن الخلاف الفلسطيني كان صراعا بين فريقين على السلطة، فإن تتابع الأحداث وشيوع أخبار وفضائح الخيانة والعمالة لأولئك الأدعياء قد أوضحت الصورة لكل العالم، يرون تلك المجازر تتوالى وهم يلتقون مع الصهاينة يصافحونهم ويقبلونهم، بل ويدينون جهاد المجاهدين الأبطال ويسمونه الإرهاب والعبثية.
ليسو سواء يا عباد الله، فالله عز وجل فرق بين أهل الحق وأولياء الباطل، وحذّر من الالتباس وضعف البصيرة، قال جل وعلا: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35، 36]، وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21].
بل قد بالغوا في خصومتهم الفاجرة أن ساهموا بإحكام الحصار على غزة، ويرفضون التفاوض لفكه، يقولون ما قاله المنافقون حيث قال عنهم المولى عز وجل: فتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة: 52]، وكذلك قال الله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 7].
نسأل الله تعالى لشعب فلسطين أن يجبر كسرهم ويحقن دماءهم ويداوي جراحهم ويعافي مبتلاهم وأن يفك قيدهم ويثبت أقدامهم وينصرهم على القوم الظالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ناصر المؤمنين وولي المتقين ومذل الجبابرة والمتكبرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، المبعوث رحمة للعالمين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
وبعد: معاشر المؤمنين، إن ما ينبغي أن نعيه تمام الوعي أن صمود الشعب الفلسطيني ورباطه ومقاومته وجهاده للصهاينة ومن والاهم هو في حقيقته دفاع عن الأمة جميعا، فلولا الله تعالى الذي قيض أولئك المجاهدين وأحيا في قلوب الشعب المقاومة والرباط وثبّت أقدامهم على الصبر والجهاد فأصبحوا شوكة في أفواه المعتدين يرفضون المساومة على المقدسات والتنازل عن الحقوق والهرولة وراء سراب السلام يكيلون لهم الصاع بالصاع، لولا ذاك لساد الصهاينة في بلادنا، ولتحكموا في اقتصادنا وأمننا، ولدنسوا هويتنا، فلندرك ذلك عباد الله، ولنعلم أن دعمهم واجب شرعي وحماية لأوطاننا، وإن نصرتهم نصرة لنا، ودعمهم أمن لنا وحماية لمقدساتنا، قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [التوبة: 75]، فلنواصل دعمهم، فالله تعالى لا يمل حتى تملوا، فإنهم لا أحد لهم بعد الله سبحانه وتعالى إلا الشعوب المؤمنة؛ تهب لنجدتهم، وتسعى لنصرتهم.
بالأمس اتصل أحد الفضلاء من المملكة العربية السعودية وتبرع بمليون ريال لمشروع دار رعاية الأيتام الذي أعلنّا عنه سابقا، فجزاه الله خير الجزاء، وجزاكم أنتم جميعا خير الجزاء على دعمكم ونصرتكم، لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 273].
هذا، وصلوا وسلموا على الحبيب محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5771)
يا غزة العزة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
6/1/1430
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف الأوضاع في غزة. 2- تبجّح اليهود وغطرستها. 3- رفض اليهود للسلام. 4- تصميم اليهود على حرب المسلمين وقتلهم. 5- صفات اليهود. 6- التحذير من الشعارات الزائفة. 7- سنة الابتلاء. 8- واجب الشعوب والأفراد تجاه الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَفي غُضُونِ سَاعَاتٍ مِنَ الغَارَاتِ الغَاشِمَةِ عَلَى مِنطَقَةٍ لا تَتَجَاوَزُ مِسَاحَتُهَا وَاحِدًا وَأَربَعِينَ كِيلاً في تِسعَةِ أَكيَالٍ، تَتَحَوَّلُ غَزَّةُ المَدِينَةُ الهَادِئَةُ وَالقِطَاعُ العَامِرُ إِلى عَالَمٍ آخَرَ مِنَ القَلَقِ وَالخَرَابِ وَالدَّمَارِ، مَسَاكِنُ مُحَطَّمَةٌ وَمَسَاجِدُ مَهَدَّمَةٌ، وَحِجَارَةٌ مُتَنَاثِرَةٌ وَسَيَّارَاتٌ مُهَشَّمَةٌ، وَقَصفٌ وَنِيرَانٌ وَتَفجِيرَاتٌ وَدُخَانٌ، جُثَثٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ، وَرِجَالٌ يَجرُونَ يَمنَةً وَيَسرَةً، يَتَحَسَّسُونَ قَلبَ هَذَا وَيَقِيسُونَ نَبضَ ذَاكَ، هَذَا يُكَبِّرُ وَذَاكَ يَصِيحُ، وَثَالِثٌ يَضرِبُ كَفًّا بِالأُخرَى لا يَدرِي أَينَ يُوَجِّهُ، وَهَذَا جَرِيحٌ يَرفَعُ يَدَهُ مُستَنجِدًا، وَذَاكَ قَتِيلٌ قَد أَسلَمَ الرُّوحَ لِبَارِئِهَا مُجَندَلاً، شُيُوخٌ وَعَجَائِزُ عُفِّرَت وُجُوهُهُم بِالتُّرَابِ، وَأَطفَالٌ يَلفِظُونَ آخِرَ الأَنفَاسِ بَينَ أَيدِي آبَائِهِم، وَسَيَّارَاتُ إِسعَافٍ وَأَجنِحَةٌ في المُستَشفَيَاتِ مَلأَى بِالقَتلَى وَالجَرحَى وَالمُصَابِينَ.
وَيَتَوَاصَلُ عَنَاءُ النَّهَارِ بِكَمَدِ اللَّيلِ عَلَى مَدَى الأَيَّامِ المَاضِيَةِ، وَتَمتَلِئُ الثَّلاَّجَاتُ بِجُثَثِ إِخوَانِنَا المُسلِمِينَ، وَلا يَجِدُ جَرحَاهُم مِنَ الأَسِرَّةِ مَا يَرقُدُونَ عَلَيهِ، وَلا مِنَ العِلاجَاتِ مَا يُضَمِّدُونَ بِهِ جِرَاحَهُم. وَعَلَى مَرأًى مِنَ العَالَمِ وَمَسمَعٍ، وَبَعدَ حِصَارٍ اقتِصَادِيٍّ دَامَ سَنَتَينِ عَجفَاوَينِ، وَبِتَوَاطُؤٍ مِن دُوَلِ الكُفرِ وَتَمَالُؤٍ مِن عُمَلائِهَا، يَتَمَادَى اليَهُودُ في ظُلمِهِم وَيَتَجَاوَزُونَ الحُدُودَ، فَيُكمِلُونَ المُسَلسَلَ بِغَارَاتٍ هَمَجِيَّةٍ تَأتي عَلَى الرَّطبِ وَاليَابِسِ، وَقَصفٍ شَامِلٍ يَأكُلُ القَرِيبَ وَالبَعِيدَ، وَيُقتَلُ أَكثَرُ مِن أَربَعِ مِئَةِ شَخصٍ، وَيَتَجَاوَزُ عَدَدُ الجَرحَى الأَلفَينِ، في مَجزَرَةٍ عُنصُرِيَّةٍ بَغِيضَةٍ، تَحكِي أَبشَعَ الصُّورِ لِتَضيِيعِ حُقُوقِ الإِنسَانِ وَإِهدَارِ كَرَامَتِهِ.
وَرُغمَ وَحشِيَّةِ الهُجُومِ وَقَصدِهِ العُمُومَ، يَخرُجُ رَئِيسُ وُزَرَائِهِم بَتَبَجُّحٍ لِيُعلِنَ أَنَّ تِلكَ الغَارَاتِ مُوَجَّهَةٌ ضِدَّ جَمَاعَةٍ بِعَينِهَا، وَلَيسَ المَقصُودُ بها الشَّعبَ الفِلَسطِينِيَّ كُلَّهُ، ثم يَتَمَادَى وَيُعلِنُ أنها سَتَستَمِرُّ حَتى تَنتَهِيَ المُهِمَّةُ، وَعَلَى عَادَتِهِم وَمُبَالَغَةً في النِّكَايَةِ بِالمُؤمِنِينَ وَالشَّمَاتَةِ بهم وَالتَّشَفِّي مِنهُم يَخرُجُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَفوَاهِهِم مَا لَيسَ في قُلُوبِهِم ، فَلا يَزِيدُونَ عَلَى أَن يُلقُوا بِاللَّومِ عَلَى أَهلِ غَزَّةَ وَيَقُولُوا: لَو أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد كَتَبَ اليَهُودُ في هَذِهِ المَجزَرَةِ وَفِيمَا سَبَقَهَا رَسَائِلَ بَارِزَةَ الحُرُوفِ ظَاهِرَةَ المَعَاني، مَفَادُهَا أَنْ لا سَلامَ مَعَ المُسلِمِينَ وَلَو سَعَوا إِلَيهِ وَأَرَادُوهُ وَالتَزَمُوا بِهِ، رَسَائِل تُعلِنُ أَنْ لا هُدُوءَ وَلَو قَدَّمَ المُسلِمُونَ مَا قَدَّمُوا مِن تَنَازُلاتٍ وَأَظهَرُوا حُسنَ نَوَايَاهُم وَإِرَادَتَهُمُ الخَيرَ، وَتَبقَى اللُّغَةُ الَّتي يُجِيدُهَا أُولَئِكَ المُغتَصِبُونَ المُجرِمُونَ هِيَ لُغَةُ الحَربِ وَالضَّربِ وَالقَصفِ، وَتَبقَى مُمَارَسَاتُ الهَدمِ وَالحَرقِ وَالقَصفِ وَالتَّدمِيرِ وَمَشَاهِدُ الجِرَاحِ وَالدَّمِ وَالمُوتِ وَالتَّشرِيدِ هِيَ المُمَارَسَاتُ وَالمَشَاهِدُ الَّتي يَستَعذِبُونها وَلا يَرتَاحُونَ إِلاَّ عَلَى رُؤيَتِهَا. تَتَغَيَّرُ الوُجُوهُ وَتَتَبَدَّلُ الشَّخصِيَّاتُ، وَتَأتي حُكُومَاتٌ وَتَذهَبُ حُكُومَاتٌ، وَتُعقَدُ مُؤتَمَرَاتٌ وَتُستَصدَرُ قَرَارَاتٌ، وَتَبقَى الهَجَمَاتُ هِيَ الهَجَمَاتُ وَالغَارَاتُ هِيَ الغَارَاتُ، وَتَظَلُّ العَقَائِدُ هِيَ العَقَائِدُ وَالاتِّجَاهَاتُ هِيَ الاتِّجَاهَاتُ، وَصَدَقَ اللهُ وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً: وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم ، وَصَدَقَ اللهُ وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّىَ يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا ، صَدَقَ خَالِقُنَا وَخَالِقُهُم وَالعَالِمُ بِنَا وَبِهِم: هَا أَنتُم أُولاءِ تُحِبُّونَهُم وَلاَ يُحِبُّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضُّوا عَلَيكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمسَسْكُم حَسَنَةٌ تَسُؤْهُم وَإِن تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفرَحُوا بِهَا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ.
وَلَقَد عَلِمَ المُؤمِنُونَ قَبلَ هَذِهِ الغَارَاتِ وَبَعدَهَا عِلمًا يَقِينِيًّا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ اليَهُودَ هُم أَشَدُّ النَّاسِ لهم عَدَاوَةً وَبُغضًا، وَأَنَّهُم لا يُضمِرُونَ لهم إِلاَّ السُّوءَ وَلا يَتَمَنَّونَ لهم إِلاَّ الشَّرَّ، قَالَ اللهُ تَعَالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشرَكُوا ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ مِن رَبِّكُم ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: لا يَألُونَكُم خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّم قَد بَدَتِ البَغضَاءُ مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ.
إنَّ قَومًا قَتَلُوا الأَنبِيَاءَ وَآذَوا مُوسَى وَخَطَّطُوا لاغتِيَالِ محمدٍ وَنَقَضُوا عَهدَهُ وَلم يَفُوا بِالمَوَاثِيقِ وَكَانُوا وَمَا زَالُوا يَرفَعُونَ السِّلاحَ في وُجُوهِ المُؤمِنِينَ وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ لا يُتَصَوَّرُ مِنهُم بَعدَ كُلِّ هَذَا أَن يَرضَوا بِالتَّعَايُشِ مَعَ المُسلِمِينَ أَو يُرِيدُوا لَهُمُ السَّلامَ. إِنَّهُ لَجَهلٌ مَا بَعدَهُ جَهلٌ وَغَبَاءٌ مَا لَهُ مِثلٌ أَن يَطلُبَ قَومُنَا التَّعَايُشَ أَو يَرجُوا السَّلامَ مِن قَومٍ لم يَتَعَايَشُوا مَعَ أَنبِيَائِهِم، قَومٌ قَالُوا: سَمِعنَا وَعَصَينَا ، وَقَالُوا: قُلُوبُنَا غُلفٌ ، وَقَالُوا: يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ ، وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحنُ أَغنِيَاء ، وَقَالُوا: عُزَيرٌ ابنُ اللهِ ، وَقَالُوا لَن يَدخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَو نَصَارَى ، قَومٌ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِنهُم إِلاَّ قَلِيلاً مِنهُمُ ، قَومٌ يَسعَونَ في الأَرضِ فَسَادًا.
إِنَّهُ لا سَبِيلَ لِلتَّعَايُشِ وَلا لِلبَقَاءِ مَعَهُم في أَرضٍ وَاحِدَةٍ بِسَلامٍ، فَيَا لَيتَ المَخدُوعِينَ مِن بَني جِلدَتِنَا يَفقَهُونَ حَقِيقَةَ المَعرَكَةِ مَعَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الكَفَرَةِ، لَيتَهُم يَعُونَ مَعَنى الصِّرَاعِ القَائِمِ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، لَيتَهُم يَنتَبِهُونَ أَنَّهُ صِرَاعٌ عَقَدِي دِينِيٌّ بَحتٌ، وَأَنَّهُ مَاضٍ إِلى أَن يَرِثَ اللهُ الأَرضَ وَمَن عَلَيهَا، قَالَ الحَقُّ وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّىَ يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا اليَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وَرَاءَهُ اليَهُودِيُّ: يَا مُسلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقتُلْهُ)).
لَيتَ أُمَّتَنَا تَفهَمُ هَذَا فَتَتَخَلَّى عَنِ الدَّعَوَاتِ القَومِيَّةِ وَالحِزبِيَّاتِ الإِقلِيمِيَّةِ وَالشِّعَارَاتِ الوَطَنِيَّةِ الَّتي مَا هِيَ إِلاَّ ظُلُمَاتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ وَتَضيِيعٌ لِحُقُوقِ الأُمَّةِ وَإِهدَارٌ لِكَرَامَتِهَا، ثم لَيتَهُم يَعلَمُونَ بَعدَ ذَلِكَ أَنَّ الحَربَ الَّتي يَشُنُّهَا الكُفَّارُ أَنَّى قَامَت وَفي أَيِّ مَكَانٍ شُبَّت في فِلَسطِينَ أَو في العِرَاقِ أَو في أَفغَانِستَانَ أَو في الشِّيشَانِ أَو في غَيرِهَا مِن بُلدَانِ المُسلِمِينَ لَيسَت لِتِلكَ البِلادِ وَحدَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ اختِبَارٌ لِلجَمِيعِ وَجَسٌّ لِنَبضِهِم، وَسَتُصَدَّرُ لهم إِنْ رَضُوا بهذا الوَاقِعِ وَبَقُوا عَلَى ذَاكَ التَّخَاذُلِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ دِمَاءَ المُسلِمِينَ في بِلادٍ وَيَبقَى إِخوَانُهُم في بِلادٍ أُخرَى يَتَقَلَّبُونَ في النَّعِيمِ وَالتَّرَفِ لا يَتَحَرَّكُ لهم طَرْفٌ في نُصرَةٍ، فَاللهُ تَعَالى يَغَارُ وَسُنَّتُهُ قَائِمَةٌ، قَالَ َ: ((إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ وَأَخَذتُم أَذنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُم بِالزَّرعِ وَتَرَكتُمُ الجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيكُم ذُلاً لا يَنزِعُهُ حَتى تُرَاجِعُوا دِينَكُم)).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَلا تَنخَدِعُوا بِتَحلِيلاتِ مَن أَعمَى اللهُ قُلُوبَهُم وَطَمَسَ بَصَائِرَهُم مِن بَعْضِ مُثَقَّفِينَا وَكُتَّابِنَا وَإِذَاعِيِّينَا، أَو بَآرَاءِ مَن يُنَادُونَ بِالحُلُولِ الدُّولِيَّةِ الَّتي لا تَرعَى دِينًا وَلا تَخضَعُ لِعَقِيدَةٍ، أَو أُولَئِكَ القَائِلِينَ بِلُزُومِ وُجُودِ قُوَّةٍ دَولِيَّةٍ مُتَعَدِّدَةِ الجِنسِيَّاتِ لِحِمَايَةِ المُسلِمِينَ في غَزَّةَ، فَإِنَّهُ وَاللهِ مَا حَمَت قُوَّةٌ دَولِيَّةٌ شَعبًا مُسلِمًا، وَلا وَاللهِ مَا عَرَفنَا الكُفرَ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَلا وَاللهِ لا يَتِمُّ النَّصرُ وَلَن يَتَحَقَّقَ مَا لم تَتَحَقَّقْ فِينَا أَسبَابُهُ الشَّرعِيَّةُ، فَتِلكَ سُنَّةُ اللهِ الَّتي لا تَتَحَوَّلُ وَلا تَتَبَدَّلُ، قَالَ سُبحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُم وَيُثَبِّتْ أَقدَامَكُم ، وَقَالَ تَعَالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ.
وَلْتَعلَمِ الأُمَّةُ أَنَّهُ لا بُدَّ قَبلَ النَّصرِ وَالتَّمكِينِ في الأَرضِ مِنِ ابتِلاءٍ لها وَتَمحِيصٍ، لا بُدَّ مِن تَميِيزِ الخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، قَالَ تَعَالى: أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلزِلُوا حَتى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللهِ قَرِيبٌ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَيَعلَمَ الصَّابِرِينَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: مَا كَانَ اللهُ لَيَذرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ، وَقَالَ تَعَالى: أَم حَسِبتُم أَن تُترَكُوا وَلَمَّا يَعلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَلم يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ ولا رَسُولِهِ وَلا المُؤمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ.
وَإِنَّ اللهَ لَقَادِرٌ عَلَى نَصرِ عِبَادِهِ وَإِهلاكِ الكَفَرَةِ، وَلَكِنَّ مِن حِكمَتِهِ أَن جَعَلَ لِلنَّصرِ ثَمَنًا، قَالَ تَعَالى: ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِنْ لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمَالَهُم سَيَهدِيهِم وَيُصلِحُ بَالَهُم وَيُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لهم.
فَهَنِيئًا لإِخوَانِنَا في غَزَّةَ ممَّن قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ، وَعَسَى اللهُ أَن يَتَقَبَّلَهُم في الشُّهَدَاءِ وَيَرفَعَ مَنَازِلَهُم.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأتيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنفُسِهِم نَادِمِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَيَتَسَاءَلُ مُسلِمٌ غَيُورٌ: وَمَاذَا في أَيدِينَا نحنُ الشُّعُوبَ وَالأَفرَادَ؟! وَمَاذَا نَملِكُ نُصرَةً لإِخوَانِنَا؟! فَيُقَالُ:
إِنَّ في أَيدِينَا الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ ممَّا لا يَسَعُ مُسلِمًا تَركُهُ وَلا التَّقصِيرُ فِيهِ، بِأَيدِينَا السِّلاحُ المَاضِي وَالقُوَّةُ القَاهِرَةُ، بِأَيدِينَا سِلاحُ الدُّعَاءِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي وَعَدَنَا بِالإِجَابَةِ وَهُوَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُوني أَستَجِبْ لَكُم ، وَمَنِ الَّذِي يَمنَعُ أَيَّ مُسلِمٍ في شَرقِ الأَرضِ وَغَربِهَا أَن يَرفَعَ كَفَّهُ إِلى اللهِ ضَارِعًا، وَأَن يَلجَأَ إِلَيهِ تَعَالى دَاعِيًا، وَأَن يُلِحَّ عَلَيهِ مُخلِصًا أَن يَحقِنَ دِمَاءَ إِخوَانِهِ المُسلِمِينَ، وَأَن يُهلِكَ الظَّالِمِينَ المُعتَدِينَ.
بِأَيدِينَا أَسمَاعُ أَبنَائِنَا فَلْنُسمِعْهُم الحَقَّ، بِأَيدِينَا قُلُوبُهُم فَلْنَغرِسْ فِيهَا العَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، لِنَغرِسْ في قُلُوبِهِمُ الوَلاءَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ أَينَمَا كَانُوا، وَالبَرَاءَ مِنَ الشِّركِ وَالمُشرِكِينَ أَينَمَا كَانُوا، لِنُحَذِّرْهُم ممَّن يُهَوِّنُونَ مِن شَأنِ هَذِهِ العَقِيدَةِ وَيَدعُونَ إِلى مَا يُسَمُّونَهُ التَّعَايُشَ السِّلمِيَّ الَّذِي مَا هُوَ في الحَقِيقَةِ إِلاَّ نَوعٌ مِنَ الخُضُوعِ وَضَربٌ مِنَ الخُنُوعِ، لَن نَزدَادَ بِهِ في أَعيُنِ الأَعدَاءِ وَقُلُوبِهِم إِلاَّ ذُلاًّ وَمَهَانَةً. إِنَّهُ لا بُدَّ أَن يَعِيَ أَبنَاؤُنَا الحَقَّ وَيَثبُتُوا عَلَيهِ، وَأَن لاَّ يَقبَلُوا فِيهِ أَيَّ نِقَاشٍ أَو خِدَاعٍ، قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا بُرَاءُ مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَحدَهُ.
وَلْيَحذَرِ المُسلِمُ مِن خُذلانِ إِخوَانِهِ بِأَيِّ نَوعٍ مِن أَنوَاعِ الخُذلانِ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَا مِنِ امرِئٍ يَخذُلُ امرَأً مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ تَعَالى في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ)). وَلْيَعلَمْ أَنَّ جَمِيعَ المُسلِمِينَ في مَشَارِقِ الأَرضِ وَمَغَارِبِهَا إِخوَةٌ، لا تَفصِلُ بَينَهُم حُدُودٌ وَلا تُفَرِّقُُهُم جِنسِيَّاتٌ، وَاللهُ تَعَالى هُوَ الَّذِي رَبَطَ بَينَهُم بِرِبَاطِ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ، قَالَ تَعَالى: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ ، وَقَالَ تَعَالى: فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا ، وَقَالَ : ((المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ؛ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ وَلا يَخذُلُهُ وَلا يَحقِرُهُ)) ، وَقَالَ : ((المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا)) ، وَقَالَ: ((مَثَلُ المُؤمِنِينَ في تَوَادِّهِم وَتَرَاحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ؛ إِذَا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى)).
أَلا فَلْيَهبَّ المُسلِمُونَ لِنُصرَةِ إِخوَانِهِم مَا استَطَاعُوا، العَالِمُ بِجَاهِهِ وَعِلمِهِ، وَالسِّيَاسِيُّ بِثِقَلِهِ وَوَزنِهِ، وَالكَاتِبُ بِقَلَمِهِ وَالخِطِيبُ بِلِسَانِهِ، لِنَحتَسِبْ مَا فِيهِ إِغَاظَةُ العَدُوِّ وَالنَّيلُ مِنهُ، وَلْنَحذَرِ التَّخَلُّفَ عَن الرَّكبِ، فَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: مَا كَانَ لأَهلِ المَدِينَةِ وَمَن حَولَهُم مِنَ الأَعرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرغَبُوا بِأَنفُسِهِم عَن نَفسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم لاَ يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخمَصَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ.
(1/5772)
يبتلون بالشر ونفتن بالخير
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
13/1/1430
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة الأوضاع في غزة. 2- ما يبعث السرور والأمل. 3- لأهل غزة إحدى الحسنيين. 4- عجبا لأمر المؤمن. 5- بل نحن المفتونون. 6- نداء لأداء الواجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ جَلَّ وَعَلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ لَمِمَّا يُؤسِفُ كُلَّ مُسلِمٍ وَيُحزِنُهُ ويُقلِقُ كُلَّ مُؤمِنٍ وَيُقِضُّ مَضجَعَهُ مَا وَقَعَ وَيَقَعُ لإِخوَانِنَا المُستَضعَفِينَ في غَزَّةَ مِنِ ابتِلاءٍ، وَمَا أَصَابَهُم وَيُصِيبُهُم مِن مِحَنٍ وَفِتَنٍ، خَوفٌ وَجُوعٌ وَاضطِرَابٌ، وَإِضعَافُ مَعنَوِيَّاتٍ وَزَلزَلَةٌ وَإِرجَافٌ، وَنَقصٌ مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ. لَكِنَّ هَذَا الحَزَنَ وَذَلِكَ القَلَقَ مَا يَلبَثُ أَن يَقِلَّ وَيَتَلاشَى وَيَذهَبَ وَيَنقَلِبَ إِلى نَوعٍ مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالغِبطَةِ حِينَمَا نَرَى مَا يَصدُرُ عَن أُولَئِكَ الصَّامِدِينَ الصَّابِرِينَ مِن مُوَاجَهَةٍ شُجَاعَةٍ لِلبَاطِلِ، وَتَحَدٍّ مُعلَنٍ لِلبَغيِ وَالعُدوَانِ، وَمَا يَظهَرُ عَلَيهِم مِن صَبرٍ وَيَقِينٍ وَرِضًا بما قَدَّرَ اللهُ، فَيَتَذَكَّرُ قَولَ المَولى جَلَّ وَعَلا: وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ. وَإِنَّكَ لَتَفرَحُ حَقًّا يَومَ تَرَى رَجُلاً عَلَى جَنبِهِ قَد أَثخَنَتهُ الجِرَاحُ وَأَتَاهُ أَمرُ اللهِ وَهُوَ يَرفَعُ أَصبُعَهُ نَاطِقًا بِشَهَادَةِ الحَقِّ يُرَدِّدُهَا، وَتَعجَبُ مِن حَالِ ذَلِكَ المُجَاهِدِ الَّذِي يَتَّصِلُ عَلَيهِ الأَعدَاءُ وَيُخبِرُونَهُ بِمَوعِدِ قَصفِ مَنزِلِهِ فَمَا يَتَحَرَّكُ لَهُ سَاكِنٌ وَلا تَرتَعِدُ لَهُ فَرِيصَةٌ، بَل وَلا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلاَّ ثَبَاتًا وَيَقِينًا وَفَرَحًا وَاستِبشَارًا، وَيَجمَعُ زَوجَاتِهِ الأَربَعَ وَأَبنَاءَهُ وَيُخبِرُهُم بِالخَبَرِ، وَيُبَشِّرُهُم أَنَّ مَوعِدَ الشَّهَادَةِ قَد دَنَا وَلِقَاءَ اللهِ قَدِ اقتَرَبَ، فَمَا يَلبَثُ حَتى يَأتِيَهُ أَمرُ اللهِ وَيَذهَبَ إِلى رَبِّهِ هُوَ وَكُلُّ عَائِلَتِهِ، يَذهَبُونَ صَامِدِينَ صَابِرِينَ، مُوقِنِينَ بِأَنَّهُم إِلى خَيرٍ يَصِيرُونَ، غَيرَ عَابِئِينَ بِالأَعدَاءِ الخَاسِرِينَ؛ وَكَيفَ يَعبَؤُونَ أَو يَهتَمُّونَ وَهُمُ المَنصُورُونَ الفَائِزُون؟! كَيفَ وَهُم المُؤمِنُونَ بِقَولِ أَصدَقِ القَائِلِينَ: وَلَئِن قُتِلتُم في سَبِيلِ اللهِ أَو مُتُّم لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحمَةٌ خَيرٌ ممَّا يَجمَعُونَ وَلَئِن مُتُّم أَو قُتِلتُم لإِلى اللهِ تُحشَرُونَ ؟! وفي مَشهَدٍ آخَرَ تَرَى تِلكَ الأُسرَةَ يَمُوتُ مِن أَبنَائِهَا نِصفُهُم، فَلا تَزِيدُ الأُمُّ عَلَى أَن تَحمَدَ اللهَ وَتَستَرجِعَ، وَتُثنِيَ عَلَيهِ إِذْ أَخَذَ خَمسَةً وَأَبقَى لها خَمسَةً. وَغَيرُ هَذَا كَثِيرٌ مِن مَشَاهِدِ الصَّبرِ وَمَوَاقِفِ اليَقِينِ، فَالحَمدُ للهِ الَّذِي بَشَّرَ عِبَادَهُ الصَّابِرِينَ، وَأَنزَلَ عَلَيهِم رَحمَتَهُ وَأَثنى عَلَيهِم وَهَدَاهُمُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لا شَكَّ أَنَّ إِخوَانَنَا في أَرضِ العِزَّةِ في غَزَّةَ يُوَاجِهُونَ فِتنَةً عَميَاءَ وَيَلقَونَ أَشَدَّ البَلاءِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لا يَضُرُّهُم شَيئًا وَقَد سَلَكُوا سَبِيلَ الصَّبرِ وَالرِّضَا بما قَدَّرَ اللهُ، إِنَّهُم ـ وَاللهِ ـ لَبَينَ حُسنَيَينِ مَطلُوبَتَينِ مَرغُوبَتَينِ: نَصرٌ في الدُّنيَا وَعِزٌّ وَتَمكِينٌ، أَو شَهَادَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَرِفعَةٌ في عِلِّيِّينَ، قَالَ سُبحَانَهُ: قُلْ هَل تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحدَى الحُسنَيَينِ وَنَحنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِن عِندِهِ أَو بِأَيدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُتَرَبِّصُونَ. هَذِهِ هِيَ حَالُ إِخوَانِنَا في غَزَّةَ، وَحَتى وَإِنْ قُتِلُوا وَسُفِكَت مِنهُمُ الدِّمَاءُ، وَحَتى وَإِنْ تَغَلَّبَ عَلَيهِمُ العَدوُّ بَقَوِّةِ السِّلاحِ، وَحَتى وَإِنْ هَدَمَ بُيُوتَهُم وَمَدَارِسَهُم وَأَفسَدَ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، فَيَكفِيهِم شَرَفًا وَفَخرًا أَنَّهُم لم يَركَعُوا وَلم يَخضَعُوا، يَكفِيهِم عِزًّا وَرِفعَةً أَنهم قَاوَمُوا بِصُدُورِهِم عَدُوًّا ذَا عُدَّةٍ وَعَتَادٍ، بَل قَاوَمُوا العَالَمَ كُلَّهُ وَرَفَعُوا الرُّؤُوسَ في عِزَّةٍ، وَنَصَرُوا اللهَ وَصَبَرُوا في المِحنَةِ، فَمَا يَحِقُّ بَعدَ هَذَا أَن يُبكَى عَلَيهِم بُكَاءَ النِّسَاءِ، بَل هُم أَحَقُّ بِأَن يُغبَطُوا عَلَى أَدَائِهِم وَظِيفَةَ الحَالِ الَّتي هُم فِيهَا، وَاللهُ لا يُقَدِّرُ عَلَى عِبَادِهِ شَرًّا مَحضًا، لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم. رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنّ أُمَّ الرَّبِيعِ بِنتَ البَرَاءِ ـ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بنِ سِرَاقَةَ ـ أَتَتِ النَّبيَّ فَقَالَت: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَلا تُحَدِّثُني عَن حَارِثَةَ؟ ـ وَكَانَ قُتِلَ يَومَ بَدرٍ أَصَابَهُ سَهمٌ غَربٌ ـ فَإِنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرتُ، وَإِنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ اجتَهَدتُ عَلَيهِ في البُكَاءِ، قَالَ: ((يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابنَكِ أَصَابَ الفِردَوسَ الأَعلَى)).
نَعَم أَيُّهَا الإِخوَةُ، إِنَّ مَن يَسِيرُ في سَبِيلِ اللهِ مُجَاهِدًا مُرَابِطًا لا يَحِقُّ أَن يُبكَى عَلَيهِ بَقِيَ أَو قُتِلَ، فَلَهُوَ في أَعلَى المَرَاتِبِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الدُّنيَا في سُفُولٍ، وَلَهُوَ في أَهنَأِ العَيشِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَلَّبُ بَينَ فَقرٍ وَجُوعٍ، وَكَيفَ يُبكَى عَلَى مَن إِنْ يُقتَل يَحْيَ عِندَ رَبِّهِ فَرِحًا مُستَبشِرًا، وَإِنْ يَغلِبْ يَعِشْ عَزِيزًا رَافِعَ الرَّأسِ غَيرَ ذَلِيلٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقتَلُ في سَبيلِ اللهِ أَموَاتٌ بَلْ أَحيَاءٌ وَلَكِن لا تَشعُرُونَ ، وَقَالَ تَعَالى: وَلاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَموَاتًا بَلْ أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لم يَلحَقُوا بِهِم مِن خَلفِهِم أَلاَّ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ يَستَبشِرُونَ بِنِعمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُؤمِنِينَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: وَمَن يُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللهِ فَيُقتَلْ أَو يَغلِبْ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مَن قَامَ بما يَجِبُ للهِ عَلَيهِ في الحَالِ الَّتي هُوَ فِيهَا فَلا خَوفٌ عَلَيهِ وَلا حَزَنٌ، لا خَوفٌ عَلَيهِ وَلَو حُورِبَ وَعُودِيَ وَعُذِّبَ، وَلا حَزَنٌ عَلَيهِ وَلَو سُجِنَ أَو شُنِقَ أَو قُتِلَ، ذَلِكُم أَنَّ المُؤمِنَ في هَذِهِ الدُّنيَا عَلَى خَيرٍ مَا اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ وَعَمِلَ بِمَرضَاتِهِ، قَالَ : ((عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ؛ إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيرٌ، وَلَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ، إِنْ أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ)). وَإِنَّ مِن قِلَّةِ الفِقهِ أَن تَرَى مِنَّا مَن يَنظُرُ إِلى حَالِ إِخوَانِهِ في أَرضِ الجِهَادِ في فِلَسطِينَ وَغَيرِهَا بِعَينِ الأَسَفِ وَالإِشفَاقِ، وَيَتَقَطَّعُ قَلبُهُ لِمَا يَرَاهُم فِيهِ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَذَهَابِ الأَمنِ وَالطُّمَأنِينَةِ، وَلَكِنَّهُ لم يَنظُرْ إِلى نَفسِهِ يَومًا بِعَينِ البَصِيرَةِ، وَلم يَدُرْ في خَلَدِهِ أَنَّنَا في مُقَابِلِ فِتنَةِ الشَّرِّ الَّتي بُلُوا بها بُلِينَا نحنُ بِفِتنَةِ الخَيرِ في بِلادِنَا، فَأَخطَأَ كَثِيرٌ مِنَّا الطَّرِيقَ في التَّعَامُلِ مَعَهَا، وَوَاللهِ إِنَّهَا لَهِيَ الفِتنَةُ الَّتي مَا فِتنَةٌ أَضَرُّ مِنهَا. نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ لِلسَّرَّاءِ فِتنَةً لا تَقِلُّ عَن فِتنَةِ الضَّرَّاءِ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرُونَ قَد يَرجِعُونَ إِلى اللهِ وَيَلجَؤُونَ إِلَيهِ وَيَتُوبُونَ في الضَّرَّاءِ، فَإِنَّ قَلِيلِينَ يَنجَحُونَ في فِتنَةِ السَّرَّاءِ وَيَتَجَاوَزُونَ العَقَبَةَ الكَأدَاءَ، قَالَ سُبحَانَهُ: وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ ، وَقَالَ تَعَالى: وَقَطَّعنَاهُم في الأَرضِ أُمَمًا مِنهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنهُم دُونَ ذَلِكَ وَبَلَونَاهُم بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ. وَانظُرُوا إِلى نَبِيِّ اللهِ سُلَيمَانَ عَلَيهِ السَّلامُ لَمَّا جَاءَهُ مَا أَرَادَ وَمَثَلَ أَمَامَ عَينَيهِ مَاذَا قَالَ؟ قَالَ سُبحَانَهُ حِكَايَةً لِمَوقِفِهِ لَمَّا أَتَاهُ عَرشُ بِلقِيسَ: فَلَمَّا رَآهُ مُستَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضلِ رَبِّي لِيَبلُوَني أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ ، وَقَالَ تَعَالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى أَنْ رَآهُ استَغنى ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ بَل هِيَ فِتنَةٌ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ ، وَقَد كَانَ يَتَعَوَّذُ مِن شَرِّ فِتنَةِ الغِنى وَمِن شَرِّ فِتنَةِ الفَقرِ، وَعَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ قَالَ: ((إِذَا رَأَيتَ اللهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ استِدرَاجٌ)) ، ثم تَلا رَسُولُ اللهِ : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتى إِذَا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ ، وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ إِلى الجُوعِ في وُجُوهِ أَصحَابِهِ فَقَالَ: ((أَبشِرُوا؛ فَإِنَّهُ سَيَأتي عَلَيكُم زَمَانٌ يُغدَى عَلَى أَحَدِكُم بِالقَصعَةِ مِنَ الثَّرِيدِ وَيُرَاحُ عَلَيهِ بِمِثلِهَا)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحنُ يَومَئِذٍ خَيرٌ! قَالَ: ((بَلْ أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ مِنكُم يَومَئِذٍ)) ، وَعَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ أَم إِذَا غُدِيَ عَلَى أَحَدِكُم بِجَفنَةٍ مِن خُبزٍ وَلَحمٍ وَرِيحَ عَلَيهِ بِأُخرَى، وَغَدَا في حُلَّةٍ وَرَاحَ في أُخرَى، وَسَتَرتُم بُيُوتَكُم كَمَا الكَعبَةُ)) ، قُلنَا: بَل نَحنُ يَومَئِذٍ خَيرٌ؛ نَتَفَرَّغُ لِلعِبَادَةِ، فَقَالَ: ((بَل أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ)) ، وَعَن أَبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((سَيَكُونُ رِجَالٌ مِن أُمَّتي يَأكُلُونَ أَلوَانَ الطَّعَامِ، وَيَشرَبُونَ أَلوَانَ الشَّرَابِ، وَيَلبَسُونَ أَلوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُونَ في الكَلامِ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتي)). فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! مَا أَشبَهَ حَالَ مَن ذَكَرَهُمُ الحَبِيبُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ في هَذِهِ الأَحَادِيثِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنَّا في البِلادِ الَّتي آمَنَهَا اللهُ مِن خَوفٍ وَأَطعَمَ أَهلَهَا مِن جُوعٍ! نَأكُلُ مِنَ النِّعَمِ أَصنَافًا، وَنَحتَسِي مِنَ الشَّرَابِ أَذوَاقًا، وَنَلبَسُ مِنَ الثِّيَابِ أَلوَانًا، في أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ وَرَاحَةِ بَالٍ، ثم تَرَانَا نُبَدِّدُ النِّعَمَ في إِسرَافٍ وَتَفَاخُرٍ وَتَكَاثُرٍ، وَيَتَشَدَّقُ بعضُنَا مُمتَدِحًا نَفسَهُ وَقَبِيلَتَهُ، وَكَأَنَّهُ لم يُخلَقْ في الأَرضِ مِثلهُم أَحَدٌ، وَآخَرُونَ لا هَمَّ لَهُم إِلاَّ التَّمَدُّحُ وَالتَّشَبُّعُ بما لم يُعطَوا، وَآخَرُونَ يَنَامُونَ عَنِ الصَّلَوَاتِ وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَثَمَّةَ مَن يَأكُلُونَ الرِّبَا وَيَتَهَاوَنُونَ بِالحَرَامِ وَالمُشتَبِهَاتِ، وَيُعَقُّ الآبَاءُ وَيُسَاءُ إِلى الأُمَّهَاتِ، وَتُقطَعُ الأَرحَامُ وَتُهجَرُ القَرَابَاتُ، وَتُرفَعُ في سَاحَاتِ اللَّهوِ الرَّايَاتُ، وَتُرهَنُ كَرَامَةُ الأُمَّةِ بِالمُنَافَسَاتِ وَالمُبَارَيَاتِ، وَتُحسَبُ رِفعَتُهَا وَتَقَدُّمُهَا بِالكُؤُوسِ وَالمِيدَالِيَّاتِ، أَلا فَمَا أَبرَدَهَا مِن نُفُوسٍ! وَمَا أَقسَاهَا مِن قُلُوبٍ! وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حَيثُ قَالَ:
أَبُنَيَّ إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ بَهِيمَةً في صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ المُبصِرِ
فَطِنٌ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ فَإِذَا أُصِيبَ بِدِينِهِ لَم يَشعُرِ
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أُمَّةَ الإِسلامِ، فَإِنَّ سُنَنَ اللهِ لا تَتَغَيَّرُ ولا تَتَحَوَّلُ، وَلَقَد أَرسَلنَا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُمْ بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ فَلَولا إِذْ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ.
اِتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاحذَرُوا فِتنَةَ السَّرَّاءِ، وَانصُرُوا إِخوَانَكُم، وَادعُوا لَهُم وَادعَمُوهُم بما تُطِيقُونَ، عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِصَالِحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد كَتَبَ إِخوَانُنَا في غَزَّةَ بِدِمَائِهِم سُطُورًا مِنَ العِزَّةِ، أَلا فَلْنَكتُبْ نحنُ مِثلَهَا بِأَموَالِنَا وَصَالِحِ أَعمَالِنَا، لَقَدِ اتَّقُوا اللهَ في فِتنَةِ الضَّرَّاءِ، فَوَاجَهُوا العَدُوَّ بِصُدُورِهِم وَجَادُوا بِأَروَاحِهِم، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ نحنُ في فِتنَةِ السَّرَّاءِ، وَلْنُؤَدِّ الحَقَّ الَّذِي عَلَينَا للهِ، لِنَقِفْ للهِ مَعَ المُصَلِّينَ، وَلْنَقُمْ مَعَ الرَّاكِعِينَ السَّاجِدِينَ، وَلْنُنفِقْ مَعَ المُعطِينَ البَاذِلِينَ، لِنَتَّقِ اللهَ فِيمَا رَزَقَنَا مِن أَموَالٍ وَأَولادٍ، وَلْنُحافِظْ على مَا وَهَبَنَا مِن أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ، وَلْنَحذَرْ مِن أَن نُبَدِّلَ نِعمَةَ اللهِ كُفرًا، لِنَأمُرْ بِالمَعرُوفِ وَلْنَنهَ عَنِ المُنكَرِ، وَلْنَأخُذْ عَلَى أَيدِي سُفَهَائِنَا بِالحَقِّ، وَلْنَأطِرْهُم عَلَيهِ أَطرًا، وَلْنَقسِرْهُم عَلَى اتِّبَاعِهِ قَسرًا، إِنَّهُ لَيسَ بَينَنَا وَبينَ اللهِ نَسَبٌ وَلا وَاسِطَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الأَعمَالُ الصَّالِحَةُ، مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ، وَاللهُ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم، كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَّبُوا بآيَاتِ رَبِّهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَغرَقنَا آلَ فِرعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَتَقَدَّسَت أَسمَاؤُكَ، لا يُرَدُّ أَمرُكَ وَلا يُهزَمُ جُندُكَ، سُبحَانَكَ وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ انصُرْ جُندَكَ وَأَيِّدْهم، اللَّهُمَّ بَارِكْ في حِجَارَتِهِم وَصَوَارِيخِهِم وَسَدِّدْ رَميَهُم، اللَّهُمَّ كُن لهم وَلا تَكُنْ عَلَيهِم، وَانصُرْهُم وَلا تَنصُرْ عَلَيهِم، اللَّهُمَّ أَنزِلِ السَّكِينَةَ في قُلُوبِهِم، وَزَلزِلِ الأَرضَ مِن تَحتِ أَعدَائِهِم، اللَّهُمَّ طَهِّرِ المُقَدَّسَاتِ مِن دَنَسِ اليَهُودِ الحَاقِدِينَ وَرِجسِ الصَّلِيبِيِّينَ المُتَآمِِرينَ وَكَيدِ المُنَافِقِينَ المُتَخَاذِلِينَ، اللَّهُمَّ اهزِمْهُم وَزَلزِلْهُم وَاشدُدْ وَطأَتَكَ عَلَيهِم، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَينَ كَلِمَتِهِم، وَأَلقْ في قُلُوبِهِمُ الرُّعبَ، وَأَلقِ عَلَيهِم رِجزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الحَقِّ.
(1/5773)
محرقة غزة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
6/1/1430
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غزوة الأحزاب. 2- استشهاد القيادي الدكتور نزار ريان. 3- استمرار العدوان على غزة. 4- فضل الأقصى. 5- من دروس الأحداث. 6- واجبنا تجاه الأحداث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى.
أيها المؤمنون، دعونا نبدأ مشوارنا من هناك، من عمق التاريخ، ومن غزوة الأحزاب بالتحديد، لقد خرج وفدٌ من اليهود إلى مكة، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين، ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، وشهدوا بأن الشرك خير من الإسلام، وقد نزل في ذلك قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ، ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطَفَان على حرب المسلمين، وهكذا تمكن اليهود من تشكيل تحالف همه حرب المسلمين والقضاء عليهم.
عباد الله، تجمع جيش قريش وحلفاؤها في مرِّ الظهران التي تبعد عن مكة أربعين كيلاً، حيث وافاهم حلفاؤهم من بني سليم وكنانة وأهل تهامة والأحابيش، ثم عزموا على المسير، وفور معرفة المسلمين بزحفهم صوب المدينة بدؤوا يتحركون لمواجهة الطوفان المحدق بهم، وبمشورة من سلمان الفارسي حفروا الخندق ليربط بين طرفي حرتين؛ لأنها كانت منطقة مكشوفة أمام الغزاة، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع أي: ما يعادل كيلوين ونصف الكيلو، وعرضه أربعة أمتار ونصف، وعمقه يتراوح ما بين ثلاثة أمتار ونصف إلى خمسة أمتار، وكلف الرسول أن يحفر كل عشرة من المسلمين أربعين ذراعًا. وتم حفر الخندق بسرعة رغم الجو البارد والمجاعة التي أصابت المسلمين؛ فكان طعام الجيش قليلاً من الشعير يُخلط بدهن متغير الرائحة لِقدَمه، ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكريه ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحيانًا لا يجدون سوى التمر، وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعامًا، لكنها حرارة الإيمان تطغى على البرد والجوع، فأتموا حفر الخندق في ستة أيام.
أيها المسلمون، ويبرز في هذه الغزوة موقف المنافقين أيضًا كشأنهم في كل شدة ونازلة تحل في ديار الإسلام، موقف الجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وَرَدَ ذلك في القرآن الكريم بأفصح عبارة وأدق تفصيل، قال الحق جل وعز: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا الآيات.
وظل زعيم اليهود حيي بن أخطب يواصل اتصالاته المكثفة لتعزيز قوة التحالف حتى أتى كعب بن أسد القرظي اليهودي، وكان بين بني قريظة والمسلمين عهد، فلم يزل به حيي بن أخطب حتى أعلن كعبٌ نقضه للعهد والانضمام إلى التحالف.
وبدأ الحصار، وعظُم البلاء على المسلمين، واشتد الخوف والبرد والجوع حتى ظن المؤمنون كل ظن. هجمات تشن في كل وقت، وضربات موجعة متتالية، وحصار مضروبٌ عليهم، وتوهين المنافقين وتخذيلهم، وبثُّ الشكوك والرِّيب في وعد الله ووعد رسوله ، وهروب مستمر في الجبهة، وتحريض غيرهم على الهروب أيضًا، لكن أشد كرب كان على المسلمين نقضُ بني قريظة عهدهم ليفتحوا ثغرةً واسعة تمكّن العدو من ضربهم من الخلف.
لقد نجم النفاق حتى قال أحدهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. في هذه الأثناء يسر الله أمرًا وهيأه، أن أسلم نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله : ((إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)). فانطلق نعيم بن مسعود رضي الله عنه، ولا يزال ينشر بين الأحزاب الفتنة حتى هدم ما كان بينهم من الثقة، وأصبحت كل قبيلة تشك في الأخرى، وذلك كله بسبب ذلك المؤمن الذي لم يمض على إسلامه إلا القليل.
معاشر المسلمين، في هذه الأثناء وفي هذا الجو المشحون وبعد مرور عشرين ليلة أو أكثر على هذه الحالة المكروبة ينزل الفرج من السماء، يأتي النصر من عند من يملكه وبيده ملكوت السماوات والأرض وله جنود لا يعلمها إلا هو سبحانه، خذل الله الأحزاب، وبعث عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، حتى تكفَّأت قدورهم وسقطت خيامهم، وانسحبوا يجرون ذيول الهزيمة والعار دون أن يحققوا أي شيء من أهدافهم المعلنة والمبطنة. وتُوِّج هذا النصر للمسلمين بنزول سورةٍ تحمل اسم هذه المعركة سورة الأحزاب، كشفت جوانب لم يدركها المسلمون وأظهرت للنور أسرارًا ونوايا ومؤامرات لأعداء الإسلام في الداخل والخارج.
فهذا بعض ما حصل في غزوة الأحزاب: تكالب للأعداء وحصار قاتل ثم نصر من عند الله عزيز.
عباد الله، يوم أمس الخميس نفّذ الطيران الحربي الصهيوني غارة جوية على منزل القيادي البارز في حركة حماس الأستاذ الدكتور الشيخ نزار ريان، ووصل عدد الشهداء إلى 16 شهيدًا بينهم زوجاته الأربع وأحد عشر من أطفاله من الذكور والإناث الذين تتراوح أعمارهم من العام إلى الاثني عشر عامًا.
ولقد وصلت آخر الإحصائيات إلى أربعمائة وعشرين شهيدًا وأكثر من ألفي جريح، ولا يزال العدو في عدوانه، ولا يزال الجرح ينزف، ولا يزال القصف على إِخواننا في غزة مستمرا، بالإضافة إلى ما يتعرض له منذ مدة طويلة من الحصار والتجويع، وَما يتعرضون له اليوم من إبادةٍ جماعيَّةٍ وقصفٍ متواصلٍ وتحطيم للمنازل وَالمدارس والمستشفياتِ والمتاجر بل والمساجد أيضًا وإحراق للمصالح والمزارع، حتى أصبح الخارج من بيته لا يُؤمل الرجوع إليه، والباقي في بيته لا يؤمل الخروج منه، مع الترويع والحرب النفسية والإعلامية.
أمة الإسلام، لقد أتى على مسلمي فلسطين سنون كثيرة وهم مرابطون في ثغور الإباء مدافعون بأموالهم وأنفسهم عن واسطة العقد في بلاد الشام، عن البلاد التي كتبت تاريخها بدماء الصحابة، وصورت بعد فضل الله بسيوفهم، تسلَّمها أبو حفص عمر ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها
يستعذبون الْموت قبل لقائه وهم إذا حمي الوطيس تدفقوا
ضمّوا المصاحف للصدور وأسرعوا ووجوههم فيها الشهادة تشرق
أيها المؤمنون، إن فلسطين ستبقى في مخيلتنا لا تغادرها أبدًا، فهي أولى القبلتين وثالث المسجدين وفتح الفاروق وصلاح الدين، وعدنا الرسول أن نهزم اليهود بها، وأن ننصر حتى بالحجر والشجر، وهي علامة من علامات تمسك المسلمين بإسلامهم، ودليل محبة المؤمنين لدينهم، وواسطة العقد على صدر أمة المؤمنين، إنها فلسطين، نكبة النكبات في زمن التخاذلات، فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟! وماذا قدمنا من تضحيات؟! وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبّت ثم انطفأت، ستون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود في فلسطين، ستون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نيران احتلال الصهاينة اليهود، ستون سنة وأمتنا من نكبة إلى نكسة ومن تشرذم إلى خلافات، ستون سنة وأمتنا الإسلامية تُنهش من أطرافها وأوساطها، ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.
لقد أكدت الأحداث أنه لا أحد يملك سلطة القرار الفلسطيني سوى الجماهير الفلسطينية، ولن يوقف هذه الجرائم إلا الجهاد. إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة، قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود، قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ [الحج: 39، 40]، وقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ.
وإن النبي امتدح المجاهدين هنالك بقوله : ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) رواه أحمد.
والفوز كل الفوز للمؤمنين الصادقين بوعدٍ من رسول الله ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر, فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم, يا عبد الله, هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله, إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المؤمنون، وإزاء هذا الحدث الأليم فإن كثيرًا من المسلمين المتابعين للشأن الفلسطيني الملتهب والذين تمتلئ نفوسهم ألمًا وحسرةً لما يجري في غزة يتساءلون: ماذا نفعل وقد سُدَّت أمامنا السبل للنصرة وللوقوف في خندق الجهاد والمقاومة مع إخواننا؟! وربما انصرف كثير من المسلمين عن التفكير فيما يمكنه أن يفعله؛ ظنًّا منه أنه عاجز عن فعل أي شيء، ومن ثم تمتلئ نفسه إحباطًا ويأسًا.
وفي هذه العجالة نضع بين يدي إخواننا المسلمين في كل مكان عشرة من الواجبات العملية نحو إخواننا في غزة:
نصر الله تعالى في أنفسنا بالتزامنا بمنهج الله وإقامة الفرائض والشعائر الإسلامية؛ كلٌّ في نفسه وفي بيته وفي بيئته المحيطة به، وكذلك الاجتهاد في ذكر الله كثيرًا، وفي تلاوة القرآن والارتباط بالله عز وجل في كل الأحوال، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
القنوت والدعاء في الصلوات وبخاصة في صلاة الليل، وفي النصف الأخير منه على وجه الخصوص؛ حيث يتنزل الحق سبحانه وتعالى وينادي: هل من سائل فأعطيه.
تنمية عاطفة الأخوة بينه وبين إخوانه المجاهدين، تلك العاطفة التي يجتهد أعداء الإسلام في إضعافها وإضعاف الرابطة العقدية بين المسلمين وشغل كل بلد بهمومه الوطنية؛ حتى لا يلتفت إلى نصرة إخوانه، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، وقال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ، وأخرج الشيخان أنه قال: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)) ، كما أخرج مسلم أنه قال: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) ، وقد قال : ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)).
الجهاد بالمال، وهو في حقنا واجب في مثل هذه الأيام، وإنا في هذا الموقف لنرفع أيدينا بالدعاء لرجل الإسلام ورجل الأمة خادم الحرمين الشريفين الذي أمر بجمع التبرعات لإخواننا في غزة، فهبت المؤسسات الخيرية وغيرها لتنفيذ أمره، فهناك الندوة العالمية للشباب الإسلامي وغيرها من المؤسسات التي تستقبل التبرعات لصالح المجاهدين في فلسطين. وليس غريبا على هذه الديار المباركة التي لا تزال قضية فلسطين قضيتها، وكلما رفع المجاهدون راية الحق وجدت راية هذه البلاد ملاصقة لها.
نشر القضية والتعريف بها في البيت وفي العمل وفي الشارع وفي كل مكان، بحيث يكون لها الأولوية في حديث الناس؛ باعتبارها قضية إسلامية، وباعتبار الصراع صراعا بين الإسلام الذي كلَّفنا الله تعالى بحمله وبين المشروع الاستعماري الذي يريد إذلال أمتنا وتركيعها لتستسلم للصهاينة ونترك طريق العزة والتحرير.
تعريف الأجيال الناشئة من أبنائنا وبناتنا في المدارس والبيوت بأصل القضية، وأنها قضية احتلال صهيوني لأرض الإسلام واغتصاب ظالم للديار والأموال، وأن تحرير هذه الأرض المباركة أمانة في عنق كل مسلم وواجب شرعي يسأل عنه كل مسلم؛ حتى ينشأ الجيل الجديد مدركًا الأبعاد الحقيقية للقضية الفلسطينية.
ولنا أمة الإسلام، لنا الله الذي وعد بالتمكين والنصر على اليهود الظالمين، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
عباد الله، صلوا على منقذكم من الكفر بإذن ربه نبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم على اليهود الغاصبين، اللهم إنا نستنصر بك على الكفرة الحاقدين...
(1/5774)
أسبوعان من محرقة غزة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
13/1/1430
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلنا فلسطينيون. 2- مآسي غزة. 3- دروس غزة خلال أسبوعين. 4- القضية قضية المسلمين جميعا. 5- الأزمة الإعلامية عند المسلمين. 6- عاطفة المسلمين للإسلام. 7- كلمة عتاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المؤمنون، فاتقوا الله تعالى وانصروه في أنفسكم بطاعته ينصركم على عدوكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 7، 8].
عباد الله، "كلنا اليوم فلسطينيون نتوق إلى الاستشهاد في سبيل الله وفي سبيل فلسطين غير مبالين لأي تبعات، وفي خطى من استشهد من أطفال ونساء وشيوخ في غزة". هكذا أصدرها مدوية الأمير تركي الفيصل وفقه الله، ليبوح بما يكنه من مشاعر تجاه المجازر الصهيونية المجرمة في حقّ إخواننا المؤمنين في غزة.
أيها الأخيار، دعوني أعبر عما يتجلجل في صدري ويختلج في ضميري، إنها نفثة مصدور وهموم مقهور، هل رأيتم البيوت تهدّم على رؤوس الأطفال والنساء؟! هل رأيتم مشاهد الموت الذي ينتشر في كل مكان؟! هل سمعتم بالأطفال الذين وجدوا بجانب ذويهم المقتولين منذ أربعة أيام وهم ينظرون إليهم؟! ألم يمر على مخيلاتكم صور أطراف مقطعة وأشلاء ممزقة؟! وهل سمعتم بالمدرسة التي قصفت وفيها الهاربون من الموت فمات منهم خمسةٌ وأربعون غير الجرحى؟! وهل مر على أسماعكم خبر خمسين شهيدًا لم يستطع أحد الوصول إليهم إلا بعد أيام من قتلهم؟!
استمع يا رعاك الله إلى بعض أبيات أبكت الشيخ ابن باز رحمه الله حين سمعها:
دم المصلين في المحراب ينهمر والمستغيثون لا رجع ولا أثر
والقدس في قيدها حسناء قد سُلبت عيونها فِي عذاب الصمت تنتظر
أين المنادون بالتحرير ويحهموا؟! أين الصمود وأين السهل والوعر؟
أين المرابون في أسواق أمتنا في كل صقع لهم للخزي مؤتمر؟
سيوفهم في سبيل الحق مغمدة وفي سبيل الخنا يا ويْحهم حمر
سلوا الْملايين من أبناء أمتنا كم ذُبِحوا وبأيدي خائنٍ نُحروا
هذا بعض ما يحصل على أرض غزة الصامدة الأبية، أما ما يحصل خارج غزة فصمت مذلّ من أهل القرار، فلا أحد منهم يملك الرجولة التي تجعل منه بطلا ولو في الكلام. فلكِ الله يا غزة الصمود، ولكم الله يا أهلنا هناك على ثغر الإسلام أمام عدونا الأبدي. تقول إحدى الأخوات في غزة: "الفزع يملأ المكان، بيتنا يسكنه الذباب والموت، فتحتُ الباب كي أفرّ من رائحة الموت فإذا بي أصطدم بمزيد من الجثث وصرخات الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، نحن نواجه حصارا وهلعًا ودمارا وموتا بشعًا، لكن رغم همجية الجيش الإسرائيلي وصمت العرب وعجز المسلمين سنبقى نلوح حتى نموت بشرف، وننتصر على الضمائر الميتة والسياسة الأميركية وإسرائيل".
إخوة الدين، إخواننا الفلسطينيون هم المهاجرون فأين الأنصار؟!
قد استردّ السبايا كلّ منهزم لَم تبق فِي رقّها إلاّ سبايانا
دم هناك ولم يثأر له ودم بالقدس هان على الأيّام لا هانا
وما لمَحت سياط الظلم دامية إلاّ عرفت عليها لَحم أسرانا
ولا نموت على حدّ الظبي أنفا حتّى لقد خجلت منّا منايانا
أيها الفضلاء النبلاء، لقد تعلمنا خلال أسبوعين من محرقة غزة ما لم نتعلمه خلال سنين، فتعلمنا أن أقوى حامٍ في الملمات والبلايا بعد الله تعالى هو الإيمان بالله والتوكل عليه وعبادته كما أمر والتربية الجادة على الخير والصلاح والاستقامة والفداء، فها هم إخواننا المجاهدون يضربون لنا أعظم صور الشجاعة والبسالة والجهاد، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر: 51]. ولقد تعلمنا كذلك خلال هذين الأسبوعين أن الذلة والمهانة والخزي والضعف والصغار إنما يستحقها من ارتضاها واستجلبها من تلقاء نفسه وصنعها بيديه، وأن العزة والقوة والصمود والعلو والسمو يُنتَج محليًا ولا يستورد من الأعداء، بل يستمد من داخل النفس، ولا يهين الله إلا من أهان نفسه، ولا يعز إلا من أعز نفسه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18]. وشاهدنا لهذا العزة التي يعيشها إخواننا الأباة في تلك الديار المباركة في وقت ذلت فيه رقاب الكبار.
إخوة الإسلام، إن القضية الفلسطينية هي قضية المسلمين في كل مكان، ومع ذلك فقد حماها الله لنا بقوم اختارهم لهذه المهمة العظيمة، وهم شعب فلسطين المجاهد البطل الذي لا يزال يدفع ثمن الذود عن حياض الأمة وحماها. شعب مكافح مجاهد يحبّ الموت كما يحبّ غيره الحياة، شعب رضع لبان العزة والكرامة عندما رضع غيرهم لبان الرخاء والترف، شعب تربى على القرآن في المساجد وعلى موائد السنة فتخرجت من تلك المحاضن أجيال مؤمنة بالله تعالى متبعة لرسول الله منتهجة بنهج السلف الصالح، شعب صابر مرابط على ثغر الأمة المفتوح أمام عدونا الأكبر، شعب ثابت على مبادئه الإسلامية في حين تنازل الكثير عن مبادئه واتجه نحو تحقيق شهواته على حساب المبادئ الكبرى التي خلق من أجلها، شعب يحب بلاده حبًا جعله يستلذ العذاب في سبيل الدفاع عن بلاده ومقدساته.
سأحمل روحي على راحتي وألقي بِها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان ورود الْمنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لا عشتُ إن لم أكن مخوف الجناب حرام الْحمى
وهنا ينبغي أن نفرق بين ثلاث فرق في فلسطين، الفريق الأول من أهل السنة والجماعة يتّخذ من الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح دستورًا ومستندًا له في حياته، وهؤلاء هم المجاهدون من أبناء حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكذلك حركة الجهاد الإسلامي، وغيرهم من الجماعات والأفراد المجاهدين هناك، وفريق لا يعتبرون من الإسلاميين بل يستندون إلى مناهج يسارية وعلمانية وغيرها، ولكن يشكر لهم وطنيتهم ودفاعهم عن وطنهم وحبهم لشعبهم ولو لم نكن نوافقهم على مناهجهم، وفريق ثالث منهزم مخدوع ضالّ تسلط عليه العدو بالترغيب والترهيب، فصار خادمًا لإسرائيل بل يتقاضى مرتبات من الاستخبارات الإسرائيلية، وهؤلاء هم الذين يريدون أن يتنازلوا عن وطنهم ودينهم وشعبهم في الداخل والشتات في سبيل شهواتهم وإرضاء أسيادهم اليهود.
إخوة الإسلام، لقد تبين لنا خلال الأسبوعين الماضيين الأزمة الإعلامية التي تعيشها الأمة الإسلامية والعربية، ففي الوقت الذي تكون الأمة بأمسّ الحاجة إلى صوت حقّ شجاع جادّ لنصرة الإسلام وأهله وبيان حقد العدو الغاشم والدفاع عن أوطان الإسلام ومقدساته، في هذا الوقت العصيب نجد الفضاء الإعلامي العربي يعجّ بصور من التخلّف والتترّس خلف الشهوات والرذيلة والمجون، بل إن بعض القنوات الفضائية كانت مصطفّة في صف العدو، فكانت تنشر روح الانهزامية بين أبناء الأمة، وتنشر جو الخوف والخنوع والخضوع. واستمع إلى بعض التقارير التي تؤكد ما قلنا، فقد شكّك مراقبون في كون مراسلي تلك القناة قد يكونون يقومون بمساعدة الاحتلال في عدوانه الغاشم على القطاع المحاصر، وتصر تلك القناة على استخدام عبارة (الهجوم الإسرائيلي) بدلاً من (الاعتداء الإسرائيلي)؛ وذلك بحجة المهنية مع أنها استعملت لفظ الاعتداء لغير إخواننا الفلسطينيين، فقالت: (اعتداءات سبتمبر) و(اعتداءات مدريد) و(اعتداءات لندن)، وحين تراق دماء الفلسطينيين على أيدي الصهاينة المجرمين فإن هذه القناة تتعمّد عدم وصف الفلسطينيين بالشهداء، وإنما هم فقط قتلى وصرعى، والسبب هذه المرة لدى مديرها هو الورع والخوف من الله، فيقول: "أنا كمدير محطة لا أمنح الناس الشهادة؛ لأن ذلك حقٌّ رباني"، مع أنه استعمل هذا اللفظ في حق غيرهم فأين الورع؟! ولا تزال بعض القنوات الفضائية مشغولة بالترهات التي دمرت الأخلاق وأفسدت الدين ونشرت الفساد. ونشيد بقنوات جادة دأبت في إظهار القضية بتفصيلاتها وانحازت لأمتها، فلها منا الشكر والدعاء.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، واجعلنا ممن ينصرهم، ونعوذ بك من خذلانهم يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المؤمنون، لقد تعلمنا خلال الأسبوعين الماضيين أن الإسلام هو المقدَّم عند شعوب المسلمين، وأن الإسلام هو المسيطر على عواطف الناس في دول العالم الإسلامي، وما صور المظاهرات التي جابت شوارع دول العالم كله وخاصة العالم الإسلامي إلا دليل على نهوض المسلمين من كبوتهم وانتباههم من غفلتهم، ففي العصور الماضية لم يكن كثير من المسلمين يعبأ بما يحصل لإخوانهم ولا بلادهم ولا مقدساتهم، أما اليوم فقد اجتمع المسلمون على الإسلام والدفاع عنه والذب عن حياضه، وما ذلك إلا دليل على رجوع المسلمين إلى الإسلام.
إخوتي في الله، اسمحوا لي أن أبعث كلمة عتاب لطيف من محبّ باسم إخواننا القتلى والجرحى والأرامل والأيتام والخائفين والمشردين في فلسطين، هذا العتاب هو لإخواننا الرياضيين الخليجيين الذين بدؤوا دورتهم التاسعة عشرة في هذا الوقت العصيب الذي تنتهك فيه حرمات المسلمين ومقدساتهم، فقد وصل عدد الشهداء إلى 776 شهيدا، وبلغ عدد الجرحى إلى 3150 جريحًا، والعدد في ازدياد، فليتهم أخروا هذه الدورة احترامًا لمشاعر المسلمين، وليتهم فعلوا كما فعل الجمهور التركي بفريق كرة السلة الإسرائيلي حينما أخرجوهم من الملعب وطردوهم قبل بدء المباراة، فللّه درهم، وجدير بنا خاصة الخليجيين أن نكون عند حسن ظن المسلمين بنا، ففينا الرجاء لهم بعد الله تعالى، فهل عجزنا أن نقدم شيئًا لهم غير هذه الكرة التي لم تقدم لنا عزة ولا مجدًا؟!
أخي الحبيب، كن إيجابيًا مع إخوانك المسلمين في فلسطين، وليكن شعارك: (بذل قليل لأمد طويل)، فاذهب إلى إحدى الجمعيات الخيرية أو الندوة العالمية للشباب الإسلامي أو هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، واستقطع من راتبك الشهري خمسين ريالاً أو مائة ريال لتكون سهلة عليك ومردودها عظيم لإخوانك وأجرها مستمر لا ينقطع.
واطمئنوا ـ أيها المؤمنون ـ بنصر الله، واستيقنوا بوعد الله، فإن الله مظهر دينه وناصر جنده ومعز أولياءه، وإن الموفق من وفقه الله تعالى ليكون في زمرة الصالحين وفي عداد المؤمنين حتى ينال فضل النية وإن فاته فضل العمل.
عباد الله، صلوا على منقذكم من الكفر بإذن ربه نبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين, اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم على اليهود الغاصبين، اللهم إنا نستنصرك على الكفرة الحاقدين، اللهم أقرّ أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نسألك لإخواننا المسلمين المجاهدين في كل مكان...
(1/5775)
لك الله يا غزة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
إبراهيم بن سلطان العريفان
الخبر
13/1/1430
جامع أبي عائشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مآسي غزة. 2- يا أهل غزة. 3- التذكير بما أصيب به النبي وأصحابه من البلاء الشديد. 4- التحذير من المنافقين. 5- فضل الشهادة. 6- أين العرب؟!
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان والعقيدة، في هذا الزمان وفي كل مكان يراق دم الإنسان، كل ذنبه أنه يقرأ القرآن.
غزة تغرق في بحر من دماء أبنائها، غزة تغرق في ظلام دامس، بيوت ومساجد غزة تحترق، أطفال غزة يحرَّقون، وشباب غزة وشيوخها يموتون، دماؤهم تروي أرض غزة، غزة تبكي، غزة تشيّع شهداءها وتدفن موتاها. الناس في غزة يموتون قصفًا وجوعًا وعطشًا ورعبًا وبردًا وحصارًا خانقًا قاتلاً رهيبًا.
يا كل هذه الدنيا، غزة تموت دون أن يلتفت إليها أحد. يا هذا الكون، غزة تستغيث دون أن يلبي استغاثتها مغيث، غزة تناديكم يا عرب فلبّوا نداءها، غزة تستغيث بكم فأغيثوها، غزة تصرخ موتًا، تصرخ رعبًا، تصرخ ألمًا، تصرخ جوعًا، تصرخ قهرًا، فأين أنتم؟! أين أنتم يا عرب؟!
يا أهل غزة لا عذرٌ فنعتذرُ وما لنا عن سهام العار مستَتَرُ
يا أهل غزة جبارون ملحمةٌ من الصمود سُداها الموت والخطرُ
أنتم بقايا خيوط الضوء في زمن من الدُّجُنّة بالدّجناء يعتكرُ
رماكم العالَم الملعون عن وَتَر وأطبق الكون لا حسّ ولا خبرُ
فما رآكم سوى أسباع مأسدة إذا بدا الْهول لا تبقي ولا تذرُ
ونَحن فِي هامش التأريخ أُلهيةٌ خُذروفُ غرّ له في لهوه وطرُ
كنا إذا أرغم الأعداء هيبتنا أو استباحوا الحمى بالشجب ننتصرُ
واليوم لا شجب حتى الشجب مجترم تأسى له الْمُهج الحرى وتصطبرُ
كنا وكنا إذا ما العار ساورنا يَجيء مؤتمرٌ يتلوه مؤتمرُ
واليوم تأتَمر الأحقاد فِي دمنا وغاية العيس لا وردٌ ولا صَدَرُ
ما يحصل لكم اليوم ـ يا أهل غزة ـ وكل يوم هو سم ينفثه الأعادي على هيئة جرائم قذرة يزداد شررها بازدياد صمودكم وإيمانكم، وأنتم مثلٌ رائع للمسلمين في هذا الإباء والقوة. صحيح أننا خذلناكم، وتناسينا قضاياكم، ولا نتذكركم إلا مع بروز أحداثها، وهذا وبال علينا ورفعة لكم.
يا أهل غزة، إن أطفأ اليهود شمعكم فنور إيمانكم يضيء ويحرق، وإن زعزع الخنازير ثقة قوتكم فثقتكم بالله تنسي قوتهم، وإن قتل اليهود آمالكم فجهادكم في سبيل الله يحيي الآمال والأوطان، وإن قطع الخونة الإمدادات عنكم فلن يستطيعوا منع مدَّ أيديكم إلى الله تدعونه وتتضرعون إليه.
أبشروا بالعزة يا أهل غزة، فالله هو العزيز الجبار القوي الشديد، فلوذوا بجنابه وأنيبوا إليه، ففيكم أسود سينيرون بلدكم بدمائهم؛ لأنهم أهل للشموخ والعزة والدفاع والصمود.
صحيح أنكم في ظلام دامس، وأطفالكم ونساؤكم يئنون ويتوجّعون، ولكم مرضى يستغيثون، ولكن لا تغيروا موقفكم أمام الصهاينة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أربع وصايا ثمينة: الصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى، فقد أمركم الله أن تصبروا على دينكم الذي ارتضاه لكم وهو الإسلام، فلا ترتدّوا على أدباركم في السراء ولا الضراء، ولا في حال الرخاء والشدة ولو مات المسلمون، وأمركم أن تصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم.
وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، فعليكم بالدعاء فإنه أعظم سلاح. الله ينصركم، الله ينصركم، الله ينصركم.
يا أهل غزة، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على ما ابتليتم به لمحزونون، لكم رب يحميكم كما للكعبة رب حماها بطير أبابيل. يا أهل غزة، ادفعوا فيلكم عنكم بالدعاء والوحدة، لا تنظروا يمينًا ولا شمالاً، بل انظروا إلى السماء، إلى الواحد الأحد الفرد الصمد. فصبرًا أهل غزة، فإن فرج الله قريب، والمؤمن مبتلى، ولعل الله أن يفرّج عنكم ويجعل من بعد العسر يسرًا.
أيها المسلمون، ففي غزة الآن مذبحة أو مجزرة، وإن شئت فقل: محرقة. وما زال ردّ الفعل كما هو ولم يتغير، فمن يشجب سيظل يشجب دومًا، ومن يفكر في الرد على المحرقة بالاجتماعات سيظل يبحث عن آلية للاجتماعات، ومن يبكي وينوح سيظل يبكي وينوح.
أنهار من الدماء الزكية تتدفق في شوارع غزة الأبية المحاصرة، أنهار من دماء سالت ولم تجف بعد، الغارات تستهدف كل شيء بجنون وبرغبة وحشية دموية لا مثيل لها، وكأنهم يريدون إبادة هذا الشعب الأبي الشجاع الذي يتمثل الإسلام قولاً وعملاً وسلوكًا.
صعدت أرواح في ليلة واحدة ـ مائتي شهيد على الأقل ـ إلى بارئها فرحين بما آتاهم الله من فضله، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ، ويشتكون إلى الله جلد العدو وضعف الأخ وتخاذله بل وتواطؤه عليهم. وأعداد الشهداء تتزايد باطّراد على مرأى ومسمع من الجميع.
فيا أهل غزة، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ ، فالله معكم، وتذكروا يوم أن وقف الرسول الكريم ومعه الصديق وحدهما أمام كل قوى الشر والبغي والعدوان، وهمس الصديق لحبيبه محمد قائلا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيطمئنه الصادق المصدوق: ((لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)). كانا وحدهما محاصرين مثلكم، ليس لهما قوة مادية ولا عون بشري، ولكنهما كانا يمتلكان قوة الإيمان بالله والتوكل عليه. فلا تحزنوا يا أهل الصمود في غزة، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ، لا تحزنوا إن حاصرتكم كل قوى الشر والبغي والظلم والقهر والخيانة، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
فصبرًا صبرًا يا أهل غزة، لا تحزنوا إن قطعوا عنكم الطعام والشراب والدواء، فالله مولاكم وهو كافيكم وناصركم، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ. لا تحزنوا فالله معكم، فما ظنكم بمن كان الله معه، فأبشروا بالسكينة والنصر، إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
تذكروا يوم أحد يوم أن تعرض الرسول الكريم ليوم عصيب كيومكم هذا أو أشدّ, وقتل من صحابه سبعون شهيدا، وجرح الكثيرون، وأصيب الرسول الكريم في وجهه وكسرت رباعيته ونزفت الدماء الطاهرة، فنزلت البشارات الإلهية والنفحات الربانية: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. فلا تهنوا ولا تحزنوا وقروا أعينًا، واعلموا أنكم شرف الأمة وفخرها وما تبقى من عزها.
وتذكروا حينما انتهى يوم أحد وكان أشد يوم لقيه المسلمون ومعهم رسول الله وهم خير من سار على وجه الأرض، وباتوا ليلتهم وهم في أدنى درجات القوة، فهم ما بين جريح ومكلوم، وأتاهم من يخوفهم من قريش ويتوعدهم بالمزيد من الضربات ويقول لهم: إن قريشا تجمع الجيوش وتعد العدة لحرب إبادة، فما كان منهم إلا أن لجؤوا إلى الله واعتصموا بحماه وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل ، فكان جزاؤهم: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
وها هي التهديدات تتوالى عليكم، تهددكم وتتوعدكم بالمزيد من الضربات والهجمات بالطائرات والدبابات والزوارق، فاعتصموا بالله، وأكثروا من التقرب إليه والتذلل بين يديه، وقولوا مثل قول أسلافكم وقدواتكم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل، هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
فإذا لقيتم عدوكم فاثبتوا وأكثروا من ذكر الله، فنحن لا ننتصر بعدد ولا عدة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وتذكروا إذ تحزب الأحزاب على نبيكم وقرة أعينكم وهاجموا المدينة بأضعاف عددها يوم الخندق، وحاصروها على أهلها واشتد الكرب وعظم الخطب وزاد الخوف، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ، فما هي إلا لحظات قليلة فينتقل المؤمنون من الخوف إلى الأمن، ويثبتون بحسن صلتهم بالله، ويعظم يقينهم بنصر الله عندما يرون المحنة تشتد وحينما يتجمع الأحزاب من كل صوب، وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
لقد تشابه موقفكم مع موقف سلفكم الصالح، فما تشعرون به اليوم من التعب والنصب والجوع والبرد هو نفسه ما لاقاه الصحابة الأطهار، فاستمِعوا لنبيكم يناديكم كما نادى إخوانكم من قبل، فيقول أنس رضي الله عنه: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: ((اللهم إن العيش عيش الآخرة، فأغفر للأنصار والمهاجرة)) ، فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا مُحمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا
يا أهل غزة، لا يغرنكم المنافقون وضعاف النفوس، ولا يوهنكم تخاذلهم، فما أكثرهم حولكم في الداخل والخارج! فوجود أمثالهم ضرر لكم ومعوق لعملكم كما قال الله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأََوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
واعلموا أن الشهادة هي أعظم المراتب والقرب وأشرف المنازل، ولا ينالها إلا من يختاره الله سبحانه، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وقال رسول الله : (( للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام وعلى أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين، من بين الحطام ورائحة الموت ونزف الأرواح تستنجد ببقايا أمة تدعى عرب. هنا يدفن جزءا من قلبه بجوار فلذته، وهنا يبحث بارتعاش عن أجزاء كانت من جسده، وهنا يحاول ويحاول أن يحتبس آخر قطرة من دم والدته. إنها لوحة مخضبة بالدماء وأمطار من لهيب وأشلاء. لك الله يا غزة، لك الله يا غزة.
انتهكت الأعراض الشريفة، استبيحت الدماء الزكية، ولا زالت غزة صامدة، ونحن العرب والمسلمون نستسمح العذر، فقلوبنا تحجرت، وخيولنا تخشبت، حروفنا تجمدت، ولا زلنا نشرب نخب هزيمتنا ونقرع كؤوس ذلنا ونثمل، ونصفق على عزف الدماء. لك الله يا غزة، لك الله يا غزة.
أهل غزة يصرخون، يصرخون: أين العرب؟!
على الأسرة أنتم أيها العرب ونحن فِي وهج الأحداث نلتهب
على الأسرة أنتم تنظرون إلى مأساة شعب بها الشاشات تصطخب
شاشاتكم لم تزل تروي لكم خبرا عن طفلة قتلت عن ظالِم يثب
عن ألف طفل يتيم فِي مدامعه متسائل: أين منا الأم أين الأب؟
عن أسرة هدم الصاروخ منزلها فكل زاوية في الدار تنتحب
عن ألف قتيل في مصارعهم أدلة لم يلامس قولها الكذب
شكرا لكم حين تابعتم مجازرنا على الأثير وقد ضاقت بنا الكرب
شكرا لأن الْمآسي لاتفارقكم أخبارها فالمآسي بحرها لجب
لاتغضبوا إن قطعنا حبل راحتكم أمام شاشاتكم فالظالِم السبب
باراك أشعل نار الْحرب فاحترقت جَميع أوراق من قالوا ومن كتبوا
قولوا لنا سعة الشدقين تزجره فربَّما يزجر المستعصي النسب
أخبارنا أزعجتكم فهي دامية تبكي العيون لها والقلب ينشعب
لو استطعنا كتمنا نار حسرتنا عنكم ولو نالنا من كتمها العطب
لكنها قنوات القوم تُخبركم عن حالنا فعليها اللوم والعتب
أما فتحتم لها الأبواب مشرعة تَجري إليكم بِما يشقى به الأدب؟
تقدم الخبر الدامي مراسلة بدا لكم صدرها والساق والرُكب
لا تقلقوا فالمآسي قوتها دمنا ولَحمنا فاسْمعوا الأخبار واحتسبوا
وإن قسا منظر الأحداث فانصرفوا إلى قناة من الأفلام وانسحبوا
هم ينقلون لكم مأساة مقدسنا وبعدها تعرض الأفلام والطرب
تشابَهت صور الْمأساة في زمن شَمس المروءات عن عينيه تحتجب
على الأسرة أنتم يا أحبتنا يا خيْر من أنكروا يا خيْر من شجبوا
ياخير من أسندوا ظهر الخضوع على وسائد الذل يا نبْراس من هربوا
نعم بذلتم لنا مالا ونشكركم لكنه وحده لا ينفع الذهب
فِي مقلة الظلم ما لا تبصرون وقد أراكم الظلم ليلا ما له شهب
عذرا إذا أقسمت أشلاؤنا قسما بأنكم لَم تكونوا مثلما يَجب
كأنكم في مجال العصر ذاكرة مثقوبة وعيها بالعصر مضطرب
عذرا لكم أيها الأحباب إن صرخت جراحنا: أين أنتم أيها العرب؟!
نعم، أين أنتم أيها العرب؟! يا أمة المليار، يا مسلمون، يا عرب، يا حكام، يا شعوب، اتحدوا لنصرة إخوانكم المظلومين. أطفال محاصرون، نساء يبكين، شيبان مقهورون، وإخوانهم بجوارهم ينظرون.
اللهم يا فارج الهم وكاشف الغم، يا مجيب دعوة المظطر، انصر إخواننا في فلسطين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5776)
بشائر من الحرب على غزة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عبد الرحمن بن حمد الحزيمي
الرياض
13/1/1430
جامع الحصيني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضح القرآن لليهود. 2- العدوان الإسرائيلي. 3- بشائر. 4- صبر الفلسطينيين ومصابرتهم. 5- التحذير من الانهزامية. 6- لا بد من التضحية. 7- الوصية بالتوبة والدعاء والرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن ما يحدث في غزة هذه الأيام ليس مفاجآت بالنسبة لنا نحن المسلمين، فقد أخبرنا الله عز وجل عن هذه الأمة الملعونة حين قال: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وقال في موضع آخر: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا. فما نراه اليوم من أنواع الإرهاب والبطش والجبروت والجريمة وسفك الدماء وقصف المساجد والاعتداء على الأبرياء وقتل الأطفال وسلسلة طويلة من الضحايا كلّ ذلك يفسّر تلك الآيات، فمنذ تسعة أعوام إلى الآن بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا بالإرهاب الصهيوني ما يقارب ستة آلاف شهيد، وعدد الجرحى يزيد على عشرة آلاف، وعدد المساجين أكثر من أحد عشر ألفا. وفي اليوم الرابع عشر للهجمة الشرسة ارتفعت حصيلة الشهداء الفلسطينيين جراء الحرب الصهيونية المتواصلة على قطاع غزة إلى حوالي ثمانمائة شهيد، وإصابة أكثر من 3100 آخرين، نصفهم من الأطفال والنساء، كل ذلك هو شواهد للحقيقة القرآنية التي أخبرنا الله بها بأن اليهود يعلون ويفسدون في الأرض.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى بأنهم أشد أعدائنا وألدهم على الإطلاق حين قال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ، وعداؤهم لا حدَّ له من اعتبارات قانونية أو إنسانية، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ، وأن طبيعة عدائهم مستحكمة مستمرة، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا.
وقد حرصت الدولة العبرية على أن تشيع أكبر قدر من الدمار والترويع بين سكان غزة، إضافة إلى أنها قبل الحملة العسكرية واصلت حصارها الإجرامي؛ لتجويع أهلها وتركيعهم وإقناعهم بأن في المقاومة مقتَلهم وليس حلمُهم أو عزتُهم.
القصة بوضوح ـ أيها المسلمون ـ هي قصة كيان ظالم يبطش ويعربد ويقتل ويهدم ويستبيح، وشعب يواجه النار والحصار والتجويع والاستهانة بالحياة وضرورياتها من غذاء وكساء ودواء وأمن، وبيان ذلك يصدقه الواقع خلال أكثر من 60 عامًا من الفظائع والمذابح التي تمثل أعلى درجات الإجرام، وأجلى صور انتهاك القوانين الدولية والحقوق الإنسانية.
إن العدوان الإسرائيلي ليس وليد اليوم، وما فتئت إسرائيل تمارس غطرستها على الشعب الأعزل منذ وجدت، وليست بحاجة إلى استفزاز، إنها تعربد وفق ما يحلو لها، ولا يعجزها أن تصنع المسوغات لجرائمها دون مبالاة بأحد.
إن ما قام به المعتدون اليهود في غزة هو ذاته ما قاموا به عند تأسيس دولة إسرائيل عام 1948م، فهم يقومون بالمذابح نفسها لأنهم يعيشون المواجهة نفسها. إن الرفض الذي وُوجه به اليهود من الشعب الفلسطيني قبل ستين سنة هو الرفض نفسه الذي يعيشه اليهود اليوم.
لقد كانت أحلامهم أنه بمرور الوقت سيتم تهجين الفلسطينيين ليكونوا دواجن في الحظائر اليهودية، وإذا بهم بعد ستين سنة يعيشون المواجهة نفسها ويتعاملون معها بذات الأسلوب، وإذا بأهلنا في فلسطين هم هم، كما كانوا، ما خانوا ولا مانوا، ولا ضعفوا ولا استكانوا، ليقول يهود كما قال آباؤهم من قبل: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ.
إن هذا يملأ قلوبنا ثقة وعزمًا بل نشوة وزهوًا بهذا الشعب الذي توارث أجياله الصلابة والقوة بصبر لا يلين، وإن عقباهم لعقبى البشرى للصابرين. وطمعنا أن لا يطول انتظارنا للقصاص الإلهي العادل من الفاعلين والمتواطئين والمباركين، فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ، وإن غدًا لناظره قريب، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ، والعبد يعجل، والله لا يعجل.
إن الألم الذي يعتصر قلوب المسلمين هو تعبير عن الحياة وعن الانتماء والإحساس بالشعور الأخوي، ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ)) ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. إن هذا التفاعل يدل على سريان الحياة في الجسد الواحد، وعلى تداعي هذا الجسد لآلام غزة بالحمى والسهر، وعلى ترابط هذا البنيان المرصوص، بالتعاطف والتأييد الشعبي الإسلامي الواسع، فضلاً عن المبادرات بالمساعدات المعنوية والمادية، وعلى رأسها ما قدمته بلادنا المملكة من مساعدات مادية ومواد إغاثية وإيواء للجرحى، تدلّ على أن الروح الإسلامية في الأمة ما زالت بخير، وأنها تنحاز إلى دينها وأمتها وتغار على حرماتها وتنتصر لإخوتها.
إن هذه الأحداث على ألمها قد أعادت تصوير القضية الفلسطينية كما هي بعد أن تعرض مفهوم القضية ومفهوم الصراع لأنواع من التحريف. إن هذا كله يبين أن ما تفعله إسرائيل الآن في غزة ليس فلتة أو غلطة، وإنما هو حلقة في سلسلة، وإن ذلك يزيل الغشاوة عن عيون الذين يتصورون أن إسرائيل ستكف يومًا عن جرائمها. إن هذه الأحداث عندما تقع فإنها تدفع بقضية فلسطين إلى الواجهة في اهتمامات المسلمين، وتذكرنا بأن فلسطين كانت ولا زالت جرح الجبين، وأن المسلمين إذا كان هناك ما زاحم اهتمامهم بهذه القضية فإن هذه الأحداث تدفع بالقضية إلى الواجهة من همومهم واهتماماتهم، وتعيد الحيوية لهذه القضية.
علينا ـ عباد الله ـ أن نعلم أن كل من يعيش داخل فلسطين هو مرابط من المرابطين، التلميذ في مدرسته، والأم في بيتها، والمزارع في حقله، كل هؤلاء الذين تنغرس جذورهم في هذه الأرض هم الأزمة الحقيقة لليهود داخل فلسطين، ومجرد بقائهم وصبرهم ومصابرتهم جهاد ورباط ينبغي أن يُعانوا عليه، وذلك بتيسير وسائل العيش الكريمة والحياة المستقرة.
إخواننا في فلسطين ضربوا أروع الأمثلة في صمودهم وثباتهم وتشبثهم بحقّهم والتصاقهم بأرضهم، ومواجهتهم لعدوهم الغاشم، وهم مضرب مثل للأمة المسلمة في هذه المعاني، وساحتهم واضحة، فهم في جهاد شرعي صحيح مع عدوّ غاصب معتدٍ منتهكٍ للحرمات ومدنسٍ للمقدسات، وجهادهم ومقاومتهم مشروعة بالشرائع السماوية والقوانين الأرضية.
نحن مع صراعنا مع العدو في حاجة ماسة للتفاؤل والاستبشار بالنصر والبعد عن التشاؤم والتبرم، فالعدو إن نال من أجسادنا وممتلكاتنا فلا ندع له الفرصة أن ينال من عقيدتنا وآمالنا وطموحاتنا، فأكبر نصر يحققه العدو هو تحطيم أنفسنا وإشعارنا باليأس؛ لأننا بذلك نخضع ونذل ونستكين ويحقق العدو آماله فينا.
وفي صراعنا مع اليهود وغيرهم من المهم أن لا يحدث لدينا انكسار داخلي بسبب ما نراه من قتل ودمار في صفوفنا، فنحن وإن كنا نألم فهم كذلك يألمون، وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. فنحن أسمى منهم، فالله مولانا ولا مولى لهم، ونرجو من الله ما لا يرجون؛ فنرجو رضا الله والجنة، وهم يرجون رضا شهواتهم وشياطينهم، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ، ويقول سبحانه: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ، فالخسارة في الأرواح والماديات في سبيل الله لا تزيد المؤمنين إلا عزًا وافتخارًا؛ وحسبنا عزًا أن الله مع المؤمنين. ومعرفة ذلك يجعلنا لا نصاب بالإحباط واليأس؛ لأن عقب هذا الضعف تكون القوة والانتصار، فنصر الله قريب كما قال الله تعالى: أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ، ولا نشك في ذلك، فالعاقبة للمتقين.
وقد تفقد الأمة في طريقها لإعلاء كلمة الله وتحقيق كرامتها وإعادة عزتها أنفسًا عزيزة وأموالاً كثيرة، ولكن هكذا مضت سنة الله تعالى، أن لا يتحقق النصر إلا بالتضحية وبذل المهج، قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ، ويقول سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ، وتاريخنا الإسلامي يشهد على ذلك، فمنذ فجر الإسلام والأمة في صراع مع الكفر وأهله، وما حققت نجاحاتها وانتصاراتها إلا ببذل الغالي والنفيس من أجل انتصار عقيدتها ونشر دين الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
إلى من تحدثه نفسه بنصرة إخوانه، تحيَّنوا ساعات الإجابة، ادعوا الله بقلوب حاضرة، أحسنوا الظن بربكم، أحيوا سنة القنوت، لا تحقروا كلمة طيبة في قناة أو إذاعة أو مقالة أو جريدة أو موقع أو مجلس أو عند مسؤول أو سواه أو على منابر المساجد، علينا أن ندرك أنَّ ترك الذُّنوبِ صغيرِها وكبيرِها أمرٌ يتأكدُّ عندَ الفتنِ؛ ليعلمَ اللهُ صدقَ تأثرِنا بما حلَّ في ديارِ المسلمين، فحريٌ بأهلِ المعاصي الكبيرةِ الرجوعُ إلى اللهِ والتوبةُ منْ الرِّبا والفجورِ والظلم؛ فقدْ هُزمَ خيرُ جيشٍ سارَ على الأرضِ جيش النبي بسببِ معصيةٍ واحدةٍ من الرُّماةِ في غزوة أحد، فكيفَ بأكوامِ المعاصي والمخالفات؟! فعلينا إحياء المعاني الإيمانية بالتوكُّل على الله والثقة به والالتجاء إليه والتضرُّع والدعاء له، واليقين بأن العاقبة للمتقين، وأن الظلم والعدوان لا يكتسب شرعية من فرض الأمر الواقع، ولا من القوة التي يمتلكها. إن الدعوة الصادقة بظهر الغيب تفتح لها أبواب السماء ويقول الجبار تعالى: وَعِزَّتِى لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، حتى لو كانت من كافر أو فاجر مظلوم، فكيف بدعوة المسلم الموحِّد؟!
(1/5777)