كيف أصبح اليهود أغلبية في فلسطين؟ (2)
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
30/10/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انسحاب بريطانيا وقيام دولة إسرائيل. 2- ردة الفعل العربية. 3- تحرك الجيوش العربية تجاه فلسطين. 4- أثر الخيانات في صفوف الجيوش العربية. 5- حرب 67م وقرار 242.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، وصلنا معكم في الخطبة السابقة إلى إعلان بريطانيا بالانسحاب من فلسطين وإعلان قيام الكيان اليهودي وإيجاد دولة له على جزء من أرض فلسطين الذي حددته هيئة الأمم المتحدة. حينما أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من فلسطين بعدما أبادت وشرّدت معظم الشعب الفلسطيني ومكنت اليهود من زمام الأمور والتغلغل في جميع القطاعات المهمة، حتى إنهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية كانوا يجمعون السلاح من مخلفات معارك صحراء مصر الغربية لتسليح أنفسهم في فلسطين.
وبعد هذا الإعلان الماكر اندلعت المظاهرات في البلاد العربية وخاصة مصر، وتداعت الشعوب لنصرة فلسطين وتحريرها من اليهود، وقررت الحكومات العربية تحريك جيوشها إلى فلسطين للاشتراك في تحريرها، وكان عدد هذه الجيوش العربية مجتمعةً حوالي عشرين ألف جندي، معهم سلاح قليل، وأغلبه فاسد، ولقد أخرجهم الحماس بدون دراية بالحرب مع جهل بطبيعة الأرض التي يقاتلون عليها والعدو الذي سيقاتلونه، بينما العدوّ اليهودي مدرب تدريبًا جيدًا ومسلح تسليحًا كاملاً مع تفوّق في الناحية المعنوية والقتالية والخبرة العسكرية واحتياطي السلاح والذخيرة؛ ولهذا حينما لعبت بريطانيا لعبتها المخطط لها وأعلنت على الملأ أنها ستنسحب من فلسطين ولا تمانع من دخول الجيوش العربية إليها لتحريرها إنما كانت تعلم علم اليقين أن عدد لجيوش العربية وعدتها وتسليحها وذخيرتها لن يمكنها من طرد اليهود عن أرض فلسطين ولا تحريرها، بل كانوا على يقين أن بعض هذه الجيوش سيوجّه لخدمه مخطّط اليهود للاستيلاء على مزيد من الأرض، كيف عرفت كل هذا؟ عرفت هذا لأنها هي الدولة المستعمرة، وكانت قد أصدرت تعليمات بعد انهيار الخلافة العثمانية بتقليص الجيوش العربية كما ذكرنا في الخطبة السابقة وتفريقهم في المحافظات البعيدة وتزويدهم بأسلحة فاسدة... إلخ.
حينما أعلن اليهود قيام دولتهم تحركت هذه الجيوش العربية باتجاه فلسطين من عده جهات، فكانت الهزيمة نتيجة حتمية بسبب واقع الأمة العربية وتشرذمها وكثرة الخيانات، حتى إن القائد العام لدولة عربية كان نصرانياٍ إنجليزيا هو الجنرال حلوب باشا، فهل يرجى من مثل هذا الكافر خيرا وربنا سبحانه وتعالى يقول عن أمثاله: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: 2]؟! أي: أنهم لو يجدونكم وتسنح لهم الفرصة لتحولوا إلى عدائكم وقتالكم بأيديهم وألسنتهم وبكل ما يملكون.
ولقد مكن هذا القائد النصراني لليهود من الاستيلاء على ميناء ومدينة يافا وحيفا ومنع الجيوش العربية من الوصول لمساعدتهم، ولقد قاتل أهل يافا اليهود مدة ستة شهور متواصلة، وكان عدد السكان فيها يقارب ستين ألفا، وليس لديهم سوى مائتين وأربعة وثمانين قطعة سلاح على أن هذا النقص في التسليح لم يثن عرب يافا من التفكير في سدّ هذا النقص بما يتوافر لديهم من الإمكانيات، فكانوا مثلا يصنعون المتفجرات من مواد كانت تستعمل لإطفاء الحريق، وكانت أنابيب البوتاجاز تنتشر في شكل مدافع، ولقد اضطر الشعب أن يطلب النجدة من اللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية، ولا مجيب، وأبرقوا إلى ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية ولا مجيب، وتوالت عليهم المحن واستسلم من بقي منهم بعد ما يقارب ستة أشهر من القتال العنيف. ودخل الأعداء يافا، وأعملوا فيها يد السلب والنهب والقتل والفتك، وكان عدد الشهداء يافا يناسب جهادهم 7700 ما بين قتيل وجريح من فلسطين والمجاهدين المسلمين من تركيا ويوغسلافيا، ولن ينسى التاريخ لإنجلترا رفضهم لطلب الفلسطينيين بنقل الجرحى إلى المستشفيات وكان عددهم كبيرا، كما أنهم منعوا وصول الإمدادات إلى الفلسطينيين في ميدان المعركة، بل إنهم وقفوا في وجه المجاهدين العرب الذين توافدوا للدفاع عن إخوانهم، فصادروا أسلحتهم وتركوهم غنيمة وطمعًا لجحافل اليهود، وتكرر هذا المشهد لمدن وقرى أخرى مثل حيفا ودير ياسين وغيرهما كثير.
ولعل هذا الوضع يدل على أن الخيانة قد لعبت دورا عظيما في ضياع فلسطين، ولقد اعتاد العدو اليهودي والنصراني في تحقيق انتصاراته العسكرية على اختراقه لقوات العالم العربي من خلال عملائه وجواسيسه والتعرف على أسرارهم وخططهم العسكرية، وكذلك اعتماده على غفلتهم وعدم انتباههم إلى ما يدور حولهم، ولو رجعنا إلى الوراء قليلا واستقرأنا التاريخ قبل نصف قرن من الآن ولو أعدنا النظر والتأمل في وضع الأمة ليلة زحف الجيوش على فلسطين لتحريرها من اليهود ماذا نجد؟ نجد المساجد خاوية إلا من قليل من كبار السن، ونجد المدن العربية والعواصم ترقص مع الفنانة فلانة وعلى المسرح الفلاني حتى الصباح، وإذا رجعنا إلى وسائل الإعلام مثلاً في الصحف نجد أن الأمة في واد وما يجري على أرض فلسطين في وادٍ آخر، أما الإذاعات فنجد أغاني ماجنة وبرامج متنوعة لا علاقة لها بالحرب وغفلة عامة في جميع الاتجاهات، ولا هناك ما يدعو الأمة للإعداد والاستعداد ومعرفة خطورة الموقف وتقدير ما يمكن فعله وأخذ التدابير اللازمة لمثل ذلك، وكأن الأمر لا يعني أحدًا!!
ولو تأملنا أيضًا واقعنا الحاضر اليوم لعلمنا بأن التاريخ يعيد نفسه، ولا نزال في غفلتنا إلا من رحم الله؛ الحشود والقوات المتنوعة والأساطيل تجوب بحارنا وأراضينا وتقول بأنها لضرب الطاغية صدام، بينما الحقيقة لضرب الإسلام وأهله وإتمام السيطرة والهيمنة على ما تبقى من فلسطين وهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، ونحن مشغولون في مشاكلنا اليومية، وكأن الأمر لا يعنينا، ولا حول ولا قوه إلا بالله العظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وهكذا ـ أيها الإخوة الأحبة ـ تتساقط المدن والأقاليم الفلسطينية في يد اليهود مدينة بعد أخرى، والدعم العالمي يزداد لهم يوما بعد يوم، والعالم العربي الإسلامي لا يزال في غفلة وغيبوبته، فاليهود يريدون إقامة دولة تمتد حدودها من النيل إلى الفرات كخطوة نحو دولة يهودية عالمية تمسك بزمام البشرية كلها، إلا أن هناك عقبات، منها أن شعوب العالم العربي يرفضون الاعتراف والتسليم لهم باغتصاب أرض فلسطين، ويظهر ذلك جليًا بإعلان الجهاد ضدّهم وبروز حركات إسلامية جديدة تنادي بضرورة إحياء الخلافة الإسلامية واستمرار الانتفاضة داخل فلسطين، إذا فلا بد من تغيير كلّ هذه المفاهيم حتى يصل العرب إلى قناعة تامة بوجود دولة يهودية في فلسطين، وهذا ما حدث وتحقّق مع الزمن، وبدأت المؤامرات اليهودية والنصرانية بتغيير الواقع العربي، فقامت ثورة 23 يوليو 1952م في مصر وضربت الحركات الإسلامية المناوئة لليهود، وتآمرت فرنسا وبريطانيا مع اليهود بعد تأميم قناة السويس، وقاموا بما سمي العدوان الثلاثي على مصر، وتكرّرت الخيانات، وينسحب الجيش المصري من سيناء وشرم الشيخ، ويستولي عليها اليهود، وتستمر الخيانات بأشكال أخرى متنوعة، وتندلع حرب الأيام الستة في عام 1967م، ويضرب اليهود الطائرات المصرية وهي رابضة على الأرض لأن الطيارين كانوا في إجازة، وبعضهم في سهرات ليلية، وتم الاستيلاء على القدس والضفة الغربية وغزة، وانسحبت سوريا من مرتفعات الجولان، وتدخلت هيئة الأمم المتّحدة وأصدرت القرار رقم 242، والذي يكرس العدوان الإسرائيلي على أرض فلسطين، ويعطي الفلسطينيين القدس الشرقية، فيرفضه الفلسطينيون، وتأتي معركة العاشر من رمضان، ويعبر الجيش المصري القناة ويحطم خط "بارليف"، وينتصر المسلمون بشكل جزئيّ مقنّن، ويقال بأن سبب الحرب هو تحريك الأمة نحو ما يسمى بالسلام مع اليهود والاعتراف بهم، ويتدخل مجلس الأمن ويفصل بين القوات المتقاتلة، وبعد ذلك يقوم الرئيس المصري أنور السادات برحلته المشؤومة إلى القدس، ومن ثم يتم إبرام اتفاقية "كامب ديفيد" ويُعترف بإسرائيل علنا على أن يطبق القرار رقم 242، إلا أن إسرائيل ترفض كل هذه الاعترافات وترفض القرار رقم 242 والذي كانت قد وافقت عليه من قبل، وتصرّ على أن تكون القدس عاصمتها الموحّدة غير المجزأة، وهم مصرّون على هذه الخطوات وفي طريقهم إلى القضاء على من تبقّى من الفلسطينيين دون خوف من رد الفعل العربي، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
وهكذا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ علمنا بأن اليهود أصبحوا أغلبية في فلسطين، وهيمنوا عليها بسبب الخيانات العربية، وليس بسبب ضعف المقاومة الجهادية الفلسطينية.
فنسأل الله أن يعيد الأمة إلى دينها لتعرف الطريق لتحرير المقدسات الإسلامية وهو الجهاد في سبيل الله ولا طريق غيره.
ثم صلوا وسلموا على صفوة خلق الله محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان...
(1/5666)
الدفاع عن الضرورات لا يبيح المحرمات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
23/7/1421
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم الجهاد. 2- فضل الجهاد. 3- التحذير من التخلف عن الجهاد. 4- من مقاصد الجهاد وغاياته. 5- من أحكام الجهاد وآدابه. 6- فضل الشهادة في سبيل الله. 7- تحريم التولي يوم الزحف. 8- الفروق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب. 9- تحريم العمليات الفدائية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمما هو معلوم أن الجهاد في سبيل الله فرض كفاية على المسلم في هذا الزمان حيثُ وجودُ الجيوشِ الرسميةِ الْمُعَدَّةِ لذلك، ويصبح فرض عين على أفراد المسلمين عمومًا من الرجال الذين يجب عليهم الجهادُ إذا هاجم العدوُّ بلادَ المسلمين وإذا دعا إليه ولي الأمر أو أمر به حيث لا يجوز التخلف عنه لمن ليس له عذر يمنعه عنه.
وقد رغب الله ورسوله في الجهاد في سبيل الله أعظمَ ترغيبٍ يُحَرِّكُ في نفوس المؤمنين مشاعر التطلع للفوز برضا رب العالمين والدرجة العالية في جنة النعيم، ولقد أَجْزَلَ اللهُ ثوابَ المجاهدين والشهداء، فلم يَلْحَقْهُم في مثوبتهم ودرجتهم إلا من عمل بمثل عملهم واقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنح سواهم، وجعل دماءَهم الطاهرةَ الزَّكِيَّةَ عُرْبُونَ النَّصرِ في الدنيا وعنوان الفوز والفلاح في الآخرة، وتَوَعَّدَ المتخلفين القاعدين بأفظع العقوبات، ووصفهم بأبشع النعوت والصفات، ووَبَّخَهُمْ على الْجُبْنِ والْقُعُودِ، وأعدَّ لهم في الدنيا خِزْيًا وذُلاً لا يُرفع عنهم إلا أن يجاهدوا، وفي الآخرة عذابًا لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل الجبال ذهبًا.
ولنستمع إلى قول الله عز وجل في وصف المنافقين الفاسقين الذين كرهوا الجهاد بالمال والنفس مع رسول الله وما هو جزاؤهم، وهو جزاء مَنْ يشبههم ممن ينتسب إلى الإسلام إلى يوم القيامة، قال تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 81-85].
ولم يوجد ولن يوجد نظام في القديم أو الحديث يُعْنَى بشأن الجهاد والجندية واسْتِنْفَارِ الأمة وحَشْدِهَا كلِّها صفًا واحدًا للدفاع بكل قواها عن الحق مثل ما هو موجود في دين الإسلام وتعاليمه، فالكثير من آيات القرآن الكريم ومن أحاديث رسول الله فَيَّاضَةٌ بكل المعاني السامية، فيها الدعوة بأفصح عبارة وأوضح أسلوب إلى الجهاد في سبيل الله وتقوية وسائل الدفاع والقتال بكل أنواعها على اختلاف الأزمنة والأمكنة، ويكون وقوف الأمة المسلمة المؤمنة صفًا واحدًا ضد أعداء الله ورسوله وأعداء الإسلام والمسلمين مما يحبه الله ويرضى عنه، كما قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4].
إن فرضية الجهاد على المسلمين ليست أداة للعدوان ولا وسيلة للمطامع الشخصية، ولكنها حماية للإسلام والمسلمين وضمان للسلم وأداء للرسالة التي حمل عِبْأَهَا المسلمون، رسالة هداية الناس إلى الحق والعدل. ولا بد للمسلم أن يعرف لماذا يقاتل، وخاصة في هذا الزمان الذي التبس فيه الحق بالباطل والخير بالشر ولا يعرفه إلا القليل من الناس، وأخص المسلمين المؤمنين بالله في أي دولة من دول العالم الذين يعملون في الجيوش الرسمية أو الاحتياطية أو المتطوعة. فلا بد أن يكون القتال والحرب سواء كانت دفاعية أو هجومية من أجل إعلاء كلمة الله مصحوبة بالإخلاص والصواب. وإن كانت دفاعية فقط عن الدين أو النفس أو المال أو العرض فإن المقتول فيها شهيد بإذن الله عز وجل، ومشروع للمسلم أن يدافع عن أَيَّةِ واحدةٍ منها، فإذا اجتمع الاعتداء عليها جميعًا من أَيِّ صائلٍ سواء كان مسلمًا أو كافرًا كان الدفاع عليه ألزم وأوجب. عن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة رحمهم الله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أَرَأَيْتَ إن جاء رجل يريد أَخْذَ مالي؟ قال: ((فلا تُعْطِه مالك))، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قَاتِلْهُ)) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) ، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: ((هو في النار)) رواه مسلم والنسائي رحمهما الله.
وعن استصحاب الإخلاص والبعد عن الرياء والسمعة أُورد مكان الشاهد من حديث طويل معلوم للجميع لئلا يحبط العمل ويكون المجاهد في نظر الناس في الدنيا أنه من أهل الجنة وهو من أهل النار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به فعرّفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكن قاتلت لأن يقال: هو جريء، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) الحديث. رواه مسلم واللفظ له والنسائي والترمذي وابن خزيمة رحمهم الله.
إذا علم المسلم لماذا يقاتل ويحارب ويدافع وجب عليه أيضًا أن يعرف أمورًا أخرى تتعلق بالجهاد؛ لأنَّ في الجهاد أنبلَ الغاياتِ وأفضلَ الوسائلِ، لذلك فإن المسلمين حينما يقاتلون لا يعتدون ولا يفجرون ولا يفسقون ولا يُمَثِّلُونَ ولا يسرقون ولا ينتهكون الحرمات بزنا أو غيره من أنواع المحرمات ولا يقومون بالأذى في حربهم سواءٌ كانت الحرب مع أعداء الله ورسوله من الكفار أو مع فئة باغية من المسلمين؛ لأن المسلمين الحقيقيين في الحرب خيرُ محاربين على وجه الأرض، كما أنهم في سِلْمِهِمْ خيرُ مُسَالِمِين.
وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك، ومنها في تحريم العدوان والأمر بالعدل حتى مع الأعداء والخصوم عمومًا مهما كانت البغضاء والعداوة قول الله عز وجل: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: 87]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8]، وعن الغلول والأخذ من الغنيمة خفية دون المسلمين المجاهدين قال الله عز وجل: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران: 161].
وقد امتدح رسول الله المؤمنين بأنهم أحسن الناس وأعفهم وأشرفهم وأرحمهم عندما يريدون قتل أحد من أعداء الله ورسوله، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أعفُّ الناس قِتْلةً أهلُ الإيمان)). ولقد نهى رسول الله عن التمثيل بالمقتول من الأعداء والمسمى بالْمُثْلةِ وعن الغَدْرِ والغلولِ وأمر باجتناب الوجه وعدم قتل الأولاد والصبيان ومَنْ دونهم في السن والنساء والشيوخ، عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا أَمَّرَ الأميرَ على جيش أو سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اُغْزُوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدُروا ولا تُمَثِّلوا ولا تقتلوا وليدًا)) رواه مسلم رحمه الله، وروى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) ، وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عَنِ النَّهْبِ والمُثْلَةِ. رواه البخاري رحمه الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مرّوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله : ((كلا، إني رأيته في النار في بُرْدَةٍ غلَّها)) أو: ((في عباءة غلّها)) ، ثم قال النبي : ((يَا بْنَ الْخَطَّابِ، اذهبْ فَنَادِ في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون)) رواه مسلم والترمذي وغيرهما، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا النبي ذات يوم فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وعَظَّمَ أَمْرَهُ حتى قال: ((لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شَاةٌ لها ثُغَاءٌ، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نَفْسٌ لها صِيَاحٌ، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا أُلفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صَامِتٌ، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبًا ولا وَرِقًا، غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي ـ يعني وادي القرى ـ ومع رسول الله عَبْدٌ له وَهَبَه له رجل من جُذام يُدعى: رِفاعة بن يزيد من بني الضبيب، فلما نزلنا قام عبد رسول الله يحلّ رحله فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فكان فيه حتفه، فقلنا هنيئًا له الشهادة يا رسول الله، قال رسول الله : ((كلا والذي نفس محمد بيده؛ إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم ولم تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ)) ، قال: ففزع الناس، فجاء رجلٌ بِشِرَاكٍ أو شِرَاكَيْنِ، فقال: أصبت يوم خيبر، فقال رسول الله : ((شِرَاكٌ من نار، أو شِرَاكَانِ من نار)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. والشملة: كساء أصغر من القطيفة يُتّشَحُ به.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، سيد المجاهدين وإمام المتقين وقائد الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن الله عز وجل يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْنَ، ويشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْنَ)) رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته)) رواه أبو داود وابن حبان.
ومن الأمور المحرمة التي تجب معرفتها والحذر منها وهي من كبائر الذنوب: التولي يوم الزحف عند التقاء الجيشين ثم يفرّ المسلم من ذلك الموقف خوفًا وهربًا من الموت وحبًا في البقاء في الحياة الدنيا. روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: ((الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)).
ومما ينبغي التحذير منه ما نسمعه أحيانًا من أنصاف المتعلمين والذين يُفتون بغير علم ولا يعرفون الجمع بين الأدلة وتخفى عليهم كثير من المعاني ويُضِلّون أنفسهم ويُضلون من يُفتونهم من عامة الناس، فعندما سئل أحدهم عن اعتداء دولة على أخرى: هل الدفاع عن الأرض والممتلكات وغيرها يعتبر جهادًا من أجل إعلاء كلمة الله أم أن الأرض لله يورثها من يشاء؟ فأجاب بنهاية الحديث المعروف: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) ، وبالآية القرآنية: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105]، وبهذا يكون قد ابتعد عن الفهم الصحيح والتفسير الحقيقي، وقد سبقه العلماء في القديم والحديث في بيان ذلك، وهو معلوم من أحاديث رسول الله ، فعندما يريد المسلمون قتالاً هجوميًا ضد أعداء الله ورسوله تختلف فيه النيات والمقاصد إما للرياء والسمعة أو للشجاعة والحمية أو للغنيمة، فعندما سئل رسول الله عن ذلك أجاب بأن الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه أن أعرابيًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال النبي : ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وأما عن الدفاع عن الأرض والممتلكات وغيرها وهو ما يسمى بالقتال الدفاعي فهذا أمر مشروع وقد سبق ذكر الحديث في أول الخطبة، والأرض تعتبر من المال، فعلى المسلم أن يدافع عن دينه وعرضه وماله ومظلمته سواء كان المعتدي مسلمًا أو كافرًا وسواء كان المعتدى عليه شخصًا واحدًا أو أسرة أو قبيلة أو دولة، فالحكم واحد، عن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، وفي الحديث الآخر كيفية دفع الصائل المعتدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أَخْذَ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك)) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) رواه مسلم.
وليحذر المسلم من قتل نفسه بأي شيء وتحت أي ظرف من الظروف في الأحوال العادية عندما تضيق عليه الأمور وينزل به البلاء والابتلاء بالمرض أو المصائب والنوازل، أو في حال القتال عند ملاقاة الأعداء كما يفعله بعض من ينتسب للإسلام بالإقدام على الانتحار عند الهجوم على الكفار بحيث تقضي المتفجرات على الشخص نفسه لئلا يظفر به الأعداء ولكي يتخلص من الحياة بإزهاق نفسه بتلك الطريقة التفجيرية، ويسمّون ذلك بالأعمال الفدائية، علمًا بأنها انتحارية وهي إلى الجبن والأعمال الجبانية أقرب منها إلى الفداء، فالإقدام على ذلك العمل الانتحاري حرام لا يجوز فعله، وهو عدوان وظلم على نفس الشخص، وهو استعجال لنار جهنم والعياذ بالله، وإن أفتى المفتون بجواز ذلك، فالنصوص المحكمة من القرآن الكريم ومن صحيح سنة رسول الله واضحة لا لبس فيها ولا غموض، ومعلوم في القواعد الشرعية بأنه لا اجتهاد مع النص، فالواجب على المسلم الصبر والمصابرة في كل الأحوال والظروف، وعند ملاقاة الأعداء الإقبال وعدم الإدبار مع الإخلاص لله رب العالمين والمتابعة لرسول الله. عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتِلْتُ في سبيل الله تُكفّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم، إن قتِلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر)) ، ثم قال رسول الله : ((كيف قلت؟)) قال: أرأيت إن قُتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الديْن فإن جبرائيل قال لي ذلك)) رواه مسلم وغيره.
فهذا دليل واضح على الإقبال وعدم الإدبار مع الصبر والاحتساب والإخلاص الذي سبق ذكر بعض الأحاديث عنه، ويكون القتل فيه على أيدي الأعداء وليس بيد الشخص نفسه الذي يقدم على الانتحار بحمل الأحزمة الناسفة وشتى أنواع التفجير التي انتشرت في هذا الزمان مع ما في الإقدام على الانتحار من أدلة واضحة لمن رزقه الله الفقه في الدين، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 29-31]، وما أجمله من تعقيب إلهي يجب أن يفكر فيه المسلم ويقف عنده بعد النهي عن أشياء في الآيات السابقة عن قتل النفس وبعد هذا النهي أيضًا، فهذا النص القرآني الواضح يبين أنّ اجتناب الكبائر سبب في تكفير السيئات ونصوص أخرى في الكتاب والسنة، منها: قول الله عز وجل: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى [النجم: 31، 32]، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَجَأُ بِهَا ـ أي: يشقّ ويطعن ـ بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بِسُمٍّ فَسُمُّهُ في يده يَتَحَسَّاهُ في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو متردٍّ في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) ، وقال رسول الله : ((من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة)) رواه الجماعة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار)) رواه البخاري، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رجلاً من أعظم المسلمين غَنَاءً عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي فنظر النبي فقال: ((من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا)) ، فاتبّعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جُرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه، وذكر الحديث إلى أن قال: قال رسول الله : ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)) ، وفي آخر رواية أبي هريرة: ((إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)). روى الحديثين البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، واللفظ هنا للبخاري رحمه الله.
وفي الخطب القادمة إن شاء الله نأتي على مزيد من الإيضاح والبيان حول هذا الأمر الذي التبس على بعض طلبة العلم فضلاً عن عامة المسلمين، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي عَمَّ شَرُّهَا وغَدَتْ حديثَ الناسِ وشُغْلَهُمُ الشَّاغِل في جميع بقاع الأرض.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5667)
القومية ودعاتها
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
2/3/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعاة القومية من أخطر الأعداء على الإسلام والمسلمين. 2- أفكار دعاة القومية ومعتقداتهم. 3- مفاسد القومية العربية. 4- نصوص في ذم العصبية الجاهلية. 5- التحذير من دعاة القومية. 6- الأخوة والتفاضل بالإيمان والتقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن على المسلمين أن يعرفوا أعداءهم وأعداء دينهم، ويقفوا منهم الموقف الذي أمرهم الله به في كتابه العظيم وأمرهم به الرسول الكريم محمد فيما صَحَّ عنه. ومِنْ أخطر الأعداء في مجتمع المسلمين في الدول العربية دعاةُ القومية العربية الذين كشفهم الله عز وجل وفضحهم، وهم من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، وهم دعاة إلى أبواب جهنم، مَنْ أطاعهم قذفوه فيها، هم دعاة للشر خاصة في هذه الظروف الراهنة التي تعيشها الدول العربية ويعيشها العالم بأسره، مع أن الذين يتألمون ويخلصون العمل فيها لله هم المسلمون المؤمنون في جميع بقاع الأرض، في هذه الظروف يجب أنْ يُمَاطَ اللِّثَامُ ويُكْشَفَ الْقِنَاعُ عن وجوه دعاة القومية العربية، تلك الوجوه الكالحة الممسوخة وعن أفكارهم ودسائسهم للإسلام والمسلمين لتستبين غاياتهم وأهدافهم وإن كانت مكشوفة لمن أنار الله بصيرته من المسلمين حيث قد قام العلماء والدعاة ـ وفقهم الله ـ من سنوات عدة بكشف أمرهم وبيان حقيقتهم وفضح مخططاتهم، ولم يألوا جهدًا في ذلك، ولكن لم ينتبه المسلمون حتى هذه اللحظة إلى ما قاله العلماء الأفاضل والدعاة المخلصون، خاصة في البلاد العربية، وليس هذا التعميم على إطلاقه، فهناك من قرأ ويقرأ ويعرف الكثير عنهم خاصة من المفكرين المسلمين ومن شباب المسلمين، ولكن الغالبية العظمى في غفلة عما يدور حولهم في العالم بأكمله من أمر الدين، وفي غفلة عما يُحاك ضدهم وضد الإسلام.
ومن الخطوط العريضة لأفكار ومعتقدات دعاة القومية العربية أن أهم مقومات القومية العربية: اللغة والدم والتاريخ والأرض والآلام والآمال المشتركة، إنهم يرون أن العرب أمة واحدة: المسلمون والشيوعيون واليهود والنصارى وجميع الملل والنحل على اختلافها وتعددها أمة قومية عربية، هذه الأمة لها مقومات الأمة لأنها تعيش على أرض واحدة هي الوطن العربي الواحد الذي يمتد من الخليج إلى المحيط، وتلك الحدود بين أجزاء هذا الوطن هي حدود طارئة لا بد أنْ تُزَالَ لتكون للعرب دولة واحدة وحكومة واحدة تقوم على أساس الفكر العلماني الذي يدعو إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات والأديان كما يزعمون، وهذا الفكر القومي العلماني يتبنى شعار: (الدين لله والوطن للجميع)، والهدف من هذا الشعار إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي، ويقرر بعضهم بأن المرحلة القومية مرحلة حتمية لأنها أعلى درجات التفكير الإنساني، ويقول بعضهم: "إن العروبة هي ديننا نحن العرب المؤمنين العريقين من مسلمين ونصارى لأنها وجدت قبل الإسلام وقبل النصرانية، ويجب أن نغار عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي، والنصارى على إنجيل المسيح".
هذه بعض أفكارهم، وإلا فالكتب مليئة بنشر معتقداتهم وأفكارهم، هذا الصنم الجديد ومعبود العرب وإلههم الذي اتخذوه من دون الله أو أشركوه في العبادة، هو تلك الدعوة الجاهلية الحديثة التي تبناها زعماء دول قد أفضوا إلى ما قدموا، ومنهم مَنْ أَذَلَّهُ الله وأخزاه وتمت الإطاحة به وبنظامه البعثي الاشتراكي، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة يواصل المسيرة الضالة، ولا نزال نسمع تلك الكلماتِ الرَّنَّانَةَ تَتَرَدَّدُ على ألسنتهم عبر القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية وفي الجرائد والمجلات حتى من أولئك الذين يقفون ضد طاغوت العراق، تلك هي الدعوة إلى القومية العربية التي قال عنها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكثر الله أمثاله من العلماء الأتقياء الأوفياء المخلصين الورعين يقول عنها: "إنها دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه... وقد أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول... فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغْتَرَّ بها كثيرٌ من الأخيار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان"، وقال أيضًا: "هي دعوةٌ باطلةٌ وخطأٌ عظيمٌ ومكرٌ ظاهرٌ وجاهليةٌ نَكْرَاءُ وكَيْدٌ سَافِرٌ للإسلام وأهله".
وها نحن اليوم نرى ماذا جَرَّتْ علينا وعلى العالم بأسره الدعوة إلى القومية العربية، وسوف تتبعها الويلات والحروب الطاحنة وسفك الدماء وهتك الأعراض وسلب الأموال ونهبها وغرس العداوة والبغضاء في القلوب وتفريق الأمة وإيقاظ الفتن، هذه أول النتائج البارزة للعالم مع أن كل شعب يعيش تحت تلك القيادات التي لا تحكم بالإسلام يذوق الويلات، ويعرفُ تمامًا قَدْرَ النعمة في الحكم بكتاب الله وسنة رسوله محمد مَنْ عاش في هذا البلد ومن عاش في غيره، ويعرف من له أدنى بصيرةٍ ضَلالَ أهلِ تلك المذاهبِ والأفكارِ البعيدةِ عن الإسلام، ويعلم أن الخير كل الخير في التمسك بتعاليم دين الإسلام.
ولنستمع إلى بعض الآيات والأحاديث التي تذم كل دعوة إلى العصبية والجاهلية وتنهى عن ذلك، قال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح: 26]. وأوضح عز وجل أنه جعل الناس شعوبًا وقبائل من أجل التعارف لا من أجل التفاخر والتعاظم، بل جعل أكرمهم عنده سبحانه هو أتقاهم وأخشاهم لله تعالى، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]، فإذا كانت الدعوةُ إلى القومية العربية والعصبية دعوةً إلى الجاهلية ومَنْهِيًّا عنها في صفوف المسلمين حتى لو قُدِّرَ أنهم دعوا إليها فما بالنا بدعاة القومية العربية الآن الذين هم دعاة إلى الضلال والكفر، دعاة إلى جميع الأديان باسم القومية العربية لِيَحْكُمَ العربَ أولئك الأراذلُ الأشرارُ البعيدون عن الإسلام؟!
إن الأمر من الخطورة بمكان، يجب أن يتنبه له المسلمون من أصغر رجل فيهم إلى أكبر قائد لهم، يجب أن تكون الدعوة إلى الوحدة والترابط الإسلامي ونبذ القومية العربية التي عشنا وذُقْنَا نارَها التي تَلَظَّتْ وتَسَعَّرَتْ في هذه الأيام وسوف تستمر ما دام هذا الشعار مرفوعًا ويعيش العرب تحت رايته، وها نحن نشاهد ذلك في هذه الأيام وقت مراجعة هذه الخطبة من شوال من عام ألف وأربعمائة وسبع وعشرين من الهجرة النبوية، يجب أن تكون الدعوة الآن إلى وحدة المسلمين في جميع بقاع الأرض كما دعا إلى ذلك الملك فيصل رحمه الله وأُنْشِئَتْ منظمةُ المؤتمر الإسلامي المنبثقة عن رابطة العالم الإسلامي، يجب أن يكون للرابطة دورُها الفعَّالُ من الآن فصاعدًا ويتحرك المسلمون للالتفاف حولها ونبذ كل ما يخالف وحدة الدين الإسلامي وروابطه.
ومما زاد الأمر وضوحًا وحاجة إلى وحدة المسلمين حين اجتمع دعاة القومية العربية في عاصمة دولة عربية، وكان من بين الزعماء الذين يريدون تحريرَ القدسِ شيوعيٌّ لم يذكر اسم الله عز وجل، ولا للإسلام ذكر عنده من أول كلمة له إلى آخرها، وغيره يخلط بحسن نية أو بسيئها، ولكن العتب على المغفلين الذين ساروا مع ذلك الركب يفتون ويتكلمون باسم الإسلام، أولئك المخدوعون لم يتقوا الله ويعرفوا حكم الله ورسوله في هذه الفتن ويعرفوا حقيقة الأمر ويقفوا منها موقف المؤمنين الصادقين المتقين، قال رسول الله : ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)) ، وعندما اختصم أنصاري ومهاجري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، عندها قال رسول الله : ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!)) وغضب لذلك غضبًا شديدًا، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمسٍ يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن)) ، فذكرها ثم قال النبي : ((وأنا آمركم بخمسٍ الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم)) ، قيل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟! قال: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)). فإذا كان الذي يصلي ويصوم ويزعم أنه مسلم ويدعو بدعوى الجاهلية من حطب جهنم فكيف بمن لا يصلي ولا يصوم بل هو ملحد شيوعي أو بعثي علماني كافر؟! وليس هذا الوصف على إطلاقه على دعاة القومية، فقد يكون منهم المسلم الذي يصلي ويصوم ولكن أفكاره العلمانية والبعثية والقومية العربية قد دخلت فكره وعقله وقلبه ويهتم بها أكثر من تعاليم الإسلام حتى أصبح منتسبًا للإسلام، مع أن دعوته وانتماءَهُ الحقيقي لتلك الأفكار الهدامة، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله.
أما بعد: فقد ورد في الحديث الصحيح التالي ذكره عن رسول الله ما يُوَضِّحُ ويكشف دعاةَ الضلالة اليوم الذين يَدْعُونَ إلى أنواع الباطل والفساد والانحلال وإلى الخلاعة والحرية المطلقة وأنواع الفساد والْبُعْدِ عن الإسلام ومنهجه القويم، مثل القومية العربية والاشتراكية الشيوعية والرأسمالية العلمانية، يرشدهم إلى أولئك الدعاة على أبواب جهنم ويحذرهم من اتباعهم لأن من يجيبهم إلى باطلهم ودعواتهم سوف يُقْذَفُ في نار جهنم، وهذا الحديث الصحيح من أشراط الساعة ومن أعلام دلائل النبوة وصحة رسالة رسولنا محمد حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بذلك قبل وقوعه بمئات السنين، وها هو يقع كما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: كان الناس يسألون الرسول محمدًا عن الخير وكنت أسأله عن الشرِّ مَخَافَةَ أنْ يُدْرِكَنِي، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)) ، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن)) ، قلت: ما دخنه؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر)) ، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) ، قلت: فما تأمرني ـ يا رسول الله ـ إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) ، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فَاعْتَزِلْ تلك الْفِرَقَ كُلَّهَا ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)).
نعم، إنه حديث عظيم جليل يصف لنا واقع وحالة المسلمين اليوم مع حكامهم ومع تلك الفرق والملل والنحل. ونقول لمن كان في هذا البلد أَنْ يَلْزَمَ جماعةَ المسلمين وإمامَهم ودعوةَ الحق، ويَدَعَ ويَهْجُرَ دُعَاةَ الباطل والضلال، وأنْ يحمدَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ على تطبيق شرع الله، وينصحَ ويبذلَ ما في وسعه لتقديم النصيحة لولاة الأمر ولعامة المسلمين فيما يراه مخالفًا لأمر الله ورسوله، كما هو واضح من أحاديث رسول الله. أما من كان تحت حكم الطواغيت في البلاد العربية وغيرها ممن لا يُحَكِّمُونَ القرآن الكريم والسنة المطهرة بل يُحَكِّمُونَ القوانينَ الوضعيةَ فعليهم أن يمتثلوا أمر رسول الله باعتزال تلك الفرق الضالة حتى يدركهم الموت.
ومما ينبغي التنبه له أن دعاة القومية العربية يدعون المسلمين اليوم إلى محاربة الكفار مثل أمريكا وأوروبا مع أنهم مسالمون للمسلمين ليس بينهم حرب ولا إخراج من الديار ولا مقاتلة من أجل الدين، ولكن دعاة القومية يغفلون هم ومعظم المسلمين عن العدو الحقيقي المحارب لنا والذين يريدون إخراج المسلمين من ديارهم وارتدادهم عن دين الإسلام والمظاهرة على ذلك هم أنفسهم من بني جلدتنا من العرب الذين يجب علينا أنْ نُعَادِيَهُمْ لأنهم أعداؤنا الحقيقيون، وتجب محاربتهم وجهادهم بشتى سبل وأنواع الجهاد، وهذا وقت الصحوة للمسلمين، فقد انكشفت عوراتهم وبانت سوءاتهم وانفضحت مخططاتهم، فهل يدرك المسلمون ذلك؟ وهل يعرفون أعداء العقيدة الإسلامية حقًا؟ وهل يغيّرون من واقعهم؟ وهل يَنْتَهُونَ عن موالاتهم للقوميين العرب والبعثيين والعلمانيين والشيوعيين والاشتراكيين والزنادقة والرافضة والشيعة والدروز والموارنة واليهود والنصارى والناصريين وغيرهم من دعاة الضلالة أم أنهم يستمرون على ما هم عليه وكَأَنْ لمْ يَمُرَّ بهم شَيْءٌ على الإطلاق؟ قال تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 8، 9].
فعلينا أنْ نَزِنَ كل شيء بميزان الإسلام، وخاصة تلك الدعوة الجاهلية إلى القومية العربية، ولننظر إلى ذلك في السيرة النبوية كيفَ اعْتُبِرَ سلمانُ الفارسيُّ وبلالٌ الحبشيُّ وصهيبٌ الرُّومِيُّ في القمة من سادة قريش تطييبًا لخواطرهم ومواساة لهم لئلا يشعروا بالغربة، بينما كان الكفار من سادة قريش أمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي طالب والوليد وغيرهم من ألدّ أعداء الإسلام ولم ينفعهم نسبهم ولغتهم العربية، قال : ((سلمان منا أهل البيت)) ، وكان عمر رضي الله عنه يقول: (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا) إشارة إلى بلال رضي الله عنه بأنه في الذؤابة والقمة من قريش، وقال : ((لا يأتيني الناس بأعمالهم يوم القيامة وتأتوني بأنسابكم؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا)) ، وفي آخر الحديث السابق ذكره في الخطبة الأولى عن رسول الله : ((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)) ، وقال : ((المسلمون إخوة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى)) رواه الطبراني، وأخرج البزار في مسنده من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو لَيَكُوننَّ أَهْوَنَ على الله من الْجُعْلان)) ، وجاء في خطبته عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس، إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بَرٌّ تقيٌّ كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقيٌّ هَيِّنٌ على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] )) ، وقال عز وجل ناهيًا عباده المؤمنين عن موالاة أعداء الله حتى ولو كان أقرب قريب واتخاذهم أولياء، بل تكون الأخوة في الدين، ومَدَحَهُمْ عز وجل وأثنى عليهم بأنهم حزب الله وأولياؤه: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]، وقال عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وقال : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) ، إلى آخر تلك الآيات والأحاديث، ولمْ يَرِدْ في كتاب الله أو سنة رسوله : (إنما العرب إخوة)، أو: (العربي للعربي كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، ففي العربِ المسلمُ واليهوديُّ والنصرانيُّ والملحدُ الشيوعيُّ والكفارُ عمومًا على اختلاف مللهم ونحلهم، لذلك فإن الدعوة إلى الاجتماع والتجمع حول وتحت هذه الرايةِ رايةِ القومية العربية لا يجوز أن يدعو إليها مسلم مؤمن بالله عز وجل؛ لأنها منافية لتعاليم الإسلام، إنما الدعوة الحقيقية والاجتماع ووحدة الصف تكون تحت راية الإسلام للمسلمين في جميع بقاع الأرض كما تدعو إلى ذلك منظمة المؤتمر الإسلامي المنبثقة عن رابطة العالم الإسلامي، وأي دعوة لا تدخل تحت شعار الإسلام ولا تلتزم بتعاليمه فَلَنْ تَحْمِلَ للمسلمين خيرًا في دينهم ولا دنياهم، وقد جَرَّبَ العربُ خاصة تلك الدعوةَ وذلك الاجتماع منذ عشرات السنين وعلموا وعرفوا ماذا كانت النتائج على كل المستويات، ورأوا وذاقوا ويلات زعماء القومية أيضًا منذ عشرات السنين الذين يريدون أن يحكموا العالم العربي باسم القومية، وكيف خططوا وفشلوا بعد أن ذاق الناس منهم الويلات منذ نصف قرن تقريبًا، كيف قام الزعيم الأول للقومية العربية من إفريقيا بِضَرْبِ دولةٍ صغيرةٍ في جنوب الجزيرة العربية ليبدأَ مخطَّطَهُ القوميَّ! وكم خسرت الدول من جراء ذلك التهور! ثم جاء خليفته في الشرق العربي وأراد ابتلاع الدولة الصغيرة المجاورة ثم مهاجمة الدول المجاورة لها ليكون زعيمًا قوميًا عربيًا، والجميع يعلم مصيرَهُ، وقال أثناء محاكمته معتزًا بالقومية واعتبر ذلك دفاعًا عن نفسه أمام خصومه في تلك المهازل من المحاكم وما يصدر عنها يقول: "القومية تعني الانتماء إلى القومية العربية وليس المهم في ذلك الدين أو الدم، فمعلوم أن العراق يضم أديانًا مختلفة ولغات وجنسيات متعددة، ولكن المهم عندنا هو الانتماء للقومية العربية بعيدًا عن العرق والدم والدين"، فهل يُرْجَى ممن كان هذا انتماؤهم وعقيدتهم وسلوكهم أن يجلبوا خيرًا للعالم الإسلامي أو العربي والعالم أجمع أيضًا؟! وهل يُرجى منهم الخير واجتماع الكلمة وتوحيد الصف؟! وفي هذه الأثناء وبعدها لا زال الكبير المتغطرس الذي فشل في تخطيطه لِضَمِّ العربِ تحت لوائه، فاتَّجَهَ لقارته العربية وغير العربية ليكون زعيمًا لها، وسوف تكشف الأيام مخططاته وقد انكشف بعد أن أذاق بلاده والبلاد العربية الويلات من جراء أفعاله وتصرفاته الشنيعة، وسمّى تلك الدول: الولايات المتحدة الإفريقية، ولو علم أولئك الزعماء والرؤساء الْمُنْضَمُّونَ تحت ذلك الشعار وتلك التسمية لو علموا مغزاه ومراده لما سكتوا مع وضوح التسمية من أول كلمة، ومعلوم أنه هو القائد وصاحب الفكرة لكنهم لا يعرفون شيئًا عن مقاصده وأهدافه، وكانت له محاولات سابقة مع الدول العربية حيث بدأها بكتابه الذي طبع منه خمسة ملايين نسخة لإغواء الناس ـ والمسلمون في مقدمتهم ـ عن إسلامهم وقرآنهم وسنة نبيهم محمد ، وقد قال خطيبٌ مُفَوَّهٌ قد توفي رحمه الله رحمة واسعة قال: لو طَبَعْتَ ملايين النسخ من القرآن الكريم لكان خيرًا لك مما أقدمت عليه ولكسبت آلاف الملايين من الحسنات.
إذًا فواجب الأمة الإسلامية وخاصة بعد أن رأت وجرّبت هي وغيرها الاجتماع تحت رايات جاهلية ودعوات قومية أنْ تَعِيَ دورَها وتجتمع تحت راية التوحيد راية الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وإذا لم تجتمع كلمتُها وتُوَحِّد صفَّها وجميع تصرفاتها تحت هذه الراية فإن عواقبها غير محمودة وهي إلى الفرقة والشَّتَاتِ أقْرب وعن طريق الحق والخير أبْعد، قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وقال عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5668)
بعض الدروس المستفادة من الأحداث
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
16/2/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هزيمة طاغية العراق البعثي. 2- انتشار بعض ألفاظ الشرك الخفي. 3- ضرورة التوكل على الله. 4- عبرة من عابثة الطغيان. 5- سنة الله تعالى في الظالمين. 6- ظهور عوار القومية والعصبية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فالحمد والشكر لله فاطر السماوات والأرض على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة التي إِنْ حَاوَلَ عَدَّهَا أَحَدٌ من البشر فلنْ يستطيعَ إِحْصَاءَهَا كما قال عز وجل: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18]، فنحمده سبحانه ونشكره على ما مَنَّ به علينا وعلى المسلمين حيث كفانا عَزَّ وجَلَّ شَرَّ أولئك الأشرار الظلمة الفجار الذين خطّطوا ودبروا ليلاً ونهارًا والمسلمون آمنون مطمئنون، لا يفكرون في لحظة من اللحظات بأنه سيأتيهم من بني جلدتهم مَنْ يقفُ غُصَّةً في حلوقهم يُهَدِّدُ أَمْنَهُمْ ويُخَوِّفُهُمْ سِنِينَ طويلةً، يستبيحُ بَيْضَتَهُمْ ويَهْتِكُ أعراضَهم وينهب أموالهم ويستحلّ ديارهم باسم الإسلام، بل كان المسلمون على العكس من ذلك الذي حصل، حيث وصل بهم الحدّ من السذاجة في التفكير والبعد عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله وعدم تحكيمهما في الصغير والكبير من الأمور، وصل بهم الأمر إلى أنْ ألَّهُوا ذلك الطاغيةَ البعثِيَّ العلمانيَّ وسَتَرُوا عليه وغَطَّوْا جرائمه التي ارتكبها مع المسلمين هو وحزبه وجنوده، وهذه مصيبة عظمى حلّت بديار المسلمين ومن ينتسبون إليه على مستوى الفرد والجماعة والدولة، حيث لا يستطيعون الْجَهْرَ بكلمة الحق ورَفْعَ الظلم عن المظلومين ونصرتهم والوقوف إلى جانبهم، ولكن إذا غفل العباد عن المظلومين ونصرتهم وعن الظالمين وفسقهم وفجورهم وستروا عليهم أو ساعدوهم أو أعانوهم ولو بكلمة واحدة، إذا فعل العباد ذلك وغفلوا فإن الله عز وجل بالمرصاد للجميع، يجازي كلاً منهم على قدر ما ارتكب، فمنهم من يفضحه على رؤوس الخلائق في الدنيا والآخرة، ومنهم من يؤخر عقوبته في الآخرة، ومنهم من يُعَجِّلُهَا له في الدنيا، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر: 14]، وقال عز وجل: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لأبْصَـ?رُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم: 42، 43].
فالله تبارك وتعالى يستجيبُ دعاءَ المظلومين وينصرُهم ولو بعد حين، ويُذِلُّ الْعُصَاةَ والظالمين والطُّغَاةَ والجبابرة والمتكبرين وينزل بهم الذُّلَ والصَّغَارَ والْهَوَانَ، فلا يرتفع ويطغى أحد ويتجبر ويتكبر ويَشْمَخُ بِأَنْفِهِ ويفسق ويفجر إلا أذله الله وأخزاه ووضعه في المكان الحقير؛ لأنه نازع الله كبرياءه وعظمته، فأنزله إلى درجة الذل والمهانة والصغار التي يستحقها جزاء ما ارتكبه واقترفته يداه.
ولا أستطرد في التقديم أكثر من ذلك، ولكن أعود لأخْتَصِرَ وأَذْكُرَ بعضًا مما يحضرني مما ينبغي أن نستفيد منه مما حَلَّ بساحة المسلمين والناس أجمعين منذ اعتداء العراق على الكويت عام1411هـ وحتى حرب الكفار لحزب البعث في العراق في 17 المحرم من عام 1424هـ:
فمنها: أَمْرُ العقيدة التي تزعزعت في نفوس كثير من المسلمين، حتى آل بطلبة العلم والمتعلمين منهم إلى حالِ عامَّةِ الناسِ في كثير من الأمور، وانتشرت ألفاظ الشرك الخفيِّ كَدَبِيبِ النمل على الصفاة الملساء في الليلة الظلماء في المجالس والشوارع والصحف والمجلات والإذاعات والتلفاز.
وأولُ شيءٍ الإيمانُ بقضاء الله وقدره، فالذي قدره الله عز وجل سوف ينفذ وفق إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، سواء رضي العباد أم سخطوا، وسواء صبروا أم جزعوا وتضجروا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما أصاب العبادَ والمخلوقات جميعًا لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها، ويجب أنْ يُفَرِّقَ المسلمُ بين أفعاله الاختيارية من أكل وشرب ونوم وكلام وصلاة وصيام وحج وصدقة وجميع الأعمال الصالحة وغير الصالحة مما له اختيار فعله أو عدمه من خير أو شرّ ومما له مشيئة وإرادة فيه لا تخرج عن إرادة الله عز وجل ومشيئته، يفرق بين ذلك وبين المصائب والنكبات والموت والحياة والمرض والرزق والخلق والأجل وغير ذلك مما ليس له فيه مشيئة ولا إرادة بل ذلك خارج عن إرادة العبد ومشيئته، وما عليه إلا أن يبذل ما أمره الله به من أسباب ليرفع عنه ما نزل به، ومنها الدعاء الذي قال الله تعالى فيه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر: 60]، وقال عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]، ومنها ما ورد عن رسول الله : ((إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض)) ، وقد سبق بيان ذلك وإيضاحه في خُطْبَتَيْنِ عن الدعاء وعن القضاء والقدر.
ومنها صدق توجه المؤمنين إلى ربهم بالتوكل والدعاء والإيمان بالقدر وحسن الظن بالله عز وجل وبنصره، والإنابة إليه سبحانه والرجوع إليه تعالى بالتوبة الصادقة، وردّ كل شيء وعرضه على الكتاب والسنة، فالمؤمنون الصادقون إذا حلّت الفتن ونزلت البلايا والمحن بهم أو بغيرهم يَزِنُون الأمورَ بميزان الشرع وبما يفتح الله عليهم به من نور البصيرة التي يهديهم الله عز وجل بها إلى طريق الخير والصلاح والتوفيق والسداد لما فيه صلاح البلاد والعباد والاستقامة على شرع الله سبحانه وتعالى، فهم لا يَتِيهُونَ ولا يَتَخَبَّطُونَ في دياجير الظلم كعامة الناس؛ لأنهم متمسكون بالنور المبين وسائرون على الصراط المستقيم، لا يعتقدون ولا يتكلّمون ولا يفعلون شيئًا مما يخالف شرع الله فيما يعلمون، وإن زلّت بهم قدم فهم يتوبون إلى الله ويستغفرونه ويسألونه العفو والعافية ورضاه عز وجل. أما ضعاف الإيمان والنفوس فهم على العكس من ذلك، وأول ما يَقُضُّ مضاجِعَهم ويخوِّفُهم هو حُبُّهُمْ الحياة وكراهية الموت والسعي للتزوّد والتخزين لحطام الدنيا، فهم كَثِيرُو التفكير، كثيرو التساؤلات، قَلِقُونَ، لا تتعدّى نظرتهم وتفكيرهم هذه الأرض والحياة عليها: ماذا نفعل؟ ماذا نأكل؟ كيف نشرب؟ كيف وكيف... إلى آخر تلك التساؤلات التي تَبِيتُ معهم إذا ناموا وتُعَكِّرُ عليهم نَوْمَهُمْ بالأحلام، وإذا صَحَوْا رجعت إليهم مرة أخرى.
وهكذا من ألفاظهم الشركية التي عليهم أن يبتعدوا عنها وينزهوا ألسنتهم عن قولها ويستغفروا ربهم مما كان منهم، منها قول بعضهم: لولا فلان لما كان كذا وكذا، ولم يحصل ذلك إلا بفضل فلان، أو بفضل التعاون، أو بفضل الحكمة والحنكة، وغير ذلك من الألفاظ التي يجب أن يَردُّوهَا إلى الله عز وجل، فلولا الله تبارك وتعالى لما كان ذلك الخير وصَرْف تلك الشرور عنهم وعن غيرهم. ومنها: شاءتْ إرادةُ الله، أو: شاءتِ الظروفُ، أو: شاءتِ الأقدارُ، وغيرها مما ينبغي أنْ تُنْسَبَ إلى الله مباشرة لا إلى صفة من صفاته عز وجل، فالصحيح أنْ يُقَالَ: شاءَ اللهُ عز وجل، أو قَدَّرَ اللهُ عز وجل كذا وكذا، فالإرادة والأقدار والظروف ليست لها مشيئة ولا إرادة. وأيضًا من أساليبهم اللجوء إلى الله عز وجل وقت الشدة والإقلاع عن بعض المعاصي، فإذا شَعرُوا بالأمان عادوا إلى سابق عهدهم من المبارزة لله بالمعاصي والمنكرات. فالواجب على المسلمين في دول العالم عامة وفي دول الخليج خاصة أن يرجعوا إلى ربهم ويتمسكوا بإسلامهم ويعملوا به ويحكِّموه ويتحاكموا إليه، وأن لا يرضوا بديلاً عنه من أحكام عُرْفِيَّةٍ وقوانينَ وَضْعِيَّةٍ، ويطالبوا قادتهم بتحكيم الكتاب والسنة في كل شؤون حياتهم، والمثل قائم في هذه البلاد الطاهرة حيثُ الأمنُ والأمانُ والراحةُ والاستقرارُ عندما يطبق شرع الله، فلا تجد أحدًا يُقْدِمُ على أمرٍ مخالفٍ نهايته أنْ يُقَدِّمَ رقبتَه أو يدَه وغيرَها للقصاص وإقامة الحدّ الشرعي، بينما تجد الفوضى والمظاهرات والاضطرابات والصراعات في دول الكفر التي يصفونها بالتحضّر، وفي الدول المتسمية بالإسلام ولا تحكم بالإسلام ولا ترضى به، فَالْبَوْنُ شَاسِعٌ والأمر واضح لكل ذي لُبٍّ وعقلٍ. عليهم أن يقيموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقوموا بها وبالدعوة إلى الله عمومًا على علم وبصيرة، وعليهم أن لا يسكتوا على المنكرات ولا يسمحوا لها بالانتشار في مجتمعهم، وإلا سوف يعمّ العقاب الجميع الصالح والطالح، وعليهم أن يحافظوا على نعم الله الكثيرة بشكره عز وجل والثناء عليه وتَرْكِ الأَشَرِ والبطر والبذخ والإسراف مع عدم صرف الأموال في وجوه الباطل والزور والحرام، وعليهم عدم الاستعلاء على عباد الله والكبر والنظرة إليهم بِازْدِرَاءٍ واحتقارٍ، فالأيام يداولها الله عز وجل ويضع المتكبرين ويذلّهم ويخزيهم، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وقال سبحانه: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده عز وجل وأشكره كَتَبَ الْعِزَّةَ لمن أطاعه واتبع أمره واجتنب نهيه، وكتب الذل والهوان والصغار على من عصاه وخالف أمره وارتكب نهيه واتبع هواه وما تُسَوِّلُ له به نفسه من الموبقات والمحرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فسنة الله في الطغاة والظالمين والمتكبرين جارية لا تتخلف عنهم، كما أنها في غير ذلك سنة كونية منه عز وجل كما هي مقررة في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 62]، وقال سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43].
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم ما يشفي ويكفي بشأن الطغاة والجبابرة ومصيرهم في الدنيا والآخرة؛ لكي نَتَّعِظَ ونعتبرَ ونرجعَ عن الْغَيِّ والْبَغْيِ والفسادِ والطُّغْيَانِ، وفي آيات مختصرة في أول سورة الفجر يذكرنا الله عز وجل بمصير أقوام طغوا وبغوا وتجبروا، فكان العقاب الدنيوي نهايتهم المخزية، وفي الآخرة أشد وأنكى، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 6-14].
وقال عز وجل عن فرعون وطغيانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 4]، وعن ادِّعَائِهِ الأُلوهِيَّةِ قال الله عز وجل: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 38- 42]، ولننظر إلى نهايته في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس: 90-92].
وعن قارون الذي طغى وبغى وهو من قوم موسى، لننظر إلى ما كان فيه وإلى نهايته، قال الله عز وجل: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 76-78]، إلى أن قال عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [القصص: 81]، وفي نهاية قصته قال عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص: 83، 84].
والآيات كثيرة في حال الأفراد والأمم السابقة ممن طغوا وبغوا وفسقوا وفجروا وكفروا ولم يؤمنوا بالله رب العالمين، وقد بين الله ذلك في القرآن الكريم لأخذ العبرة والعظة والابتعاد عن أفعالهم وما كانوا عليه، قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36، 37]، وقال عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ [القصص: 58-60]، وقال عز وجل: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ، وقال عز وجل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 16، 17].
وفي عصرنا الحاضر لننظر إلى الجبابرة والطغاة والظالمين، سواء على مستوى القادة والرؤساء والزعماء أو الأمراء والوزراء أو رؤساء العشائر والقبائل أو الأفراد في أي مكان من العالم من عشرات السنين إلى الآن، لينظر وليتأمل كلُّ شخصٍ ما وصلوا إليه من البطش والطغيان والظلم والتكبر وارتكاب المحرمات والشعور بالأبَّهَةِ والعظمة والتسلط والقهر لعباد الله إلى غير ذلك من أنواع الفساد في الأرض، ثم ماذا كانت نهاية الواحد منهم؟ إنها نهايات مظلمة مؤلمة تقشعر منها الأبدان وترتجف لها قلوب المؤمنين وتَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ هَوْلِ ما حَلَّ بهم في الدنيا، فما بَالُنا بالآخرة التي يَشِيبُ لها الْوِلْدَانُ؟! فلنتأمل ما وصل إليه طاغية العراق منذ سنوات وما حَلَّ به وبِحِزْبِهِ البعثِيِّ الآن من الذل والمهانة والفضيحة بين الناس أجمعين، وقبله بسنوات طاغية القرن الإفريقي الذي أحرق علماء المسلمين، ماذا كانت نهاية طاغية الصومال؟ وقبلها شاه إيران، وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم.
فعلى كل مسلم أن يحاسب نفسه ويعتبر ويتعظ بما يمرّ به في حياته ويستفيد الدروس الكثيرة مما يقع عليه أو على من حوله، وفي حال الفتن عليه أن يرسخ رسوخ الجبال ويثبت في أمره كله، وأن لا يخوض مع الخائضين ويتيه مع التائهين، ولا يحكِّم رأيه وهواه، ولا يقدمهما على شرع الله، بل تكون صلته بالله عز وجل قوية وصلبة، يفزع إلى الله عز وجل، ويصلح ما فسد من العمل؛ حتى تكون نهايته إن شاء الله نهاية طيبة بإذن الله. وعلى المسلمين أن ينبذوا القوميات والعصبيات وعدم التجمع حول ذلك، والدرس المستفاد من القومية العربية قائم ولا زال، أما التجمع حول الإسلام فهذا هو المطلوب والمنصور بإذن الله عز وجل، ويجب على المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى، ويبنوا قوتهم الجهادية، ويعدوا العدة، ويأخذوا حِذْرَهُمْ وحَيْطَتَهُمْ من أعدائهم أعداء دينهم في الداخل والخارج بناء على أحكام الشريعة الإسلامية، وعليهم أن لا يتخاذلوا، بل يبذلوا قصارى جهدهم في الالتفاف حول كتاب الله وسنة رسوله محمد ، فإنه لا فلاح لهم ولا نجاح ولا انتصار ولا عزة لهم ما لم يتمسكوا بالكتاب والسنة ويعملوا بهما، فمن ابتغى العزة في غيرهما أذله الله تبارك وتعالى.
وأَهَمُّ الدروس المستفادة من وراء النظام البعثي الْمُنْهَارِ فَجْأَةً ذلك الانْهِيَارُ الذي أَذْهَلَ العالمَ بأسره هو ذلك التفرقُ السريعُ من حول الطاغية وحزبه ممن كانوا يحرسونهم ويدافعون عنهم وقد أعدوهم إعدادًا قويًا منذ عشرات السنين لحمايتهم وحماية كراسيهم، واعتقدوا بأنهم بَنَوْا بناءً لا مثيل له، وإذا به ينهار من تحتهم وحولهم في لحظة سريعة لم يسبق لذلك الانهيار في التاريخ مثيل، قال الله جل جلاله: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام: 129]؛ لأن ذلك البناء والأساس لم يكن على كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وما لم يكن على هذه القاعدة فإنه سريع الانهيار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة: 109].
إذًا على القادة والزعماء في الدول الإسلامية أن يحكموا بالقرآن الكريم والسنة المطهرة ويعملوا بهما ويتقوا الله فيمن ولاهم الله أمرهم ويهتموا بشعوبهم والعدل فيما بينهم، وإن اهتمام القادة بأمر شعوبهم والحرص على حل مشاكلهم صغيرها وكبيرها والقيام بذلك وغيره بكل أمانة يقرِّبُ الْهُوَّةَ الحاصلة بين القادة والشعوب، وما لم يكن الالْتِفَافُ بين الراعي والرعية مبنيًا على قواعد الإسلام النزيهة الصريحة فإن مصير الطغاة والظالمين مؤلم في الدنيا والآخرة، في الدنيا بمثل تلك الفضائح على مرأى ومسمع في كل زاوية من هذه الأرض، والله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ومهما طال ليل الظالمين فإن نور الصبح مشرق وشمس النهار واضح للعيان لا محالة، وفي الآخرة العذاب الأليم، ولا يتسع المقام لذكر مصير الظالمين في الدار الآخرة وماذا ينتظرهم جزاء ما اقترفوه في الحياة الدنيا، قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5669)
الشيطان وألاعيبه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الفتن
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
1/3/1424
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب عدم تدبر القرآن الكريم. 2- عداء الشيطان للإنسان. 3- كيد الشيطان للإنسان وإغواؤه له. 4- سبيل النجاة من كيد إبليس. 5- المؤمن خطاء تواب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المسلمون، يقول المولى سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24].
هذا نداء من المولى لعباده بضرورة تدبر هذا الكتاب العظيم الذي بين الله فيه كل شيء مما مضى وما هو حاضر وما هو مستقبل وقادم إلينا، والسؤال الذي يحيرنا جميعًا: لماذا كثيرٌ من الناس لا يتدبر القرآن مهما حاول؟ وما السبب الرئيس في هذا الإعراض وعدم التدبر؟ والجواب: الأسباب متعددة، ولكن أهمها وأكثرها تأثيرًا هو الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6].
إنه إبليس اللعين، هو الذي يوسوس للإنسان ليبعده عن كل خير، وهذه حقيقة يجب أن ننتبه إليها جيدًا ولا نغفل عنها، فلقد أعلن إبليس الحرب على الإنسان منذ الولادة، نعم منذ الولادة، فحين يولد المولود فأول ما يبدأ به الصراخ، وذلك هو أول نخزة من نخزات إبليس كما ثبت في الحديث الصحيح.
إننا ـ أيها الإخوة ـ لا نخشى على النفوس الكافرة من الشيطان، فتلكم نفوس قد سيطر عليها حتى ألِفََتْهُ، ولكن الخوف والخشية كل الخشية على أنفس مسلمة لم تحسب للشيطان حسابًا في حياتها، وباتت غافلة عنه وعن ألاعيبه ومكره، ومن أمكر حيل الشيطان أن يقنعنا بعدم وجوده، ليس عدم وجوده في علم الواقع، بل عدم وجوده داخل أنفسنا، وهذا هو العمى عمى البصيرة المخالف لكتاب الله وسنة رسوله ، ومن هنا يبدأ دخوله، قال تعالى مبينًا وسوسته وألاعيبه: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ الآية [الأعراف: 17]. فتأمل ـ أخي المسلم ـ كيف يحاول، إنه لم يترك طريقًا ووجهةً إلا سلكها لكي يصرف الإنسان عن اتباع الهدى، أما شاهدنا من السنة فقول النبي : ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) رواه البخاري ومسلم.
إذًا، هو معنا بشكل دائم، وهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، ولقد مارس الشيطان كيده وفتنته مبتدئًا بالأبوين الكريمين: آدم وحواء، وكان بلاءً عظيمًا ابتلينا به، وكان الدافع وراء هذا في أول الأمر هو الحسد من الشيطان لآدم وحواء، قال تعالى عنه: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 62]، صمّم اللعين على إغواء كل البشرية حسدًا وحقدًا وتكبرًا، وعصى الله وامتنع عن السجود لآدم، قال تعالى: إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]، وقال له تعالى بعد ذلك: فَاهْبِطْ مِنْهَا أي: من الجنة، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ [الأعراف: 13]، فبعد طرده وخروجه من رحمة الله طلب من ربه أن يبقيه ويطيل في عمره حتى يوم البعث، قال تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ [الحجر: 36، 37]، بعد ذلك شمر الشيطان وتصدى للإضلال وللإغواء بكل قوة، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83]، فاستثنى المخلصين الذاكرين الله المنتبهين لخطواته والمتيقظين لوسوسته، ثم أردف قائلاً: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17]، فاللعين معنا في معركة وملحمة لا تنتهي إلى يوم القيامة.
أيها الإخوة الأحبة، إن إدراك ومعرفة هذا الكيد الشيطاني الإبليسي أمرٌ مهمٌ جدًا من أجل معرفة طريق الخلاص والنجاة منه ومن شروره، وقد بين لنا الله في القرآن الكريم كل شيء عنه، وبين لنا الطريق الصحيح، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27]، فيبين الله لنا أن الشياطين هم الذين يفتنون بني آدم، وأنهم يغرونهم وأزواجهم وذرياتهم في هذه الدنيا، ونحن لا نراهم، ويقع الإنسان في أحابيل ومكر الشيطان حينما يستسلم له ويتفلت من الأوامر والنواهي الشرعية، فلا يذكر الله في دخوله وخروجه وركوبه سيارته ودخوله إلى المسجد وخروجه منه إلى آخر الأوامر والنواهي المبينة في كتب الأذكار والتحصينات، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج: 4]، وقال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 168]، فاتباع خطوات الشيطان والانقياد لكل خاطرة أو فكرة تأتي إلى ذهنك دون تدبر وتفكر فيها هي أول مراحل السقوط في حبائله ويجر الإنسان إلى الإفك والإثم والكذب، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الأعراف: 221، 222]، فحينما تتنزل الشياطين على هؤلاء الكذابين الأفاكين فإنهم يدعونهم إلى الطيش وحب الانفلات والتفلت من التعاليم الدينية والأنظمة الدنيوية والعجلة كما في حديث أنس بن مالك عن النبي قال: ((التأنِّي من الله والعجلة من الشيطان)). انظروا إلى أمثلة حية نعيشها كل يوم بل كل ساعة من بعض الشباب نسأل الله أن يهديهم سواء السبيل، تجد الشاب يقود سيارة فارهة وشريط الأغاني يصم آذان من هم في الطريق، ويقود سيارته بسرعة جنونية تؤدّي في النهاية إلى القضاء على حياته وحياة الآخرين في غمضة عين، كل ذلك بسبب العجلة والطيش والاستماع إلى مزامير الشيطان والشعور بضيق الصدر وعدم الطمأنينة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتعالي في مجده وملكه، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن شر الشيطان وشِرْكه وشَرَكِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ حق التقوى، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
وإن مما يحفظ العبد ويحصنه من الشيطان الالتزام بالكتاب والسنة علمًا وعملاً، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. إذًا هذه وصية من الله وفي كتابه، فمن لا يتبعها ويأخذ بها فلا يلومن إلا نفسه؛ لأن الشيطان أخذ الميثاق على نفسه وتعهد بأن يقعد لابن آدم كل طريق يتوفر له ليصرف الإنسان عن الهدى: لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16]، ومع أنه هدَّد وتوعد فإن كيده ضعيف، متى؟ ولمن؟ إذا تسلح العبد بسلاح الإيمان وحسنت عبادته لله وتوكله عليه، قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 99]، ليس له سلطان على أهل التوحيد والإخلاص، ولكنه يتسلط على من تولاه واتبعه واستمع إلى أحابيله وخطواته، فأمثال هؤلاء يستذلهم ويوجههم، أما عباد الله وحزب الرحمن فلا سلطان له عليهم.
أيها الإخوة، وعلى الرغم من وضوح هذا الطريق في كتاب الله وسنة رسوله فقد يزل المؤمن أو يخطئ، وقد يصيبه نزغٌ من الشيطان أو يمسُّهُ طائف منه، وقد يُران على قلبه، لكنه سرعان ما يلوذُ بربه ويلجأُ إلى ذكره ويتوب إليه، فينخنس الشيطان، قال تعالى مبينًا بأن هذا الإنسان يختلف عن الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأنه خطاء وتواب إلى ربه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]، إنهم مؤمنون، بمجرد أن يمسهم طائف من الشيطان ينتبهون؛ لأن قلوبهم حية بذكر الله، وصلتهم به وثيقة ومستمرة، فلا ينساقون من أولى خطوات الشيطان، بل فورًا يتخلّصون من هذه النزوات والأفكار الخبيثة بسرعة ويلجؤون إلى ربهم يستعينون به ويستعيذون من الشيطان الرجيم كما أمرهم بذلك رب العالمين حيث قال: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]، إذًا الحلّ موجود، كلما جاءت فكرة شيطانية أو خاطرة فلا تتمادَ فيها واطردها فورًا واستعذ بالله.
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديما، فقال تعالى ولم يزل قائمًا عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...
(1/5670)
الأزمات التي مرت بالمسلمين السابقين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
8/3/1424
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثبات السابقين على دينهم ومبادئهم. 2- ضعف المسلمين في هذا العصر وتأثرهم بأعدائهم. 3- مقومات حياة الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستمسكوا بهدي نبيكم محمد ، وتأملوا في أحوالكم، اعتبروا بالماضي، وتأملوا في الواقع الذي نعيشه اليوم، ما أحوج المسلمين إلى التأمل والتفكر الصادق، كيف المسير؟ وإلى أين المصير.
أيها الإخوة، مرت بديار المسلمين في تاريخها الطويل أزمات وأزمات، وحلت بها بلايا ونكبات، وزلزلت الأرض زلزالها، وسقطت دول وانهارت حضارات، وقامت دويلاتٌ ونشبت نزاعات، نعم لقد مرت أزماتٌ حادة وفتنٌ مدلهمة سيطرت فيها الأهواء والشهوات على العقل والإدراك، وإن الناظر في تلك العهود الأولى يدرك يقينًا أنه على الرغم من هذا الخلل والاضطرابات التي أدت إلى هذه الفتن لم يكن المسلمون في تلكم العهود يشكون في عقائدهم وصحة مبادئ الإسلام التي يتبعونها إيمانًا بالله وتصديقًا برسالة محمد ويقينًا بما في كتاب الله من الحق؛ من أجل ذلك كتب الله لهم البقاء طيلة هذه القرون على الرغم مما حصل لهم من ضعف وابتعاد جزئيًا عن المنهج القويم، وكان يكفي أن يأتي قائدٌ مخلصٌ وإمامٌ راسخ كصلاح الدين والإمام ابن تيمية ليحرك حرارة الإيمان في القلوب، فتتّقد وتتحرك، فيتنزل نصر الله كما وعد سبحانه: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، فيصلح الناس وتصفو عقائدهم ويطهرون من الانحرافات، علمًا أن مظاهر هذا الضعف والهزائم لم تورث في نفوسهم شكًا في دينهم، ولم تجبرهم وتدفعهم إلى التطلع إلى ما عند أعدائهم من نظم أو مبادئ أو سلوك؛ لأنهم يعتقدون جازمين أن الحق كل الحق في دين الله عقيدة وسلوكًا ونظام حياة، لم يستكينوا ولم ينهاروا ويسلّموا للأعداء كما حدث للبعثيين في العراق، بمجرد سقوط بعض المدن استسلموا واحدًا تلو الآخر ولم يثبتوا، والسبب فساد العقيدة؛ لأنهم لم يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، بل اتحدوا على نظم ومواثيق مخالفة لدين الله.
انظروا إلى المؤمنين بالكتاب والسنة حينما تدلهم الدنيا عليهم بمصائبها، قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]، وماذا قالوا بعد ذلك؟ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147]. الله أكبر! علموا أن هذه المصائب والنكبات بسبب ذنوبهم وبعدهم عن الله، وليس بسبب ميزان القوى، فاستغفروا الله وطلبوا منه الثبات والنصر على الأعداء، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحبّ المحسنين، ثواب الدنيا بالنصر على الأعداء، وثواب الآخرة بجنةٍ عرضها السماوات والأرض. ما يحلّ بالأمّة من هزائم وما يقع من نكبات ما هو إلا من سنن الله في الابتلاء والتمحيص كما قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 141]، كل هذا ابتلاء لتعودَ الأمة إلى دينها وتعمل بمقتضاه وتردّ كيد الأعداء في نحورهم؛ لأن الله سبحانه قادر على القضاء على الكفرة والملحدين كما قال: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4]. هذه هي عقيدتهم في النصر والهزيمة، وهذا هو حالهم في السراء والضراء، يشعرون بازدراء واحتقار للكفر وأهله، ويعلمون أن هؤلاء الكفار يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، وأنهم كالأنعام بل هم أضل.
أما في الواقع المعاصر فقد اختلّ التصوّر وانعكست الموازيين نحو الكفار، والسبب أن العدوّ عرف سرَّ قوة المسلمين ومصدر عزتهم، فعمل بكل الوسائل من مرئيةٍ ومسموعة ومقروءةٍ على تغيير المفاهيم وإفساد التصورات لدى المسلمين، فاختل الميزان، فوجد مع الأسف من المسلمين ـ أو قل: المتمسلمين ـ من يشكُّ في صلاحية الإسلام عقيدةً وشريعةً في هذه الأيام ويطعن في عدم مواكبته للتغيرات... إلخ، ووجد أيضًا من يوالي أعداء الله وأعداء رسوله الموالاة المحرمة والتي تعتبر ناقضةً للإسلام ووجد... إلخ، إلى أن أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وقلدوا كل ناعق.
فيا أمّة محمد ، إن التخلّي عن هذا الدين أو التشكُّكَ فيه ومحاولة الانفصال عنه خسارةٌ ما بعدها خسارة، إنها القاصمة والحالقة والمدمرة، ولا يعوض عنها شيء أبدًا، إنه التلاشي والذوبان في المجتمعات الكافرة، ثم الدمار والفناء والهلاك والانقراض.
لقد خرج المسلمون الفاتحون مرقعي الثياب ومخصوفي النعال، حكموا العالم بحسن سيرتهم وصدق سريرتهم، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المجادلة: 22]. إن الحياة والعزة والقوة في الصلة بالله والسير على نور من الله والانقياد لأوامره والسمع والطاعة لما يقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران: 193]. إن نور الإيمان في القلوب يجعل المؤمن يميز بين الخير والشر والنفع والضَّر والمعروف والمنكر، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40].
أمة الإسلام، إن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى ما يردّ عليهم اعتزازهم بإيمانهم وثقتهم بأنفسهم بأن تكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر وكلمة الذين كفروا هي السفلى، يجب على المسلمين أن يستشعروا مسؤوليتهم وأن عليهم هداية هذه القطعان الضالة؛ هدايتها إلى الدين القويم والصراط المستقيم، وأول ما يجب أن يُصْلَح ويُصحّح هي العقيدة وتنقى من المفاهيم المغلوطة والتصورات الفاسدة، عندئذ تتحرك حرارة الإيمان فتنبت العزة وتتولد الثقة والطمأنينة، والله غالب على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 137-139]. إذا، شروط العزة والتمكين هو الإيمان والتقوى.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره على إنعامه وإفضاله وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيّدنا ونبينا محمد عبده ورسوله سيد البشر والشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فاتقوا الله أيها الإخوة المؤمنون، واعلموا أنه لا حياة لأمة الإسلام إلا بالإسلام، بقاؤها مرهونٌ بالمحافظة عليه، وفناؤها راجعٌ إلى التفريط فيه، إنه دستورُها ونظامها وهو مصدر فخرها وعزِّها وهو خلاصة الأديان وخاتمتها، ونبيُّ الإسلام محمد خاتم النبيين وأفضل المرسلين، تمت به النعمة وانجلت به الظلمة وكشفت به الغمة، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164]، لم يكن لأمةٍ من الأمم مثله ، أتباعه خير أمة أخرجت للناس، لقد رضيه الله فلن يسخط عليه أبدًا، أتم به نعمة الدارين، وحقَّق به سعادة الحياتين، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]، من حقِّ هذه الأمة أن تفاخر بدينها وتعتزَّ بشريعتها، ألم تتوحّد به الصفوف وتأتلف به القلوب؟! أنقذ الله به البشرية من الردى والذل والعبودية إلى العزة والكرامة.
أيها الأحبة في الله، إن حقيقة هذا الدين نورٌ في البصائر وصلاحٌ في الباطن والظاهر وصدق مع الله وصدقٌ مع الناس، عقيدة صافية وإيمان عميق لا يترك للخرافة أو البدعة مكان، لا خير إلا دلنا عليه ، ولا شر إلا حذرنا منه، ولقد أخبر بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، يقول أبو ذر : لقد قام فينا رسول الله وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.
واعلموا أن علة العلل في عالم اليوم الرضا بالحياة الدنيا والركون إليها والاطمئنان بها وتحقيق كل ما يوصل إلى شهواتها والغفلة عن آيات الله وسنته. إن على المسلمين الرجوع السريع إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم محمد ، فهي مصدر القوة والرجوع إلى التربية النبوية وكيف ربى أهله وأصحابه وأخذ القدوة الحسنة من السيرة العطرة، ويجب أن يعلم أن ما أصاب أمة الإسلام من ضعفٍ وانحطاط لم يكن وليدَ شهر أو سنه، فلسطين العزيزة وأفغانستان الكريمة وأخيرًا العراق الأبية لم ينتزعها البغاة الأعداء في يوم وليلة، ولكنه استغرق عقودًا من السنين تخطيطًا وتآمرًا، وذلك تربية لأجيالهم وإفسادًا لأجيالنا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، فلا بد من عودةٍ صادقة وعمل دائبٍ وروح جادةٍ. إن الشجيرات الصغيرة من أجل أن تنمو وتثمر تحتاج إلى وقتٍ وتعاهد، فكيف بتربية أنفسنا وأولادنا على المنهج الصحيح لكي تنبعث الأمة من جديد؟! وإذا صحت العزائم وصدقت النوايا وسارت القافلة على الطريق الصحيح فلا بد بإذن الله من بلوغ القصد.
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديما، فقال تعالى ولم يزل قائمًا عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...
(1/5671)
فتح الأندلس
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
25/3/1425
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الشعوب الأوربية قبل فتح الأندلس. 2- تحرير الإسلام للإنسان. 3- قصة فتح الأندلس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، حديثنا اليوم عن أمجادٍ للإسلام مضت وذكريات انقضت، حديثنا اليوم عن الفردوس المفقود والأندلس أو ما يعرف اليوم بدولتي إسبانيا والبرتغال وأجزاء من فرنسا وكيف فتحت وانتشر فيها الإسلام لمدة ثمانية قرون أي: ثمانمائة سنة، ثم حين نشبت الخلافات بين الولاة والقواد والشعوب ونسوا الإسلام وتعاليمه وأصبحوا يعيشون من أجل شهواتهم ورغباتهم واستعانوا بجيرانهم من الكفار لقتال إخوانهم وبني عمومتهم قضي عليهم جميعهم وطردوا من إسبانيا وغرناطة شر طردة، واستخدمت ضدهم أساليب تعذيب متوحشة عرفت بمحاكم التفتيش سوف نعرض لها لاحقًا.
كانت هذه الدول قبل الفتح الإسلامي تحت حكومات ظالمة قاسية، وكانت الشعوب الأوربية بشكل عام والإسبانية بشكل خاص مقسمة إلى طبقات مهضومة الحقوق، وتلاقي الإهمال والظلم، وتفرض عليها الضرائب والمكوس، وانقسم الشعب إلى عدة طبقات:
1- طبقة النبلاء ومنها الطبقة الحاكمة.
2- طبقة رجال الكنية والتي تشارك النبلاء في حكم البلاد.
3- طبقة التجار والزراع والملاك الصغار الذين يتحملون العبء الأكبر من الضرائب المختلفة.
4- طبقة عبيد الأرض والذين يتبعون مالك الأرض وتتنقل ملكيتهم من سيد لآخر.
وهكذا استمرت أوروبا في اضطراب وفساد اجتماعي، وعاشت سنين طويلة في ظلام وهمجية وقسوة، وافترستها الفوضى وطحنتها المحن زمن طويلاً.
ويحدثنا البكري في كتابه "المسالك والممالك" ويصف بعض أهالي هذه البلاد بأنهم أهل غدر ودناءةِ أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة واحدة بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم بعد أن يلبسوها إلى إن تتقطّع عليهم. ويؤكّد هذا المعنى المؤرخ الأوربي "لين بول"، ويضيف أنهم يحرقون أنفسهم بالنار إذا مات رئيسهم، ويحرقون دوابهم ويفرحون ويَطْرَبُون عند حرق الميت. ثم يروي حدثًا في هذا شاهده، وكيف ارتضت جارية أن تموت مع سيّدها فتمر بترتيبات تشرب خلالها الخمر وتغني ويفعل بها الأفاعيل الدنيئة البشعة حتى تنتهي بعد ذلك إلى مرحلتها الأخيرة والتي تقتل فيها شرّ قتلة حيث توضع إلى جانب سيدها.
كل هذا وأمثاله كان يجري في إسبانية وأجزاء من أوربا في تلكم الفترة، بينما العالم الإسلامي في نفس هذه الفترة ينعم في رخاء وأمن وسعادة على هدي الإسلام الذي كرم هذا الإنسان ذكرًا وأنثى كبيرًا وصغيرًا من أي جنس دون تمييز، ((كلكم لآدم وآدم من تراب)) ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ، فكان بلال الحبشي الأسود في الإسلام أفضل من السادة، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن أبي بكر وبلال: (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا) يعني بذلك بلالاً، وها هي أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان وزوج الرسول تطوي فراش الرسول أن يجلس عليه أبوها أبو سفيان لأنه مشرك نجس.
وهكذا ولد الإنسان الجديد النظيف في كل شيء في قلب الجزيرة العربية، ولا بد أن تنتقل صفات هذا الإنسان الجديد النظيف إلى جميع أنحاء العالم، وهذا هو هدف الإسلام أن يعمّ التوحيد أنحاء العالم، ومن هنا جاءت فكرة فتح الأندلس وإدخال نور الإسلام إليها، وهي فكرة إسلامية يقال: إنها ترجع إلى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكنها لم تتحقق إلا في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حيث كتب إليه الوالي موسى بن نصير يستأذنه في فتحها، فأمره الخليفة بأن يرسل سرية استكشافية قبل الغزو لمعرفة أوضاع الأعداء واستعداداتهم، فأرسل موسى خمسمائة مجاهد بقيادة القائد طريف بن مالك وهو من المسلمين البربر، وعادت السرية بالأخبار المطمئنة والمشجعة على تنفيذ عملية الفتح. فجهز موسى بن نصير جيشًا من سبعة آلاف مجاهد من المسلمين البربر، ليس فيهم من العرب إلا القليل، واختار طارق بن زياد قائدًا لهذه الحملة، وطارق هذا هو أيضًا من المسلمين البربر، وكان عسكريًا ناجحًا ومجاهدًا صلبًا ومخلصا للإسلام ومتحمسًا لنشره.
عبر طارق بجيشه إلى منطقة جبلية وعرة عرفت فيما بعد باسم جبل طارق، وهناك تجمّع الجيش الإسلامي ووقعت عدة معارك مع قوات القوط وهم أهل البلاد، وانتصر فيها المسلمون بعد ثلاثة أيام من الاقتتال، وكان قائد الروم يسمى: "تدمير"، وقد استخلفه ملك الروم "لذريق"، وكتب هذا القائد "تدمير" إلى ملكه "لذريق" يعلمه بما حصل معه من قتال المسلمين فقال: "إن قومًا لا يدرى أمن أهل الأرض أم من أهل السماء قد وطئوا بلادنا وقد لقيتهم فلتنهض إليَّ بنفسك"، جاء هذا الخبر إلى الملك "لذريق" وهو منشغل بقمع بعض الثورات، فوقع عليه وقع الصاعقة، وبدأ يتجهز للقاء الجيش الإسلامي، ولما علم طارق بأخبار هذا التجمع كتب إلى موسى بن نصير يستنجده، فأرسل إليه جيشًا قرابة خمسة آلاف رجل، فأصبح عدد الجيش الإسلامي اثني عشر ألف، جميعهم من المسلمين البربر باستثناء اثني عشر رجلاً من المسلمين العرب، وهذا يذكرنا بحديث النبي : ((لا يهزم جيش تعداده اثنا عشر ألف من قلة)) أو كما قال ، وخرج "لذريق" إلى لقاء طارق بمائة ألف فارس، ومعه العجل تحمل الأموال والكساء وهو على سرير تحمله ثلاث بغلات مقرونات، وعليه قبة مكلّلة بالدر والياقوت، ومعه أعداد دواب لا تحمل سوى الحبال لكتاف الأسرى من المسلمين، أي: لكي يربطوا بها الأسرى من المسلمين؛ لأنهم كانوا مغرورين بقوتهم وعددهم وعدتهم، وفي الحقيقة أن الجيش القوطي يفوق الجيش الإسلامي مرات ومرات في العدد والعدة ويحارب في بلده ويعرف طرقها ومصادر الإمدادات... إلخ، إلا أن الجيش الإسلامي متفوق عليه بالروح المعنوية والعقيدة المتماسكة، ولولا هذه العقيدة وسموّ الهدف لكانت الغلبة للجيش القوطي.
ولقد بدأت المعركة في يوم الأحد 28 رمضان عام 92هـ إلى يوم الأحد 5 شوال، وكانت المعركة خلال أيامها الثمانية تزداد عنفًا في المجالدة، وقدَّم المسلمون كثيرًا من الشهداء، وكانت قلة منهم يركبون الخيل، بينما توفر لجيش القوط الكثير من الخيل، فحين ما رأى طارق ما الناس فيه من الشدة قام فيهم خطيبًا، فحمد الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثّ المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة، ثم قال: "أيها الناس، أين المفر؟! البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، وأنا فاعل شيئًا فافعلوا كفعلي، والله لأقصدَنَّ طاغيتهم، فإما أن أقْتُلَه وإما أن أقتل دونه، فاحملوا معي"، فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى ظنوا أنه الفناء، وصبر الفريقان جميعا صبرًا عظيما، وامتن الله على المسلمين بالنصر وقتل "لذريق"، وشتت الجيش القوطي، وخذلهم الله وزلزل أقدامهم، وتبعهم المسلمين بالقتل والأسر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهكذا أيها الإخوة تم قتل "لذريق" ملك الروم، وكانت هذه المعركة فاصلة، غَنم فيها المسلمون غنائم كثيرة، ولم يلق المسلمون بعد هذه المعركة مثل هذا التجمع الكثيف، واستمر الفتح عنوة لمدن قرطبة ومالطة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة، وعامل المسلمون أهل هذه المدن بكل إنصاف تاركين لهم حريتهم كاملة، وتلك طبيعة الفتح الإسلامي التي لازمت جميع الفتوحات، وهذا مما يحبب أهل البلاد المفتوحة في الإسلام فيعتنقونه لأنهم اعتادوا في حروبهم مع أعدائهم التقليدين بأن الأعداء يبالغون في النهب والقتل ويعرضون الإتاوة ويأسرون النساء ويعملون شتى أنواع التعذيب، بعكس المسلمين الذين لم تشغلهم الكنوز الكثيرة التي وجدوها ولا السراري والجواري التي ملكوها عن العدل والإنصاف معهم لأنهم أهل عقيدة، وما غزوهم إلا لنشر دين الله وليس لأهداف استعمارية.
ولقد تمكن الوالي موسى بن نصير والقائد طارق بن زياد في فتح معظم الأندلس وأجزاء من بلاد الفال أو ما يسمى اليوم بفرنسا في أقل من أربع سنوات، ومن ثم جاءت الأوامر من الخليفة الوليد بن عبد الملك لموسى وطارق بإيقاف الجهاد والاكتفاء بما تمّ فتحة والعودة إلى دار الخلافة في دمشق، وحين عودتهما كان الخليفة الوليد في مرض الموت، وتوفي وخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك الذي أكرم موسى بن نصير وأخذه معه للحج، إلا أن موسى توفي في طريقه للحج في المدينة النبوية وعمرة 78 سنة، قضى معظمها مجاهدًا في سبيل الله مؤمنًا نقيًا متحمّسًا لنشر الإسلام وحمل رايته إلى كل مكان، وكان قد سأل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة في سبيله أو يموت في المدينة، فاستجاب الله دعاءه فقبضه في المدينة وهو ذاهب إلى الحج رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جناته.
ثم صلوا وسلموا على من أرسله الله رحمة للعالمين نبينا محمد كما أمركم بذلك ربّ العالمين حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...
(1/5672)
الأندلس بعد البعد عن الدين
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
2/4/1425
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الروح الدعوية في المجاهدين الفاتحين للأندلس. 2- تحسن أوضاع الأندلس بعد الفتح الإسلامي. 3- تدهور الأوضاع في الأندلس بعد الركون إلى الدنيا. 4- تفكك الأندلس وسقوطه.
_________
الخطبة الأولى
_________
تحدثنا في الجمعة الماضية كيف تم فتح بلاد الأندلس، وكيف انتشر الإسلام فيها، ولم يكن هذا الفتح حدثًا عسكريًا وسياسيًا فحسب، بل الأهم من ذلك أنه كان فتحًا إنسانيًا وبداية لحدث حضاري فريد لإسبانيا وأوربا على حد سواء، ولا يزال هذا الأثر باقيا حتى يومنا هذا، فلقد قضى الإسلام على الأوضاع التي سبق وصفها قبل الفتح، فلم تعد هناك طبقة حاكمة ومتحكّمة، وزال سلطان الكنيسة ونفوذ رجالها، وانتهت عبودية الأرض والعبيد الذين يباعون مع الأرض، حيث تحرر كل من دخل منهم الإسلام، وقد دخل أكثرهم الإسلام لأن همَّ الفاتحين دومًا العمل على نشر الدين الإسلامي بين الناس أخذًا بقول النبي : ((لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خَيُرٌ لك من حمر النعيم)) ، وقوله : ((بلغوا عني ولو آية)).
كان أول عمل يقوم به الفاتحون هو إقامة المساجد، وهو مركز نشاط المدينة المسلمة وقلبها النابض، وفيه يتمّ التخطيط لكل ما هو نافع للدين والدنيا من إقامة المنازل ومعالمها والطرق والمرافق الأخرى، وغدت القيم والتعاليم الإسلامية في أخلاق الفاتحين والدعاة أمثلة حية متحركة تشاهد عيانًا لجميع الناظرين، فيدخلون في دين الله أفواجًا؛ لأن جميع أفراد الجيش الإسلامي كانوا دعاة لكونه جيش عقيدة، فكلهم يفقه دينه ويهمه خدمة الإسلام ونشره بأقواله وأفعاله، لا سيما أن فيهم كثيرًا من الصحابة والتابعين.
ولقد لمس السكان من غير المسلمين حسن معاملة المسلمين لهم، فأثار ذلك دهشتم وقادهم إلى تقبل الإسلام وحب أهله والاندماج معهم، وكان من نتائج ذلك أن عاش المسلمون مع الآخرين بهذه الأخلاق العالية والمثل الرائعة، لا اعتداء على حقوقهم ولا على أعراضهم، بل عدل ووفاء وتكريم وتعظيم وسماحة وإنصاف، فأدرك الإسبان أن المظالم انتهت وذهبت الطبقية، فأقبلوا على اعتناق هذا الدين القويم، ومن بقي على دينه منهم ارتضى حكم المسلمين وتشريعهم.
وسيبقي أمر انتشار الإسلام في إسبانيا مثيرًا للدهشة أكثر مما يثيره انتصاره الباهر في فتحه لها، وسوف نرى لاحقًا كيف انهار الإسلام في إسبانيا بعد أن بَعُد الحاكم والمحكومون عن الدين وتخلوا عن تعاليمه وشغلتهم الدنيا ونعيمها.
بعودة موسى بن نصير وطارق إلى دمشق وتوقف المدّ الإسلامي في الأندلس انتهى عهد الفتوح وبدأ عهد جديد سمّي عهد الولاة، واستمر حوالي 42 سنة، ويمثل هذا العهد التحول والانتقال إلى حياة جديدة خيرة انتعش الإسلام فيها في الأندلس وكثر معتنقوه، ولقد حدث نزاع قبلي في الثلث الأخير من هذا العهد، ولكنه لم يدم كثيرًا، وسارت الأمور في طريقها وعادت روح الجهاد ترتفع وازداد المد الإسلامي إلى أن سقطت الدولة الأموية في الشام وتفككت الأندلس إلى ستّ وعشرين دويلة صغيرة، وهنا بدأ عهد الإمارة على أجزاء من بلاد الأندلس، وتحسنت الأحوال وساد الهدوء وبدأ عهد الإنتاج والنموّ، إلا أن بعض الولاة سَعَوْا للانفصال عن السلطة المركزية الأندلسية والقضاء عليها بأي ثمن؛ لأنهم بعدوا عن الإسلام واستعانوا بـ"شارلمان" إمبراطور الدولة الفرنجية ليعاونهم في تحقيق هذا الهدف الأثيم ويصبحوا له وكلاء وخدما على الأقاليم يسمعون ويطيعون له شريطة البقاء في مراكزهم أمراء، ويا حبذا الإمارة ولو على الحجارة!
ومن هنا بدأت الفتن والانسلاخ من تعاليم الدين والذي يحثّ على أن يكون الدين هو الفيصل في كل قضية ومُحَكَّمًا في كل شؤون الحياة، فاستحسن "شارلمان" فكرة هؤلاء الخونة، فقام بحملة للاستيلاء على مدينة سَرَقُسْطَه، إلا أن أحد الخونة تيقّظ ضميره وأبى الخيانة وحصّن المدينة، وحين وصلها "شارلمان" حسب الاتفاق وجدها محصنة واستعصت عليه وطال حصارها، فاضطر إلى العودة أدراجه خائبًا خاسرًا وشك في نوايا الخونة وخطط لأخذهم أسرى عنده.
إن ضعفَ الالتزام بمبادئ الدين وتعاليمه عند كثير من المسلمين حكّاما ومحكومين كان من العوامل القوية والمباشرة التي أدّت إلى ضعف المسلمين في الأندلس، ويتأكّد هذا الأمر إذا تذكّرنا أن المسلمين الأوائل لم يدخلوا تلك الديار ولم يحكموها وهم أقوياء أعزاء إلا حينما كان شرع الله مهيمنًا عليهم، وحين استشرت الأنانية وحبّ الذات لا سيما عند عِلية القوم فأصبح لا همّ لأحدهم إلا السعي من أجل تحقيق مصالحة الذاتية وإشباع أنانيته وتثبيت أقدامه في السلطة على حساب المسلمين ومصالحهم وكان بين هؤلاء الحكام والزعماء من التحاسد والتنافس والغيرة ما لا يكون بين الضرائر المترفات وانصبّت جهودهم على توفير ما يخدم مصالحهم الخاصة، فأصبح مألوفًا عند الناس بل ظاهرة ألفها الكبير وتربى عليها الصغير وأنهم يقدّمون في هذا السبيل كل شيء حتى قال أحد الشعراء المعاصرين عنهم: "والله، لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها"، فنحن نراهم يستنجدون بالنصارى ضدّ إخوانهم ويمكنونهم من حرمات المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وإن بعضهم لكي يضمن البقاء على سدة الحكم طلب من بعض القوى النصرانية حمايته مقابل دفع أموال طائلة لهم، هكذا كانت حالة أولئك القوم، فقد غرقوا في مستنقع حب الذات والأنانية ومصالحهم الخاصة عن مصلحه المسلمين، وهذا مما جعلهم يفرضون الضرائب والإتاوات على الشعب من أجل تقديمها للنصارى الذين يقومون بحماية عروشهم، وأن أي دعوة صادقة إلى الجهاد والإصلاح يعدّها خطرًا يهدد كيانهم وصيحات تدعو للقضاء عليهم، فازداد بذلك الضغط على الشعب، ففزع الناس وقلقوا وجعلوا يطلبون النجدة والمساعدة من أي جهة أو شخص كانوا يتوقعون أن لديه القدرة على الإصلاح أو تغيير هذا الواقع المرير.
فلجأ الناس إلى أحد العلماء المعروفين بالصلاح والتقوى، فأنكر هذا على الحكام ووعظهم وبين لهم ما جاء في الشرع وما ينبغي فعله في مثل هذه الظروف، ولكنه قتل غيلة بسبب جرأته، والأمر لله من قبل ومن بعد.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون، ذكرنا بأن الدولة الأندلسية الكبرى تفكّكت إلى ستةٍ عشرين دويلة، صغيرها يحكمها ملوك سمُّوا ملوك الطوائف أو زعماء الفتنة، واقتسموا ألقابَ الخلافة، فمنهم من تسمى بالمعتضد، وبعضهم تسمّى بالمأمون، وآخر تسمى بالمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والمتوكل، إلى آخر الألقاب، ولقد صور ذلك الواقع الشاعر الأندلسي ابن رشيق حينما قال:
مِما يُزهدني فِي أرضِ أندلسٍ سَمَاعُ مقتدرٍ فيها ومعتضدِ
ألقاب مملكةٍ في غير موضعها كالهرِّ يحكي انتفاخًا صولة الأسد
وكانت السمة الغالبة في علاقات ملوك الطوائف فيما بينهم هي العداء المستحكم والخصام الدائم والتوسع على حساب القوى المجاورة مهما كانت الوسيلة المؤدية إلى ذلك، سواء أكان ذلك بالحرب أم بالخيانة أم بالمؤامرات أم يغيرها.
لقد وصف المؤرخون أولئك القوم بأن تصرفاتهم بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي الذي يأمر بالقسط والعدل والإحسان والرحمة، حيث أدى غياب الوازع الديني من النفوس إلى حدوث خلل عام بدت صوره ومظاهره واضحة للعيان، ولعل من أهمها سوء علاقات ملوك الطوائف بمن ولاهم الله أمرهم من المسلمين، حيث كانت تلك العلاقات تقوم على التسلط والقهر والظلم والاستعلاء، وكانوا مستبدين متساهلين في سفك الدماء، وذكر المراكشي أن المعتضد بالله العابدي قتل ابنه واغتصب مال رجل أعمى ثم قتله وقتل رجلاً بعد ذلك من المؤذّنين فرّ منة إلى مدينة أخرى. وأفاضت كتب التاريخ في وصف حديقة الرؤوس المحنطة التي أودعها هام الملوك والرؤساء الذين أبادهم بسيفه. هكذا كان منهج المعتضد بن عباد مع الرعية، وهذا نتيجة طبيعية للبعد عن منهج الله وتحكيمه في كل شؤون الحياة؛ ولهذا وصفه ابن بسام بأنه قُطْبُ رحى الفتنة ومنتهى غاية المحنة، إذ كان لا يتورّع عن أي وسيلة لتحقيق غايته مهما كانت مجافية لمبادئ الأخلاق والشهامة، ولم يكن هذا السلوك خاصًا بالمعتضد بالله أو بدولة بني عباد، بل كان مستشريا بين معظم ملوك الطوائف، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديمًا، فقال تعالى ولم يزال قائلا عليما وآمرًا حكيما تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفا لقدر نبيه وتعظيما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5673)
الأندلس ومعركة الزلاقة
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
9/4/1425
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تجمع القوى النصرانية لاسترجاع الأندلس. 2- تحالف ملوك الطوائف مع النصارى. 3- عزم "ألفونس" على الاستيلاء على إشبيلية. 4- أحداث معركة الزلاقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
ذكرنا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ في خطبتنا السابقة كيف أصبحت أحوال المسلمين في الأندلس حينما بعدوا عن تعاليم دينهم وأصبحوا متفرقين يتنافسون على الدنيا ويتقاتلون من أجلها، بينما النصارى المجاورون لهم يقيمون اتحادا بينهم على يد الإمبراطور "فرديناند الأول" الذي خطط لاسترداد الأندلس وإرجاعها إلى النصرانية بدلاً من الإسلام، وواصل ابنه "ألفونس السادس" هذه الحرب حيث بلغت ذروتها مع استيلاء "ألفونس" على مدينة طليطلة أهم المدن الأندلسية وأكبر قواعد المسلمين هناك، وكان سقوطها نذيرًا بأسوأ العواقب لبقية أجزاء الأندلس، حيث إن "ألفونس" قال بكل غطرسة بأنه لن يهدأ له بال حتى يستردّ الأندلس ويخضع قرطبة لسلطانه وينقل عاصمة ملكه إلى طليطة.
وكان أسوأ ما في هذه الكارثة المروّعة أن ملوك الطوائف المسلمين أو بالأحرى المتمسلمين لم يهبطوا لنجدة إخوانهم في طليطلة أو مساعدتهم، بل على العكس وقفوا موقفًا مخزيًا لدرجة أن بعضهم عرض على "ألفونس" تقديم العون والمساعدة، ورأى البعض الآخر أنه لكي يستمر في حكم مملكته آمنًا يجب أن يوثق أواصر الصلة والمودة مع "ألفونس" ويحالفه، ليس ذلك فقط بل يقدّم له الجزية السنوية، وشاركت بعض قوات أمراء الطوائف في الحملة على طليطلة مع "ألفونس"، وهناك والعياذ بالله من قدّم ابنته لتكون زوجة لـ"ألفونس".
انظروا إلى حالة المسلمين حينما يبتعدون عن منهج ربهم كيف يصير حالهم وكيف تتبدل وتنمسخ مبادئهم وشهامتهم، فيصبح العار أمرًا ثانويا ما دام يوصل إلى شهوات الدنيا.
ولقد أدرك "ألفونس" حالة الضعف والجبن التي يعاني منها أمراء الطوائف والتي تعود في الأساس إلى حياة الترف والمتاع والركون إلى الدنيا وكراهة الحرب والجهاد حتى وإن كان هو السبيل الوحيد للكرامة والحفاظ على البقية الباقية من الدين والمروءة.
وبدا ضعف ملوك الطوائف واضحًا ملموسا مما شجع "ألفونس" فاستهان بهم واحتقرهم وقال عنهم: "كيف أترك قومًا مجانين تسمّى كل واحدٍ منهم باسم خلفائهم وملوكهم وكل واحد منهم لا يَسُلُّ للدفاع عن نفسه سيفًا ولا يرفع عن رعيته ضيما ولا حيفا؟!" بينما أسلافه السابقون مثل "تدمير" و"لوذريق" قالوا عن سلفنا الصالح حينما غزوهم وأدخلوهم الإسلام: "إن قومًا لا ندري أمن أهل الأرض أم من أهل السماء قد وطئوا بلادنا". الله أكبر! انظروا إلى الإيمان حينما يلامس شِغَاف القلوب ماذا يفعل، فلقد قذف الله الرعب في قلوب أعدائهم فهابوهم وخافوهم لأنهم خافوا الله واتبعوا كتابه وسنته نبيه.
وبعد الاستيلاء على مملكة طليطلة طمع "ألفونس" في الاستيلاء على مملكة إشبيلية المجاورة له، والتي يحكمها المعتمد بن عباد، وهو أحد أمراء الطوائف، وكان هذا الأمير قد استجاب للدعوات المنادية لجمع الشمل وتوحيد الأندلس عندما أدرك فداحة خطئه في التعاون مع "ألفونس" ومحالفته ضد أمراء الطوائف الآخرين، ولاح له المصير المحتوم الذي سينحدر إليه بعد سقوط طليطلة إذا لم تتداركه يد العناية الإلهية بعون أو نجدة غير منتظرة.
وبدأ "ألفونس" يتحرش بابن عباد ويوجد المبررات لغزوه، فأرسل السفير الخاص به وهو يهوديّ يسمى ابن شاليب يطلب الجزية السنوية، فلما أعطوه الجزية رفضها بحجة أنها من عيار ذهبي ناقص وهدد بأنه إذا لم يقدّم له المال من عيار جيد سوف يفعل وسوف يفعل وهدد باحتلال إشبيلية، ولما علم المعتمد بن عباد بما صدر عن هذا اليهودي أمر بصلبه وزجّ بمن كانوا معه في السجن، فعلم "ألفونس" فاستشاط غضبا وبعث سراياه وجنوده للانتقام والسلب والنهب، وخطط لغزو إشبيلية، وحشد المعتمد رجاله وقوّى جيشه وأصلح حصونه واتخذ كل وسيلة للدفاع عن أرضه بعدما أيقن أن "ألفونس" يعتزم العمل على إبادتهم جميعًا وأن المسلمين بقدرتهم ومواردهم المحدودة لن يستطيعوا له دفعا؛ لذا قرر المعتمد أن يستنصر بالأمير يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين في المغرب وهو من البربر لمقاتلة هؤلاء النصارى، وكانت دولة المرابطين دولة جهاد وحرب، غير أن هذا الرأي واجه معارضة من بعض الأمراء الجبناء عند ابن عباد الذين رأوا في المفاوضات والصلح والمهادنة مع النصارى وسيلة ٍ للأمن والاستقرار والعيش الذليل، ورأوا في المرابطين عدوًا جديدًا قد يسلب ملكهم، وقال ابن المعتمد لأبية: "يا أبتِ، أَتُدْخِلُ علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟!" فرد عليه المعتمد بعد أن استفاد من تجاربه السابقة مع الكافرين: "أي بني، والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدتُ الأندلس دار كفر تركتها للنصارى فتقوم اللعنة عليَّ في الإسلام مثلما قامت على غيري، إنَّ رعيي الجمال عند ابن تاشفين خير عندي والله من رعي الخنازير عند ألفونس"، وناشد المعتمد بن عباد المرابطين لنجدتهم وعبر إلى المغرب والتقى بابن تاشفين والذي وعده خيرًا وأجابه إلى ما طلب.
حشد يوسف بن تاشفين جنده وعتاده، ثم بعث بقوة من فرسانه بقيادة داود بن عائشة وهو بربري، فعبر البحر وما كادت السفن تتوسّط ماء مضيق جبل طارق حتى اضطرب البحر وتعالت الأمواج، فنهض ابن تاشفين ورفع يده إلى السماء وناشد ملك الكون العظيم بقوله: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهِّل عليّ جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعّبه علي حتى لا أجوزه"، فهدأت ثائرة البحر وسارت السفن في ريح طيبة حتى رست على الشاطئ وهبط منها يوسف وخرَّ لله ساجدا شاكرًا لنعمائه واستجابته لدعائه. وهذا هو التوكل والالتجاء الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى في السراء والضراء.
ولما بلغ "ألفونس" نبأ تقدّم المسلمين لملاقاته استدعى قائده "ألبرهانس" وبعث مستغيثًا بجميع النصارى في شمال إسبانيا، فتقاطرت عليه فرسان النصارى من إيطاليا وفرنسا، ونظر "ألفونس" إلى جيشه الذي يزيد على خمسين ألف فارس وقال بغرور وعجب: "بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء"، أما عدد جيش المسلمين فكما تقول المصادر التاريخية يقرب عددهم من نصف عدد الكفار، وهم كالعادة أقلّ عددًا وعدة، ولكن الإيمان بالله والتوكل عليه هو مصدر قوتهم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أمرنا بالاجتماع على دينه والاعتصام بحبله، ونهانا عن التفرق والاختلاف؛ لما في الاجتماع من القوة والألفة وما في الافتراق من الضعف والنفرة، أحمده على نعمةِ الإسلام والإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلى جميع الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلَّم تسليمًا كثيرًا على الدوام.
أيها الإخوة المؤمنون، وهكذا استعدّ المسلمون للقتال، وكانت قوات المسلمين تنقسم إلى وحدتين كبيرتين، وكانت المقدمة بقيادة المعتمد بن عباد، والمؤخرة تحت قيادة المرابطين والذين انقسموا إلى فرقتين: فرقة فرسان البربر بقيادة داود بن عائشة، والفرقة الأخرى بقيادة يوسف بن تاشفين.
ولبث الجيش الإسلامي والجيش النصراني في اتجاه الآخر ثلاثة أيام، وبات الناس ليلتهم على أُهْبَةٍ واحتراس متيقظين من كيد العدو، وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رُوَيْملَة القرطبي فرحا مسرورًا يقول: إنه رأى النبي فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة الغد، وتأهب ودعا ودهن رأسه وتطيّب، واستعدّ الناس وانتهى الأمر بنشوب المعركة مع أول ضوء من صباح يوم الجمعة بهجوم خاطف شنّه فرسان النصارى على مقدمة المسلمين المؤلفة من القوات الأندلسية، فاختل جيش المسلمين وارتدّ بعض فرسانهم، ولم يثبت إلا المعتمد بن عباد في مجموعة قليلة من الفرسان، وقاتلوا بشدة وأُثخِِن المعتمد بالجراح وكثر القتل في جند الأندلس، وكادت تحلّ بهم الهزيمة، وأمام هذه المحنة دفع يوسف بقوات البربر التي يقودها أبرع قواده، فتغير سير المعركة واستردّ المسلمون ثباتهم وأثخنوا النصارى قتلاً، وظهرت فيها براعة الجيش الإسلامي والقائدين ابن عباد وابن تاشفين، ولقد أثبت ابن تاشفين بأنه ليس فقط فارسًا صوالاً جوالاً، بل ذا مقدرة عسكرية يبتكر الخطط حسب الأحوال.
فلما رأى تخلل جيش النصارى وجّه ضربته الأخيرة، إذ أمر حرسه الأسود وقوامه أربعة آلاف مقاتل من ذوي البأس الشديد والرغبة في الجهاد، أمرهم بالنزول إلى أرض المعركة، فأكثروا القتل في النصارى واستطاع أحدهم أن يطعن "ألفونس" في مخدعه طعنة نافذة كادت تودي بحياته، فبادر "ألفونس" بالهروب مع قلة من فرسانه تحت جنح الظلام، معظمهم جرحى ماتوا في الطريق، ولم ينجوا منهم إلا مائة فارس.
وكان انتصار المسلمين في هذه المعركة التي دامت يومًا واحدًا وسميت بمعركة الزلاقة، كان نصرا عظيما ذاعت أنباؤه في الأندلس والمغرب، واستبشر المسلمون به خيرًا عظيما، ونتج عن ذلك أن توقف ملوك الطوائف عن دفع الجزية لـ"ألفونس" ومدت في عمر الإسلام بالأندلس حوالي قرنين ونصف قرن من الزمان، كل ذلك بفضل الله ثم بالثبات على مجاهدة الأعداء.
ثم صلوا وسلموا على صفوة خلق الله محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في بيت المقدس وفي فلسطين، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا ومؤيّدا وظهيرًا يا أرحم الراحمين، اللهم انصرهم في أفغانستان وفي الشيشان وفي العراق وفي كل مكان...
(1/5674)
الأندلس وسقوط غرناطة
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
30/4/1425
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فساد العلاقات بين المسلمين في الأندلس. 2- انتشار روح العصبية الجاهلية. 3- شروط ملوك النصارى على خلفاء المسلمين بالأندلس. 4- استيلاء النصارى على غرناطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا زلنا ـ أيها الأحبة في الله ـ نتحدث عن أوضاع المسلمين في الأندلس بعد أن فسدت أحوالهم وتقطّعت العلاقات فيما بينهم حينما بعدوا عن دين الله، بينما إخوانهم الفاتحون حينما دخلوا بلاد الأندلس كانوا قد انصهروا في بوتقة الإسلام وأصبحوا حقيقة إخوانًا وكان شعارهم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، ومعيارهم في المفاضلة هو التقوى والعمل الصالح؛ ولهذا عملوا جميعًا تحت راية واحدة وهي أن يكون الدين كلّه لله؛ ونتيجة لهذا الشعور وهو البعد عن التعصّب للجنس أو القبيلة استطاع أولئك الأبطال أن يكتسحوا أرض العدوّ وينشروا هذا الدين الحنيف، وكان شعورهم هذا ناتجًا عن قناعة بأن مهمتهم عالمية وأن كلمة الله يجب أن تبلغ ما بلغ الليل والنهار، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28]، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
هكذا كان واقع مسلمي الأندلس خلال القرون المفضّلة، ثم بدأت بعد ذلك عوامل الضعف تنخر في المجتمع الإسلامي، وكان من أشدها فتكًا روح العصبية القبلية، ومن ثم دخلت العصبية القبلية منعطفًا خطيرًا حينما أصبحت بين العرب وبين البربر، وقد أمر أحد الحكام بملاحقة البربر والفتك بهم، كما أمر مناديه أن ينادي في الناس أن من أتى برأس بربري فله كذا وكذا، فتسارع الناس في قتل من قدروا عليه، فلم يبق تاجر ولا جندي إلا عمل مجهوده في ذلك، فنهبت ديار البربر وهُتكت أعراضهم وسُبيت نساؤهم حتى إنهم دخلوا على المجاهد وسنار البرزالي وهو ممن له باع كبير في الجهاد، فذبح على فراشه في داره.
هكذا كانت بداية ذلك التحوّل الخطير بين أجناس المجتمع الإسلامي بالأندلس؛ مما أدى إلى حرب أهلية بينهم، واستغل النصارى هذا الخلاف واستفادوا منه وسخّروه لخدمة مصالحهم، مما أضعف المسلمين ومكّن العدو النصراني منهم. ولم يكن الخروج من هذه النكبة القبلية سهلاً، فلقد سُفكت الدماء وانتشرت الثارات بينهم وفسدت القلوب مما حدث حتى لو أن شخصًا حاول أو ذكر فكرة الصلح بين القبائل يقتل.
إنّ هذا الوباء الذي حلّ بساحة المسلمين في الأندلس كان من أكبر الأوجاع التي عملت على إضعافهم معنويًا وماديًا، ومن ثم عجزوا عن إدارة شؤونهم فضلاً عن مقاومة أعدائهم والتصدي لهم، فشجع ذلك النصارى على التدخل فيما بين المسلمين، وزادوا من هوة الخلاف بينهم، كما أعملوا السيوف في رقابهم، لا سيما حينما وقفوا مع الخليفة المهديّ ضدّ إخوانه في الدين من البربر، واستفادوا من هذا الخلاف، وأَملَوا شروطهم على الخليفة فقبلها، ومن أهمها أن يسلّمهم مدينه من المدن الساحلية ذات الحصون المنيعة ويحوّلوا مسجدها إلى كنيسة ففعل، وأن يقدّم لهم جزية سنويّة ويوفّر ما يلزمهم من المؤَن والطعام والشراب ففعل، كما اشترطوا عليه أن للنصارى كلّ ما حازوه من عسكر إخوانه البربر من سلاح وكراع، وأن نساء البربر ودماءهم وأموالهم حلال لهم لا يحول أحد ولا يتدخل بينهم.
وعلى الرغم من تعنت النصارى في شروطهم فقد قبلها المهديّ طمعًا في الوصول إلى الحكم، ضاربًا بمصلحة البلاد والعباد الدينية والدنيوية عرض الحائط، ودون أن يحسب حسابًا للعواقب السيئة المترتبة على هذا العمل الخسيس، واستمر الوضع في جميع أنحاء الأندلس على هذه الكيفية، يستعين المسلم بالكافر ضد إخوانه في الدين، والنصارى يشترطون ويتوسّعون في الحصول على مزيد من المدن والحصون المهمّة حتى لم يبق للمسلمين إلا مملكة غرناطة التي تحصّن بعض من قبائل بني الحمر ونجحوا في الاستقرار فيها لمدة قرنين من الزمان، إلا أن النصارى لم يتوقّفوا عن التحرش بهم والإيقاع بينهم، إلى أن اشتعلت الفتن بينهم مرة أخرى، حيث استعان الأمير أبو الحجاج بملك قشتاله طالبا العون على انتزاع العرش من ابن عمه السلطان الأيسر في مقابل تعهّده بأن يحكم غرناطة باسم ملك قشتاله، وكانت فرصة ذهبية استغلها الملك النصراني ووافق عليها بشروط مجحفة ومهينة للطرف المسلم، وأولها أن يكتب الأمير إقرارا بأنه من أتباع ملك قشتاله ويحكم باسمه، وأن يتعهّد هذا الأمير أن يدفع جزية سنوية مقدارها عشرون ألف دينار ذهبي، وأن يقدم ألفين وخمسمائة فارس إلى ملك قشتاله لمحاربه أعدائه سواء أكانوا من المسلمين أو النصارى.
وطبقًا لهذه العهود والمواثيق وتنفيذًا لبنودها تحركت القوات القشتاليه لمعاونة الأمير أبي الحجاج ضد ابن عمه السلطان الأيسر، ونشبت بينهما معركة شديدة انتهت بهزيمة الأيسر ودخول الحجاج غرناطة ظافرًا بمؤازرة النصارى. وكان أول عمل عمله بعد جلوسه على العرش أن جدّد المعاهدة السابقة مع ملك قشتاله بما فيها من تنازلات مهينة. وما كان أحد يظن أن شمس الإسلام التي أشرقت على أرض الأندلس ستغرب عنها يومًا، وأن الأذان الصادح من فوق المآذن سيتحول إلى أصوات أجراس من فوق أعواد الكنائس ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن هذه المعاهدة كانت مسمار النعش والخطوة الخطيرة لإزالة الوجود الإسلامي من إسبانيا بعد سنوات قليلة، وهذا ما حدث عندما أرسل الملكان الكاثوليكيان الملك "فرديناند الخامس" والملكة "إيزابيلا" إلى أبي عبد الله الصغير أمير غرناطة يطلبان منه تسليم مدينة الحمراء مقرّ الملك والحكم وأن يبقى هو مقيمًا في غرناطة في طاعتهما وتحت حمايتهما أو أن يقتطعاه أيّ مدينة أخرى يختار الإقامة فيها.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القاهر فوق عباده وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
وهكذا تجرأ النصارى وطلبوا من أبي عبد الله تسليم مدينة الحمراء وقصر الحكم، وفي البداية رفض وقامت معارك شديدة وحاصر النصارى غرناطة بجيش قوامه خمسون ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، وضربوا حصارًا شديدًا حولها، وأتلفت الحقول الزراعية القريبة ليمنع عنها المؤن والغذاء، وقطع كل اتصال لها بالخارج سواء من البحر والبر، ولبثت المدينة عدة أشهر تعاني الحصار الشديد حتى دخل الشتاء ونزلت الثلوج واشتد بالناس الجوع والبلاء وقلت المؤن، فالأحوال تزداد سوءًا، والمسلمون تتفاقم محنتهم، وانقطع الأمل في وصول نجدة من بلاد المغرب المجاورة بسبب الحصار الشديد. فلما ازدادت الأحوال تعقيدًا تداعت أصوات من بعض القادة والوجهاء بضرورة التسليم حفاظًا على الأرواح، وكان السلطان أبو عبد الله وبعض وزراء يتزعمون هذه الدعوى الجبانة، وضاع في زحام تلك الدعوة المتخاذلة أصوات البطولة والفداء في النفوس الأبية التي رفضت هذا الاستسلام المهين، ولكن أصوات المسؤولين نجحت في اختيار الوزير أبي القاسم لمهمة التفاوض مع الملكين بشروط التسليم، وفي نفس الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات التسليم عقدت معاهدة سرية أخرى منح فيه السلطان أبو عبد الله وبعض الوزراء منحًا خاصة ما بين ضياع وأموال نقدية.
أما شروط التسليم فقد بلغت 56 مادة، منها أن يتعهّد أبو عبد الله بتسليم غرناطة إلى الملكين خلال ستين يومًا، وأن يؤمّن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يتمتعوا بحرية إقامة شعائرهم من صلاة وصيام، وأن لا يدخل نصرانيّ مسجدًا أو دار مسلم، وأن لا يُوَلَّى على المسلمين نصراني أو يهودي.
وكل هذه العهود والمواثيق لم تكن سوى ستار للغدر والخيانة، فلقد تمّ نقض كلّ هذه الشروط وأُجبِر المسلمون على التنصر أو القتل، ولما كشفت أنباء الموافقة على تسليم غرناطة وأنباء المعاهدة السرية مع السلطان أبي عبد الله غضب الشعب وأصر على القتال، فخشي السلطان أن تفلت الأمور من يديه، فسلم المدينة قبل الموعد المحدد، وفي هذا اليوم الحزين دخلت القوات النصرانية إلى المدينة، وأطلقت المدافع في قصر الحمراء طلقاتها إيذانًا بالاستعداد للتسليم، ورفعت فوق برج القصر الأعلى صليبًا فضيًا كبيرًا، وأعلن المنادي بصوت قوي يَصُمُّ الآذان أن غرناطة عادت نصرانية كما كانت من قبل. وباستيلاء النصارى على غرناطة طويت آخر صفحة من تاريخ دولة المسلمين في الأندلس، وقضي على الحضارة الأندلسية بسبب البعد عن الدين والانغماس في متع الدنيا وترك الجهاد، وغادر آخر سلاطين غرناطة عن غرناطة، وحين ابتعد عنها توقف والتفت إلى قصورها وبكى بكاءً مريرًا، فقالت له والدته: "ابك مثل النساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال".
ثم صلوا على إمام المجاهدين وسيد الغر المحجلين الذي قال: ((ما ترك قوم الجهاد إلا ذَلُّو)).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5675)
سقوط غرناطة ومحاكم التفتيش
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
14/5/1425
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التشابه بين الوضع الحالي والوضع الذي كان في الأندلس. 2- نقض ملوك النصارى لعهود والمواقيت. 3- جرائم ملوك النصارى بعد سقوط الأندلس. 4- محاكم التفتيش. 5- الحقد الصليبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الأحبة، تحدثنا في خطبنا السابقة عن سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وفي الحقيقة نحن أكثرنا الحديث عن الأندلس والسبب أن وضع الأندلس يشبه إلى حدّ ما وضع الجزيرة العربية؛ لأن الأندلس حكمت بالإسلام أكثر من ثمانمائة عام، وظهرت منها حضارة إسلامية رائعة، ولكنهم بَعُدُوا عن الإسلام تدريجيًا إلى أن تمزقت الأندلس إلى دويلات وإمارات متفرقة متخاصمة، ونجح الكفار من الاستفادة من هذه الأحوال، وقضوا على المسلمين، وعادت نصرانية، وكذلك الجزيرة العربية كانت دولة إسلامية واحدة وتحت قيادة إسلامية واحدة هي الدولة العثمانية، ولكن أعداء الدين من يهود ونصارى نجحوا في تدمير الخلافة الإسلامية قبل سبعين سنة تقريبًا، وقسّموا العالم العربيّ وليس الجزيرة فقط إلى دويلات وإمارات متفرقة ومختلفة نراها اليوم ونعيش نحن وإياكم أحداثها، وذلك في معاهدات سرية عرفت بمعاهدة "سايكس أند بيكو"، ونجحوا في انتزاع أرض فلسطين من المسلمين، وزرعوا مكانها يهود أو ما تسمى اليوم بدولة إسرائيل، وهل الأمر يتوقف عند هذا التقسيم؟ بالطبع: لا، إنهم يريدون أن يحقّقوا ما كتبوه في المعاهدات والاتفاقيات السرية والعلنية بأن أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل.
وكلكم يعيش أحداث العراق والمحاولات الدولية في تقسيمه الآن، والله يعلم ماذا يخططون بعد ذلك.
فيا أيها المسلمون، لم تكن مصيبة الأمة الإسلامية تنتهي بزوال سلطانهم من الأندلس وسقوط آخر معقل لهم هناك وهي مملكة غرناطة، بل إنها مصيبة جديدة تبدأ، إنها مأساة المسلمين هناك والثبات على الدين ضد الفناء الذي كان يريده لهم النصارى وخططوا لتحقيقه بوسائل عدة، وظلّ المسلمون يقاومون ما يزيد على القرن دفاعًا عن دينهم وعقيدتهم، أما النصارى وبعدما استتبّت الأمور للملكين النصرانيين في السيطرة الكاملة على غرناطة وزال ما كانا يخشيانه من احتمال انتقام المسلمين وانتفاضتهم ضدها، فأحكموا قبضتهم وشرعوا في نقض العهود التي لم تعطَ للمسلمين إلا تعجيلاً لهم بالاستسلام، ولقد تعهد الملكَان الكاثوليكيان في المعاهدة أنهما يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقعانه باسميهما وَيمهرَانِه بخاتميهما، وكرر هذا التعهد باسم ولدهما الأمير وسائر عظماء الدولة بالمحافظة على هذا العهد وأن لا يعمل ضده شيء أو ينقض منه شيء الآن وإلى الأبد، وأن يحافظا عليه بندًا بندًا، وذيل هذا التوكيد بالإضافة إلى توقيع الملكين بتوقيع ولدهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء.
فصدق المسلمون هذه العهود وسلّموا أسلحتهم حتى الأمواس والسكاكين، وبعد مدة بسيطة بدأ النقض لكل ما جاء في الاتفاقية عن قصد مسبق وتخطيط مدبّر، تُعاوِنهما في ذلك السلطات الكنسية ليأخذ صفة رسمية، فيطيعها الأفراد.
بعد هذه الاتفاقية وتسليم غرناطة بقيت أعداد كبيرة ـ ملايين من المسلمين ـ لم ترحل إلى المغرب المجاور ثقةً ببنود المعاهدة بأنهم آمنون في أوطانهم ولهم حرية العبادة في مساجدهم إلى آخر ما في المعاهدة، فلما رأى النصارى أن المسلمين راغبون الإقامةَ في غرناطة استطالوا عليهم وأخذوا منازلهم وأُمروا بترك مساكنهم والخروج من غرناطة إلى القرى والصحارى وفرضت عليهم المغارم الثقيلة وزالت حُرْمَة المسلمين وأدركهم الهوان والذلة، فخرجوا أذلَّة صاغرين، وأُجبروا على التنصر وأكرهوا عليه، فدخلوا فيه كرهًا بقوة السلاح، وجعلت في المساجد النواقيس والصلبان، وصارت الأندلس دار كفر ولم يبق من يستطيع أن يجهر بكلمة التوحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد كان القساوسة يقولون للمسلم: "إنَّ جَدَكَ كان نصرانيًا فأسْلَم، فارجع أنت للنصرانية"، فإن أبى قتل.
إن هذا الهوان والذل الذي مرّ به المسلمون في الأندلس ويمر به المسلمون اليوم في كثير من البلاد ما كان ليحدث لو أن المسلمين لم يصدقوا عهود ومواثيق النصارى؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنهم لا يوفون بالعهود وينقضون الميثاق كما قال عنهم: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 100]، وبين سبحانه وتعالى حال المسلمين اليوم إذا تمكن منهم اليهود أو النصارى بالمصير الأسود فقال: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 8].
الله أكبر! تأملوا هذه الآيات جيدًا، إن تمكنوا منكم وظَفِرُوا بكم وأصبحتم تحت سلطتهم ونفوذهم فإنهم لا يراعون حِلْفًا ولا عهدًا ولا رحمًا ولا ضمانًا ولا أمنًا، وقد يرضونكم بأفواههم مكرًا وخداعًا وبمعسول كلامهم، ولكن قلوبهم تأبى وترفض إلا الكذب والخداع، وهذا شيءٌ جُبلُوا عليه وأصبح ديدنهم وليس حالة مؤقتة أو فردية، وسبحان الله! من الذي يشرح لنا ويبين لنا صفاتهم؟! إنه الله خالقنا وخالقهم، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وبعد ذلك نصدقهم! ولكن العيب فيمن يصدقهم منا ويظن فيهم أو منهم خيرًا.
دعونا نستعرض بعضًا من العهود والمواثيق التي عملت مع المسلمين في الأندلس ثم نقضت بعد الحصول على ما يريدون: فحينما دخل "ألفونس السادس" طليطلة أعطى أهلها الأمان بضمان حرياتهم واحترام شعائر دينهم وحقوقهم وحرمة مساجدهم، لكن بعد شهرين فقط نقض هذه العهود وحول مسجد طليطلة الجامع إلى كنيسة بقوة السلاح، وحطم المحراب، علمًا بأنه قد نصّ في شروط تسليم المدينة أن يحتفظ المسلمون إلى الأبد بمسجدهم الجامع، فلقد بدأ ينقض العهود بتحويل المساجد إلى كنائس كخطوة أولى، فلما لم يتحرك المسلمون للدفاع عن بيوت الله تطور اعتداؤهم إلى انتهاك الأعراض وقتل الأنفس كما فعل النورمانديون حينما دخلوا مدينة "بربشتر"، واستباحوا المدينة الباسلة، وكان عدد القتلى ما بين أربعين إلى مائة ألف، ثم بعد ذلك أعطى قائد الحملة الأمان للمسلمين، لكنه حين رأى كثرة أهل المدينة أمر جنده أن تقلّل أعدادهم وتخفّف منهم حصادًا بالسيف، فأطيح برؤوس أكثر من ستة آلاف من المسلمين العزّل، ثم إنهم نهبوا المدينة وانتهكوا أعراض النساء أمام الأزواج والآباء وهم مقيّدون بالسلاسل، واختار قائد الحملة ـ لعنة الله عليه ـ من أبكار جواري المسلمين وأهل الحسن منهنّ خمسة آلاف جارية، وأهداهن إلى صاحب القسطنطينية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي قال في محكم التنزيل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام: 42]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به القمة وجاهد في الله حق جهاده، وقال: ((قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك)) ، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
هكذا ـ أيها الأحبة في الله ـ استمرّ التنصير بقوة السلاح، وأحرقت مئات بل آلاف الكتب الإسلامية، ومنع التخاطب باللغة العربية ولبس اللباس العربي، ومن يخالف يحرق حيًا، إلا أن الأحبار والقساوسة لم يقتنعوا بتنصير المسلمين الظاهري، بل كانوا يرمون إلى إبادتهم، فأنشئت محاكم التفتيش بمرسوم بابوي، وقد مورست في هذه المحاكم أشد أنواع التعذيب، وأزهقت آلاف الأرواح، حتى إن بعض الضحايا ينفذ فيه حكم الإعدام حرقًا بالنار في احتفال يشهده الملك والأحبار، واستمرّت محاكم التفتيش في قتل وتعذيب المسلمين طوال القرن السادس عشر الميلادي، إلى أن انتهى الوجود الإسلاميّ في الأندلس، فلم يبق مسلم واحد يظهر إسلامه.
وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس أرسل "نابليون" حملته إلى إسبانيا، وأصدر مرسومًا بإلغاء محاكم التفتيش، وأرسل حملات مكثّفة للكنائس والأديرة التي عرفت بأنها أماكن تعذيب وحرق للبشر.
ويحدثنا أحد الضباط الفرنسيين عن حادثة اكتشفها بنفسه حينما دخل هو وجنوده إلى أحد الأديرة، ففتش جميع الغرف ولم يجد ما يثبت أنهم يعذبون أحدا، وقبل أن يغادروا طلب منه أحد الضباط بأن يفحص أرضيات الغرف، فرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض وصبوا الماء بكثرة على أرضية إحدى الغرف فاختفى الماء بثواني وابتلعته الأرض، فصفق أحد الضباط فرحًا وقال: ها هو الباب قد انكشف، وكان قطعة من أرض الغرفة يفتح بطريقة ماكرة وبجواره سلم طويل نزلنا منه إلى أرض واسعة، وهناك غرفة كبيرة مرعبة وعلى جدرانها سلاسل وأغلال، ورأينا غرفًا بحجم الإنسان، بعضها عمودي يقف فيه السجين حتى يموت، وبعضها أفقي يبقى فيها السجين ممددًا حتى الموت، وعثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية في أغلالها، وعثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام وسحق الجسم وتهشيمه كله ليخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة واللحم المفروم، وآلات أخرى على شكل تابوت فيه سكاكين حادة يلقى فيها السجين ثم يطبق عليه التابوت وتمزق السكاكين جميع أعضائه، وكذلك وجدنا آلات فيها كلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشدّ ليخرج اللسان معها، وآلات أخرى كثيرة ورهيبة.
وهذا هو الحقد الصليبي اليهودي على المسلمين الذي لا يتغير في كل زمان ومكان، تذكروا ماذا فعلوا في إخواننا في البوسنة والهرسك، وماذا فعلوا في كسوفا، كانوا يخرجون النساء المسلمات عاريات على الطرقات وفي الثلوج، ثم يبقرون بطونهن علنًا، وماذا فعل العالم لنا؟! لا شيء سوى الاستنكار والتنديد وتُنهى القضية، ثم ماذا فعلوا بإخواننا في فلسطين؟ أبادوهم في صبرا وشاتيلا وفي جنين وفي أماكن أخرى كثيرة، واليوم يقصفونهم بالصواريخ وبالطائرات ويدمّرون منازلهم فوقهم ولا يخافون أحدًا إلا من الأبطال في فلسطين، وأظننا لا ننسى ما فعل بإخواننا العراقيين في سجن أبو غريب من انتهاكات صوّرت ونشرت على الملأ، وقد استنكر العالم وندد وانتهت المشكلة عند هذا التنديد؛ لأنهم يعلمون بأن العرب ينفعلون بسرعة ويندّدون ثم ينسون ويعودون إلى ما كانوا عليه من علاقات مع الكفرة وكأن شيئًا لم يكن، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم صلوا وسلموا على صفوة خلق الله محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم أصلح شباب المسلمين ونور قلوبهم واهدهم إلى معالي الأمور وقهم شر الشياطين...
(1/5676)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
29/2/1426
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحياء. 2- الحياء بين العبد وربه. 3- الحياء بين الناس. 4- عديمو الحياء. 5- مظاهر مخلّة بالحياء في حياة الناس اليوم. 6- الحياء المذموم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واستحيوا منه حق الحياء، واعلموا أنه رقيب عليكم أينما كنتم، يسمع ويرى، فلا تبارزوه بالمعاصي وتظنوا أنكم تخفَون عليه، فإنه يسمع السر والنجوى.
عباد الله، إن الحياء خصلة حميدة، قال عنه النبي : ((إن الحياء لا يأتي إلا بخير)) ، وأخبر بأنه شعبة من شعب الإيمان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة ـ أو: بضع وستون شعبة ـ، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). وقد مر رسول الله برجل يعظ أخاه في الحياء، أي: يلومه عليه، فقال: ((دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله "والحياء من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح".
فحقيقة الحياء أنه خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. والحياء يكون بين العبد وبين ربه عز وجل، فيستحي العبد من ربه أن يراه في معصية أو مخالفة شرعية، ويكون الحياء أيضًا بين العبد والناس.
فالحياء الذي بين العبد وربه قد بيّنه في الحديث الذي جاء في سنن الترمذي أنّ النبي قال: ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله، قال: ((ليس ذَلكم، ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياة)).
بين في هذا الحديث علامات الحياء من الله عز وجل في حفظ الرأس وما وعى، وفيه أهم الحواس، فيه اللسان، فعليه أن يحفظه من الغيبة والتحدث عن أعراض الناس، وفيه العين، فليحفظها عن النظر إلى الحرام في كل اتجاه، وفيه السمع يحفظه عن السماع المحرم سواء كان عن الناس أو سماع الأغاني المحرمة والماجنة والتي تؤدي إلى الفسوق والتبجح، وكذلك يحفظ البطن وما حوى عن أكل الحرام أو إدخال ما هو ضار، وأن يكون دائمًا متذكرًا للموت، وأن جسمه هذا سوف يبلى يومًا من الأيام، عند ذلك يقصر الأمل في الدنيا، ولا ينغمس فيها فتنسيه الآخرة ويفاجئه الموت، فمن فعل كل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
أما حياء الربِّ من عبده فهو حياء كرم وبرٍ وجود، فإنه تبارك وتعالى حييٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا، ويستحيي أن يعذّب ذا شيبة شابت في الإسلام.
أما الحياء الذي بين العبد وبين الناس فهو الذي يكفّ العبد عن فعل ما لا يليق به، فيكره أن يطّلع الناس إلى منكر فعَله، فينهاه الحياء ويمنعه. فالذي يستحيي من الله يجتَنب ما نهاه الله عنه في حال حضوره مع الناس وغيبته عنهم، وهذا يسمى حياء العبودية والخشية من الله؛ لأنه سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
وهذا الحياء من أعلى خصال الإيمان، بل هو أعلى درجات الإحسان، كما في الحديث: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). وهذا الحديث يذكرنا بحديث آخر للنبي يبين فيه كيف الوصول إلى درجة الإحسان، فقال لأصحابه: ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا)) ، قال ثوبان راوى الحديث: صفهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، فقال النبي : ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
الله أكبر! تأملوا هذا الحديث الرهيب، إنهم من إخواننا ومحافظون على الطاعات، وليس فقط على الصلوات الخمس، بل يقومون الليل، ولكنهم إذا صاروا بعيدين عن أعين الناس وعن الرقيب انتهكوا المحارم. مثال ذلك الشاب الملتزم في الظاهر عندما يكون وحيدًا في منزله وقد هيّأ له أبوه قنوات فضائيّة فإنه يذهب لفتح القنوات الإباحيّة ليشاهدها، أو قد يتلصّص محاولاً النظر إلى نساء جيرانه، كل ذلك لعدم وجود رقيب ولضعف الوازع الديني، بينما المفروض أن يكون حياء الإنسان من الله يمنعه من فساد الظاهر ومن فساد الباطن، فساد الظاهر عند وجود رقيب، وفساد الباطن عند خلوته بنفسه بعيدًا عن أعين الناس، فيكون صالحًا في باطنه وظاهره، في سره وعلانيته، ولذلك صار الحياء من الإيمان.
ومن حرم الحياء لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، وأصبح كأنه لا إيمان له، كما قال : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) رواه البخاري. ومعناه: إن من لم يستح اصنع ما شاء من القبائح والرذائل، فإن المانع له من ذلك هو الحياء، وهو غير موجود، ومن ليس عنده حياء انغمس في كل فحشاء ومنكر.
فعن سلمان الفارسي قال: (إن الله إذا أراد بعبده هلاكًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا، فإذا كان مقيتًا ممقتًا نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنًا مخونًا، فإذا كان خائنًا مخونًا نزع منه الرحمة فلم تلقهُ إلا فظًا غليظًا، فإذا كان فظًا غليظًا نزع ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانًا لعينًا ملعَّنًا) والعياذ بالله.
ولقد تبين في الحديث السابق والأثر أنّ من فقد الحياء لم يتورّع عن فعل المحرمات والمنكرات، ولا يكف لسانه عن تتبع عورات الناس وعن قبح الكلام، قال عمر بن الخطاب : (من قَلَّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه)، وقال ابن مسعود : (من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله)؛ لذلك نجد ونسمع عن كثير من المنكرات متفشية بين الناس، ولم يعد أحد ينكر على أحد إلا من رحم الله، فجاهروا بالمعاصي، واستحسنوا القبائح والرذائل، بل أصبحت هذه القبائح فضائل، وافتخروا فيها وتنافسوا عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي أنعم علينا بدين الإسلام الذي به هدايتنا لدار السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قال: ربنا الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.
أما بعد: فقد تحدثنا في الخطبة الأولى عن الحياء من الجوانب الشرعية، فدعونا نبحث عن الحياء في سلوك الناس وحياتهم الأسريّة لنرى كم هو معدوم هذا الحياء في بعض الناس.
فأين الحياء فيمن ترك السائق يدخل إلى داخل منزله ويتكشّف على محارمه وقد يأخذهن إلى المدارس وحدهن أو إلى الأسواق وهن متبرّجات ومتعطرات وبعضهن تذهب مع السائق إلى النزهات والخلوات لعدة أيام، والزوج موجود ولكنه مشغول في تعمير البيت ماليًا وتدميره أخلاقيًا؟! وأين الحياء ممن يستقدم نساء للقيام بمقابلة الضيوف من الرجال وخدمتهم ليظهر أمام الآخرين أنه عصريّ ومودرن؟! وأين الحياء ممن يتسكّع في الشوارع ويؤذي خلق الله علنًا دون حياء أو خوف من أحد؟! فأين الغيرة؟! وأين الشهامة؟! وأين الرجولة لمن يرى مثل هذه الأمور تحدث أمامه أو في بيته وهو لا يلقي لها بالاً ولا يهتمّ وكأن الأمر لا يعنيه؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الإخوة المؤمنون، إن الحياء المطلوب والمرغّب فيه هو الحياء الذي يكفّ صاحبه عن سوء الخلق وفعل المحرمات، أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في دينه ودنياه فإنه حياء مرفوض ومذموم ويعتبر ضعفا وخورا وعجزا، فلا ينبغي أن يستحيي المؤمن من أن يقول كلمة الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يستحيي أن يسأل عن أمور دينه، فإنه لا حياء في الدين؛ لأن الحياء الذي يمنع من فعل الخير أو قول الحق ليس بحياء، إنما هو تخذيل من الشيطان وخداع يجب الاحتراز منه.
فاتقوا الله يا عباد الله، واستحيوا من الله حق الحياء، واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديما فقال تعالى ولم يزل قائمًا عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وانصر من نصر الدين...
(1/5677)
العصبية القبلية وآثارها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا المجتمع, مساوئ الأخلاق
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
20/3/1426
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاربة الإسلام للعصبية. 2- مفاسد العصبية الجاهلية. 3- من مظاهر العصبية. 4- الفضل والتفاضل بالتقوى. 5- إثارة أعداء الإسلام للعصبيات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المسلمون، لقد حارب الإسلام العصبية، أيّ عصبية كانت، سواءً كانت عصبية لقبيلة أو أسرة أو مال أو منصب أو لغة أو لون، وجعل الناس أمام ربهم سواسية، يتفاضلون بميزان واحد فقط وهو التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. ولقد خطب الرسول في الناس فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد)) رواه أحمد، وقال في حديث آخر: ((أنتم بنو آدم، وآدم من تراب)) رواه أبو داود. فلماذا يتفاخر الناس؟! ولمَ يزهو بعضهم على بعض ما دام ربهم سبحانه وتعالى واحدا وأصلهم جميعًا واحد وهو أنهم من تراب؟!
ولقد حارب الإسلام كلّ مظهر من مظاهر العصبية القبلية التي كانت منتشرة في الجاهلية, وأصبح القرآن الكريم والسنة المطهرة سدًا منيعًا أمام من يحاول إظهار التعالي أو التفاخر بقبيلته وقوتها، فالعصبية تبعث على الحمية، والحمية من صفات الجاهلية، ولقد قال عنها النبي : ((دعوها فإنها منتنة)). نعم والله، إنها لمنتِنَة وخبيثة تفرّق بين الناس، وتجعلهم طبقات، فتثور الأحقاد في النفوس، وتتحرّك الضغائن في الصدور، ثم يكيد الناس بعضهم لبعض، فأيّ أمة تتقدّم وأي إنجاز يتمّ والناس يكره بعضهم بعضا والحقد يحرق القلوب والأفئدة؟! وقد يدفع التعالي والافتخار بأيّ عصبية كانت يدفع بالبعض إلى أن يطعن بأنساب غيره، وما علم أن هذا من صفات الكفر، قال رسول الله : ((اثنان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)) رواه مسلم.
وتعجب أشدَّ العجب عندما ترى من الناس من لا هم له سواء كان في عمله أو متجره أو في مجلسه، لا همَّ له إلا أن يثير هذه القضية ويشد أنظار الناس إليها، وهي قضية العصبية، وهو بالطبع يقصد بذلك أن يظهر علو مكانته ورفيع منزلته وإشهار قبيلته، وهو بعمله هذا يحتقر من أمامه من المسلمين، وما درى المسكين أن رسول الله تبرأ منه ومن فعله القبيح هذا وهو الصادق المصدوق حيث قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية)) رواه أبو داود، ويقول أيضًا : ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) رواه البخاري ومسلم.
ونحن نسمع كثيرًا من العبارات التي تؤدّي إلى النعرات القبلية والتنابز بالألقاب، فهذا يقول مثلاً: "يا بدوي"، وهذا يردّ عليه بـ"يا حضري"، وهذا يقول: "يا خضيري"، والآخر يقول: "أصيل، وهذا نجدي، وهذا حجازي، وهذا سعودي، وذاك أجنبي، وهذا عربي، والآخر أعجمي"، وتقال بطريقة يشمّ منها التنقيص من الطرف الآخر واحتقاره، وقس على هذه الأوصاف التي تثير العصبية التي يأباها الله ورسوله والمؤمنون.
فالنبي غضب على أبي ذر لما عيّر بلالا الحبشي وناداه بأمه قائلاً له: ((يا ابن سوداء)) ، فلقد غضب النبي على أبي ذر السيّد العربي لما سبّ بلالاً، وقد كان بلال هذا عبدًا حبشيًا، فقال النبي : ((يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية)) ، فما كان من أبي ذر رضي الله عنه إلا أن ذهب لبلال واستسمَح منه ووضع له خدَّهُ على التراب وطلب من بلال أن يدوس بقدمه على خده إمعانًا منه في الاعتذار له وتأديبا للنفس الأمّارة بالسوء وترويضًا لها عن التطاول على الآخرين إذا نزع بها الشيطان حينًا.
والفاروق عمر رضي الله عنه لم يرض أن يهين ولد عمرو بن العاص قبطيًا كافرًا، حيث ضرب ابن عمرو بن العاص هذا القبطيّ قائلاً له: خذها وأنا ابن الأكرمين، فاشتكي القبطيّ لعمر، فاستدعى عمر عمرو بن العاص وولده، ومكن القبطي من القصاص من ابن عمر، وثم قال كلمته الشهيرة التي سجّلها التاريخ بحروف من نور وبمداد من ذهب: (يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!). الله أكبر، هذا هو الإسلام، وهذه عدالته حتى مع غير المسلمين، وهذا هو الإسلام الذي يدخل فيه الناس أفواجا.
أما الإسلام الذي يتقوقع على نفسه ويدعو إلى العصبية أو القومية منتقصًا المسلم المخالف لقوميته وقبيلته فهذا ليس هو إسلام محمد بن عبد الله الذي أمره الله بتبليغه، ولقد رفع الله بعض الناس على بعض كما قال: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيَّا الآية [الزخرف: 32]، وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا أي: لِيُسَخّرُ بعضهم بعضًا في الأعمال والحرف والصنائع، فلو تساوى الناس في الغنى ولم يحتج بعضهم إلى بعض لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم، يقول النبي في حديث صحيح يدل على اصطفاء الله له: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى هاشمًا من قريش، واصطفاني من بني هاشم)) ، وبالرغم من هذا الاصطفاء فإنه يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، بل قولوا: عبد الله ورسوله)) ، وحين دخلت عليه امرأة وخافت وارتبكت طمأنها وسكن روعتها وقال لها: ((لا تخافي؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد)) أو كما قال ، وكان يقول: ((يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أُغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أُغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أُغني عنكِ من الله شيئًا)) رواه البخاري ومسلم. فهؤلاء مع شرف نسبهم وقرابتهم من رسول الله لم ينفعهم ذلك دون أن يشتروا أنفسهم من عذاب الله بالتقوى والعمل الصالح، ولقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) ، وهنيئًا هنيئًا لمن جمع شرف النسب وشرف العمل، فذلك هو الفوز المبين والشرف العظيم، وأعظم من جمع كل ذلك سيدنا رسول الله ، فهو المصطفى المختار.
وإن من شرِّ من لم ينفعه شرف نسبه وعظمة حسبه وكثرة ماله عم رسول الله أبا لهب، فلما آذى النبي وأشرك بالله ولم يعمل صالحا استحق أن يقول له الله عز وجل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد: 1-3].
و إن من خير من رفعه الله بصالح العمل وسابق الإيمان بلال بن رباح، وقد كان عبدًا مملوكًا محتقرًا وضيعًا، فرفعه إيمانه، فأصبح مؤذن رسول الله ، وصعد رضي الله عنه بقدميه السوداويتين سطح الكعبة، ورفع صوته مؤذنًا على مرأى من صناديد قريش وعظمائها يوم الفتح مناديًا بكلمة التوحيد: الله أكبر الله أكبر.
و كذلك من نفعه إيمانه وعمله الصالح فرفعه إلى أعظم حسب ونسب الصحابي الجليل سلمان الفارسي، الذي قال عنه النبي : ((سلمان منا أهل البيت)).
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أعز الطائعين برضاه، وأذل العاصين بسخطه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضع من يشاء ويرفع من يشاء وهو العزيز الحكيم، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، سيد ولد آدم ولا فخر، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: إن هذه العصبية التي يأباها الإسلام ويحاربها هي التي أدت إلى نشوء التعصبات المذهبية والنعرات القبلية التي أودت بالمسلمين وأضعفتهم، ولو تتبعنا سير هذه التعصبات لوجدنا وراءها أعداء الله من يهود ونصارى، فلقد بدأت بالمنافق اليهودي عبد الله بن سبأ، واستمرت بأشكال متنوعة في العصر الأموي والعباسي، واتخذت منحنى آخر نجح الأعداء في تأجيجه بين المسلمين، هذا عربي أصيل، وهذا بربري، حتى انهار الإسلام في الأندلس، وتمكن اليهود من بذر فتنة القومية والعصبية بين الشريف حسين وبين العثمانيين بأن الأشراف من أهل البيت وهم أحق بالخلافة من المسلمين الأتراك الأعاجم، حتى صدق الشريف حسين هذه المقولة وأعلن الثورة والعداء على إخوانه المسلمين الأتراك في السلطنة العثمانية التي حافظت على الإسلام قرابة ثمانية قرون، وهذا ما حدث في أفغانستان وفتنة المذهبية والوهابية التي أتت إلى أفغانستان لتدمير المذهب الحنفي كما يدعون، وهذا ما يحدث اليوم في جميع أنحاء العالم الإسلامي من فتن هدفها التفريق بين المسلمين ليسهل ضربهم وتشتيتهم وذهاب ريحهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ووالله، إن أعظم وأشرف وصف ينبغي أن يعتز المسلم به ويفتخر هو بعبوديته لله عز وجل. حينما اصطفى رسوله محمدا خاطبه بوصف العبودية فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء: 1]، ولو كان هناك وصف أعظم من العبودية لنادى به الله سبحانه خليله، وما أحلى قول الشاعر عندما يخاطب ربه سبحانه وتعالى قائلاً:
وما زادني شرفًا وتيهًا وكدتُ بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحْمد لِي نبيًا
فاللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...
(1/5678)
آداب الدَّين والسلف
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الديون والقروض, فضائل الأعمال
صهيب بن محمود السقار
بنغازي
مسجد المشعر الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم فضل التجاوز عن الدَّين. 2- فضل حسن القضاء. 3- الحث على الاقتداء بالنبي. 4- فضل إنظار المعسر والإسقاط عنه. 5- صور مشرقة من مداينات السلف الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا ينبغي أن يحرم المتديّنون وعمار المساجد من الأجر العظيم الذي كتبه الله تبارك وتعالى على آداب الدين ومعاملاته، يجب أن نقف عند كل حرف من قول هذا الخبر عن نبينا محمد.
ذكر رسول الله رجلا كان مسرفا على نفسه، حوسب فلم يوجد له حسنة، فقيل له: هل عملت خيرا قط؟ فقال: لا إلا أني كنت رجلا أداين الناس فأقول لفتياني: سامحوا الموسر وتجاوزوا عن المعسر، فقال الله تعالى نحن أحق بذلك منه، فتجاوز الله عنه وغفر له.
هذا رجل مسرف على نفسه، ليس له من الحسنات إلا حسنة استخفّ بها لكن نبيّنا محمدا بين لنا أنها خلق عظيم في معاملة الناس، وأن الله تبارك وتعالى أولى أن يقابله بمثل ما عامل به عبيده من الإحسان، يقول النبي : ((أُتِيَ اللَّه بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ فقَالَ: يَا رَبِّ، آتَيْتَنِي مَالاً فَكُنْت أُبَايِعُ النَّاسَ فَإِذَا بَعَثْتُ غلامي في طلب حقوقي قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا تَعَسَّرَ)).
استسلف النبيّ من رجل جملا بكرا صغيرا وقال: ((إذا جاءت إبل الصدقة قضيناك)) ، فلما قدمت إبل الصدقة قال: ((يا أبا رافع، اقض هذا الرجل جمله)) ، ففتش أبو رافع عن جمل صغير في مثل سنّ الجمل الذي أخذه النبي فلم يجد، فقال: يا رسول الله، لم أجد إلا جملا رباعيا، فقال النبي : ((أعطه يا أبا رافع، فإن خير الناس أحسنهم قضاء)).
لما سمع الصحابة الكرام بهذا الهدي النبوي تمسّكوا به في معاملاتهم، أولئك السلف الذين كانوا يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين التقطوا من نبيّهم محمد أن خيارهم أحسنهم قضاء، فكانوا يرون أن من حسن القضاء أن يمشي المنتفع بالقرض قبل حلول الأجل إلى صاحب الحقّ والفضل، يشفقون على صاحب الفضل أن يتحمّل ذلّ المطالبة بحقه، أولئك الذين التقطوا من نبيّهم محمد أن خيارهم أحسنهم قضاء، ما كانوا يحبون أن يؤخّروا سداد الدين حتى يأتي أجله المحدّد، فإذا قدر أحدهم على سداد الدين قبل أن يأتي أجله بادر وسارع إلى سداده.
جاء أعرابي إلى رسول الله يطالبه بسداد ما له عليه، فقال له رسول الله : ((ليس عندنا اليوم شيء، فإن شئت أخرتَ عنا حتى يأتينا شيء فنقضيك)) ، فصاح الأعرابي: وا غدراه! فنهره الناس وقال له عمر بن الخطاب: قاتلك الله، أيغدر رسول الله ؟! فقال له رسول الله : ((دعنا يا عمر، فإن لصاحب الحق مقالا)).
نقرأ في سيرة نبيّنا محمد أنه استدان من يهوديّ وأعرابي، ونتساءل: وأين أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من أغنياء الصحابة الذي كانوا وأصحابه يتسابقون إلى تقديم الروح والمال بين يديه؟! كيف تركوا النبي يحتاج إلى الاستدانة من يهودي وأعرابي؟! والجواب: أن النبي استدان من أعرابي ويهودي ليشرع لأمته أحكام الدين، تحمل الأذى من يهودي وأعرابي حتى نقتدي به في أدب الإسلام وحضارته وذوقه الرفيع.
أقرض زيد الحبر اليهودي رسول الله إلى أجل معلوم، فلما اقترب الأجل تعجّل الحبر اليهوديّ قبل حلول الأجل بثلاثة أيام، وقدم على رسول الله وهو بين أصحابه، وأخذ بمجامع قميصه وردائه، وشد على رقبة النبي ونظر إليه بوجه غليظ وقال: يا محمد، ألا تقضيني حقي؟! فو الله، ما علمتكم ـ يا بني عبد المطلب ـ إلا أهل ظلم ومطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، ورسول الله يتبسم، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يتحمل ما تحمله رسول الله، فقام إلى الحبر اليهودي وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير وقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله ما أسمع وتصنع به ما رأى؟! فوالله الذي بعثه بالحق، لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، فنظر رسول الله إلى عمر في سكون وهدوء وتبسّم ثم قال: ((يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن المطالبة، اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من تمر بدل شدتك عليه)).
هذه سيرة الحبر اليهودي، وهذه سيرة سيد الخلق معه، وهذه ردة فعل عمر، فماذا ستكون ردة فعل الواحد منا إن قدر وجوده في زمان هذه الحادثة؟! من يهون عليه أن يرى يهوديا يجر نبينا محمدا من ردائه؟! من يصبر على يهودي يؤذي نبينا محمدا في أهله نسبه؟! يا من يغار على سيدنا محمد ، لا تضيعوا صبر نبيكم وحلمه وأدبه، من فاتته الغيرة على نبيه محمد ما فاته الاقتداء بهديه وأدبه وخلقه، ما فاته أن يأمر بحسن الأداء وحسن المطالبة، ما فاتك أن تكون في بذل الدَّين لغيرك أو سداده مثلا يقدر للنبي تضحيته وصبره على جفاء الأعراب، ما فاتك أن تكون في بذل الدين لغيرك أو سداده استمرارا لخلق النبي ، ما فاتك أن تكون في معاملاتك للآخرين تجربة طيبة مباركة تشيع بين الناس حضارة الإسلام وآدابه، لا نقبل أن نرى في أمة محمد من تضعف غيرته على نبيه محمد ، من حقنا أن نتهم بضعف الغيرة من ضيّع في معاملاته صبر نبيه محمد على جفاء الأعراب وغلظتهم. كيف يجمع المسلم بين دعوى الغيرة على نبيه وهو يجعل من معاملاته تجربة مريرة وعذرا يمنع به المعروف؟! كم من مسلم يَطلب من أحدهم قرضًا وهو يخفي في نيته وباطنه عدم الرغبة في السداد والقضاء! فمتى نسمتع إلى هدي نبينا محمد ونصحه؟! متى يلتحق المسلم بالذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؟! ومن أحسن قولا من نبينا محمد لما قال: ((من أخذ دينا وهو ينوي قضاءه وكل الله به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه)). كيف يجمع المسلم بين دعوى الغيرة على نبيه وهو يأخذ قرضا يبيت في باطنه ونيته المكر والغدر وكأنه لم يسمع قول نبيه محمد : ((من ادّان دينا وهو ينوي أن يؤديه أدى الله عنه يوم القيامة، ومن استدان دينا وهو لا ينوي أن يؤدّيه فمات قال الله عز وجل يوم القيامة: ظننتَ أني لا آخذ لعبدي بحقه؟! فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الآخر، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات غريمه فجعلت عليه)).
المسلم إذا أخذ قرضا يبيت في باطنه ونيته المكر والغدر فهو الخاسر الأكبر، خسر وعد النبي لما قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله)). بلغنا عن نبينا محمد أنه قال: ((من أنظر معسرا أو ترك له أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)). بلغنا عن نبينا محمد أنه قال: ((من أنظر معسرًا أو ترك له حاسبه الله حسابًا يسيرًا)). يجب أن نقارن بين معاملاتنا ومعاملات سلفنا الذين بلغهم عن نبيهم عين ما بلغنا، أما سلفنا رضوان الله عليهم فقد استمعوا القول فاتبعوا أحسنه.
باع الحسن البصري بضاعة بأربعمائة درهم إلى أجل، فلما حل الأجل قال له المشتري: اسمح يا أبا سعيد، قال: قد أسقطت عنك مائة، قال له: فأحسن يا أبا سعيد، فقال: قد وهبت لك مائة أخرى، فقبض من حقه مائتي درهم، فقيل له: يا أبا سعيد، هذا نصف الثمن! فقال: هكذا يكون الإحسان وإلا فلا.
كان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه رجلا موسرا اقتدى بنبيه محمد فبذل ماله لإخوانه، ولما مرض قيس حنّ واشتاق إلى بعض إخوانه وعتب على بعض من تأخر عليه في زيارته وعيادته، فسأل عن سبب تأخرهم فقيل له: إنهم يستحيون أن يأتوك بسبب تأخرهم في سداد الدَّين الذي أخذوه منك، فقال: أخزى الله مالا يمنع عني إخواني من زيارتي، ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عنده مال فهو منه في حل، فلما أقبل الليل كثر دخول الناس لزيارته حتى كسوا عتبة بابه.
السلف الذين تخرجوا في مدرسة محمد يقول فيهم الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما كانوا يعدون القرض معروفا". قوم بلغهم عن نبيهم محمد أنه قال: ((من أقرض دينارًا إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله، فإذا حل الأجل فأنظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة)).
من بلغه عن نبيه أن المال الذي بذله دينا سيسترده ويكتب له به صدقة فكيف يعد الدين معروفا وفضلا؟! قوم فهموا عن نبيهم محمد فكان فيهم من لا يحب أن يسدّد له غريمه الدين لأجل هذا الوعد حتى يكون كالمتصدق بجميعه في كل يوم.
بعض المسلمين اليوم يحتال في صنع الأعذار والظروف ليأخذ الدين، أما سلفنا رضوان الله عليهم فقد كانوا يحتالون لدفع المال لمن يحتاجه. كان أحدهم يتلطف في إدخال السرور والرفق على إخوانه المتعففين، كان يضع عند أحدهم الحاجة ويقول له: أمسكها حتى أعود إليك، ثم يرسل له أحد أعوانه ليقول له: أنت في حل مما تركناه عندك.
كان أبو سهل الصعلوكي من كبار العلماء العاملين، كان من الأجواد الكرام إذا طلب منه مسلم مالا لم يناوله إياه، وإنما كان يطرحه في الأرض فيتناوله الطالب من الأرض، فلما عوتب في ذلك قال: ليس في الدنيا ما يستحق أن أرى يد مسلم تحت يدي وقد قال النبي: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)).
قدم رجل من قريش من سفر فمر على رجل من الأعراب على قارعة الطريق أضر به الفقر والمرض، فقال لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب الغلام في حجر الفقير أربعة آلاف درهم، فتأثر الفقير وهمّ بالوقوف ليشكر القرشي، فلم يقدر من ضعفه ومرضه، فرجع إلى قعوده وجعل يبكي، فقال له الرجل: ما يبكيك؟! لعلك استقللت ما دفعناه إليك، فقال: لا والله، ولكني تذكرت الموت فأبكاني أن تأكل الأرض من كرمك.
كيف تغيرت مفاهيم المسلمين؟! صرنا نعد الإكثار من بذل الدَّين للمحتاجين من الإخوة والأرحام إسرافا، نحِنّ شوقا إلى مثل الحسن بن سهل من سلفنا رضوان الله عليهم، قيل له: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير. فقلب اللفظ وجمّل المعنى، فمتى يكون في بذل المال للإخوة والمحتاجين إسرافا؟!
هذا كلام نظري تجد تطبيقه في سيرة ابن شهاب شيخ الإمام مالك، كان ابن شهاب من أسخى التابعين، كان يعطي كل من جاءه وسأله حتى لا يبقي من ماله شيئا، فإذا لم يبق معه شيء تسلّف من أصحابه، فيعطونه حتى إذا لم يبق معهم شيء حلفوا له أنه لم يبق معهم شيء، فيستلف من عبيده، فإذا لم يجد شيئا تكدّر وتغير وجهه، فيقول للسائل: أبشر فسوف يأتي الله بالخير فلا تعجل. ومثل ابن شهاب إذا أحسن الظن بالله وجد الله عنده فوفّاه وقيّض له ما يبيض به وجهه عند السائل.
هذه سيرة لا ينبغي أن نكتفي باستعذاب سماعها، هذه سيرة يجب علينا أن نسعى بأنفسنا لإحيائها. المتديّنون وعمار المساجد أوّل من يجب عليهم إحياء سنة النبي ، لا ينبغي أن يقتصر المتديّنون وعمار المساجد من سنة نبيهم على الهيئة واللباس، أعظم من ذلك أجرا أن تقرن ذلك بإحياء خلُق النبي وأدبه في معاملاته؛ ولذلك قال المتقدمون: "لا يغرنك من المرء قميص رقعه أو إزارا فوق كعب الساق منه رفعه أو جبين لاح فيه أثر سجود قد قلعه، ولدى الدرهم فانظر غيّه أو ورعه".
يجب على المتدينين وعمار المساجد أن يتدبروا ترتيب الأوصاف التي مدح الله بها الصادقين المتقين، يجب أن نتأمل ترتيب المدح بالصلاة والزكاة، يقول الله تبارك وتعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
الله تبارك وتعالى مدح الصادقين المتّقين بعد الإيمان بإنفاق المال مع حبه والحاجة عليه، الله تبارك وتعالى قدم المدح بالإنفاق على ذوي القربى واليتامى والسائلين على الصلاة والزكاة لينبه المتدينين وعمار المساجد على الاهتمام بالمعاملات المالية والإنفاق.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5679)
إنا كفيناك المستهزئين
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
مراد بن عياش اللحياني
مكة المكرمة
6/3/1429
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة الرسول. 2- صبر الرسول وجهاده. 3- فضائل الرسول. 4- جريمة السخرية بالرسول. 5- حفظ الله تعالى لنبيه. 6- الموقف الشرعي من الرسوم المسيئة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، لقد رحمنا الله تعالى رحمة واسعة حين خصّنا فجعلنا أتباع خير الخلق ، الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الذلّ والظلم والجهل والشتات والمهانة إلى العزّ والعدل والعلم والاجتماع والكرامة، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164].
بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. آذاه قومه فصبر ليبلّغ هذه الرسالة، ذهب إلى الطائف على قدميه يعرض الإسلام على قبائلها، فأغرَوا به صبيانهم، وأدمَوا قدميه وهو صابر في سبيل الدعوة، يعرض نفسَه على القبائل فتطرده فلا يثنيه ذلك شيئا، أصحابه يُعذّبون في حرّ الهجير وهم يستغيثون بالله تعالى في سبيل هذا الدين، يؤمَر بالهجرة فيخرج من بلده مكّة ويقف على شفير خارج مكة ويقول: ((والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ووالله إنك لأحب البقاع إليّ، ولولا أنّ قومك أخرجوني ما خرجت)). يشجّ رأسه يوم أحد، وتكسر رباعيته، ويتكالب الأعداء على قتله يوم الخندق، فيُحزّبون الأحزاب طلبا لرأسه، ويدسُّ له اليهود السمّ ويحاولون قتله أكثر من مرّة، لكن ذلك لا يثني من عزيمته لنشر هذا الدين، حتى بَلَََغ الإسلام مشارقَ الأرض ومغاربها.
لا تحصَى فضائله، ولا تعدّ مزاياه. ما من صفة كمال بشرية إلا اتّصف بها، زكّى الله تعالى عقله فقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم: 2]، وزكّى لسانه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى [النجم: 3]، وزكّى شرعه فقال: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]، وزكّى معلِّمه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم: 5، 6]، وزكّى قلبه فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم: 11]، وزكّى بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم: 17]، وزكّى أصحابه فقال: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]، وزكّاه كلَّه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
نعته بالرسالة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29]، وناداه بالنبوة فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الممتحنة: 12]، وشرفه بالعبودية فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1]، وشهد له بالقيام بها فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19].
شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وأتمّ أمره، وأكمل دينه، وبرّ يمينه. ما ودّعه ربه وما قلاه، بل وجده ضالاً فهداه، وفقيرًا فأغناه، ويتيمًا فآواه. وخيّره بين الخلد في الدنيا ولقاه، فاختار لقاء مولاه، وقال: ((بل الرفيق الأعلى)).
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت مثل الرسول نبيّ الأمّة الهادي
واليومَ يأتي أقوام ما عرفوا الله طرفةَ ساعة، يعيشون في ظلمات الشهوات، أهدافهم وأفكارهم واعتقاداتهم منحطّة، يحاولون النيلَ من هذه المنارة الشامخة. تَأتي سَبعَ عَشرَةَ صَحِيَفَةً غَربِيَّةً لتستهزئ بأعظم البشر على مرأى ومسمع من جميع المسلمين، أين الغيرة؟! أين حب الرسول ؟! أين الدفاع عنه؟! أليس هذا هو مقام سيدنا رسول الله ؟!
أيها المسلمون، لقد رفع الله ذكر نبينا رغم أنوف الحاقدين والجاحدين, فها هم المسلمون يُصوّتون باسمه على مآذنهم في كل مكان.
والله تعالى قد تولى الدفاع عن نبيه وأعلن عصمته له من الناس وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس [المائدة: 67]، وأخبر أنه سيكفيه المستهزئين: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95]، سواء كانوا من قريش أو من غيرهم. وذكر الله سبحانه وتعالى في مواضع أخرى أنه كفاه غيرهم كقوله في أهل الكتاب: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [البقرة: 137]، وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36]. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "وقد فعل تعالى, فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قِتلة" اهـ.
والله تعالى يقول: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر: 3] أي: إنَّ مبغضك ـ يا محمد ـ ومبغض ما جئتَ به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هُوَ الأَبْتَرُ : الأقل الأذل المنقطع كل ذِكرٍ له. فهذه الآية تعمّ جميع من اتصف بهذه الصفة من معاداة النبي أو سعى لإلصاق التهم الباطلة به، ممن كان في زمانه ومن جاء بعده إلى يوم القيامة.
لقد أعظمت قريش الفرية على رسول الله , فرمته بالسحر تارةً وبالكذب تارةً وبالجنون أخرى, والله يتولى صرف ذلك كُلِه عنه لفظًا ومعنى, ففي الصحيحين عن النبي قال: ((ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! يشتمون مذممًا ويلعنون مذممًا, وأنا محمد)). وهكذا هذه الرسومات التي نشرت على هذه الصفحات السوداء، هي قطعًا لا تمثل شخص رسول الله ، بل هي صور أملاها عليهم خيالهم الفاسد واعتمدها الشيطان. أما محمد فوجهه يشع بالضياء والنور والبسمة والسرور، لم يستطع أصحابه رضي الله عنهم أن يملؤوا أعينهم منه إجلالاً له وقد عاصروه، فكيف بمن لم يجمعه به زمان ولم يربطه به خلق ولا إيمان؟!
لقد جاء خبر الصدق من الملك الحق المبين: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ليبقى كل شانئٍ للنبي وكل معارض لدينه هو الأبتر المقطوع المنبوذ. أين أبو جهل؟! أين أبو لهب؟! أين عبد الله بن أبيّ؟! أين ملوك الأكاسرة والقياصرة؟! لقد طمرتهم الأرض ونُسيت رسومهم ولحقتهم اللعنات.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فِعْل محمدٍ وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول أهل الفقه والخبرة عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه " انتهى.
والأيام بيننا وبين أولئك المبطلين المستهزئين، لننظر من تكون له العاقبة، ومن الذي يضل سعيه ويكذب كلامه وتظهر للعالمين أباطيله وافتراءاته، فقد قالها أمثالهم، فلمن كانت العاقبة؟! وأين آثارهم؟! وأين مثواهم؟! قال الله جل شأنه في القرآن الكريم: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا.
وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أُهلكوا يوم آذوا أنبياءهم وقابلوهم بقبيح القول والعمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذِّلة وباؤوا بغضِبٍ من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضمومًا إلى كفرهم، كما ذكر الله ذلك في كتابه. ولعلك لا تجد أحدًا آذى نبيًا من الأنبياء ثم لم يَتُبْ إلا ولا بد أن يصيبه الله بقارعة.
وإليكم هذا الخبر الذي ذكرته وكالات الأنباء يوم 13/2/1429هـ ويقرر ما ذكرناه من سوء العاقبة التي تحيط بالمستهزئ بمقام النبي : فنادق دنماركية تمنع إقامة الرسام المسيء للرسول محمد :
رفضت عدة فنادق دنماركية منح إقامة للفنان "كورت فيستر جارد" الذي رسم الكاريكاتير المسيء للرسول محمد خوفا من عمليات انتقامية ضده خاصة بعد تهديده بالقتل.
ونقل عن صحيفة دنمركية: إن الرسام "جارد" البالغ من العمر 73 عاما أصبح اعتبارًا من غد الخميس بلا مأوى بعد طرده من الفندق الذي كان يقيم به. كما رفضت الفنادق الأخرى استقباله نهائيا. وتقوم الشرطة الدنمركية حاليا بالبحث عن مأوى للرسام المسيء للرسول محمد. وكان الرسام قد صرح لإحدى الصحف الدنماركية أنه بدءًا من يوم الخميس لم يعد له مكان، على الرغم من أنه يعيش متخفيًا بحماية المخابرات الدنماركية منذ نوفمبر الماضي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر: 51].
_________
الخطبة الثانية
_________
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَكُلَّمَا استَهزَأَ الكَفَرَةُ بِالحَبِيبِ كَانَ في ذَلِكَ ارتِفَاعٌ لِصِيتِهِ وَذِكرِهِ عَلَيهِ السَّلامُ، وَمِن ثَمَّ انتِشَارٌ أَكبرُ لِدِينِ الإِسلامِ، وَكُلَّمَا استَهزَأَ الجَاهِلُونَ بِالحَبِيبِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلمُسلِمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِهَديِهِ وَسُنَّتِهِ وَالعَضِّ عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ.
وَإِنَّهُ لَمَّا نُشِرَتِ الرُّسُومُ السَّاخِرَةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبلَ سَنَتَينِ تَقرِيبًا حَصَلَ مِنَ المُسلِمِينَ حِيَالَهَا مَا يُثلِجُ الصَّدرَ وَيُبهِجُ النَّفسَ، وَبَدَا مِن رُدُودِ أَفعَالِهِم تِجَاهَهَا مَا أَثبَتُوا فِيهِ مَحَبَّتَهُم لِنَبِيِّهِم، وَكَانَ ممَّا دَعَا إِلَيهِ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَتَبَنَّاهُ عَدَدٌ مِنَ الغَيُورِينَ فِكرَةُ المُقَاطَعَةِ الاقتِصَادِيَّةِ، وَهَذَا الأَمرُ وَإِن كَانَ صَحِيحًا في الجُملَةِ إِلاَّ أَنَّهُ لَيسَ المَوقِفَ الوَحِيدَ الَّذِي يَجِبُ أَن نَفعَلَهُ، بَل إِنَّ ثَمَّةَ مَوَاقِفَ أُخرَى لِنُصرَتِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ هِيَ أَهَمُّ مِنَ المُقَاطَعَةِ الاقتِصَادِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا لا تَجِدُ مِنَ النَّاسِ فِيهَا إِلاَّ الفُتُورَ وَالبُرُودَةَ:
أَوُّلُهَا: المُقَاطَعَةُ الفِكرِيَّةُ وَالقَلبِيَّةُ لِلمُشرِكِينَ وَالكُفَّارِ، يَهُودًا كَانُوا أَو نَصَارَى، أَو شُيُوعِيِّينَ أَو بُوذِيِّينَ أَو غَيرَهُم، فَإِنَّ المُسلِمَ الَّذِي رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسلامِ دِينًا المُسلِم الذِي أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لا يُمكِنُ بِحَالٍ أَن يُوَالِيَ مَن عَادَاهُمَا أَو يُحِبَّهُ أَو يَتَشَبَّهَ بِهِ، فَضلاً عَن أَن يَمدَحَهُ أَو يُعجَبَ بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَولِيَاءِ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجعَلُوا للهِ عَلَيكُم سُلطَانًا مُبِينًا.
وَمِن أَهَمِّ الأُمُورِ في نُصرَةِ الحَبِيبِ بَل هُوَ مَعنى شَهَادَةِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَاجتِنَابُ مَا نهى عَنهُ وَأَن لاَّ يُعبَدَ اللهُ إِلاَّ بِمَا شَرَعَ، مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرسَلنَاكَ عَلَيهِم حَفِيظًا.
إِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَدرُسُوا حَيَاتَهُ وَسِيرَتَهُ، وَأَن يَنشُرُوا عِلمَهُ وَيُحيُوا سُنَّتَهُ، وَأَن يَدعُوا إِلى هَديِهِ وَطَرِيقَتِهِ، وَأَن يَتَخَلَّقُوا بِأَخلاقِهِ وَيَتَّصِفُوا بما كَانَ عَلَيهِ، فَقَد قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِني)).
وَإِنَّكَ لَتَرَى في المُسلِمِينَ اليَومَ تَهَاوُنًا بِالسُّنَنِ وَتَقصِيرًا في الطَّاعَاتِ، بَل وَتَركًا لِلفُرُوضِ وَإِخلالاً بِالوَاجِبَاتِ وَإِضَاعَةً لِلصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعًا لِلشَّهَوَاتِ وَوُقُوعًا في الحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، فَأَيُّ نُصرَةٍ لِلنَّبيِّ تُرجَى مِن مِثلِ هَؤُلاءِ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَترُكُ صَلاةَ الفَجرِ وَيُؤثِرُ النَّومَ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَتَهَاوَنُ بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ وَيَهجُرُ المَسجِدَ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَأكُلُ الرِّبَا وَلا يَسأَلُ عَن حِلِّ المُسَاهَمَاتِ وَالمُعَامَلاتِ مِن حُرمَتِهَا؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن لا يَتَوَرَّعُ عَن النَّظَرِ إِلى الحَرَامِ وَاستِمَاعِ الحَرَامِ في قَنَاةٍ أَو جَوَّالٍ أَو مِذيَاعٍ أَو صَحِيفَةٍ؟! وَهَبْ أَنَّكَ قَاطَعتَ سِلَعَ مَنِ استَهزَؤُوا بِالنَّبيِّ فَهَل قَاطَعتَ مَعَ ذَلِكَ فِكرَهَم وَعَمَلَهُم؟! هَلِ اجتَنَبتَ مَسَالِكَهُم وَطُرُقَهُم؟! هَلِ استَقَمتَ عَلَى الطَّرِيقَةِ في عَامَّةِ أَمرِكَ وَخَاصَّتِهِ أَم أَنَّ بَيتَكَ يَعُجُّ بِالمَعَاصِي وَالمُنكَرَاتِ وَإِضَاعَةِ الصَّلاةِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ؟!
(1/5680)
الاقتصاد الإسلامي
فقه
البيوع, قضايا فقهية معاصرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
6/3/1429
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المال. 2- تنافس الناس على المال واختلاف مشاربهم فيه. 3- حض الإسلام على عمارة الأرض. 4- حرص الإسلام على تحقيق الاستقلال الاقتصادي. 5- الفوضى الاقتصادية والضعف التنموي. 6- العلاقة بين الاقتصاد والنمو. 7- حقيقة المفهوم الاقتصاديّ الإسلامي. 8- السبيل لنهضة الاقتصاد الإسلامي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنَّ الوصية المبذولةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوَى الله سبحانَه ومُراقَبتُه في السّرِّ والعَلَن، فاتقوا الله عِبادَ الله، وأتبِعوا السيئةَ الحسَنَة تمحُها، وخالِقُوا الناس بخُلُقٍ حَسَنٍ، إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ [يوسف: 90].
أيُّها النَّاس، المالُ في هذِهِ الدّنيا شريَانُ الحياةِ التّنمَويّ المادّيّ، كما أنَّ الشَّرعَ والدين شريانُ الحياة الروحيّ والمعنويّ. وللمالِ في نَفسِ الإنسانِ حَظوَةٌ وشَرَه وتطَلُّبٌ حثيثٌ، إذا لم يُحكَم بميزانِ الشّرع والقناعةِ والرّضَا فإنه سيَصِل بصاحِبِه إلى درجةِ السّعارِ المسمُومِ والجشَع المقيت. ولا جرَم عِباد الله، فإنّ حبَّ ابنِ آدمَ للمَال ليسرِي في جَسَدِه سَرَيان الدّم في العُرُوق، كيفَ لا والله جلّ وعلا يَقولُ عنِ ابن آدم: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] أي: المال، ويقول سبحانه عَن جماعةِ بَني آدَم: وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].
ومِن هذا المنطلَق تَنافَسَ الناسُ سَعيًا تِلوَ سَعيٍ في تحصِيلِ هَذَا المالِ، وَكَدْحًا تلوَ كَدْحٍ في لَمْلَمَةِ المستَطَاعِ من هذا البرّاق الفاتن، غيرَ أنَّ صِحّةَ مثلِ هذا الكدح أو فسادَه وحصولَ الأجر فيه أو ذهابَه لمرهونٌ بحُسنِ القَصدِ والموْرِد فِيهِ أو بسوئِهما معًا، وفي كلا الأمرَين يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6]؛ لأنَّ المالَ سلاحٌ ذو حدَّين، فهو لأهلِ الإسلام والإيمانِ وحُسنِ القصدِ به نِعمةٌ يحمَدونَ الله تعالى عليها صباحَ مَساء، وهذه هي سِيمَا الأمّةِ الخيرية: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274]. وهو لأهلِ الكُفرِ حَسرةٌ وبَلاء مهما تعدَّدت مَصادِرُه وكثُر توافُره؛ لبُعدِهم عن وضعهِ في موضعه، وما ذاك إلاّ ليَكونَ ندامةً ووبالاً عليهِم كما قَالَ تَعَالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران: 178]، فإنَّ مُعظَمَ أوجُهِ الإيرادات والصَّادِرات لَدَى مَن كفَر بالله وبرسولِه منصبّةٌ فيما حرَّم الله ورسوله مِنْ أخذِهِم الرِّبا وأكلهم أموالَ الناس بالباطِلِ والصدِّ عن سبيل الله، وتلك ـ لعمرُ الله ـ هي الحسرةُ والندامة، ولات ساعةَ مَنْدَم، ولَيسَ بَعدَ الكُفرِ ذَنبٌ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36].
وإنَّ مما يَدُلّ عَلَى أهمّيّة المالِ في حَياةِ الفردِ والجماعة وُرودَه في القرآنِ متصرِّفًا مَدحًا وذمًّا في أَكثرَ من ثمانين موضعًا.
أيّها المسلِمونَ، إنّ الشريعةَ الإسلاميةَ الغرَّاء جاءَت حاضَّة على عِمارةِ الأرض وتَنميِتها اقتصاديًّا بما يَكونُ عَونًا على أداءِ حقّ الله فيها، فَلَقَد قال رسول الله : ((إذا قَامَتِ الساعة وفي يدِ أحدِكم فَسِيلةٌ فاستطاعَ أن لا تقوم حتى يغرِسها فليغرسها، فله بذلك أَجر)) رواه البخاري في الأدب المفرد [1].
ومن هنا فقدْ حَرِصَ الإسلام أشَدَّ الحِرص على توفيرِ ضماناتٍ أو رَكائز لتَحقيقِ هذه التَّنميَة الاقتصادية واستمرارها، ولعل من أبرزِها تحقيق الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المستقلَّة لدى المجتمع المسلم؛ ليكون قائدًا لا منقادًا، ومَتبوعًا مِنْ قِبَلِ غيرِه لا تَابعًا. والاستقلالُ الاقتِصاديّ يعني بداهةً نفيَ التَّبعيةِ الاقتصاديّة للأجنبيّ، ويعني سيطرةَ المجتمع المسلِم على مُقدَّراتِ بِلاده الاقتصاديّة دون تدخُّلٍ أجنَبيّ؛ لأنَّ فُقدانَ السيطرةِ الاقتصاديّة فقدانٌ لما عداه من السيطرَة السياسيةِ والعسكرية والاجتماعيّة والثقافيّةِ؛ ولذا فإنّ التَّنميةَ الاقتصاديَّة لدى المجتمع المسلِمِ لا يمكِن أن تَتِمّ دونَ الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المحلّيّة المعتَقَة من رقِّ الأجنبيّ لها.
إنَّ الأمَّةَ الإسلاميّةَ في هذا العَصرِ لتكتوِي بلهيبٍ منَ الفوضَى الاقتصادية والضَّعف التنمويّ، كما أنها تعيش فَسادًا اقتصاديًّا يدبّ دبيبًا ويتسلَّل لواذًا بين الحِينِ والآخَر عبرَ منافذِه الرَّئيسة في المجتمعاتِ المسلِمَة، وَهِي منافذُ التَّسلّل الفردِيّ والمؤسَّسي والمنتَظم. وإنَّ اتساعَ مِثلِ هذهِ المنافذ لَكَفيلٌ بتفعيل البَلبَلَة والخلخلَة المسبِّبين عَدمَ الاستقرار السِّياسيّ والاجتماعيّ، والنتيجةُ التالِيَة لمثل ذلكم تخلّفٌ ذَريع في السوق الماليّة والنّموّ وضَعفٌ اقتصاديّ فادح بالمسلمين.
وإنَّ كثيرًا من الدِّراسات الحديثةِ لتؤكِّد وُجودَ علاقةٍ عكسيّة بين الفساد الاقتصاديّ والنّموّ. ومن هنا فإنّ الأمّةَ الإسلاميّة لو أخذَت بِالمعنى الحقيقيّ للاقتصادِ الإسلاميّ لما حادَتْ عن الجادَّة، ولما عاشَت فَوضَى التخبُّط واللَّهَث وراءَ المغريَات المالية من خلالِ التهافُت على ما يُسمَّى بالبورصَة والمرابحات الدوليّة التي لم تُحْكَمْ بالأُطُر الشرعيّة، وفوضَى التّخبّط أيضًا في سوءِ الموازَنَة وعَدَم إحكامِ القروض المالية في الحاجيات والتحسينيّات؛ ما يُسبِّب تراكمَ الدّيون على مجتمَعاتٍ لا تُطيق حملَها؛ ولذا فإنّ التنميّة الاقتصادية الإسلاميةَ لا تعترِف بِتَنمية الإنتاجِ الاقتصاديّ بمعزِل عن حُسن توزيعِه، كما أنّ جهودَ وأهدافَ الاقتصاد الإسلاميّ يجب أن تكونَ مُصاغَة بعنايةٍ فائقة للقَضَاءِ قدرَ الطاقة على فَاقَةِ الفرد المسلِم وبطَالَته وأمِّيّته ومعاناتِه السّكنيّة والصّحّيةوالغذائيّة.
ولو تأمَّل الناس حقيقةَ المفهوم الاقتصاديّ الإسلامي لما وقعوا في مثلِ هذه الفوضَى ومثل ذلكم التخبّط؛ لأنَّ كلمةَ الاقتصاد في الأصلِ مأخوذةٌ من القَصد، وهو الاستقامةُ والعَدل والتَّوازُن في القولِ والعمل، وفي الإيراداتِ والصّادرات، وفي الكَسب والإنفاق. فالاقتصادُ الإسلاميّ هو في الحقِيقةِ توازنٌ في التنمية واعتدالٌ في السوقِ الماليّة، يحمل المجتمعَ المسلم إلى الاعتدالِ والموازنَةِ دون إفراطٍ أو تفريط؛ ولِذا ـ عِبادَ الله ـ كان وَاجبًا على المجتَمَعات المسلمة أن تَسعى جاهدةً إلى أَسلَمَة الاقتصادِ والتنمية من خِلالِ توحيد المصدر، وهو كتاب الله وسنّةُ رَسولِه ؛ لأنَّ العقيدةَ الصَّحيحةَ وصِحّة المصدَر كفيلان في إحسانِ تَشغِيلِ الملكيّة على مستوَى الأفراد والشعوب.
وقَد يَتَعَجَّب بعض السُّذَّج من مثلِ هذا الطَّرح نظرًا لفَهمِه القاصِر على أنّ الاقتصادَ يخضَع لضَوابِط ومعايير تُتَرجَم في صِيَغٍ رِياضيّةٍ فحسب، كلا بل إنّ النظام الاقتصاديَّ المهيمن في عالمنا المعاصِر كانَ في الأصل قد وُجِد في بيئةٍ ملائمةٍ له لدى غَير المسلِمِين، وذلك بعدَ أن تغيَّرت لديهم مجموعةُ المبادئ والقِيَم التي كانَت تحكم تفكيرَهم وسلوكَهم، وذلك بأخذِهم بالفلسَفَة الفَرديّة كحَلَقةٍ فلسفيّة تحكم الغير وتحدُّه بمعيار المصلحة الخاصّة دونَ النظرِ إلى ما سِوى تِلكمُ المصلحَة من ناتجٍ عامّ. ومن هنا صارَتِ النظرة الأجنبيّة للاقتصاد مذبذبةً بين تحليلٍ اشتراكيّ وتحليلٍ رأسمالي. وهذا دَليلٌ واضح على تأثيرِ الاعتِقَاد أيًّا كان نوعُه على التنمِية الاقتصادية.
ولذا فإنَّ التقدُّم الحقيقيّ في دِراسة الاقتصادِ الإسلاميّ إنما يجيء في الدّرجَة الأولى من خلالِ رَبطِه بالقيَمِ والمبادئ الإسلاميّة، والاحتفاظِ له بالصِّبغة التي أرادَها الله، وعدمِ مَسخِه وتشويهِهِ بوضعِه في قوالِب الاقتصادِ الوضعيّ.
ومما يَدلُّ على ما ذكرناه بأنَّ الإسلام ينظر إلى النَّشاطِ الاقتصاديّ المتعلّق باستِخدَام الملكيّة والتصرّف فيها على أنه محدودٌ بما شَرَعَ الله وما نهى عَنهُ هو قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]، بل قَد جَاءَ في الشّرعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنّ فسادَ حالِ المسلِمين وذلَّهم وضعفَهم وتمكّنَ عَدُوِّهم منهم قد يَكون بِسَبَبِ ما يَرتَكِبونه من مخالفاتٍ في مجالات السوقِ الماليّة، فقد قَالَ : ((إذا ضَنَّ النّاسُ بالدينار والدِّرهم وتبايَعوا بالعينة وتبِعوا أذنابَ البقَر وتركوا الجهادَ في سبيل الله أنزَلَ الله بهم ذلاًّ، فلم يرفعه عنهم حتى يُراجِعوا دينَهم)) رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات [2].
وبعد يا رعاكم الله، فإنّ الاقتصادَ الإسلاميَّ ليحتاجُ في النّهوضِ به إلى المستوَى المطلوبِ إلى جهودِ المخلِصِين من العلماءِ وأهلِ الاقتصاد، ومُساهمتهم الجادّة في إيجادِ المِفتاح المدخَلِيّ للاقتصادِ الإسلاميّ الصحيح، مع مراعاةِ فِقهِ هذه المعضِلة في تَركِيبها الواقعيّ وتشكيلها الاجتماعيّ، وكذا مُراعاة الخضوعِ للخطوَاتِ المشهورة في كلِّ دراسة جادّةٍ، وهي أن تُبنَى على الملاحَظَة أوّلا، ثمّ الافتِراضِ ثانيًا، ثمّ التَّجريب والوصول ثالثًا، أو بمعنى آخر: تخضَع لاستخدامِ المنهجِ الاستقرائيّ والاستنباطيّ بهدَفِ الوصول إلى كشفِ العلَّةِ الكامِنَة والسّببِ القابِع وراءَ ضُمُور الاقتصادِ الإسلاميّ في مقابِل ضدِّه. وهَذَا الأمرُ يتطلَّب مِنّا أن نَبحَثَ في المنهجِ النبويّ كَسَبيلٍ أسَاسٍ لكشفِ سنَنِ الهداية والإرشادِ وتجنُّب قتل النّفس بالممارسة السلبيّة للاقتِصاد، انطِلاقًا من قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، وقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29].
بارَكَ الله لي ولَكم في القُرآنِ العَظِيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحَكيم، قد قُلْتُ ما قُلْتُ، إن صَوابًا فمِن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] الأدب المفرد (479) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه أحمد (3/191)، وعبد بن حميد (1216)، وصححه الضياء في المختارة (7/262-264)، وهو في السلسلة الصحيحة (9).
[2] مسند أحمد (2/42، 84) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أبي داود في كتاب البيوع (3462)، والروياني (1422)، وأبي يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (10/432)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقواه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (9/245)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وَحدَه، والصَّلاةُ والسَّلام على من لا نَبيّ بَعدَه.
وبعد: فاتَّقوا الله مَعَاشرَ المسلِمين، واعلَموا أنَّ المشكِلاتِ الاقتصاديّةَ التي يواجِهها العالم الإسلاميّ اليومَ ما هي إلا بسبَب غِيابِ المنهجِ الاقتصاديّ الإسلاميّ الصّحيح، والذي يتناول تنظيمَ جَوانبِ النّشاط الاقتصاديّ في الحياة العامّة بالعدل والتعاون والتكافل والإحسان، التي من خِلالها تَتَحقَّق المصالح للأمّة وتُدْرَأُ المفاسِدُ عنها. وإنَّ التطبيقاتِ المعَاصرةَ في المؤسَّساتِ الماليّة الإسلاميّة في مجالِ المصَارِف والتأمين لفي حَاجةٍ ماسّة أيضًا إلى إِدراكِ المجتمعاتِ والحكومات والسّلُطات الرَّقابية لقيمَتها والأثر الإيجابيّ في دعمِها وتوجيههما.
وإذا ما أردنا إذكاءَ مثل ذلكم النّشاط الاقتصاديّ الصحيح فعلينا جميعًا أن لا نهمِلَ عُنصُرَين مهمَّين في هذا الميدان، ألا وهما: عنصرُ الزكاة وعنصر الوقف؛ إذ بهما يتَحقَّق الدَّعم اللاَّمحدود لِتحقِيقِ الأمن الاقتصاديّ والاجتماعي للأمّة.
يضاف إلى ذلكم ـ عِباد الله ـ الوعيُ التامّ في التعامل مع العَولمة الاقتصاديّة، والتي أصبَحَت واقعًا يَفرِض نفسَه على العالم أَجمع؛ ما يؤكِّد التَّعاونَ الاقتصاديّ البنّاء بين الدّول الإسلاميّة لزيادةِ التّبادُل التجاريّ بينها وإِنشاء سوقٍ إسلاميّة مشترَكَة تُنافِس الأسواقَ الماليّة العالميّة؛ لأنَّ مُستقبلَ المسلِمين يجب أن يُصْنَع في بِلادهم وعلى أرضِهم بكَدحِهم وأخلاقِهم حتى لا يقَعوا فريسةً لأخلاقِ التّسوُّل الفكريّ الاقتصاديّ بكلّ صنوفه في طاقاتهم ومقَدَّراتهم؛ لأنَّ أيَّ أمّة تَبنِي مستقبلَها على مِثل ذلكم التّسوُّل فهي أمّة ضائِعة في تِيهِ التسوّل على الاقتصاد الأجنبيّ، فأنَّى لها حينئذ الاستقرارُ والظهور؟! هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15].
هذا وَصَلُّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى خيرِ البريّة وأزكَى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بِنَفسه، وثنَّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقالَ جَلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمّد صاحب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وَارْضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابةِ نبيّك محمّد...
(1/5681)
خلق الرفق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
محمد بن أحمد اليامي
المدينة المنورة
جامع الحباب بن المنذر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العناية بالأسرة. 2- رفق النبي. 3- الرفق في التعليم والدعوة. 4- الرفق بالحيوان. 5- الرفق بالنفس. 6- ذم العنف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الأحبة، الحفاظُ على المجتمع أول ما يكونُ من داخلِ الأسرة، كان النبيُّ عند بعضِ نسائهِ فأرسلتْ إحدى أُمَّهَاتِ المؤمنينَ بصحفةٍ فيها طعامٌ، فضَرَبَتْ التي النبيُّ في بيتِها يدَ الخادمِ فسقطتْ الصحفةُ فانفَلَقَتْ، فجمعَ النبيُّ فِلَقَ الصحْفَةِ ثمَّ جعلَ يجمعُ فيها الطعامَ الذي كانَ في الصحفةِ ويقولُ: ((غارتْ أُمُّكُمْ)) ، ثم حبسَ الخَادِمَ حتى أُتيِ بصَحْفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفعَ الصحفةَ الصحيحةَ إلى التي كُسرتْ صَحْفَتُهَا وأَمْسَكَ المكسورةَ في بيتِ التي كَسرتْ.
يا من تُحبون اللهَ ورسولَه، ما أجملَهُ من رفقٍ من الحبيب الذي كان يَرفُقُ بأهله وبغيرهم، وكانَ يقولُ كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم: ((إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحبُ الرفقَ، ويعطي على الرفقِ ما لا يُعطي على العنف)) ، والمعنى: أنه يأتي مع الرفق من الأمورِ ما لا يأتي مع ضده، أو بمعنى آخر: يُثيبُ على الرفق ما لا يُثيبُ على غيرِهِ. فكيف تكون ردةُ فعلِ أحدِنا لو كَسَرَتْ الزوجةُ آنيةً ثمينةً بغير قصد؟! فما بالك لو كانت بقصدٍ كما فعلتْ عائشةُ رضي الله عنها؟!
بل كان ينظر ماذا يُسعدُ أهلَه فيَحْرِصُ عليه. اسمع ـ يا من تحبُّ رسولَ الله ـ ما تقولُهُ عائشةُ رضي الله عنها حيثُ قالتْ: كانَ الحبشُ يلعبونَ بِحِرَابِهم، فسترني رسولُ الله وأنا أنظرُ حتى كنتُ أنا أنصرف. فهو يسترها لأن هذا يُفْرِحُها ويُدخِلُ السرورَ عليها، وكذلك ينتظرُها حتى تكون هي التي تنصرف، تقولُ عائشةُ رضي الله عنها: فاقدروا قدر الجاريةِ الحديثةِ السنِّ تسمعُ اللهوَ، وهذا كنايةٌ عن طولِ وقوفهِ لها، وهو مَنْ هو ، حاكمُ المسلمين، والقاضِي بينهم، والمفتي لهم، والواعظ وغير ذلك من الأعمال الكثيرة والكبيرة التي يَعجِزُ أحدُنا عن تولي واحد منها فقط، فربما لا يستطيعُ أن يعطيَه حقه.
معاشر المسلمين، الأمرُ يحتاج منا إلى نظر، لنُعيد تفعيلَ النصوصِ الشرعيةِ والسننِ النبويةِ في حياتِنا اليومية، كيف لو اتصفنا بخلقِ الرفق مع زوجاتنا، والرفقِ مع أبنائنا وخدَمِنا، وإليكم هذا المثال الرائع من نبيِّ الإسلامِ ، وكلُّ حياتِه أمثلةٌ رائعة، ورد في صحيح مسلم قال أنسٌ : كان رسولُ الله من أحسنِ الناسِ خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجةٍ فقلتُ: والله لا أذهبُ، وفي نفسي أن أذهبَ لِما أمرني به نبيُّ الله ، فخرجتُ حتَّى أمُرَّ على صبيانٍ وهم يلعبونَ في السوقِ، فإذا رسولُ الله قدْ قبضَ بقفايَ من ورائي، قال: فنظرتُ إليه وهو يضحكُ، فقال: ((يا أُنيسُ)) انظر إليه يتحببُ إليه وهو يناديه، ((يا أنيسُ، أَذهبتَ حيثُ أمرتُكَ؟)) هل شاهدت رفقًا كمثل هذا؟ أين نحن من هذه الوقفات في تعاملنا مع أبنائنا؟ بل أين من يسيء إليه عن هذه القصةِ وأمثالِها؟ فلمسَ الطفلُ هذا الرفقَ وهذا اللينَ وهذا العطفَ والحنانَ. فقال أنسٌ: نعم أنا أذهبُ يا رسولَ الله.
واسمع إلى أنس وهو يحكي مدةَ خدمتهِ لرسول الله وكيف كانت إذْ يقول مبتدئًا قولَه بقسم ويمين: والله، لقد خدمتُهُ تسعَ سنينَ، ما علمتُهُ قال لشيءٍ صنعتُهُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ أو لشيء تركتُهُ: هلاَّ فعلتَ كذا وكذا؟
والرفق يكون أيضا في تعليم العباد ودعوتهم إلى الحق، يقول الله تعالى لسيد المرسلين : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]، وَقَدْ قَالَ البَارِي جَلَّ وَعَلاَ لِنَبِيَّيْهِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ حِِينَمَا بَعَثَهُمَا إِلَى طَاغِيَةِ الأَرْضِ فِرْعَوْنَ: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44]، وَأَوْصَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83].
أيها الإخوة في الله، إن الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه، فقد بالَ أعرابيٌّ في المسجد فقامَ إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله : ((دعوه، لا تزرموه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء ـ أي: دلوا من ماء ـ ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) ، فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فردَّ عليه النبيُّ : ((لقد تحجرت واسعا)).
أيها المؤمنون، كان النبيُّ رفيقًا مع المسلمين وحتى مع غيرهم، تروي لنا أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها أنَّ يهودَ أتوا النبيَّ فقالوا: السامُ عليكم، فقالتْ عائشةُ: عليكم ولَعَنَكمْ اللهُ وغَضِبَ اللهُ عليكمْ، فقال : ((مهلاً يا عائشةُ، عليكِ بالرفقِ وإياكِ والعنفَ والفُحشَ)) ، قالتْ: أولمْ تسمعْ ما قالوا؟! قال: ((أولمْ تسمعي ما قُلْتُ؟ رددتُ عليهمْ، فيُستجابُ لي فيهمْ، ولا يُستجابُ لهمْ فيَّ)).
الرفقُ سيلقى اليُمْنَ صاحبُهُ والْخرْقُ منه يكون العنفُ والزللُ
والحزمُ أن يتأنَّى الْمرء فرصتَه والكَفُ عنها إذا ما أمكنت فشلُ
والبرُّ لله خيرُ الأمر عاقبةً والله للبرِّ عونٌ ما له مثل
خيرُ ا لبريةِِ قولاً خيرُهم عملا لا يَصلحُ القول حتى يَصْلحَ العمل
والرفق يكون في كل شيء، فالرفق مطلوب حتى مع الحيوان، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه قال: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَرِيقِ اشْتَدَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمّ خَرَجَ، فَإذَا كَلْبٌ يَلْهَثْ يَأْكُلُ الثّرىَ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الّذِي كَانَ بَلَغَ مِنّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَهُ مَاءً، ثُمّ أَمْسَكَهُ بِفيهِ حَتّىَ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ)).
والرفق مطلوب مع النفس أيضا، فيجب على الإنسان أن يرفق بنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء: 29]، فالعنف الذي يخالف النفس والفطرة يضر ولا ينفع ، ولذلك عندما قال ثلاثة من أصحاب النبيِّ : أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أصلي الليل ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أنكح النساء، عندما بلغ ذلك رسول الله غضب وقال: ((أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
فاتقوا الله عباد الله، وراجعوا أنفسكم ومعاملاتكم، وعليكم بالرفق في جميع أموركم، عليكم بالرفق مع الأهل والأقارب والأصدقاء، وعليكم بالرفق مع الصغار والكبار ومع الطلاب والمراجعين وكل من تحتكون به في حياتكم اليومية؛ لأن النبي يقول: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، الرسولُ ينهى عن العُنف ويأمر بالرفق، فما أعظمه من رسولٍ اختاره الله من بين الخلق لأنْ يكون خاتمَ النبيين وسيدَ الأولين والآخرين وقدوةً للناس أجمعين، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. فعليك ـ أخي المسلم ـ بالرفقِ إن كنتَ أبًا مع أبنائك، أو زوجًا مع زوجِك، أو أخًا مع إخوانِك، أو رئيسًا مع مرؤوسِيك.
أيها الإخوة، يقولُ أهلُ اللغة: إن العنفَ ضدُّ الرفقِ، وللأسف فقد انتشر في بعضِ البيوتِ الجفاءُ بين الأب وأبنائه، بين الأم وبناتها، بين الزوج وزوجه... وأكثرُ المتضررين من هذا العنف هم الأطفال. ويكونُ نتيجةً لدور التوتر والمشاكل بين الزوجين وسرعةِ الغضب والذي بسببه يكون ما لا يُحمدُ عقباه. أيُنتقى الكلامُ الجميلُ والفكاهةُ المضحكةُ للصديقِ وتُحرمُ منه الزوجةُ والأبناءُ؟! ما ذنبهم؟!
إخوة الدين، الحياةُ المزدحمةِ بالأعمال وازدياد الاستهلاك وتراكم الديون وضعف الروابط الأسرية كلها مجتمعة والبعدُ عن المنهج النبوي يُعدُ المنبعَ الذي ينبعُ منه نهرُ العنف الأسري للردعِ وفرضِ السيطرة، حيثُ يرجعُ ربُّ الأسرة إلى بيته محمّلا بالهموم، ويُقحمها داره ويُصبُ أثرها على الأسرة، ويُفرغُ على الضعفاءِ، فيضافُ إلى الإرهاقِ خارجَ المنزل الإزعاج داخلَه، ألا نُجففُ تلك الينابيع وأن نعرفَ حقوقَ الأسرة وواجباتِها والتراحمَ والترابطَ بين أفرادها؟! يقولُ : ((ليس منا من لا يرحمْ صغيرنا ويوقرْ كبيرنا)) ، وأن نستيقنَ أهميةَ الأسرةِ المسلمةِ التي يَحرصُ الشيطانُ على تشتيتها لأنَّ منها تنبثقُ الأجيالُ، فيكونُ ضربُ الأولادِ وشتمُهم وإهانتُهم بسبب وبلا سبب، يقول النبي : ((إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق)).
نَعَمْ عباد الله، إِنَّ العُنْفَ وَالفَظَاظَةَ مَا فَشَتَا فِي مُجْتَمَعٍ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ أَوْ أُسْرَةٍ مِنَ الأُسَرِ إلاَّ تقطَّعتْ بَيْنَهُمْ حبالُ الصِّلَةِ، وفسدتْ علائقُ المحبَّةِ والأُخوَّةِ، وَسَادَتِ البَغْضَاءُ وَالوَحْشَةُ.
(1/5682)
إجلاء بني النضير
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القرآن والتفسير
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
1/5/1417
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على تدبر القرآن. 2- قصة إجلاء بني النضير. 3- الآيات التي نزلت في القصة. 4- التشابه بين صفات المنافقين في الماضي والحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ففي القرآن الكريم قصص وعبر لمن يريد الاعتبار والاتعاظ والتذكر، وهذا مطلوب من المؤمنين بأمر الله عز وجل كما قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]، وقال عز وجل: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111]، وقال عز وجل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44]، وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37]، وقال تعالى: : كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]. إن كثيرًا من المسلمين يتلون آيات القرآن الكريم أو تتلى عليهم ولا يعرفون كثيرًا من أسباب النزول والمعنى الإجمالي لذلك، ومنه سورة الحشر التي نزلت في إجلاء بني النضير: حي من أحياء اليهود قرب المدينة المنورة على بعد ميلين تقريبًا لما كانت المدينة على حالها في عهد رسول الله ، والآن هو حيّ من الأحياء داخل المدينة النبوية، وقد كان الإجلاء في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أُحُدٍ وقبل غزوة الأَحْزَابِ.
ومما ذكر عنها أن رسول الله ذهب مع عشرة من كبار الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وذلك إلى محلة بني النضير؛ لطلب المشاركة في أداء دية قتيلين قتلهما خطأ عَمْرُو بْنُ أَمَيَّةَ الضَّمْرِيّ، وهما من بني كلب أو كلاب، وحيث قد جاء ذَوُوهُمَا يطالبون بِدِيَتِهِمَا من رسول الله لأنه المسؤول عن المسلمين، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى بني النضير مع كبار الصحابة لوجود معاهدة بينه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، وذلك لما قدم المدينة المنورة بعد هجرته من مكة المكرمة، فاستقبله يهود بني النضير بِالْبِشْرِ والتّرْحَابِ، ووعدوا بأداء ما عليهم من المساهمة في دية القتيلين، بينما كانوا يدبرون أمرًا لاغتيال الرسول ومن معه حيث أجلسوه في مجلس في ظلّ جدار من بيوتهم، فرجع بعضهم إلى بعض وتشاوروا حيث قالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فهل من رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فَانْتدبَ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحد اليهود قاتله الله وقاتلهم وأخزاهم وأذلهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي على الرسول رحى كبيرةً أَيْ: مطحنة معروفة مصنوعة من الحجر، فأوحى الله إلى رسوله محمد ما يُبَيِّتُ اليهودُ من غَدْرٍ، فقام كأنما ليقضي أمرًا، فلما غاب واستبطأه من معه من الصحابة خرجوا يسألون عنه فعلموا أنه قد دخل المدينة، وعندها أمر رسول الله الصحابة بِالتَّهَيُّؤِ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ونقضهم لعهد الأمان الذي كان بينهم وبين رسول الله ، وكان قد سبق ذلك إِقْذَاعٌ من كعب بن الأشرف من يهود بني النضير في هجاء رسول الله وتَأْلِيبِهِ الأعداء على المسلمين، حيث إن كعبًا ورهطًا من بني النضير اتّصلوا بكفار قريش اتِّصَالَ تَآمُرٍ وتحالفٍ وكيدٍ ضِدَّ النبي ، مع وجود التحالف بينه وبينهم من قبل، ولكنَّ خيانةَ اليهود ونقضهم العهود لا تفارقهم أبد الدهر. إذًا فالمكر والخداع والخيانة ونقض العهود والمواثيق وغيرها من الطباع والصفات اللئيمة المذمومة الموجودة في يهود العصر الحاضر وما يشاهده العالم بأسره عبر القنوات والوسائل الإعلامية المختلفة من ممارسات في فلسطين وغيرها إنما هو امتداد لطباع آبائهم وأجدادهم المتأصلة في نفوسهم وسُوَيْدَاءِ قلوبهم، والتي لن يَتَخَلَّوْا عنها كما هو مُقَرَّرٌ في القرآن الكريم وسنة رسول الله ، وقد أوردتُ عُمُومِيَّاتٍ عن أفعالهم المشينة في خطبة مستقلة توضح بعض خيانات اليهود المتكررة وعداوتهم للمسلمين إلى قيام الساعة.
أعود للقول بأنه لما كان التَّبْيِيتُ لِلْغَدْرِ برسول الله في محلة بني النضير لم يَبْقَ مَفَرٌّ من نَبْذِ عهدهم إليهم كما قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال: 58]، فتجهز رسول الله وحاصر محلة بني النضير، وأمهلهم ثلاثة أيام وقيل: عشرة أيام ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم، ولكن المنافقين في المدينة وعلى رأسهم عبدُ الله بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رأس المنافقين أرسلوا إليهم يُحَرِّضُونَهُمْ على الرَّدِّ والمقاومة وقالوا لهم: أنِ اثْبُتُوا وتَمَنَّعُوا فإنا لنْ نُسْلِمَكُمْ، إنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا معكم، وإنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا معكم، فَتَحَصَّنَ اليهودُ في الحصون، فأمر رسول الله بقطع نخيلهم والتحريق فيها، فَنَادَوْهُ: أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه! فما بال قطع النخيل وتحريقها؟! وفي الرد عليهم نزل قول الله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر: 5]، ولما بلغ الحصارُ ستًا وعشرين ليلة يَئِسَ اليهودُ مِنْ صِدْقِ وَعْدِ المنافقين لهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أنْ يجْلِيَهم ويَكُفَّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فأجابهم رسول الله ، فاحتملوا من أموالهم ما استقلَّتْ به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عَنْ خَشَبَةِ بابه فيحمله على ظهر بعيره، أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين، وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتُّخِذَتْ حصونًا أيام الحصار. وما نراه اليوم من هدمٍ للمستوطنات في غزّة بعد رحيلهم عنها وما قاموا به ويقومون به مستقبلاً من تدمير وتخريب وإتلاف للبيوت والأشجار والأرض حتى الماء إنما هو امتداد لطباع آبائهم وأجدادهم، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 2-4]، وكان منهم من سار إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكانت أموال بني النضير فَيْئًا خالصًا لله وللرسول ، لم يُوجِف المسلمون عليه بخيل ولا جمال، فقسمها رسول الله على المهاجرين خاصَّةً دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما: سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة، وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله من أجل عقيدتهم، وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أَرِيحِيَّةٍ عاليةٍ وأخوةٍ صادقةٍ وإيثارٍ عجيبٍ ليس له مثيل، ولما حانت الفرصة كانت القسمة للمال كما قال الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8]، وامتدح الله الأنصار رضي الله عنهم بمحبتهم لإخوانهم المهاجرين وإيثارهم على أنفسهم حتى لو كان بهم الفقر والحاجة والخصاصة، ونزع الله من قلوبهم الْغِلَّ ووجود الحرج لصدق إيمانهم وسلامة صدورهم، فأعقب هذه الآية السابقة بالآية اللاحقة في تناسق عجيب وتعبير بليغ كما هو الحال في آيات القرآن الكريم فقال الله عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
ثم ذكر الله عز وجل أهم خصائص هذه الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين حقًا ومن عباده المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10]، أي: الذين يَأْتُونَ بعد المهاجرين والأنصار من التابعين ومن تبعهم بإحسان من المؤمنين إلى يوم القيامة مِنْ صفاتهم وسِمَاتِهم أنهم يطلبون المغفرة لهم ولإخوانهم من المؤمنين السابقين، ويطلبون أيضًا بأن لاَّ يجعلَ الله في قلوبهم الغل والحقد والحسد لأي مؤمن، مع شعورهم برأفة الله ورحمته ودعائهم الخالص بقلوب صافية وطلبهم ذلك من الله الرؤوف الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الملك الحق المبين، أعز المؤمنين بطاعته سبحانه وأذل المنافقين والفاسقين والكافرين بعصيانهم له عز وجل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن إمامنا وحبيبنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فالمتتبع لأفعال المنافقين وأقوالهم منذ الزمن الأول إلى زمننا هذا يجد التطابق والتشابه في كل صفة وخلق ذميم وفي أوصافهم الكثيرة الواردة في القرآن الكريم وفي أقوال رسول الله. ومن تلك الصفات إظهارهم خلاف ما يبطنون، وقد فضحهم الله في سورة الحشر حيث وعدوا إخوانهم من اليهود بأن ينصروهم ويقوموا معهم، فلو أُخْرج اليهود من ديارهم فسوف يخرج المنافقون معهم، وإن قاتلهم المسلمون فسوف يقومون مع اليهود وينصرونهم، فأكذبهم الله عز وجل وفضحهم بآيات تتلى إلى يوم القيامة حيث لم يوفوا بوعدهم لليهود، بل خذلوهم ولم يقوموا معهم.
ولننظر إلى القرابة بين المنافقين واليهود والكافرين جميعًا، فالقلوب مع بعضها والأفكار متلاقحة، فالمنافقون وإن لبسوا رداء الإسلام في الظاهر فهم إخوان للكافرين من اليهود وغيرهم كما قال تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الحشر: 11]. ولننظر إلى هذا الوعدِ الْمُؤَكَّدِ وَعْدِ المنافقين لإخوانهم اليهود حيث أنزل الله عز وجل في كتابه العزيز آيات تتلى إلى يوم القيامة يَصِفُ وعْدَهُمْ في الآية التالية، ثم أكذبهم في نهاية الآية نفسها وفي التي تليها: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11]، فالله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقرّرون، ويؤكد غير ما يؤكدون، وكان ما شَهِدَ الله به وكَذب ما أعلنه المنافقون لإخوانهم وقرروه، قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر: 11، 12].
والمنافقون نفاقًا اعتقاديًا سوف يجمعهم الله مع الكافرين لما تنطوي عليه نفوسهم وقلوبهم ولالتقائهم في المعتقد وإن كانوا يُظْهِرُون خِلافَ ما يُبْطِنُون، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]، وقال عز وجل عن المنافقين خصوصًا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء: 145]، إذًا فالأمر في غاية الخطورة ممن ينتسب للإسلام في هذه الأيام ويسعى إلى اليهود والنصارى بمثل ما فعل أسلافهم وأشباههم في السابق قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِين [المائدة: 52].
وهذه بعض طباع اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان عندما تكون المكاشفة والوضوح في ساحة القتال حيث ينكشف الخوف والجبن والفرار المستقرّ في نفوسهم ويظهرون على حقيقتهم؛ لأنهم يخافون من المؤمنين أشد من خوفهم من الله لأنهم لا يفقهون، فلو كانوا يخافون الله لما خافوا غيره.
ومن طباع اليهود الملازمة لهم أبد الدهر أنهم لا يقاتلون إلا من أماكن محصنة أو من وراء جدر، وذكر الله ذلك عنهم بأنهم مثل يهود بني قينقاع ولهم مَثَلٌ يحتذونه وهو الشيطان، قال تعالى: لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر: 13-17].
إذًا فالسبب في إجلاء بني النضير هو تخطيطهم لاغتيال رسول الله وخيانتهم ونقضهم العهود والمواثيق، والآيات السابقة من سورة الحشر واضحة الدلالة لا غموض فيها. وسوف تكون خطبة قادمة إن شاء الله تعالى عن اليهود وبعض خياناتهم وعن المنافقين أيضًا في خطب أخرى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5683)
اليهود وعداوتهم للمسلمين وخيانتهم
أديان وفرق ومذاهب
أديان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
13/2/1423
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليهود أكثر الأمم لنا بغضًا وكرهًا. 2- اليهود ونماذج من كفرهم بالله عز وجل. 3- مكر اليهود بالنبي. 4- مؤامرات اليهود على المسلمين. 5- جرائم اليهود في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا أن نتقي الله تعالى ونكون مع الصادقين الذين صدقوا الله؛ حيث صدقوا في النية وصدقوا في القول وفي العمل، علينا أن نحقق هذا الصدق بالقيام بما أوجب الله علينا من نُصْرة دينه وتقديمه على هوى النفس وشهواتها، فالجهاد جهادان: جهاد النفس، وجهاد العدو، ومرتبة جهاد النفس قبل جهاد العدو.
فيا أمة محمد ، إن دين الإسلام هو الدين الذي جمع بين العزيمة والقوة والشهامة والكرامة والغيرة، جمع بين خَيْرَيِ الدنيا والآخرة. إن دين الإسلام له أعداء يتربصون به الدوائر، ويتحينون الفرص، فيغزونه من كل وجه، يغزونه من ناحية العقيدة والفكر، فيغيّرون العقيدة الصحيحة والأفكار القويمة إلى عقائد فاسدة وأفكار عوجاء، ويغزونه من ناحية الأخلاق، فيفتحون لأبنائه كلّ باب يغير الأخلاق الفاضلة والمثل العليا، ويغزونه من الناحية العسكرية لِيُوهِنُوا أبناءَه ويُشرِّدُوهم ويُمزِّقُوهم شرَّ مُمَزَّقٍ.
والعداوة للمسلمين من اليهود والذين أشركوا والنصارى والملحدين وجميع ملل ونحل الشرك والكفر، ولكن العداوة الشديدة والكره والبغض للمسلمين تكون من اليهود والذين أشركوا أكثر من غيرهم، قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة : 82]. مع أن النصارى عامة أقرب وأكثر موالاة لليهود لأسباب هم يعلمونها في القديم والحديث، فَفَرْقٌ بَيْنَ الْقِسِّيسِين والرُّهْبَان الذين يؤمنون برسالة رسولنا محمّد وبين أولئك الْمُعَادِينَ من عموم النصارى.
وجاء التحذير للمؤمنين في آيات تتلى إلى يوم القيامة بعدم اتخاذهم أولياء، فالفرق بين الموالاة والمحبة وبين التعامل معهم ومعاملة عامتهم بالتي هي أحسن والعدل معهم وبِرّهم والإحسان إليهم الفرق واضح، مع أن المنافقين يسارعون إليهم وإلى مودتهم وموالاتهم، ويأتي الكلام عن هذا في حينه إن شاء الله تعالى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. وفي المقابل نرى هذا التوجيه الإلهي الكريم حول التعامل معهم، قال تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 8، 9].
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة النبوية، وكَادُوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة، وقد تضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وذلك الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شَنَّهَا اليهودُ على الإسلام وعلى رسول الله محمد وسوء أدبهم معه حتى في الألفاظ والمخاطبة الملتوية التي فيها التَّوْرِيَةُ، وكذلك على المسلمين في تاريخهم الطويل والتي لم تَخْبُ لحظةً قرابة أربعة عشر قرنًا وما تزال حتى اللحظة يَسْتِعِرُ أوَارُهَا في أرجاء الأرض جميعًا.
أولئك اليهود الذين وصفوا الله سبحانه وتعالى بالنقص، تعالى الله عن ذلك وعما يقول الظالمون عُلُوًّا كبيرًا، قالوا لعنهم الله: يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] أي: يبخل لا ينفق، فقال الله عز وجل ردًا عليهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـ?نًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]. فَغَلَّ اللهُ أيديَهم معنويًا بحيث كانوا أبخل الناس وأحرصهم على الحياة، لا يبذلون الأموال إلا إذا كانوا يرجون من ورائها أكثر مما بذلوا.
أولئك اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران: 187]، وقال عز وجل: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايَـ?تٍ بَيِّنَـ?تٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ ?لْفَـ?سِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ ?للَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [البقرة: 99-101].
ولقد استخدم اليهودُ المكرَ والخداعَ في فجر الإسلام، ولا زالوا ولن يزالوا على مكرهم حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام قبل قيام الساعة، فيختفي اليهودُ خَلْفَ الحجرِ والشجرِ، فينطق الحجرُ والشجرُ إلا شجرةَ الْغَرْقَد يقول: يا مسلم، تَعَالَ فإنّ ورائي يهوديًا فَاقْتُلْهُ.
لقد استخدم اليهود كلّ الأسلحة والوسائل التي تَفَتَّقَتْ عنها عبقريةُ المكر اليهودية.
أولئك اليهود الذين قتلوا أنبياء الله بغير حقّ، وسعوا في الأرض فسادًا، والله لا يحب المفسدين، قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112]، وقال تعالى: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة: 70].
وكما قتلوا الأنبياء وغَدَرُوا بهم فإنهم ينقضون العهد والميثاق، ولا يهمهم ذلك، فهو أبسط عندهم وأسهل من أيّ شيء في حسابات الآخرين، ويعتبر ذلك شيئًا عاديًا لديهم، وإن كانت أي دولة أو أمة أو جماعة التزمت معهم بذلك فإنّ اليهود بعد ساعات ينقضون كل المواثيق والاتفاقيات مهما كانت، ولا أَدَلَّ على هذه الطباع اللئيمة فيهم مما يشاهده ويلمسه العالم في هذا العصر ويعلمونه ويعيشونه واقعًا مشاهدًا وملموسًا أمام أعينهم مع تلك العصابة اللئيمة التي لا ترقب في مؤمن إِلاً ولا ذِمَّةً، قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13].
وقد نقضوا الميثاق مع الله جل جلاله، فكيف بالبشر؟! قال عز وجل عنهم: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 154، 155].
والقرآن الكريم مَلِيءٌ بأخبارهم، وفيه من قصصهم الشيء الكثير، وأكثر ما يختلفون فيه موجود لدينا في القرآن الكريم وفي سيرة رسول الله معهم، وما كان من أمرهم في المدينة النبوية وما جاورها، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76].
أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود، فعقد معهم العهد أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أَبَى طَبْعُهُمُ اللئيمُ وسَجِيَّتُهُمُ السَّافِلَةُ إلا أن ينقضوا العهد ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم الرسول من المدينة على أن لهم النساء والذرية، ولرسول الله أموالهم. وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد، فحاصرهم الرسول ، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وخَرَّبُوا بُيُوتَهمْ بأيديهم، وطلبوا من رسول الله أنْ يُجْلِيَهُمْ على أن لهم ما تحمله إِبِلُهُمْ من أموالهم إلا آلة الحرب، فأجابهم إلى ذلك، فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام. وأما قُرَيْظَةُ فنقضوا العهد يوم الأحزاب، فحاصرهم الرسول ، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فَحَكَمَ فيهم بِقَتْلِ رجالهم وقَسْمِ أموالهم وسَبْيِ نسائهم وذرياتهم.
ومن ألوان غدرهم وخيانتهم بخاتم الأنبياء أنه لما فتح خيبر أَهْدَوْا له شاةً مسمومةً، فأكل منها ولم يحصل مُرَادهُمْ ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أَوَانُ انقطاع أبهري)).
ولقد قالوا عن مشركي قريش بأنهم أهدى من الرسول ومن المؤمنين حينما سألهم أبو سفيان عن ذلك، وبعد أن سجدوا لأصنامهم وكفروا بما في التوراة، فأنزل الله عز وجل قوله عنهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُؤْمِنُونَ بِ?لْجِبْتِ وَ?لطَّـ?غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء: 51، 52].
ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق يوم أن كان الناس مسلمين حقًا اسْتَدَارَ اليهود يكيدون للإسلام بِدَسِّ المفتريات في كتبه ومصنفاته، ولم يسلم من هذا الدس حتى كتاب الله القرآن الكريم الذي تكفّل بحفظه سبحانه، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر: 9]. مع أنهم يطبعون ملايين من نسخ القرآن الكريم ليحرّفوا آية أو كلمة، قاتلهم الله ولعنهم. ومنها ما عملوه قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة حين طبعوا القرآن وحذفوا منه لفظة (غير) أي: ثلاثة حروف فقط قبل كلمة الإسلام في قوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران: 85]. فحذفوا كلمة (غير) حتى يصبح المعنى ومن يبتغ الإسلام دينًا فلن يقبل منه، قاتلهم الله ولعنهم، ولكن الله حافظ كتابه، ولا يزال اليهود الغادرون على هذه الطباع اللئيمة، وآخر ما عملوه أيضًا في عام ألف وأربعمائة واثنين وعشرين هجرية من إقدامهم على طبع ترجمة القرآن والتحريف فيها، وسمعنا ما قامت به رابطة العالم الإسلامي حول ذلك.
ولا يزال اليهود ومعهم النصارى يتربصون بالمسلمين، ولن يرضوا عنا أبدًا إلا باتباع ملتهم، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله الثبات على دين الإسلام.
ولنتأمل قول الله عز وجل الذي بدأه بـ(لن) التأبيدية، والتي تفيد عدم رضا اليهود والنصارى عن الرسول محمد وأتباعه ما داموا متمسكين بالإسلام، قال تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، وقال عز وجل: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة: 217]، وقال سبحانه وبحمده: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة: 109].
لقد انتهى المطاف باليهود في هذا العصر الأخير إلى أن يكونوا هم الذين يقودون الحرب والمعركة ضِدَّ الإسلام والمسلمين في كل شبر على وجه الأرض، وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية والشيوعية في هذه الحرب الشاملة.
إن الذي ألَّبَ الأحزاب على الدولة الناشئة في المدينة النبوية وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش والقبائل الأخرى في الجزيرة العربية هم اليهود، والذي ألّبَ الْعَوَامَّ وجمعَ الشَّرَاذِمَ وأطلق الشائعات في فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وما تلاها من النكبات هم اليهود، والذين قادوا حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله وفي الروايات والسِّيَرِ هم اليهود. ثم إن الذين كانوا وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة الإسلامية عن الحكم واستبدال القوانين الوضعية أو ما يسمى بـ(الدستور) بدلاً من الشريعة في عهد السلطان عبد الحميد ثم انتهت بإلغاء الخلافة على يدي أتاتورك كان وراء ذلك اليهود. وعلى المسلمين أن يتأملوا واقعهم اليوم وما يجري في العالم الإسلامي والعربي: مَنِ الذي وراء هذه الحروب وإثارة الفتن بين الدول المتجاورة أو القيام بِشَنِّ الحروب على الدول الإسلامية من أجل إِحْلالِ أنظمتهم وقوانينهم الوضعية بدلاً من تعاليم الإسلام وخاصة عندما تستلم تلك الدول جماعاتٌ يعلمون أنها سوف تطبق كتاب الله وسنة رسوله محمد على أي دولة؟ فكل مسلم يعلم أن اليهود ومعهم النصارى يساندونهم ويدعمونهم هم وراء كل حرب ضد الإسلام والمسلمين حتى لا تقوم لهم قائمة، ولو استعرض المسلم ما حصل منذ عشرات السنين وإلى يومنا هذا في الدول العربية والإسلامية من حروب لا زالت مشتعلة وتزداد يومًا بعد يوم، لو استعرض من الذي خلفها ويُؤَجِّجُ شرارتَها ويصبّ ما استطاع على نارها حتى تزيد اشتعالاً لَعَلِمَ أنهم اليهود وإلى جانبهم النصارى، ولو تأمل المسلمون كيف استطاع اليهود بخبثهم وتخطيطهم اللئيم أن يستنزفوا ثروات الدول الإسلامية ويُبْقُوا شعوبَها في غاية الفقر والبطالة، اليهود والنصارى هم المستفيدون من وراء تلك الحروب، كيف ذلك؟ إنه بِتَصْنِيعِ الأسلحةِ بشتى آلياتها واحتياجاتها ثم بَيْعها على المسلمين ومن ثم إِيقَاد الحرب بين دولتين متجاورتين، أو إيجاد الصراع الداخلي والنعرات القومية في أي دولة حتى تقوم الحرب لعشرات السنين، ثم الاستفادة المالية ثانيًا عندما تنتهي الحرب حيث يقومون بجمع الأموال من الدول المغلوبة على أمرها لما يسمّونه: إِعْمَار ما تمَّ تَدْمِيرُهُ في تلك الدول، وهم الذين يصنعون جميع احتياجاته إلا ما ندر، أو عندما يُؤَلِّبُونَ جماعاتٍ معارضةً على حكام تلك الدول ويحمونهم سنين طويلة، وبعد إعدادهم وغسل أدمغتهم يقومون بإسقاط تلك الحكومات لتحلَّ المعارضةُ محلَّ التي لم تَسِرْ على مُبْتَغَى تلك الدول الكافرة، ومِنْ ثَمَّ تدور رحى الحرب بين أبناء تلك البلاد حتى يتم تدمير ممتلكاتها ويموت كثير من شعبها، ثم تبدأ في الإعمار لما تم تدميره على حساب تلك الدول والشعوب الضعيفة. وهكذا نجد أن المسلسل لا ينتهي، ومع غفلة المسلمين عن هذا التخطيط الصهيوني الصليبي لا نجد حروبًا بين تلك الدول الكافرة المصنِّعة للأسلحة والتي تبيعها على الدول المستضعفة ثم تثير الفتن بين أبنائها أو بينها وبين جيرانها أو تقوم هي بها. فهل يفيق المسلمون من رقادهم وسُبَاتِ نومهم الذي طال حتى أدرك الخطرَ الفعليَّ غيرُ المسلمين؟ إنا لنأمل أن يفيق الجميع وينتبهوا لما يُحَاكُ ضدهم وضد إسلامهم ومُقَدَّرَاتِ شعوبهم ويستدركوا ما بقي، ويَقُوا أمتهم شرور اليهود والنصارى والكفار جميعًا ومخططاتهم اللئيمة، والذي كان وراء النزعة المادية الإلحادية والنزعة الحيوانية الجنسية وأفلام الجنس الخاصة أو العامة المنتشرة اليوم بشكل مخيف عبر القنوات الفضائية وشبكة المعلومات المسماة بالإنترنت، ووراء النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط الذي وراء ذلك هم اليهود، وهم الذين وراء البنوك الربوية التي انتشرت انتشارًا فظيعًا وأصبحت دعاياتها وإعلاناتها تعلو المباني التي ترتفع أكثر من المآذن في المساجد حتى أصبح المسلمون هم الذين يعلنون الحرب فيها على الله ورسوله، ونخاف أنْ يَعُمَّ عقابُ الله ولا يختص بأصحاب الشر والفتنة، وصدق الله العظيم القائل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة: 82].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله، فتبارك الله رب كل شيء ومليكه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن ما تمت الإشارة إليه سابقًا عن اليهود وخياناتهم ومكرهم وغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق وسعيهم في الأرض بالفساد ما هو إلا قليل من كثير من أَفْعَالِهم المشينة وأخلاقهم الذميمة وصفاتهم الدنيئة، ومن أراد معرفة ذلك تفصيلاً فعليه بتلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته والوقوف على تفسير تلك الآيات فيما ورد من أسباب النزول وخاصة في السور المدنية، عندها يجد المسلم ما يكفي ويشفي بإذن الله.
أما عن العصر الحاضر فالأمر واضح للعيان، ويسمع كل شخص ويرى ويقرأ عنهم الشيء الكثير من خلال الوسائل الإعلامية المتعددة، والمسلم يعتبر بما يجري على الساحة من خيانة اليهود وغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق وعدم التزامهم بما يتفقون ويوقعون عليه مع الطرف الثاني، بل يحصل منهم التلاعب بمشاعر الناس والاستفزاز والاستهتار بكل ما تم الاتفاق عليه. فهذه التصرفات القبيحة والأفعال المشينة والأخلاق الدنيئة في الجيل الجديد مرتبطة بأخلاق أجدادهم الذين ساروا على نهجهم واقْتَفَوْا أَثَرَهُمْ ولم يَتَخَلَّوْا عن عقائدهم الباطلة وأخلاقهم الخبيثة، والمسلم لا يستغرب أي تصرف أو خلق من يهود الحاضر لأنَّ لديه الحصيلةَ الكافيةَ عن آبائهم الأولين، ولكن استغرابه في العرب أو المنتسبين للإسلام الذين يغفلون عن تعاليم إسلامهم وقد لا يعرفون عن ذلك شيئًا، ويعجب للتخاذل والغفلة والذلة المسيطرة على هذه الأجواء حيث اتبع اليهود عليهم لعائن الله المتتالية إلى يوم الدين اتبعوا سياسات عدة لتنفيذ أطماعهم الحالية التي يريدون بعدها الوصول إلى مطامعهم ومخططاتهم الصهيونية حسب ما رُسِمَ لها في بروتوكولات حكماء صهيون، فإلى جانب ضرب الدول المجاورة وإشعال نار الفتنة في ديار المسلمين في كل قَارَّةٍ وإشغالهم بها لتحويل أفكار الناس عنهم وصرف أنظارهم عن تنفيذ مخططاتهم، فلا زالت معاول الصهاينة تهدم المدن والقرى وتدنس المساجد بكل ما يستطيعون، ومن آخرها قبل سنوات إدخال الكلاب إليها وممارستهم طقوسهم الدينية كما يزعمون، وأخيرًا في هذه الأيام هذا الإجرام الذي يشاهده العالم وتُنْقَلُ صُوَرُهُ وأخبارُهُ عن قتل العشرات وجرح المئات بل الألوف من المسلمين الممنوعين من حمل السلاح دفاعًا عن المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وليس لديهم إلا الحجارة الصغيرة التي يقذفونها بأيديهم مباشرة أو بالنَّبْلِ أو بما يسمى بالنَّبَّالَةِ أو المَرْجَمَةِ كما هو مشاهد عندما يقذفون بها اليهود، مع أن اليهود الصهاينة يملكون من السلاح وأنواعه المتعددة ما لا يحصى ومن تقنيات العصر ما لا تملكه دول المنطقة، بل ما هو محظور وممنوع على معظم دول العالم، تلك الأسلحة النووية والقنابل الذرية المحرمة دوليًا كما يُقال، فاستفزازاتهم تلك ولُجُوؤُهُمْ إلى كل فعل مشين هو من ضمن تنفيذ خطتهم التخريبية التي رسموها منذ اسْتَتَبَّ لهم الأمرُ في الأرض المحتلة منتهجين سياسة المراحل، متبعين سياسة التدرج.
إن استخلاص العبر والعظات من التصرفات الراهنة مما يقوم به اليهود على أرض فلسطين من الغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق وتدنيس أماكن العبادة والسعي في الأرض بكل أنواع الفساد وربط ذلك بما قام به أسلافهم في العصر الأول من الإسلام ليعطي دلالة على التشابه الكامل بين كلِّ يهوديٍّ يعيش الآن وبين اليهوديِّ الذي عاش في صدر الإسلام كما قال الله تعالى عنهم: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]. وسوف يُسامون سوء العذاب إلى يوم القيامة كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ?لْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف: 167].
والواجب على المسلمين الحذر من اليهود والنصارى وجميع المشركين والملحدين ومعاداتهم وبغضهم وكراهتهم في الدين وعدم التعاطف معهم إلا فيما حدده الإسلام من حيث التعامل والتعايش الدنيوي مع غير المحاربين للمسلمين وللإسلام والذين لهم عندنا عهد وميثاق، والتفريق بين الفريقين حسب ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية، قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة: 51]، وقال عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ إلى أن قال الله تعالى في آخر الآية نفسها: وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ?لسَّبِيلِ [الممتحنة: 1]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لأنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 118-120]، وقال عز وجل: لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ قَـ?تَلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَـ?رِكُمْ وَظَـ?هَرُواْ عَلَى? إِخْر?جِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الممتحنة: 8، 9].
إنَّ تَدَبُّرَ آيات القرآن الكريم والوقوف عند كل عبارة بل عند كل كلمة وربط الجديد بالقديم من أحوال اليهود وغيرهم والتأمل في ألفاظ القرآن الكريم عمومًا ليزيد المؤمن إيمانًا ويربطه بإسلامه ربطًا قويًا ويشده شدًا مذهلاً للاستفادة والاستزادة مما يُعْلِي هِمَّتَهُ للارتقاء بمعلوماته الضَّحْلَةِ إلى النَّهْلِ من علم الله الواسع الذي لم يؤت البشر كلهم منه إلا القليل، كما قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85]، وقال تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء [الأنعام: 38].
وفي خطبة أخرى إن شاء الله تعالى أعرض ما يمكن عن المسجد الأقصى وفساد اليهود وإفسادهم فيه وربط القديم بالحديث، وواجب المسلمين عامة حول الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس لإنقاذ بيت المقدس من تدنيس الصهاينة اليهود وغيرهم من الكفار. وعلى المسلمين في هذه البلاد خاصة وفي بقاع الأرض عمومًا أن يبذلوا المال ولا يبخلوا به، بل يقدموه نُصْرَةً للإسلام والمسلمين لإعلاء كلمة الله واستجابة لندائه عز وجل، وحيث قد دعا إلى ذلك ولاة الأمر في هذا البلد الطيب كما أمر الله من خلال القنوات الرسمية التي تم الإعلان عنها فالمطلوب تقديم الأموال فقط، وليست الشعارات والهتافات والمظاهرات الهوجاء، فتلك لا تسمن ولا تغني من جوع، فهي تزيد الأمور تعقيدًا في أكثر المواطن، قال تعالى: يا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَأُخْرَى? تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن ?للَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10-13]، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَـ?هَدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحجرات: 15]، وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 10، 11].
(1/5684)
المسجد الأقصى واليهود
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
6/2/1423
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسجد الأقصى ثالث مساجد المسلمين. 2- المسجد الأقصى أول القبلتين. 3- المسجد الأقصى معراج النبي. 4- دخول بني إسرائيل وانتقام الله منهم. 6- المسلمون يفتحون بيت المقدس. 7- المعركة الموعودة مع اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، لقد احتلَّ اليهودُ المسجدَ الأقصى عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثمانين هجرية، وعاثوا به إفسادًا وفيه فسادًا وبأهله عذابًا وتنكيلاً. والمسجد الأقصى هو الذي يقع في الشام أو ما يسمّى الآن بأرض فلسطين، هو المسجد الذي أُسْرِيَ إليه برسول الله محمد بن عبد الله من المسجد الحرام في مكة المكرمة، وعُرِجَ به من هناك إلى السماوات الْعُلَى جسدًا وروحًا عليه الصلاة والسلام، وأُنْزِلَ في ذلك قرآنٌ يُتْلَى إلى يوم القيامة، وفيه الربطُ الواضحُ بين المسجدَيْنِ القديمَيْنِ والإشارة إلى المسجد الجديد الثالث ضمنًا في هذه الآية الكريمة التي وصفت مسجد بيت المقدس بالأقصى أي: الأَبْعَد عن المسجد الحرام، أي: أن مسجدًا أقرب إليه سوف يكون في مستقبل الأيّام، أي: بعد هجرته عليه الصلاة والسلام، وكان فعلاً ذلك المسجد الأقرب للمسجد الحرام وهو مسجده عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة بعد استقراره في المدينة وإلى أن تقوم الساعة بإذن الله، حيث كان الإسراء والمعراج وفرضية الصلاة في تلك الليلة وهو في مكة قبل أن يهاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، قال تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء: 1].
وحقًا، فإن الأرضَ المجاورةَ للمسجد الأقصى أرضَ الشامِ أرضٌ مباركةٌ، فهي أرض خير وبركة، وفيها حول المسجد الأقصى بُعِثَ أكثرُ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن أجلها تَأَصَّلَتْ عداوةُ اليهود للمسلمين وغيرهم، وفيها سوف تكون نهايتهم، وعندها تكون الملحمة العظمى ومناصرة اليهود للدجال ونهايته وبنزول عيسى عليه السلام وعلى يده، وبعدها بسنواتٍ اللهُ أعلمُ بها تقوم الساعة بإذن الله عز وجل.
فالمسجد الأقصى هو ثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده؛ لأن الكعبةَ بُنِيَتْ قبله بأربعين سنة، ففي الصحيحين من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وُضِعَ في الأرض أَوَّل؟ قال: ((المسجد الحرام)) قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)). وهو أحد المساجد الثلاثة التي يجوز للمسلم أنْ يَشُدَّ الرِّحَالَ إليها لطاعة الله وطلب المزيد من فضله وكرمه ومضاعفة الأجر والثواب، وما عدا هذه الثلاثة المساجد لا يجوز شد الرَّحْل إليها للصلاة والاعتكاف، قال رسول الله : ((لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) أيْ: مسجد الرسول في المدينة النبوية. وقال في فضل الصلاة في هذه المساجد عن غيرها: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة مما سواه، وصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة)). والأحاديث قد وردت بروايات متعددة كان هذا مفادها.
وبالمناسبة لا ينبغي للمسلم أن يطلق هذه العبارة التي درجت على ألسنة كثير من المسلمين حول المسجد الأقصى حيث يقولون عنه: ثالث الحرمين الشريفين! فالمسجد الأقصى هو ثاني المساجد الثلاثة من حيث الأقدمية، وثالثها من حيث أفضلية الصلاة، وأولى القبلتين، وليس بثالث الحرمين الشريفين، حيث لا يوجد له حرم حوله من الأرض يَحْرُمُ فيه حمْل السلاح والقتال وتنْفير الصيد وعضْد الشجر واخْتلاء الخلاء والْتقاط اللقطة وغير ذلك مما هو خاص بحرم مكة الذي حرمه الله سبحانه وتعالى منذ عهد أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما حرم المدينة ما بين لابَتَيْهَا فَحَرَّمَهُ رسولُ الله ، ولا يتسع المقام للتوسع أكثر من هذا، فالمسجد الأقصى ليس له حرم حوله كما هو الحال لمكة والمدينة، ولكنه أول قبلة حيث صلّى رسول الله إلى بيت المقدس وهو في مكة، حيث كان يصلي بين الركنين حتى تكون الكعبة بين يديه لكي يتسنى له الجمع بينهما، ولكنه تعذر عليه الجمع بعد ذلك عندما هاجر إلى المدينة حيث كان يصلي إلى بيت المقدس بِضْعَةَ عشر شهرًا أي: ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، ثم أُمِرَ بالتوجه إلى الكعبة المشرفة.
والآيات العشر في سورة البقرة توضح بجلاء ذلك الموقف الذي تعرض له رسول الله من اليهود في المدينة ومن المشركين أيضًا، وقبلها آيات كثيرة تبين وتكشف موقف اليهود وطباعهم في القديم والحديث وأخلاقهم وما جُبِلُوا عليه، قال تعالى: سَيَقُولُ ?لسُّفَهَاء مِنَ ?لنَّاسِ مَا وَلَّـ?هُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ?لَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ ?لْمَشْرِقُ وَ?لْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا ?لْقِبْلَةَ ?لَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ?لرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى? عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـ?نَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ بِ?لنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ قَدْ نَرَى? تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ?لسَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ?لْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [البقرة: 142-145]. وبعدها بآيتين نزل قول الله تعالى: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا [البقرة: 148]. وفي بداية الآيتين التي تليها النصّ نفسه يُكَرَّرُ مرتين: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ [البقرة: 149، 150].
ولا أستطرد في هذا لأن البيان والتوضيح يحتاج إلى خطب متعددة، وأعود لأقول بأن المسجد الأقصى أُولَى القبلتيْن وثالثُ المسجدَيْن من حيث أفضلية الصلاة، والثاني في البناء، وإليه أُسْرِيَ بالرسول محمد ، ومنه عرج به إلى السماء حيث وصل إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى، وفرضت عليه الصلوات الخمس التي يؤديها المسلمون كل يوم وليلة، والتي راجع فيها ربَّنا عز وجل حتى وصلت إلى هذا العدد بعد أن كانت خمسين صلاة، فبقيت خمسين في الميزان من حيث الأجر والثواب، وخمسًا في الأداء والأفعال، ثم عاد بقدرة الله تبارك وتعالى من السماء إلى المسجد الأقصى بيت المقدس ثم إلى مكة في نفس الليلة عليه الصلاة والسلام.
وكما تمت الإشارة إليه بأن الأقصى هو الذي يقع في الأرض المباركة مقر أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسحاق ويعقوب، إلى أن خرج منها يعقوب وبنوه إلى يوسف في أرض مصر، فبقوا هناك حتى صاروا أمة بجانب الأقباط الذين ساموهم سوء العذاب، حتى خرج بهم موسى عليه الصلاة والسلام فرارًا منهم. وقد ذكّر اللهُ جل جلاله بني إسرائيل بهذه النعمة الكبيرة، وذكّرهم موسى بتلك النعمة وبغيرها من النعم حيث جعل فيهم أنبياء وجعل منهم ملوكًا وآتاهم ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين في زمنهم ذلك وليس في جميع الأزمان كما يظنه من يقرأ النص القرآني ويأخذه على ظاهره ويستدلون هم به ويعلنون أنهم الأمة المختارة المفضلة على جميع الأمم، لذلك أمرهم موسى عليه الصلاة والسلام بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدسة، لكنهم تخلوا عن الجهاد، وقد ذكر الله عنهم ذلك في القرآن الكريم حيث قال عز وجل: قَالُوا يَامُوسَى? إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى? يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا د?خِلُونَ [المائدة: 22]، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 24-26].
وهكذا اليهودُ جُبَنَاءُ في كل زمان ومكان، فبسبب إعراضهم ونُكُولِهِمْ عن الجهاد حرم الله عليهم الأرض المقدسة وتَاهُوا في الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لا يهتدون سبيلاً، حتى مات أكثرهم أو كلهم إلا من وُلِدَ في التِّيهِ، ومات هارون وموسى عليهما السلام، وخَلَفَهُمَا يوشع فيمن بقي من بني إسرائيل من النَّشْءِ الجديدِ، وفتح الله عليهم الأرض المقدسة وبقوا فيها حتى آل الأمر إلى داود وسليمان عليهما السلام، فَجَدَّدَا بناءَ بيتِ المقدسِ، وقد كان يعقوب قد بناه قبل ذلك، فلما عَتَا بَنُو إسرائيل عن أمر ربهم وعصوا رسله سلط الله عليهم ملكًا من الفرس يقال له: بختنصَّر، فدمَّر بلادَهم وبدَّدَهم قتلاً وأسرًا وتشريدًا وخرب بيت المقدس للمرة الأولى، واقتضت حكمة الله عز وجل بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة وينشؤوا نشأة جديدة، وأمدّهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرًا، فنسوا ما جرى عليهم وكفروا بالله ورسله كما قال تعالى عنهم: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة: 70]، فسلط الله عليهم بعض ملوك الفرس والروم مرة ثانية واحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب وخربوا بيت المقدس بسبب المعاصي وكفرهم بالله عز وجل وبرسله، قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ فِى ?لْكِتَـ?بِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ?لأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـ?هُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَـ?لَ ?لدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ?لْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ?لْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا [الإسراء: 4-7].
ثم بقي المسجد الأقصى بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي محمد بنحو ثلاثمائة سنة، حتى أنقذه الله منهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى أيام الحروب الصليبية في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من الهجرة، وبقي نحو تسعين سنة في أيدي النصارى حتى أنقذه الله من بين أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين من الهجرة، وعاد إلى النصارى نحو ست وعشرين سنة، ثم بقي في أيدي المسلمين من عام اثنين وأربعين وستمائة من الهجرة إلى سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة، حيث احتله اليهودُ أعداءُ الله ورسوله بمساعدة أوليائهم من النصارى الصليبيين المناصرين بعضهم لبعض.
ولا يزال باقيًا تحت احتلال اليهود إلى أن يشاء الله تعالى، ونسأل الله تعالى أنْ يُهَيِّئَ له من يعيده إلى المسلمين ليصلي فيه المسلمون ويطهروه من رجس الصهاينة اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام والمسلمين، وإذا أراد المسلمون أن يعود إليهم فعليهم أن يكون هدفهم الأول والأخير إعلاء كلمة الله، وعندها سوف يكون النصر حليفهم بإذن الله تعالى، وهذا وعد من الله تعالى لن يتخلف إذا هم تمسكوا بدين الله ظاهرًا وباطنًا قولاً وعملاً واعتقادًا، ثم أخذوا بإعداد القوة المعنوية والحسية، فسوف ينتصرون إن شاء الله تعالى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، فَنَصْرُ اللهِ سبحانه لن يتحقق إلا إذا نصر المؤمنون دين الله وأقاموه في أنفسهم وبلادهم عقيدة وقولاً وعملاً وسلوكًا ونظامًا وشريعة لمنهج حياتهم في كل الأمور، يخضعون له، ويطبقونه، ويرضونه، ولا يجدون أدنى حرج في تحكيمه، ولا يجدون غضاضة في ذلك كله، بل يعتزون به لأنه دين الله الذي لا يرضى الله من أحد دينًا سواه بعد بعثة محمد إلى أن تقوم الساعة، قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة: 51]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 120].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كتب الْعِزَّةَ لمن أطاعه واتبع أمره واجتنب نهيه وعمل بشرعه، وكتب الذِّلةَ والهوان والمسكنة والصغار على من عصاه وتمرد واحتال على أمره ونهيه واتبع هواه وكان أمره فرطًا، أحمده عز وجل وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فإن المؤمن يزداد إيمانًا ويقينًا عندما يجد آية من كلام الله عز وجل أو حديثًا من أحاديث الرسول الذي قال عنه رب العزة والجلال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم: 3, 4]، عندما يجد ذلك واقعًا ملموسًا ومشاهدًا أمام عينيه تصديقًا لكلام الله عز وجل وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن حلاوة الإيمان تزداد لديه، وإلا فهو في الأصل مؤمن بذلك وبغيره كما أخبر الله ورسوله، ومعلوم في عقيدته الصحيحة بأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـ?ذِهِ إِيمَـ?نًا فَأَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى? رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَـ?فِرُونَ [التوبة: 124، 125]، وقال تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ ?لسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ?لْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَـ?نًا مَّعَ إِيمَـ?نِهِمْ [الفتح: 4]، وقال تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31].
ونحن اليوم نسمع بداية مصالحة مع اليهود في أرض فلسطين والتعايش السلمي، وقد سمعنا من قبل ولا زلنا نسمع، ولقد جاء اليهود إلى أرض فلسطين من أكثر من خمسين عامًا، وسيتوافدون عليها من أقطار الأرض بعد أنْ تَفَرَّقُوا طوال مئات السنين كما وعد الله تعالى وكما أخبر رسولنا محمد ، وأنهم قد لاقوا العذاب طوال حياتهم، وسيلاقونه إلى يوم القيامة، وسوف يجتمعون مع المسلمين والنصارى وغيرهم لفيفًا في الأرض المقدسة، وسوف يقتلهم المسلمون بعد اجتماعهم؛ لأن اليهود هم أنصار الدجال عندما ينزل عيسى ابْنُ مَرْيَمَ عليه الصلاة والسلام ويقتلُ الدَّجَّالَ ويكسرُ الصليبَ ويقتلُ الخنزيرَ ويضعُ الْجِزْيَةَ ويفيضُ المالُ حتى لا يقبلَ زكاتَه أحدٌ.
ولنستمع إلى آيات الله البينات في ذلك وإلى حديث رسول الله لئلا يطول بنا المقام، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ?لْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف: 167]، وقال تعالى مخبرًا عن تفرقهم في الأرض من بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام وهلاك فرعون ثم اجتماعهم في تلك الأرض قرب القيامة مع أعدائهم والتعايش معهم وإن كان بعضهم يعيش هناك منذ زمن بعيد، قال عز وجل: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْر?ءيلَ ?سْكُنُواْ ?لأرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا وَبِ?لْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِ?لْحَقّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء: 104، 105]. والآخرة هذه غير الآخرة التي في بداية السورة والله أعلم، ولننظر إلى دقة اللفظ في هذه وفي تلك؛ حيث جاء الخبر عن إفسادهم في الأرض مرتين وهناك وعد للأولى ووعد للآخرة، والخبر عن وعد الآخرة في آخر السورة كما ورد في الآية السابقة قد بدأ من عشرات السنين، ويكون إفسادهم وتخريبهم للمسجد مرة أخرى ومرة بعد مرة والله أعلم، قال الله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء: 4-8]. ثم قال عز وجل بعدها كما هو في نهاية الآية السابقة: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا أي: إن عاد إليها اليهود بالفساد فسوف يُعاد عليهم بالإذلال والغلبة، وفي معنى حديث رسول الله عن قتال المسلمين لليهود عند بابِ لُدٍّ بأرضِ فلسطين وإخبار الشجر والحجر عن اليهود الذين هم وراءها إلا شجر الغرقد الذي هو من شجرهم، وهم يكثرون الآن من زرع الغرقد كما أخبر بذلك رسول الله وعن قتال المسلمين لهم حيث يكون المسلمون شرق النهر واليهود غربه كما أخبر بذلك رسول الله بقتالهم لهم والتجائهم إلى أرض فلسطين، قال تعالى: وَقَطَّعْنَـ?هُمْ فِي ?لأرْضِ أُمَمًا [الأعراف: 168]، وقال جل وعلا : إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يَقُصُّ عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَكْثَرَ ?لَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76]. وروى البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)). فالمراد اجتماعهم من شتى بقاع الأرض ومن جميع أقطارها في أرض فلسطين إنما هو من أمارات وعلامات الساعة التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، واجتماعهم هذا لإسامتهم وإذاقتهم سوء العذاب وقتلهم في النهاية إلى أنْ يُقْتَلَ آخِرُهُمْ مع الدجال؛ لأنهم أنصاره وسوف يخرجون معه لمناصرته، ومنهم على وجه الخصوص سبعون ألف يهودي من خراسان، وبهذا يتبين للمؤمن ويزداد إيمانه حين يرى صدق ما أخبر به رسول الله يتحقق كله أو بعضه أمام عينيه.
فعلى المسلمين مناصرة إخوانهم المسلمين في فلسطين ودعمهم بالمال حتى تقوى شوكة المسلمين ويعدوا العدة للمقتلة التي سوف تكون بين المسلمين واليهود على ضِفَّتَيِ النهر قرب القيامة كما هو معلوم لمن تأمل النصوص الواردة في الكتاب والسنة، أما الآن وفي هذه الأيام ومع تفرق المسلمين وضعف قوتهم في جميع النواحي مقابل القوة الهائلة لأعدائهم من اليهود والنصارى والكفار والملحدين فليس للمسلمين اليوم أمام هذه المفارقة والتباين الواضح إلا التعايش السلمي حتى يأتي ذلك اليوم الموعود بالنصر بإذن الله عز وجل، وذلك اليوم قد لا يدركه جِيلُنَا ولا من بعدنا, والعلم عند الله جل جلاله، ولكن مجمل الأحاديث ومفهومها الظاهر بأن ذلك القتال بالآلات المتعارف عليها وليست الطائرات والدبابات والصواريخ وغيرها من الآلات الحديثة، وهذا لا يكون إلا بعد انتهاء البترول والطاقات الأخرى التي تعمل عليها تلك الآلات، وهذا هو المتبادر للأذهان والمتفق مع الأحاديث؛ لأنه إلى الآن لا زالت علامات من العلامات الوسطى لم تقع، فضلاً عن الكبرى، لذلك وجب التنبيه حتى لا يتعجل أصحابُ الأهواء أمر القتال أو المهدي أو أي علامة لم تظهر لهم عيانًا، فَدُونَ ذلك زمن اللهُ أعلم به، وَأَيُّ تَصَرُّفٍ خارج عن الهدنة والمصالحة إلى أنْ يُعِدَّ المسلمون قُوَّتَهم ويأخذوا مكانتهم اللائقة بهم أي تصرف غير ذلك يكون إلى الحماقة أقرب وإلى إيراد الأمة المهالك وإيقاعها في مآزق لا تخرج منها، ويدركُ ذلك تمامًا أصحابُ العقول السليمة والتصور الواضح لما يدور حولهم وما يعيشونه من واقع، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5685)
الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
20/12/1407
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الظلم. 2- تعريف الظلم وحقيقته. 3- عاقبة الظلم وأهله. 4- موقفنا تجاه الظالم. 5- أنواع الظلم. 6- ظلم الدول والشعوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد خلق الله الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا ويتآلفوا ويتعاونوا على البر والتقوى ويدفعوا الإثم والعدوان عن بعضهم بعضًا، ولقد أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا إخوة متحابين تسود بينهم علامات العطف والتراحم، فلا يعتدي كبير على صغير، ولا يظلم قَوِيٌّ ضعيفًا، ولا يهضم متسلطٌ حقوقَ الآخرين. ولقد حرّم الظلم على عباده كما حرمه على نفسه جل وعلا، كما ورد في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
فالظلم مَرَاتِعُهُ وخيمة وعواقبه أليمة، وما تظالم قوم وحصل فيما بينهم عدوان وطغيان إلا حلّ بهم الهلاك والخسران وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. وقد ذكر الله عز وجل في القرآن العظيم أحوال الأمم الغابرة حينما طَغَتْ وبَغَتْ وظَلَمَ بعضُها بعضًا وفَسَقَتْ عن أمر ربها ورسله كيف عذبها عذابًا نكرًا وأخذها أخذًا أليمًا جزاء فعلها الظالم وعدولها وخروجها عن أمر ربها، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقال عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [ الطلاق: 8-10].
الظلم هو مجاوزة الحدود التي شرعها الله عز وجل، حيث يؤدّي ذلك إلى التجاوز والتعدي والتطاول على الحقوق والحرمات التي شرع الله ورسوله احترامَها وعدمَ التعدي عليها وتجاوز حدودها. إن الظلم لا يصدر إلا عن شخصيات حاقدة لئيمة، رديئة الطبع، خبيثة النفس، منتقمة لأحقاد دفينة في سويداء قلوبها، حيث قد ضعف فيها الوازع الديني والخلقي، وقست فيها القلوبُ، فلم تخشَ لله مقامًا ولا انتقامًا.
والظلم في حقيقته وواقعه تَحَدٍّ لله العلي القدير، وتطاول على أحكامه التي شرعها لحفظ الكرامة وتوفير العدالة وتوطيد الأمن والاستقرار، وهو تجاوز للحق إلى الباطل، وترك للعدل، واتباع للهوى، وتخبط في طريق التسلط والقهر والاعتساف، ولو فكّر العاقل مليًا وراجع نفسه لعلم أن الظلم أَمْرٌ تنكره العقول السليمة وتَمُجُّهُ النفوسُ الكريمة ويَأْبَاهُ الْخَلْقُ جميعُهم؛ لأن الظلم يُشَوِّهُ الحياةَ ويعكِّر صَفْوَهَا ويُحِيلُها إلى جحيم مُتْرَعٍ بالألم والشقاء، والعباد لا يطيقون للظلم احتمالاً، ولا يستطيعون عليه صبرًا؛ لذلك فهم يلجؤون إلى الله بِذُلِّهِمْ وانكسارهم ويَجْأَرُونَ إليه بدعائهم ويستنجدون بقوته وجبروته من ظلم الظالم وطغيانه، فتصعد دعواتهم تخترق السماوات العلا، فيقسم الله بعزته وجلاله أنه سينصر المظلوم إن عاجلاً أو آجلاً، قال رسول الله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه لليمن وأوصاه بأمور ومنها قوله : ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)) رواه الترمذي وابن ماجة والطبراني، وقال : ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)) رواه الترمذي واللفظ له والبخاري وابن ماجة والطبراني رحمهم الله.
أما الظالم فإن ظلمه يعود عليه بشرِّ العواقب في الدنيا والآخرة، ويكون ظلمه ظلمات عليه يوم القيامة، قال رسول الله : ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
وليعلم المسلم أن مما يجب عليه نحو أخيه المسلم دفع الظلم عنه إذا رآه مظلومًا ويقف ضدّ الظالم مهما كانت منزلته ومنصبه ومرتبته، وذلك بحسب مقدرة كل شخص ومكانته، فإن ذلك مما أوجبه الإسلام لتحقيق العدالة ولكي يظهر العدل وينتصر الحق ويقمع الجور والظلم، وإنْ لمْ يكنْ ذلك فعندها تحل النقمة والعذاب من الله عز وجل، قال رسول الله : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) قال: أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟! قال: ((تحجزه عن ظلمه فذلك نصره)) ، وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟! قال: ((تأخذ فوق يده)) رواه البخاري رحمه الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا يقفنَّ أحدُكم موقفًا يُقتل فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضر حين لم يدفعوا عنه، ولا يقفنّ أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)) رواه الطبراني والبيهقي بإسناد حسن.
وعلى المسلم أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله عندما تحلُّ به أيُّ بَلِيَّةٍ ومَظْلَمَةٍ وفتنة من فتن الدنيا ليجد الأنس والراحة والطمأنينة وينشرح صدره برجوعه وإنابته وتضرعه إلى الله عز وجل العزيز المقتدر، وأنه سوف يقتص له من الظالم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم لا ينفع الظالمَ طغيانُه وظلمُه وتَجَبُّرُهُ وقَهْرُهُ لعباد الله، يوم الحسرة والندامة، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52]. فعلى المظلوم أن يستشعر أنَّ اللهَ نَاصِرُهُ ولو بعد حين، وأنه ليس بغافل سبحانه عما يعمله الظالمون، وإنما يؤخرهم ويملي لهم حتى إذا أخذهم لم يُفْلِتْهُمْ.
وليعلم المسلم أن في مظلمته وتحمله للظلم من الظالم خيرًا له، وعليه أيضًا أن يعلم علم اليقين بأن حقه سوف يُقَادُ له من الظالم يوم القيامة، فعليه أن يصبر ويحتسب ليكون خيرًا له، وإن عاقب بمثل ما عوقب به فلا بأس عليه، ولكن الصبر والعفو أفضل وأرفع للدرجات في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل، قال الله جل جلاله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 39-43]، وقال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126].
وسوف يكون القصاص العادل وتأدية الحقوق من الحسنات أَخْذًا من الظالم وإعطاءً للمظلوم إضافة لرصيده وزيادة في الميزان ووضعًا من السيئات التي على المظلوم، حيث تطرح في ميزان الظالم إذا لم تكن له حسنات، قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) ، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم، وقال : ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين)) رواه البخاري ومسلم. قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43]. قال : ((لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الْجَلْحَاء من الشاة الْقَرْنَاء)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، يجب علينا الحذر والابتعاد عن الظلم لعباد الله في شتى صوره وأشكاله، وعلينا أن نجتنب الدخول على الظلمة ومخالطتهم ومساعدتهم ومداهنتهم؛ لئلا يحل بنا العذاب، بل يجب علينا أن نبغضهم ونعاديهم لله عز وجل، قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113]، ويقول تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 22-24]، قيل في معنى أزواجهم أي: أمثالهم وأشباههم وأتباعهم من أعوان الظلمة. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، يبسط الرحمة على عباده ويعفو عن السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإنَّ أنواعَ الظلمِ كثيرةٌ وأساليبَه عديدةٌ، فمن الظلم أَكْلُ أموال الناس بالباطل وأخذُها ظلمًا وظلمُ الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة بالكلام البذيء والفاحش والتطاول على الضعفاء وتعذيبهم، والتطاول كذلك على حرمات الناس وأعراضهم والنيل من أشخاصهم بالجرح والقذف والبهتان والحطّ من قدرهم ومكانتهم. وأظلم الناس لنفسه ولغيره ذلك الذي لا عمل له إلا أعراض الناس، ويسعى بالفساد ويبغيهم الفتنة ويتربص بهم دوائر السوء، حتى إذا حانت له الفرصة هَبَّ مسرعًا منتقمًا ليوقع الأذى بغيره غيرَ عَابِئٍ بالنتائج. وأظلم من ذلك من يتتبع عورات المسلمين وينشرُ قَالَةَ السوء في المجتمع ويحب أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا وتَعُمَّ الرذيلةُ فلا يبقى خلق ولا دين. ومن الظلم الكبير ظلمُ الإنسان لنفسه بحملها على المعاصي وزَجِّهَا في غِمَارِ الآثام والموبقات وترك الحبل لها على الغارب تسرح في مراتع الهلكة والخسران التي قد توصلها إلى جحود النعم أو إلى الشرك، قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان: 13].
فلنتق الله ونجعل الوازع الديني نصب أعيننا، ولنعمل بأوامر ديننا، ولْنَسِرْ على هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. ورد أن النبي قال: ((خمسة غَضِبَ الله عليهم، إن شاء أمضى غضبه عليهم في الدنيا وإلا أمر بهم في الآخرة إلى النار: أمير قوم يأخذ حقه من رعيته ولا ينصفهم من نفسه ولا يدفع الظلم عنهم، وزعيم قوم يطيعونه ولا يساوي بين القوي والضعيف ويتكلم بالهوى، ورجل لا يأمر أهله وولده بطاعة الله ولا يعلمهم أمر دينهم، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجرته، ورجل ظلم امرأة صداقها)).
والظلم ليس مقصورًا على ظلم الأفراد بعضهم بعضًا في الأُسَرِ والعوائل، بل هو أعم وأشمل، ابتداءً من الظلم الحاصل في البيوت بين الأولاد وآبائهم وأمهاتهم وبين الأزواج ومع مَخْدُومِيهِمْ والعاملين معهم، وبين الجيران، إلى أنْ يمتدَّ ويمرَّ بالأحياء والحارات في المدن وفي القرى المجاورة لبعضها وفي القبائل فيما بينها، حتى يصل إلى الدول المتجاورة والبعيدة عن بعضها، إلى أن ينتهي الظلم إلى عُصْبَةِ الأمم المسماة بالأمم المتحدة عندما تظلم بمجموعها دولةً من الدول أو تَسْكُتَ وتَغُضَّ الطَّرْفَ عن دولة أو اثنتين أو أكثر عندما تطغى وتتجبر ضد دولة أو شعب من الشعوب أو أقلية كما هو مشاهد الآن، سواء من قبل الدول الكبيرة ضد دول وشعوب معينة، أو مساعدتها لدول الطغيان والظلم، أو السكوت والوقوف موقف المتفرج عندما يحصل الظلم بين بعض البلدان، أو الْكَيْل بِمِكْيَالَيْنِ عندما يقفون ضد دولة معينة لأنها ظلمتْ أَقَلِّيَّةً أو مجموعة من شعبها أو مع جيرانها من الدول، ذلك الوقوف فيما يظهر للناس بأنه قمع للظالم ووقوف مع المظلوم، ولكنه في كثير من الأحيان إنما هو نَصْرٌ وقيامٌ مع شعب أو عِرْقٍ مُعَيَّنٍ يربطه بتلك الدول الكبيرة رابطة الدين، وهذا هو الواضح من الكيل بمكيالين عندما يقومون بكل قُوَاهُمْ في هذا الجانب، ثم يغضّون الطرف ويصرفون الأنظار ويشغلون العالم بأمور أخرى عندما تأتي المطالبة بالعدل والوقوف ضد الظالم فيما يجري من قبل اليهود ـ تلك الدولة المسماة بإسرائيل ـ ضد الشعب الفلسطيني، وما يراه العالم ويشاهدونه عبر القنوات إنما هو جزء يسير من الممارسات الظالمة لذلك الشعب المظلوم والمغلوب على أمره، هذه المواقف الظالمة من الدول مجتمعة مع تلك الدولة الغاشمة الظالمة التي تمارس ظُلْمَهَا تحت حِمَايَةٍ أُمَمِيَّةٍ وسكوتٍ عالميٍّ ضد الظلم وأهله الممارسين له يجعل عواطف الناس في جميع بقاع الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم تتحرّك ضدّ الْمُمَارِسِ للظلم أو السَّاكِتِ عن الظالم أو الْمُسَاعِدِ له، وكل ذلك مكشوف أمام البشر جميعًا ويعرفون ذلك إلى جانب السكوت والْوُجُومِ العالمي عن امتلاك دولة إسرائيل للأسلحة التدميرية الشاملة النووية والكيميائية، وعدم محاسبتها على أي شيء من ذلك أو الإشارة إليها بالبنان فضلاً عن الإفصاح بأي كلام قليل أو كثير، وفي المقابل تلك الحملات المتواصلة لتجريد الدول المنتمية للإسلام من تلك المواد التي قد تستخدم في أغراض سلمية، أما تلك التي تمتلكها الدولة الصهيونية فهي واضحة للعيان في أنها قنابل موقوتة للتدمير الشامل للشرق الأوسط، فأمام هذا الظلم العالمي ابتداءً من الدولة اليهودية إلى تلك الدول الكبيرة الساكتة والمؤيدة لها وانتهاءً بتلك الدول الصغيرة المشاركة في عصبة الأمم والتي لا تستطيع أنْ تُفْصِحَ عما يدور بداخلها من التعبير عن الظلم والوقوف ضده أمام هذه المواقف الظالمة سوف يزداد اشتعال النفوس والقلوب ضد الظلم والظالمين، ولن تهدأ نفوس آلاف الملايين من البشر من جميع الأديان في الأرض كلها إلا بتحقيق العدل والوقوف صفًا واحدًا ضد الظالمين مع عدم التمييز في ذلك بالعدل والإنصاف من دول وشعوب ظالمة وغَضِّ الطرف عن أخرى، في جانب آخر فإن هذا السلوك العالمي لنْ يُفْضِيَ أبدًا إلى تَهْدِئَةِ الأوضاع العالمية، بل يزيد الحروب اشتعالاً وإيقادًا إلى أن يشاء الله عز وجل، قال رسول الله : ((إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم فقد تُودِّعَ منهم)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) أو: ((أمير جائر)) رواه النسائي والحاكم وأبو داود والترمذي.
فإذا كان من الواجب على المسلم بمفرده نصرة المظلوم والوقوف ضد الظالم كل حسب طاقته ويتعين ذلك على الجماعات كما هو معلوم من مجموع الأدلة من الآيات والأحاديث فإنه في حق الدولة المسلمة أَوْجَبُ وأَلْزَمُ، وهذا معلوم مما سبق في الحديث من قَوْلِ رسول الله : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) وتَفْسِيرِهِ لهذه النصرة للظالم وذلك بمنعه وردعه عن الاستمرار في طغيانه على غيره، فإذا كان هذا في حق الأفراد فهو في حق الجماعات والطوائف والقبائل والدول أيضًا كما جاء في صريح القرآن الكريم بإجراء الصلح بين الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين، وفي حالة البغي والطغيان والظلم من قبل طائفة ظالمة فيجب على المؤمنين الوقوف إلى جانب الفئة المظلومة حتى ترجع تلك الظالمة إلى الطريق الصحيح ومعرفة العدل والحق والعمل والالتزام بذلك، قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9، 10].
ولو أن الأمة المسلمة أخذت بالآيات والأحاديث السابقة وبهذين الحديثين التاليين في الأخذ على أيدي الظالمين أيًا كانوا لاستقامت أمورها، وسوف تكون الأمور في أحسن حال إذا أخذت به عصبة الأمم لأنها مشمولة بذلك في كلمة الناس الواردة في الحديث التالي، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إنكم تَقْرَؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال رسول الله في آخر الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه وبعد ذكر الآيات من الآية (77) إلى الآية (81) من سورة المائدة قال رسول الله : ((كلا والله، لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر ولتأخُذُنَّ على يد الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
وهذا الظلم العام وانتشاره من علامات الساعة التي أخبر عنها رسولنا محمد ، وسوف يكون العدل بإذن الله في السنين الأخيرة من الحياة الدنيا وقبل نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام في زمن المهدي الحقيقي الذي أخبر عنه رسولنا محمد ، وليس المهدي المزعوم لدى بعض الطوائف، وقد أوردت خطبة كاملة عنه في علامات الساعة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5686)
من أسباب تغيير حال المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد العزيز بن محمد السدحان
الرياض
28/6/1423
جامع السويدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الأسباب. 2- سنة التغيير. 3- أحوال الناس قبل الإسلام وبعده. 4- تدهور حال المسلمين. 5- أسباب التغيير. 6- مبشرات نبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، لقد كان من سنة الله تعالى أن هيأ الأسباب ورتب عليها المسببات، فأسباب للمعاش وأسباب للاستطباب وأسباب لغير ذلك من شؤون الحياة، إلا أن أعظم الأسباب ما كان موصلاً إلى مرضاة الله والفوز بثوابه، فمتى ما أُخِذ بتلك الأسباب التي جعلها الله أسباب نجاة وفلاح كانت نتيجةُ الأمر نجاةً وفلاحا، فإن كانت الأخرى ذهب الفلاح والنجاة وأعقبها الذل والخسران.
معاشر المسلمين، ومن أوضح الأمثلة بل من أعظمها وأهمها حال أمة الإسلام اليوم وما آلت إليه تلك الحالُ من ضعف ومذلة بعد أن كانت تتبوأ مكان العزة والكرامة، تسود ولا تساد، وتقود ولا تقاد، تأمر بأمر الله فتطاع، وتنهى بنهي الله فلا تعصى، ذلت لها الأمم ودانت لها الدول، وكانت مضرب المثل بين الأمم، لا بالقوة فحسب، بل بالأمن والأمان والعدل والاطمئنان، إلى أن كان ما كان من تغير أحوال وتبدل مقامات فأصبح كثير من المسلمين عبرة للمعتبرين بعد أن كانوا قدوة للآخرين.
معاشر المسلمين، إن تغير أحوال المسلمين مرهون بتغيير أنفسهم إلى ما يرضي الله تعالى كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، فمتى غير المسلمون أحوالهم وأصلحوا شؤونهم بدل الله حالهم إلى أحسن حال، ورفع شأنهم وأعلى مكانتهم.
والناظر بعين الاعتبار إلى أحوال الناس قبل ظهور الإسلام يرى عجائب وغرائب من الجهالات والظلمات التي أضلت الكثير عن طريق الهداية والرشاد، فالأصنام تدعى وترجى، ومجالس الخمر معمورة صباح مساء، والظلم مرفوعة رايته وقد تلوثت في أوحاله أقدام الكثيرين. شاهد المقال: أن حياتهم لم تزل في ظلمات الجهل والفوضى حتى بعث الله محمدًا ، فأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، ومن الذل والمهانة إلى العزة والمكانة، فأمسكوا بزمام الأمور، وتوالت الفتوحات والانتصارات، ولم يزالوا في رفعة وعزة بسبب تمسكهم بدينهم. ومع تقادم الزمن بدأ الضعف يدب إليهم بسبب بعدهم عن دينهم، ويزداد ضعفهم بقدر ابتعادهم عن دينهم.
معاشر المسلمين، وكما هو مشاهد ومسموع ومرئي في وقتنا هذا زاد تكالبُ أعداءِ الإسلام على المسلمين، ومن أعظم أسباب ضعف المسلمين وقوة عدوهم الإعراضُ عن حكم الله تعالى والجهل به في كثير من بلاد المسلمين حتى أصبح أمر التوحيد غريبًا في كثير من بلاد الإسلام، فكيف يرجى النصر والحدود معطلة في كثير من بلاد المسلمين؟! وكيف يرجى النصر والقبور تدعى من دون الله؟! وكيف يرجى النصر ورواد أبواب السحرة والمشعوذين يترددون عليها صباح مساء؟! وكيف يرجى النصر وقد أضيعت الصلاة في كثير من مساجد المسلمين؟! والله، إن تلك الأمور أشد فتكًا في المسلمين من أعدائهم. ومن أسباب ضعفهم أيضًا الإعجاب والتبعية المطلقة لأعداء الإسلام ومحاكاتهم في جميع أو أكثر شؤونهم، وكذا العصبية الجاهلية لجنس أو لون أو لسان.
معاشر المسلمين، وإذا كان ذلك كذلك فإن تغيير تلك الحال المخزية المزرية لا بد لها من أسباب، أعظم تلك الأسباب التمسك بالكتاب والسنة منهجًا وعقيدة، ففي ذلك الفلاح كله والخير كله، فلا فلاح إلا بالأخذ بهما معًا وتحكيمها في جميع مجالات الحياة، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132]، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، وقال : ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)) ، والنصوص في هذا المعنى كثيرة كثيرة.
وبكل حال فالتمسك بالكتاب والسنة من أعظم أسباب الفلاح في الدين والدنيا، ويتبع التمسك بهما أو من لازم التمسك بهما محاربة البدع والتحذير منها، وعدم الغفلة أو التهوين من شأنها مهما صغرت، فإن البدع إذا غفل عنها زاد انتشارها، فكيف إذا أقرّها من علمها أو هون من شأنها؟! لا شك أنّ هذا من الجهالة بمكان، بل هو من أعظم أسباب الهزيمة النفسية، ويلقى أكثر حمل هذا على من زعم الإصلاح بخلاف ما كان عليه منهج سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر المسلمين، ومن أسباب عزة الأمم ورفعتها الالتفاف حول علماء الأمة الراسخين في العلم المعروفين بصلاح المعتقد وسلامة المنهج، فالقرب من أولئك والاستئناس بآرائهم والصدور عن رأيهم فيه مصلحة عظيمة للأمة وشبابها، فعلماء السنة أدرى الناس بمعالجة قضايا الأمة، وهم أبصر الناس بمجاراة واقعها وإيجاد الحلول الناجعة لها، فأولئك الثلة من العلماء لا تصدر آراؤهم إلا بعد النظر في النصوص الشرعية، فثوابهم مضاعف مأجور، وخطؤهم غير مأزور بل مأجور، قال : ((إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فحكم فأخطأ فله أجر واحد)).
معاشر المسلمين، ومن أسباب تغيير الحال أيضًا إعادة النظر في تاريخ المسلمين المجيد التليد، لا من باب التسلية والمواساة والتواكل، بل من باب شحذ الهمم وبعث العزائم، وكيف كان المسلمون الأوائل أقوياء حسيًا ومعنويًا، وكيف كان تمسكهم بدينهم واعتزازهم به حتى دانت لهم الأمم وخضعت لهم الأعداء، نصروا الله فنصرهم، وأعزوا الإسلام فأعزهم الله به. فوالله، لو نصر المسلمون ربَّهم لنصرهم ربُّهم، فالله تعالى لا يخلف الميعاد، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، أما إن كانت الأخرى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38].
معاشر المسلمين، من أسباب تغيير الحال الحذر من اليأس والقنوط وقتل الهمم والعزائم؛ لكثرة ما يُرى ويُسمع من مصاب الإسلام في أي مكان أو زمان، فعلى المسلم أن يغلق عن نفسه باب اليأس والقنوط بأحكم الأقفال وأوثقها، وأن يحسن الظن بالله تعالى، وأن يستشعر معاني الآيات المحذّرة والمرهبة من اليأس، كقوله تعالى: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53]، وقوله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [الحجر: 56]، وقوله تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف: 87]. وعلى المسلم أيضًا أن يتذكر النصوص المبشرة والدالة على حصول اليسر بعد العسر: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
معاشر المسلمين، ومن أسباب تغيير الحال استشعار المسؤولية من كلّ فرد من أفراد المجتمع، وذلك أن يشعر كل واحد من المسلمين مهما كان موقعه وشأنه أنه مسؤول ومساءل، فيبدأ بإصلاح نفسه وبيته، ثم تتسع دائرة الإصلاح حتى تشمل جلساءه وجيرانه ومجتمعه. وليعلم كل واحد منا أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله، فعلى الكاتب منا أن يسخِّر قلمه لخدمة الإسلام ونصرته، وعلى التاجر أن يراقب الله في تجارته بيعًا وشراءً، وعلى المسؤول في أي موقع أن يستشعر مرضاةَ الله في جميع شأنه، وعلى أفراد المجتمع جميعًا التعاون على البر والتقوى، ومن أعظم ذلك بذل التناصح بينهم، وأولى الناس ببذل النصح المعروفون بالصلاح، فعليهم المبادرة بنشر الخير وبالنصح في المساجد والمحافل بعلمٍ وحلمٍ ورفق. وعلى كل من منَّ الله عليه بطاعة واجبة أن يبادرَ بنصحِ من قصّر في تحصيلها؛ فعلى أهل الجمعة والجماعة أن يتفقّدوا بيوتهم وجيرانهم وأصحابهم، فمن كان مقصّرًا في الصلاة منهم أن يبادروه بالنصح والترغيب في الخير والترهيب من وخيم عاقبة المعصية، وعلى أهل الأموال الذين حفظوا أموالهم من الحرام أن يناصحوا التجار الآخرين وأن يذكروهم بالله تعالى، وبكل حال فعلى كل مسلم أن يبادر ببراءة ذمته بالنصح والمثابرة، عليه بالمكاتبة إلى المسؤولين وزيارتهم عند حدوث منكر، كل ذلك بعلم وبصيرة.
معاشر المسلمين، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب خيرية الأمة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110].
معاشر المسلمين، إن اجتناب المعاصي والحذر والتحذير منها من أعظم أسباب فلاح الأمة؛ فالمعاصي مفتاح لكل شر ومغلاق لكل خير، وبسببها يتصدع كيان الأمة وتزول هيبتها، قال : ((إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المسلمين، ومن أسباب فلاح الأمة التنبه لمكائد الأعداء والحذر منها في جميع شؤون الحياة، كل بحسب طاقته؛ ذلكم لأن المكائد إذا غفل عنها فإنها تتنامى وتزداد بحسب تجاهلها وعدم إلقاء البال لها، وفي الوقت نفسه تتبلّد أحاسيس كثير من الناس تجاهها، ومن ثم يستمرئونها ويتأقلمون عليها. وبكل حال فليعلم أن كيد شياطين الإنس والجن مستمرّ في شره واستفحاله، والواجب على كل مسلم أن يحذر ويحذّر من الخداع ببريقه.
معاشر المسلمين، ومن فلاح الأمة وقوتها عدم التهويل من شأن العدو إلى حدّ إدخال الرعب في قلوب ضعاف الإيمان واليقين، وذلك بذكر عدد العدو وعدته وعتاده بصورة تظهره بمظهر الغالب الذي لا يغلب، فهذا مما يعين على فقدان الشعور، بل مجرد التفكير بالنصر. ولا شك ولا ريب أن هذا من الخطورة بمكان؛ إذ إن الهزيمةَ النفسيةَ أعظم من الهزيمة الحسية، فالهزيمةُ الحسيةُ مؤقتة بوقت تزول بزواله، أما المعنوية فتبقى ملازمة أصحابها أمدًا طويلاً.
وبكل حال فالحذر الحذر من التضخيم والمبالغة في إظهار العدو، بل الأولى بالمسلم أن يكون سببًا في شحذ الهمم والعزائم وحث النفس على حسن الظن بالله تعالى، وكذلك على فعل ما يستطاع من الأسباب والوسائل التي تكون عونًا بعد الله تعالى في هزيمة العدو وكسر شوكته، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60]، فالقوة قوتان: القوة المعنوية بالإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا، والقوة الحسية إعدادًا وتربية.
معاشر المسلمين، ومن أسباب النصر أيضًا التفاؤل والقطع بأن النصر للإسلام وأهله، كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة التي تدل دلالة واضحة على ذلك، من ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33].
وقد ذكر بعض المفسرين عند هذه الآية عددًا من الأحاديث النبوية المبشرة بظهور الإسلام وعزته، فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)) ، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أن ذلك تام! فقال : ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله)) ، وعن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)) أخرجه الإمام مسلم. ومن ذلك أيضًا قوله : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) أخرجه الإمام أحمد وغيره عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه، ثم قال تميم رضي الله عنه بعد أن ساق الحديث: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافرًا منهم الذل والصغار).
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلى أن تردّ المسلمين إليك ردًا جميلاً، وأن تبصرهم في شأن وصلاح دينهم ودنياهم. اللهم ارزقنا العزة بعد المذلة، والكرامة بعد المهانة، اللهم أصلح عقائد من ضل منهم وارزقهم الغيرة على التوحيد والحرمات، اللهم اهد شباب المسلمين واكفهم شر شياطين الجن والإنس، اللهم احفظ نساءهم من دعاة التبرج والسفور، اللهم وفق حكامنا إلى ما فيه خير العباد والبلاد...
(1/5687)
شهادة الزور
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
10/6/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف شهادة الزور. 2- مفاسد شهادة الزور. 3- الأدلة على تحريم شهادة الزور. 4- شمولية شهادة الزور. 5- من صور شهادة الزور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمع كبيرة من كبائر الذنوب انتشرت بين المسلمين وفي مجتمعاتهم حيث تَهَاوَنَ بأمرها كثيرٌ منهم واتخذوها مَطِيَّةً للوصول لكثير من الأغراض الدنيئة في دينهم ودنياهم، إنها شهادة الزور.
والزور هو الكذب الذي قد سُوِّيَ وحُسِّنَ في الظاهر لِيُحْسَبَ أنه صدقٌ، وهو وصف الشيء على خلاف ما هو به وعليه فيشمل الكذب والباطل، هذا إذا اقتصر على المقصود بجانب من جوانبه التي إذا أضيف لها الشهادة أصبح المتبادر إليها في أذهان كثيرين بأن شهادة الزور التي هي الشهادة بالكذب ليتم التوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال. وشهادة الزور وقول الزور وعمل الزور كلها بمعنى متقارب.
والأصل في الشهادة أن تكون مُسَانِدَةً لجانب الحقّ ومُعِينَةً للقضاة على إقامة العدل بين الناس، والحكم على الجناة الذين تنحرف بهم أهواؤهم وشهواتهم فيظلمون أو يبغون أو يأكلون أموال الناس بالباطل، فإذا تحوّلت الشهادة عن وظيفتها حتى تصبح سندًا للباطل ومُضَلِّلَةً للقضاة حتى يُحْكَمَ بغير الحق استنادًا إلى ما تضمنته من إثبات فحينئذٍ تحمل إِثْمَ جريمتيْن عظيمتيْن في وقت واحد: الأولى: عدم تأديتها وظيفتها الطبيعية الأولى الموافقة للفطرة السليمة، والثانية: قيامها بجريمة تُهْضَمُ فيها الحقوقُ ويُظْلَمُ فيها الْبُرَآءُ ويُسْتعانُ بها على الظلم والبغي والإثم والعدوان، وقد نهى الله المسلمين عن الظلم أيًا كان وعن التعاون على الإثم والعدوان بعدما أمرهم بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعدي على أي شخص أو مجموعة مهما بلغت العداوة والبغضاء فقال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2].
إن شهادةَ الزُّورِ مَفْسَدَةٌ للدين والدنيا وللفرد وللمجتمع على حدّ سواء إلى جانب كونها معصية لله ورسوله، وهي كذب وبهتان وضياع للحقوق وإسقاط للعدالة، وزعزعة للثقة والأمانة والأمن أيضًا في المجتمع، وإِرْبَاكٌ للأحكام وإشغال للمسؤولين على اختلاف مسؤولياتهم. وشهادة الزور تعدل الشرك بالله كما ورد في الحديث: ((عدلت شهادة الزور الشرك بالله)). قال ابن حجر رحمه الله معقّبًا على ما ذكره الإمام البخاري رحمه الله في باب: ما قيل في شهادة الزور لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان: 72]: "أشار البخاري رحمه الله بذلك إلى أن الآية سِيقَتْ في ذم متعاطي شهادة الزور، وهو اختيار منه لأحد ما قيل في تفسيرها".
ولِعِظَمِ قُبْحِ شهادةِ الزورِ وتأكيد تحريم قول الزور وشهادته كان الرسول متكئًا عندما أخبر عن عدد من كبائر الذنوب ثم جلس عندما ذكر قول الزور وشهادة الزور وأصبح يرددها حتى قال مَنْ سَمِعَهُ: لَيْتَهُ سَكَتَ، فهذا يَدُلّ على أن الذي يدفع ويحمل الشخص على قول الزور وشهادته أشياء متعددة، منها: العداوةُ والبغضاءُ والحسدُ والغلُّ والحقدُ والانتقامُ وغيرُ ذلك، فلما كانت مفسدةُ الزور متعديةً إلى غير الشاهد بخلاف الشرك المقتصر مفسدته على الشخص غالبًا لذلك كان الاهتمام بذلك من رسول الله وتعظيم أمره بعد الاعتدال في هيئته عليه الصلاة والسلام من الاتكاء إلى الجلوس وإعادة أداة التنبيه مرة أخرى بقوله: ((ألا)) ، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. وعن أيمن بن خزيم الأسدي رضي الله عنه أن النبي قام خطيبًا فقال: ((أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكًا بالله)) ثم قرأ رسول الله : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30] رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة. وورد في الحديث المتفق على صحته عن أنس رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله عن الكبائر، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور)). وروى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
وشاهدُ الزُّورِ يرتكبُ عظائمَ ومفاسد عليه وعلى غيره توجب له النار، روى الحاكم رحمه الله بسند صحيح أن النبي قال: ((لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار)). وقال رسول الله : ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أنْ يكونَ أَلْحَنَ بحجته من بعض فأقضي له بِنَحْوِ ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)) متفق عليه. ألحن: أي أعلم.
فشهادة الزور تسبب لشاهد الزور وللمشهود له دخول النار وعذابها، إلى جانب أنها في الدنيا تطمس معالم العدل والإنصاف، وتعين الظالم على ظلمه، وتُضَيِّعُ حقوقَ الناس، وتظلم بعضهم على حساب بعض، وتعطي الحق لغير مستحقه، وتسبب زرع الأحقاد والضغائن في القلوب، وتعصف بالمجتمع وتدمِّره وتقوِّض أركانَه وتزعزع استقراره، وهذه النتائج قد تغيب على كثير من شهود الزور، وقد يعلمها بعضهم، ولكن الدوافع والأسباب التي أوقعتهم فيها قد تكون من أجل مصلحةٍ شخصيةٍ أو رغبةٍ في مالٍ أو جاهٍ أو لأجل الصداقة أو القرابة أو العداوة للطرف الثاني أو المحاباة والمجاملة أو الخوف من صاحب المنصب والجاه أو السلطة، وقد تكون سَلَفًا وقرْضَةً أي: أن شخصًا شهد زورًا لشخص في يوم ما وبذلك فهو يردُّ له شهادتَه ويُكَافِئُهُ، وقد تكون مقابل مبالغ مالية زهيدة، فتجدهم يقفون عند أبواب المحاكم وغيرها، وغالبًا ما تكون الشهادة حَمِيَّةً جاهلية كما هو مشاهد الآن في القرى والهجر وكذلك المدن وأحياؤها حيث يشهد عدد من الأشخاص من قبيلة أو من قبائل متقاربة على شخص ما، ويقولون قولتهم الجاهلية المضادة لتعاليم الإسلام وهي باللهجة العامية: "الله يلعن لِحْيةً ما تحمي الرفيق"، أو: "لُعِنَتْ ذِمّة ما تحمي الرفيق وابن العم"، وكأنهم لم يقرؤوا آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 135]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8]، وقال تعالى: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف: 19].
فعلى هذا الصنف من الناس أن يتذكروا العواقب في الدنيا والآخرة، وأُذَكِّرُهُمْ بالآيات القرآنية التالية وما جاء فيها من التهديد والوعيد والعواقب المؤلمة، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 19- 24]، وقال عز وجل: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنَ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر: 16-20].
وأُذَكِّرُ الذين يُشِيعُونَ الفاحشةَ في المؤمنين والمؤمنات ويحبون إشاعتها أذكِّرهم بهذه الآيات وأطلب منهم قراءة سورة النور وتفسيرها من أول آية فيها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19]، وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 23-25].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وجعلنا من أمة خير الأنام، وأبان لنا الشرائع والأحكام ورتّب عليها جزيل الفضل والإنعام، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فيتبادر إلى أذهان كثير من الناس أن شهادة الزور مقصورة على تلك التي يذهب إليها شاهد الزور في المحاكم وغيرها مع فلان من الناس من أجل اقْتِطَاعِ جزءٍ من أرض فلانٍ أو أَخْذِهَا بالكامل أو اقتطاع أي مال نقدي أو غيره أو الشهادة على شخص في أمور أخرى باطلة، والحقيقة أن هذا المفهومَ السائدَ مفهومٌ خاطئٌ وحصرٌ وقصرٌ لا أساسَ له من الصحة في دين الإسلام حيث إن شهادة الزور أشمل وأوسع من ذلك، ويدخل فيها تلك الشهادة التي يطلبها شخص من أجل إعانة زواج أو غيرها من الإعانات والمساعدات حيث يطلبُ الشهادةَ بالتوقيع على الأوراق ليس على ذلك فقط، أو تلك الشهادة التي يطلبها أي شخص من إمام المسجد أو غيره بالشهادة على أنه يؤدي الصلاة في المسجد والحالُ يدلُّ على غير ذلك، أو أن فلانًا تَجَاوَزَ واجْتَازَ الاختبارَ ونجح فيه في أي مجال من المجالات سواء الشهادات الدراسية أو رخص القيادة أو شهادة مهنة معينة للحصول على عمل ووظيفة قد يُسِيءُ فيها ذلك الشخصُ ويَجُرُّ على البشر مَآسِيَ لا تَنْدَمِلُ مثل المهن الصحية وخاصة التخصصات الطبية، ولو نقف عند الشهادات المزورة في مجال رخص السائقين وأرباب الصناعات الأخرى والأطباء وغيرهم لطال بنا المقام ولكن الإشارة كافية.
ومن شهادة الزور ذلك التوقيع لأي مسؤول في أي إدارة حكومية بأن فلانًا تم انتدابه لمدة شهر أو أقل من ذلك أو أكثر وهو قد ذهب للاصطياف أو أنه جالس لديهم في الإدارة، أو الشهادة لفلان بأنه استأجر سيارة بمبلغ معين ولمدة معلومة أيضًا والواقع خلاف ذلك، ويتهاون الناس بالتوقيع على ذلك وهم يعلمون علم اليقين أن ذلك غير صحيح ولكن من باب المجاملة والصحبة والصداقة وغيرها، والحقيقة أن ذلك شهادة زور وتزوير من الطرفين وكذب وأكل للمال بالباطل.
ومن شهادة الزور تلك التقارير السرية في كل الإدارات والتي تُرْفَعُ عن الموظفين والتي لا يَصْدُقُ فيها كَاتِبُوهَا ومُعِدُّوهَا والذين يُوَقِّعونَ عليها أخيرًا، وتلك التي تُرْفَعُ ومنها: الْمُسْتَخْلَصَاتُ لِلْمُسْتَحَقَّاتِ في الجهات الحكومية والتي فيها من الكذب والتدليس والتزوير الشيء الكثير ليعطوا المؤسسات والشركات ما لا يستحقون من الأموال العامة، وتلك التقارير التي يعدها الموظفون السِّرِّيُّونَ في الجهات الأمنية عن الأشخاص والهيئات وهي مخالفة للواقع، وقد يستغل بعضُ ضعاف النفوس أشخاصًا يعرفونهم أو لهم قرابة وعلاقة معهم ليكتبوا عن شخص معين ما يريدون من افتراءات وكذب، وتلك التقارير التي يقدمها ذلك الشخص لجهته على خلاف الواقع تعتبر من شهادة الزور التي يتحمل إثمها هو شَخْصِيًّا ومَنْ نَاصَرَهُمْ وأوقعوه في ذلك الكذب والبهتان ليصلوا إلى أهدافهم اللئيمة باستغلال صاحب منصب وكلمة مسموعة لدى جهته الأمنية.
ومن شهادة الزور تلك الأوراق التي يوقع عليها مجموعة ضد شخص معين كتبها أحد مرضى النفوس لخلافٍ مُعَيَّنٍ معه ولِحِقْدٍ دَفِينٍ في نفسه ثم وقّعوا معه، أحدهم مجاملة، وآخر لأنه جار، وثالث من أجل الثقة فيه، ورابع حمية جاهلية، وخامس يوقع عنه وعن غيره مساعدة للطرف الأول وانتقامًا من الطرف الثاني، وما علم أولئك أنهم شهودُ زورٍ، وعلى المسلم والمؤمن الحق في مثل هذه الأحوال أن يطلب إحالة ذلك للقضاء الشرعي ليحكم بالكتاب والسنة ويطبق عليهم حكم الله وحكم رسوله محمد ، وليعلم المسلم أنَّ من حقه الطَّعْنَ في شهادة الحاقد والخائن وغيرهم وما أكثرهم في هذا الزمان من أجل إقامة شرع الله عليهم وردع غيرهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي غِمْرٍ ـ بكسر الغين: الحقد ـ على أخيه)) ، وفي رواية: أن رسول الله رَدَّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمر على أخيه، وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم. والقانع هو السائل المستطعم، وقيل: هو المنقطع إلى القوم يخدمهم وهو أَجِيرٌ لديهم، ويدخل في ذلك الوكيل عن فرد أو أفراد، وهذا جانب واحد من معنى الزور وشهادته.
والزور وقول الزور وعمله أمور متعددة تحتاج لخطب وإن كان لا بد من الإشارة إلى المزورين للبطاقات والجوازات وانتحال الشخصيات والعملات، وخاصة لأولئك المجرمين الذي أساؤوا للإسلام وارتكبوا كبائر الذنوب ظنًا منهم بأنهم خدموا الإسلام وأهله، وما علموا أنَّ إِسَاءَاتِهِمْ أَكْبَرُ مما يتصوره أي عاقل، فهم طرقوا باب الإصلاح وما علموا أنهم مفسدون، قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 12]، وقال عز وجل: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 220].
فواجب المسلم أن يتقي الله تعالى ويبتعد عن شهادات الزور أيًا كانت ولا يتهاون بشأنها في أي مجال أو يعتبر أنها مجرد توقيع، بل عليه أن لا يشهد إلا على مثل عين الشمس التي يراها في رابعة النهار، وواجب عليه أن يؤدي الشهادة ويقيمها لله تعالى ويُدْلِيَ بها ولا يَكْتُمَهَا وإنْ لمْ تُطْلَبْ منه خاصة في بعض الأماكن والحالات والمواقف التي لا يعلم عنه صاحبُ الحق أو ليس له دليلٌ وإثباتٌ على ذلك أو أن الحق في جهة معينة يتناوب عليها موظفون ثم انتهت علاقتهم بذلك وجاء غيرهم، ومثال ذلك هناك أراضٍ حكوميةٌ في مخططات في بعض المدن اشترتها تلك الإدارات بملايين الريالات ثم قام بعض ضعاف النفوس بالإيماء لمسؤولي البلدية بتشجيرها، وتعاقب الموظفون على ذلك القسم المسؤول عن حقوق تلك الإدارة، وبعد عدة سنوات تَقَدَّمَ الْمُزَوِّرُونَ لأي جهة أو شخصية اعتبارية لأخذ تلك الأراضي منحةً أو شراءً، لذلك فإن الشخص الذي يعلم حقيقة الأمر لا يجوز له كتمان الشهادة، بل عليه أنْ يُؤَدِّيَها ويُخَلِّصَ الظالمين لأنفسهم أولاً ولغيرهم والذين يستولون على الحقوق العامة خاصة بعد أنْ تَجَرَّأَ على هذه الأفعال كثيرٌ من الظالمين من أصحاب رؤوس الأموال ومكاتب العقار بأسماء اعتبارية قد لا يعلمون عن ذلك شيئًا من أجل إخافة الناس بهذه الأسماء حتى لا يطالبوا بإعادة الحقوق لمستحقيها، وأيضًا ذلك الذي يحضر أو يعلم أن لشخص قد توفي أموالاً أو حقوقًا أو أراضي ولا يعلم الورثة عن ذلك، فعليه أن يدلي بشهادته ويقوم بها كما أمر الله عز وجل، ولا ينتظر أحدٌ أن يعلن الأشخاصُ ممن يعرف ويعلم عن أملاك أو حقوق للمتوفين أو عليهم، ولا ينتظر أي شخص لإعلان الدولة عن ذلك لأخذ نسبة معينة كما هو حاصل في الأوقاف وظهرت أملاك لها كانت مجهولة، ولو استدعى الأمر ذلك فعلى الجهات المعنية أن تفعله، مع أنه يجب على المسلم أن يقوم بذلك ويأثم بكتمانه للشهادة، ولا يَقُلْ: إنه لا بد أنْ يُطْلَبَ منه ذلك، فالفرق شاسع بين من يعلم عن الشاهد بالحق ويعرف مكانه ويستطيع استدعاءه في أي وقت للإدلاء بشهادته وبين الجهة أو الأشخاص الذين لا يعلمون عن الشاهد أصلاً ولا عن الحق الذي لهم أيضًا، قال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: 283]، وقال عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140]، وقال تعالى: وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة: 106]، وقال سبحانه: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة: 282]، وقال عز وجل: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج: 33].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله، وارضَ عن الخلفاء الراشدين الأربعة وعن الصحابة أجمعين...
(1/5688)
في ظلال سورة المنافقين
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, نواقض الإيمان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
2/5/1423
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المنافقون يعلنون الإسلام ويبطنون الكفر. 2- المنافقون يستترون بالأيمان لإخفاء معتقداتهم. 3- بعض مواقف المنافقين مع النبي. 4- المنافقون يستخدمون خطة التجويع مع المؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنّ من سعادة المؤمن أن يعيش مع تفسير القرآن العظيم ليفهم كلام ربّ العالمين حين يتلوه أو يُتلى عليه، واليوم نستعرض ما تيسر من سورة المنافقين، حيث بدِئت السورة بوصف طريقة المنافقين في مداراتهم لما في قلوبهم من الكفر، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي هو رسول الله وحلفهم كذبًا ليصدقهم المؤمنون، واتخاذهم تلك الأيمان وقايةً وجُنَّةً يُخْفُون وراءَها حقيقة أمرهم ويخدعون المسلمين بها، قال تعالى: إِذَا جَاءكَ ?لْمُنَـ?فِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ?للَّهِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ ?تَّخَذُواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [المنافقون: 1، 2]. فهم كانوا يَجِيئُونَ إلى رسول الله فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان ولا يقصدون بها وجه الحق، إنما يقولونها للتقية، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين فهم كاذبون في أنهم جاؤوا ليشهدوا هذه الشهادة، فقد جاؤوا ليخدعوا المسلمين بها، ويُدَارُوا أنفسَهم بقولها، ومِنْ ثَمَّ أكذبهم الله في شهادتهم بعد أن أثبت حقيقة الرسالة: وَ?للَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لَكَـ?ذِبُونَ.
وقد اتخذوا أيمانهم وقاية حيث صَدّوا أنفسهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله بِأََسْوَإِِ خديعة وتضليل، ألا وهو الكذبُ الْمُؤَيَّدُ بالأيمان الكاذبة. فهم عرفوا الإيمان ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، قال تعالى: ?تَّخَذُواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون: 2، 3].
وقال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـ?مُهُمْ لأنهم أجسامٌ تُعْجِبُ لا أَنَاسِيَّ تَتَجَاوَبُ، وإذا كانوا صامتين لا يتكلمون فهم أجسام معجبة للعيون، وأما حين ينطقون ويتكلمون فهم خواء من كل معنى ومن كل حسّ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لا حركة فيها، فهم دائمًا في حالة من التّوجّس الدائم والفزع والاهتزاز والخوف، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ، فهم يَتَوَجَّسُونَ من كل حركة ومن كل صوت ومن كل كلمة وهاتف يحسبونه يطلبهم وأنهم هم المقصودون؛ لأنهم يخافون من فضيحة أمرهم ونفاقهم.
ويُنَبِّهُ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وتعالت عظمته ينبِّه الرسولَ وأصحابَه والمؤمنين إلى يوم القيامة على حقيقة المنافقين بأنهم هم العدو الحقيقي الذي يَنْخُرُ في جسم الأمة المسلمة، والله تعالى مقاتلهم حيثما انصرفوا وأنَّى اتَّجَهُوا، قال تعالى: هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
وقال جل جلاله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ?للَّهِ لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ هُمُ ?لَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى? مَنْ عِندَ رَسُولِ ?للَّهِ حَتَّى? يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ?لْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ?لأعَزُّ مِنْهَا ?لأذَلَّ وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون: 5-8].
لقد ذكر غيرُ واحدٍ من السلف أنَّ هذا السِّيَاقَ السَّابِقَ من الآيات كله نزل في عبد الله بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، فقال ابن إسحاق في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة على المريسيع وهو ماء لهم أي: لبني المصطلق، قال: فبينا رسول الله على ذلك الماء ـ بعد الغزوة ـ وَرَدَتْ وَارِدَةُ الناسِ، ومع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَجِيرٌ له من بني غفار يُقَالُ له: جَهْجَاه، فازدحم جهجاهُ وسِنَانُ بْنُ يزيد الْجُهَنِيّ على الماء فاقتتلا، ـ أي: تخاصما ـ فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، وفي رواية للبخاري ومسلم: فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي : ((دعوها فإنها مُنْتِنَةٌ)) ، ثم جاء في الرواية الأخرى: فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول وعنده رهط من قومه، وفيهم زيد بن أرقم غلام حَدَثٌ، فقال: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟ قد نَافَرُونَا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أَعُدُّنَا وجَلابِيب قريش إلا كما قال الأوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله ، وذلك عند فراغ رسول الله من عدوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: مُرْ به عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فليقتله، وفي رواية البخاري ومسلم: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله : ((دعه؛ لا يتحدث الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه، ولكن أَذِّنْ بالرحيل)) ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها، فارتحل الناس وقد مشى عبدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ إلى رسول الله حين بلغه أنَّ زيدَ بْنَ أَرْقَمٍ قد بَلَّغَهُ ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفًا عظيمًا، فقال من حضر رسول الله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أَوْهَمَ في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل؛ وذلك حَدَبًا منهم على ابن أبيّ بن سلول ودفعًا عنه. فلما اسْتَقَلَّ رسولُ الله وسَارَ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَحَيَّاهُ بتحية النبوة وسلّم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رُحْتَ في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها! فقال له رسول الله : ((أوَما بلغك ما قال صاحبكم؟)) قال: وَأَيُّ صاحبٍ يا رسول الله؟ قال: ((عبد الله بن أبيّ)) ، قال: وما قال؟ قال: ((زعم أنه إن رجع المدينة أخرج الأعزُّ منها الأذلَّ)) ، قال: فأنت يا رسول الله والله لتخرجنه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله اُرْفُقْ به، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، فإنه ليرى أنك قد اسْتَلَبْتَهُ مُلْكًا، ثم مشى رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أنْ وَجَدُوا مَسَّ الأرضِ فوقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ، ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبيّ ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أَخَذَ رسولُ اللهِ بِأُذُنِ زَيْد بْنِ أرقم ثم قال: ((هذا الذي أوفى الله له بأذنه)). وفي آخر إحدى الروايات: فبعث إليَّ رسول الله فقرأها عليَّ ـ أي: الآيات من أول إِذَا جَاءكَ ?لْمُنَـ?فِقُونَ إلى لَيُخْرِجَنَّ ?لأعَزُّ مِنْهَا ?لأذَلَّ ثم قال : ((إن الله قد صدقك يا زيد)) رواه البخاري ومسلم.
وبلغ عبدَ الله بْنَ عبد الله بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الذي كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإنْ كنتَ لا بدَّ فاعلاً فَمُرْنِي به فأنا أَحْمِلُ إليك رأسَهُ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله : ((بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا)). وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه، فقال رسول الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه ذلك من شأنهم: ((كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله لأرعدتْ له آنُفٌ لو أمرتُها اليوم تقتله لقتلته)) ، قال عمر: قد علمت واللهِ لأمْرُ رسولِ اللهِ أعظمُ بركةً من أمري.
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبيّ على باب المدينة واسْتَلَّ سيفَه، فجعل الناس يمرُّون عليه، فلما جاءه أبوه عبد الله بن أبيّ قال له ابنه: وراءك، فقال: ما لك؟ ويلك! فقال: والله، لا تَجُوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله وكان إنما يسير في سَاقَةٍ الجيش ـ أي: في مؤخرته ـ ينظر المتخلفَ والضَّالَّ والمحتاجَ إلى مَعُونَةٍ، فشكا إليه عبدُ الله بنُ أبيٍّ ابْنَهُ، فقال ابنُه عبدُ الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله فقال: أما إِذْ أَذِنَ لك رسولُ الله فَجُزِ الآنَ.
إنه لَنَمُوذَجٌ للمسلم المتجرد الطائع، وإنها لروعة تواجه القلب، روعة الإيمان في قلب، ذلك الابن المؤمن حقًا، بينما نجد على النقيض والعكس من ذلك في أبيه رأس المنافقين من زمن رسول الله وفي أمثاله إلى قيام الساعة. ذلك الموقف، موقف الرجل المؤمن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول وهو يأخذ بسيفه في مدخل المدينة على أبيه، فلا يدعه يدخل ليعلم الناس أن رسول الله هو الأعز وأن أباه هو الأذل، ألا إنها قِمَّةٌ سَامِقَةٌ تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال، رفعهم إلى هذه القمة وهم بشر، بهم ضعف البشر، وعواطف البشر، وهذا هو أجمل ما في هذه العقيدة حين يدركها المسلمون على حقيقتها، وحين يصبحون هم حقيقتها التي تَدبُّ على الأرض، تدعو إلى الإسلام وتطبقه وتعمل به قولاً وعملاً في كل شؤون الحياة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كتب العزة للمؤمنين والذلة على المنافقين، يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو العزيز الحكيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن المنافقين في أي زمان ومكان لهم صفات وعلامات عُرِفُوا بها، والخطبة القادمة إن شاء الله لبيان علاماتهم التي يُعْرَفُون بها، أما هنا فأقتصر على بيان خطة عرفوا بها كما ورد في السورة، تلك الخطة التي يتجلى فيها خُبْثُ الطَّبْعِ وخِسَّةُ المشاعر، تلك هي خطة التجويع التي يبدو أنهم يتواصون بها على مَرِّ العصور هم والكفار، وذلك لمحاربة أهل الإيمان، فهذه الطريقة عملتها قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضُّوا عن نصرة رسول الله ويُسْلِمُوهُ للمشركين، وهي كذلك طريقة المنافقين كما وردت في القرآن الكريم من أجل أن ينفضَّ أصحابُ رسولِ اللهِ عنه ويتفرقوا تحت وطأة الضيق في العيش والجوع، قال تعالى: هُمُ ?لَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى? مَنْ عِندَ رَسُولِ ?للَّهِ حَتَّى? يَنفَضُّواْ [المنافقون: 7].
وتلك الطريقة نفسها يستعملها المنافقون والفاسقون في هذا الزمان مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ لحربِ المؤمنين وإيذائهم والتضييق عليهم في معيشتهم وإشغالهم بالبحث عن لقمة العيش، ويستعملها مع كل أسف أصحاب المناصب السياسية في البلاد المنتسبة للإسلام لإشغال شعوبهم بالبحث عن موارد لمعيشتهم ليصرفوهم إلى عدم التفكير في غيرها مما هم عليه من أمور يحسبون أن غفلة البشر عنها وعدم علمهم بها تُعْفِيهِمْ عن السؤال ومِنْ ثَمَّ العقاب يوم الحسرة والندامة، وجَهِلُوا أو تجاهلوا أنهم موقوفون ومسؤولون يوم القيامة عن شعوبهم ومن تحت رعايتهم ومسؤوليتهم عن عدم تأمين العيش الكريم لهم وإبعادهم عن الطرق المحرمة التي تلجئهم إلى تأمين ما يحتاجونه في حياتهم، ومن تلك الطرق المحرمة التي يلجؤون إليها السرقات والمتاجرة بالمخدرات والمحرمات، وأقلُّهم من يعمل في المؤسسات الربوية إنْ وَجَدَ له عملاً فيها مع أنه يتعذر على كثير من الشباب الحصول على وظيفة حتى في هذا المجال، والواجب على من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين في أيّ منصب كان وفي جميع بلاد المسلمين أن يتنبه لخطورة الموقف والأوضاع الراهنة ويتصوّر اتساع الخرق على الراقع في الأيام القادمة وأن يعمل في زمن المهلة على ما يُخَلِّصُهُ من ذلك الموقف الرهيب يوم القيامة لينجو من العقاب، وأما السؤال والحساب فلا بدّ منه، وليفكر كل مسلم في مسؤوليته عن هذا وغيره لأن كثيرًا منا مسؤولٌ عن ذلك مهما وضعنا رؤوسنا أو جهلنا أو تجاهلنا أو حاولنا التغافل عن ذلك، فجميعنا واللهِ مسؤولون، كلٌّ في منصبه وموقعه، فليفكر كلّ منا بِجِدِّيَّةٍ في هذا الأمر الخطير في هذا البلد وفي غيره من ديار المسلمين، الأئمة والخطباء والداعون إلى الله عمومًا والقضاة والعلماء وأرباب القلم والصحافة وغيرها والمتقلدون للمناصب أيًا كانت، الجميع مسؤول في جميع ديار المسلمين عن ارتكاب الجرائم والمحرمات والبعد عما حرم الله في المعيشة وغيرها من أمور المعاملات والعبادات، فالمسؤولية مسؤولية مشتركة لا تختص بمرتكبيها لأن الوسائل التي دفعتهم لارتكابها قد اشترك فيها عِدَّةُ جهاتٍ حيث سَهَّلُوا الوصولَ إليها وعملوا على توفير الأسباب الدافعة إليها دون النظر في عواقبها الوخيمة على الجميع في الدنيا والآخرة، فلنتصوّر ولنتأمّل هذه الأمور الشائكة والمعقدة ونستخدم الحلول الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله محمد.
أعود للقول بأن طريقة الحصار والتجويع هي طريقة الشيوعيين أيضًا في حرمان المتمسكين بالإسلام ليموتوا جوعًا أو يكفروا بالله ويتركوا الصلاة، وهي الوسيلة نفسها التي استخدمتها دول الكفر الآن بالحصار الاقتصادي لبعض بلاد المسلمين وديارهم وحرمانهم من العيش الكريم في بلادهم وعلى أرضهم، تلك الطريقة اللئيمة الخسيسة التي تستخدمها الدول الكبرى الكافرة وتنساق معها الدولُ الصغيرةُ الْمُشَكِّلَةُ في النهاية لما يسمى بالأمم المتحدة، وهي في حقيقتها وعلى هذه الكيفية تستحق أنْ تُسَمَّى بعصبةِ الأممِ الظالمةِ الشِّرِّيرَةِ، لأنها تتعاون في كثير من الأحيان على الباطل والإثم والعدوان والظلم الواضح للعيان، وهكذا يتفق على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان من قديم الزمان إلى هذا الزمان إلى قيام الساعة نَاسِينَ الحقيقة التي يذكرهم الله بها في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون: 7]. فمن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم، فما أغباهم وأقل علمهم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين، قال تعالى: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ?لإِنفَاقِ وَكَانَ ?لإنْسَـ?نُ قَتُورًا [الإسراء: 100].
وهكذا يُثبِّتُ اللهُ المؤمنين ويُقَوِّي قلوبَهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخبيثة التي يلجأ إليها أعداء الله في حربهم ومعاداتهم، ولكي يُطَمْئِنَ المؤمنين إلى أن خزائن الله في السماوات هي خزائن الأرزاق للجميع، وهو سبحانه الذي يعطي أعداءه ولا ينسى أولياءه، وقد أوضح ذلك في عدة آيات من القرآن الكريم وأقسم عليه سبحانه وأنه هو الرزاق يرزق الإنس والجنّ وجميع مَنْ دَبَّ على هذه الأرض من حيوانات برية أو بحرية وحشرات وطيور وديدان، فقال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود: 6]، وقال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات: 56-58]. كما أقسم سبحانه لعباده على هذا الرزق ليطمئنهم عليه ويَثِقُوا ويَتَيَقَّنوا منه ويعلموا حقيقة ذلك كما أنهم متيقِّنُون من نُطْقِهِمْ فقال جل ثناؤه: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات: 22، 23].
وفي ختام هذه السورة التي فيها أوصاف المنافقين نادى الله عباده المؤمنين بأن لا تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكره سبحانه وتعالى، وعليهم أن ينفقوا مما منحهم الله ورزقهم إياه قبل فوات الأوان ومجيء الموت وقبل أن يتركوا كل شيء وراءهم لغيرهم وقبل أن يرجوا ويتمنوا التأخير وأنى لهم ذلك، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9-11].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5689)
صفات المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/5/1423
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة المنافقين على المجتمع الإسلامي. 2- صفات المنافقين. 3- خوف الصحابة من النفاق. 4- النفاق العملي والنفاق الاعتقادي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ نبينا محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ.
إن خطرًا عظيمًا وسُمًّا قاتلاً يَسْرِي في كيان المجتمع المسلم من عهد رسول الله إلى قيام الساعة يهدد الإسلام والمسلمين من الداخل، ألا وهو خطر المنافقين، حيث لا يوجد خطر أعظم من خطرهم؛ لأنه يأتي من داخل الصفوف ويغفل عنه المؤمنون وهو خَطَرٌ خَفِيٌّ، أما خطر الشيوعيين واليهود والنصارى وغيرهم من الكفار فهو شيء واضح أمام العيان، وبديهي الحذر منه.
لقد ذكر الله عز وجل من صفات المنافقين شيئًا كثيرًا، وكذلك عَدَّدَ رسولُ الله بعضَ صفاتهم، وهنا نتتبع شيئًا من علاماتهم كما وردت في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة؛ لكي نحذر الوقوع فيها، ولنعلم أيضًا المنافقين بصفاتهم سواء كانت مجتمعة كلها أو معظمها، ولنحذِّر غيرنا من الوقوع فيها فهي سبب للانحراف عن منهج الله والبعد عن الإسلام وتعاليمه من حيث يشعر مرتكبها أو لا يشعر، نسأل الله السلامة والعافية والعصمة من الوقوع فيها وفي غيرها من الآثام.
ومن أبرز صفاتهم ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) ، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)).
وفي الحديث الأول إِخْبَارٌ من الذي لا ينطق عن الهوى من رسولنا محمد بأنه متى اجتمعت تلك الخصال الأربع في شخصٍ ما ذَكَرًا كان أو أنثى كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة من هذه الخصال كانت فيه خصلة من النفاق حتى يتركها ويبتعد عنها ويرجع إلى إيمانه النَّقِيِّ الصافي الخالص من علامات النفاق. وفي الحديث الثاني بين آية المنافق وهي علامته التي يمكن أنْ يُعْرَفَ بها، وفيها زيادة على الحديث الأول أنه إذا وعد أخلف الوعد ولم يَفِ به. ولا أستطرد في شرح وبيان تلك الصفات لأن الكلامَ عَرَبِيٌّ ومفهومٌ للجميع، ويفهمه طالب العلم والأمي والصغير والكبير، وأكتفي بإيراد الصفات مدعمة بالأدلة، فالذي ورد من صفاتهم سابقًا:
1- الخيانة في الأمانة أيًا كانت الأمانة، وليست مقصورة على أمانة المال بل الأمانة عامة.
2- الكذب في الحديث.
3- الغدر وعدم الوفاء بالعهد.
4- الفجور والخروج عن الطريق المستقيم عند الخصومة مع أي إنسان.
5- عدم الوفاء بالوعد، وهذه سبق دليلها.
6- الخداع ومرض القلوب وعدم صفائها والسعي بالفساد في الأرض، قال الله تعالى مخبرًا عنهم: يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ?للَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 9-12].
7- الخوف من افتضاح أمرهم والاستهزاء بالمؤمنين وكذبهم عندما يسألون عن خوضهم في أعراض المؤمنين، قال تعالى: يَحْذَرُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ?سْتَهْزِئواْ إِنَّ ?للَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: 64-66].
وهذه الآيات وإن كان لها سببُ نزولٍ فإنَّ النَّصَّ عَامٌّ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ما لم يرد نص من القرآن أو السنة تُخَصِّصُ وتُقَيِّدُ هذا العمومَ، لذلك فهو عام في المنافقين في أي زمان ومكان. عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة ـ قال: دخل حديث بعضهم في بعض ـ أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مِثْلَ قُرَّائِنَا هؤلاء أَرْغَبَ بطونًا، ولا أكْذَبَ ألسنًا، ولا أجْبَنَ عند اللقاء، يعني رسول الله وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله ، فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بِنِسْعَةِ نَاقَةِ رسولِ اللهِ وإن الحجارة لَتَنْكُبُ رِجْلَيْهِ وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله : أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ [التوبة: 65] ما يلتفت إليه وما يزيد عليه.
8- ومن صفات المنافقين أيضًا أنهم متكاتفون مع بعضهم ويُعِينُ بعضُهم بعضًا على الشر ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله، فالبخل صفة ملازمة لهم، قال تعالى: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة: 67].
9- ومن علاماتهم أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين للضعف الحاصل في نفوسهم وانهزامهم وعدم ثقتهم بالله عزَّ وجلَّ وبنصره تبارك وتعالى؛ لذلك فهم يركنون إلى الكافرين ويسعون إليهم مع التَّرَبُّصِ بالمؤمنين وتَحَيُّنِ الْفُرَصِ والمخادعة والخداع بشتى صوره والذبذبة وعدم الثبات والكسل عند قيامهم للصلاة والرياء وعدم ذكر الله إلا قليلاً، ولنستمع إلى هذه الآيات المحكمة التالية التي تدل على ما ذُكِرَ من صفاتهم، قال تعالى: بَشّرِ ?لْمُنَـ?فِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ?لَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ?لْعِزَّةَ فَإِنَّ ?لعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا ?لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ?للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـ?فِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَ?للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذ?لِكَ لاَ إِلَى? هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 138-143]، وقال تعالى: وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ ?للَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـ?نِهِمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ ?شْتَرَوُاْ ?لضَّلَـ?لَةَ بِ?لْهُدَى? فَمَا رَبِحَت تِّجَـ?رَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [البقرة: 14-16]، وقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ [المائدة: 51، 52].
10- البخل والشح وعدم الوفاء بالنذر واللمز والسخرية من المؤمنين، قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـ?هَدَ ?للَّهَ لَئِنْ ءاتَـ?نَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى? يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ ?للَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ ?لَّذِينَ يَلْمِزُونَ ?لْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـ?تِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ?للَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 75-80].
11- ومن صفاتهم وعلاماتهم نقلُ الأخبار الكاذبة وحبُّهم إشاعة الفاحشة والسوء في الذين آمنوا كما في حادثة الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد توعدهم الله بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ?مْرِئٍ مّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإثْمِ وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 11]، وقال تعالى إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور: 19].
12- ومنها أيضًا أنَّ أجسامَهم تُعْجِبُ من ينظر إليها، وعندما يتكلمون ينخدع السامعُ بكلامهم ويستمع لقولهم، ولكنهم كما وصفهم الله تعالى وشبههم بالخشب المسندة، وكذلك هم دائمًا على خوف ووجل من سوء صنيعهم ويحسبون أن كل صيحة عليهم، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـ?مُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4].
وجزاء المنافقين من جنس فعلهم، فالله سبحانه وتعالى أعد لهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة كما في الآية السابقة وكما ورد في قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]، وقال سبحانه: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لأسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء: 145]، وقال عز وجل: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّارَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التحريم: 9].
ولننظر إلى لطف الله بعباده وعفوه عنهم وسعة رحمته، فلو ارتكب العبد من المعاصي والآثام أَقْبحها وأَشْنَعها أو جمع بينها ثم تاب فإن الله يتوب عليه ويغفر له إنه هو الغفور الرحيم، ولنستمع إلى هذه الآيات من سورة النساء التي جاءت بعد الآيات السابق ذكرها والتي فيها معظم صفات المنافقين، فالواجب عليهم التوبة مع صلاح العمل والاعتصام بالله وبكتابه وسنة نبيه محمد ، قال تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لأسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَ?عْتَصَمُواْ بِ?للَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ ?للَّهُ شَـ?كِرًا عَلِيمًا [النساء: 145-147].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلقد كان أصحاب رسول الله من المؤمنين الصادقين يخافون على أنفسهم من النفاق، فكيف لا نخاف نحن على أنفسنا في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن وكثر فيه النفاق وأهله؟! وكيف نأمن على أنفسنا ونزكيها ولم يأمن أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أحد المبشرين بالجنة وهو الذي ضرب الأمثلة الرائعة في تاريخ الإسلام بعدله واستقامته؟! فلقد سأل رضي الله عنه حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله عنه كَاتِمَ سِرِّ رسولِ اللهِ واسْتَحْلَفَهُ بالله بقوله: أستحلفك بالله، أما عَدَّنِي عندك رسول الله من المنافقين؟ فقال له: لا، ولا أخبر أحدًا غيرك، أي: أنه لا يخبر غيره من الصحابة هل هو مؤمن أو منافق؛ لأن ذلك سِرٌّ عنده أخبره به الرسول عن أسماء المنافقين لِيَعْلَمَ بعد ذلك أن ما عداهم مؤمنون.
وكان منْ حِرْصِ عمر رضي الله عنه أنه لا يصلي على جنازةِ مَنْ جَهِلَ حَالَهُ حتى يصليَ عليها حذيفةُ بْنُ اليمان رضي الله عنه لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، وذلك بعد موت رسول الله ، وهذا حرص منه رضي الله عنه على امتثال أمر الله، وقد نزلت هذه الآية تصديقًا له وتدعيمًا لِمَوْقِفِهِ وقَوْلِهِ رضي الله عنه، قال الله تعالى: وَلاَ تُصَلّ عَلَى? أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى? قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة: 84]، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبيّ دُعِيَ رسولُ الله للصلاة عليه فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه تحَوَّلْتُ حتى قُمْتُ في صدره فقلتُ: يا رسولَ الله أَعَلَى عَدُوِّ اللهِ ـ عبد الله بن أبيّ ـ القائلِ يوم كذا: كذا وكذا؟ أُعَدِّدُ أيَّامَهُ، قال: ورسول الله يَتَبَسَّمُ حتى إذا أَكْثَرْتُ عليه قال: ((أَخِّرْ عَنِّي يا عُمَرُ، إني خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قد قيل لي: ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَهُمْ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِي ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة: 80] )) ، قال: ((لو أعلم أني زدتُ على السبعين غُفِرَ له لَزِدْتُ)) ، قال: ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبتُ مِنْ جُرْأَتِي على رسول الله ، والله ورسوله أعلم. قال: فَوَاللهِ ما كان إلا يسيرًا حتى نَزَلَتْ هاتان الآيتان: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 84، 85]، فما صلى رسول الله بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل.
قال البخاري في صحيحه: قال ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه. ويُذْكَرُ عن الحسن أنه قال: ما خافه إلا مؤمن ولا أَمِنَهُ إلا منافق.
هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، يخافون على أنفسهم من النفاق الأصغر أو ما يسمى بالعملي، وليس النفاق الأكبر؛ لأن الأصغر وسيلة النفاق الأكبر، فالنفاق الأصغر أو ما يسمى بالنفاق العملي خمسة أنواع كما وردت في الحديثين السابقين وملخصها: ((إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)). أما النفاق الأكبر وهو ما يسمى بالنفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع: 1- تكذيب الرسول. 2- تكذيب بعض ما جاء به الرسول. 3 - بُغْضُ الرسول الله. 4- بُغْضُ بَعْضِ ما جاء به الرسول الله. 5- الْمَسَرَّةُ بانخفاض دين الرسول. 6- الكراهية لانتصار دين الرسول.
والأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار لأنه وإن كان يصلي ويصوم ويعمل بالعبادات الظاهرة أمام المسلمين للتَّسَتُّرِ ولكنه في حقيقته يُظْهِرُ خِلافَ ما يُبْطِنُ ويعمل ضد الإسلام والمسلمين في الخفاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5690)
الربا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
11/2/1406
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعاطي الربا من أكبر الكبائر. 2- تحريم الربا والوعيد الشديد لمن تلبس به أو أعان عليه. 3- تدرج تحريم الربا. 4- الربا أنانية واستغلال لحاجة الناس. 5- صور بعض المعاملات الربوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا أن نتقي الله ونحذر من دخول الربا في معاملاتنا واختلاطه بأموالنا فإن أكل الربا وتعاطيه من أكبر الكبائر عند الله، وقد توعّد الله المرابي بالنار وآذنه بحرب من الله ورسوله، قال عز وجل: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279].
فهذا النص القرآني واضح الدلالة على تعليق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا، فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا، ليسوا بمؤمنين ولو أعلنوا أنهم مؤمنون، فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به، فهم مسلمون وفي دائرة الإسلام، والإيمان مرتبة أعلى، كما أن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان، فلا يدع الإسلامُ إنسانًا يتستر وراء كلمة الإيمان بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله عز وجل، ولا يُنَفِّذُ هذا الشرع في حياته ولا يحكمه في معاملاته، فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 279]. ماذا يستطيع أن يواجه هذا الإنسان الضعيف الفاني في حرب رهيبة معروفة المصير؟! إنه يفتح على نفسه باب الخسران والهلاك.
لقد أمر رسول الله عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يَكُفُّوا عن التعامل الربوي، وقد أمر في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية ـ وأوله ربا عمه العباس ـ عن كاهل المدينين الذين ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة، ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حال الجاهلية، فقال في معرض خطبته عليه الصلاة والسلام: ((وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وأول ربا أَضَعُ ربا العباس بن عبد المطلب)).
وقد لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وما ظهر الربا والزنا في قوم إلا ظهر فيهم الفقر والأمراض المستعصية التي لم تكن في أسلافهم وظهر فيهم ظلم السلطان. إن الربا يهلك الأموال ويمحق البركات وإن تراءت لأصحابها بأنها كثيرة في نظرهم، قال تعالى: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة: 276].
لقد شدد الله الوعيد على آكل الربا وجعل أكله من أفحش الخبائث وأكبر الكبائر، وبين عقوبة المرابي في الدنيا والآخرة، وأخبر بأنه محارب لله ولرسوله، فعقوبة الربا في الدنيا أنه يمحق بركة المال ويعرضه للتلف والزوال حتى يصبح صاحبه من أفقر بني آدم، وكم نسمع من تلف الأموال العظيمة بالحريق والغرق والفيضانات فيصبح أهلها فقراء بين الناس، وإن بقيت هذه الأموال الربوية بأيدي أصحابها فهي ممحوقة البركة لا ينتفعون منها بشيء، بل هي شَرٌّ عليهم يعانون منه ويلاقون العذاب من أتعابها، ويتحملون حسابها ويَصْلَوْنَ عذابها يوم القيامة ويرثها غيرهم في الدنيا.
والمرابي مُبْغَضٌ عند الله وعند الناس؛ لأنه يأخذ ولا يعطي، يجمع ويمنع، لا ينفق ولا يتصدق، شحيح جشع جموع منوع، تنفر منه القلوب وينبذه المجتمع، وهذه عقوبات عاجلة، وأما عقوبته الآجلة فهي أشد وأبقى، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يلاقيه المرابي، فورد في القرآن الكريم عن حال المرابي عند قيامه من قبره للحشر والنشور قول الله عز وجل: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ [البقرة: 275] ، وذلك أن الناس إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين إلى المحشر كما قال الله عز وجل: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ?لأجْدَاثِ سِرَاعًا [المعارج: 43] ، إلا آكل الربا فإنه يقوم ويسقط كحالة المصروع الذي يقوم ويسقط بسبب الصرع؛ لأنَّ أَكَلَةَ الربا في الدنيا تَكْبرُ بطونُهم بسبب تَضَخُّمِ الربا فيها، فكلما قاموا سقطوا لثقل بطونهم، وكلما هَمُّوا بالإسراع مع الناس تَعَثَّرُوا وتأخَّرُوا عقوبةً وفضيحةً لهم، ثم يأتيهم بعد ذلك العذاب الأليم.
وفي حديث الإسراء أن النبي رأى رجلاً يسبح في نهر من الدم، وكلما جاء ليخرج من هذا النهر استقبله رجل على شاطئ النهر وبين يديه حجارة يرجمه بحجر منها في فمه حتى يرجع حيث كان، فسأل عنه النبي فأُخبر أنه آكِلُ الربا. وجاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي أتى ليلة أسري به على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، قال: ((فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا)) ، وورد عنه أنه قال: ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أَيْسَرُهَا مثل أن ينكح الرجل أمه)) ، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) ، وقال: ((هم سواء)).
أيها المسلمون، إن الربا حرام في جميع الشرائع السماوية، قال الله تعالى في حق اليهود: فَبِظُلْمٍ مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـ?تٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ ?لرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْو?لَ ?لنَّاسِ بِ?لْبَـ?طِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ?فِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 160، 161].
وفي الإسلام مَرَّ تحريم الربا بأدوار أربعة، تَدَرَّجَ فيها في تقرير التحريم حيث نزلت الآية السالفة الذكر وفي المرة الثانية حيث التلويح فيها بالتحريم لا التصريح، وقد سبقتها الآية الكريمة حيث قال تعالى: وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِبًا لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ ?لنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ?للَّهِ وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زَكَو?ةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُضْعِفُونَ [الروم: 39]. ثم نزل قوله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ?لرّبَا أَضْعَـ?فًا مُّضَـ?عَفَةً [آل عمران: 130]. ثم نزل التحريم الكلي القاطع الذي لا شك فيه لدى كل مؤمن، ولا تفريق فيه بين قليل أو كثير حيث قال تعالى: يا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]. وذلك بعد الحكم الصريح بالتحريم في الآية التي سبقت هذه الآيات حيث قال عز وجل: وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَ?نتَهَى? فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ?للَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة: 275].
ومع هذا الوعيد الشديد لمن أكل الربا فإن كثيرًا من المسلمين لا يبالون في جمع المال من أي طريق، لا يهمهم إلا تضخيم الثروة وتكديس الأموال التي سوف يجدون عاقبة الخسران فيها في الدنيا والآخرة، فالحرام عندهم ما تعذر عليهم أخذه، والحلال في عرفهم ما تمكنوا من تناوله من أي طريق، وهذا يدل على عدم خشية الله في قلوبهم وإعراضهم عن دينهم وعدم مبالاتهم بأحكام الشريعة وتطبيقها في حياتهم، وإذا وصل حال المجتمع إلى هذا المستوى فعقوبة ذلك قريبة، ولا خير في حياة تبنى على الربا، ولا في كَسْبٍ مَوْرِدُهُ حَرَامٌ، إنَّ مالاً يُجْمَعُ من حرام كالمستنقع المتجمع من الماء النجس القذر، يتأذى مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ كُلُّ مَنْ قَرُبَ منه أو مَرَّ عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده تبارك وتعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلقد اعتبر الإسلام الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية، وشَنَّ عليه حربًا لا هَوَادَةَ فيها، وتوعد الله جل جلاله المتعاملين بالربا بالعذاب الأليم، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من خلال تصوير حالة المرابين ذلك التصوير الشنيع الفظيع الذي صَوَّرَهُمْ به في القرآن الكريم، صورة الشخص الذي به مسٌّ من الجن، فهو يتخبط ويَهْذِي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه، ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية ـ أراد الإسلام إبطاله ـ ما بلغ من تفظيع أمر الربا، ولا بلغ من التهديد في منكر من المنكرات كما بلغ في شأن الربا والمرابين، فالربا في الإسلام جريمة وكبيرة من الكبائر ومن السبع الموبقات التي حذر منها الرسول ، والربا أساس المفاسد وأصل الشرور والآثام، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان والزكاة والدين المأمور بها في الإسلام، ولو تدبر المسلمون ووعوا قرآنهم وقرؤوا الآيات التي قبل هذه الآيات التي تحرم الربا وفي ثناياها وبعدها، لو فعلوا ذلك لأدركوا سِرَّ التحريم، وكذلك ما يصلح المجتمع المسلم ويجعل حياته آمنة مطمئنة قائمة على المحبة والإخاء والإيثار، بعيدة عن حب الذات والأنانية والأثرة.
إن الصدقة والدَّين عطاء وسماحة وطهارة وزكاة للمال والنفس وتعاون وتكافل، والربا شح وقذارة ودنس وجشع وأثرة وأنانية، الصدقة والزكاة إعطاءُ المالِ للغير بدون عِوَضٍ ولا رَدٍّ من البشر، ولكنَّ الأجرَ مُدَّخَرٌ عند الله جل جلاله متى صلحت النية وكان صوابًا وتقبله رب العزة والجلال، أما الربا فهو استرداد للدين ومعه زيادة حرام مُقْتَطَعَةٌ من جهد المدين أو من لحمه، من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي اسْتَدَانَهُ فَرَبِحَ نتيجةً لِكَدِّهِ وعمله، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله، فلا عجب إذًا أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم الاجتماعية والدينية، وأن يعلن الحرب على المرابين: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 279] ؛ وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث يُوَلِّدُ في الإنسان حُبَّ الأَثَرَةِ والأنانية، فلا يعرف إلا نفسه، ولا يعرف إلا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم فيه روح التضحية والإيثار ومعاني حب الخير، ويغدو المرابي وَحْشًا مُفْتَرِسًا لا يهمه من الحياة إلا جمع المال وامتصاص دماء الناس واسْتِلاب ما في أيديهم. ويولِّد الربا العداوةَ والبغضاءَ بين أفراد المجتمع، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والبر والإحسان، ويزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمر قواعد المحبة والإخاء، ويقسم الناس إلى طبقتين: طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية والتمتع بعرق جبين الآخرين، وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة والبؤس والحرمان، وبذلك ينشأ الصراع بين الطبقتين.
إن المعاملات الربوية لها صور متعددة, وهي تتفاوت في الإثم، فأدناها مساعدة المرابي بوضع المال عنده ليحفظه، وأعلاها ما يسمى بالفوائد وهو عين الربا، وما نذكره هنا هو صورة من صور متعددة. إن بعض المسلمين إذا لم يُذْكَرْ له الحكمُ صريحًا في الربا لا يفهمه تلويحًا وتعريضًا، فتكثر الأسئلة عن حكم أخذ ما يُسَمَّى بالفوائد من المصارف أو ما يُسمى بالبنوك، وعن وضع المال عندهم أمانة، وعن عمل الموظف لديهم، لذا فإن تسمية الربا بالفوائد هو من باب التدليس والتلبيس على الناس، فالفوائد هي عين الربا الصريح المحرم في القرآن والسنة، ومن تعامل بهذه المعاملة سواء كان آخِذًا أو مُعْطِيًا أو كاتبًا أو شاهدًا فهو من الملعونين على لسان رسول الله ومن المحاربين لله ورسوله، ولا يخرج منه الموظف الذي يعمل في المصارف لأنه كاتبٌ للربا وشاهدٌ عليه ومُعِينٌ ومُسَاعِدٌ على انتشاره في المجتمع، وأبواب الرزق الحلال مفتوحة، ومن ترك شيئًا لله عَوَّضَهُ الله خيرًا منه، قال رسول الله : ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) ، فذلك عام سواء كان على مستوى الفرد أو الشركات التي تتعامل بالربا المكونة من مئات الأفراد، هذا بالنسبة للأخذ والعطاء في حال الْقَرْضِ أو الإقْرَاضِ زيادة على رأس المال، أما الذين يُودِعُونَ أموالهم عند المرابين فهم يعاونونهم على أكل الربا وعلى الإثم والعدوان، ويمدُّونهم بالمال لكي ينتشر الحرام في المجتمع، فلا عذر لأحد في هذا البلد أن يضع ماله لدى المصارف الربوية، ونعمة الأمن الموجودة في هذا البلد من أكبر النعم التي مَنَّ الله علينا بها بعد نعمة الإسلام، وكذلك المصارف البعيدة عن التعامل بالربا موجودة أيضًا، فعلى كل مسلم أن يتقي الله ويخاف من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ولا يتعامل بالربا ولا يساعد عليه وينصح من كان واقعًا فيه، وعليه أنْ يَسْحَبَ أموالَهُ من مصارف الربا ومؤسساته ومن المرابين لأنهم قد يكونون أفرادًا يتعاملون بالربا، ولا عذر لأيِّ شخصٍ في هذا البلد في إيداع الأموال لدى المرابين أيًا كانوا، ولا يَغْتَرّ المسلم بكثرة الهالكين والواقعين في ذلك، فإنهم ليسوا قدوة صالحة في فعلهم ذلك كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة: 2]. أما إن كان في بلدٍ غيرِ آمِنٍ فإن وضع المال لدى المرابين يكون من باب الضرورة فقط والخوف على ضياعه، ومتى وَجَدَ المسلم طريقًا غير ذلك فإنه لا عذر له في الإيداع لديهم؛ لأنه بذلك يدعمهم بالمال ويعينهم على الربا وأكل أموال الناس بالباطل.
فاتقوا الله عباد الله، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5691)
المصارف الربوية والمساهمة فيها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
18/8/1412
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة تحريم الربا. 2- تهاون الناس في جمعهم المال من الحلال والحرام. 3- الإيداع في البنوك الربوية. 4- صور من التحايل في الربا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيكثر القيل والقال في كثير من مسائل الدين حين تعرض بصورة قد تماثل الدعاية للشر أو أقل مما يُبْرِزُ الخيرَ وينبِّه الناسَ ويحذرهم من التعامل بما يخالف شرع الله سبحانه وتعالى، ولكن النفوس المريضة والتي لم يباشِرْها الإيمانُ ويستقر في سويداء قلوبها تصطاد في الماء العكر وتحسن السباحة فيه، وهذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان من عهد رسول الله إلى أن تقوم الساعة؛ لأنهم داء عضال ينخر في جسم الأمة المسلمة بإثارةِ الشبهات وتَزْيِيفِ القول وإعطاءِ الأمور هَالَةً إعلاميةً وإثارةِ القلاقل والفتن في المجتمع والتربص بالمؤمنين للإيقاع بهم، ذلك دَيْدَنُهُمْ وهذا شأنهم في الحياة، وهذا معلوم لدى العلماء وطلبة العلم، ولكن عامة الناس الذين يُثَارُ في أوساطهم ما يخالف تعاليم الإسلام تنطلي عليهم أَلاعِيبُهُمْ ومَعْسُولُ قَوْلِهِمْ، مع علم الجميع بحديث رسول الله والمجمل لأحكام الحلال والحرام ووجود المشتبهات بين ذلك والتي لا يعلمها كثير من الناس، وأن الذي يتقي الشبهات فإنما يَسْتَبْرِئُ لدينه وعرضه بابتعاده عن الوقوع في الأمور المشتبهة فضلاً عن الوقوع في الأمور المحرمة، قال رسول الله : ((إن الحلالَ بيِّنٌ وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد اسْتَبْرَأَ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة.
إن مما يؤسف له في مجتمعات المسلمين اليوم هو تحكيم عقولهم واتباع رغباتهم وشهوات أنفسهم في كثير من أمور دينهم دون مُسْتَنَدٍ من كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ أو قياسٍ، بل هو الهوى وتحكيم العقل بعلم وبغير علم، فعندما تُثار قضيةٌ أو يعرض أي أمر من أمور الشرع سواء كان الشخص خاليًا بنفسه أو في مجتمع صغر ذلك المجتمع أو كبر نجد تناول ذلك الموضوع بعيدًا عن أدلة الكتاب والسنة والوقوف عندها، نجد تحكيم العقل والواقع والمنطق والهوى، وَيَا لَهُ مِنْ بُعْدٍ عن الحق وقُرْبٍ من الباطل.
ومن تلك الأمور التي تثار بين الناس أمورٌ واضحةُ التحريمِ بِنَصِّ الكتاب والسنة، مع أنه إذا وُجِدَ النَّصُّ من الكتاب أو السنة فلا اجتهاد مع النص، ومنها ما هو داخل في الأمور المشتبهة على كثير منهم، وتثار إما بقصدٍ حسنٍ لمعرفة الحكم الشرعي أو بسوءِ قصدٍ لأمور متعددة عند أصحاب المقاصد السيئة هم أول الناس علمًا بمقاصدهم السيئة.
ومن تلك الأمور السؤال عن الربا، والربا معلوم تحريمه في دين الإسلام بنص القرآن الكريم والسنة المطهرة، سواء كان المتعامل به فردًا أو جماعة أو مؤسسة أو هيئة أو اتخذ أي شكل من الأشكال وصيغة من الصيغ، فالتعامل بالربا حرام في الإسلام، وهو من كبائر الذنوب التي تسبب محق البركة وغضب الله عز وجل وعدم قبول العمل والدعاء، وليس التحريم من عالم من العلماء أو شخص من المسلمين، وليس لهم ذلك ولا غيره، وإنما حرمه الله عز وجل ورسوله محمد الذي لا ينطق عن الهوى، قال الله عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة: 275، 276]. ثم أعقبها سبحانه بآيات واضحة لمن كان له أدنى بصيرةٍ أو خوفٍ منه عز وجل، فبعد أن ذكر تحريم الربا في الآية السابقة بِإيَرادِ نصٍّ قَطْعِيِّ الدلالة لا غبار عليه ويعرفه العالم والجاهل وهو قوله عز وجل: وَحَرَّم الرِّبَا أعقب ذلك في آية أخرى بمناداة المؤمنين ومخاطبتهم بأحب الأسماء إليهم ليسترعي انتباههم وليترفعوا عن المحرمات ويتقوا الله ويحذروا أليم عقابه؛ بأن يبتعدوا عن الربا إذا كان لديهم إيمان، وإذا لم يفعلوا فهم محاربون لله ورسوله مُحَادُّونَ مُبْغِضُونَ لتعاليم الكتاب والسنة، وما أعظم جريمة من يحارب الله ورسوله، فالخزي والعذاب والنكال هو جزاؤه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: يا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279].
هذه بعض الأدلة من القرآن الكريم، أما السنة الصحيحة عن رسول الله فمنها قوله : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وشهادة الزور)) ، وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: ((هم سواء)).
فهذه بعض الأدلة التي تبين تحريم الربا على الفرد والمجتمع، وأَنَّ من تعامل به وتعاطاه فهو مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب ومحارب لله ورسوله، ومهما كثر الْمُرَوِّجُونَ للربا والمتعاملون به فلا يخرجه عن دائرة التحريم قيد شعرة، ولا يغتر المسلم بكثرة الهالكين والواقعين فيه والداعين إليه وإلى غيره من المحرمات، قال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ?لأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنعام: 116]، وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ ?لنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103].
ولقد أصبح هَمّ كثير من الناس جمع المال من أي طريق سواء كان حلالاً أو حرامًا، وهذا تصديق لحديث الرسول الذي قال فيه: ((لَيَأْتِيَنَّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أَمِنْ حلالٍ أم من حرام)) رواه البخاري والنسائي، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((يأتي على الناس زمان لا يبقى بيت إلا ويدخله الربا، وإن لم يدخله نالهم من غباره)).
وهذا الواقع المؤلم في مجتمعات المسلمين مُؤْذِنٌ بحلول غضب الله ونقمته التي سوف تَعُمُّ الصالحَ والطالحَ حيث قال سبحانه وتعالى محذرًا ومنذرًا من شؤم المعاصي والذنوب: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال25]. فَهَمُّ كَثِيرٍ من الناس اليوم هو جمع المال واستغلال حاجة بعضهم بعضًا لِنَهْبِ ما في أيديهم وإِثْقَالِهِمْ وتَحْمِيلِهِمْ الدّيُون بالْحِيَلِ الْمُوقِعَةِ في المعاملات الربوية والاحتيال على شرع الله ومشابهة اليهود الذين يرتكبون المحرمات بأدنى الحيل، وقد أصبح هذا الشَّبَهُ والْخُلُقُ اليهوديُّ في مجتمعات المسلمين بما يُرَوِّجُهُ شياطينُ الإنس والجن منْ تَزْيِينِ المكاسب المحرمة وتلبيسها لباس الحلال باسم البيع، حيث دخلت المعاملات الربوية تأخذ أشكال الحلال في الظاهر ولكن القصد منها هو الوقوع في الربا والتعامل به ولكن بطرق ملتوية ظاهرُها الحِلُّ وباطنُها الْحُرْمَةُ؛ ظَانِّينَ بأن ذلك يخفى على رب العزَّة والجلال إذا هو خفي على البشر. فما أقل الورع في هذه الأيام، وما أكثر الوقوع في المحرمات وفي الشبهات التي أخبر الرسول بأن من وقع فيها فسوف يقع في الحرام لا محالة بقوله عليه الصلاة والسلام قبل نهاية الحديث السابق ذكره: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الوقوع في الربا والتعامل به والمساهمة والمساعدة والمعاونة عليه بالإيداع لغير ضرورة أو غيرها في المصارف الربوية المسماة بالبنوك باللغة الإنجليزية، أو لدى المرابين أفرادًا أو جماعات أو مؤسسات وشركات؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان ومحاربة لله ورسوله، وتوبوا إلى الله عز وجل كما أمر الله تبارك وتعالى حيث قال عز وجل في التوبة من الربا بعد التحذير منه: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 279]، وكما قال ذلك بعد ذكر تحريم الربا: فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَ?نتَهَى? فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ?للَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة: 275]، وقال تعالى آمرًا عباده المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى وناهيًا ومحذرًا لهم من التعاون على أي إثم وعدوان: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فَلَقَدِ اسْتَمْرَأَ بعضُ المسلمين الكسبَ الحرامَ وانتشر انتشارًا يُؤْذِنُ بالعقوبة إن لم يؤخذ على أيدي مرتكبيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأَطْرِ أصحابه على الحق أَطْرًا؛ لأن سفينة نجاة المجتمع الْمَاخِرَةَ في هذه الحياة الدنيا لا تَنْجُو من الْغَرَقِ إلا بالقيام بهذا الركن العظيم الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا، وحينما يأخذ المنكر والأمر المحرم صبغة الحلال في نظر الناس واعتقادهم حينئذٍ يجب البيان والتوضيح إجمالاً وتفصيلاً على حسب الحالة دون إخلال بقواعد الشرع المطهر.
وعليه يجب التنبيه إلى أمر انتشر وليس على مستوى المؤسسات الربوية لكن على مستوى الأفراد حيث يتم التعامل بالربا الذي هو المقصود من تلك المعاملة ولكن باسم البيع في الظاهر، فأصحاب المؤسسات أو الأفراد يبيعون ما لا يملكون وإنما هي الأوراق التي يتم التوقيع عليها من الطرفين، وكذلك الطرف الثالث المالك والبائع الحقيقي، حيث يأتي صاحب الحاجة إلى المؤسسة أو الفرد المرابي حقيقة، وفي الظاهرِ تعاملُه إسلاميٌّ شرعيٌّ لا غبارَ عليه، يأتي يريد منه أرضًا أو عقارًا أو سيارة أو أثاثًا أو أدوات أيًا كانت وهو لا يملكها، ويتم البيع والشراء بمكالمة هاتفية أو اتفاقات مسبقة لطريقة الدفع من الطرف الثاني للطرف الثالث الذي يملك دون أن يمتلك الثاني تلك السلعة أو يحوزها لملكيته أو يعلم عن حالتها شيئًا، ولو حازها وملكها على الأوراق فلا يخرجها ذلك عن الوقوع في الربا المحرم شرعًا والذي يستغل به المسلمُ حاجةَ أخيه المسلم لينهب ما في يديه ويثقل كاهله بالديون ويأكل ماله حرامًا وسحتًا، مع أن أطول آية في القرآن هي آية الدين مُعَطَّلٌ العملُ بها بين المسلمين اليوم، والتي جاءت بعد ذكر الآيات الْمُحَرِّمَةِ للربا والناهية والزاجرة والمتوعدة لمن يتعامل بالربا بالعذاب الأليم، والتي أمر عز وجل في نهايتها باتقاء يوم يرجع فيه العبادُ إلى الله ويَقِفُونَ بين يديه، ثم أعقبها بأطول آية تَبُثُّ الرحمةَ والأُلْفَةَ والتعاملَ الكريمَ بين المسلمين الطالبين للأجر متى عملوا بهذه الآية كتابةً وشهادةً وأداءً وطلبًا للأجر الموعود به على لسان رسول الله لِمَنْ يُقْرِضُ أخاه المسلم ويمهله بضعفين من الأجر إلى ثمانية عشر ضعفًا، وجعل القرض من حق المسلم على المسلم حين قال عندما عَدَّدَ الحقوقَ: ((وإذا استقرضك أقرضته)). إنه لما غاب عن واقع المسلمين تطبيقُ الآيات والأحاديث في كثير من معاملاتهم صار هَمّ أكثرهم نَهْب ما في أيدي إخوانهم المسلمين بالحرام الصريح وبالمشتبه وبالتحايل، سواء بالربا أو بأكل المال حرامًا عُنْوَةً واقتطاعه منهم ظلمًا أو الرشوة أو الغش المنتشر في البيع والشراء الذي لا تكاد تخلو منه سلعة أو التحايل على الربا باسم البيع وغيرها من المعاملات البعيدة عن روح الإسلام وسماحته وأخلاق أهله العاملين به نصًا وروحًا والمطبقين له في كل صغيرة وكبيرة.
وعلينا أن نبتعد عن طرق اليهود في العمل بالحيل التي لا تُحِلُّ الحرامَ أبدًا، والتي انتشرت بين المسلمين في معاملاتهم واتخذت أشكالاً وصورًا متعددة، وهي محرمة شرعًا مهما تحايل أصحابُها المتعاملون بها، قال رسول الله فيما رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى: ((قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها)) ، وفي رواية للجماعة: قال رسول الله : ((قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه)) أي: لما حرمت عليهم شحوم البقر والغنم التي حول المعدة والكليتين احتالوا على التحريم بِجَمْلِهَا على النار في الْقُدُور وبَيْعِهَا وأَكْلِ ثَمْنِهَا. كذلك الحال في احتيالهم على صيد السمك يوم السبت عندما اختبرهم الله وامتحنهم بذلك، فاحتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوه من الأسباب الظاهرة التي هي في الباطن تعاطي الحرام، قال رسول الله : ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)).
وهذه الحيل تنطبق على أعداد ليست بالقليلة من المسلمين في التحايل على المعاملات الربوية التي ظاهرها البيع ولكن حقيقتها هو استحلال الربا بتلك الطرق الملتوية، والتي أخذت أشكالاً وصورًا مختلفة هدفها صيد الفريسة وإيقاعه في شباك الحيل، أي: صاحب الحاجة الذي أتى للشركات أو المعارض أو المصارف أو الأفراد والذي يريد الحصول على نقود يحتاجها في زواج أو خلافه، ثم يصطاده أولئك المتربصون به وبأمثاله من الملايين ولا أقول: العشرات أو المئات أو الألوف وعشراتها ومئاتها؛ لأن غالب الناس اليوم واقعون في تلك الديون المتراكمة عليهم منذ عشرات السنين بسبب حاجتهم الأولى لبعض النقود التي أدت نتيجتها وسلبياتها الحتمية إلى هذه المآزق التي قد لا يتخلص منها كثير من الناس في حياتهم وقبل موتهم، بل تبقى ذِمَمُهُمْ مَرْهُونَةً لتلك الديون التي لمْ ولنْ تَنْفَكَّ عنهم طوال حياتهم، وذاقوا مرارة الحياة من استغلال أصحاب الأموال من الأغنياء لحاجات الفقراء والضعفاء وعامة الناس، ومن خلال استدراج المصارف المسماة بالبنوك الربوية وغيرها التي تستدرج الناس بما تنشره من دعايات لتوفير حاجاتهم وإصدار البطاقات التي يغترّ بها كثير منهم، ومِنْ ثَمَّ يَقَعُونَ في الربا خطوة خطوة، أو بالاتصال بهم هاتفيًا وإغرائهم بمعسول الكلام في تقديم القروض الميسرة على حَدِّ زعمهم، وهي في الحقيقة معاملات ربوية، وقد أصابَ الإفلاسُ بعضَ أصحاب مئات الملايين بعد تعاملهم بالربا مع تلك المصارف، فَاسْتِمْرَاءُ الناس للربا وانتشارُه وتسميةُ الأموال التي تأتي عن طريق التعامل به تسميتها بالفوائد والأرباح لا يغيِّر من الواقع شيئًا، ولا تحوِّل تلك الأسماءُ المسمياتِ من الحرام إلى الحلال أبدًا، فهي ربا صريح محرم في دين الإسلام، والأسماء الجديدة للربا هي: الفوائد والأرباح المركبة والبسيطة، وللخمور: القهوة والمشروبات الروحية، وللأغاني والموسيقى والطبول: الفنون والتسلية والترفيه، هذه التسميات لا تُخْرِجُهَا قَيْدَ أَنْمُلَةٍ عن الحرام إلى الحلال إلا بالرجوع والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، واختراعُ أسماء للمحرمات غير ما سميت به لا يخرجها عن مسمياتها، بل إن ذلك من علامات الساعة التي ورد عنها الخبر من سيد البشر محمد.
فليحذر كل مسلم التعامل بالربا والوقوع في حبائل المرابين وشباكهم التي يصطادون بها الناس حيث كثرت في هذه الأيام حِيَلُهُمْ وطُرُقُهُمْ الشيطانيةُ في البنوك والمصارف الربوية وغيرها، وأَخُصُّ أصحابَ معارض السيارات الذين استغلوا حاجات الناس، وقد تجلس السيارة في المعرض إلى أن تتلف عجلاتها وإطاراتها ويتغير لونها وتباع من صاحب الحاجة لأحد الوسطاء والسماسرة الذين يُسَمَّوْن بالشريطية ـ وهم الْمُحَلِّلُون للبيع ـ ثم تعاد لصاحب المعرض وهكذا وهي في مكانها، أو تخرج للحيلة فقط لأن القصد اصطياد أصحاب الحاجات وتسجيل الديون المضاعفة عليهم، والسيارات ما هي إلا حيل وخداع باسم البيع والشراء، ومثل ذلك في التجار الذين تتلف لديهم أكياس الحَب والسكر والبن والهيل والأرز، وطرق المعاملات الربوية كثيرة ليس هذا مجال بيانها، ولكن التنبيه والإشارة كافية.
هذا ما تم إيضاحه على سبيل الإجمال من أجل الذكرى التي ينتفع بها المؤمنون ولمن كان له قلبٌ واعٍ وَجِلٌ خائفٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلّ، قال تعالى: وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، وقال عز وجل: فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ ?لذّكْرَى? سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى? وَيَتَجَنَّبُهَا ?لأشْقَى ?لَّذِى يَصْلَى ?لنَّارَ ?لْكُبْرَى? [الأعلى: 9-12]، وقال تعالى: إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].
فعلينا أن نتقي الله تعالى ونخشى عذابه وبطشه في الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين يوم يتخلى عنا أقرب قريب لنا ولا يبقى إلا الحسنات والسيئات، وتأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى ما عملت في هذه الحياة الدنيا، ولنتذكر دائمًا أطول آية في القرآن الكريم والتي جاءت بعد آيات تحريم الربا والتحذير من عواقبه، فقد جاءت آيتان كريمتان بعدها مباشرة والتي فيهما الحلول الشافية الكافية الكفيلة بإذن الله بما يبعد الناس عن الربا والوقوع فيه، فلنتأمل هاتين الآيتين جَيِّدًا والآيات التي قبلها والتي بعدها إلى نهاية السورة، وكذلك الآيات السابقة لهذه كلها والتي تحث على الإنفاق، ولنربط بين كل الآيات ابتداءً من الآية التي قبل آية الكرسي، ونتأمل ونتدبر كلام ربنا ونعمل به ونطبقه في حياتنا، فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. وحول الآيتين اللتين فيهما الحلول وما يتعلق بهما وحَوْلَ الدَّيْنِ أيضًا تكون خطبتان قادمتان إن شاء الله تعالى.
(1/5692)
الدَّين (1)
فقه
الديون والقروض
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
18/10/1416
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كتابة الدين والإشهاد عليه. 2- الرهن. 3- الترغيب في إقراض المسلمين ونفعهم. 4- التجاوز عن المعسر وإنظاره. 5- وفاة المديون قبل سداد الدين. 6- قصة عظيمة في وفاء الدين. 7- همّ الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فمن نعم الله تعالى على خلقه جميعًا أن جعل لهم الدراهم والدنانير في كل زمان ومكان، والتي بها قوام الحياة المعيشية في الدنيا مع أنها لا منفعة في أعيانها إلا ما كان من الذهب والفضة وفي استعمالات محدودة، ولكن الناس يضطرون إليها لحاجة كل واحد منهم إلى أعيان كثيرة لِلْقُنْيَةِ واللباس والأكل والشرب وغير ذلك مما هو معلوم للجميع، وكل واحد قد يعجز عما يحتاج إليه ويستغني عما لديه فلا يحصل له مبادلة عين بعين إلا بِغَبْنٍ كبير، لذلك جعل الله الدراهم والدنانير على اختلاف أشكالها ومسمياتها حَاكِمَيْنِ وَسَطَيْنِ بين الأموال جميعِها حتى تقدر الأموال بهما، فالله خلقهما لتتداولهما الأيدي وتكونا أثمانًا للأموال وللتوصل بهما إلى سائر الأشياء لِعِزِّهِمَا وغلائهما، فمن ملكهما فقد ملك أَعَزَّ شيء في حياة الناس وتقديراتهم.
والناس في قديم الزمان وحديثه يتخبطون في تلك الأموال ويُشَرِّعُون لأنفسهم الأنظمةَ والقوانينَ ويستغلُّون حاجاتِ بعضهم بعضًا وظروفَهم وفقرَهم، وسارت مجتمعات المسلمين اليوم على هذا الْمِنْوَالِ، وسلكوا طرق الرأسمالية والانتهازية، ونهجوا نهجهم وتركوا كتاب الله وسنة نبيه وراءهم ظِهْرِيًّا، وتجاهلوا تشريعات الإسلام وتخلوا عن العمل به وتحكيمه في معاملاتهم، حتى آلَ بهم الأمر إلى أوضاعهم الراهنة، ولنْ يُرفعَ عنهم ما هم فيه إلاَّ بمراجعة أنفسهم والرجوع إلى الكتاب والسنة قولاً وعملاً وعقيدةً وتطبيقًا صادقًا لما جاء فيهما من أحكام وحكم وتشريعات، وما لم يلتزموا العمل بهما فإن أوضاعهم إلى الخسران والضلال في الدنيا والآخرة، ولن تقوم لهم قائمة ما لم يستمدّوا أنظمتهم ومعاملاتهم وكلّ حياتهم المعيشية من تعاليم الإسلام، وسوف يبقون في مؤخرة الأمم وذَيْلِهَا ما لم يعتزوا بإسلامهم ويطبقوه جملة واحدة ويبتعدوا عن أسباب الضعف والخذلان والهوان.
وإن المتتبع لآيات القرآن الكريم والمتدبر لما يتلوه من الآيات العظيمة ليجد الْعَجَبَ من غفلة المسلمين عن الحكمة من نزول القرآن الكريم حيث اكتفوا بتلاوة آية أو آيتين في المناسبات في بعض الدول المتسمية بالإسلامية أو في الصلوات الجهرية ومنها التراويح في رمضان ليتغنَّوْا بالقرآن ويُقَدِّمُوا من كان صوته حسنًا لِيُطْرِبَهُمْ به دون تدبّرٍ وتأملٍ لآياته وعملٍٍ به وتحكيمٍٍ له وإيمانٍ بمحكمه ومتشابهه، نَسُوا قولَ الله عز وجل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]. كان الصحابة رضي الله عنهم لا يتجاوزون ولا يَتَعَدَّوْنَ عشر آيات من القرآن الكريم حتى يتعلموا ما فيهما من العلم ويعملوا بهنَّ، فتعلموا العلم والعمل جميعًا، لقد مكث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عشر سنين في سورة البقرة ليعلم ويتعلم ما فيها من أحكام وحكم وتشريعات؛ لأنها حَوَتْ أكثرَ ما يتعلق بحياة الناس في الدنيا والآخرة.
وأرجع إلى الكلام عما يتعلق بِصُلْبِ موضوع الخطبة وإن كان له بقية في خطبة أخرى بإذن الله عز وجل، فعلينا أن نتلو آيات القرآن بتدبرٍ ووعْيٍ ونرجع إلى تفسير أهل العلم الموثوقين المستدلين بأحاديث رسول الله.
ومن تلك الآيات ما ورد في آخر سورة البقرة ابتداءً بقول الله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]، ومرورًا بآية الربا، وانتهاءً بالدين والمداينة وختام السورة، وإن المتأمل ليقف عاجزًا ومَشْدُوهًا أمام النص القرآني والتشريع الإلهي حيث تتجلّى الدقة العجيبة في الصياغة والأسلوب حيث لا تُقَدَّمُ فقرة عن موضعها ولا تُؤَخَّرُ ولا يُبَدَّلُ لَفْظٌ بِلَفْظٍ إلا في مواضعَ لها دلالاتها التي يعجز كثير عن فهمها وإدراكها، ولا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة على جمال التعبير وطلاوته وحلاوته، ولا يتمّ الانتقال من نقطة إلى نقطة أخرى إلا بعد استيفاء التشريع المقصود واحتمالاته.
فعندما دعا الله عباده المؤمنين ورغبهم في الصدقات والإنفاق في سبيل الله عمومًا في أربع عشرة آية أعقبها سبحانه وتعالى بالآيات التي تحرّم الربا وذكر حال المرابين في الدنيا وما يجب عليهم الابتعاد عنه وإلا فالمصير المؤلم لهم في الآخرة ينتظرهم من العذاب الأليم، وأمرهم عندما يَتُوبُونَ بأن عليهم الاكتفاءَ بأخذ رؤوس أموالهم فقط، ورغبهم أيضًا في إِمْهَالِ الْمُعْسِرِ، وفوق ذلك الصدقة عليه فهو خير لهم لو أنهم يعلمون. ثم ذكر سبحانه وتعالى البديل عن هذا الاستغلال البشع لحاجات الناس وعَوَزِهِمْ وفقرهم وحاجتهم، ذكر البديل عن الانتهازية والأنانية الْمَقِيتَةِ وحبّ الذات وجمع المال من غير الوجوه المشروعة المباحة، ذكر ذلك في أطول آية في القرآن الكريم وهي آية الدين أو المداينة، الآية الْمُعَطَّلَة في مجتمعات المسلمين اليوم من حيث التطبيق العملي للدين المرغب فيه في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، الدين الذي يُبْتَغَى به وَجْهُ الله تعالى وما عنده من الأجر العظيم، أما التطبيق الحالي للمكاتبة والإشهاد على صنوف البيوع الربوية فهو مُقْتَبَسٌ من هذه الآية لضمان الديون المحرّمة عند أهل هذا العصر الذين يَدَّعُونَ التقدّمَ والوعي مع أنهم اقتبسوا كتابة العقود المالية من الإسلام ولم يستطيعوا أن يأتوا بجديد، بل تَبَجَّحَ بعضُهم بأنه اهتدى إلى فتح جديد في عالم الاقتصاد مع أن الله عز وجل قد ذكر أمورًا أَدَقَّ مما ذهبوا إليه، جاء ذلك في القرآن الكريم قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة.
إن البديل عن الربا هو الدين أو المداينة بين الناس عمومًا والمسلمين خصوصًا لما في ذلك من الأجر العظيم للدائن وتسهيل أمور أصحاب الحاجات وشيوع الرحمة في المجتمعات المسلمة، وقد ضمن الإسلام للجميع حقوقهم ورتب ونظم تنظيمًا محكمًا لضمان الحقوق المالية والشخصية، ورهّب من المماطلة وعدم أداء الحقوق والديون التي هي هَمٌّ بالليل مَذَلَّةٌ بالنهار على المدين؛ لأن الذي يموت وعليه دين مُعَلَّقٌ بِدَيْنِهِ حتى يُقْضَى عنه، ولو كان مجاهدًا في سبيل الله واسْتُشْهِدَ فإنّ الله يغفر له ذنوبه إلا الدَّيْنَ لما له من أهمية في واقع الناس وحياتهم المعيشية، لدرجة أنه لا تجب فريضة الحج على المسلم وعليه ديْن حتى يقضي دينه، فكان وفاء الناس وإعطاؤهم أموالهم أوجب على المسلم من أداء ركن من أركان الإسلام الخمسة، وبذلك وردت أحاديث عن رسول الله أذكرها بإذن الله تعالى في خطبة مستقلة لتكون أشمل وأكمل وأوسع وأجمل إيضاحًا وبيانًا، وليعلم الفرق الكبير والْبَوْنَ الشَّاسِع بين كلام النبوة وكلام عامة الناس، بين الإيجاز والإعجاز، وبين التعبيرات والتصورات العاجزة القاصرة عن إعطاء كل أمر حقه من البيان والتوضيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فإنّ ممّا يُؤْسَفُ له ويدْمِي قلبَ كلِّ مؤمنٍ غَيُورٍ على دينه حريصٍ على أمته ويؤذي مشاعرَه سَيْر المسلمين في رِكَابِ أعداء الله في معاملاتهم وتركهم لتعاليم الإسلام وابتعادهم عن منهج الله القويم وصراطه المستقيم، وإيجاد التبريرات والتعليلات والتحايل على النصوص الشرعية لاستحلال الأمور المحرمة، والوقوع في المحرمات الصريحة فضلاً عن المشتبهات المنهي عن الوقوع فيها. وما نراه ونشاهده ونسمعه ونقرأ عنه عبر الوسائل المختلفة من تحايل الذئاب البشرية في مجتمعات المسلمين لجمع الأموال بالطرق المحرمة الصريح تحريمها لهو أمر يؤسف حقًا؛ مثل الربا، أو المعاملات المعمول لها الطرق الملتوية لتحليلها أمام الناس في الظاهر مع حرمتها عند معرفة الهدف والقصد من ورائها، حتى أصبح هم الواحد جمع المال من طريق الحلال أو الحرام كما أخبر بذلك رسولنا محمد عندما ذكر علامات القيامة وقال: ((ليأتينَّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أَمِنْ حلالٍ أم من حرام)) رواه البخاري والنسائي وغيرهما.
ذئابُ البشر طَوَّقُوا رِقَابَ عباد الله بالديون المحرمة من الربا الصريح ومن طرق بني إسرائيل الذين احتالوا على ما حرم الله سواء في الحيتان يوم السبت أو عندما جملوا وأذابوا الشحوم وباعوها لما حرم الله عليهم أكلها، فأصبح التحايل في الأمة المحمدية في هذا الزمان بارتكاب المحرمات بأدنى الحيل حتى على مستوى الشركات والمؤسسات والأفراد أيضًا عندما يقال لمن يرغب الاستدانة منهم: اذهب واختر العقار أو المسكن أو الأرض التي تريدها أو الأثاث والفرش المناسب أو السيارة التي تريدها وأنا أشتريها وأبيعها لك بكذا على أقساط إلى أجل محدود وكفالة معلومة أو رهن العقار مثلاً أو السيارة ولا تنتقل ملكيتها له إلا بعد التسديد بالكامل، وبدلاً من أخذ المرابين في البنوك عشرة في المائة يأخذ أولئك الأشخاص ثلاثين في المائة أو أكثر، ويبيعون ما لا يملكون، ويحتالون على دِين الله باسم البيع والشراء باعتبار أنه لا غبار على هذا التعامل الربوي الشيطاني الذي يستغلون فيه حاجات إخوانهم المسلمين ويوقعونهم أسَارَى للديون طوال حياتهم باسم التسهيلات والأقساط المريحة التي وضعوها حول رقاب إخوانهم وأَسَرُوهُمْ وقيَّدُوهم بحبال الديون وذُلِّهَا، وأَغْرَوْهُمْ بمعسول كلامهم ودعاياتهم الكاذبة الزائفة المبرّرة لوصولهم إلى جمع الأموال الخبيثة بإبراز الإعلانات المغرية لامتلاك السيارات الفارهة وما أشبهها عندما تدفع فقط ريالاتٍ محدودةً كل يوم، وما علم المسكينُ الْمُغَرَّرُ به أنَّ الذئابَ البشريةَ الْمُقْتَنِصَةَ له ولأمثاله والتي تحسن إِحْكَامَ الطَّوْقِ على الرقاب ووضع الأغلال والآصار في الأيدي والأرجل قد حَسَبَتْ كُلَّ هَلَلَةٍ فضلاً عن القرش والريال وتعرف كيف تستخرجها من ذلك المسكين.
وبذلك أصبحت مجتمعات المسلمين مجتمعاتٍ مُتََوَحِّشَةً، يُحْسِنُ كلُّ فردٍ افْتِرَاسَ الآخرين بما أوتي وعاش وعاصر من مَادِّيِّينَ في هذه الحياة ليس لهم هَمٌّ إلاّ جمع ما في أيدي غيرهم. فهل نفيق من غفلتنا؟! وهل ينتبه النائمون الواقعون في شباك أولئك الصيادين الْمُطَوَّقُونَ بِقُيُودِ أولئك الوحوشِ الْمُفْتَرِسَةِ؟! هل مِنْ عَوْدَةٍ إلى تعاليم الإسلام وتطبيق لأحكامه؟! هل مِنْ إِيقَافٍ لأولئك السائرين في ركاب اليهود والنصارى عند حَدِّهِمْ؟! هل من نظرة ثاقبة واعية مُدْرِكَةٍ لأحوال الأمة ومُنْقِذَةٍ لها من عَثَرَاتِهَا؟! هل من غَيْرَةٍ لدين الله ومحارمه ونُطْقٍ بكلمات الحق وشعورٍ بالمسؤولية والأمانة؟! قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
إن الإجابة على تلك التساؤلات والأسئلة والحل الوحيد للانتهازية المادية المنتشرة بين الملايين من المسلمين تَكْمُنُ في تطبيقهم لِلْقَرْضِ الْحَسَنِ البعيدِ عن المعاملات الربوية الصريحة أو الملتوية التي ظاهرُها الْحِلُّ والرحمةُ والرأفةُ بأحوال الناس وباطِنُها الْغِشُّ والتدليس وسلب أموال الناس وأكلها بالباطل وارتكاب أدنى الحيل بما حرم الله، الْحَلُّ يكون في إِقْرَاضِ كلِّ مؤسسة وشركة وإدارة ومَحَالّ تجارية وغيرها لمن يعمل لديها وحسم المبلغ المناسب والمتوافق مع المرتب الشهري لأولئك العاملين المحتاجين وعدم إذلالهم مِنْ قِبَلِ أولئك المتربصين بالناس الهلاك، وفي ذلك ضَمَانُ الحقوقِ للطرفين، وعامة الناس المحتاجين يكون تعاملهم مع الأغنياء والمؤسسات المعنية لتنفيذ القرض الحسن وابتغاء الأجر من الله العزيز الحكيم الرحيم بعباده، الحل يكون مثل ما عملت الدولة للمواطنين في هذا البلد المبارك من خلال صناديق الإقراض العقارية والصناعية والزراعية وصندوق التسليف المتعدد الأغراض، حيث تقديم القرض لسنوات عدة تصل إلى خمس وعشرين سنة كما هي في العقاري مع تقديم معونة وحسم من المبلغ يصل إلى الثلث تقريبًا عند الوفاء بالتسديد مقدمًا أو الْخُمْسِ عند الالتزام بالتسديد السنوي، ولكننا نرى من كثير من المسلمين استغلال هذه الناحية واستخدام المماطلة وعدم التسديد مما حَرَمَ غيرَهم من هذه التسهيلات مع أنَّ ذِمَمَهُمْ لا تَبْرَأُ من هذا السلوك، ولو أن الدولةَ تُسْقِطُ باقيَ الدَّيْنِ عن الْمُتَوَفَّى انطلاقًا من الشريعة الإسلامية، ولكنَّ ذلك لا يُعْفِي المقترضَ الذي يستطيع الأداء، فالواجب عليه المبادرة بالتسديد في حينه ليكسب نسبة الحسم ويحوز على رضا رب العالمين والوفاء. وإلى الخطبة القادمة إن شاء الله والْمُكَمِّلَةِ لهذا الموضوع الْمُهِمِّ.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
(1/5693)
الدَّين (2)
فقه
الديون والقروض
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
25/10/1416
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على كتابة الدين والإشهاد عليه. 2- الرهن لضمان قضاء الدين. 3- التحذير من كتمان الشهادة. 4- فضل القرض الحسن. 5- موت المديون وترك النبي الصلاة عليه. 6- قصة بليغة في وفاء الدين. 7- الحث على حسن الأداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً بسابقه عن الدَّيْنِِ، وأَبْدَأُ بالمعنى الإجمالي للآيتين الكريمتين المتعلقتين بالدين دون التعرض والدخول في التفاصيل والأحكام ومعنى بعض الكلمات والألفاظ والعبارات؛ لأن الشروع في ذلك يحتاج إلى خطب متعددة، ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب التفسير المعتبرة.
لما حَثَّ الله تعالى على الصدقات وحرم الربا ودعا إلى العفو عن المعسر والتصدق عليه بِإِسْقَاطِ الدين عنه قد يتبادر إلى الذهن أن المال لا شَأْنَ له ولا قِيمَةَ له في الحياة، فجاءت هذه الآية الكريمة والتي تليها آيَتَا الدين لإعطاء المال حقه والرفع من شأنه؛ لأنه قوام الحياة المعيشية للبشر، حيث جاء الإرشاد الإلهي العظيم من الله الكريم لعباده لبيان حفظ أموالهم وضبطها بالكتابة أو الاسْتِيثَاقِ بالرَّهْنِ، وذلك بكتابة الديون والإشهاد عليها بمن تُرْضَى عَدَالَتُهُمْ، منْ قِبَلِ شَاهِدَيْنِ رجليْن مسلميْن حُرَّيْنِ، فإن انعدمَ رجلٌ من الاثنين قامت امرأتان مقام الرجل الواحد؛ لكيلا تَغْلِبَ عاطفةُ الواحدةِ عليها فَتَكْتُمَ الحق والشهادة، فَوُجِدَتِ الأخرى لئلا تَضِلَّ إحداهما عن قول الحق، كما حث الله سبحانه وتعالى من يحسن الكتابة أن يكتب كما علمه الله إذا كان في سعة وفسحة من أمره، كما حرم على الشهود إذا ما دُعُوا للإدْلاَءِ بالشهادة أن يَتَخَلَّوْا عنها، وحذر من عدم كتابة الديون ولو كانت صغيرة قليلة، كما قرر ذلك كثير من أهل العلم أَخْذًا من النص القرآني، ومن ترك بابًا من أبواب الشرع أَلْجَأَهُ اللهُ وأَحْوَجَهُ إليه، خاصةً مع التهاون وعدم المبالاة، قال تعالى: وَلاَ تَسْئَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ [البقرة: 282]، ورخص تعالى رحمةً منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يتمُّ التَّقَابُضُ والدَّفْعُ فيها في المجلس للسلعة والثمن، فقال تعالى: إِلا أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا [البقرة: 282]. كما نَدَبَ عزَّ وجلَّ إلى الإشهاد على البيع حسب ورود السنة بذلك، ونهى عن الإضرار بالكاتب أو الشاهد بعدم إلزام الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله هو أو الشاهد أيضًا ابتداء للكتابة أو الشهادة أو دعوة أحدهما إلى مسافات بعيدة تشق عليهما، بل يتم الاسْتِخْلافُ في الشهادة وأدائها لدى قاضي البلدة التي يقيم فيها كل واحد، كما أنه حذر سبحانه من كتمان الشهادة، ففي الكتمان إثم عظيم، كما حذر من الْحَيْفِ والْجَوْرِ في الكتابة والإضرار بالكاتب والشهيد. ولننظر إلى ختام الآية الأولى في الدين حيث قال الله عز وجل: وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة: 282] أي: الْمُضَارَّة بالكاتب والشهيد مما هو متعلق بالدين وبغيره، فهو خروج عن طاعة الله إلى معصيته، وهو من موجبات الفسق والخروج عن الإيمان، وأَكَّدَ ذلك سبحانه بأمره بتقواه بامتثال أمره ونهيه ليسعد المؤمنون، وكما علمهم الله هذا العلم النافع فما يزال يعلمهم سبحانه ويُنَوِّرُ بصائرهم ما داموا متمسكين بشرعه مراقبين لعظمته وإحاطته بكل شيء، وهو سبحانه يعلمهم ما فيه قيام جميع مصالحهم في حياتهم، وهو المحيط علمه بذلك، ولسعة إحاطته بكل شيء شرع ما يجلب لهم المصالح ويدفع المفاسد عنهم ويبعدها، فهو بكل شيء عليم، قال عز وجل: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ [البقرة: 282].
ولما أمر الله تعالى بالإشهاد والكتابة في البيوع والقروض والسَّلَمِ في الآية الأولى أمر في الآية الثانية عند تعذر الكتابة لعدم وجود كاتب أو أدوات كتابة ـ وذلك في السفر ـ أمر بالاستعاضة عن الكتابة بالرهن بأنْ يَضَعَ الْمَدِينُ رَهْنًا لدى دَائِنِهِ عِوَضًا عن الكتابة؛ لكي يَسْتَوْثِقَ به دَيْنَهُ، هذا في حال الخوف منه وعدم ائتمانه، وأما إِنْ أَمِنَ بعضُهم بعضًا فلا بأس بعدم الارْتِهَانِ، والرِّهَانُ جَمْعُ رَهْنٍ، والرهن ليس مقصورًا على السفر بل هو مشروع في الحضر والسفر، قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ عَلَى? سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـ?نٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283].
ونَهَى عز وجل نَهْيًا جازمًا الشهودَ عن كتمان الشهادة سواء في هذا الأمر أو في غيره، فالحكم عام لأي شهادة، وكما هو معلوم بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما بين تعالى عظم الذنب في كتمان الشهادة أو شهادة الزور أيضًا والقائلين به كما هو في آيات أخرى وأحاديث نبوية، وهو العليم سبحانه بكل ما يعمله جميع الخلق في السماوات والأرض وما بينهما وما دون ذلك، أحاط بكل شيء علمًا سبحانه وتعالى، قال عز وجل: وَلاَ تَكْتُمُواْ ?لشَّهَـ?دَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: 283]، وفي آية أخرى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَـ?دَةً عِندَهُ مِنَ ?للَّهِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140]، وفي آية أخرى: وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـ?دَةَ ?للَّهِ إِنَّا إِذًَا لَّمِنَ ?لآثِمِينَ [المائدة: 106].
وأَذْكُرُ بعضَ الأحاديث في الديْنِ والقَرْضِ الْحَسَنِ وما جاء فيها وورد عن رسول الله ، فمما ورد في الترغيب في القرض الحسن والتيسير على المعسر وإِنْظَارِهِ وإِمْهَالِهِ والوضع عنه ما يلي، منها قول الرسول : ((مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أو وَرِقٍ أو هَدَى زُقَاقًا كان له مثل عتق رقبة)) رواه أحمد وابن حبان والترمذي واللفظ له وقال: "حديث حسن صحيح"، ومعنى منيحة الْوَرِقِ أي: قرض الدراهم من الفضة وغيرها، وهدى زقاقًا يعني: الدلالة والهداية للطريق وإرشاد السبيل. وقال رسول الله : ((كل قرض صدقة)) رواه الطبراني بإسناد حسن والبيهقي، وقال : ((ما من مسلم يقرض قرضًا مرة إلا كان كصدقتها مرتين)) رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) رواه مسلم وابن حبان في صحيحه والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة رحمهم الله، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريمًا له فَتَوَارَى عنه ثم وجده، فقال: إني معسر، قال: آلله، قال: آلله، قال: فإني سمعت رسول الله يقول: ((مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنَجِّيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يوم القيامة فَلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِرٍ أوْ يَضَعْ عَنْهُ)) رواه مسلم والطبراني وغيرهما، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تَلَقَّتِ الملائكةُ رُوحَ رجلٍ مِمَّنْ كان قبلكم، فقالوا: عَمِلْتَ من الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تَذَكَّر، قال: كنتُ أُدَايِنُ الناسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ ويَتَجَوَّزُوا عنِ الْمُعْسِرِ، قال الله: تجاوزوا عنه)) ، وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم رحمها الله تعالى عن حذيفة أيضًا أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن رجلاً ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، قال: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: اُنْظُرْ، قال: ما أعلم شيئًا غير أني كنت أبايع الناس فَأُنْظِرُ الموسر وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة)) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة رحمهم الله تعالى، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((حُوسِبَ رجلٌ ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرًا، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال الله تعالى: نحن أحق بذلك، تجاوزوا عنه)) رواه مسلم والترمذي، وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أنظر معسرًا فله كلَّ يوم مِثْلَهُ صدقة)) ، ثم سمعته يقول: ((من أنظر معسرًا فله كل يوم مِثْلَيْهِ صدقة)) ، فقلت يا رسول الله: سمعتك تقول: ((من أنظر معسرًا فله كل يوم مثله صدقة)) ، ثم سمعتك تقول: ((من أنظر معسرًا فله كلّ يوم مثليه صدقة)) ، قال له: ((كل يوم مثله صدقة قبل أنْ يِحِلَّ الدَّيْنُ، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة)) رواه الحاكم وأحمد وابن ماجة، وقال : ((من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وفي حديث آخر: ((من أنظر معسرًا أو وضع له وقاه الله من فَيْحِ جهنم)) رواه أحمد بإسناد جيد وابن أبي الدنيا، وفَيْحُ جهنم: لَهَبُهَا وحَرُّهَا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد ورد في الترهيب من الدين وترغيب الْمُسْتَدِينِ في الوفاء والمبادرة إلى قضاء الدّين عن الحي والميت ما جاء عن رسول الله في أحاديث كثيرة، منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته، ليس ثَمَّ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ)) رواه ابن ماجة، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((الدّيْن دَيْنَانِ، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وَلِيُّهُ، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذٍ دينار ولا درهم)) رواه الطبراني، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((نفَس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقْضَى عنه)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وروي عن أنس رضي الله عنه أن النبي أُتي بجنازة ليصلي عليها قال: ((هل عليه دين؟)) قالوا: نعم، فقال النبي : ((إنّ جبريل نهاني أن أصلّي على من عليه دين، فقال: إن صاحب الدين مرتهن في قبره حتى يقضى عنه دينه)) ، وفي الرواية الأخرى: ((فما ينفعكم أن أصلي على رجل روحه مرتهن في قبره لا تصعد روحه إلى السماء، فلو ضمن رجل دينه قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه)) رواه أبو يعلى والطبراني. وقيل بأنه كان لا يصلي على المدين، ثم نُسِخَ ذلك لما رواه مسلم وغيره رحمهم الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه قضاء؟ فإنْ حُدِّثَ أنه تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عليه، وإلا قال: ((صَلُّوا على صاحبكم)) ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فَعَلَيَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)) ، وفي رواية: ((فهو لورثته)) رواه مسلم. ولا يظن الذين يأخذون أموال الناس ويأكلونها بالباطل ويتلفونها بعدم أدائها أن الرسول سوف يقضي عنهم، فذلك خاص بزمنه وحياته من المؤمنين كما قال ذلك بعض العلماء. وقال : ((مَطْلُ الغني ظلم، وإذا أُتْبِعَ أحدُكم على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)) أُتْبِعَ أي: أُحِيلَ، ومطل الغني أي: مماطلته وعدم سداده لحقوق الناس وتأخيرها عن وقتها هو من الظلم.
ولنستمع إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله معلقًا به بصحته عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله : ((ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يركبه ويقدم عليه للأجل الذي أجّله فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ـ أي: طَلَى نقر الخشبة وسَوَّدَهُ بما يمنع سقوط شيء منه ـ ثم أتى بها البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلَّفت فلانًا ألف دينار فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: هل كنت بعثت إليّ بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: إن الله قد أدّى عنك الذي بعثته في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشدًا)) رواه البخاري معلقًا مجزومًا به والنسائي وغيره مسندًا.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) رواه مسلم، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتِلْتُ في سبيل الله تُكَفَّرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر)) ، ثم قال رسول الله : ((كيف قلت؟)) قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبرائيل قال لي ذلك)) رواه مسلم وغيره، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة جالسًا فيه، فقال: ((يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت صلاة؟)) قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟)) فقال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) ، قال: فقلت ذلك فأذهب الله عز وجل هَمِّي وقضى عني ديني. رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً تقاضى ـ أي: طلب القضاء لدينه ـ رسول الله فأغلظ له، فَهَمَّ به الصحابة، فقال: ((دَعُوهُ فإنَّ لصاحب الحق مقالاً، واشْتَرُوا له بعيرًا فَأَعْطُوه إِيَّاهُ)) ، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سِنِّهِ، قال: ((اشتروه فأعطوه إيّاه؛ فإن خياركم أحسنكم قضاءً)).
والدينُ مُقَدَّمٌ في القضاء بَعْدَ الْوَصِيَّةِ على قسمة الميراث إن كان هناك وصية للميت، وإن لم تكن وصية فإن الدين أول ما يتم سداده من الحقوق، فلا يأخذ الورثةُ حقَّهم إلا بعد الوصية وقضاء الدين الذي على الميت، كما قال تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12]. والأحاديث كثيرة وإنما أشرت إلى شيء منها ليعرف المسلم ما يفيده في هذا المجال، وليكون على بصيرة من أمره مع جشع الناس وطمعهم واستغلالهم لإخوانهم المسلمين والتحايل عليهم بالطرق الربوية لإنهاكهم في الديون التي كثرت في هذا الزمان بسبب إغراءات ودعايات المرابين، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات أو شركات مختلفة، وكذلك عدم تسديد بعض الناس لحقوق غيرهم وتهاونهم بأمر الدين واستخفافهم به وبعدم المبالاة بالقضاء أوْ حُسْن الطلب وحسن القضاء وعدم معرفتهم بأحكامه أخذًا وأداءً وقضاءً وتحاكمًا ولأمور أخرى تَمَّ بيانُها في الجمعة السابقة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5694)
شباب الأمة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
أحمد بن إبراهيم الغامدي
الرياض
مسجد أويس القرني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الشباب. 2- مظاهر سيئة لدى الشباب. 3- آفة التقليد الأعمى للغرب. 4- دعوة للعودة إلى الله تعالى. 5- أهمية مرحلة الشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصيته للأولين والآخرين، فإن من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده.
تكلمنا في الخطبة الماضية عن نسائنا وبناتنا وضياع الغيرة عند كثير من المسلمين إلا من رحم الله، حتى صارت المرأة تجول وتصول في كل مكان وشأنٍ كأنها الرجل، وصار الرجل كأنه المرأة، لا تأخذه غيرة على عرض، فهو لا ينكر منكرا ولا يأمر بمعروف، فضيع نفسه وضيع أهله، فيا لها والله من حسرة!
واليوم نتكلم عن شباب اليوم شباب الأمة، فأيّ شباب هم؟ كيف حالهم؟ هل هو حال المقبلين على الله المستقيمين على الطريق القويم، الذي يُطمئِن الأمّةَ على أن مستقبلها يسير على خير وإلى خير، أم هو حال الشباب المعرض عن تقوى الله، المنصرف إلى غياهب الضلال واللهو والعبث، والذي يُشعِر الأمة بأن مستقبلها في خطر؟ الشباب في ذلك على قسمين:
1- قسم هم أهل الصدق والاستقامة والصلاح، نظر الله إلى قلوبهم فرأى ما فيها من التقوى وحسن القصد، فكانوا أهلاً لهدايته وتوفيقه، نسأل الله لهم الثبات.
2- وقسم آخر قد تركوا طريق الخير والسعادة الذي يهدي إلى النور ويفضي إلى الضياء، وسلكوا طريق الشر، خُدِعوا بمظهره اللامع البراق الذي منتهاه إلى الظلام والويل والهلاك، نسأل الله لهم الصلاح والهداية، وهم حديثنا في هذه الجمعة.
أيها الشباب، هل سأل كل منكم نفسه يومًا: ما هدفي في الحياة، أم تريد أن تكون ضائعًا تائهًا في دروب الحياة؟! فلا أنت في شغل من الدنيا فتحمد، ولا أنت في عمل من الآخرة فتغبط.
أيها المسلمون، إن الحسرة كل الحسرة عندما نرى شباب الأمة وعماد المستقبل قد هجر كثيرٌ منهم المساجد، فأصبحت الصلاة في واقع بعضهم أمرًا محزنًا وحالاً مؤسفًا، تتلفّت بين الصفوف فينقلب إليك بصرك خاسئًا وهو حسير، متسائلاً: أين الشباب الذين يملؤون المدارس والمعاهد والجامعات؟! فتجد البعض منهم قد ضيّع الصلاة وترك قراءة القرآن، استنكف واستكبر عن عبادة ربه وخالقه ومدبّر أمره الذي وهبه الشبابَ وأنعم عليه بالصحة وأمدّه بالعافية، كأنه لا يعلم قول ربه جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وِالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، ما وعى قوله : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ! ما علم أنه لا قيمةَ لحياته ولا معنى لشبابه ولا بركة في عمره بدون طاعة الله، فما أعظمها من حسرة وندامة تكون منه يوم القيامة عندما يلقى في النار فيكون له العذاب والهوان.
وتجد آخرين يعكفون في البيوت ويقيمون الصلاة مع النساء فكأنهم من جملتهم، فقد سمعوا النداء ولكنهم صمّوا الآذان، فما كانوا من الرجال كما جاء في محكم الكتاب: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور: 36، 37]، وما علموا أن مصيرهم إلى التراب، وموعدهم يوم الجزاء والحساب.
ويزيد الألم والحسرة عندما ترى كثيرا من شباب الأمة وقد ذابت شخصية بعضهم في تقليد أعمى وانسياق بهيمي، فتعجب من أمر ذاك الشاب كرمه الله بالإسلام وأعزه بهدي سيد الأنام، ثم يقلد الغرب في خنوثته وانحلاله وميوعته وشهواته ورذائله، تراه ربى شعره وهو ما يسمى بالكدش، وقد ملأه بالجل وهي مادة تثبت له شعره لها لمعان، وما تبع ذلك من تسريحات متنوعات لشعور بل والأذقان، فإذا أتاه النصح ممن يحب له الخير تجده يلهج بقوله: أنا أقتدي بالرسول في ذلك، فيا لله! ما أعظم قوله هذا وأشنَعَه، فنقول له: بل أنت متّبع لهواك وضلالك، تأخذ ما تمليه عليك نفسك، فلو كنت كما زعمت لاقتديت به في جميع شأنك، فاتبعته في ملبسه ومظهره وعبادته، وطبقت سنته لا في ما يمليه عليك عقلك وهواك.
تجده قد لبس البنطال، وقد بدت نصف إليته أو استه، فأظهر بعض عورته أو أظهر سروالا من تحت ذلك البنطال، قد بدت منه مختلف الألوان، فيا للهوان! طاح البنطال فطاحت معه الرجولة، فأين الرجال؟!
تراه مرتديًا قميصًا عليه عبارات باللغة الإنجليزية تدعو إلى العهر والفساد دون معرفة منه لمضمون تلك الكلمات، تراه قد لبس السلاسل والأساور في الأيدي والأعناق، وكل هذا مصداق لقوله : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)) ، قالوا: من يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)).
قلدوا الكفار وتشبهوا بهم بدعوى الحضارة، فتراهم في ترف وميوعة وغرام وآهات وأغان تسبح بك في غياهب الظلمات، ساروا خلف من اعتدوا على كتاب ربّ السموات وطعنوا في عرض نبيّ الأمة عليه أفضل الصلوات بدعوى الحريات لعنهم الله وشلّ أركانهم وأرانا فيهم العبر والآيات، فهل يعد من كان هذا دأبه من الرجال؟! لا والله، فهذا كله لا يليق بالرجال، الرجال تجد فيهم الخشونة، فلا حظَّ لهم في الميوعة لأنهم علموا أن الميوعة للنساء، وقد وعوا ما روِيَ عن نبيّ الهدى: ((تمعددوا واخشوشنوا وانتضلوا وامشوا حفاة)) أو كما قال.
فانعدمت في هؤلاء الذين انساقوا وراء الغرب الكافر معالم الذكورة وصفات الرجولة حتى أصبحتَ لا تفرق بينهم وبين النساء، فهذا والله من أعجب العجب، وكما قيل:
ولا عجب أنّ النساء ترجّلت ولكنّ تأنيث الرجال عُجاب
وأين ذهب هؤلاء من الوعيد الشديد للمتشبهين من الرجال بالنساء وبالعكس؟! قال : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال)) ، فمن يصبر على لعن الله سبحانه وتعالى؟! واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
تزداد الحسرة ـ أيها الأحبة ـ عندما نرى أولئك الشباب يجولون الشوارع بسياراتهم، يعبثون بها، فيضايقون المارة، ويزعجون السكان، فيعرضون أنفسهم والناس للخطر بلا حسيب ولا رقيب، يتطاولون على الكبير ويحقرون الصغير، وما علموا أن من إجلال الله توقير ذي الشيبة الكبير، وما وعوا أن ليس منا من لم يوقر كبيرنا. يظنون أن الرجولة هي بأذية الخلق في الطرقات، فتجدهم يمشون في الأرض مرحا وكبرا وتيها، تراهم قد ارتادوا المقاهي وضيعوا أوقاتهم في الشاتات والمنتديات والدردشات، فانشغلوا بذلك عن الصلوات.
وتزداد الحسرة عندما تراهم يجولون الأسواق يضايقون ويعاكسون ويؤذون المسلمات في الطرقات؛ ولهذا الموضوع وقفات في الأيام المقبلات.
ترى البعض منهم عشاقًا للرياضة والفضائيات، قبلته هي الكرة، فهو دائما يخرج فيلعب ويلعب حتى منتصف الليل، ثم يرجع لينام ليبدأ مشواره من جديد في اليوم الثاني، وهكذا حياته لا يدري لم خلق، ولا يفكر حتى أن يصليَ أو يساعد والديه، لكنه كما قيل عنه وعن أمثاله: (جيفة بالليل وحمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، فلو سألته من صاحب القدم الذهبية والرأس الذهبي والكأس الفضي وغير ذلك لتشدق بملء فمه وأجاب إجابة العارف، ولكن لو سألته عن الفاتحة تجده لا يحسن قراءتها إن لم يكن لا يحفظها، ولو سألته عن بعض السلف والتابعين بل عن بعض أصحاب النبيّ تجده يتخبّط ذات اليمين وذات الشمال ويتلعثم ثم لا يحير جوابًا.
أيها اللاهي بلا أدنى وجَل، اتق الله الذي عزّ وجلّ، واستمع قولاً به ضرب المثل، اعتزل ذكر الأغاني والغزل، وقل الفصل وجانب من هزل، كم أطعت النفس إذ أغويتها، وعلى فعل الخنا ربيتها، كم ليالٍ لاهيًا أنهيتها، إنّ أهنى عيشةٍ قضَيتها، ذهبت لذّاتُها والإثم حل.
ترى أولئك الشباب في زهرة ومقتبل أعمارهم، لكنهم في أعمالهم وهمتهم يحبُون حبوًا، لا ترى في عيونهم بريقًا، ولا في خطاهم عزمًا، شاخت أفئدتهم وماتت همتهم، فاستشرى شرهم وعظم خطرهم وصاروا يهددون من يحاول نصحهم أو ينكر عليهم، وما علموا أنّ كل تلك التيارات من عدوهم ليصدوهم عن دينهم فيضعفوا بذلك عزم الأمة وتكون لهم الصولة والجولة، فالشباب إذا فسدوا انهدم بناء الأمة وتسلط عليها أعداؤها كما هو الحال في كثير من بلاد المسلمين اليوم.
فيا شباب الإسلام، من يرفع راية لا إله إلا الله إذا توليتم؟! ومن ينصر هذا الدين إذا أعرضتم؟! زيادة المرء في دنياه نقصان، وربحه غير محض الخير خسران.
وكلُ وجدان قومٍ لا ثبات له فإنما هو في التحقيق خسران
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالْجسم إنسان
يا عامرًا لخراب الدار مجتهدًا بالله هل لِخراب الدار عمرانُ؟!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
حمدًا لمن نبيه قد بعثا فدوخت بعوثه من قد عثا
ثم الصلاة والسلام ما حكت حَمائمٌ حمائمًا إذا بكت
على النبي محمّدٍ وآله وصحبه وتابعي منواله
أما بعد: أيها الناس، إن مرحلة الشباب فرصة عظيمة لا تعوّض، يجب اغتنامها فيما ينفع الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، وهو فرصة ثمينة تمرّ بسرعة، فإن لم تُشغل بخير شغلت بشر ولا بد، فالأوقات محدودة، والأنفاس معدودة، فعودوا إلى الله يا شباب الأمة، فأنتم الرجال الذين بهم تقوم الأمة، عودةً إلى الله حتى نريَ الأعداء زمجرة الأسود، فنحن اليوم بأشدّ الحاجة إلى شباب مؤمن يشعر بواجبه تجاه دينه وأمته وبما عليه من تبعات تجاه بناء الدين وإشادته، نحن بأشدّ الحاجة إلى شباب مؤمن يحمل نفسًا مطمئنة يشعر بأنّ أكبر سروره في إخلاص العمل لله، فما ظهر الدين وعرف الناس شرائع المرسلين إلا بفضل الشباب الصالحين الذين استجابوا لله والرسول، والتاريخ أصدق شاهد على فضل الشباب الناشئين في طاعة الله أمثال علي وأسامة بين زيد وعبد الله بن عباس وابن عمر ومحمد بن القاسم وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهنيئا لشاب تقيّ تعلق قلبه بالمساجد ومجالس الخير وعمل الصالحات، واغتنم شبابه قبل هرمه وصحته قبل سقمه وغناه قبل فقره وفراغه قبل شغله وحياته قبل موته.
شباب الْجيل للإسلام عودوا فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديمًا وأنتم فجره الزاهي الجديد
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، ويقول : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره في تدميره يا رب العالمين، اللهم اهد شباب وفتيات المسلمين وردّهم إليك ردًا جميلاً يا رب العالمين...
(1/5695)
ارتفاع الأسعار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
غازي بن مرشد العتيبي
الجموم
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غلاء المعيشة من العقوبات الربانية. 2- ظاهرة ارتفاع الأسعار. 3- السبب الرئيس في ارتفاع الأسعار. 4- مظاهر الفساد في هذا الزمان. 5- سلب الله تعالى النعمة عن بعض الأمم السابقة. 6- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 7- الحث على التعاون والتكاتف والاقتصاد في المعيشة. 8- كلمة للتجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، إن من العقوبات التي يسلطها الله على بعض خلقه ويرسلها عليهم غلاءَ الأسعار وارتفاعَ قيم الأشياء وزيادتَها عن المعتاد، ولأجل ذلك كان النبي يدعو على المشركين بغلاء الأسعار وقحط الأمطار كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري رحمه الله أن من دعاء النبي في القنوت: ((اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم سنين كسني يوسف)) ، قال العلماء كما في عمدة القاري (14/204): "اشدد وطأتك عليهم بالهزيمة والزلزلة وغير ذلك من الشدائد كالغلاء العظيم والموت الذريع ونحوهما، والمراد بالسنين جمعُ سنةٍ وهي الغلاء".
وإنه لا يخفى ـ يا عباد الله ـ ما يعاينه الناس في هذه الأيام من استعار الأسعار واشتعالها وغلاء الأثمان وارتفاعِها، حتى غدا بعض الفقراء والمعدمين لا يستطيعون الحصول على الأشياء الضرورية إلا بمشقة فادحة. فما أسبابُ ارتفاع الأسعار؟ وما الموقفُ الصحيحُ حيالَ ذلك؟
إنه قد يكون وراء ذلك أسباب اقتصادية أو أسباب أخلاقية أو غيرُها من الأسباب، إلا أن السبب الأعظم الذي تنتج عنه الشدائد والمصائب ـ ومنها القحطُ والغلاء والفتنُ والبلاء ـ هو معصية الله عز وجل والبعد عن طاعته، كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165]، وقال عز وجل: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
وبعد أن عرفنا هذه النصوص الكريمة فكيف يستغرب الغلاء وأصناف الأطعمة تجمع في المناسبات فوق الحاجة ثم يكون مصيرها إلى النفايات والمزابل؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد كثر الربا والمعاملاتُ الماليةُ المحرمة؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد ضيعت الصلاة وتركت الزكاة وشربت الخمور وقطّعت الأرحام وكثر الزنا وانتشرت الموسيقى والمعازف وكثر الجهل وتُرك الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر؟!
إنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وإن لنا في سير الغابرين عبرةً وذكرى، فهؤلاء آل فرعون ابتلاهم الله بالسنين والمجاعات ونقصِ الثمرات لعلهم يذكرون، لكنهم عصوا واستمروا في طغيانهم يعمهون، فأرسل الله عليهم الطوفان الذي يغرق أشجارهم، والجراد الذي يأكل ثمارهم، والقمّل الذي يؤذيهم ويزعجهم، والضفادع التي تملأ أوعيتهم ويجدونها على فرشهم وملابِسهم، والدم فإذا أراد أحدهم أن يشرب ماءً انقلب دمًا، فلا يشربون إلا دمًا ولا يطبخون إلا في دم، ولم يزجرهم ذلك عن معصية الله، بل استكبروا في الأرض وكانوا قومًا مجرمين، فانتقم الله منهم وأغرقهم في اليم بأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين.
وهؤلاء قوم سبأ في اليمن أنعم الله عليهم بالأرزاق الكثيرة، وساق عليهم النعم الوفيرة، وجعل لهم جنتين عظيمتين يأكلون من ثمارهما المتنوعة من غير كدّ ولا تعب، يقول قتادة رحمه الله: "كانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها زنبيل فيتساقط الثمر في الزنبيل حتى يمتلئ من غير أن تحتاج إلى قطفه؛ وذلك لكثرته ونضجه واستوائه"، لكنهم أعرضوا وكفروا بأنعم الله فانتقم الله منهم وأرسل عليهم سيلاً عَرِمًا شديدًا، فبدل الثمار النضيجة والمناظر الحسنة بشجرٍ كثير الشوك قليل الثمر، ومزقهم الله كل ممزق، وجعلهم أحاديث للناس، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31].
هذه سنة الله في الأمم السابقة، ليس بينه وبين أحدٍ من عباده نسب إلا بطاعته، فالكريم عنده من أطاعه واتقاه، والذليل من أعرض عنه وعصاه، فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون، واحذروا من أسباب سخطه وعقابه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي قدّر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق ثم يميتهم ويحييهم كما بدا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا أمته إلى كل خير وحذرهم من أسباب الردى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على منهجه واستن بسنته.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واستقيموا كما أمرتم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أول ما يُدفع به الغلاء ويرفع به البلاء هو التوبة إلى الله عز وجل، فإنه ما رفع بلاء إلا بتوبة، وإن التوبة هي سبب نزول البركات كما أن المعاصي هي سبب القحط والغلاء، كما قال الله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]، وإنا مقبلون على شهر كريم تقبل فيه الطاعات وتقال فيه العثراتُ، وهو شهر رمضان، فليراجع كل منا نفسهَ، وليحاسبها على تقصيرها، ولينزع عما هو فيه من الغفلة، وليعلم أنه مقبل على رب كريم ودودٍ رحيم، وسعت رحمته كل شيء، وعمت كل حي، يقول لعباده متحببًا إليهم: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
ثم إنه ـ يا عباد الله ـ يجب التعاون والتكافل في ظلّ غلاء الأسعار، ورحمةُ اليتامى والأراملِ والفقراءِ والضعفاء، فالغني في دين الإسلام يحمل الفقير، والقوي يحمل الضعيف، ويخفف معاناتَه وآلامَه، والصدقةُ يعظم ثوابها في أوقات الحاجات، كما يعظم ثوابها في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة.
كما أنه يجب الاقتصادُ في النفقة، وعدمُ الإسرافِ والتبذير، وعدمُ البخل والتقصير، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، وكان من دعاء النبي : ((وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى)).
وليحذر التجار من الجشع والطمع والأنانية، وليرحموا الفقراء والمعوزين، وليجعلوا غلاء الأسعار فرصةً للإحسان إلى الناس، وسيجدون بركةَ ذلك ـ إن شاء الله ـ في أموالهم وأحوالهم، وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله : ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يُقعده بعَظمٍ من النار يوم القيامة)) يعني: يقعده في مكان عظيمٍ منها، وهذا وعيد شديد وزجر أكيد عن إغلاء الأسعار ورفِعها؛ لأن من مقاصد الشريعة المطهرة في البيع والشراء أن تسير الأسعار في طريق تحصل به مصلحةُ التجار ومصلحةُ بقية الناس، من غير إضْرارٍ بأحدٍ على حساب الآخر، وهذا من عدل الشريعة ومراعاتها لجلب المصالح ودرء المفاسد.
كما أنه ينبغي مخاطبة المسؤولين في هذه البلاد وتذكيرُهم بحقوق الرعية ومناصحتُهم، كما قال في حديث تميم الداري : ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ، وولاة الأمر في هذه البلاد ـ بحمد لله ـ حريصون على تحقيق مصالح الناس ورفع الضراء عنهم، نسأل الله أن يعليَ كلمته، ويعزَّ دينه وأولياءَه، إنه سميع مجيب.
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5696)
دور المجتمع في الدعوة إلى الصلاة
فقه
الصلاة
غازي بن مرشد العتيبي
الجموم
25/5/1429
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة. 2- حكم تارك لصلاة. 3- تفشي ظاهرة ترك الصلاة. 4- مسؤولية المجتمع في الدعوة إلى الصلاة. 5- وسائل عملية للدعوة إلى الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، إن الله عز وجل جعل للإسلام عمودًا يقوم عليه، وميزانًا يفرّق به بين المسلم والكافر، وأساسًا للموالاة والمعاداة والحب والبغض، إنه الصلوات الخمس المفروضة، من جاء بهن فهو المسلم، ومن تركها فليس له في الإسلام حظّ ولا نصيب، بل يعتبر مرتدًا عن الإسلام، مارقًا من الدين، يجب عليه أن يرجع له وينزعَ عن الكفر، وإلا فقد حل دمه وماله، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن النبي قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
واستمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى هذه النصوص العظيمة التي تدلّ أبلغَ دلالة على كفر تارك الصلاة وردته عن الإسلام:
يقول الله عز وجل: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11]. فإن هذه الآية الكريمة تدل على أنهم إن لم يفعلوا ذلك فليسوا إخوانًا لنا؛ والأخوة الإيمانية ـ يا عباد الله ـ لا تنتفي إلا إذا انتفى الإسلام.
ويقول عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 38-48]، فقد جعل الله الناس في هذه الآية قسمين: القسم الأول أصحابُ يمين، وهم الذين على صلاتهم يحافظون، مع ما يتصفون به من العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، وهؤلاء في جنات الخلد العالية، يتنعمون بأنواع النعيم المقيم. والقسم الآخر: مجرمون، قد أضاعوا الصلاة، واتصفوا بالأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة، وهؤلاء في سقر، يتمنون أن يشفع لهم أحد، ولكنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقد جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) ، وروى الإمام أحمد وغيره عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله : ((العهد الذين بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على كفر تارك الصلاة، يقول أبو هريرة : كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
أيها المسلمون، إن من يترك الصلاة أشدّ كفرًا من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا؛ لأنه مرتد عن الإسلام، ولهذا لا يجوز أن يزوّج امرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يرث ولا يورث؛ لقوله : ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)) ، ولا يُغسل إذا مات، ولا يُكفن، ولا يُصلّى عليه، ولا يُدعى له بالمغفرة، ولا يثبت له شيء من حقوق المسلم على المسلم.
ومع أهمية إقامة الصلاة في الإسلام وخطر إضاعتها والتفريط فيها إلا أننا نرى ـ ويا للأسف ـ بعض من ولدوا في ديار الإسلام ودرسوا تعاليمه وقامت عليهم الحجة واتضحت لهم المحجة قد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وقطعوا الصلة التي بينهم وبين الله عز وجل.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يتحمل المجتمع المسلم مسؤولية عند الله عز وجل في الدعوة إلى الصلاة؟ وما الوسائل العملية للدعوة إليها؟
إن المجتمع ـ أيها المسلمون ـ يتحمل مسؤولية عظمى وأمانة ثقيلة في الدعوة إلى الصلاة والحث على إقامتها، وإذا تخلى المجتمع عن مسؤوليته فسوف يكثر التاركون للصلاة، وتشيع الفحشاء، وينتشر المنكر، ويكثر الخبث، وتحبس الأمطار، وتنزل العقوبات العامة من الأمراض الخطيرة والمصائب العظيمة والكوارث المفجعة، وسوف يسلط الأشرار على الأخيار، وسوف يدعو الصالحون فلا يستجاب دعاؤهم.
وهذا كتاب الله تعالى وسنة نبيه بين أيدينا يدلان على ذلك وينطقان به، يقول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165]، فأخبر الله أنه أنجى الذين ينهون عن السوء والمعصية، أما الذين لا ينهون عن ذلك فهم ظالمون فاسقون هالكون.
وقد جاء في حديث زينب رضي الله عنها في الصحيحين أنها قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) ، وفي حديث حذيفة عند الإمام أحمد وغيره: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
بل إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب حلول لعنة الله عز وجل، ومن أعظم المعروف إقامة الصلاة، ومن أعظم المنكر تركها، يقول الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].
ألا فاتقوا الله أيها المؤمنون، واجتنبوا أسباب سخط الله وعقابه، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاةُ والدعوةُ إليها، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قالها وعمل بها له دار السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، ومن سار على نهجه واستقام.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن هناك وسائل عملية للدعوة إلى الصلوات المفروضة، ومنها:
1- النصيحة الفردية لتارك الصلاة، بوعظه وتنبيهه من غفلته، وتذكيره بخطر ما هو مقيم عليه، وكم من شخص ـ يا عباد الله ـ قد كان على شفا جرفٍ هارٍ فأنقذه الله من النار بنصيحة خالصةٍ وكلماتٍ صادقة، ورده الله إليه ردًا جميلاً.
2- ومن هذه الوسائل: الزيارة الجماعية لتارك الصلاة، وحثُّه عليها، وترغيبُه فيها، وترهيبه من تركها.
3- ومنها: عدم الصلاة على تارك الصلاة إذا مات، وعدم تغسيله وتكفينه؛ وذلك حتى يكون زاجرًا لغيره عن ترك الصلاة.
4- ومن هذه الوسائل: إرسال رسائل الجوال المشتملة على الوعظ والتخويف إليه، وإهداءُ الأشرطةِ النافعةِ له. وإذا أصرّ على ترك الصلاة بعد دعوته إليها بالحكمة والموعظة الحسنة فإنه يهجر حسبةً لله عز وجل، فلا يدعى إلى مناسبة، ولا تجاب له دعوة؛ لأنه محادٌّ لله ورسوله. إن اليهودي والنصراني تجوز إجابة دعوته كما كان يصنع ذلك النبي ، أما تارك الصلاة فلا تجاب له دعوة؛ لأنه مرتد عن الإسلام، ناكص على عقبيه.
5- ومن الوسائل النافعة: الدعاء لتارك الصلاة بالهداية إليها والدخول في الإسلام، ولا سيما من الوالدين، وقد دعا النبي لبعض المشركين بالهداية، فقال: ((اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين)) يعني عمر بنَ الخطاب وعمْرو بن هشام، فاختار الله لذلك عمر بن الخطاب، وصار بعد ذلك أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين، ودعا لقبيلة دوس وهم قوم أبي هريرة فقال: ((اللهم اهد دوسًا)) ، فجاؤوا مسلمين لله طائعين.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأنقذوا هؤلاء من النار، بل أنقذوا أنفسكم من غضب الله وعقابه، فإن النبي يقول في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: ((إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه)) ، وتذكروا فضل الدعوة للإسلام فإن ربكم عز وجل يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]، ونبيكم يقول: ((ولأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم)) ، ويقول أيضًا: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل من عمل به إلى يوم القيامة)).
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5697)
وصايا وعظات في أيام الامتحانات
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
9/6/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأولاد. 2- خطورة موسم الاختبارات. 3- وقفات مع موسم الاختبارات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نِعمَةٌ الأَولادِ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعظَمِهَا؛ إِذْ هُمْ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَبَهجَتُهَا، وَهُم عُدَّةُ النَّوَائِبِ وَالذُّخرُ في الشَّدَائِدِ، يَبَرُّونَ الآبَاءَ وَيَحمِلُونَ أَسمَاءَهُم، وَيَصِلُونَ أَرحَامَهُم وَيَرفَعُونَ ذِكرَهُم، وَيَبَرُّونَ أَصدِقَاءَهُم وَيَدعُونَ لهم، عَلَى سَوَاعِدِهِم يُبنى المُستَقبَلُ، وَبِأَفكَارِهِم يَرتَقِي المُجتَمَعُ، وَبِهِمَمِهِم تَعلُو الأُمَّةُ، وَبِجِدِّهِم تُعمَرُ الدِّيَارُ، وَبِقُوَّتِهِم تُحفَظُ البِلادُ، لَكِنَّ هَذِهِ النِّعمَةَ في المُقَابِلِ أَمَانَةٌ ثَقِيلَةُ التَّبِعَاتِ، وَالعِنَايَةُ بها تَحتَاجُ إِلى بَذلِ جُهُودٍ وَصَرفِ أَوقَاتٍ، وَحِفظُهَا لا يَتِمُّ إِلاَّ بِتَكَاتُفِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، إِنَّهَا تُكَلِّفُ مَن تَحَمَّلَهَا مَالَهُ، وَتَستَهلِكُ صِحَّتَهُ وَتَشغَلُ بَالَهُ، وَكُلَّمَا كَانَ المَرءُ بِثِقَلِهَا أَشَدَّ شُعُورًا كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إِلى مَزِيدِ الرِّعَايَةِ وَشَدِيدِ العِنَايَةِ.
وَإِنَّنَا ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ فِيمَا سَيَأتي مِن أَيَّامٍ مُقبِلُونَ عَلَى مَوسِمٍ مِن أَشَدِّ مَوَاسِمِ التَّربِيَةِ حَسَاسِيَةً، إِنَّهَا الامتِحَانَاتُ الدِّرَاسِيَّةُ، وَالَّتي سَيَدخُلُ مُعتَرَكَهَا شَرِيحَةٌ مِن أَغلَى شَرَائِحِ المُجتَمَعِ، هِيَ أَسرَعُهُم تَأَثُّرًا بما يَجرِي حَولَهَا، وَأَكثَرُهُم تَشَرُّبًا لِمَا يُلقَى عَلَيهَا، أُولَئِكَ هُم طُلاَّبُ المَدَارِسِ المُتَوَسِّطَةِ وَالثَّانَوِيَّةِ مِنَ المُرَاهِقِينَ وَالشَّبَابِ، وَإِنَّهُ لَو كَانَتِ الامتِحَانَاتُ مَعلُومَاتٍ تُحفَظُ ثم تُلقَى عَلَى أَورَاقِ الإِجَابَاتِ لَكَانَ أَمرُهَا سَهلاً مُيَسَّرًا؛ إِذِ الإِخفَاقُ يَعقُبُهُ نَجَاحٌ، وَضَعفُ الدَّرَجَةِ قَد يُستَدرَكُ، وَالقُصُورُ قَد يُتَلافى، لَكِنَّ القَضِيَّةَ أَنَّ الامتِحَانَ امتِحَانٌ لِلمُجتَمَعِ كُلِّهِ عَلَى مُختَلِفِ مُستَوَيَاتِهِ، وَاختِبَارٌ لأَولِيَاءِ الأُمُورِ وَالآبَاءِ، وَمِقيَاسٌ لِكَفَاءَةِ التَّربَوِيِّينَ وَالمَسؤُولِينَ.
وَلَقَد ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الوَاقِعِ وَتَتَبُّعِ كَثِيرٍ مِن رِجَالِ التَّربِيَةِ وَالتَّعلِيمِ أَنَّ أَيَّامَ الامتِحَانِ مِن أَصعَبِ مَا يَمُرَّ بِالفَتى المُرَاهِقِ وَالشَّابِّ اليَافِعِ؛ إِذْ فِيهَا يُرخَى العِنَانُ وَيَنفَلِتُ الزِّمَامُ، وَيَختَلِفُ النِّظَامُ وَيَتَغَيَّرُ الدَّوَامُ، وَيَكثُرُ الفَرَاغُ وَتَزدَادُ أَوقَاتُهُ، وَيَجِدُ الطُّلاَّبُ مِنهُ فِيمَا بَينَ فَتَرَاتِ الامتِحَانِ وَفِيمَا بَينَ خُرُوجِهِم مِنهُ وَعَودَتِهِم إِلى البُيُوتِ مَا قَد يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ مِنَ الفَسَادِ الشَّيءَ الكَثِيرَ، وَمَا قَد يُؤذُونَ فِيهِ أَنفُسَهُم وَيَتَعَدَّونَ عَلى الآخَرِينَ، وَمَا قَد يَكتَسِبُونَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ العَادَاتِ السَّيِّئَةِ وَيَقَعُونَ في عَدَدٍ مِنَ الآفَاتِ المُهلِكَةِ، ممَّا لَو جُمِعَ ثم وُزِنَ بما اكتَسَبُوهُ في أَيَّامِ دِرَاسَتِهِم كُلِّهَا لَسَاوَاهُ أَو زَادَ عَلَيهِ.
وَمِن هُنَا ـ أَيُّهَا الآبَاءُ ـ فَإِنَّهُ يَجدُرُ بِنَا أَن نَقِفَ وَقَفَاتٍ نُوصِي بها مَن وَهَبَهُمُ اللهُ هَذِهِ الزِّينَةَ؛ لِئَلاَّ تَكُونَ لهم في يَومٍ مِنَ الأَيَّامِ شَجًى في الحُلُوقِ أَو قَذًى في العُيُونِ، فَيَعَضُّوا أَصَابِعَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطُوا، وَقَد يَكُونُ قَد فَاتَ الفَوتُ وَلاتَ سَاعَةَ مَندَمٍ.
الوَقفَةُ الأُولى: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَن رَزَقَهُ اللهُ الأَولادَ، أَن يَعلَمَ قَدرَ هَذِهِ النِّعمَةِ فَيَشكُرَهَا لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهَا، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتم لأَزِيدَنَّكُمْ. وَإِنَّهُ لا شُكرَ لِهَذِهِ النِّعمَةِ مِثل حِفظِهَا وَالقِيَامِ بما يَجِبُ نَحوَهَا مِنَ التَّربِيَةِ الحَسَنَةِ وَالتَّنشِئَةِ الصَّالحةِ؛ إِذْ هِيَ أَمَانَةٌ وَأَيُّ أَمَانَةٍ، قَالَ : ((كُلُّكُم رَاعٍ، وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ)) ، وََقالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا استَرعَاهُ: حَفِظَ أَم ضَيَّعَ، حَتى يَسأَلَ الرَّجُلَ عَن أَهلِ بَيتِهِ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((كَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُضَيِّعَ مَن يَقُوت)).
وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ مِن بُيُوتٍ لا يَتَجَاوَزُ دَورُ الأَبِ وَالأُمِّ فِيهَا الإِنتَاجَ، ثم تَرَاهُم بَعدَ أَن يَخطُوَ الوَلَدُ خُطُوَاتِهِ الأُولى يَفتَحُونَ لَهُ البَابَ عَلَى مِصرَاعَيهِ، لِيَخرُجَ إِلى أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، يُرَبِّيهِ غَيرُهُم وَيُعَلِّمُهُ مَن سِوَاهُم، وَلا يَبقَى في الخَارِجِ مِن كَلِمَةٍ سَاقِطَةٍ أَو فَعلَةٍ قَبِيحَةٍ أَو خُلُقٍ سَيِّئٍ إِلاَّ اكتَسَبَهُ وَتَشَرَّبَهُ، ثم هُم لا يَسأَلُونَ عَنهُ وَلا يَهتَمُّونَ بِهِ، وَلا يُوَجِّهُونَهُ وَلا يَنصَحُونَ لَهُ، وَلا يُبَيِّنُونَ لَهُ مَا يَنفَعُهُ ممَّا يَضُرُّهُ، ممَّا يَجعَلُ مِنهُ عُضوًا في المُجتَمَعِ فَاسِدًا، وَنَبتَةً لا تُثمِرُ لِلأُمَّةِ إِلاَّ الفَسَادَ وَالإِفسَادَ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الوَالِدَينِ أَن يَتَّقِيَا اللهَ في أَولادِهِمَا مُنذُ الصِّغَرِ، فَيُنَشِّئَاهُم عَلَى الطَّاعَةِ وَالصَّلاةِ وَمَحمُودِ الصِّفَاتِ، وَعَلَى أَنَّ ثَمَّةَ صَالِحًا مِنَ العَمَلِ وَسَيِّئًا، وَجَمِيلاً مِنَ الأَخلاقِ وَقَبِيحًا، ومَقبُولاً مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَمَرفُوضًا، وَأَنَّ الإِنسَانَ مُقَيَّدٌ بِدِينٍ وَخُلُقٍ، وَلَهُ مَعَالِمُ يَجِبُ أَن يَقِفَ عِندَهَا، وَحُدُودٌ لا يَجُوزُ أَن يَتَجَاوَزَهَا، وَأَنَّ للهِ عَمَلاً بِاللَّيلِ لا يَقبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلاً بِالنَّهَارِ لا يَقبَلُهُ بِاللَّيلِ.
أَلا وَإِنَّ مِن رِعَايَةِ الأَمَانَةِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أَن يَضبِطَ الأَبُ مَوعِدَ مَنَامِ ابنِهِ وَصَحوِهِ، وَيُرَاقِبَهُ في ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، وَيُحَدِّدَ وَقتَ خُرُوجِهِ وَدُخُولِهِ، وَأَن يَحرِصَ عَلَى أَن يَكُونَ استِذكَارُهُ دُرُوسَهُ في البَيتِ لا خَارِجَهُ، وَأَن لاَّ يَسمَحَ لَهُ بِالسَّهَرِ بِأَيِّ حَالٍ، فَإِنَّ مِنَ الشَّبَابِ مَن إِذَا عَادَ مِنِ امتِحَانِهِ قَبلَ الظُّهرِ ضَرَبَ بِجِسمِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، تَارِكًا صَلاةَ الظُّهرِ وَالعَصرِ، وَقَد يُلحِقُ بهما المَغرِبَ وَالعِشَاءَ، ثم لا يَبدأُ بِالاستِذكَارِ إِلاَّ بَعدَ العِشَاءِ، فَيُسهِرُ لَيلَهُ وَيُرهِقُ نَفسَهُ، حَتى إِذَا أَقبَلَ الفَجرُ نَامَ وَتَرَكَ الصَّلاةَ، وَلم يَصحُ إِلاَّ قُبَيلَ الامتِحَانِ، فَمِثلُ هَذَا كَيفَ يَنتَظِرُ تَوفِيقًا وَيَأمَلُ تَسدِيدًا؟! كَيفَ يَرجُو نَجَاحًا وَهُوَ قَد تَرَكَ فَرَائِضَ رَبِّهِ وَخَالَفَ سُنَنَهُ، فَنَامَ في وَقتِ العَمَلِ وَعَمِلَ في وَقتِ النَّومِ؟!
فَيَا مَعشَرَ الآبَاءِ، الحِرصَ الحِرصَ عَلَى أَن تَضبِطُوا أَوقَاتَ أَبنَائِكُم في النَّومِ وَالصَّحوِ وَالذَّهَابِ وَالإِيَابِ، وَاهتَمُّوا بِعَودَتِهِم بَعدَ انتِهَاءِ الامتِحَانَاتِ مُبَاشَرَةً، فَإِنَّ في بَقَائِهِم بَعدَ الامتِحَانَاتِ في الشَّوَارِعِ أَوِ البَرَارِي أَو في المَطَاعِمِ أَوِ الأَسوَاقِ، إِنَّ فِيهِ لَضَرَرًا كَبِيرًا عَلَى عُقُولِهِم وَأَخلاقِهِم، وَالحُرُّ تَكفِيهِ الإِشَارَةُ.
الوَقفَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ، وَالمَرءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، وَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ يَقتَدِي، وَمِن هُنَا فَإِنَّ عَلَى الأَبِ أَن يَحرِصَ عَلَى مَعرِفَةِ أَصدِقَاءِ أَبنَائِهِ وَمَن يُصَاحِبُونَ، وَأَن يَكُونَ عَلَى دِرَايَةٍ بِمَكَانٍ تَجَمُّعِهِم وَإِلى أَينَ يَذهَبُونَ، بَصِيرًا بما يَجرِي حَولَهُ، مُتَفَقِّهًا في الوَاقِعِ، عَارِفًا بِمُشكِلاتِ الشَّبَابِ وَقَضَايَاهُم، وَاعِيًا لما يَدُورُ في مُجتَمَعَاتِهِم، وَلَكَم كَانَ الأَصحَابُ سَبَبًا في صَلاحِ المَرءِ أَو فَسَادِهِ، فَجَدِيرٌ بِالأَبِ أَن يَحرِصَ عَلَى أَن يَصحَبَ ابنُهُ الصَّالِحِينَ وَيُمَاشِيَ ذَوِي الأَخلاقِ الحَسَنَةِ، وَأَن يَبتَعِدَ عَن أَهلِ الشَّرِّ وَالفَسَادِ وَالفِتنَةِ، وَعَلَيهِ في هَذَا الشَّأنِ أَن يَتَعَاوَنَ مَعَ المَدرَسَةِ، وَيَبنِيَ جُسُورًا مِنَ الثِّقَةِ بَينَهُ وَبَينَ مُدِيرِهَا وَمُعَلِّمِيهَا، وَإِذَا عَرَفَ صَالِحًا حَثَّ ابنَهُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ، وَإِذَا اكتَشَفَ أَنَّهُ يُصَاحِبُ الأَشرَارَ سَعَى لِتَخلِيصِهِ مِنهُم، وَلا يَجُوزُ لَهُ أَن يَتَهَاوَنَ في هَذَا الأَمرِ بِحَالٍ، أَو يَسمَحَ بِهِ سَاعَةً مِن نهارٍ، فَكَم مِن تَهَاوُنِ سَاعَةٍ أَعقَبَ فَسَادَ أَيَّامٍ، وَتَهَاوُنِ أَيَّامٍ أَنتَجَ فَسَادَ أَعوَامٍ.
أَلا وَإِنَّ مِنَ الخَطَرِ الَّذِي يُدَاهِمُ الشَّبَابَ في هَذِهِ الأَيَّامِ وَيُمَهِّدُ لَهُ وَيَنشُرُهُ رِفَاقُ السُّوءِ المُخَدِّرَاتِ، فَاحذَرُوا وَحَذِّرُوا أَبنَاءَكُم وَانتَبِهُوا، فَإِنَّ أَيَّامَ الامتِحَانَاتِ سُوقٌ لِلمُرَوِّجِينَ رَائِجَةٌ، نَسأَلُ اللهَ أَن يَرُدَّ كَيدَهُم في نُحُورِهِم.
الوَقفَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ ممَّا يُؤخَذُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ إِيذَاءَهُمُ الآخَرِينَ وَتَسَلُّطَهُم عَلَيهِم، حَيثُ يَكثُرُ دَوَرَانُهُم في الشَّوَارِعِ، وَتُلحَظُ عَلَيهِمُ القِيَادَةُ الجُنُونِيَّةُ وَالسُّرعَةُ الزَّائِدَةُ، وَيَكثُرُ مِنهُمُ الوُقُوفُ المُخَالِفُ وَسَدُّ الطُّرُقَاتِ في وُجُوهِ المَارَّةِ، وَلَرُبَّمَا صَادَفَ أَن يُؤذِيَ أَحَدُهُم شَيخًا كَبِيرًا، أَو يُضَايِقَ امرَأَةً ضَعِيفَةً أَو عَامِلاً مِسكِينًا، أَو يُرَوِّعَ غَافِلاً أَو يَعتَدِيَ عَلَى سَائِرٍ في طَرِيقِهِ، فَيَدعُوَ أَحَدُ هَؤُلاءِ عَلَيهِ دَعوَةَ مَظلُومٍ تَخرُجُ مِن قَلبٍ مَكلُومٍ، فَتَكُونُ سَببًا لِعَدَمِ تَوَفُّقِ هَذَا الوَلَدِ في دُنيَاهُ أَو أُخرَاهُ، أَو حُصُولُ مَا يُؤذِيهِ مِن حَادِثٍ أَو نَحوِهِ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُّبِينًا ، وَقَالَ : ((مَن آذَى المُسلِمِينَ في طُرُقِهِم وَجَبَت عَلَيهِ لَعنَتُهُم)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((وَاتَّقِ دَعوَةَ المَظلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَهَا وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِيَّاكُم وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ أَبَيتُم إِلاَّ المَجَالِسَ فَأَعطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا: غَضُّ البَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلامِ وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ)) ، وَقَالَ : ((لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَن يُرَوِّعَ مُسلِمًا)).
فَلْيَحذَرِ الآبَاءُ مِن تَسلِيمِ السَّيَّارَاتِ لِلأَبنَاءِ دُونَ رَقَابَةٍ وَمُتَابَعَةٍ، فَإِنَّ المَسؤُولِيَّةَ كَبِيرَةٌ وَالأَمَانَةَ عَظِيمَةٌ، وَإِيذَاءَ المُسلِمِينَ ذَنبٌ كَبِيرٌ وَجُرمٌ خَطِيرٌ، وَالمُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا.
وَأَمَّا الوَقفَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنَّهُ يَجِبُ أَن نَغرِسَ في قُلُوبِ أَبنَائِنَا أَن يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَيُفَوِّضُوا أُمُورَهُم إِلَيهِ، ثم يَبذُلُوا الأَسبَابَ وَيَتَّخِذُوا الاحتِيَاطَاتِ، فَإِذَا فَعَلُوا كُلَّ هَذَا فَحَصَلَ مَا يَتَمَنَّونَهُ فَخَيرٌ وَنِعمَةٌ يَجِبُ عَلَيهِم شُكرُهَا، وَإِلاَّ فَلْيَحذَرُوا لَومَ أَنفُسِهِم أَوِ التَّحَسُّرَ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَمنَعُ قَدَرًا وَلا يَرُدُّ فَائِتًا، قَالَ : ((اِحرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُكَ وَاستَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعجَزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُلْ: لَو أَني فَعَلتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنْ لَو تَفتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ)).
وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يُعلَمَ في هَذا الشَّأنِ أَن الأَسبَابَ الَّتي تُبذَلُ يَجِبُ أَن تَكُونَ جَائِزَةً غَيرَ مُحَرَّمَةٍ وَلا مَمنُوعَةٍ شَرعًا، فَلا تَنَاوُلَ مُنَبِّهَاتٍ مُحَرَّمَةٍ، وَلا غِشَّ وَلا خِدَاعَ، وَلا شِرَاءَ ذِمَمٍ ممَّن ضَعُفَت ذِمَمُهُم مِنَ المُعَلِّمِينَ، قَالَ : ((مَن غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا)). وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يَستَقِرَّ أَنَّ مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَيُّ شَهَادَةٍ تُحَصَّلُ بِالغِشِّ وَسُلُوكِ الطُّرُقِ المُلتَوِيَةِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَمَا نَتَجَ عَنهَا مِن تَوَظُّفٍ أَو عَمَلٍ أَو تَرقِيَةٍ فَلا خَيرَ فِيه وَلا بَرَكَةَ، بَل هُوَ نَوعٌ مِنَ السُّحتِ وَالغِشِّ لِلأُمَّةِ.
الوَقفَةُ الخَامِسَةُ: يَجِبُ أَن يَتَرَسَّخَ في القُلُوبِ أَنَّ هَذِهِ الامتِحَانَاتِ لَيسَت هِيَ النِّهَايَةَ الَّتي إِنْ رَبِحَهَا المَرءُ رَبِحَ كُلَّ شَيءٍ، وَإِنْ خَسِرَهَا خَسِرَ كُلَّ شَيءٍ، لا وَاللهِ، وَإِنَّمَا الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ هِيَ خَسَارَةُ الآخِرَةِ، قَالَ سُبحَانَهُ: قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ.
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاحرِصُوا عَلَى النَّجَاحِ في يَومٍ يُسأَلُ المَرءُ فِيهِ عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ، وَعَن شَبَابِهِ فِيم أَبلاهُ، وَعَن عِلمِهِ مَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ، فَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا صَوَابًا، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِنَ الفَائِزِينَ في يَومِ الامتِحَانِ الأَكبرِ، وَوَفَّقَ أَبنَاءَنَا وَيَسَّرَ أَمرَهُم وَسَهَّلَ عَلَيهِم مَا يَطلُبُونَ.
(1/5698)
محبة الله سبحانه
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الله بن عمر البكري
الدوحة
30/6/1429
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرة حب المحسنين. 2- فضائل محبة الله تعالى. 3- حقيقة محبة الله تعالى. 4- أسباب رسوخ محبة الله في القلب. 5- علامات المحبين. 6- الأسباب المقوية لمحبة الله تعالى. 7- ثمرات محبة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، النفوس مجبولة على حب من أنعم عليها، ساعية إلى مرضاة من أحسن إليها، فكيف بمن كل نعمة فهي منه، وكل إحسان فهو المتفضل به، وكل جميل فهو صاحبه، وكل لطف فهو موليه، وكل ضر فهو كاشفه، وكل بلاء فهو رافعه؟! هل يليق بالعاقل أن يفرط في جنبه أو يتعدى حدوده أو يستهين بأمره ونهيه؟!
معاشر الأحبة، إن محبة الله جل وعلا قوتُ القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، فيها تنافس المتنافسون، وإليها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبرَوح نسيمها تروَّح العابدون، فهي الحياة التي من فقدها فهو من جملة الأموات، والنورُ الذي من حُرمه تاه في بحار الظلمات.
محبة الله شفاء القلوب من أسقامها، وراحة النفوس من آلامها، وهي روح الأعمال التي متى خلت منها صارت كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها.
ومحبةُ الله جل وعلا مطايا الصالحين إلى جنات النعيم، فالمحب لله سبحانه وتعالى يعبده بلذَّة ويطيعه برغبة، فعبادة الله جل وعلا قائمة على ركنين هما غاية المحبة لله مع غاية التذلّل له:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
ولا تكون المحبة صادقة إلا إذا اقترنت بالخوف والرجاء، فالمحبة بلا خوف عبادة المغرورين، وهي بلا رجاء عبادة القانطين.
أيها الأحبة، إن محبة الله جل وعلا ولزومَ عتبة عبوديته هي غاية النفوس الشريفة؛ لذا فقد سعى في تحصيلها أولو الهمم النبيلة بكل وسيلة.
وإن مما ترسخ به محبة الله سبحانه وتعالى في القلوب معرفته سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، فمن عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، فكم في أسمائه وصفاته من موجبات محبته لمن تأملها، فهو الودود الذي يود أولياءَه، ويحبّ المتقين والصادقين والمحسنين، ويحب التوابين والمتطهرين، وهو التواب يفرح بتوبة التائبين، وهو الرحمن الرحيم الذي برحمته ترحم الأم وليدها، وهو العفو الغفور الوهاب الرزاق الكريم.
أما عن علامات المحبة الصادقة فمنها دموع العين من خشية الله، وحياء العبد أن يراه مولاه حيث نهاه، والوجل عند ذكر الله، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].
ومن علامات المحبين أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، مجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم في الله، كما أخبر عنهم ربهم جل في علاه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
ومن علاماتها الأنس بالله، وكراهة كلِّ ما يشغل العبد عن مولاه.
ولما كان شأن المحبة عظيمًا كثر مستامُها ولكنَّ المشتري فيهم قليل؛ لأن ثمنها عظيم، فما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيشتريها بالنسيئة المعسرون، ولا بارت فيتمناها البطالون.
ولما كثر المدعون لها طولبوا بإقامة البينة، فنزل قول الحق سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران: 31]، فتأخر المدعون، وثبت المحبون الصادقون، فتابعوا النبيّ في أفعاله وأقواله وأحواله، ليصلوا بها إلى رضا الله ومحبته.
ومحبة الله ـ معاشر المؤمنين ـ سبب لكل توفيقٍ وتسديد، كما أخبر النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا فقال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). فمن تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أحبه، فإذا أحبه وفقه وسدّده في سمعه وبصره وحركات يده وخطوات رجله، فهو موفق محفوظ سعيد محظوظ، وهذا لا يكون إلا لمن عمر قلبه بمحبة مولاه.
عباد الله، على قدر محبة العبد لله يكون شوقُه للقائه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
ومحبة الله من آكد الفروض على العباد، فقد قال سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]، وهذه الثمانية المذكورة في الآية هي رأس المحبوباتِ الدنيوية، فمن قدمها على محبة الله فقد ناله الوعيد من ذي البطش الشديد.
وإذا رضي الله تعالى على عبد فرَّغ قلبه لمحبته ولسانَه لذكره وجوارحه لطاعته، وإذا سخط على عبد شغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، وشغل لسانه بذكرهم، وشغل جوارحه بخدمتهم، فهو يكدح في خدمة العبيد؛ لينال طُعمة أو رتبة، فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبُلوا برقّ النفس والشيطان
أما إن سألتم عن الأسباب التي يقوّي بها العبد محبته لله فمنها ذكر الله وتلاوةُ كتابه والإكثار من النوافل وموالاةُ أولياء الله ومعاداةُ أعداء الله، فمن والى في الله وعادى في الله فقد برهن على محبته لمولاه، وقد قال النبي : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولهُ أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
ومما تقوى به محبة الله في النفس مشاهدةُ برِّه وإحسانه وآلائهِ الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.
ومنها انكسارُ القلب بين يدي الرب ومناجاته سبحانه وتعالى في السحر وحفظه في الخلوات.
ومنها مجالسة أهل محبته ومباعدة كلّ سبب يحول بين القلب ومولاه.
أما عن ثمرات محبة العبد لمولاه فمنها أنه يكون منشرح الصدر طيب العيش هانئ البال محببًا إلى الخلق، تَقر العيون برؤيته، وتطيب المجالس بحديثه، فإن العبد متى أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله له ما بينه وبين خلقه، وجعل له مهابة في النفوس وجلالةً في العيون.
ومن ثمراتها أن المحبّ لله لا ييأس على ما فاته من الدنيا؛ لأنه محبٌّ لمالكها ومدبّر أمورها، فلا ينافس في عزها، ولا يجزع من ذُلها؛ لأن محبة المولى قد ملكت عليه قلبه وتخللت مسالك روحه، ولسانُ حاله يقول:
إذا نلت منك الودَّ يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب ترابُ
ومن ثمرات المحبة أنها تورث صاحبها العزة، فالمحب لله عزيز بمولاه، وكما أن خادم الملك في الدنيا أعز من خادم الوالي، فكيف بمن كان عزه بالله؟!
قوم تخلّلهم زهو بسيدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه
فسبحانه من إله عظيم ورب كريم، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، خيره إلى العباد نازل، وشرُّهم صاعد، يتودّد إلينا بالنعم ويُجازى بالجحود، يقبل المنيبين، ويُمهل المذنبين، ويفرح بتوبة التائبين، ويستر العاصين، ويقيل عثرات العاثرين، ويغفر للمستغفرين، ويفتح باب الأمل للقانطين، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على نعمه قديمها وحادثِها، وأشهد أن لا إله إلا الله ربُّ السموات والأرض وخالقها ووارثُها، فله الحمد عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
وبعد: معاشر الأحبة، فإن محبة الله سبحانه وتعالى شجرةٌ طيبة، متى غُرست في القلب أثمرت كلَّ عمل صالح وخُلقٍ كريم، والمحبة موافقةُ الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، وسفر القلب في طاعة الله، ولهج اللسان بذكره على الدوام، وهي مفتاح كل فوز ونجاح، وسبب كل سكينة وفلاح، وهي سعادة الدارين، وطيبُ الحياتين، من نالها فقد نال كل شيء، ومن فاتته فقد فاته كل شيء. قال بعض الصالحين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوقِ فاطوِ المراحلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وحيّ على جنات عدن بقربهم منازلك الأولى بِها كنت نازلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويَحمد غب السير من كان عاقلا
نعم، ما هي إلا ساعةُ العمرِ الفانية، فإذا بالمحبين على سرر متقابلين في جوار ربهم الكريم، وعند الصباح يحمد القوم السّرى.
اللهم ارزقنا حبك وحبَ من يحبك وحبَ كلِ عمل صالح يقربنا من حبِك، أعمر بمحبتك قلوبَنا، وأنزل سكينتك على نفوسنا، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
(1/5699)
يا من تعصي الله
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الكبائر والمعاصي
علي بن محمد خواجي
جازان
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل ابن آدم خطاء. 2- التذكير برقابة الله تعالى. 3- التذكير بعظمة الله تعالى. 4- التذكير بنعم الله تعالى. 5- التذكير بربوبية الله تعالى. 6- التذكير بجبروت الله تعالى. 7- التحذير من الاغترار. 8- التذكير بشهود يوم القيامة وبالكتابة والإحصاء. 9- الغاية من الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، ولازموا الأعمال الصالحة، وأكثروا من فعل الطاعات، فإنها سبب للنجاة من المهلكات العاجلة والآجلة، يقول تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ.
أخي الحبيب، كلنا ذو ذنب، وكلنا ذو خطيئة، وكلنا ذو معصية، قال : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)). والإنسان بطبعه ضعيف الإرادة، وقد تغلبه نفسه ويضعف أمام الشهوات والمغريات ويميل إلى المعصية، فإذا رأيت ـ أخي الحبيب ـ من نفسك شيئًا من هذا الضعف ورأيت منها ميلاً إلى المعصية فتذكّر قبل ارتكاب المعصية أن الله يراك ومُطّلع عليك، فهو العليم الخبير، وهو السميع البصير، قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة: 77]، ويسمع كلامك، ويرى مكانك، ويعلم سرك ونجواك، فهو سبحانه معك بعلمه واطلاعه، فاحذر كل الحذر أن تجعل الله أهون الناظرين إليك.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوت ولكن قل: عليّ رقيب
ولا تَحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
واحذر أيضًا أن تكون ممن يراقبون العباد وينسون ربَّ العباد، يخشون الناس وينسون رب الناس، قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء: 108]، يستعظمون نظرَ المخلوق على هوانه، ويستخفون نظر الخالق مع علوّ شانه.
فيا من تعصي الله، أيّ أرض تقلّك وأيّ سماء تظلك إلا أرض الله وسماؤه؟! وأي مكان يحميك من أن يراك الله ويطّلع عليك وينظر إليك؟! فهو تعالى يراك، فاجعل له في قلبك وقارًا، وإذا حدثتك نفسك بالمعصية أيًا كانت هذه المعصية فقل لها: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق: 14].
أخي الحبيب، قبل أن تعصي الله تذكر من أنت، من أنت ـ أيها المسكين ـ حتى تعصي إله الأولين والآخرين ورب العالمين؟! من أنت ـ أيها الضعيف الذي لا تملك لنفسك نفعًا ولا ضرًا ولا حولاً ولا طولاً ـ حتى تعصي القوي العزيز الذي خضع له كل شيء، وملأت كل شيء عظمته، وقهر كل شيء ملكه، وأحاطت بكل شيء قدرته؟! تذكر من أنت ومن هو العظيم الذي تعصيه وأنت فقير محتاج إليه، وبقدر ما يعظم قدر الله في قلبك يعظم مكانك عنده، قال تعالى: وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [الحج: 30].
أخي الحبيب، قبل أن تعصي الله تذكر نعمه الكثيرة عليك، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]، خلقك الله من عدم، وشفاك من سقم، وأسبغ عليك وافر النعم، أطعمك من جوع، وكساك من عُري، وأرواك من ظمأ، قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، فكيف ـ يا عبد الله ـ تبدل نعمة الله كفرًا وفضله وجوده عليك جحودًا ونكرًا؟! كيف تقابل الإحسان بالنكران والعطايا بالخطايا؟! كيف تعصي الله وأنت تتقلّب في نعمه؟! وهل تعصيه إلا بنعمه؟! فبأي وجه تلقى الله وقد أعطاك ومنحك وأكرمك ووهبك هذه النعم ثم تأتي وتعصيه بها؟! أما تخاف من عقابه وتجزع من عذابه وهو القادر على أن يسلبها منك كيفما شاء ومتى شاء؟! فكم من نعمة أسبغها الله على صاحبها فبدّلها كفرًا وأعقبها نكرًا، فكانت نهاية صاحبها خسرًا، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ: 17].
أخي الحبيب، يا من تعصي الله، تذكر أنك تعصي الله في ملكه وفوق أرضه وتحت سمائه، فهل ترضى أنت أن تُعصى في بيتك وملكك وسلطانك؟! أما تخاف أن يطردك الله من رحمته ويحرمك من مغفرته بعد أن بارزته في مُلكه بمخالفة أوامره وارتكاب محارمه؟! أما تخاف أن يكون الرب المنتقم قد غضب عليك عندما تطاولت على حدوده وقدمت مرادك على مراده وقال: اذهب فبعزتي وجلالي لا أغفر لك أبدًا؟! تأكل وتشرب وتضحك وتفرح وتمرح والله من فوق سماواته وعرشه غاضب منك ساخط عليك؛ فويل لمن كان له الويل وهو لا يشعر.
أخي الحبيب، تذكر أن الله شديد العقاب، وأنه عزيز ذو انتقام، ولا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين، وأنه يغار إذا انتهكت محارمه، وما أهلك الأمم السابقة إلا أنهم تعدّوا حدود الله وانتهكوا حرماته وبارزوه بالمعاصي، وما من مصيبة تُلمّ بالعبد ولا عقوبة تقع عليه إلا بسبب بعض ذنوبه ومعاصيه، ولو يؤاخذ الله العبد بكل سيئاته ما تَركَ عَلَيهَا من دَابّة، ولكنه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة. وما أكثر أولئك الذين اعتمدوا على رحمة الله تعالى وعفوه وكرمه وجوده فضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه، ونسوا أنه أيضًا شديد العقاب، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند؛ لأن حسن الظن بالله ورجاء العفو والمغفرة تنفع من تاب وندم وأقلع عن الذنب وبدّل السيئة بالحسنة، أما من يرجو رحمة الله وهو لا يطيعه ولا يمتثل أمره فهذا من الخذلان والحمق.
ترجو النجاة ولَم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وإن من أعظم الاغترار طلب دار المتقين المطيعين بالمعاصي وانتظار الجزاء بغير عمل، ويستحيل في حق الله العادل أن يساوي بين البَر والفاجر وبين المُحسن والمسيء، قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21]، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28].
أخي الحبيب، تذكر يوم تشهد عليك الشهود وتفضحك فيه الجوارح والجلود، فأين يكون مهربك؟! وإلى أين يكون الملجأ والشهود منك والشهادة عليك؟! فتأمل يا مسكين، تعصي الله بها ومن أجلها وتذود عنها ثم تأتي يوم القيامة تشهد عليك! وتذكر أيضًا المكان الذي عصيت الله فيه يأتي يوم القيامة شاهدًا عليك، وتذكر أن الزمان شاهدٌ عليك، وتذكر أن الله أرصد لك وبك ملائكة كرامًا يرونك من حيث لا تراهم ويعلمون ما تقول وما تفعل، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12]، ويوم القيامة يشهدون عليك، فأين المهرب من كل هؤلاء الشهود؟!
أخي الحبيب، تذكر الإحصاء والكتابة عندما يذوب قلبك كمدًا وحزنًا وينحرق أسفًا ولوعة، عندما تُنشر صُحفك المطوية بأعمالك المخزية، أنت نسيتها ولكن الديان لا ينسى، قال تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6].
لم ينسه الملكان حين نسيته بل سجلاه وأنت لاه تلعب
سترى هذه الأعمال حين تأتي ساعة الندم، حينما تذهب اللذات وتبقى الحسرات، حينما تذهب الشهوات وتبقى التبعات، فتذكر كتابًا يبسط ويُنشر بين يديك، وكل ما فيه لك أو عليك، وتذكر أن كل لفظ تقوله وكل فعل تفعله وكل حركة تُصدرها مسجلة عليك وستراها يوم القيامة أمام ناظريك، فاعمل وقل ما يسرّك أن تراه يوم أن تلقى الله يوم القيامة.
أخي الحبيب، تذكر الاستدراج من الله وأنه سبحانه يمهل ولا يهمل، فاحذر أن تكون من أولئك الذين أمدهم الله بالصحة والنعم وهم مقيمون على المعاصي والزلل ويحسبون أن لهم كرامة ومنزلة عنده وهم سقطوا من عينه وهانوا عليه، قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55، 56]، فلا يغررك من الله طول حلمه عليك وستره إياك، فربما كان إمهاله لك مكرًا بك واستدراجًا لك حتى تزداد بالإمهال إثمًا فيزداد عذابك، واحذر أن يكون الله قد مكر بك في إحسانه لك فتناسيت، وأمهلك في غيّك فتماديت، وسقطت من عينه فما دريت ولا باليت. تذكر الموت وسكرته، والقبر وظلمته، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأهواله، تذكر يوم القيامة يوم الحسرة والندامة الذي تكون دعوى الأنبياء وهم الأنبياء في ذلك اليوم: (نفسي نفسي، لا أسألك إلا نفسي، اللهم سلّم سلّم)، فأي حال يكون حالك أنت؟! وأي مقال يكون مقالك في تلك اللحظات الرهيبة التي تأتي فيها وتحمل وزرك الذي بارزت الله به ليلاً ونهارًا سرًا وجهرًا؟! إنه موقف الذل والخزي، فبأي وجه تلقى الله وأنت قد خالفت أوامره وانتهكت حدوده؟! فهل أعددت الحجة وجهزت الجواب للسؤال.
نَفَعني الله وإيّاكُم بهديِ كتابِه وبِسنّةِ نبيِّه، أَقولُ قَولي هَذَا، وَأستَغفِر اللهَ العَظيمَ الجَليلَ لِي وَلَكم ولسائِرِ المسلِمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أخي الحبيب، يا من تعصي الله، إن الله خلقك لغاية عظيمة ومهمة جسيمة، ولم يخلقك عبثًا، ولن يتركك سدى، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقد منحك الله الوقت، وأمهلك حتى تتزود فيه من الطاعات، فإذا بك ـ ويا للأسف ـ تنقلب على وجهك وتنكص على عقبيك فتبارزه بالذنوب والمعاصي، وكلما طالت أيامك زادت آثامك وعظمت ذنوبك والديان لا ينسى، فاحذر ـ أخي ـ من أن تستمر في غيّك ولهوك وإعراضك إلى أن ينقضي زمن المهلة ويأتي زمن النقلة، ولا تصحو إلا على صائح الموت يحدو، وهناك في موضع الندم ومكان الحسرة والألم عندما يهجم عليك الموت فينكشف عنك الغطاء وتقبل على الآخرة بما فيها من الأهوال العظيمة، وتسكب العبرات ترجو الرجوع ولا رجوع، قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99]، فيا قبحَ الحال! ويا بئس المآل!
أخي الحبيب، تذكر أنك عندما عصيت الله كأنك قد انهزمت في المعركة وخسرت الجولة مع أعدى أعاديك، ذلك العدو الذي لا يألو جهدًا في أن يرديك في الهاوية، قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82،83]، فهل تريد أنت أن تكون من عباد الرحمن المخلصين فتنعم ببرد الطاعة ورضا الرب وتقاد إلى دار الجنان والسعادة والأمان، أم ترغب في أن تكون من أتباع الشيطان فتعيش في ظلمة المعصية وتُساق إلى دار العذاب والهوان والنيران؟!
أخي الحبيب، إن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وهو عقبة كؤود ومرتقى صعب، لا يتجاوزه إلا كل مخفّ من الذنوب والسيئات، فهل تريد الجنة وما فيها من النعيم وأنت على المعاصي مقيم؟! وهل تريد سعادة الدنيا والآخرة وأنت متنقل من معصية إلى معصية؟!
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتَجي درج الجنان بها وفوز العابد
و نسيت أن الله أخرج آدم منها إلَى الدنيا بذنب واحد
أخي الحبيب، قد آن لك الآن أن تقلع وتتوب من كل الذنوب، وأن تلتزم بالطاعة التي يُعزك الله بها، والتي فيها سعادتك في الدنيا والآخرة، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد: 16]، بلى، والله قد آن، قد آن، قد آن.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير الورى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا...
(1/5700)
المسلم والمال
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
24/1/1429
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غريزة حب المال. 2- المال سلاح. 3- حث الشريعة على تحصيل المال. 4- المال وسيلة لا غاية. 5- أسباب شرعية لزيادة الرزق. 6- تفاوت الناس في الأرزاق. 7- التحذير من غدر المال وخيانته. 8- زهد النبي. 9- قواعد مهمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل.
واعلموا أن حبّ المال غريزة أودعها الله نفوس الناس، وهذا ليس عيبًا، بل العيب أن يترك الإنسان سلوك طرق الكسب المشرَعَة ويبقى عالة على غيره، وقد كان هناك رجل عابد في عهد رسول الله فقال : ((من ينفق عليه؟)) قالوا: أخوه، قال: ((أخوه خير منه )).
والمال كالسلاح، فهو في يد المجرم يقتل به الآخرين, ولكنه في يد الجندي يدفع به عن وطنه أو يحرس به الأمن في بلده، وقد قال الله تعالى في المال وما يجلب لأصحابه في الدنيا والآخرة من خير أو شر قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى ? وَ ? تَّقَى ? وَصَدَّقَ بِ ? لْحُسْنَى ? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ ? سْتَغْنَى ? وَكَذَّبَ بِ ? لْحُسْنَى ? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى ? وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ?.
عباد الله، إن المال كما يكون زينة الحياة ييسر مباهجها ويقرب شهواتها فقد يكون كذلك سياج الدين وضمان بقائه ومَدَد تسليحه وحماتيه، وقد قال الله في وصف المال والبنين: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا.
وإن المتتبع للقرآن والسنة يرى اعتبار المال الصالح قوام الحياة والحث على تحصيله وحسن تدبيره وتثميره، بل لقد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة على حفظ المال والنفس والعقل والعرض. ومن المسلمات المعلومة بالضرورة أن الإسلام لا يمنع طلبه عن طريق طيبه وحله، بل إنه يحرض على كسبه وحسن التصرف؛ لتقضى به الحقوق وتؤدى الواجبات وتصان الحرمات.
إن المال في الحقيقة لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة لما يضمنه من مصالح ولما يحققه من منافع، إنه في حد ذاته وسيلة لا غاية، والوسيلة عادة تحمد أو تعاب بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة وآثار سيئة.
وخلاصة ما قدمنا به أنه ليس عيبًا طلب المال، فإن المغترب ما اغترب عن أهله ودياره إلا لأجله، وما تعب إلا لتحصيله، ولا ترك فراشه الوثير في برد قارص إلا لجمعه.
وهناك أسباب شرعية لزيادة الرزق منها:
أولا: الإكثار من الاستغفار، قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ، قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار".
ثانيا: التوكل على الله، قال الرسول : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا)) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيره بسند صحيح.
ثالثا: المتابعة بين الحج والعمرة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه النسائي وغيره بسند صحيح. قال أهل العلم: "إزالة المتابعة بين الحج والعمرة للفقر كزيادة الصدقة للمال".
رابعا: صلة الرحم، قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنْسَأ له في أثره فليصل رحمه)) رواه البخاري.
خامسا: الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوِ يُخْلِفُهُ ، وروى مسلم في صحيحه عن النبي قال: ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم، أنفِقْ أُنفِقُ عليك)).
إخوتي في الله، إن من حكمة الله تعالى أن يكون المال متفاوتًا من شخص إلى آخر، فلو اغتنى الناس كلهم على مستوى واحد لفسدت الحياة، ولما عاد لها طعم؛ لأن الفقير يحتاج إلى مال الغني، والغني يحتاج إلى عمل الفقير، وهذه سنة الله تعالى أن جعل الناس مسخرين لبعضهم، فمنهم من سخر لغيره بعمله، ومنهم من سخر بماله، ومنهم من سخر بجاهه، ومنهم من سخر بسلطانه، قال السعدي رحمه الله في قوله تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا : "وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا أي: ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال والحرف والصنائع، فلو تساوى الناس في الغنى ولم يحتج بعضهم إلى بعض لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم" اهـ.
أيها الأخيار، احذروا غدر المال وخيانته، وهل المال يغدر أو يخون؟ نعم، إن المال لا يزال صديق العبد ثم يأتي عليه زمان ينقلب عدوًا له خائنًا لصحبته، وذلك حينما تنعكس القضية، فبدل أن يكون المال في يد مالكه يصبح في قلبه شاغلاً له عن ربه، فيتسلط المال على مالكه فيجعله من أشقى الناس، هل تريدون دليلاً على هذا؟ تذكروا قصة قارون الذي كان يملك أموالاً وخزائن حتى إن مفاتيح تلك الخزائن يصعب على الأقوياء من الرجال حملها، لكنه جعل المال في قلبه واغتر بما عنده ونسي فضل الله عليه، قال الله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ.
إن بعض الناس أضاع دينه وقيمه ونسي ربه بل وأضاع أهله في سبيل تحصيل المال، فصار عبدًا له، فهمه المال، وتفكيره في المال، وغايته جمع المال حتى ولو كان من طريق محرمة، كثر جشعه، وعظم طمعه، وقلّ في سبيل المال حياؤه، وإذا أردت أن تعرف مقصودي فانظر إليهم حينما يصير التعامل بالمال، فهم شحيحون به، وكأنهم ينفقون أرواحهم لا أموالهم، كم قطعوا من رحم! وكم ضيعوا من عيال! وكم عقوا من والدين! وكم أساؤوا إلى جار! وانظر ـ أخي في الله ـ إلى بعض من قلَّ حياؤهم وافتقرت قلوبهم واستعبدتهم أهواؤهم كيف يطلبون المال الذي يستحقونه والذي لا يستحقونه، ولو أن أحدهم سمع بدينار أو درهم أو ثوبٍ بالٍ يوزعه أهل الإحسان لفزع إليه حتى ولو خسر في الحصول عليه راحته وصحته أو دينه أحيانًا.
ولا يلام المحتاج الذي لا يملك ما يسدّ رمقه وعياله، ولكن اللوم كل اللوم ينصبّ على غنيّ اليد فقير القلب الذي لا يشبع، فتراه يستجدي الناس، وتراه يقف على الأبواب لينال تافهًا من الدنيا.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
قلت ما قلت إخواني، وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة، واستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فقد صحّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام تباعًا حتى قبض. رواه البخاري. وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول لعروة: والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله نار، قال: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. رواه مسلم.
وهنا ـ أيها الأحبة في الله ـ بعض القواعد التي أرى أن على المسلم أن يأخذ بها في حياته:
أولاً: لا بد من التأكد حين الحصول على المال هل هو من حلال أو من حرام، فإن كان حلالاً فادع الله أن يبارك لك فيه، وإن كان حرامًا فاجتنبه يعوّضك الله خيرًا منه، واعلم بأن أكل الحرام سبب لمحق البركة وبغض الله ودخول النار، نسأل الله العافية.
ثانيًا: لا تستغل وظيفتك وعملك في أخذ ما لا يحل لك عن طريق الاختلاس أو الرشوة، أو تسوّغ لنفسك أخذ شيء بحجة أنك أنت المسؤول. واعلم أن أخذك من أموال الدولة شيئًا أعظم جرمًا من أخذك لمال أحد من المسلمين؛ لأن أخذ شيء من أموال الدولة يعدّ ظلمًا للمسلمين كلهم.
ثالثًا: لا تدّخر من مالك شيئًا يحتاجه أهلك وعيالك، بل أنفق عليهم؛ فإن الإنفاق عليهم من أعظم القربات عند الله، واحتسب في ذلك الأجر من الله، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه : ((أفضل الدينار دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
رابعًا: إن استطعت أن تنفق على تعليم عيالك وتثقيفهم وتربيتهم أكثر من إنفاقك على مطعمهم وملبسهم فافعل؛ لأن التعليم والتثقيف والتربية سبب لحصول المال بإذن الله، أما إهمال تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم فإن ذلك مؤذن بتنشئة جيل جاهل كسول دنيء الهمة، واختر لهم مما يقرؤون ويشاهدون ويلعبون ما يزيدهم ذكاء وثقافة ونشاطًا وعلمًا.
خامسًا: إياك أن يذلك المال فتقف أمام أحد تستجديه شيئًا من الدنيا مهما كانت مكانته وقدره، قال رسول الله : ((ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)) رواه أحمد والبزار.
سادسًا: ادع الله تعالى أن يغنيك وأن يكفيك الفقر، فعن عليّ رضي الله عنه قال: ألا أعلمك كلماتٍ علمنيهن رسولُ الله ، لو كان عليك مثل جبل صِيرٍ دينًا أداه عنك؟ قل: ((اللَّهُمَّ اكْفِني بِحَلالِك َ عَنْ حَرَامِكَ، وَأغْنِني بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ)) قال الترمذي: "حديث حسن".
فنسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين المتوكلين عليه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
وصلوا ـ عباد الله ـ على نبي الرحمة وإمام الأمة محمد بن عبد الله.
اللهم صل عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، والصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم يا جواد جد علينا، ويا كريم أكرمنا، ويا رحيم ارحمنا، ويا غفور اغفر لنا، ويا رزاق ارزقنا، وأنت رب العالمين...
(1/5701)
العزاء بين السلف والخلف
الأسرة والمجتمع, فقه
الجنائز, قضايا المجتمع
صهيب بن محمود السقار
بنغازي
مسجد المشعر الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المصيبة بالموت في هذا الزمن. 2- مظاهر سيئة في العزاء في هذا الزمان. 3- ضرورة التوسط والاعتدال في العزاء. 4- نماذج من عزاء السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
فالحمد لله الذي جعل الموت مصيبة، والحمد لله الذي جعل المصيبة للمؤمنين من بعد ذلك صلوات من ربهم وهدى ورحمة. ونحن اليوم نرى صورة المصيبة بالموت ثقيلة، لا نرى فيها معالم الصلوات والهداية والرحمة. نحن اليوم نرى استقبالنا للموت كأنه ينزل بغتة وفجأة على مخلوق، كأنه موعود بالخلود!
أيها المسلم، هل ترضى أن يكون يوم التعزية بوفاتك موعدا للقمعزة والهدرزة؟! هل ترضى أن يكون في جمع المعزين من يتلفّت يمينا ويسارا يحنّ إلى قطع اللحم أكثر من حنينه إليك؟! هل ترضى أن يكون حجم قطع اللحم مقياسا يعبَّر عن تقديرك عند أهلك؟! هل ترضى أن يكون معصية النساء بمجاوزة الحد في الحداد معيارا يعبَّر فيه عن الألم بفقدك؟! هل ترضى أن تسدّ طرقات المسلمين بموتك لكثرة ما اجتمع فيها من المتكلّفين والمجاملين؟! هل ترضى أن يحعلوا من طرقات المسلمين ساحة لا يتناسب شيء من مظاهرها مع حكمة العزاء ومشروعيته؟! حتى القرآن الذي يقرأ فيها تقرؤه المسجّلات، تركه الأحياء لمن سبق إليه الموت من قرّاء المسلمين! هل ترضى أن يكون مصاب أهلك بتكاليف التعزية أعظم من مصابهم بفقدك؟! هل ترضى أن ينفق الشباب من مدخرات زواجهم لإطعام خليط المعزين في يوم وفاتك؟! ما من مسلم يتمنى أن تكون صورة التعزية بوفاته كمثل صورة التعزية التي يشارك بها اليوم.
من منا ينكر أن الصورة التي انتهى إليها العزاء تخالف الأدب الذي يقتضيه نزول المصيبة؟! يجتمع الناس على شرب الشاي والقيل والقال، وينتظر أهل الميت طوال أيامٍ وليال على مقاعد لا يصبرون على الجلوس عليها دقائق معدودة، تراهم يتململون منها مرات بعد مرات يقومون ويقعدون، وتصطكّ عظام الشيوخ من كثرة المصافحة وحرارتها. فكيف تكون هذه الصورة تسلية وتصبيرا لأهل الميت؟!
نحن اليوم جميعا إذا خلا بعضنا إلى بعض تحدّثنا عن أثقال عادات العزاء وتكاليفه، ولكن من منّا يتجاوز مجرّد اللوم والنقد إلى التصحيح والإنكار؟! لماذا يرفع المتديّنون وعمّار المساجد يد الاستسلام والعجز عن إنكار هذا المنكر؟! إلى متى ينتظر المتدينون من الله أن يصلح الحال من عنده؟! ألم نعطل ونؤجّل كثيرا من مشاريع تزويج أولادنا وبناتنا لأنا استهلكنا المدَّخرات بتكاليف العزاء؟! ألم نعطّل ونؤجل كثيرا من مشاريع تزويج أولادنا وبناتنا لأنا أردنا أن نراعي مشاعر الحزن؟!
أما علي رضي الله عنه فقد تزوّج بعد وفاة سيدة نساء العالمين بسبع ليال، فما باله رضي الله عنه؟! ألم يراع مشاعر فراق الزهراء البتول رضي الله عنها؟! وما بال الكثيرين من سلفنا فعلوا مثل ذلك، ولم يعطلوا الحياة بموت أحد؟!
لا تعني الدعوة إلى إنكار هذا المنكر أن نتخلّف عن التعزية، ولا تعني أن نبالغ في الإنكار، وإنما ندعو إلى التوسّط والاعتدال بالمعروف والمشروع. نريد أن ننكر القدر الذي اتفق الفقهاء على إنكاره وتحريمه من غير أن ننحرف عن ظرف المصيبة والتعزية إلى نقاش وصراع جدلي عقيم.
من التوسط والاعتدال في إنكار هذا المنكر أن نتفهم أن الموت مصيبة بنصّ القرآن الكريم، فقد قال تعالى: فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ، فلا ينكر أحد الحزنَ والأسف، لأن الله فطر البشر على الأمن من حلول المنايا والحزن على فراق الأحباب، وإنما ينكر الإفراط فيه وترك النفس لتسترسل في حزنها حتى تصل إلى مجاوزة الحد المشروع إلى النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب.
اتفق الفقهاء على تحريم النياحة على الميت، كان من عادات العرب في الجاهلية اجتماع النساء على البكاء على الميت، لكن الإسلام استأصل هذه العادة بوعيد شديد، يقول فيه نبينا محمد : ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تلبس يوم القيامة سربالا من قطران ودرعا من جرب)).
يجب أن نرجع إلى سيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم، يجب أن نستفيد من تجربتهم في استئصال هذه العادات التي كانت مستحكمة فيهم، ثم أفلحوا في استئصالها واستبدالها بهدي محمد ، أفلحوا في ذلك لأنهم لم يجاملوا كما نجامل اليوم.
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يضع رأسه في حجر زوجته في مرض وفاته، فيسمع منها شيئا يكرهه، ثم يغيب عن وعيه، فلما أفاق غالب نزع روحه وقال: أنا بريء ممّن برئ منه رسول الله ، إن رسول الله برئ من الصالقة يعني: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة.
كان الاجتماع إلى أهل الميت والمبيت عندهم من أمر الجاهلية أيضا، لكنهم لم يجاملوا في إنكاره. ماتت أخت لعبد الله بن عمر فاجتمع بعض النسوة في بيته، فلما أقبل الليل قال ابن عمر: اخرجن من بيت أختي؛ لا تبيتَن أختي بالعذاب.
اتفق الفقهاء على إنكار الاجتماع على الطعام الذي يصنعه أهل الميت، فقد كانت عادة من عادات الجاهلية، فلما أخرج الله سلفنا بالإسلام من الظلمات إلى النور قالوها صريحة من غير تلميع ولا تلطيف، قالوا: لطم الخدود والطعام الذي يصنعه أهل الميت كل ذلك من فعل قوم لا خلاق لهم، وقال جرير رضي الله عنه: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة.
هذا هدي قوم لم يقدّموا رضا الخلق على رضا محمد ، هذا هدي قوم لم يكن خوفهم من تعيير الناس أشد من خوفهم من ربهم تبارك وتعالى.
قارن هذه الصورة التي تشارك في رسمها بصورة العزاء عند سلفنا رضوان الله عليهم، أولئك الذين صيَّروا الموت من بعد مصيبة صلواتٍ من ربهم وهدى ورحمة، يقول سعيد بن جبير: ما أعطيت أمة ما أعطيت هذه الأمة التي أعطيت قوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ.
دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال: يا بنيّ، كيف تجد نفسك؟ قال: أجدني في الحقّ، فقال له: يا بنيّ، لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبتِ، لأن يختار الله لنا ما تُحبُّ أحبّ إليّ من أن يختار لنا ما أحب. فلقّنه وأسلمه إلى ربه، ثم كشفَ عن وجهه وقال: رحمك اللّه يا بنيّ، فقد سررت بك يوم بُشِّرْتُ بك، ولقد عشت عمريَ مسرورًا بك، وما من ساعة أنا أسرّ فيها بك من ساعتي هذه، وكيف تكون ساعة أسر من ساعة تسبق فيها أباك إلى الجنة وتدعوه إليها. ولما قام على قبره قال: رحمك اللّه يا بنيّ، فقد كنت سارًّا وبارًّا، رضينا بقضاء الله وقدره، ووالله ما أحبّ أني إذا دعوتك الآن أن يردّك الله إليّ فتجيبَني. فلما جاءه رجل يعزيه قال له عمر: يا ابن أخي، هذا الأمر الذي نزل بعبد الملك أمرٌ كنّا نعرفه، فلما وقع لم ننكره.
هذا جزاء من ذكر الموت وتذكّره وذكّر به، إذا نزل به الموت لم يصعق به كأن الله وعده أن يكون من الخالدين، قال: يا ابن أخي، هذا الأمر الذي نزل بعبد الملك أمرٌ كنّا نعرفه، فلما وقع لم ننكره.
هذه صورة الإيمان التي جعلت مصيبة الموت صلوات وهدى ورحمة، فمن يجدد الإيمان والعمل حتى نعيد فينا صلوات الله مع هدايته ورحمته، ينبغي أن نعمل وننكر حتى تعيد المؤمنات صور الإيمان في مناسبات العزاء.
أمّ خرج أولادها الثلاثة في سبيل الله، خرجت إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجلٌ من رفاق أبنائها، فسألته عن أمور بَنِيها، فقال: اسْتُشهدوا في يوم واحد، فقالت: جميع أبنائي في يوم واحد؟ فقال لها: نعم، فقالت: مُقبلين أو مُدبرين؟ فقال: بل مُقبلين، فقالت: الحمد للّه صانوا العرض ونالوا الفوزَ وبنفسي هم وأبي وأمي.
أيتها المرأة المسلمة، تأمّلي كيف كان قلب المؤمنات بعد هدي الإسلام ونوره.
لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت ابنته أم حبيبة رضي الله عنها في اليوم الثالث بطيب، فمسحت خديها وذراعيها وقالت: ما لي بالطيب من حاجة لولا أني سمعت رسول الله يقول: ((لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا)).
هذه الأسوة التي ينبغي أن تقتدي بها المؤمنات، هذه الصورة التي تبدل مصيبة الموت بصلوات الله مع هدايته ورحمته.
بهذا الإيمان تحيل المؤمنة مصيبة الموت إلى هداية وصلوات ورحمة، صلوات ورحمة وهداية ينالها من يقطع الحزن والحداد في اليوم الذي أمر الشرع بقطع الحداد فيه، فهل من مؤمنة ترضى أن تكون محلّ شؤم مستمر بطول حدادها؟! هل ترضى المؤمنة أن تكون منبعا للبؤس الطويل والأحزان؟! أليس خيرا من ذلك أن تكون بإيمانها فيضا على أهلها بصلوت الله وهدايته ورحمته؟!
ونحن نتداول الحديث عن هلاك بعض المعزين في طريقهم لأداء واجب العزاء ينبغي أن نعلم أنّ الشرع ما كلّفنا أن نضرب أكباد الإبل من أجل التعزية، فمن رأى أن يقوم بهذا الواجب فلا بأس، لكن الشرع لم يكلفه بذلك، يكفيه أن يكتب رسالة أو يتصل اتصالا، والشرع إنما قصد بالتعزية تسلية أهل المصيبة وحثهم على الصبر والاحتساب، وهذا المقصود يحصل من غير سفر ولا انتقال.
وقد فعله أعرف الخلق بالأدب والواجب والذوق الرفيع، فلما مات ابن لمعاذ بن جبل كتب إليه رسول الله يعزيه فقال فيه: ((أعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، وإن أنفسنا وأموالنا وأولادنا من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة، نتمتع به إلى أجل معدود، ويقبضها لوقت معلوم، وقد افترض علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا ابتلى)).
نحن اليوم نعترف بالخطأ ونعرف الحق ثم يبقى كل واحد منا ينتظر من غيره أن يبدأ بالتضحية في إبطال هذه العادات المنكرة ووقف سيلها الجارف، لكن قوما آمنوا بوعد محمد لما قال: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة)) ، قوم تدبّروا قول الله تبارك وتعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ، قوم تدبروا قول نبيهم محمد : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) ، قوم قال فيهم حبر الأمة عبد الله بن عباس: لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنة وأحيوا فيه بدعة حتى تموت السنن وتحيا البدع، ولن يعمل بالسنن وينكر البدع إلا من هوّن الله عليه إسخاط الناس بمخالفتهم فيما أرادوا ونهيهم عما اعتادوا، ومن يسر لذلك أحسن الله تعويضه، قال رسول الله : ((إنك لن تدع كالله خيرا منه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5702)
ماذا بعد الحج؟!
فقه
الحج والعمرة
يوسف بن أحمد القاسم
الرياض
جامع الشيخ عبد العزيز الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الراكب كثير والحاج قليل. 2- واقع سلوك الحجاج أثناء المنسك وبعد المناسك. 3- الحج الحقيقي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى.
أيها الإخوة في الله، من أروع الكلمات المعبرة والمأثورة عن ابن عمر رضي الله عنه وشريح وغيرهما قولهم حين رأوا ما أحدث الحجاج في زمانهم: (الراكب كثير, والحاج قليل)، والفرق بين الراكب والحاج هنا كالفرق بين المصلي ومقيم الصلاة, والمصلي هو من يؤدّي الصلاة ظاهرًا بحركاتها وأشكالها وقلبه غافل ساه, أما مقيم الصلاة فهو من يؤديها بخشوع وحضور قلب, وهذا الأخير هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر, وهذا ما ألمح الله تعالى إليه في قوله: وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]، وهكذا الحج, وإذا كانت تلك العبارة المأثورة قد أطلقها سلفنا الصالح قبل مئات السنين حيث القرون المفضلة فما الظنّ في حجاج عصرنا الحاضر؟!
أيها الإخوة في الله، وإذا أردنا أن ندرك الواقع كما هو دون تزويق فلننظر في واقع سلوك الحجاج أثناء تأديتهم للنسك, ولنرقب سلوكهم بعد رجوعهم من هذه الشعيرة العظيمة, فكم من حاج أدّى حج هذا العام بل كم من حاج يواظب على أداء هذا النسك كل عام ثم تراه في حجه يشتم هذا, ويلغ في عرض ذاك, وربما يمسك عن كثير من المنكرات أثناء تأديته لنسكه, فإذا فرغ من حجه ورجع إلى بلده تراه يعود إلى سابق عهده, حيث قطيعة الرحم, أو سوء معاملة القريب والبعيد، أو أكل أموال الناس بالباطل, أو ما يمارسه من ظلم لهذا أو ذاك، ولو شققت عن قلبه لوجدته كما هو, حيث الكبر والتعالي, أو العجب, أو الحسد والحقد. فأين حظ هذا من الحج؟! وهل أدى هذا الحاج نسكه عادة أم عبادة؟!
أيها الإخوة في الله، إن من حج تعبدًا لله تعالى وإخلاصًا له وتقربًا إليه ترى أثر الحج عليه ظاهرًا في سلوكه وأخلاقه ولو حج مرة في حياته, أما من حج عادة أو رياء وسمعة ليقال عنه: "حاج" ـ وقد قيل ـ فهذا لا ترى أثرًا للحج في سلوكه ومعاملاته مع الله تعالى أو مع الناس ولو حج كل عام، بل تراه يعود إلى سلوكه الأول كما هو قبل الحج.
ولنقف موقف مصارحة يا عباد الله، فأين الحاج الذي يرجع من حجه فيحاسب نفسه, وينظر في أسلوب حياته وصِلاته بوالديه وزوجه وأولاده, وسلوكه في وظيفته وتجارته, وفي مصادر ثروته وطرق إنفاقه, فيقيسها بميزان الشرع لا بميزان الهوى؟! فكم من حاج يرجع إلى أسلوب حياته قبل حجه، فيعود إلى التقصير في حقوق والديه مما كان سببا في تنغيص حياتهما كما هو على ذلك كل عام, أو تراه يعود إلى ظلم زوجه وأم أولاده وسوء عشرتها مما كرّه إليها بسوء معاملته عيشها وحياتها كما هو على ذلك كل عام, أو يعود إلى ما هو عليه من التحايل على أكل أموال الناس بالباطل حتى فاحت رائحته وأزكمت الأنوف, فأين أثر الحج في سلوك هذا وأمثاله؟! لقد تخفف هذا الحاج من ملابسه, ولبس لباس الحاج, ولم يتخفف من أثقال الذنوب! وحلق هذا الحاج رأسه أو خفف منه, ولم يتخفف من ظلم الأهل والأقربين أو المستضعفين! وذبح هذا الحاج نسكه ونحر هديه, ولم ينحر هواه الذي زين له سوء عمله! وبات هذا الحاج في مزدلفة ومنى ورمى الجمرات الثلاث ولم يرم شيطانه الذي جرى في دمه وبات في خيشومه وتربع على عرش قلبه وفؤاده! فكيف يعود من هذا حاله بعد حجه كيوم ولدته أمه وهو كهو يوم سافر إلى حجه؟!
إن المسلم المخلص في عبادته والصادق مع ربه تراه دائم المحاسبة لنفسه, فيظهر أثر العبادة عليه صدقًا لا تصنّعًا, وهذا وحده المنتفع بالعبادة دون كل من سواه.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5703)
عيد الأضحى 1428هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق, مواعظ عامة
عبد الله بن علي الطريِّف
عنيزة
10/12/1428
جامع القاضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة العيد. 2- تحريم الدماء والأموال والأعراض. 3- مفاسد الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة. 4- الرفق بالحيوان. 5- التكبير في أيام العيد. 6- العيد في الإسلام. 7- الحث على حسن المعاملة. 8- كلمات للأخوات المؤمنات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة، اتقوا الله تعالى، واعرفوا فضله عليكم بهذا العيد السعيد، وهو يوم الحج الأكبر، عيدٌ امتلأت القلوب به فرحا وسرورا، وازدانت به الأرض بهجة ونورا، يوم يخرج المسلمون فيه بالأمصار إلى المصلى لربهم حامدين معظمين، وبنعمته مغتبطين، فلله الحمد رب العالمين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، في مثل هذا اليوم وقف رسول الله الكريم في جماهير المسلمين بمنى يخطبهم ويقرر تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، فعن أبي بكرة عن النبي قال: ((لقد استدار الزمان كهيئته يومَ خلق الله السمواتِ والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعةٌ حرم، ثلاثةٌ متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) ، ثم قال: ((أيُ شهرٍ هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم! فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى، قال: ((أي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم! فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس البلدةَ؟)) قلنا: بلى، يعني مكة البلد الحرام، فقال: ((فأيُ يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى، قال: ((فإن دماءَكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) ، وفي رواية: ((إلى يوم تلقون ربكم، وستلقون ربكم فيسألُكم عن أعمالِكم، ألا فلا ترجعُنَّ بعدي كفارا ـ أو: ضلالا ـ يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهدُ الغائبَ)) ، ثم قال: ((ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له. قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، إنها الوصية لأمته.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، لقد أكد النبي في هذا اليوم العظيم والموقف والمجمع العظيمين في حجة الوداع تحريم هذه الأشياء الثلاثة: الدم والمال والعرض، بعد أن قررهم بعظمة الزمان والمكان، وقرن بينها قرانا لا انفصام بعده إلى يوم القيامة بنص محكم صريح، فمن الذي أباح لأولئك الضلالِ الخارجين على الأمةِ وسلطانِها دماءَ المسلمين يريقونها بغيًا وعدوانًا؟! ومن الذي أباح لهم أموالَ المسلمين العامة والخاصة يتلفونها؟! ومن الذي أباح لهم أعراض العلماء وولاة الأمر ينتهكونها؟! إنه الضلال ولا شيء غيره، نعوذ بالله من أحوالهم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، ما سلف ذكره من انتهاك للدماء والأموال وللأعراض بتلك الصورة لا يفعله بفضل الله إلا شرذمة من الناس قد مكّن الله من كثير منهم، وهم في زوال وإلى زوال إن شاء الله.
وفي هذا الزمان جدّت وسائل حديثة لانتهاك أعراض المسلمين، تعدّت حديث المجالس إلى المنتديات الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت أو غيرها من الوسائل.
نقول لهؤلاء: اعلموا أن الكتابة أو الحديث عبر هذه الوسائل لا يخرج الفاعل عن دائرة الاعتداء على الأعراض، سواء بالغيبة أو البهتان. ألا فليتق الله أولائك الكتاب المجهولون والذين رضوا لأنفسهم بأسماء وهمية غريبة، وليتذكروا قول الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، وقوله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ، وقول رسول الله في الحديث الصحيح: ((من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنهُ اللهُ رَدْغَةَ الخَبَالِ حتى يخرج مما قال)) ، وهي وحل عصارة أهل النار أو عرقهم. رواه أبو داود [3597].
عجبا لهم! ثم عجبا لهم! كيف لهم أن يطلبوا الحِلّ من كل من اغتابوه أو بهتوه؟! هيهات هيهات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟!
ثم أوجّه نداءً صادقًا لأصحاب المواقع والمنتديات: إن عليكم أن تتقوا الله في إخوانكم، ولا تمكّنوا هؤلاء المعتدين من أعراضهم، وتهيئوا لهم الفرص، واعلموا أنكم آثمون بذلك.
أيها الأحبة، متى نرتقي بخطابنا النقدي عن الهمز واللمز والافتراء والتشفي والحسد؟! ومتى تكون هذه المنتديات أيادي بناء لا معاول هدم لنسمو بالأمة إلى مدارج التطور والرقي؟! أسأل الله أن يتحقق ذلك عاجلا غير آجل.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة، في هذه الساعة المباركة يرمي حجاج بيت الله جمرة العقبة مكبرين لله ومعظمين، ثم ينصرفون إلى ذبح هداياهم لله متقربين، فهنيئا لهم ذلك وتقبّل الله منا منهم. أما بقية أهل الأمصار فقد شرع الله لهم صلاة العيدِ ليقيموا ذكره، ثم يذبحون ضحاياهم على اسم الله مكبرين. ومن السنة أن يذبح الإنسان أضحيته بنفسه إن أمكن، وإلا فليحضر ذبحها.
أيها الإخوة، لقد سما هذا الدين بالتعامل حتى مع الحيوان، فقد جمع أهل العلم مجموعة من الآداب سموها آداب الذكاة، منها رحمة البهيمة، قال رجل: يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال : ((والشاة إن رحمتها رحمك الله)).
ومنها الإحسان إلى الذبيحة، قال رسول الله : ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)). ومن الإحسان سرعة الذبح وإعداد السكين إعدادا جيّدا قبل الذبح.
ومنها ما رواه ابن عباس أن رجلا أضجعَ شاةً وهو يُحِدُ شفرته، فقال له النبي : ((أتريد أن تميتها موتات؟! هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها)).
ومنها ما نهى عنه رسول الله من أن تعجل الأنفس قبل أن تزهق، ومن العجلة عليها سلخها أو كسر عنقها قبل أن تموت.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة، وأيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله ونحر للأضاحي، ومن الذكر المشروع التكبير المقيد عقب الصلوات، فبعد قول المصلي: "أستغفر الله ثلاثا اللهم أنت السلام..." يأخذ بالتكبير ما يشاء، ثم يعود إلى الذكر المشروع، وينتهي عصر يوم الثالث عشر، ويشرع التكبير في كل وقت، فقد كان السلف يداومون عليه في هذه الأيام العظيمة استجابة لأمر الله حيث قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة، العيد في الإسلام مظهر من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حكمٍ عظيمة ومعانٍ جليلة وأسرارٍ بديعة لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها، فالعيد بمعناه الديني شكرٌ لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب، ولكنها تعتلج في سرائره رضًا واطمئنانًا، وتنبلج في علانيته فرحًا وابتهاجًا.
والعيد في معناه الزمني قطعة من الزمن خصّصت لنسيانِ الهمومِ واطراحِ الكُلفِ واستجمامِ القوى الجاهدة في الحياة.
والعيد في معناه الاجتماعي يومُ الأطفالِ يفيضُ عليهم بالفرحِ والمرحِ، ويوم الفقراء يلقاهم باليسر والسعة، ويوم الأرحام يجمعها على البر والصلة، ويوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور، ويوم الأصدقاء يُجدد فيهم أواصر الحب ودواعي القرب، ويوم النفوس الكريمة تتناسى أضغانها، فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض، ويجتمع الناس في تواؤم على الطعام وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: جمعُ الناسِ للطعام في العيدين وأيامِ التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سَنَّها الرسولُ ، وفي هذا كله تجديد للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب والوفاء والإخاء.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، لنفرح بالعيد، ولنظهر السرور فيه بما أباح الله، ففرحنا بعيدنا من الأعمال التي نؤجر عليها؛ لأنها من شعائر الدين التي يفعلها المسلمون حتى وإن كانوا في معاناة أو ترقب محنة.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة، دأب الناس في الشتاء على الخروج للبر للنزهة والراحة، وهذا مما أحل الله وأباح، وربما هو مطلب شرعي لما فيه من ترويح للنفس وصلة للرحم باجتماع بين الأقارب والأصهار، لكن لا بد من حماية هذه اللقاءات من الوقوع في الحرام أو التفريط بالواجبات، أقيموا الصلاة في هذه المخيمات في وقتها جماعة، وارفعوا الأذان، واحذروا مجالس الفحش والرذيلة، وجنبوا نساءكم التبرج والاختلاط، واحذروا ظلم العمال الذين تستعينون بهم فيها، وإياكم وإفساد البيئة وإتلاف أشجارها والعبث بها، واتركوا المكان أفضل مما كان؛ فهذه الأماكن لكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة، الحياة مجموعة من التعاملات بين الناس، وحسن التعامل بينهم مطلب إنساني جمعه الغربيون حين رأوا الحاجة الماسة إليه، وسموه: مهارات الاتصال الفعال والعلاقات الإنسانية، ولو ذهبت تستقري مفردات تلك التعاملات الراقية التي يدعون إليها لوجدت أن ديننا الإسلامي قد حث عليها ودعا لها، ويتميز المسلم عن غيره إذا أحسن التعامل بأن الله يثيبه عليه، ويوفقه لما هو أفضل منه من الأخلاق، ولعلي ـ أيها الإخوة ـ أشير إلى شيء من ذلك للتمثيل والذكرى، وهي مما يستقى من معين الإسلام الصافي.
احرص أن تنادي الآخرين بأحب الأسماء إليهم، وكن صادقا في تحيتك لهم، وبادر بها مع الابتسامة، وصافحهم عند اللقاء، كن مصغيا جيدا لمن يحدثك، وأقبل عليه بكليتك، تعامل مع الناس بالرفق واللين، ولا تغضب فإنها وصية رسول الله، الفت نظر الآخرين إلى أخطائهم بشكل غير مباشر، ولا تهنهم وأنت تنصحهم، وعليك بـ"ما بال أقوام"، عود نفسك أن لا تتدخل فيما لا يعنيك، فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، كن سمحا، واقبل العذر وإن كان أقل مما تريد، لا تكثر التشكّي فيملَّك الناسُ وتقع في المحذور، لا تعامل الناس باحتقار واستعلاء، فالمسلم أخو المسلم، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه، أدخل السرور على قلوب إخوانك تَحُزْ حبهم ورضا ربك، ابتسم ثم ابتسم ثم ابتسم فأنت بالابتسامة أجمل، وهي لغة صامتة يفهم منها الآخرون أنك تحبهم وتحترمهم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني النبي منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي، رغم أن الآخرين لا يستطيعون قراءة ما يدور في ذهنك، إلا أنهم يقرؤون لغة الجسد؛ ولذلك نهى النبي عن التدابر.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
كان من هدي النبي تخصيص النساء بحديث خاص يوم العيد، وحيث إن ما ذكرنا اليوم يهمّ الرجال والنساء على حد سواء فليس هناك مزيد إلا التأكيد على دور المرأة في المجتمع والأسرة وأنه دور كبير ومهم ومؤثر، فالله الله، إياكنَّ أن تتخلين عن دورِكُنَّ أو تتنازلن عنه لأحد سواء من الخادمات أو غيرهن، فالمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، بيوتنا ـ أيها الأخوات ـ اليوم بحاجة لأم حانية على أولادها، تربيهم على الإيمان والتقوى ومعالي الأمور، وبحاجة إلى مرشدة ومعلمة لأسرتها يُقتدى بها في الخير وتحفز عليه، وبحاجة إلى زوجة عطوف متوددة إلى زوجها تكرمه إذا حضر وتحفظه إذا غاب، تعينه إذا أقبل على الخير وتثنيه عن الشر إذا توجه إليه، بحاجة إلى معلمة في المدارس لبنات المسلمين تربيهن على حسن الأدب ومكارم الأخلاق قبل المعارف والعلوم، مع الموازنة بين حق العمل والمنزل بجميع معطياته. كل هذه المهام وغيرها مطلوبة من امرأة واحدة، إنه تحدٍّ لا يقدر عليه إلا الموفقات، فسلام من الله عليهن وبركات.
(1/5704)
الغلاء وارتفاع الأسعار
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله الملحم
الهفوف
12/12/1428
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصيبة غلاء الأسعار. 2- آثار هذه الأزمة. 3- كل شيء بقضاء الله وقدره. 4- أسباب الغلاء. 5- نداء ومقترحات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي من معصيته ومن مخالفة أمره، كما أمر بذلك الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 71، 72].
عباد الله، منذ شهور ليست بالبعيدة اجتاح بلادنا وحش جديد كشّر عن أنيابه فافترس الفقراء, وألحق هزيمة نكراء بكافة أفراد الطبقة الوسطى من المجتمع, فتخوّف منه أصحاب الطبقة الغنية أن يصلهم هذا الطوفان فيأخذ ما جمعوه طوال الأعوام، فتنادى الجميع لولاة أمرهم أن أغيثونا, أغيثونا يا عبد الله.
تلكم المصيبة هي غلاء الأسعار، لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية، ووصل جنون الأسعار إلى حليب الأطفال وأدوية المرضى وحتى أعلاف المواشي, فتضرر من هذا كافة شرائح المجتمع, بل حتى الجمعيات الخيرية التي تساعد الفقراء والمحتاجين تضررت من هذا الغلاء.
وإيمانا منا بدور خطيب الجمعة في تلمس حاجات المجتمع وتقديم ما يراه مناسبا لهم بما تجود به معرفته من وجهة شخصية قد يعتريها الصواب والخطأ، وإيمانا منا برغبة ولاة الأمر ـ حفظهم الله ـ في استقبال ما يقدَّم من حلول مناسبة لهذا البلاء أو مشاركة في علاج هذه الظاهرة، كل بحسب طاقته وقدرته وإمكاناته, وكل بحسب موقعه ومسؤوليته, فإننا ـ عباد الله ـ يمكن أن نقول: إننا بحاجة إلى بعض الوقفات نلقي من خلالها الضوء على هذه المصيبة، ثم نشارك بمقترح نسأل الله سبحانه أن يساعد في كشف هذا البلاء عن مجتمعنا عاجلا غير آجل.
الوقفة الأولى: آثار هذه الأزمة:
إن هذه الأزمة لها آثار سلبية على الفرد والمجتمع، فعندما يعجز الفقير عن شراء ما لا غنى له عنه ويتحمّل متوسطو الحال ديونًا يعجزون عن أدائها يلجأ البعض إلى طرق غير مشروعة للحصول على المال وتوفير ما يحتاجون، وحينها لا يبالي ضعيف الإيمان أمِن حلال أخذ المال أم من حرام، فتنشأ السرقات والغش والسطو والرشوة وبيع الأعراض, وتنمو الأنانية والشحّ والبخل، وتتعمّق الفجوة بين الغني والفقير، وتضعف الروابط وتنقطع الصلات؛ لذا ستترك هذه الأزمة إذا طالت آثارًا نفسية خطيرة على بعض النفوس التي تشعر بالمعاناة في تأمين المعيشة والوفاء بالاحتياجات الضرورية ومتطلبات من يعولون.
الوقفة الثانية: الإيمان بقضاء الله:
رغم إيماننا بوجود أسباب لهذه الظاهرة السيئة, إلا أننا مؤمنون في نفس الوقت أن ما يحصل للأمم والشعوب من الشدة والرخاء والسراء والضراء كل ذلك بقدر الله تعالى القاهر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو سبحانه القابض الباسط الرازق المسعّر لعباده في حياتهم ومعاشهم، وله تعالى في كل ذلك حكم بالغة، علمها من علمها وجهلها من جهلها, وربما ـ والله أعلم ـ أن من تلك الحكم ابتلاء العباد ليظهر صبرهم وشكرهم، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.
الوقفة الثالثة: أساب الغلاء:
مع إيماننا بقدرة الله سبحانه وتعالى على كل شيء وعدله في كل شيء, فهو لا يضع بلاء على عباده إلا بذنب أو سبب؛ لأنه أرحم بعباده من الأم بولدها؛ لذا أعتقد أن ما حصل من ارتفاع للأسعار والغلاء في المعيشة كان له أسباب, من أعظمها الذنوب التي نقترفها صباح مساء. من هذه الذنوب وأعظمها منع الزكاة والتعامل بالربا وأكل أموال الناس بالباطل إما غشا في السلع أو تدليسا في المعاملات أو رشاوي، وغيرها من الذنوب المؤذنة بنزول العقوبات الشديدة من الله وذهاب البركات أو نقصها منه سبحانه، قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، وقوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
ومن الأسباب أيضا تفشّي ظاهرة الإسراف في حياتنا على كافة المستويات، حيث تحول الإسراف من سلوك فرديّ لدى بعض الميسورين أو ذوي الدخول الجيدة إلى ظاهرة عامة تجتاح أغلب طبقات المجتمع، فالذي عنده مال يسرف، والذي لا يجد المال يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته الكمالية والتفاخرية, مما يحتاجونه وربما ما لا يحتاجون إليه، وأضحى الواحد منا يشكي من قلّة دخله ولو كان كثيرا، ومن كثرة مصروفاته ولو كان أكثرها ليس محتاجًا إليه.
تذكر ـ يا عبد الله ـ عموم قوله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وقال : ((كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة)) رواه النسائي وابن ماجة.
ومن أسباب التضخم أيضا وغلاء الأسعار تلاعب بعض التجار والجشعين منهم بأسعار السلع دون محاسبة لهم, ولا سيما السلع الرئيسية والتي لا غنى للفرد عنها من مأكل ومشرب وملبس, وذلك من خلال استغلالهم لرفع الرواتب التي منح المواطن إياها, أو لما تمرّ به الدولة من انتعاش اقتصادي نظير رفع أسعار البترول؛ لذا على التجار أن يتقوا الله تعالى في إخوانهم المسلمين، وأن يتذكروا قول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد)) ، كما نذكره بدعوة نبينا للتاجر المتسامح بقوله عليه الصلاة والسلام: ((رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى)) أخرجه البخاريّ؛ لذا أوصي أخواني التجار بالتيسير على الناس وإنظار المعسرين ومراعاة الفقراء والمساكين, وكذلك بواجب الصدق والأمانة في معاملاتهم كما قال : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) رواه مسلم. وأحذّرهم في نفس الوقت من الاحتكار للسلع وحبسها في المستودعات مع حاجة الناس لها؛ مما يرتفع معها الأسعار؛ لأن النبي جاءَ بالوعيد الشديد لمن دخَل في شيءٍ من أسعارِ المسلمين ظلمًا وعُدوانًا ليغلِيَه عليهم، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((مَن دخل في شيءٍ مِن أسعار المسلمين ليُغلِيَه عليهم فإنَّ حقًّا على الله أن يقعِدَه بعظمٍ من النار يومَ القيامة)) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله.
فإذا ربطنا المسببات بأسبابها فإن زوال هذا البلاء يزول بزوال أسبابه, فالله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. كما أن التوبة والاستغفار يضمن الرزق والبركة من الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: الوقفة الأخيرة: نداء ومقترح أوجّهه إلى كل من له مسؤولية في بلادنا وعيّنه ولي الأمر حفظه الله لرعاية مصالح المواطنين:
نذكرهم بقول النبي : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، وقوله : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)). فعلى من ولاهم ولي أمرنا كل بحسب موقعه وكل بحسب طاقته وقدرته وإمكاناته أن يسعوا في معالجة هذه الأزمة بما يخفف على الناس معاناتهم ويزيل شدتهم، فهذه مقترحات علها أن تساهم في تخفيف آثار هذه الأزمة:
1- على وزارة التجارة مسؤولية كبيرة وأعمال كثيرة، أولها: مراقبة التجار والأخذ على يد من يستغل ارتفاع الأسعار فيزيد أكثر من الواقع، أو يرفع أسعار سلع لم ترتفع في بلد المصدر، أو يحتكر المواد في مخازنه ويستغل ذلك في رفع الأسعار. كما يجب على وزارة التجارة أن تشجع فتح المشاريع الإنتاجية والمصانع الغذائية والسلع الرئيسية للمجتمع حتى توجد المنافسة بينها وينعدم الاحتكار، أو تمنع ما يسمى باحتكار القلية والذين يسيطرون على تحديد الأسعار. كما يجب على وزارة التجارة أن تساهم وتشجع فتح الجمعيات التعاونية للمناطق والأحياء, وفكرة هذه الجمعيات ببساطة أنها تقوم على جمع الأموال من المساهمين وشراء السلع بكميات كبيرة وبيعها بأسعار مناسبة للمشترين، ثم توزيع ما يتم فيها من أرباح على المساهمين في نهاية كل عام. إن هذه الجمعيات مطبقة في دول أخرى وأثبتت نجاحها كما في دولة الكويت.
وعلى وزارة الشؤون الاجتماعية مسؤوليات مشابهة، منها دعم المراكز وجميعات البر الخيرية بالمال الوافي لتغطية النقص الذي تعاني منه, والسبب أن ما كان لهذه الجمعيات من دعم المواطن لها قد تقلص بسبب الغلاء أو انعدم في بعض المناطق, فالجمعيات الخيرية قد تضررت من ظاهرة الغلاء حيث أثر ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في ميزانيتها المتواضعة أمام تغطية تكاليف معيشة الفقراء والمحتاجين الذين تكلفهم وترعاهم. كما يجب على الوزارة أيضا إعادة دراسة دعم مخصصات الشؤون الاجتماعية ورفع سقفها لتتواكب مع متطلبات المعيشة الحالية, وكذلك سلم التقاعد والتأمينات الاجتماعية, وخاصة أن ولاة الأمر ـ حفظهم الله ـ حثوا على ذلك وأمروا بالإسراع فيه.
وأخيرا, تجدر الإشارة إلى أمر هام, فقد قام ولي الأمر ـ حفظه الله ـ بدعم الأرز وحليب الأطفال, وإن كان المواطن رأى الاستحسان من هذا الدعم فهو ينتظر من مليكه الرحيم بشعبه مزيدا من هذا الدعم ومن هذه الأيادي الحانية لرعيته, فالأرز وحليب الأطفال ليس كل شيء، وإنما هناك مجموعة من السلع الضرورية مثل الأدوية والمواد الغذائية وحتى الأعلاف لتحافظ على سعرها، وتكون في مقدور عموم الناس، وكذلك الخدمات الضرورية كإعادة النظر في رسوم الكهرباء وتأشيرات العمالة المنزلية وغيرها.
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بنا نحن المسلمين من برية جنه وإنسه...
(1/5705)
وقفات مع مقاطعة الدنمارك
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
خميس بن سعد الغامدي
الرياض
ذات النطاقين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل محمد. 2- وجوب حب محمد. 3- الهجمات على بني الرحمة. 4- موقف الأمة من السخريات السابقة. 5- العاطفة وحدها لا تكفي. 6- ضرورة دراسة المواقف. 7- تحذير كل مسلم من أن يكون مطية لتشويه الإسلام. 8- مفاهيم خاطئة لدى المسلمين. 9- ضرورة تكاتف الشعوب مع الحكومات في اتخاذ المواقف.
_________
الخطبة الأولى
_________
محمد هو رسول الله إلى هذه الأمة بل إلى العالم كله، جاء بالرحمة والهداية، فأوجب الله محبته والذود عنه ، عند البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا: ((فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ، وفي الحديث المتفق عليه عن أنس مرفوعًا: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما...)). يقول ابن تيمية: "الرسول إنما يُحبّ لأجل الله، ويُطاع لأجل الله، ويُتبع لأجل الله".
وقال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24].
وروى البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيده عمر، فقال عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك)) ، قال عمر: فإنه الآن، لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال: ((الآن يا عمر)).
عباد الله، واليوم نسمع من يتوجه إلى محمد بالسخرية والاستهانة من أهل الصليب وأعداء التوحيد، وينشرون سخريتهم وازدراءهم على مرأى من المسلمين في الصحف، معلنين بذلك استهانتهم بمحمد واحتقارهم لأمته، ومع أن ذلك سبب كاف لتوجيه الغضب لمن آذانا في نبينا محمد ومقاطعته والدعاء عليه وأخذ موقف منه.
عباد الله، في المرة السابقة اتحدت الجهود الإسلامية بعد أن انصبت في سلاح المقاطعة، فكانت جهودا موفقة ومقاطعة مباركة، أثبتت للعالم أن أمة محمد ليس أمرها بالهين، وأن محمدًا خلّف بعده رجالا يذودون بأرواحهم عن عرضه. نعم، لقد ظهرت بوادر نجاح هذه المقاطعة، وآتت ثمارها في حينه بشكل أبرد القلوب الشعبية في كل البقاع الإسلامية.
لكن ما يجب أن نضعه نصب أعيننا أنه ليس كلُ بيضةٍ شحمةٍ ولا كلُ حمراءَ تمرة، يجب أن نضع أمام أعيننا أن العاطفة لوحدها لا تكفي لإنجاح عمل الأمة، والحماس لوحدة ليس دائما مثمرا، والخوف كل الخوف أن تكون مواقفنا مجرد ردة أفعال عاطفية تبرد مع مرور الزمن، وتصبح بخارا بل سرابا يتطاير مع الريح.
وإنني أتساءل: كيف كانت مواقفنا عندما أُهين القرآن في غوانتنامو؟ وكيف هي مواقفنا عندما عذب المسلمون في أبو غريب؟ وكيف هي مواقفنا عندما احتلت أفغانستان والعراق؟ لقد كانت مشحونة ملتهبة، وانظر اليوم نسينا كل ذلك، وبردت كل مواقفنا، أتدرون لماذا؟ لأن العاطفة هي التي كانت تتحدّث، والحماس هو الذي كان يسيرنا، فلما خمد كل ذلك خمدنا نحن أيضا؛ ولذلك كم هو مرضٍ لنا أن نسمع إشاعة قتل الرسام الذي رسم صور السخرية حرقا، أو أن 50 دنماركيا أسلموا، أو أن الدنمارك خسرت بضعة ملايين من جراء مقاطعتنا لجبنتهم وحليبهم، ثم ما نلبث أن نهدأ بل نجمد، وكأن مواقفَنا وجهودَنا كلّها تتوقف عند ذلك الحد.
إن هذه المواقف الجبارة يجب أن تتجاوز حدود العاطفة العابرة؛ لنصل إلى حدّ أن تكون مواقفنا فيه مدروسة، مبنية على استراتيجيات ومعايير يعدها أهل الاختصاص من الشرعيين والاقتصاديين والسياسيين. والغضبة الشعبية يجب أن تنطلق مما ينتج عن تلك الدراسات لتتحد الجهود وتجنى الثمار وقت نضوجها، لنعلم المثمر منها من العقيم، ولنواجه التحديات المستقبلية التي ربما تكون أقوى مما مر.
وكما تساءلت في المرة السابقة التي تمت فيها المقاطعة فإنني اليوم أيضا أتساءل: أين دراسات هيئة كبار العلماء وأقسام الاقتصاد في الجامعات ومراكز التجارة في البلاد عن شرعية وآثار ومكامن إنجاح هذه الجهود، وعن قياس مدى أثر ما تم فعله في المرة السابقة ومدى نفعه لأمة الإسلام؟! للأسف لا شيء، وكل ما ظهر مجرد تحليلات فردية لا تخلو من منطلقات حماسية ورؤى عاطفية تكون في الغالب بعيدة كثيرا عن الأرقام الواقعية.
انظر معي: بالأمس أهين القرآن، فغاية ما تحركت به عواطفنا هو مقاطعتنا للبيبسي لأيام قلائل لم نستطع بعدها أن نستسيغ الطعام بدونه لمدة أطول، ثم ما لبث أن امتلأت محلاتنا وبيوتنا بالبيبسي والميرندا، وبالأمس القريب أهين نبينا في رسوم مشينة، فقاطعنا الجبنة الدنمركية والحليب الدنمركي، وما زاد الأمر عن بضعة أشهر، لم نحتمل بعده الصبر على فقد تلك الجبنة وذاك الحليب، واليوم يهان نبينا مرةً أخرى، وبدأنا نصرخ مرة أخرى بمقاطعة الحليب والجبنة، وربما أضفنا الزبدة والعصير، وغدا لا ندري أي أمر عظيم من قيمنا ورموزنا بل وحقوقنا ستنتهك، كما أننا لا ندري أي نوع من الأطعمة سترشدنا عواطفنا لمقاطعته.
عباد الله، هل الأمر فقط مجرد عواطف تسيرنا وجهود لا ترقى أبدا إلى أبعد من مقاطعة تلك العُلب، أم الأمر أعظم من ذلك كله؟
إن تلك الأزمات تستوجب علينا تجاوز مرحلة مقاطعة العُلب إلى دراسة الأوضاع بعمق، فاليوم أصبح مدار التشويه ليس فقط شخص محمد ، وإن كان ذلك ليس بالهين بل هو عظيم جِد عظيم، بل تجاوز الأمر إلى تشويه صورة الإسلام ومبادئه وعدم اعتباره دينا، وإنما مجموعة من مبادئ الغوغائية والعنف والعنصرية، لينفر منه كل من يسمع عنه، والسؤال هنا: أين نحن عن هذا التشويه؟! وأين جهودنا تجاه ذلك؟!
اسأل نفسك: ماذا تعرف أنت عن سماحة الإسلام؟ إذا كانت سلوكياتك مع العمالة غير المسلمة هنا تثبت لهم أن الإسلام دين عنصرية وظلم وأكل لأموال الضعيف، وماذا تتوقع من ذلك العامل أن يقول لبني جلدته إذا عاد إلى بلاده؟!
اسأل نفسك: عندما يسافر أحدنا إلى بلاد الغرب فينغمس في الملذات والشهوات، ويصحَب المومسات، ويتعامل بالنصب والاحتيال، أي صورة يرسمها بسلوكه ذلك عن الإسلام وأهله؟! وأي هدية يقدمها لمن يريد تشويه صورة الإسلام وقيمه؟!
اسأل نفسك: عندما تتعامل أمام أنظار غير المسلم بالحيل والخديعة وإخلاف المواعيد وعدم الالتزام بالكلمة، ألا يعد ذلك سلوكا مشينا يساعد بقوة على تقوية جهود أعداء الإسلام في تجيير سلوكك إلى دليل يستند عليه في تشويه صورة الإسلام؟!
إذن، هل نستطيع أن نقول: إن من العوامل المساعدة لتشويه سمعة نبينا وديننا هي سلوكياتنا غير المنضبطة، داخل المجتمع الإسلامي، وعند خروجنا إلى المجتمعات غير المسلمة.
كل ذلك في جانب السلوك، والأمر أشد في جانب الفكر، ودعني أسألك السؤالَ نفسَه الذي يسأله النصراني واليهودي وغيرهما من عوام غير المسلمين الذين لا يعرفون عن الإسلام إلا ما يمليه عليهم أعداء الإسلام من أهل ملتهم، هذا السؤال هو: إذا انتصر الإسلام وحكم العالم فكيف سنتعامل مع غير المسلم؟ نعم سؤالٌ مهمٌ جدا أعتقد أنه الركيزة التي ترتكز عليها الجهود المبذولة في تشويه الإسلام.
نعم أسألك أنت: ماذا يدور في خلدك الآن لإجابة هذا السؤال؟ وما الذي تسمعه في المجالس وربما في بعض المحاضرات؟ هل ستجيب بأننا سنوقفهم في طوابير ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ونحن جلوس لنأخذ منهم الجزية في إذلال وامتهان لهم وصغار؟ هذا أحد المفاهيم الخاطئة التي ربما احتوتها بعض كتب الفقه، وأبرزتها جهود أعداء الإسلام لتشويه الإسلام واتهامه بأنه يريد امتهان الناس وإذلالهم.
إلا أن بعض فقهاء الإسلام نبه على ذلك، وقرر أنه لم ينقل أن النبي ولا أحدا من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية، اسمع إلى ما قاله الإمام النووي الذي شدد النكير على هذه التزايدات والمبتدعين لها، فقد قال في كتابه روضة الطالبين (10/315، 316) بعد أن عرض لبيان كثير من هذه المقحمات الباطلة وعزاها إلى القائلين بها ما نصه: " قلت: هذه الهيئة المذكورة أولا لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين. وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون. فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي ولا أحدا من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية". وقد كرر هذا التحذير وهذا النكير على هؤلاء المخترعين في كتابه المشهور المنهاج (4/250 ـ مغني المحتاج ـ).
وأورد ابن قدامة في المغني (13/253) أن عمر بن الخطاب أتي بمال كثير من الجزية، فقال: أظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله، ما أخذنا إلا عفوا صفوا، قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي، ولا في سلطاني. ويقول علي بن أبي طالب لعامله على الجزية: (لا تبيعن لهم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف، وارفق بهم) أخرجه البيهقي بمعناه في الكبرى، باب: النهي عن التشدد في جباية الجزية.
وقد بوب أبو عبيد في كتابه الأموال بابا بعنوان: "اجتباء الجزية والخراج، وما يأمر به من الرفق بأهلها وينهى عنه من العنف عليهم فيها". وقد أكثر فيه من الأحاديث والآثار التي تتضمن بيان ضرورة اتباع الرفق في مقاضاة الجزية والخراج. منها كتاب عمر بن عبد العزيز الذي أرسله إلى عدي بن أرطاة حيث قال فيه: "وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصله... وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إن كنا قد أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه" [1].
[1] الأموال لأبي عبيد (ص42، 45، 46)، والخراج لأبي يوسف (ص150).
_________
الخطبة الثانية
_________
ونحن نعيش بين فترة وأخرى بعض الأزمات التي يمتهن فيها تارة نبي الإسلام ، وأخرى يتهم فيها الإسلام بالعنصرية والهمجية، ثم ما نشاهده من غضبة شعبية إسلامية عارمة، ومنها ما شاهدناه سابقا من المقاطعة الاقتصادية الشعبية التي كان لها أثر كبير لم نشهد مثيله من قبل، إلا أننا يجب أن نعي درسا مهما مضمونه أن كل أمر عام يؤثر على المسلمين عامة وعلى دولتهم يجب أن ينطلق من مواقف عليا مدروسة، وليس صحيحا أن ينفرد الشعب بقرار في منأى عن قيادتهم التي بايعوها؛ لأن ذلك ربما أوقع في شرّ لم يحسب له العامة حسابا، ومن المحسوس المشاهد أنه لم يكتب لهذه المواقف الشعبية النجاح الباهر في هذه الحادثة إلا عندما اتحدت الجهود الشعبية مع إرادة القيادة وجهودها، فلذلك كان هذا الأثر الإيجابي الكبير.
هذا مفهوم يجب أن يتعلمه أبناؤنا وتتربى عليه أجيالنا؛ حتى لا نجد منهم غدا من يحمل السلاح علينا في عقر دارنا ويقول: اجتهدت فرأيت أن قتلي للمسلمين جهاد ينصر المسلمين، وحتى لا تأتي فئة قليلة فتخرج عن جماعة المسلمين وهي تزعم أن في قرارها الحق وأن في فعلها نصرة الإسلام والمسلمين من دون عامتهم.
ثم علينا ونحن نفكر في ردود أفعالنا لأي أزمة أن تكون نظرتنا بعيده، ولنعلم أن ما من جهود تنطلق لتشوه سمعة ديننا ونبينا إلا وهي منطلقة من تقصيرنا نحن في إبلاغ الصورة الناصعة لديننا ونبينا للعالم، وتارة نلطخ سمعة الإسلام بأيدينا نحن بسلوكنا وفكرنا المعوج.
نعم، علينا ونحن نشاهد هذه الهجمة الشرسة على الإسلام ومحمد أن نواكب ذلك بجهود مثمرة موازية لجهود التشويه، وبأفعال إيجابية تبين الحق لغير المسلمين، وتبرز السماحة التي جاء بها الإسلام وبلغها محمد ، فبدلا من مقاطعة العُلب وما قد تؤدي بها من إضرار بالأقليات المسلمة هناك علينا بذل المال للإنشاء ودعم المشاريع التي تهدف إلى توضيح صورة الإسلام ونبيه التي يسعى أعداء الإسلام لتشويهها.
ولنعلم أن ما من فعل يشوه صورة الإسلام في نظر غير المسلمين أشد من سلوكياتنا المنحرفة التي نمارسها أمامهم، وتقاعسنا عن بذل الغالي والرخيص في بيان الصورة الحقيقة للإسلام أمام غير المسلمين...
(1/5706)
رعاية الإسلام للمرأة ودعاة التحرير
الأسرة والمجتمع
المرأة
حسين الهاجري
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اهتمام الإسلام بالمرأة ورعايته لها. 2- حرية المرأة في الإسلام. 3- التحذير من الدعوات الهدامة المتعلقة بشؤون المرأة. 4- مفاسد الانجرار وراء تلك الدعوات. 5- التحذير من الاختلاط بين الجنسين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، ومراقبته في السر والعلن، والتمسك بشريعته في المنشط والمكره، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195].
معاشر المسلمين، لم تعرف البشرية دينا ولا حضارة عنيت بالمرأة أجمل عناية وأتم رعاية وأكمل اهتمام كالإسلام؛ تحدث عن المرأة وأكد على مكانتها وعظم منزلتها، وجعلها مرفوعة الرأس عالية المكانة مرموقة القدر، لها في الإسلام الاعتبار الأسمى والمقام الأعلى، تتمتع بشخصية محترمة وحقوق مقررة وواجبات معتبرة، نظر إليها على أنها شقيقة الرجل، خُلقا من أصل واحد، يسعد كل بالآخر، وإنه لمن الغبن حقا أن نحصر الحديث عن رعاية الإسلام للمرأة من كافة جوانبها في عجالة أو في خطبة قصيرة كهذه ونحوها، ولكن نقول: إن القلادة والسوار يكفي منهما ما أحاط بالعنق والمعصم.
نقول ذلك في الوقت الذي أصبحت فيه قضية المرأة الشغل الشاغل للكثيرين، فما أكثر ما نسمع هذه الكلمة: "حقوق المرأة"! فما أكثر ما تحدث عنها المتحدثون في الوقت الذي تشهد فيه الأمة صنوفا من الظلم والقهر والبطالة والفقر والانحراف وتسلط الأعداء من الداخل والخارج.
أيها المسلمون، ولعلنا في هذه العجالة نلقي الضوء على بعض الأمور التي رعاها الإسلام للمرأة، فقد أشاد الإسلام بفضل المرأة ورفع شأنها لكي تعيش حياة كريمة، حياة ملؤها الحفاوة والتكريم من أول يوم تقدم فيه إلى هذه الحياة، ومرورا بكل حال من أحوال حياتها، فرعى حقها طفلة، وحث على الإحسان إليها، قال : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضمّ أصابعه، وقال : ((من كان له ثلاثة بنات وصبر عليهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار)). ورعى الإسلام حق المرأة أمّا، فدعا إلى إكرامها إكراما خالصا، وحث على العناية بها: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]، بل جعل حقّ الأم في البر آكد من حق الوالد، جاء رجل إلى نبينا محمد فقال: يا رسول الله، مَن أبر؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)). ورعى الإسلام حق المرأة زوجة، وجعل لها حقوقا عظيمة على زوجها من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ عوان عندكم)). ورعى الإسلام حق المرأة أختا وعمة وخالة، وفي حال كونها أجنبية فقد حث الإسلام على عونها ومساعدتها ورعايتها، قال : ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتر، أو كالصائم الذي لا يفطر)).
معاشر المسلمين، المرأة في نظر الإسلام أهل للثقة ومحلّ للاستشارة، فهذا رسول الله أكمل الناس علما وأتممهم رأيًا يشاور نساءه ويستشيرهن في مناسبات شتى ومسائل عظمى. ولها ـ عباد الله ـ التصرف في شؤونها وفق الضوابط الشرعية والمصالح المرعية، قال : ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن في نفسها)). وللمرأة الحرية في النواحي الاقتصادية كالرجل سواء بسواء، فهي تتمتع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصاية لأحد عليها مهما كان. ومما يتعلق بالمبدأ الاقتصادي فقد جاء الإسلام بمبدأ لم يسبق له مثيل ولا يجاريه بديل حينما كفل للمرأة النفقة أمّا أو بنتا أو أختا أو زوجة حتى ولو كانوا أغنياء أو كانت الزوجة موظفة، فإن النفقة تجب على الرجل كل ذلك، لماذا؟ لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغة البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسب، فهي مربية الأجيال وصانعة الرجال.
الأم مدرسة إذا أعددتَها أعددت شعبا طيب الأعراق
معاشر المسلمين، هذه بعض مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك غيض من فيض وقبضة من بحر؛ ولذا فإن أعداء الدين تقلقهم تلك التوجيهات السامية وتقضّ مضاجعهم هذه التعليمات الهادفة؛ لذا فهم بأنفسهم وبمن انجرّ خلفهم من أذنابهم العلمانيين على حديث لا يكلّ عن المرأة على حقها وحقوقها كما يتصوّرون وكما يزعمون؛ مما يحمل بلاء تختلّ الفضائل في ضجته وتذوب الأخلاق في أزمته، دعوات ما أقبحها والله من دعوات؛ تهدف لتحرير المسلمة من دينها والمروق من إسلامها، دعوات من أولئك تنبثق من مبادئ مهلكة ومقاييس فاسدة وحضارات منتنة، تزين الشرور والفساد بأسماء براقة ومصطلحات خادعة، وللأسف تجد من أبناء المسلمين من في فكره عوج وفي نظره خلل ينادي بأعلى صوت بتلك الدعوات.
إخوة الإسلام، لقد عرف أعداء الدين ما يحمله هذا الدين للمرأة من سمو كرامة وعظيم صيانة، وعلموا في مقرراته الماصلة أن الأصل قرار المرأة في مملكة منزلها في ظل سكينة وطمأنينة ببيوت مستقرة وجوّ أسرة حانية، حينذاك ضاقوا من ذلك ذرعا، فراحوا بكل وسيلة وسعوا بكل طريقة ليخرجوا المرأة من بيتها وقراراها المكين وظلها الأمين، لتطلق لنفسها العنان لكل شاردة وواردة، وبالتالي تصبح المرأة سلعا تدار في أسواق الملذات والشهوات، فتارة باسم تحرير المرأة، وتارة باسم الحرية والمساواة، وتارة باسم الرقي والتقدم الكاذب، مصطلحات ظاهرها الرحمة والخير وباطنها الشر والفساد. فها هم يريدون تحريرها من منزلها وتربية أولادها إلى الركض اللاهث وراء هموم العيش ونصب العمل ولفت الأنظار وإعجاب الآخرين ولو كان ذلك على حساب تدمير الفضيلة والأخلاق وتدمير الأسرة والقيم، فلا هي حينئذ بطاعة ربّ ملتزمة، ولا بحقوق زوج وافية، ولا في إقامة مجتمع فاضل مسهمة، ولا بتربية النشء قائمة، فكانت النتائج غير مرضية.
واسمع لتقرير صادر عن وزارة الداخلية يؤكّد ارتفاعا كبيرا في ظاهرة التحرش بالفتيات بلغت نسبته 215 في المائة خلال عام واحد، إذ ارتفع عدد القضايا من 1031 قضية عام 1426هـ إلى 3253 قضية عام 1427هـ، وذكر التقرير أن قضايا الاعتداء على العرض بشكل عام ارتفعت في عام 1427هـ عنها في عام 1426هـ بنسبة 25 في المائة، وأن حالة الاغتصاب ارتفعت 75 في المائة، فيما ارتفعت قضايا اختطاف النساء بنسبة 10 في المائة، فها هي النسب في ارتفاع، ونسأل الله أن يلطف بنا، وهذا قليل مما سنجني ثماره إذا قادت المرأة السيارة، وإذا سافرت بدون محرم، وإذا فتحت لها النوادي النسائية للرياضة، وإذا أصبح للمرأة بطاقة أحوال خاصة ووضع فيها صورتها، وإذا خالطت الرجال في أعمالهن، وإذا سكنت لوحدها في الفنادق.
فيا أيها المسلمون، الحرص الحرص على تعاليم هذا الدين، والحذر الحذر من مزالق الأعداء الحاقدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: إخوة الإسلام، إن الإسلام لم يحرص على منع الاختلاط بين الرجال والنساء في أي مجال وفي أي شأن إلا لأنه وباء خطير، ما أصيب به مجتمع إلا ودبت فيه كل بلية، وعم فيه الشر والفساد، فما من جريمة نهش فيها العرض وذبح العفاف وأهدر الشرف إلا وسببها دعوة من هذه الدعوات المضللة.
فالواجب علينا ـ معاشر المسلمين ـ أن نحافظ على كرامة نسائنا، وأن لا نلتفت إلى تلك الدعوات المضللة، والواجب على العلماء أن يظهروا دورهم في وقف زحف هؤلاء العلمانيين على محارمنا، كما يجب على ولاة الأمر في هذه البلاد أن يأخذوا على أيدي هؤلاء السفهاء ويمنعوهم من نشر أفكارهم السيئة؛ حماية للمجتمع من آثارها السيئة وعواقبها الوخيمة، فقد قال : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) ، وهذا نداء من منبر رسول الله إلى كل مسلم سواء أعطاه الله علما أو يسر له خروجا في قناة أو اتصالا في إذاعة أو كتابة في صحيفة أن يبين خبث هؤلاء العلمانيين الذين يفسدون ولا يصلحون، هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5707)
السعادة
الإيمان
فضائل الإيمان
بسام بن محروس باحكيم
الدوادمي
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة مطلب الجميع. 2- الجاه والقوة ليس هو سبيل السعادة. 3- المال ليس سببا للسعادة. 4- اللهو والكسل واللعب ليس سببا للسعادة. 5- السعادة الحقيقية. 6- أنواع السعادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول ربنا عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
أيها المسلمون، إن الحياة السعيدة هي الهدف الأسمى والأمنية العظيمة لكل الناس، وقد اختلف الناس في مفهوم السعادة، فالبعض يرى أنا السعادة هي في جمع الأموال فقط، والبعض الآخر يرى أن السعادة هي في المأكل والمشرب والزوجة والأولاد فقط، والبعض يراها فقط في الجاه والسلطان، وكل إنسان يرى السعادة من زاوية معينة.
والكل يبحث عن السعادة بكل ما أوتي من قوة، وكثير من الناس رغم أن عندهم أسباب السعادة المادية ولكنهم غير سعداء. ولكن ما السعادة يا ترى؟ وكيف نلاقيها؟ فهل السعادة في الملك والسلطان؟! فلقد كان فرعون يبحث عن السعادة في الملك وكان يقول بكل غرور: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51]، ونسي أن الذي أعطاه هو الله جل ثناؤه، وأن الله هو الذي أطعمه وسقاه، قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]، بل إنه تخطى كل ذلك وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، وقال أيضا: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات: 24]، كل ذلك في سبيل البحث عن السعادة، ولكن هل حصل هذا الطاغيه عن السعادة؟! لا والله، إنه ظل وسيظل تعيسا شقيا إلى الأبد، فكان جزاء هذا الانحراف وهذا العتو والتكبر والتمرد على الله أن أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فبعد أن كانت الأنهار تجري من تحته جعلها الله تجري من فوقه، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46]. لا إله إلا الله، ما أتعسها من نهاية! وما أشقاها من حياة أبديه! وقد يلحق بفرعون أقوام وأقوام، وما فرعون إلا مثل لبعض الطغاة والظالمين الذين استعبدوا شعوبهم وبدلوا نعمه الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار.
والبعض الآخر يرى أن السعادة في جمع الأموال وبناء القصور وكثرة الأولاد والزوجات فقط، فهذا قارون قد منحه الله أموالا وكنوزا ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، ونسي أن الله هو المعطي، وأن الله هو الرزاق، وأن الله هو الوهاب سبحانه وتعالى، فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص: 78]، فكفر بنعمة الله، وتكبر واغتر، وظن أن هذه هي السعادة، فماذا كان جزاؤه؟ وماذا كانت نهايته؟ وكيف كانت تلك النهاية المأساوية؟ لقد خرج على قومه في قمة زينته وغطرسته وغروره، فخسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلل فيها، فما أغنى عنه ماله من الله شيئا، فما أشقاها من نهاية! وما أتعسها من خاتمة! وما قارون إلا رمز ومثل لكل من أعطاه الله مالا فاغتر به وتكبر وظن أنه في السعادة الحقيقية والهنا.
أيها المسلمون، وهناك شريحة من الناس ظنت أن السعادة هي في حياة الملاهي والكسل والتراخي والنوم والبعد عن تكاليف هذا الدين والهروب من مشاكل هذه الحياة ومسؤولياتها، وهذه النوعية من الناس هي في الحقيقة في قمة التعاسة؛ لأنهم ليس لهم هدف في الحياة ولا قيمة في الوجود. وينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8]. إنها حياة الشهوات والملذات وحياة الغفلة والحيوانات، فما أتعسها وأتفهها من حياة!
أيها الإخوة الأحبة، إن الكل يبحث عن السعادة، ولكن الكثير يخطئون الطريق إليها ويضلون عن سواء السبيل؛ وذلك بسبب إعراضهم عن السبب الرئيسي للسعادة، بل بسبب إعراضهم عن السعادة نفسها، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124]. ولماذا هو أعمى يوم القيامة؟ إنه أعمى بسبب أنه تعامى عن السعادة الحقيقية في الدنيا، فأعماه الله عن السعادة والجنة في الآخرة، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: 125، 126].
إن السعادة الحقيقية هي في طاعة الله عز وجل وفي عبادته وامتثال أمره واجتناب نواهيه، ولقد ذاق طعم السعادة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما حطم الأصنام وقذف في النار، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء: 69، 70].
وذاق طعم السعادة يوسف عليه الصلاة والسلام عندما قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف: 33]، ذلك السجن الرهيب إلى مدرسة للإيمان والتوحيد.
ووجد تلك السعادة أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، عندما أووا إلى الكهف فنشر لهم ربهم من رحمته وهيأ لهم من أمرهم مرفقا.
ثم بعد ذلك ذاق طعم السعادة خير البشر محمد ، ثم ذاقها أصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه: 123، 124].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر المبين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه.
أما بعد: أيها المسلمون، إن السعادة تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: سعادة وهمية يظن أصحابها أنهم سعداء بسبب الأمور المادية الذي منحهم الله إياها، ولكنهم بعيدون عن الإيمان والصلاة، بعيدون عن الأخوة الإيمانية، بعيدون عن القرآن والدعوة إلى الله والمساجد، بعيدون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن كل ما يقربهم إلى الله، بل إن هذه النوعية من الناس قد يكونون منغمسين في أنواع من المعاصي والملذات المحرمة، فهم واهمون في تلك السعادة التي ليس لها نهاية إلا النار، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103، 104].
أما النوع الثاني من أنواع السعادة: فهي السعادة الحقيقية التي تكون في الدنيا وتمتد إلى الآخرة، هذه السعادة التي تكون أولا وقبل كل شيء هي الإيمان بالله والعمل الصالح والتمتع بنعم الله في ظل طاعة الله عز وجل، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
إن صانع السعادة الحقيقية ولذتها هو المؤمن الصادق الإيمان الذي إذا أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإذا أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. هنا تكمن السعادة في الشكر الحقيقي والرضا الدائم بقضاء الله وقدره والعيش في ظل مبادئ هذا الدين العظيم، يقول الرسول الكريم : ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي)).
فيا طلاب السعادة، ويا عشاق السعادة، ويا أيها الباحثون عن السعادة والخلود والراحة، فإنها لن تكون إلا من طريق محمد عليه الصلاة والسلام، فمن أراد السعادة فليلتمسها في المسجد ومن المصحف ومن السنة المطهرة وفي الهداية والاستقامة على كتاب الله وسنه رسوله ، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه: 123].
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا...
(1/5708)
انهيار الرأسمالية الليبرالية
أديان وفرق ومذاهب, فقه
الديون والقروض, مذاهب فكرية معاصرة
هتلان بن علي الهتلان
الظهران
جامع محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأزمة المالية العالمية. 2- توضيح سبب الأزمة. 3- من آثار هذه الأزمة. 4- ثبوت فشل الشيوعية والرأسمالية. 5- من مبادئ الاقتصاد في الشريعة الإسلامية. 6- التحذير من الديون. 7- دروس وعبر من الأزمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة في الله، هذه الأيام تعيش الأسواق المالية الغربية والشرقية حالة هلع وخوف إثر حوادث الانهيار والإفلاس التي تعرضت لها عدد من الشركات والبنوك الأمريكية, وهي درس عملي لمن انبهر بالحضارة الغربية وكان يطالب بأن تحذو شركاتنا وبنوكنا وأسواقنا حذوهم, وها هي الرأسمالية الغربية تترنح في أسواقهم, معرّضَة اقتصادهم لأكبر أزمة مالية نشهدها في هذا العصر، وربما تلطخ بأوحال هذه الأزمة كل الشركات والبنوك المساهمة في تلك الأسواق في طول العالم وعرضه.
وللاستفادة مما وقع وأخذ العبرة والموعظة لا بد من بيان المشكلة التي أدت إلى أكبر كساد وانهيار يشهده الاقتصاد الأمريكي، ويمكن تلخيص ذلك بأنه قامت البنوك بإقراض العملاء حتى الفرد الذي كان لا يستطيع الحصول على قرض لشراء مسكن لمحدودية دخله الشهري، قامت بإقراضهم قروضًا مما جعل الناس ينكبون على هذا الاقتراض وبمعدلات فائدة ربوية عالية، مع إغراء العميل بتخفيض أسعار الفائدة في الفترة الأولى. مع استمرار أسعار البيوت في الارتفاع قامت البنوك بإغراء العملاء المقترضين بإمكانية تحقيق أرباح مجزية حيث إن بيوتهم أصبحت قيمتها أكثر من القيمة المشتراة، فقدمت لهم قروضًا أخرى مقابل رهن جزء من البيت. إلا أن العملاء لم يدركوا خطورة العقد وما تضمنه من غرر كبير وغبن فاحش بأن أسعار الفائدة متغيرة وليست ثابتة، هذه الأسعار تكون منخفضة في البداية ثم ترتفع مع الزمن. وهناك فقرة تقول: إن أسعار الفائدة سترتفع كلما رفع البنك المركزي أسعار الفائدة، وهناك فقرة أخرى تقول: إنه إذا تأخر عن دفع أي دفعة فإن أسعار الفائدة تتضاعف بنحو ثلاث مرات، والأهم من ذلك فقرة أخرى تقول: إن المدفوعات الشهرية خلال السنوات الثلاث الأولى تذهب كلها لسداد الفوائد. هذا يعني أن المدفوعات لا تذهب إلى ملكية جزء من البيت إلا بعد مرور ثلاث سنوات.
بعد أشهر رفع البنك المركزي أسعار الفائدة الربوية، فارتفعت الدفعات الشهرية، ثم ارتفعت مرة أخرى بعد مرور عام كما نص العقد، فعجز أكثر المقترضين عن السداد وتأخروا، فتراكمت عقوبات إضافية وفوائد على التأخير، ثم توقفوا عن الدفع؛ مما جعل البنك يستولي على العقار ويطرد المقترض ليبيع البيت ويستوفي أقساطه المجحفة.
فتفاقمت المشكلة وانتشرت، وأدت في النهاية إلى انهيار أسواق العقار. أرباح البنك الذي قدم قرضا للعملاء يجب أن تقتصر على صافي الفوائد التي يحققها من هذا القرض، ولكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد. قام البنك ببيع القرض على شكل سندات لمستثمرين، بعضهم من دول الخليج بل ومن جميع أنحاء العالم وحتى حكومات الدول استثمرت في هذه السندات، وأخذت عمولة ورسوم خدمات منهم. هذا يعني أن البنك كسب كل ما يمكن أن يحصل عليه من عمولات وحول المخاطرة إلى المستثمرين. المستثمرون الآن يملكون سندات مدعومة بعقارات، ويحصلون على عوائد مصدرها مدفوعات المقترضين البؤساء الشهرية. هذا يعني أنه لو أفلس المقترضون ـ وهذا ما حصل ـ فإنه يمكن أخذ البيت وبيعه لدعم السندات. ولكن هؤلاء المستثمرين رهنوا هذه السندات على اعتبار أنها أصول مقابل ديون جديدة للاستثمار في شراء مزيد من السندات. نعم، استخدموا ديونًا للحصول على مزيد من الديون! المشكلة أن البنوك تساهلت كثيرًا في الأمر لدرجة أنه يمكن استدانة 30 ضعف كمية الرهن.
ولما قام البنك بتحويل الدين إلى سندات وباعها إلى بنك استثماري الذي احتفظ بجزء منها، وقام ببيع الباقي إلى صناديق تحوط وصناديق سيادية في أنحاء العالم كافة، فكل من العميل والبنك التجاري والبنك الاستثماري يعتقد أنه يملك البيت، والمستثمرون يعتقدون أنهم يملكون سندات لها قيمة؛ لأن هناك بيتًا في مكان ما تدعمها.
القصة لم تنته بعد، بما أن قيمة السندات السوقية وعوائدها تعتمد على تقييم شركات التقييم لهذه السندات بناء على قدرة المديون على الوفاء، وبما أنه ليس كل من اشترى البيوت له القدرة نفسها على الوفاء، فإنه ليست كل السندات سواسية، فالسندات التي تم التأكد من أن قدرة الوفاء فيها ستكون فيها أكيدة ستكسب تقدير "أ"، وهناك سندات أخرى ستحصل على "ب"، وبعضها سيصنف على أنه لا قيمة له بسبب العجز عن الوفاء. لتلافي هذه المشكلة قامت البنوك بتعزيز مراكز السندات عن طريق اختراع طرق جديدة للتأمين بحيث يقوم حامل السند بدفع رسوم تأمين شهرية كي تضمن له شركة التأمين سداد قيمة السند إذا أفلس البنك أو صاحب البيت، الأمر الذي شجع المستثمرين في أنحاء العالم كافة على اقتناء مزيد من هذه السندات التي سميت فيما بعد بالمسمومة.
وفي النهاية، لما توقف المقترضون عن سداد الأقساط لارتفاع سعر الفائدة فقدت السندات قيمتها، وأفلست البنوك الاستثمارية وصناديق الاستثمار المختلفة. أما الذين اشتروا تأمينًا على سنداتهم فإنهم حصلوا على قيمتها كاملة، فنتج عن ذلك إفلاس شركة التأمين "إي آي جي". عمليات الإفلاس أجبرت البنوك على تخفيف المخاطر عن طريق التخفيض من عمليات الإقراض، الأمر الذي أثر في كثير من الشركات الصناعية وغيرها التي تحتاج إلى سيولة لإتمام عملياتها اليومية، وبدأت بوادر الكساد الكبير بالظهور، الأمر الذي أجبر الحكومة الأمريكية على زيادة السيولة عن طريق ضخ كميات هائلة لإنعاش الاقتصاد الذي بدأ يترنح تحت ضغط الديون للاستثمار في الديون.
ولذا وقع الانهيار الكبير للاقتصاد الرأسمالي الليبرالي، وأفلس أكثر من 1000 بنك في أمريكا من ضمنها أكبر بنكين ضمن أكبر أربعة بنوك أمريكية أحدها مصرف "ليمان برذرز" والذي سجل بإفلاسه أكبر عملية إفلاس في التاريخ الأمريكي، وعمره أكثر من 160 سنة وهو أغنى بنك في العالم، وكذا بنوك أو شركات استثمار وشركات تأمين كبيرة جدًا حيث أممت أكبر شركتي رهن عقاري، فسيطرت الحكومة الأمريكية على 80 في المائة من شركة "إي آي جي" مقابل قرض بقيمة 85 مليار دولار لدعم سيولة الشركة، وسرح أكثر من 159 ألف موظف من أعمالهم، وطال هذا الانهيار أكثر دول العالم على نسب متفاوتة، فأفلست بنوك كبيرة في بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وغيرها.
أيها المسلمون، لقد جربت بعض الدول النظام المالي الشيوعي فثبت فشله, وسقطت الدول التي كانت تتبنى الفكر الشيوعي, وانقسم بعضها إلى دويلات. واليوم ثبت فشل النظام الرأسمالي الذي تبنته مجموعة من الدول الغربية, وها هو اليوم يترنح على سمع العالم وبصره, ويعرض اقتصاد أكبر دولة لحافة انهيار, ولا زالت محاولاتهم قائمة لانتشاله من حافة الانهيار.
وأي اقتصاد ـ يا عباد الله ـ يتعرض لمثل هذه الهزة العنيفة ويكون سببًا في تشريد آلاف الموظفين من أعمالهم وسببًا في إفلاس شركات وبنوك كبرى, إن أي اقتصاد من هذا النوع لهو اقتصاد فاشل مهما استمر لمدة من الزمن.
إنها ليست مفاجأة لنا ـ نحن المسلمين ـ أن يترنح اقتصاد يقوم على مبدأ الحرية المطلقة, ويتغذى على الربا, ويستند على السندات والديون, ويبيع ويشتري بالهامش والبيع على المكشوف, ويقامر حتى الثمالة! ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن إلا بالقيم الرأسمالية, ولا يمتثل إلا لأفكارها, ولا يحترم إلا أبجدياتها وأدبياتها، كما أنها مفاجأة وإحراج لكل من نحا نحوهم أو دار في فلكهم أو سبح بحمدهم؛ ولهذا أخذ هؤلاء المسبحون بحمدهم يعتذرون عن الهزة التي تعرض لها النظام الرأسمالي الذي تتزعمه أمريكا بأنها ليست بسبب النظام الرأسمالي الذي يؤمن بالحرية المطلقة, وإنما بسبب بعض الممارسات الخاطئة بالسوق! في الوقت الذي تنشر فيه بعض جرائد الدول الغربية انتقادًا لاذعًا للرأسمالية.
أما المسلمون, فقد تعلموا منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا أنه لا توجد في السوق حرية مطلقة, وأن الربا كبيرة من الكبائر, وأنه لا يجر إلا الدمار وخراب الديار ولهيب الويلات ومحق المال والبركات، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276]، بل وتعلم ذلك قبلهم اليهود والنصارى في كتبهم المنزلة من السماء, كما أشار إليه الخالق سبحانه في قوله: وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء: 161]، كما حرم علماؤنا المعاصرون الكثير من صور بيع الديون المستجدة وبيع الهامش والبيع على المكشوف والتأمين التجاري, وصدرت بذلك القرارات المجمعية والفتاوى الفقهية منذ سنوات.
وحيث إن أسواقهم لا تدين إلا بالرأسمالية ولا تؤمن إلا بالنظم التي تقنن تحصيل المال فقد تنكب هذا الخلق الضعيف طريق الحق, وخالفوا تعاليم الخالق، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]، وتفننوا في تشريع قوانين أرضية تناهض قوانين السماء, فأصدروا قانونًا يبيح الربا ويقنن الحصول عليه, وأسسوا مبادئ رأسمالية تحترم رأس المال ولا تحترم الآدمي ذاته؛ ولهذا جوزوا للشركات الزراعية مثلا أن يتلفوا محاصيلهم وأن يلقوها في المزابل ويدفنوها تحت التراب ليحافظوا على حركة العرض والطلب ولو تضور الفقراء جوعًا! بل ووضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين وذي العيلة, وتسبح بحمد رجل الأعمال ولو وُضع الفقير بسببها تحت الأشغال الشاقة!
ولأن هذه المبادئ والمثل الرأسمالية من وضع البشر وليست من وضع خالق البشر فقد تراجع دعاتها وحماتها اليوم عما كان له صفة القداسة بالأمس, حيث رفعوا منذ سنوات عدة شعار حرية السوق, وها هم اليوم يمرغون هذه الحرية بالطين لإنقاذ أسواقهم المالية وشركاتهم الرأسمالية التي تترنح تحت وقع الإفلاس، وها هو الكونجرس الأمريكي يصوت على اقتراح الرئيس الأمريكي بضخ 700 مليار دولار لإنقاذ بعض شركاتهم من الإفلاس. وبهذا يصبح التدخل الحكومي للإنقاذ مسمارًا آخر في نعش الرأسمالية, ناهيك عما قننوه بالأمس من أنظمة تسمح بالبيع على المكشوف, ثم أوقفوه اليوم حتى إشعار آخر, وذلك حين اكتشفوا أثره السلبي والخطير على أسواقهم وشركاتهم... وهلم جرا.
ولو رجعنا إلى الوراء أربعة عشر قرنا لوجدنا أن الإسلام قد قيد الحرية التي لا ترعى بالا للفقير والمسكين, أو تلك التي تحترم الفرد على حساب الكل, فحرم الربا ومنع من الإقراض بالفائدة لما يؤديان إليه من أثر سلبي وخطير على الفقراء, وعلى الاقتصاد العام ككل، كما حرم العقود المشتملة على الغرر أو القمار أو ما فيه جهالة، وأباح البيع المعلوم في المباحات، وكذا ما كان بمعنى البيع من الشركات وأنواع الإجارات؛ ليتحقق العدل والمواساة بين أفراد المجتمع في تدوير المال فيما بينهم وعدم احتكاره لدى طائفة بعينها دون البقية كما قال الحق سبحانه: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7]، وسمح بالدَين ولكن في حدود الحاجة وبضوابط شرعية تمنع من وقوع أزمات أو حدوث انهيارات تضر بأصحاب الأموال أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام. وها نحن نرى اليوم أزمة الائتمان المفتوح في أمريكا, وما خلفته من ضحايا في طول العالم وعرضه, ثم توزيع هذه الأزمة بالمجان على البنوك والشركات والأفراد عبر السندات سيئة الصيت؛ ولهذا نجد الشارع الحكيم قد وضع للدين ضوابط كثيرة, تكبح جماحه, وتسمح بالاستفادة منه بالقدر الذي لا يضر بالفرد والمجتمع, ولهذا نجد نصوصًا شرعية كثيرة تلمح إلى خطر الدَّين, كما في استعاذته من المغرم وهو الدين, ومن ضلع الدين أي: ثقله، كما في حديث البخاري: كان النبي يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال)) ، وفي صحيح البخاري أيضًا عنه أنه كان يدعو في الصلاة ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) , فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ ـ يا رسول الله ـ من المغرم! فقال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)) ، وفي سنن النسائي أنه كان يدعو بهؤلاء الكلمات: ((اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء)). واليوم نرى كيف غلبت الديون شركات وبنوكًا كبرى, وأرغمتها على الإفلاس. ولفظ الغلبة يلمح إلى إعجاز نبوي في دقة العبارة وما تحمله من بُعد ممن أوتي جوامع الكلم.
وكما ألمح هذا إلى خطر الدين فقد ألمح إليه أيضًا عدم صلاة النبي على من توفي وعليه دين, بل ألمح إلى خطره أنه من الأشياء التي لا تغفر للعبد مهما بلغ صلاحه, ولهذا جاء في صحيح مسلم: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)). ولحرص الشارع على إطفاء أثر الدين وحسم نتائجه المرة على الفرد والمجتمع فقد تكفل بتسديد دين المعسرين بيتُ مال المسلمين, وهو ما يسمى اليوم بـ"وزارة المالية"؛ حفظًا لأموال المسلمين من الضياع, ولتجنيب أفراد المجتمع ومؤسساته وشركاته من خطر الإفلاس, كما جاء في الحديث المتفق عليه أن رسول الله كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: ((هل ترك لدينه من قضاء؟)) فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه, وإلا قال: ((صلوا على صاحبكم)) , فلما فتح الله عليه الفتوح قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم, فمن توفي عليه دين فعلي قضاؤه)) ، وفي رواية للبخاري: ((فمن مات ولم يترك وفاء)).
ولتثقيف المسلم بضرورة إعادة الدين إلى صاحبه فقد أمر الشارع بتحسين النية عند اقتراض المال للحاجة, كما جاء في صحيح البخاري: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)). وهذا فيه تحذير من تبييت المقترض للنية السيئة وإضمار عدم السداد؛ وذلك محافظة على الأموال وصيانة لها من الأيدي العابثة وحرصًا على عدم تعريض المجتمع إلى هزات عنيفة بسبب الديون المتراكمة؛ ولهذا حرمت الشريعة الإسلامية على الموسر المماطلة في السداد, فقال عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته)) , ولم يقف الإسلام عند دعوة أفراده إلى السداد, بل حثهم أولا على تخصيص جزء لقضاء الدين كما جاء في صحيح البخاري ومسلم عنه : ((لو كان لي مثل أحد ذهبًا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين)) ، ثم حثهم ثانيًا على حسن القضاء كما في صحيح مسلم: ((إن خيار الناس أحسنهم قضاء)) ، وذلك ليغرس في نفوس أبنائه أهمية قضاء الدين وضرورة مكافأة المحسن بأحسن منه جزاء وفاقًا.
وكما أجاز الإسلام الدين بضوابط شرعية ـ ومنها أن لا يكون الثمن والمثمن مؤجلا ـ فقد أجاز القرض الحسن؛ ليشيع في أبنائه روح المحبة والتكافل, ولذا حرَّم القرض بالفائدة؛ لأنه ابتزاز للمحتاج الذي ألجأته الضرورة أو الحاجة لاقتراض المال, وبما أن النظام الرأسمالي يسمح بنظام القرض بالفائدة لذا فقد أضر به ضررًا بالغًا في أسواقه المالية؛ حيث تسببت هذه القروض الربوية ـ إلى جانب الديون منخفضة الكفاءة ـ في أعنف زلزال عرفته باحة الشركات والبنوك الأمريكية.
لقد نظم الإسلام الحياة الاقتصادية بقانون من الخالق جل وعلا, وذلك لينعم الخلق بحياة اقتصادية آمنة, تحترم الغني والفقير, وتراعي المصلحة العامة والخاصة, وتحفظ للناس حقوقهم, ولهذا أجازت البيع, وحرمت الربا والغرر والتغرير والقمار، وأذنت في التجارة, ومنعت من الاحتكار, ومن بيع البائع ما لا يملك, أو ما ليس في حوزته, ومن ربح ما لا يضمن؛ ليقتسم الجميع الربح والخسارة.
ولو أخذت النظم الحديثة بهذا القانون الإلهي العادل لم تحتج إلى تجربة شيوعية ولا رأسمالية, يثبت فشلها مع مرور الأيام, وتتعرض الأسواق بسببها للانهيار والشركات للإفلاس والتقبيل, ولكن كما قيل: "ليس بعد الكفر ذنب". ولكن الذنب علينا ـ نحن المسلمين ـ إن سرنا في ركابهم وتركنا تعاليم ديننا الإسلام التي جاءتنا من لدن الرب الحكيم العليم جل في علاه.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن ما حصل فيه دروس كبيرة ومواعظ لأولي الألباب:
منها ظهور سنة الله تعالى في المتعاملين بالربا، وصدق الله العظيم حين قال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة: 276]، إي والله، إنه لمحق وأي محق؟! محق حسي ومحق معنوي، فقد تكون أموال المرابي كثيرة، لكنها معدومة البركة، وغيره يملك مالا أقل وراتبًا وظيفيًا أقل لكنه يدخر من أمواله لزيادتها عن حاجته بحصول البركة فيها، أما المرابون فأموالهم ممحوقة وأسواقهم القائمة على الربا ممحوقة واقتصادياتهم الربوية ممحوقة، كيف لا تمحق وهم يحاربون الجبار جل جلاله، ألم يقل الخالق الرازق سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]؟! وهل يستطيع أحد أن يحارب الله؟! وماذا ستكون عاقبته في حربه عياذًا بالله؟! ما أعظم حلم الله! وما أشد نقمته وعذابه!
فهل يتوب إلى الله من يتعامل بالربا أو يعمل في البنوك الربوية؟ هل من توبة صادقة؟ هل تتوب الدول التي تقوم اقتصادياتها على الربا والغرر والقمار والحرية المطلقة الظالمة من ذلك وتستفيد مما حصل وتتعظ قبل أن ينالها ما نال أكبر اقتصاد في العالم؟ وسنن الله لا تحابي أحدًا ولا تستثني آخرين. فهل من مدَّكر؟ وهل من متعظ؟
ومن الدروس مما حصل سوء عاقبة الظلم، إي والله، الظلم ما أشد عاقبته وما أسوأ نهايته وما أقبح خاتمته! فكم ظلمت هذه الدولة الكافرة المستكبرة، وكم طغت وبغت، وكم اغترت وقالت: إنها أشد الناس قوة، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15].
لطالما ناصرت أمريكا الدولةَ اليهودية في ظلمها وبطشها على الفلسطينيين، وأمدتهم بالسلاح الذي يقتلون به الأبرياء، ووقفت معهم في المحافل الدولية مناصرة ومدافعة عنهم وعن ظلمهم وبغيهم وعدوانهم، ولا يخفى ماذا فعلت وتفعل في العراق وأفغانستان، وماذا حصل من فتن كبيرة في هذين البلدين بسببها من تقتيل وتدمير وتشريد وتيتيم وترميل ونشر للفواحش والمنكرات ونهب للخيرات وسرقة للأموال والأرزاق وتعطيل لمصالح الناس وتخويفهم وعدم أمنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وأعراضهم، وصدق الله العظيم: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم: 42]، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31].
نعم، هكذا تكون العاقبة، وهذه بعض عقوبات الجبار جل في علاه، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 167]، لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: "هذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمهم فيها وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات وأنواع العز والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله متاع قليل، ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا ويعذبون عليه طويلا، هذه أعلى حالة تكون للكافر".
ومن الدروس مما وقع بدايات سقوط النظام الرأسمالي الليبرالي وظهور عوراته وسوآته للناس وإفلاسه وفشله، لقد نسفت هذه الأزمة كثيرًا من مبادئ الليبرالية الاقتصادية التي كانت تبشر بها أمريكا، كما أنها أثبتت أن ترك الأمر لقوانين السوق دون أي ضبط ومراقبة يؤدي إلى كوارث تصيب الاقتصاد الكلي في مقتل؛ نتيجة لبعض الرغبات الجامحة لدى بعض الرأسماليين الجشعين في الثراء الفاحش دون النظر في عواقب الأمور. وها هو العالم بأسره يقع اليوم ضحية لمقامرة البعض من تجار "وول ستريت"؛ ليعلم المخدوعون بحقيقة هذا النظام المرة وعدم صلاحيته لتسيير أمور الناس، وأن الحق والعدل والخير والرحمة في المنهج الإسلامي الفريد المنزل من لدن لطيف خبير، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 65، 66]، فبالإيمان بالله وبما شرع وتحقيقِ تقواه واتباعِ شريعته تحصل الخيرات وتعم البركات وتتنزل الرحمات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 16، 17].
اللهم الطف بأحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أخرجهم من هذه المحنة سالمين غانمين تائبين منيبن، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ادفع عنا وعن المسلمين الغلاء والوباء والكساد والدمار، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء يا ذا الجلال والإكرام...
(1/5709)
إن أخذه أليم شديد
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آثار الذنوب والمعاصي, البيوع, مذاهب فكرية معاصرة
ياسر بن محمد بابطين
جدة
17/10/1429
جامع الأمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قوة بطش الله تعالى. 2- الأزمة المالية العالمية. 3- طغيان الكفار وظلمهم. 4- يمحق الله الربا. 5- الاعتبار بما حصل. 6- ضرورة الرجوع للمشروع الإسلامي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، إن الله يملي للظالم ويمهله، فإذا أخذه لم يفلته، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. كم قصم من قرية وهي ظالمة، وكم أهلك من القرون من قبلنا لما ظلموا، وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، له جلّ في علاه أجنادٌ مجندة، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ.
قطرة الماء التي جعل منها كل شيء حي تنهمر وابلا وتفيض طوفانا يهلك الحرث والنسل، نسمة الهواء التي بها يحيا المخلوقات تتحرك إعصارا يدمر كل شيء، الأرض التي جعلها الله مستقرا ومتاعا تهتز وتضطرب زلزالا فتبتلع الأرض من تقلّه ويخر السقف على من يظلّه وتصبح كأن لم تغنَ بالأمس، الأنعام التي سخرها للناس ليأكلوا منها ومنها يركبون تحمل الأدواء والأمراض فيقتلها أصحابها ويهدرون كل منافعها قبل أن تقتلهم، حتى البشر أنفسهم يلبسهم الله شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، يسلط عليهم ظَلَمَتهم، ويملك رقابهم جبابرتهم، ويجعل بعضهم لبعض فتنة... واليوم نرى من جند الله شيئا عجبا، المال الذي يجمعه صاحبه ويعدده ويظن أنه سيخلده، المال الذي ظنه الظالمون سندهم ومأواهم فأصمهم وأعماهم، حتى قال كبيرهم وهو يعلن الحرب على المسلمين في أفغانستان والعراق: "إن قوة الاقتصاد الأمريكي كفيلة بتحمل أعباء الحرب"! هذا المال الذي انطلقت منه الحرب على الأبرياء في مطلع رئاسة الرئيس الذي يودّع اليوم منصبه ليختم سجله الإجرامي بانهيار اقتصادي لا يمكن التنبؤ بآثاره ولا أمده ولا مداه، وهكذا أشهَد الله خلقه أجمعين على خاتمة الظلم الذي خسر الحرب وخسر الاقتصاد معا.
انحدار للمؤشرات، انهيار للتوقعات، تأميم للمصارف وإفلاس للشركات، نزف مالي، تضخم وغلاء، وضخ يائس للسيولة، قمم استثنائية، حيرة وتخبط ونفق مظلم، وأصبح عام 2009م الذي تنبأ الاقتصاديون أنه عام رخاء أصبح هاوية لا مستقر لها، ثم ماذا؟ انتحار وجنون، وأمراض نفسية، وقلق واضطراب، وأمواج الاقتصاد الحر تقذف بجيف الضحايا على شاطئ الإفلاس، والمؤمنون يقولون: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ. ينظر الفقراء إلى أولئك المرابين الذين امتصوا دماءهم وكسروا بالخيلاء قلوبهم وقد حلت بهم الويلات وأحاطتهم النقم، فيرددون مقولتهم التي كانوا يقولونها أيام الكساد الكبير عام 1929م يوم كانوا يقولون: "هذا ما يستحقه الأنذال الأثرياء"، وكأن التاريخ يعيد نفسه!
لقد طغى الكفار وتجبروا، وعتوا عتوًا كبيرا، استكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا: من أشد منا قوة؟! استضعفوا طوائف من المؤمنين يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وينهبون ثرواتهم ويعيثون في ديارهم، لقد آذوا الله ورسوله، وامتهنوا كتابه، وعذبوا أولياءه، وافتروا عليه فقالوا: إنه اختارهم لقيادة العالم، وإنهم هم نهاية التاريخ، وإنه يبارك حربهم، وأعظموا الفرية وجاؤوا ببهتان عظيم حين قالوا: "إنهم يصححون خطأ الرب" تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ملؤوا الأرض ظلما وجورا وربا وزنا وخمرا ومعازف، رفعوا بالمال الحرام أبراجا عالية، وبنوا بكل ريع آية يعبثون، واتخذوا مصانع لعلهم يخلدون، وبطشوا جبارين، وظنوا أنهم لا يرجعون، فأمهلهم ولم يهملهم، ثم لما أراد كان ما أراد، فحلت لعنة الربا حيث كان يحل، ونزل شؤم حرب الله على من آذنهم بها، وتجاوزت دائرة آثار الجريمة أهلها، وتلك سنة من سنن الله، قالت زينب رضي الله عنها: يا رسول الله، أفنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)).
إن كل الدراسات والتحليلات للأزمة الراهنة على تنوع أساليبها وتباين مضامينها تجتمع في ثلاث كلمات هي جوهر ما يحدث اليوم، ألا وهي: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا ، كل جذور القضية ترجع إلى القروض الربوية التي يعاد تعليبها ثم بيعها بعد التأمين عليها، ثم تصاغ منها مشتقات ربوية مع الرهن تباع على صناديق استثمارية، وتتداخل البيوع المحرمة، وتصاغ عقودها بالربا والميسر والغرر، ظلمات بعضها فوق بعض، لم تزل تتراكم آثارها وتتجمع آفاتها، وسدنة الاقتصاد الحر يوغلون في غيهم، ويسترسلون في ظلمهم، ويستعجلون بالعذاب، ويستهزئون بالوعيد، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ.
لقد آذنهم الله بحرب منه، والحرب من الله ليست كالحرب من غيره، لقد أعلن عليهم حربه، فمن ينصرهم من بأس الله؟! ومن ينجيهم من نقمة الله؟! أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ.
أين ذهبت تلك الترليونات من الدولارات؟! يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا. كيف تتبخر السيولات التي تُضخ إلى الأسواق؟! يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا. لماذا لا يستطيع أحد إيقاف هذا الانهيار؟! يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا. وأسئلة تظل معلقة في الهواء بلا إجابات: ماذا سيحدث؟ إلى أين ستمتد الآثار؟ إلى متى ستظل الأزمة؟ متى يتوقف الزلزال؟ هل الحلول المطروحة كافية؟ أما الاقتصاديون فيقولون: "لا نرى نورا في نهاية النفق"، استسلام مطلق، وعجز ظاهر، وقلق وحيرة. روى الإمام أحمد عن ابن مسعود عن النبي قال: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل)).
أيها المؤمنون، قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. لقد كان المفتونون يراهنون على الاقتصاد الحر، ويقولون: "لا اقتصاد بلا مصارف، ولا مصارف بدون ربا"! كانوا يقولون: "إن الذين يقفون في وجه الربا رجعيون ومتخلّفون، لا مكان لهم في الواقع، سيتجاوزهم الزمن ويجتاحهم الطوفان"، كانوا يقولون: "ما دخل الإسلام في الاقتصاد؟! وما علاقة الدين بالمال؟!"، لقد قالوا والله مثلما قال الأولون الذين: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. حين سقطت الشيوعية قالوا: "إن الخلل ليس في أنها إعراض عن حكم الله واستبدال لشرعه بأهواء البشر، ولكنه خلل في طبيعة النظرية الاشتراكية فحسب"، وقالوا: "إن الرأسمالية هي البديل، والاقتصاد الليبرالي هو الحل". فما الذي حصل؟ أفلست الرأسمالية، وانهار الاقتصاد الليبرالي، وصار الاقتصاديون الغربيون أنفسهم يلعنون نظامهم الذي صدروه للعالم ليكون دستورا للتجارة العالمية، صاروا يقولون: "إنه نظام مهترئ بالٍ فاشل غير قادر على البقاء، ولا بد من نظام جديد، لا بد من إعادة بناء النظام المالي من جذوره". منذ عقدين والاقتصادي الفرنسي "موريس آلي" الحائز على جائزة نوبل يحذر من الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة "الليبرالية المتوحشة" كما يسميها، ويقترح لإعادة التوازن تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر، ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب اثنين بالمائة، فيفاجأُ المسلمون المنهزمون أن النظام الاقتصادي الوحيد الذي يلغي الفوائد الربوية ويفرض الزكاة بنسبة اثنين ونصفٍ بالمائة هو الاقتصاد الإسلامي!
أما اليوم فهم أكثر وضوحا وصراحة، يقول: "بوفيس فانسون" رئيس تحرير مجلة "تشالينجز": "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود". ويكتب "رولان لاسكين" رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دفينانس" مقالا بعنوان: "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟". وتعلن الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية اشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام من إبرام العقد منعا للصفقات الوهمية والبيوع الرمزية، التقابض الذي لا تشترطه إلا الشريعة الإسلامية.
قبل أسابيع منعت أمريكا البيع على المكشوف الذي منعه النبي قبل أربعةَ عشر قرنا بقوله: ((لا تبع ما ليس عندك)).
ومع كل هذه الشهادات فلا يزال الذين في قلوبهم مرض الذين يسارعون فيهم، لا يزالون يكذّبون ما يرون، ويجادلون في الحق بعدما تبين، ويدافعون عن باطلٍ تبرأ منه أهله، يعِدون ويمنون، وما يعدون إلا غرورا، تماما كما حدث حين سقطت الشيوعية من قبل، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، كثيرا ما تحدق بنا الأخطار فلا نراها إلا حين تصيب دنيانا، حين استهوتنا أسواق الأسهم، ودخلنا دوامة التداول، لم نكن نشعر بالخسائر التي نخسرها في أخلاقنا وديننا، حين انغمس البعض في السوق حتى صار يستقبل الشاشة في صلاته، وحين قلَّ الورع حتى تتبع الكثيرون رخصَ الفتاوى في الأسهم المختلطة وتجرأ البعض حتى على الأسهم المحرمة، حين امتلأت قلوبنا بالطمع، وسرت أخلاق سوق المال فينا فتعلمنا النجش والخداع والجشع والاحتيال والأنانية والشح، وتشاغلنا عن أطفالنا وبيوتنا، وصارت صالات التداول تهدد الأسر وتعرقل التنمية وتسرق الكفاءات من مواقعها، كان كل ذلك يحدث ونحن لا نشعر، فلما انهارت الأسهم ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، ورأينا ما كان يحيط بنا، واستفقنا من غفلتنا.
اليوم أيضا يلعن الناس الليبرالية التي رمت باقتصاد العالم إلى الحضيض، ولكنهم لم يلعونها من قبل حين كانت تدمر أخلاقهم وتبدل قيمهم وتفرض عليهم الثقافة الأمريكية والرطانة الإنجليزية، حين كانت تنخر الهوية الإسلامية بالفضائيات الماجنة والصور الفاتنة والأفلام المثيرة والأفكار المنحرفة والأهواء البشرية، أكثر الناس لم يشعر بخطر الليبرالية، بثمن الحرية المتمردة على دين الله، بتبعة التفلت من ضوابط الشريعة، إلا حين حلت النكبة بالأموال والعقارات والاستثمارات، فإلى متى تظل الدنيا هي كل ما نرى؟!
أيها المؤمنون، إنه لا أمان مما يجري من حولنا ولا حل لما يحيط بنا إلا الحل الإسلامي، إنه الحل لا لأن الغرب بدؤوا ينادون به رغم أنهم فعلوا ذلك، إنه الحل لا لأنه الوسط بين الاشتراكية والرأسمالية رغم أنه كذلك، إنه الحل لا لأنه ينصر المظلومين ويحمي الكادحين رغم أنه كذلك، ولكنه الحل لأنه الدين الذي ارتضاه الله والحكم الذي أنزله الله، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
إنه الحل بعيدا عن مزايدات المنتفعين واحتيالات المخادعين الذين يتلاعبون باسم "الاقتصاد الإسلامي"، ويستغلون إقبال الناس على الحلال ورغبتهم في المعاملات النقية. إنه الحل مهما ضعف المسلمون عن تسويقه، مهما عجزوا عن صياغته في برامج واقعية تفصيلية تُصلح دنيا الناس وآخرتهم.
إنه ليس حلا جزئيا تستورده الليبرالية لتقيل عثرتها، ولا مقترحات مفككة تقتبس منها العلمانية لتصلح اقتصادها، إنه لبنة في بناء متكامل أنزله الله ليحكم حياة الناس في كل شؤونها، وليضبط تصرفات البشر بكل تفاصيلها، إنه الدين الذي أنزله الله رحمة للعالمين. إن بينه وبين الاقتصاد المنهار فوارق جوهرية تنبع من حقيقة العبودية المحضة والاستسلام الكامل لأمر الله.
أين اقتصادُ الربا والميسر والغرر والنجش والأصابع الخفية، اقتصادُ الضرائب والمكوس، اقتصادُ الخيلاء والإسراف والكنوز المكنوزة، اقتصادُ الأخلاق النفعية البراقة، الاقتصادُ الذي يجعل المال دولة بين الأغنياء ويوطئ المرابين رقابَ الفقراء، الاقتصادُ الذي جدد للبشرية عهود الإقطاع في صورة أكثر خفاء وتدرجا وقانونية؟! أين هو من اقتصاد النقاء والطهر والصدق والوضوح؟! هل يعرف الاقتصاد الحر شيئا اسمه: ((سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى)) ؟! هل يعرف قاعدة: ((فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) ؟! هل في قوانين قروضه: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟! هل يعدُّ المنافس في نفس النشاط التجاري أخا ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه)) ؟! هل يعرف البركة والمحق؟! هل يدرك أسرار التوفيق وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ؟! هل فيه مثل قوله : ((يل للمكثرين إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وهكذا)) يرسل يده في كل اتجاه صدقة وصلة وإحسانا للناس؟! أين ذلك الحضيض من هذا السمو؟! أين ذلك الظلام من هذا النور؟!
اللهم ارحمنا برحمتك، واحفظنا بحفظك، ونجنا بفضلك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم أنقذ أموال المسلمين، اللهم عوضهم خيرا عاجلا، اللهم آتهم رزقا رغيدا، وعيشا سعيدا...
(1/5710)
الأزمة المالية العالمية
أديان وفرق ومذاهب, فقه
البيوع, مذاهب فكرية معاصرة
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
17/10/1429
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انهيار الاقتصاد الأمريكي. 2- من مبادئ الاقتصاد الإسلامي. 3- أسباب الأزمة. 4- دروس وعبر من الأزمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانه ومراقبتِه في السّرِّ والعلن والاستعداد ليوم المعاد، فإنَّ السّاعةَ آتية لا ريبَ فيها وإنَّ الله يبعث مَن في القبور.
"الموت أو الهلاك" هذه هي الصيحة التي أطلقها محافظ البنك المركزي الأمريكي معبرًا عن عمق الأزمة التي ضربت الاقتصاد الأمريكي.
عباد الله، إنها ليست مفاجأة لنا ـ نحن المسلمين ـ أن يترنح اقتصاد يقوم على مبدأ الحرية المطلقة ويتغذى على الربا, ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن بقيم نبيلة في البيع والشراء, كما أنها مفاجأة وإحراج لكل من نحا نحوهم أو دار في فلكهم, أما المسلمون فقد تعلموا منذ أكثر من 14 قرنا أنه لا توجد في السوق حرية مطلقة, وأن الربا كبيرة من الكبائر, وأنه لا يجر إلا الدمار وخراب الديار والويلات, وأنه محق للمال والبركات، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276]، بل تعلم ذلك قبلهم اليهود والنصارى في كتبهم المنزلة من السماء كما أشار إليه الخالق سبحانه في قوله: وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء: 161].
أيها المؤمنون، وحيث إن أسواقهم لا تدين إلا بالرأسمالية فقد تنكب هذا الخلق الضعيف طريق الحق, وخالفوا تعاليم الخالق، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]، وتفننوا في تشريع قوانين أرضية تناهض قوانين السماء, فأصدروا قانونًا يبيح الربا ويقنن الحصول عليه, وأسسوا مبادئ رأسمالية تحترم رأس المال ولا تحترم الآدمي ذاته؛ ولهذا جوزوا مثلا للشركات الزراعية أن يتلفوا محاصيلهم وأن يلقوها في المزابل ويدفنوها تحت التراب ليحافظوا على حركة العرض والطلب ولو تضور الفقراء جوعا! بل وضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين، ولأن هذه المبادئ والمثل من وضع البشر وليست من خالق البشر فقد تراجع دعاتها وحماتها اليوم عما كان له صفة القداسة أمس.
لقد قيد الإسلام الحرية التي لا ترعي بالاً للفقير والمسكين, أو تلك التي تحترم الفرد على حساب الكل, فحرم الربا, ومنع من الإقراض بالفائدة؛ لما يؤديان إليه من أثر سلبي وخطير على الفقراء وعلى الاقتصاد العام، وسمح بالدَين ولكن في حدود الحاجة, وبضوابط شرعية تمنع من وقوع أزمات أو حدوث انهيارات تضر بأصحاب الأموال أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام.
ولهذا نجد الشارع الحكيم قد وضع للدين ضوابط كثيرة تكبح جماحه وتسمح بالاستفادة منه بالقدر الذي لا يضر بالفرد والمجتمع, ولهذا نجد نصوصا شرعية كثيرة تلمح إلى خطر الدين, كما في استعاذته من المغرم وهو الدين ومن ضلع الدين أي: ثقله، كما في حديث البخاري: كان النبي يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال)) , وفي صحيح البخاري أيضا عنه أنه كان يدعو في الصلاة ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) , فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ ـ يا رسول الله ـ من المغرم! فقال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)) ، وفي سنن النسائي أنه كان يدعو بهذه الكلمات: ((اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء)) ، واليوم نرى كيف غلبت الديون شركات وبنوكا كبرى, وأرغمتها على الإفلاس.
كما ألمح هذا إلى خطر الدين فقد ألمح إليه أيضًا عدم صلاة النبي على من توفي وعليه دين, كما جاء في صحيح البخاري: أتي رسول الله بجنازة فقال: ((هل عليه دين؟)) قالوا: نعم, قال: ((هل ترك شيئا؟)) قالوا لا, قال: ((صلوا على صاحبكم)) ، قال أبو قتادة رضي الله تعالى عنه: هو عليّ يا رسول الله, فصلى عليه رسول الله ، بل ألمح إلى خطره ببيان أنه من الأشياء التي لا تغفر للعبد مهما بلغ صلاحه, ولهذا جاء في صحيح مسلم: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)).
أحبتي في الله، وها نحن نرى اليوم أزمة الائتمان المفتوح في الدول الكافرة, وما خلفته من ضحايا في طول العالم وعرضه, ثم توزيع هذه الأزمة بالمجان على البنوك والشركات والأفراد.
أيها المؤمنون، وقد أمر الشارع المسلم بضرورة إعادة الدين إلى صاحبه, وبتحسين النية عند اقتراض المال للحاجة, كما جاء في صحيح البخاري: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) ، وهذا فيه تحذير من تبييت المقترض للنية السيئة وإضمار عدم السداد؛ وذلك محافظة على الأموال وصيانة لها من الأيدي العابثة وحرصًا على عدم تعريض المجتمع إلى هزات عنيفة بسبب الديون المتراكمة.
لقد نظم الإسلام الحياة الاقتصادية بقانون من الخالق جل وعلا, وذلك لينعم الخلق بحياة اقتصادية آمنة, تحترم الغني والفقير, وتراعي المصلحة العامة والخاصة, وتحفظ للناس حقوقهم, ولهذا أجازت البيع، وحرمت الربا والغرر والتغرير والقمار، وأذنت في التجارة, ومنعت الاحتكار وبيع البائع ما لا يملك أو ما ليس في حوزته ومِن رِبحِ ما لا يضمن؛ ليقتسم الجميع الربح والخسارة.
ولو أخذت النظم الحديثة بهذا القانون الإلهي العادل لم تحتج إلى تجربة شيوعية ولا رأسمالية يَثبت فشلها مع مرور الأيام, وتتعرض الأسواق بسببها للانهيار والشركات للإفلاس والتقبيل, ولكن ليس بعد الكفر ذنب.
إخوة الإسلام، ولعلنا هنا نعرج على بعض الأسباب الخفية التي كانت وراء هذه الأزمة المالية العالمية، ونحن نعتبرها خفية لأن كثيرًا من الناس قد لا يعتبرونها أسبابًا للمشكلة مع أنها من الأسباب الحقيقية لها والله أعلم:
أولاً: النظام الربوي الذي يقوم عليه اقتصاد اليوم، والذي يمثل عدوانًا صارخًا على مفهوم الإنسانية وما يتفرع منها من قيم التسامح والتكافل، فهذا النظام محكوم عليه بالفشل حتى وإن حقق نجاحات جزئية وقتية؛ لأن الله تعالى تكفل بإفشاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]، والمجتمعات الرأسمالية بيان واضح للظلم الناشئ من النظام الربوي السائد.
ثانيًا: الحروب الظالمة في العراق ومن قبلها أفغانستان وغيرها من الدول التي تحاربها دول بالأصالة أو النيابة، وهو الأمر الذي كان متوقعًا منذ أن بدأت الدول الكافرة الظالمة توسعها الإمبراطوري على حساب الدول الإسلامية، فالتوسع يقابله استنزاف للموارد والإمكانيات، وهو الأمر الذي تسبب في إرهاق الخزانة المالية لديها، فهذه الحروب تستنزف مليارات الدولارات شهريًا، فلعل هذه الأزمة عقاب لهذه الدول الظالمة جراء ظلمهم وعدوانهم.
أحبتي في الله، بل لعل الحصار الظالم المفروض على إخواننا في غزة الأبية هو من أسباب تلك الأزمة التي كانت عقابًا مضاعفًا للظلم المرير الذي يكتوي بناره المؤمنون المصابرون في تلك الديار المباركة.
ثالثًا: الحرب الضروس التي شنتها تلك الدول على المؤسسات الخيرية الإسلامية؛ مما تسبب في إغلاق العديد منها وتوقف أعمالها الخيرية، مما أدى إلى حرمان الآلاف من الجائعين والمحتاجين من الطعام والكساء، فكان أن ضربها الله في اقتصادها، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُون وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله ، قلت ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله المرجوّ عفوُه وثوابه، والمخوف مكرُه وعقابُه، أحمده تعالى وأشكره، غمَر قلوبَ أوليائه برَوح رجائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له منّ على عباده بجزيلِ نعمائه وفَيضِ آلائه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد أنبيائه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وأصفيائه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: فإن من أهم الدروس التي نستفيدها من هذه الأزمة التي عصفت باقتصاد العالم:
أولاً: أن الخير كل الخير في المنهج الرباني الذي رسمه لنا الإسلام في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعبادية وغيرها، وما تنكب الناس شرع ربهم وأعرضوا عنه إلى أخذتهم المصائب والأزمات والأمراض والمشكلات، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124].
ثانيًا: أن الله تعالى ممهل العصاة لكنه لا يهملهم، ومتى أخذ الله أحدًا بمعصية أيًا كانت تلك المعصية فإنه يهلكه، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال : ((إيّاكم ومحقرات الذنوب، فإنّما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
ثالثًا: أن الدول الكافرة وإن تعاظمت إلا أن نهايتها الزوال والذل والخسارة والبوار، ولئن كانت دول الغرب اليوم تتكبر على العالم فليست أول الهالكين، فلقد أهلك الله تعالى القرون الأولى بعد أن تجبرت وظلمت وطغت وبغت وكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وإن الذي أهلك فرعون وقارون وهامان وعادًا وثمود وأصحاب الرس لقادر سبحانه أن يهلك دول الكفر اليوم بقوله: كوني، فتكون كما يشاء سبحانه.
رابعًا: أن المستقبل للإسلام لا محالة، وأن الله تعالى ناصر دينه ومعز أولياءه، ومن دلائل ذلك ـ ونحن نتحدث عن الأزمة المالية ـ ما انتشر في وسائل الإعلام من مقولات ينطق بها عقلاء العالم ويصيحون بها أن ارجعوا إلى الإسلام ففيه الخير للعالمين. استمع ـ يا رعاك الله ـ إلى رئيس تحرير صحيفة فرنسية في الافتتاحية قبل ما يقرب من خمسة وعشرين يومًا، تحت عنوان: "هل حان الوقت لاعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية في وول ستريت؟" يقول فيه: "إذا كان قادتنا حقًّا يسعون إلى الحد من المضاربة المالية التي تسببت في الأزمة فلا شيء أكثر بساطة من تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية". كما انتشر في الغرب وفي العالم العربي والإسلامي مقال رئيس تحرير مجلة "تشالنجر" كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا في افتتاحية الجريدة قبل شهر بعنوان: "البابا أو القرآن"، وجاء فيه: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من أحكام وتعاليم وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري لأن النقود لا تلد نقودًا".
فهذه المقولات وغيرها الكثير مما يدل على أن العالم بدأ يحمل أمتعته ويتوجه نحو الإسلام العظيم الذي أنقذ العرب في القديم، وسينقذ العالم كله في القريب العاجل بإذن الله.
عباد الله، صلوا على نبي الرحمة وإمام الأمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم احفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، اللهم من أراد بنا سوءًا فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرا عليه، وافضحه على رؤوس الأشهاد، اللهم ومن كان في بقائه صلاح للإسلام والمسلمين فوفقه وأيده، ومن كان في بقائه ضرر على الإسلام والمسلمين فخذه أخذ عزيز مقتدر. اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والزنا والزلازل والفتن ما ظهر منها وما بطن...
(1/5711)
التبيين لفضائل إنظار المعسرين
فقه
الديون والقروض
نايف بن أحمد الحمد
غير محدد
17/10/1429
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا تنافي بين إتمام النعمة والابتلاء. 2- أزمة الأسهم. 3- فضائل إنظار المعسر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله تعالى: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 150]، ثم قال بعدها بآيات: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 155، 156]؛ "ليُعلِم الله تعالى المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه، فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله، ويزدادون به رفعة وزكاء، ويزدادون يقينًا بأن اتِّباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حُظوظ في الدنيا، وينجر لهم من ذلك ثواب، ولذلك جاء بعده وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " اهـ من التحرير والتنوير (2/54).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبل الهدى) رواه ابن جرير (2329) وابن المنذر وابن أبي حاتم (1421) والطبراني في المعجم الكبير (13027) والبيهقي في شعب الإيمان (9689) وانظر: الدر المنثور (1/376).
وفي هذه العجالة لن أتحدث عن فضيلة الصبر وأهميته، بل سيكون الحديث عن فضائل إنظار المعسرين وإمهالهم، فكثير من الناس قد ابتلي بالدخول في سوق الأسهم هنا وهناك، وقد حدث ما لم يكن في حسبان كثير منهم من تتابع انهيارات البورصات؛ مما كبد ملاك الأسهم خسائر لا يعلمها إلا الله تعالى، وتسبب في إفلاس كثير من الشركات والبنوك العالمية، فضلا عن الأفراد، وفي هذه الكلمات أذكّر إخواني أهل الثراء ومَن مَنَّ الله عليهم بالمال بالتريّث وعدم مطالبة المعسرين من إخوانهم المتضررين والفقراء واحتساب ذلك عند الله تعالى والصبر عليهم حتى يفرج الله تعالى عنهم، فإن لهذا العمل من الفضائل ما لا يخطر ببال كثير منا، ومن هذه الفضائل:
أولا: أنه في ظل العرش يوم تدنو الشمس من الناس قدر ميل أو ميلين، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِ مِنَ الأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ وَمَعَهُ غُلاَمٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ، إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ مَالٌ فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لاَ، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ, فَخَرَجَ فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لاَ أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ وَكُنْت صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا، قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلاَّ أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَي هَاتَيْنِ ـ وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ ـ وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا ـ وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ ـ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يَقُولُ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ)) رواه مسلم (7704). وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه مسلم وأحمد (22612).
قال المناوي رحمه الله تعالى: "لأن الإعسار من أعظم كرب الدنيا، بل هو أعظمها، فجوزي من نفس عن أحد من عيال المعسرين بتفريج أعظم كرب الآخرة وهو هول الموقف وشدائده بالإزاحة من ذلك ورفعته إلى أشرف المقامات، ثم قالوا: وقد يكون ثواب المندوب أكمل من ثواب الواجب". فيض القدير (6/303).
ثانيا: نجاة منظر المعسرين من كرب يوم القيامة لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ، فَقَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ)) رواه مسلم (4083).
ثالثا: السلامة من فيح جهنم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَأَوْمَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْضِ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ)) رواه أحمد (3017) قال المنذري: "رواه أحمد بإسناد جيد" الترغيب والترهيب (1349) وقال الهيثمي: "رواه أحمد وفيه عبد الله بن جعونة السلمي ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله رجال الصحيح" مجمع الزوائد (4/240).
رابعا: دعاء النبي له بالرحمة، عن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله قَالَ: ((رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى)) رواه البخاري (1970). قال ابن بطال رحمه الله تعالى: "فيه: الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والدقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه؛ لأن النبي عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك في الآخرة فقد دعا عليه السلام بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النبي عليه السلام فليقتد بهذا الحديث ويعمل به. وفي قوله عليه السلام: ((إذا اقتضى)) حض على ترك التضييق على الناس عند طلب الحقوق وأخذ العفو منهم" شرح صحيح البخاري (6/210). وقال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "هذا خبر بمعنى الدعاء، يعني يدعو له بالرحمة إذا كان سمحا في هذه المواضع... فهذه الأحوال ينبغي للإنسان أن يكون سمحا فيها حتى ينال دعاء رسول الله " اهـ. وكذا دعاؤه له بقوله: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) رواه مسلم (7028) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
خامسا: إنظار المعسر بالمال المطالب به كالصدقة به عليه وأكثر، فعن بريدة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلاهِ صَدَقَة)) رواه أحمد (33060) وصححه الحاكم (2225) ووافقه الذهبي وقال البوصيري: "رواه أبو يعلى وأحمد بن حنبل بسند صحيح" إتحاف الخيرة المهرة (2111) وقال المناوي: "إسناده صالح" التيسير بشرح الجامع الصغير (2/786). قال السبكي رحمه الله تعالى: "وزع أجره على الأيام يكثر بكثرتها ويقل بقلتها، وسره ما يقاسيه المنظر من ألم الصبر مع تشوق القلب لماله، فلذلك كان ينال كل يوم عوضا جديدا" فيض القدير (6/117) التيسير (2/786).
سادسا: الجزاء من جنس العمل، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما عن النَّبِيَّ قَالَ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ)) رواه أحمد (6494) وأبو داود (4943) والترمذي (1924) وقال: "حديث حسن صحيح". ولا شك أن من الرحمة بالمعسر إنظاره، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِي اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ)) رواه البخاري (1972) ومسلم (4081)، وعن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لاَ، قَالُوا: تَذَكَّرْ، قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَجَوَّزُوا عَنْهُ)) رواه البخاري (1971) ومسلم (4076)، ورواه مسلم (4079) أيضا بلفظ: ((أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ ـ قَالَ: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ـ قَالَ: يَا رَبِّ، آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي)).
فمن شكر الله تعالى على نعمه إنظار عباده المعسرين، وأن لا يضطروهم إلى الاختفاء والكذب والخلف بالمواعيد، فعن عَائِشَةَ زَوْج النَّبِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ)) ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ)) رواه البخاري (798) ومسلم (1353).
وفي الختام، أشير إلى أن إنظار المعسر واجب شرعا ولا يجوز لصاحب الحق مطالبته إذا علم عسره، انظر: الحاوي للماوردي (11/454) وفتح الباري (4/308)؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280]، قال الضحاك رحمه الله تعالى: "من كان ذا عسرة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ، وكذلك كل دين على المسلم فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه، وَأَنْ تَصَدَّقُوا برؤوس أموالكم يعني: على المعسر خَيْرٌ لَكُم من نظرة إلى ميسرة، فاختار الله الصدقة على النظارة" رواه ابن جرير (6/33) وانظر: الدر المنثور (2/113). وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ المدين ذُو عُسْرَةٍ لا يجد وفاء فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ، وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به" التفسير (116)، وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر، وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء" الجامع لأحكام القرآن (3/372). قال سيد قطب رحمه الله تعالى معلقا على الآية: "إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية، إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار، إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع" في ظلال القرآن (1/314).
اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5712)
الأزمة المالية العالمية
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, مذاهب فكرية معاصرة
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
17/10/1429
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سقوط النظام المالي الشيوعي والرأسمالي. 2- أسباب انهيار الاقتصاد الأمريكي. 3- ميل عقلاء الغرب للحل الإسلامي. 4- فبما كسبت أيديكم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، "الموت أو الهلاك" هذه هي الصيحة التي أطلقها محافظ البنك المركزي الأمريكي معبرًا عن عمق الأزمة التي ضربت الاقتصاد الأمريكي قاطرة الاقتصاد العالمي، وتركته مترنحًا بعد أن كان جامحًا جشعًا لا يلوي على شيء.
أيها المسلمون، لقد جربت بعض الدول النظام المالي الشيوعي الذي صادر حق الفرد في التملك، وجعل الدولة كشركة يعمل أفرادها فيها مقابل ملء بطونهم وستر أجسادهم وتوفير الضروري من مقومات حياتهم، وليس لهم حق فيما زاد على ذلك، فساوى هذا الفكر المنحرف بين العامل والعاطل، وبين الجاد والكسول، ففشل وسقطت الدول التي كانت تتبنى الفكر الشيوعي, وانقسم بعضها إلى دويلات. واليوم ثبت فشل النظام الرأسمالي الذي تبنته مجموعة من الدول الغربية حيث أطلق للأفراد حرية التملك وتنمية المال بأي وجه؛ مما سمح للأقوياء أن يسحقوا الضعفاء وللأغنياء أن يبيدوا الفقراء بمسوغات السوق الحرة والتجارة الحرة.
لقد تنكب أولئك الخلق طريق الحق وخالفوا تعاليم الخالق، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]، تفننوا في تشريع قوانين أرضية تحترم رأس المال ولا تحترم الآدمي ذاته؛ ولهذا جوزوا للشركات الزراعية مثلا أن يتلفوا محاصيلهم وأن يلقوها في المزابل ويدفنوها تحت التراب ليحافظوا على حركة العرض والطلب ولو تضور الفقراء جوعًا! بل ووضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين وذي العيلة, وتسبح بحمد رجل الأعمال ولو وُضع الفقير بسببها تحت الأشغال الشاقة!
عباد الله، ليست مفاجأة لنا ـ نحن المسلمين ـ أن يترنح اقتصاد يقوم على مبدأ الحرية المطلقة ويتغذى على الربا ويستند على السندات والديون ويقامر حتى الثمالة! ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن إلا بالقيم الرأسمالية, ولا يمتثل إلا لأفكارها, ولا يحترم إلا أبجدياتها وأدبياتها، كما أنها مفاجأة وإحراج لكل من نحا نحوهم أو دار في فلكهم أو سبح بحمدهم.
أيها المسلمون، إن أسباب الانهيارات المالية الحاصلة في العالم لا يمكن حصرها فقط في الصعوبات التي تعرضت لها بنوك العقارات الأمريكية، نتيجة لهبوط الأسعار في سوق العقارات الأمريكية فحسب، وإنما هناك أسباب كامنة أخرى لا يمكن غض النظر عنها أو تناسيها، ومنها: أن الربا ومعاملاته الجائرة سبب رئيس لهذا الفساد الاقتصادي المهدد بالسقوط، وهذه حقيقة كشفها القرآن قبل أكثر من ألف عام حين أعلن الله تعالى حربه على المصرين على التعامل بالربا، وأنى لقوة مهما كانت أن تصمد لحرب الله، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [البَقَرَةِ: 278، 279]. إنه جزء من انتقام الله الذي وعد به المرابين: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البَقَرَةِ: 275 ].
ويؤكد الذي لا ينطق عن الهوى في سنته أن عاقبة الربا إلى قل وإن توهم المرابون خلاف ذلك وانخدعوا بالورم الخبيث، روى الحاكم بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل)).
عباد الله، ومن أسباب هذه الأزمة ظلم أولئك القوم للمسلمين وغير المسلمين، الظلم ما أشد عاقبته وما أسوأ نهايته وما أقبح خاتمته! فكم ظلمت تلك الدولة الكافرة المستكبرة، وكم طغت وبغت، وكم اغترت وقالت: إنها أشد الناس قوة، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15].
لطالما ناصروا الدولةَ اليهودية في ظلمها وبطشها، أمدوهم بالسلاح الذي يقتلون به الأبرياء، ووقفوا معهم في المحافل الدولية مناصرة ومدافعة عنهم وعن ظلمهم وبغيهم وعدوانهم، ولا يخفى ماذا فعلوا ويفعلون في العراق وأفغانستان وغيرها من دول المسلمين، وصدق الله العظيم: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم: 42]، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31].
نعم، هكذا تكون العاقبة، وهذه بعض عقوبات الجبار جل في علاه، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 167]، لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: "هذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمهم فيها وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات وأنواع العز والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله متاع قليل، ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا ويعذبون عليه طويلا، هذه أعلى حالة تكون للكافر".
أيها المسلمون، وثالث الأسباب لهذه الأزمة المالية تلك الحرب الضروس التي شنها الغرب على المؤسسات الخيرية الإسلامية مما تسبب فى إغلاق العديد منها وتوقف أعمالها الخيرية؛ مما أدى إلى حرمان الآلاف من الجائعين والمحتاجين من الطعام والكساء. تسلطوا على لقيمات الفقراء في البلاد الفقيرة، فأخرجوها من أفواه اليتامى والمساكين، وجردوهم من كلِّ صدقة تأتيهم من الدول الإسلامية تحت كذبة "الحرب على الإرهاب". سعت أمريكا لتجميد كل مال ينفق في سبيل الله تعالى، فجمَّد الله تعالى أموالهم، ودأبوا على إغلاق الجمعيات الخيرية الإسلامية وملاحقة المتصدِّقين، فأغلق الله تعالى عليهم أبواب الرزق، وقاموا ببطرهم وأشرهم يصدون عن سبيل الله تعالى، فصدَّ الله تعالى عنهم سبل الخير، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأَنْفَالِ: 36 ].
عباد الله، سبحان من جعل القوة سببًا لضعف الأقوياء، وسبحان من جعل الضعف قوة للضعفاء، لقد ظن أكثر الناس قبل سنوات قلائل أن الغرب لا قوة تغلبهم وقد رأوا أساطيلهم تغطي البحار، وطائراتهم العملاقة تحلق في السماء، وأيقنوا أن لا شيء يهز اقتصادهم وقد بلغت صناعاتهم ما بلغت، وخيرات باطن الأرض تتدفق عليهم من كل مكان، وأعلنوا أن القرن قرنهم، وأن العالم كله مسخر لهم، وأن الدول تحت أيديهم وتصرفهم، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْرِ: 2]، وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يُونُس: 24].
أيها المسلمون، لو جاءهم البلاء من قارعة سماوية أو عاصفة بحرية أو ريح عاتية لقال الناس: عذاب كعذاب الأمم المكذبة قبلهم، ولو ضربوا بفعل البشر لقيل: إنهم أخذوا على حين غرة وانتقامهم سيكون شديدًا أليمًا، أو هي خدعة سياسية يبتزون العالم بها، ويسوغون تدخلاتهم في الدول، ولكن البلاء جاءهم من نظريتهم الرأسمالية التي حاربوا عليها الاشتراكية سبعين سنة، وطوعوا العالم كله في منظمة التجارة العالمية وقوانين السوق الحرة المفتوحة.
لقد جاءهم العذاب من نظريتهم التي بنوها بأنفسهم، ويرونها الآن تسير إلى طريق الانهيار، بلا علم منهم بأسباب ذلك ولا آثاره الحقيقية ولا نتائجه الأكيدة، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفَتْحِ: 7]، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [الْمُدَّثِّرِ: 31].
عباد الله، منذ سنوات والشهادات تتوالى من عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد تنبه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها النظام الرأسمالي، وضرورة البحث عن خيارات بديلة تصب في مجملها في خانة البديل الإسلامي. فالغرب يحاول الآن الاتجاه نحو الاقتصاد الإسلامي كمحاولة للخروج من أزمته المالية الطاحنة، يقول أحد رؤساء التحرير في الصحافة الفرنسية: "لقد آن الأوان لأن يعتمد على الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي؛ لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة".
وفي استجابة على ما يبدو لهذه النداءات أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية ـ وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك ـ قرارًا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في سوق المنظمة الفرنسية.
والسؤال ـ عباد الله ـ الذي يفرض نفسه هو: هل سينجح العرب والمسلمون في استغلال هذه الأزمة لصالح تطوير النظام الاقتصادي الإسلامي والاستثمار في بلادهم بدلا من بلاد الغرب؟ وهل ستتوب الدول التي تقوم اقتصادياتها على الربا والغرر والقمار والحرية المطلقة الظالمة من ذلك وتستفيد مما حصل وتتعظ قبل أن ينالها ما نال أكبر اقتصاد في العالم؟
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
و حطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
و سافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولا تتهم
صلوا بالجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، حقيقة ثابتة وقاعدة مقررة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، لا محيد عنها ولا مفر منها، ألا وهي أن الذنوب والمعاصي هي سر هذه البلايا المتتالية وسبب الكوارث المتعاقبة ومنشأ الأدواء المستعصية التي تعصف بالعالم كل يوم، وتتخطف الناس من حولنا ومن بيننا.
أيها المسلمون، اقرؤوا كتاب ربكم وسنة نبيكم، قلبوا صفحات التأريخ وتدبروها وتأملوا كم أهلكت المعاصي من أمم ماضية، وكم دمرت من شعوب كانت قائمة.
ما ظهرت المعاصي في أمة من الأمم ولا انتشر الفساد في دولة من الدول إلا جاءها وعيد الله الذي لا يخلف، وتحققت فيها سنته التي لا تتخلف، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هُودٍ: 102، 103]. يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به كتابه أن المعاصي سبب المصائب، وأن الطاعة سبب النعمة.
عباد الله، عجبا لحال الناس في هذه الحياة، يعصون الله تعالى بالليل والنهار، ويعرضون عنه، وينسون فضله وإحسانه، ويكفرون نعمه عليهم، ثم إذا جازاهم على بعض أعمالهم بالقليل إذا هم يتسخطون ويقنطون من رحمة الله وفضله وإحسانه، وإن من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنوب والمعاصي وهو يتمنى على الله المغفرة والسلامة.
أيها المسلمون، إننا حين نذكّر بما أصاب الغرب أو غيره من الأزمة المالية إنما نسوق ذلك للعبرة والعظة والتذكير بمصير الأمم عندما تحارب الله وتقصي شرعه وتفشو فيها المنكرات بلا حسيب ولا رقيب.
فاتقوا الله عباد الله، وانظروا إلى تخطف الناس من حولكم، وإلى الكوارث والمحن التي تصيب الدول القريبة منكم، واعلموا أنكم لستم بأفضل منهم إلا بمقدار تمسككم بشرع الله ومحافظتكم على دينه والبعد عن معصيته.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأَعْرَافِ: 96-100].
(1/5713)
رسالة للقائمين على التعليم
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
هتلان بن علي الهتلان
الظهران
18/10/1429
جامع محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل أهل الإسلام. 2- فئات المعلمين. 3- المدرس الذي نريده. 4- فضل التعليم والمعلمين. 5- التعليم تربية ودعوة. 6- هدي المصطفى في التعليم. 7- وصايا مهمة للمدرسين. 8- التحذير من خيانة وظيفة التعليم.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن أهل الإسلام ـ أيها الإخوة ـ هم معقل الحق ومأزر الإيمان، رسالتهم عالمية، أكرمهم الله بها، وحملهم أمانة المحافظة عليها وتبليغها في كل عصر وفي كل مصر، وبنظرة فاحصة في واقع الأمة في ناشئتها وأبنائها تبين أن الأمة أي أمة إنما تبقى محافظة على كيانها مدركة لمستوياتها ثابتة في موقعها حين يربي صغارها ليكونوا ورثة صالحين للإسلام أمناء على الميراث، يصاغون في قوالب عقائد الأمة ومناهج حياتها، عليها تتربى ومن أجلها تكافح، ومن ثم تنقلها صافية إلى الأجيال المتعاقبة، وإن القائمين على التربية والتعليم والتوجيه في الأمة ليضطلعون بدور ريادي ويؤدون واجبًا عظيمًا في هذا المجال.
وللأسف هناك فئة من العاملين في قطاع التعليم قد امتهن هذه الوظيفة الشريفة وأهانها حين اتخذها وسيلة للثراء والكسب المادي، فهو لا ينظر لهذا العمل إلا من خلال هذه الزاوية المادية. إن وظيفة التعليم أسمى وأعلى من أن تكون وظيفة رسمية أو صيدًا لكسب الرزق، إنها إعداد للأجيال وبناء للأمة، ومن حق كل فرد أن يتطلع لعيشة هنية ويتحصل على مصدر شريف لكسب الرزق، لكن هذه صورة غير تلك التي يمتهن صاحبها التدريس، فلا يختاره إلا لما يدره من مال، فهل يؤتمن من هذه نظرته وغاية تطلعه؟! هل يؤتمن مثله على رعاية الجيل وإعداد النشء؟!
وهناك فئة تشكو دهرها وتندب حظها؛ فإجازاته ليست بيده، والطلاب أحالوا شعره إلى بياض، والآباء يتمون ما عجز عنه أبناؤهم، فالمدرس عند هؤلاء أسوأ الناس حظًا، فأقرانه حاز بعضهم على مراتب عالية، وأسوؤهم حالاً من يستأذن متى أراد ويأتي متى أراد، والشك أن هذا لم يدرك شرف التعليم ولم يرتق لأهلية التوجيه.
وفئة من المدرسين الواحد منهم متبلد الإحساس فاقد الغيرة، يرى أبناء المسلمين يتهافتون على الفساد ويقعون في شباك الرذيلة ولا يحرك الأمر لديه ساكنًا أو يثير عنده حمية، فهذا ليس من شأنه، فشأنه تدريس الفاعل والمفعول أو توضيح المركبات وقوانينها أو حل المعادلات الرياضية، بل قد يتبوأ تدريس العلم الشرعي والتربية الإسلامية ومع ذلك فواقع الشباب لا يعنيه بقليل ولا كثير! ولست أدري أي عقلية تحكم هذا النوع من الناس؟! ولا أعلم من أيهما أعجب: من واقع الشباب أم من سلبية هذا الصنف من المدرسين.
فما هو المدرس الذي نريده؟ لسنا نريد ذاك الذي رمى الدنيا وراء ظهره وطلقها ثلاثًا فلم يعبأ بها، أو ذاك الذي لا يفارق محرابه، أو الذي لا تند منه شاردة ولا واردة، إنها صور ساحقة ولا شك، لكنها ليست لكل الناس.
فنحن نريد المدرس البشر الذي يتطلع كغيره لتحصيل مورد لرزقه، ويرى أن من حقه كغيره أن يتمتع بمزايا إدارية ووظيفية، لكن كل تطلعاته تلك لم ترق إلى أن تكون الهدف الأول والأساس والمقياس الأوحد والحامل الأهم في اتخاذ قراره بسلوك طريق التعليم، فقد اختار هذا الطريق ليخدم الأمة من خلاله ويعد الجيل ويربي النشء، إنه يحترق على واقع الشباب، ويعدهم أبناءه، ويعتبر إصلاحهم من أولويات وظيفته، وتربيتهم من مسؤوليته، وهو مع ذلك سيحصل ما يحصله غيره من مزايا مادية ويعيش عيشة مستقرة هنيئة.
أيها الإخوة في الله، حين يموت الإنسان ويفضي إلى ما قدم ينقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، والمدرس يجمع بين الثلاث كلها كما بين ذلك الحافظ بدر الدين بن جماعة.
والمدرس هو اللبنة الأولى في كل شيء، فهل رأيت العالم الداعية الذي يجعل الهم دينه وتلف حوله الجماهير ويثني الناس ركبهم لديه، أم أبصرت القاضي الذي يحكم في دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، أم قابلت الجندي الذي يقف في الميدان حاميًا لعرين الأمة وحارسًا لنفوذها، ولا بد أنك قابلت الطبيب الذي يفزع إليه الصغير والكبير والذكر والأنثى والوزير والمسؤول والموظف، كل أولئك إنما جازوا من قنطرة التعليم وعبروا بوابة الدراسة، وقد كان ولا شك معلمون وأساتذة، ولم يعدموا مدرسًا ناصحًا وأستاذا صادقًا. فهو أنت أيها المدرس، تدرس الصغير والكبير، وتعدّ الجميع وتهيئهم ليصل بعضهم إلى ما لم تصل إليه، لكنك صاحب اللبنة الأولى وحجر الأساس.
أرأيت ـ أخي ـ حجم مسؤوليتك، وأدركت موقفك من المجتمع، وعلمت مكانك بين الناس؟ فذاك الرجل الطاعن في السن وتلك المرأة الضعيفة قد علقوا آمالهم بعد الله عليك في استنقاذ ابنهم وحمايته، والصالحون والغيورون يعدونك من أكبر آمالهم في استنقاذ المجتمع.
وما أغناك ـ أخي المدرس ـ عن أن أحدثك عن الواقع المرير لأمتنا أو عن التآمر على شباب المسلمين، أنسيت ما فعل وثلوب وأذنابه؟! أنسيت ما بذل جيل المسخ ليحول بينك وبين كلمة الحق الصادقة إلى القلوب المتعطشة؟! ألست داعيًا؟! ألم يقل الرسول : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ؟! ألست ترى المنكر؟! ألم تسمع قوله : ((من رأى منكم منكرا فليغيره...)) ؟! وهل وصل بك الأمر إلى أن لا تطيق أن تحمل همّ الإصلاح والتربية مع أن الإدارة التي تتبعها اسمها: "إدارة التربية والتعليم"؟! فالتربية والتوجيه والإرشاد أولاً والتعليم ثانيًا.
وعند الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير)) ، أي منزلة يبلغها المدرس أن يصلي عليه الله سبحانه وملائكته الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وفي صحيح مسلم يقول : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)) ، والمدرس ولا شك له نصيب من هذه الفضائل، فهو ممن يدعو إلى الهدى ويسن السنة الحسنة.
معاشر المدرسين، ما أحوجنا جميعًا إلى معرفة هديه في التعليم، وقد وصفه معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قائلاً: فبأبي وأمي رسول الله، ما رأيت معلمًا أحن تعليمًا وتأديبًا منه. بل وهل يظن مسلم أن يوجد أسمى وأعلى وأشرف منه معلمًا ومربيًا؟! بل وهل يظن ظان أنه سيرد مشرب التعليم والتربية من غير حوض أو يدخل إلى ساحة البناء من غير باب؟! فما أحوجنا معاشر المعلمين والمربين إلى التماس هديه في التعليم والتأسي به، فإليك بعض معالم هديه في ذلك:
أولاً: ترغيبه أصحابه في العلم: ولا شك أن لذلك أثرا كبيرًا في إيجاد الحماس لدى طلاب العلم للتعلم والاستزادة من ينابيعه، فحين جاء ثلاثة نفر وهو جالس مع أصحابه فجلس أحدهم خلف الحلقة والآخر رأى فرجة فجلس فيها وأما الثالث فأعرض، فقال : ((أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا من الله فاستحيا منه الله، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)).
ثانيًا: جمعه بين التربية والتعليم: فقد وصفه الله بذلك فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [الجمعة: 2]؛ ولذا لم يكن يخرج أقوامًا يحفظون المسائل فقط، بل ربى أصحابه تربية علمية وتربية جهادية وقيادية وإدارية، وقبل ذلك تربية إيمانية، فهذا حنظلة رضي الله عنه يحكي عن رسول الله أنه كان يشهد معه مجالس التذكير والعلم فكأنه يرى الجنه والنار.
ثالثًا: عنايته بتعليم المنهج العلمي: فربى علماء ومجتهدين وحملة العلم للبشرية، ولقد ظهر في آثار هذه التربية على صحابته في مواقفهم بعد وفاته من حادثة الردة وجمع القرآن والخراج وغير ذلك. ومن معالم تعليم المنهج العلمي أنه كان يعودهم على معرفة العلة ومناط الحكم وعلى منهج السؤال وآدابه: ((إن الله كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)). ولا يقتصر في إجابته على مواضع السؤال، بل يجيب بقاعدة عامة، فلما سئل عن الوضوء بماء البحر قال: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)). كما كان يربي أصحابه على منهج التلقي: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) ، ويربيهم على منهج التعامل مع النصوص وتعويدهم على الاستنباط.
رابعا: من معالم هديه في التعليم ((بلغوا عني ولو آية)).
خامسًا: يشجع الطالب ويثني عليه: فلما سأله أبو هريرة يومًا: من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال: ((لقد ظننت أن لا يسأل أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث)). فنتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعًا لمزيد من الحرص والاجتهاد.
سادسًا: كما كان يعتني بالسائل ويدرك قدرات تلاميذه وإدراكهم العقلي، ويراعي الفروق الفردية.
سابعًا: التوجيه للتخصيص المناسب، فقد استقرأ عليه السلام زيد بن ثابت فقال له: ((إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا، فتعلم السريانية)) ، فتعلمها في سبعة عشر يومًا. والأمة أحوج ما تكون إلى طاقات أبنائها وقدراتهم، فبدلاً من تشتيتها وبعثرتها أليس من حق الطالب على أستاذه أن ينصح له ويوجهه لما يناسبه حين يبدع في فن دون غيره؟!
ثامنًا: الجمع بين التعليم الفردي والجماعي، وشواهد ذلك كثيرة من سيرته.
عاشرًا: التشويق والتنويع في عرض المادة، فأحيانًا يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً: ((أتدرون ما الغيبة؟)) ، ((أتدرون من المفلس؟)) ، وأحيانا يغير نبرات صوته، وأحيانًا يغير جلسته كما في حديث: ((أكبر الكبائر)) وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)).
حادي عشر: استغلال المواقف في التعليم.
ثاني عشر: استعمال الوسائل التعليمية، فتارة يشير بيده، وتارة يضرب المثل، وتارة يستعمل الرسم التوضيحي، فقد خط خطًا مستقيمًا وإلى جانبه خطوط وقال: ((هذا الصراط، وهذه السبل)) ، ورسم مربعا وقال: ((هذا الإنسان)) ، وأحيانا يحكي قصة واقعية من الأمم السابقة.
ثالث عشر: تأكيد ما يحتاج إلى تأكيد، فقد حلف على مسائل كثيرة تزيد على الثمانية: ((والله لا يؤمن)) ، ((والذي نفسي بيده)).
رابع عشر: مراجعة العلم والحفظ، فقد أوصى حفاظ القرآن بتعاهده والعناية به فقال: ((تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها)) ، وكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان.
أيها المدرس الفاضل، وهذه وصايا مهمة ينبغي العناية بها:
أولا: الإخلاص لله وحده بأن يستشعر الإخلاص لله وحده ويستحضر النية الصالحة ويتفقد ذلك كل فترة، فالأعمال بالنيات، قال الحافظ ابن جماعة في أدب العالم مع طلبته: "الأول: أن يقصد بتعليمه وتهذيبه وجه الله تعالى ونشر العلم ودوام ظهور الحق وخمول الباطل ودوام خير الأمة بكثرة علمائها واغتنام ثوابهم وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه". وحين يصلح المدرس نيته ويحسن طويته يتحول عمله إلى عبادة لله وحده، ويكتب له نصبه وجهده وكل ما يلاقيه حسنات عند الله.
ثانيًا: كسب طالب ولو واحد: قال ابن جماعة: "واعلم أن الطالب الصالح الذي يتلقى عنك توجيهاتك أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه وأقرب أهله إليه؛ ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر".
ثالثًا: الاعتناء بالمظهر بما لا يخرجه عن حد الاعتدال، وكثيرًا ما يذكر السلف في مؤلفاتهم: "باب: إصلاح المحدث هيئته وأخذه لرواية الحديث زينته"، وغني عن التأكيد القول بأن من تمام حسن المظهر وأولوياته الالتزام بالضوابط الشرعية، فإسبال الثياب أو لبس المخالف منها أو حلق اللحية مما يخل بالمظهر.
رابعًا: حفظ اللسان: فالمنطق واللسان يعد معيارًا من معايير تقويم الشخصية؛ فلذا على المدرس أن يحفظ منطقه ولسانه، فلا يسمع منه الطلاب إلا خيرًا، وحين يعاتب أو يحاسب فلا يليق به أن يتجاوز ويرمي بالكلمات التي لا يبالي بها، وكم تصفع الكلمات الطيبة في نفس الطالب وتؤثر فيه.
خامسًا: أن تكون قدوة صالحة للآخرين: فكم هم الأستاذة الذين يدعون بأعمالهم وسلوكهم ويرى فيهم الطالب القدوة الحسنه؟ فيجدر بك ـ أخي المدرس ـ أن تكون قدوة صالحة لأبنائك في عبادتك وتعاملك وسلوكك، وإن التناقض بين القول والعمل والظاهر والباطن وازدواجية التوجيه وتناقضه كل هذا من أكبر مشاكل الجيل المعاصر، وذلك نبات بذرة خبيثة واحدة، ألا وهي عدم العمل بالعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن مناهج التربية وطرائق العلوم يجب أن تكون عائدة إلى الإيمان قاصدة إصلاح الأنفس وتهذيب الأخلاق. إن مظاهر القوة المادية وحدها لا تعني شيئًا إذا تداخلت في العقول الثقافات المتناقضة والعلوم المتنافرة، فتفرقت بطلابها السبل وتنازعتها التيارات والأهواء. ليس مقياس النجاح مجرد معرفة القراءة والكتابة، وليس دليل التفوق كثرة دور العلم وأفواج الخريجين.
أيها المسلمون، لا فائدة في علم لم يكس بخلق، ولا جدوى من تربية لا تثمر عملاً صالحًا، ولا خير في معارف تورث بلبلات فكرية، ولا نفع في ثقافات تشكك في الصحيح من المعتقدات وتستخف بالدين ومستوثقات التاريخ. ومن هنا كان لازمًا على القائمين على التربية والتعليم ـ وهم يشرفون على أجيال الأمة ويقومون بالعملية التعليمية التربوية ـ أن يوجهوا الجيل وجهة حسنه وينشئوه النشأة الصالحة، مستلمين العقائد والمرتكزات والثوابت من ديننا الحنيف، ومستهدين بأخلاق وسيرة سيد المرسلين. ولا شك أن الكلمة مهما كانت لها وقعها وأهميتها في توجيه أفكار الطلبة وتصوراتهم واهتمامهم كما أن التلقي فرع عن المحبة.
فاحرص ـ أيها المدرس ـ على تربية النشء واستصلاحه؛ ولهذا يقول المربي محمد قطب: "والضمان لذلك هو الحب، فما لم يشعر المتلقي أن مربيه يحبه ويحب له الخير فلن يقبل على التلقي منه ولو أيقن أن عنده الخير كله، بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده، وأي خير يمكن أن يتم بغير حب؟!".
ولا ننسى أن الاقتصاد في الموعظة وعدم الإكثار من بيان الأخطاء أمر له أهميته في قبول الوعظ والتوجيه، والواقعية وخطاب الناس بما يطيقونه بالتنزل للطلبة كثيرًا والذين يحتاجون للحديث عن أضرار المعاصي وعن الخوف من الله تعالى ومراقبته والمحافظة على الصلاة مع الجماعة ولتنويع أساليب الخطاب والموعظة الأثر البالغ في استجابة الطلبة.
وهكذا التضحية الخاصة والخلق الحسن وتوقير الطالب وتقديره والثناء عليه حين يحسن والعدل بين الطلاب وعدم الجفاء حين يقع الطالب في خطأ وعدم المبالغة في العتاب والمؤاخذة والاعتدال في ذلك والاهتمام بالطالب وعدم الوقوع في مواضع التهم وضبط النفس وعدم سرعة الانفعال ولغة التهديد والحذر من السخرية من الطالب واحتقاره وعدم التركيز على النقد، كل ذلك آداب ووصايا يجب على المعلم الأخذ بها لينجح في عمليته التربوية والتعليمية.
أيها الإخوة في الله، إن المدارس ودور التعليم في كافة مستوياتها هي محاضن الجيل، وهي الحصن الحصين، تكمن فيها حماية الأمة والحفاظ على أصالتها وبقائها ونقائها. إن هذه الدور تحتوي أثمن ما تملكه الأمة، تحتضن الثروة البشرية ورجال الغد وجيل المستقبل، ثروة تتضاءل أمامها كنوز الأرض جميعها.
وشر ما يقع على هذه المعاقل والحصون أن تؤتى من قبل من وكل إليهم رعايتها وصيانتها، وتكون الخيانة العظمى حين يفتحون الأبواب الخلفية وغير الخلفية ليتسلل المتلصصون ليلاً ونهارًا في غفلة من الحماة الصادقين، فتقع الواقعة وتحل الكارثة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله يا رجال التربية، واعلموا أنه إذا حفظت العقول والأخلاق وأحيطت بسياج الدين المتين وربطت برباط العقيدة الوثيق فلسوف تصح المناهج وينقح التعليم وتثبت الأصالة وينقح السبيل وترتفع الراية ويحصل التمكين.
فاتقوا الله وعوا مسؤولياتكم، فإن صلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، والتربية الصحيحة الجارية على السنن المستقيمة تنتج رجالاً أنقياء أوفياء ذوي نصح وإخاء، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
(1/5714)
بالهمم تنهض الأمم
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
عبد الله بن عمر البكري
الدوحة
18/10/1429
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان حارث وهمام. 2- قصة عن أماني تحققت. 3- تفاوت همم الناس. 4- علو همم السلف الصالح. 5- قيمة الرجل بقيمة همه. 6- ضعف همم المسلمين في هذا الزمان. 7- همة المسلم الحقيقي. 8- فضل علو الهمة. 9- نماذج معاصرة لعلو الهمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، وأعدّوا العدةَ ليوم تتفطر فيه الأكباد وتتقلب فيه القلوب والأبصار، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56].
معاشر الآباء والأمهات والإخوة والأخوات، ما من عاقل إلا وله في حياته هدف يسعى لتحقيقه ورسالة يودُّ أداءها، أي: أن له همًا في هذه الحياة؛ لذا قال النبي : ((أصدق الأسماء حارث وهمام)). قال ابن الأثير رحمه الله في معنى همام: "وإنما كان أصدقها لأنه ما من أحدٍ إلا وهو يهم بأمر، خيرًا كان أو شرًا". إذًا فكل أحد يحمل بين جوانحه همًا وهدفا يحركه في هذه الحياة ويوجه طاقاته لتحقيقه.
اجتمع ذات يوم بفناء الكعبة أربعة من أبناء سادات قريش هم: عبد الله بن عمر، وعروةُ بن الزبير، وأخوه مصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فقال لهم مصعب: تمنَّوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال: ولاية العراق وتزوُّجُ فلانة وفلانة وسماهما، وتمنى عروة الفقه في الدين، وتمنى عبد الملك الخلافة، وتمنى ابن عمر الجنة. فسعى كلٌ منهم لإدراك غايته، واستجمع قواه في تحقيق أمنيته، فنال مصعب ولاية العراق وتزوج بمن سمَّى، ونال عروة الفقه فكان من الأئمة العظام ومن فقهاء المدينة السبعة، ونال عبد الملك الخلافة والملك، واجتهد ابن عمر في طلب الجنة ونرجو أن يكون من أهلها.
وفي القصة شاهدان:
الأول: كيف ربَّى النبي أصحابه، وماذا كان همهم في الحياة، وكيف كانوا سادة الدنيا بذلك. فابن عمر الذي تربى بين يدي النبي كان أسمى الأربعة همة وأنبلهم طلبة، فكان هدفه أنبل، وكانت أمنيته أسمى.
والشاهد الثاني: تفاوتُ همم الرجال مع أن مطالب الأربعة كلّها في حدود المباح، لكن شتَّان بين من جعل همه بلوغ الجنة أو الفقه في الدين وهو طريق إلى الجنة، وبين من جعل همه التزوج بامرأة أو نيل منصب زائل، إن تركه الناس فيه فلم يخلعوه لم يتركه الموت حتى ينزله من كرسيه ويقذف به تحت التراب.
وفي القصة شاهد آخر، وهو أن ما يحمله الإنسان بداخله من همٍ ورسالة يُحرّك طاقاتِه نحو تحقيقه، فإذا به يتحقق، لا لأنه تمناه، ولكن لأنه جدَّ في تحقيقه وبذل أسباب الوصول إليه فتحقّق بإذن الله.
وتأمل معي ـ أخي الكريم ـ تفاوت الهمم وكيف تتفاوت مقادير الرجال بتفاوتها، فمن الناس من همه جمع الدراهم وتكثيرها، وربما شح بها على نفسه أو أهله لأن همه في رؤيتها كثيرة وإن لم ينتفع بها، وهو بمثابة العبد الذي يحرس المال لسيده ولا حظ له فيه، ومنهم من همه نيل المناصبِ والترفع بها، بل من الناس من همه أن يصبح لاعبا يركض في الملاعب فتصفق له الغوغاء ويعظم في أعين الدهماء، ولا تزال الهمم تدنو وتدنو حتى إن من الناس من همه أن يكون مغنيًا يتمايل طربا فيتمايل معه السفهاء، أو كاتبا يشيع الفاحشة وينشر الرذيلة ويفري الأعراض ويروّج للباطل لينال به عرضا زائلا وصيتا حائلا، ومنهم من همه في الحياة امرأة يرى أنه إن ظفر بها فقد فاز فوزا عظيما، وإلا فقد فاتته الحياة، ومن الناس من همه البنيان والعمران، فيرى أنه متى أكثر من العمران وأطال البنيان فقد قام بواجبه في الحياة؛ لأن الغرض من الحياة عند البعض أن نعمر الأرض ونحرثها ونزينها وكأننا خلقنا لها لا أنها خلقت لنا مع أن مولانا سبحانه يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29]، ومن الناس من همه بطنه، ومنهم من همه نزواته وهكذا. ولا تزال الهمم تصغر وتصغر حتى يصبح هم أحدهم في أمر تافه حقير يقضي ساعات طوال في الانشغال به، مع أنه يعود عليه بالضرر عاجلا أو آجلا، وكلٌ يسير إلى غايته، ويجهد في تحقيق رسالته، ومن هنا ينشأ التفاوت بين النبلاء والدهماء، بين العقلاء والسفهاء؛ لأن منازل الرجال وكذلك النساء تتفاوت بتفاوت ما يحملونه من الهموم والغايات، فالهمم العالية تسمو بصاحبها إلى ذرى المعالي، والهمم الدنيئة تسفُل بصاحبها إلى الحضيض، وكلٌ يسعى لإدراك غايته وتحقيق أمنيته جليلة كانت أم حقيرة، خيرا كانت أم شرا.
ألا بلّغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها
وشتان بين من همه الحمى ومن همه كنيف الحمى.
معاشر المسلمين، لقد كان الصحابة الكرام عليهم الرحمة والرضوان مثالاً يحتذى في علو الهمة وإدراك الغايةِ من هذه الحياة؛ لأن النبي رباهم على المعالي والترفع عن السفاسف، حتى في طلب الجنة كان النبي يحثهم على طلب الفردوس منها، وهو خيرُ بقاعها، وهو منتهى الهمم النبيلة، فقال : ((إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه سرّ الجنة)) أي: أفضل موضع في الجنة، وقال : ((إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)).
وهذا عبد القادر الجيلاني رحمه الله يقول لغلامه: "يا غلام، لا يكن همّك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا همُّ النفس والطبع، فأين همُّ القلب؟! همُّك ما أهمَّك، فليكن همّك ربّك عز وجل وما عنده".
واعلم ـ أيها الحبيب اللبيب ـ أن الهمّ الذي تحمله بين جنبيك هو الذي يحدِّدُ قيمتك في سوق الرجال، فإن كان همُّك في الحياة رضوان الله عز وجل فتحيا بدينك ولدينك ذابًا عن حياضه حاميًا لحماه دائبًا في نشره مجاهدًا لعزه ونصره مجتهدًا في نصح الخلق وتعبيدهم لخالقهم ساعيا في الخيرات آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر فاعلم أن همَّك عظيم ومطلبَك كريم، فأخلص العمل لله جل وعلا، واقتفِ سنة رسول الله ، وسترى الثمار يانعة بإذن الله، فإن كنت ذا علم فعلِّمه من لا يعلم، وإن كنت ذا مال فلا تبخل بالبذل لإعزاز دينك وغوث إخوانك ودحر أعداء دينك، وإن كنت ذا منصب وجاه فاستعمله في مرضاة ربك وخدمة دينك وأمتك.
أما من كان همُّه في الحياة ليس إلا منصبا رفيعا وقصرا منيفا ومالا وفيرا ولا همَّ له في دينه فلا يغضب لله ولا ينتصر لأولياء الله من العلماء والدعاة ولا يأبه بانتهاك حدود الله فهذا ميت يمشي بين الأحياء، فأحسن الله عزاءه في نفسه، ولا كثر في المسلمين من جنسه، فبطن الأرض خير له من ظهرها.
وما للمرء خيرٌ في حياةٍ إذا ما عُد من سقط المتاعِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إخوتي الكرام، لقد أصيب المسلمون في عصورهم المتأخرة بدنو الهمم والرضا بالهوان والقعود عن معالي الأمور والاشتغال بالسفاسف والترهات على مستوى الأفراد والجماعات، فصاروا إمعات وببغاوات إلا من رحم الله، وغلب على الأمة اللهو والبطالة والعبث؛ ولهذا أصبحت الأمة غرضًا لأعدائها الذين تسلطوا عليها وجاسوا خلال ديارها فساموها سوء العذاب، بعد أن كانت عزيزةً مهيبة الجناب، فهوت من عليائها، ونزلت من شامخ عزها، ولقيت صغارًا بعد شمم، وذلاً بعد عزة، وجهلاً بعد علم، وعبثًا ولهوًا بعد جدٍ وحزم. فما أحوجنا أن نرجع إلى ديننا وأن نُعلي هممنا، فبالدين نرجع إلى الجادة، وبالهمم العالية ننفض غبارَ الذل ونرفع غِشاوةَ المهانة.
معاشر المسلمين، إن المسلم بطبيعته عالي الهمة؛ لأنه يشعر أنه مُبتعث لهداية الخلق والأخذ بأيدي الضالين إلى معرفة الله وما شرعه لخلقه، فهذا ربعي بن عامر يعرّف كسرى بحقيقة المسلم فيقول له: (نحن قوم ابتعثنا الله لإخراج العباد من عباد العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان ـ يعني بعد تحريفها ـ إلى عدل الإسلام).
نعم أيها الكرام، هذه حقيقة المسلم وهذه همته، ولكنها تضعف بضعف العلم ونقص الإيمان، فكلما زاد العلم بالله ودينه وزاد الإيمان علت الهمة. وهذا سرّ علو همة الصحابة والتابعين الذين امتدّ سلطانهم من جنوب فرنسا إلى تخوم الصين، فهمة المسلم إنما تضعفها المعصية والجهل بحقائق الدين، وإلا فالأصل في المسلم علو الهمة، فهمته قد علت الجوزاء، ولم تتسع لها الأرض، فتطلعت إلى ما أعد الله لأوليائه في السماء.
وإن الهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل ومواضع التهم وتنأى به عن التلطخ بالرذائل وتحثه على اكتساب المكارم والفضائل. والهمةُ العالية ترفع القومَ من سقوط، وتبدلهم بالخمول نباهة وبالضعة رفعة، ذلك أن علوَّ الهمة يستلزم الجدَّ والإباء ونُشدان المعالي وتطلابَ الكمال والترفع عن الدنايا. ولا تزال الهمة النبيلة ترقى بصاحبها في مراقي الكمال في دينه ودنياه، فلا يقصر همه على نفسه، بل يصل خيره لغيره، ويسعى في مصالح الأمة، ويجتهد في كلّ ما يرفع عنها الغمة، يحيا لأهداف سامية، فيحيا كبيرا ويموت كبيرا، أما الذي يعيش لنفسه فلا يُفرح بحياته، ولا يؤسى لوفاته، وإن صغير الهمة عندما يرى أعداء الأمة في قوة وسطوة يذوب أمامهم رهبة، ويُطرق إليهم رأسه انبهارا وذلة، ثم لا يلبث أن يسيرَ في ركابهم، ويسارع في مشاكَلتهم ومرضاتهم، ويهرول خلفهم في كل صيحة هرولة الإمعة الأبله.
معاشر الإخوة، إن هذا الدين العظيم أشد ما يكون حاجةً إلى رجال يحملون همَّه، رجال أقدامهم في الثرى وهمة هاماتهم في الثريا؛ لذا كان الحسن رحمه الله يقول: " يا له من دين لو أن له رجالا".
إن علو الهمة هو أول طريق النجاح في الدين والدنيا بعد تقوى الله جل وعلا، ولكن لا بد من التخطيط السليم لتحقيق الأهداف، فالهدف الذي لا نخطط لبلوغه يبقى حلما جميلا يصعب الوصول إليه كما قال بعضهم:
إذا تمنيت بت الليل مغتبطا إن المنى رأس أموال المفاليس
فينبغي التخطيط لأهدافنا، دينية كانت أو دنيوية مباحة من المكاسب والتجارات أو العلوم والمهارات أو غيرها، وينبغي أن تكون أهدافنا واضحة، فوضوح الهدف في ذهن صاحبه من أقوى أسباب تحقيقه بعد عون الله وتوفيقه، وحبذا لو كُتبت الخطة، فقد ثبت بالتجارب أن الخطة المكتوبة أجدى وأفضل ثمرة من غيرها. وقد استغنى السلف عن ذلك لوضوح الهدف في أذهانهم وقلة الصوارف والشواغل عن بلوغ الغايات.
ولا يظنّن ظان أننا عندما نتحدث عن علوّ همم السلف نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيه الأمم نحو المستقبل، كلا، فإن اقتداءنا بالسلف هو ترقٍ وصعودٌ وارتفاعٌ إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا؛ لأنهم جعلوا الهموم هما واحدا هو هَم الآخرة، وقد قال : ((من جعل الهموم هما واحدا هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)) صححه الألباني. وإن التحلي بما كانوا عليه من كريم الصفات وجميل الشيم من مفاتيح العزة بإذن الله.
والعجب أن الكفرة يسعون لبث كفرهم وأهل الضلال يدأبون في الترويج لضلالهم، فماذا صنعنا نحن للحق الذي نحمله؟! المنصرون يجوبون الأدغال ويتجشمون صعود الجبال، والمبتدعة ينفقون المليارات من الأموال لشراء البسطاء والسذج من أهل الحق وشراء الأقلام والألسن، فماذا قدمنا نحن؟! من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده.
ولكن هل انتهى زمن الهمم العالية؟ هل همم الرجال تاريخ أم لا زال له شواهد في الواقع؟ إن أمة الإسلام ولود لا يزال فيها همم تطرب النفوس لذكرها وتعطر المجالس بأخبارها، هل تريدون أن تسمعوا عن علو الهمة في زماننا؟ أبشركم، فالنماذج كثيرة، وسأقتصر على ذكر نموذجين لعلو الهمة في زماننا، همة عالم إمام وهمة داعية إغاثي مبارك:
أما الأول فهو العلامة ابن باز رحمه الله، يقول أحد مرافقيه الذين جاؤوا معه من الطائف إلى الرياض برا، والشيخ قد تقدمت به السن يقول: لما كنا في منتصف الطريق بعد الساعة الثانية ليلا قال الشيخ لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا قفوا لننام، فوقفنا فما مست أقدامنا الأرض إلا ونمنا من التعب، وشرع الشيخ في الصلاة، فلما استيقظنا قبل صلاة الفجر فإذا بالشيخ يصلي. ويقول بعض من أصحابه لا أذكر أن ابن باز أخذ إجازة لا شهرا ولا يوما، بل كل وقته لدينه وأمته، نشر للعلم، وقضاء لحوائج الناس، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ومناصحة للقريب والبعيد من الولاة والعامة، حتى كتب لبعض الطغاة كتابا شديدا لإيذائه للصالحين وقتله للمصلحين، وختم كتابه بقوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَّنقَلِبُونَ.داوم ـ رحمه الله ـ أكثر من سبعين سنة بين قضاء وإفتاء ومناصب علمية، قضى من خدمته قرابة ثلاثين عاما بعد استحقاقه للتقاعد، وجاوز التسعين وهو على منصبه يباشر مهامه الكثيرة التي تنوء بها العُصبة من الرجال، فإذا انتهى الدوام كان بقية يومه بين تعليم وإفتاء وإغاثة ملهوف ومساعدة محتاج وشفاعة لمستضعف. لا ينام إلا نحو أربع ساعات هي حظ نفسه منه، وباقي يومه لدينه وأمته. أتته الدنيا فأعرض عنها؛ لأن همته جاوزت حدود التراب وما عليه، ولو شاء أن يكون من الأثرياء لكان، فقد أثرى من هو دونه جاها ومنصبا، ولكنه آثر الزهد والخروج من الدنيا خفيفا، فكان يبذل ماله بذلا قلّما تسمع به أذن، فقد كان من كرماء هذا الزمان، وله في الجود والإنفاق في وجوه الخير مواقف لا يتسع المقام لذكرها. وبالجملة فقد كانت الدنيا عنده أهون من أن يُلتفت إليها؛ لأن همته أعلى من الدنيا وما فيها، حتى قال بعضهم: نحن نركض خلف الدنيا وابن باز يهرب منها. فما أحوج أبناء العشرين والثلاثين والخمسين لهمة ابن التسعين عليه رحمة الله وعلى سائر علماء المسلمين.
وأما المثال الآخر الذي يشهد أنه لا زال للهمة رجال ولا زالت الأمة ولادة فطبيب خليجي سمع بجهود المنصرين في أفريقيا، فتحركت فيه حمية الدين ونخوة المؤمن، فترك حياة الرغد والرفاه والوظيفة المرموقة ليعيش في أفريقيا سنوات طويلة، وهو إلى هذا اليوم يجوب أدغالها ويخوض مستنقعاتها غير مبال على أي فراش نام أو من أي طعام أكل ومن أي ماء متعكر شرب، فقضى هناك زهرة شبابه؛ باذلا نفسه لدينه، دائبا في الدعوة والإغاثة حتى تقدمت به السن، فلم يبال بكبر سنه، ولم تعقْه الأمراض التي أنهكت جسده الذي صار مستودعا لعدد منها, هانت عليه نفسه في الله, وعلت همته في سبيل الله، فأسلم على يده الألوف المؤلفة من النصارى والوثنيين، وبنى المئات من المساجد والمدارس والمشافى، ووقف للتنصير في القارة السوداء كالطود الأشم، فلم يلقه المنصرون في بلدة إلا عادوا أدراجهم وانكفؤوا في جحورهم. رجل واحد يفعل كل هذا، فرزقه الله محبة الخلق، فلا يسمع بجهده أحد إلا أحبه، إنه الدكتور عبد الرحمن السميط حفظه الله وأمده بالصحة والعافية. ومن قصرت يده عن دعمه في معركة الحق ضد الباطل فلا يقصر لسانه عن الدعاء له.
ودخلت على فضيلة الدكتور القرضاوي في مرضه السابق وهو طريح الفراش وقد جاوز الثمانين وإذا بالكتب بين يديه وبجواره، فقلت له ممازحا: حتى في المستشفى بحث وتأليف! فضحك ولسان حاله يردّد ما قاله الإمام أحمد لما قيل له: إلى متى تطلب العلم يا أبا عبد الله؟ فقال: "مع المحبرة إلى المقبرة".
هذه هي الهمم، وهؤلاء هم الرجال.
هم الرجال وعيب أن يقال لمن لم يتصف بمعالي وصفهم: رجل
وقد يقول قائل: وأين نحن من هذه الهمم؟! هذا مما يعجز عنه أكثر الناس، فنقول: سددوا وقاربوا، وليبذل كل منا لدينه ما يستطيع وما في وسعه، وفي المجال الذي يُحسنه، فلدى كل مسلم ما يستطيع أن يُقدمه، فلا تحقرن نفسك أيها الحبيب، فإن لم تكن بحرا فكن بئرا، وإن لم تكن بئرا فكن دلوا، وإن لم تكن سيفا فكن غمدا، وإن لم تكن قلما فكن حبرا، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 5-11].
معاشر المسلمين، إن العاقل اللبيب من جعل همَّه في مرضاة الله، وعلم أنه لن ينال من الدنيا إلا ما كتب له مولاه، فاجتهد في رضاه، وآثره على هواه، وبذل الأسباب ثم توكل على الله، وقد صح عن النبي أنه قال: ((من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له)).
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5715)
ذكرى النكبة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
11/5/1429
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذكرى الستون لاحتلال فلسطين. 2- تاريخ الصراع. 3- صمود الشعب الفلسطيني. 4- تآمر الغرب على فلسطين. 5- من أسباب الهزيمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المؤمنون، فاتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن التقوى بداية النصر بإذن الله، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120].
أيها المسلمون، هل تعلمون أهم حدث يتحدث عنه أكثر العالم هذين اليومين؟ وهل حاولتم أن تعرفوا خباياه وأسراره وحقائقه؟ وهل أحسستم بمسؤولياتكم تجاهه؟ وهل سألتم أنفسكم: ما واجبنا نحوه؟
إخوة الدين، أمس هو اليوم الخامس عشر من شهر مايو، وهو اليوم الذي يعدّ الذكرى الستين لاحتلال فلسطين، أي: أنه ذكرى النكبة العربية في فلسطين.
أيها المؤمنون، إن فلسطين ستبقى في مخيلتنا لا تغادرها أبدًا، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين وفتحُ الفاروق وصلاح الدين، وعدنا الرسول أن نهزم اليهود بها، وأن ننصَر حتى بالحجر والشجر، وهي علامة من علامات تمسك المسلمين بإسلامهم، ودليل محبة المؤمنين لدينهم، وواسطة العقد على صدر أمة المؤمنين.
إنها فلسطين، نكبة النكبات في زمن التخاذلات، فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟! وماذا قدمنا من تضحيات؟! وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبّت ثم انطفأت، ستون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود في فلسطين، ستون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نيران احتلال الصهاينة اليهود، ستون سنة وأمتنا من نكبة إلى نكسة ومن تشرذم إلى خلافات، ستون سنة وأمتنا الإسلامية تُنهش من أطرافها وأوساطها، ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.
إخوة الإسلام، تاريخ فلسطين مليء بالأحداث، ملتهب بالفواجع، مشحون بالتآمرات، متخم بالجراح عبر السنوات. تعال ـ أخي ـ لنتذاكر بعضًا من التاريخ الحديث والصراع مع اليهود قتلة الأنبياء وآكلي السحت والكافرين بالله ورسوله:
أيها المؤمنون، في 1914م ومع بداية الحرب العالمية الأولى وعدت بريطانيا العرب بمساعدتهم على الاستقلال عن الدولة العثمانية بشرط دخولهم الحرب إلى جانب بريطانيا ضد الدولة العثمانية التي دخلت الحرب مع ألمانيا.
في 1916م تم توقيع اتفاقية "سايكس بيكو" بين الدبلوماسي الفرنسي "فرانسوا جورج بيكو" والبريطاني "مارك سايكس"، حيث تم الاتفاق على تقسيم المنطقة العربية إلى مناطق سيطرة، حيث اتفقا على وضع لبنان وسوريا تحت السيطرة الفرنسية، والأردن والعراق تحت سيطرة بريطانيا، وأن تبقى فلسطين دولية.
في 1917م قامت الحكومة البريطانية بإصدار "وعد بلفور" في هيئة رسالة من وزير خارجيتها "جيمس آرثر بلفور" إلى زعيم الحركة الصهيونية، تعهّد فيها بأن تقوم حكومة بريطانيا بالعمل بأفضل ما يمكنها من أجل تحقيق هدف تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
في 1918م بدأ اليهود بالهجرة إلى فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني وفق قرارات عصبة الأمم.
في 1929م أول هجوم واسع النطاق يشنه العرب على اليهود، قتل العرب 133 يهوديا، وقتل منهم 116.
في 1935م استشهاد القائد المجاهد عز الدين الذي ذاق اليهود صنوف التنكيل على يديه هو وأصحابه المجاهدون، وهو الذي ينتسب إليه الجهاد في فلسطين اليوم.
في 1945م قامت السعودية وسوريا ولبنان والعراق والأردن واليمن ومصر بتأسيس جامعة الدول العربية للضغط على بريطانيا من أجل حقوق الفلسطينيين.
في 1947م عقد أول جلسة طارئة للأمم المتحدة، وتم اقتراح مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: فلسطينية ويهودية على أن تبقى القدس دولية، على أن تسود علاقات حسن الجوار والتعاون الاقتصادي بين الدولتين.
في 1948م أول حرب عربية إسرائيلية، وفي 15 مايو بالتحديد قامت جيوش من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق مع مجاهدين متطوعين عرب آخرين ومع المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا يقاتلون اليهود، قاموا ببدء حرب شاملة ضد الكيان الصهيوني.
في 1967م حرب الأيام الستة، حيث دارت حرب لمدة ستة أيام انتهت بتقدم إسرائيلي ساحق، حيث دمر سلاح الجو الإسرائيلي المجهّز بمعدات فرنسية القوات الجوية العربية، وقد كان سلاح الجو هو الأداة الرئيسية لتدمير الجيوش العربية، وانتهت الحرب باحتلال إسرائيل لقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء من مصر والقدس الشرقية العربية والضفة الغربية من نهر الأردن وهضبة الجولان من سوريا.
في 1973م حرب أكتوبر، حيث دارت معركة بين العرب وإسرائيل لم تنتهِ إلا بالتدخل الأمريكي.
تلك ـ عباد الله ـ بعض حوادث القضية الفلسطينية عبر السنوات الماضية، ويجدر بنا أن ندرسها وأن نقرأ فيها وسعنا وأن نشتغل بها عن الترهات التي اشتغلنا بها دونها.
أمة الإسلام، لقد أتى على مسلمي فلسطين سنون كثيرة وهم مرابطون في ثغور الإباء، مدافعون بأموالهم وأنفسهم عن واسطة العقد في بلاد الشام، عن البلاد التي كتبت تاريخها بدماء الصحابة، وصورت بعد فضل الله بسيوفهم. تسلَّمها أبو حفص عمر ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها.
يستعذبون الْموت قبل لقائه وهم إذا حمى الوطيس تدفقوا
ضّموا المصاحف للصدور وأسرعوا ووجوههم فيها الشهادة تشرق
وتمر الأيام وتتعاقب السنون ليتمالأ الكفر مرة أخرى، وتآمر الصليبيون وحملة التلمود لوضع فلسطين في قبضة اليهود في جريمة من أعظم جرائم العصر، بإخراج شعب من أرضه وإقامة شعب آخر مكانه، ويستمر الصهاينة اليهود في القتل والإيذاء إمعانًا في النكاية في إخواننا هناك، أسالوا الدماء، وأزهقوا الأرواح، ودنسوا المقدسات، في صور مرعبة تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاح لحماية نفسه. عدو صهيوني في أرضنا المباركة في فلسطين يقاتله أطفال وشباب أحداث، ليس لهم هم إلا الشهادة في سبيل الله، ليدفعوا عن أنفسهم ومقدساتهم ومنازلهم وحرماتهم ومدنهم، قدموا لنا أروع الأمثلة بعمليات استشهادية لا زلنا نراها ونسمع عنها تجلب لنا ولهم العزة والكرامة.
ويعزم أبناء فلسطين على التسابق إلى قتال اليهود والإثخان فيهم حين علموا حقًا أن لا مقاومة للصهاينة إلا بالقتال، وأن قذيفة من حديد أو حجر تساوي آلاف القذائف من الكلمات. وبدأت قوائم القتلى تتصاعد في أوساط اليهود، أخذ الأمن ينحسر والهجرة اليهودية إلى فلسطين تتراجع، بل هرب منها كثير ممن أتوا إليها ينشدون السلام، واقتصادهم إلى انهيار، وبدأ المسلمون يذوقون حلاوة النصر ورحيق الكرامة بدلاً من ذل الهزيمة وعفن السلام المزعوم.
اللهم أعد فلسطين إلى حياض المسلمين، وانصرنا على اليهود الغاصبين، واكتب لنا الشهادة في سبيلك يا رب العالمين.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المؤمنون، فإنه يجب علينا أن نعلم أن من أسباب هزيمتنا أمام اليهود أننا لم نعرف حقيقة جبن اليهود وأعوانهم كما وصفهم الله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ? ، وكذلك أنهم أحرص الناس على الحياة وكما قال عنهم: لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ. لا بد لأمتنا أن تعلم أن هزائمنا مع اليهود كانت هزائم لم ترفع فيها راية الإسلام، بل كل راية رفعتها إلا الإسلام، فكانت هزائم لرايات اتخذت من القومية وغيرها شعارًا ودثارا.
إننا بحاجة إلى مراجعة للوضع وإصلاح للحال، فكيف يكون النصر ونحن نرى الجبن في النفوس واستجداء الحلول وتعليقها على دول صليبية كأميركا وهي لم تفتأ أو تفتر عن دعم اليهود ودولتهم مذ وجدو؟!
ابتعدت الأمة عن أسباب عزها، وذهبت تبحث عن أسباب ذلها، وأصبحت الأمة ومناضلوها المزعومون مظلمة الروح، جوفاء القلب، ضعيفة اليقين، قليلة الدين، نافدة الصبر والجلد، تبيع الحق والأمة بمنافع شخصية، سلكوا في قضية فلسطين مسالك الإرجاف والتخذيل التي تتأرجح بين يمين ويسار بشعارات زائفة من العلمانية والوطنية والقومية والبعثية. لقد أكدت الأحداث أنه لا أحد يملك سلطة القرار الفلسطيني سوى الجماهير الفلسطينية، ولن يوقف هذه الجرائم إلا الجهاد.
إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة، قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود، وقال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ [الحج: 39، 40]، وقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ.
وإن النبي امتدح المجاهدين هنالك بقوله : ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) رواه أحمد.
والفوز كل الفوز للمؤمنين الصادقين بوعدٍ من رسول الله ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر, فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم, يا عبد الله, هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله, إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
ولنا أمة الإسلام لنا الله الذي وعد بالنصر والتمكين والنصر على اليهود الظالمين، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم على اليهود الغاصبين، اللهم إنا نستنصر بك على الكفرة الحاقدين.
عباد الله، صلوا على منقذكم من الكفر بإذن ربه نبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين...
(1/5716)
أثر المعاصي والذنوب في هلاك الأفراد والأمم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
علي الذهبي
الدار البيضاء
مسجد الفداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نظرة المسلم لما يحدث في الكون. 2- المعاصي والآثام سبب في حدوث الهلاك. 3- التفسيرات المادية والتفسير الإيماني لما يحدث في الكون. 4- الاستعداد لزلزال اليوم العظيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: والمسلم ـ عباد الله ـ ما يرى من نعمة إلاّ ويعلم أنها من عند الله، وما يرى من مصيبة إلاّ ويعلم أنها بما كسبت يداه ويعفو عن كثير. ويعلم المسلم أن الكون بإنسه وجنّه وسمائه وأرضه وكواكبه ونجومه ومخلوقاته ما علمنا منها وما لم نعلم إنما هي مسخرة بأمر الله تعالى، يتصرف فيها كيف يشاء سبحانه، ولا معترض عليه. والمسلم بما يحمل من عقيدة التوحيد يعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن ما يجري من أمطار وأعاصير ورياح وكسوف وخسوف إنما هي بقدر من الله جل وعلا، لحكمة يريدها الله، علمها البشر أو غابت عنهم. ويعلم المسلم أيضًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الواجب عليه عند حلول المصيبة أن يصبر ويحتسب، فهو دائمًا يتأثر قلبه بالآيات الكونية التي يراها ماثلة أمام عينيه، وهي تذكره بالله وتحيي قلبه وتجدد الإيمان فيه، وتجعله متصلاً بالله ذاكرًا له شاكرًا لنعمه مستجيرًا بالله من نقمته وسخطه.
وها هنا وقفات للتأمل والاعتبار أيها الأحبة:
الوقفة الأولى: المعاصي والآثام سبب في حدوث الهلاك:
أيها المسلمون، ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، والعقوبات الربانية تختلف، فقد يكون زلزالا، وقد يكون حروبًا، وقد يكون تدهورًا في الاقتصاد وسوءا في الأوضاع المالية، وكل ذلك عساهم أن يتوبوا وأن يتضرعوا إلى الله تعالى، وعساهم أن ينيبوا إلى مولاهم وخالقهم جل وعلا، وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ?لسَّيّئَةِ ?لْحَسَنَةَ حَتَّى? عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ?لضَّرَّاء وَ?لسَّرَّاء فَأَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ.
وإنه يحدث منا من الذنوب والمعاصي ما لا يحصى، ومنه ما هو من الكبائر الموبقة كأكل الربا والرشوة وتبرج النساء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الفواحش وغير ذلك مما نتخوف منه نزول العقوبة صباحًا ومساءً، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل: 45، 46]. تركت الصلوات، وأهملت الواجبات، ضعف الخوف من الله في قلوب الناس، تغيرت أخلاقنا، هل اعتبرنا ـ يا عباد الله ـ بما يحدث؟! هل غيرنا من حالنا من سيئ إلى حسن؟! إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ أو نرى بأعيننا من الحوادث المروعة والعقوبات الشديدة لا يزال الكثير منا مصرًا على معاصيه من أكل الحرام وترك الصلاة وهجر المساجد وفعل المنكرات، حتى أصبح كثير من البيوت أوكارًا للفسقة والعصاة والتاركين للصلاة، ولا ينكر عليهم صاحب البيت، وفي الحديث: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) ، أَءمِنتُمْ مَّن في ?لسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ?لأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16]، وقال جل وعلا: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل: 45].
أيها المسلمون، إنه والله يخشى علينا اليوم الوقوع في مثل هذا، معاصينا تزيد، ونعم الله تتكاثر علينا، فاتقوا الله عباد الله، واحذروا نقمة الله التي حلت بمن قبلكم ومن حولكم أن تحل بكم.
الوقفة الثانية: النظرة المادية: انقسم الناس عندنا إلى قسمين:
القسم الأول: وهم من الذين يحشرون عقولهم في كل شيء، ويزعمون أنهم يفهمون كل شيء، ويزعمون العلم والثقافة، وإذا سمع الإنسان العادي أحدهم يتكلم يتعجب من فصاحته ورصّه الكلام المنمّق، والذي يحرص فيه على الابتعاد عن الإشارة إلى الدّين بأي شكل من الأشكال، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4]. هؤلاء وأمثالهم من أصحاب المذاهب العلمانية لا يعتقدون أن لله دخلاً فيما يحدث، ويحاولون خداع الناس بقولهم: "إن هذه الكوارث من أفعال الطبيعة، وإنها عادة طبيعية وغير مقصودة"، فإذا حدث زلزال أو خسف أو غرق أو عواصف أو صواعق فهذا كله لا يربطون بينه وبين العقوبة الإلهية، لماذا؟ حتى لا يتنبه الناس لفعالهم ولإفسادهم وجرائمهم، وقد ذكر القرآن هذا المعنى في قوله جل علا: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ?لأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ. ورغم هذا يجادلون في هذه الحوادث ولا يربطونها بالله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد: 13]. وفي عهد الرسول صلى الصبح وكانت ليلة هطلت فيها الأمطار وكثرت فيها السحب، فلما انتهى من صلاته أقبل على الناس وقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم بما قال، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: أُمطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب)). إذن، فأصحاب هذا الرأي من الماديين رأيهم لا وجه له، بل هو رأي قد يهلك من اعتنقه، إن يظنون إلا ظنًا، وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى [النجم: 28-30].
أما القسم الثاني في نظرتهم إلى مثل هذه الحوادث: فهم أهل الإيمان، أهل الإيمان الذين يعرفون من كتاب ربهم وسنة نبيهم أن هذه الحوادث إنما هي آيات يخوف الله بها عباده لكي يرجعوا إليه، يقول سبحانه وتعالى معقبًا على إهلاكه قوم لوط وتخويفًا لمن بعدهم: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات: 37]، ويقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. وعندما أخبر النبي أن هذه الأمة سيكون فيها خسف ومسخ وقذف لم يذكر أن السبب هو تصدع سطح الأرض وانشقاقها، إنما السبب هو المعاصي، فقال : ((سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف؛ إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)) صحيح الجامع [4149]. وعندما وقعت هزة أرضية في المدينة على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فجاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألها، فماذا قالت له؟ قالت: كثرت الذنوب في المدينة، فماذا قال ؟ جمع الناس وقال لهم: والله، ما رجفت المدينة إلا بذنب أحدثته أو أحدثتموه، والله لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا. وقال كعب : (إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فترعد خوفًا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها).
لقد أخبر أن الزلازل ستحدث وتكثر حين يكثر الفساد وتظهر الفتن وستكون من علامات الساعة، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ويتقارب الزمان وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج)) ، قيل: الهرج؟ أي: ما هو يا رسول الله؟ قال: ((القتل القتل)) ، وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا اتخذ الفيء دولاً والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا وتُعلِّم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعقّ أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع)). بيّن في هذا الحديث أنه عندما تحدث هذه الجرائم في آخر الزمان فإنها ستقع عليهم العقوبات المتتابعة.
إذن من الواجب علينا جميعًا ـ معشر المسلمين ـ أن نرجع إلى الله، وأن نتوب إلى الله حتى لا نتعرض لغضب الله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى? [طه: 81].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين، وأجرني الله وإياكم من عذابه المهين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما يجري حولكم وبينكم، وتوبوا إلى ربكم، وتذكروا قول الله تعالى: قُلْ هُوَ ?لْقَادِرُ عَلَى? أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ. اتقوا الله في أنفسكم، وتوبوا من ذنوبكم، وقوموا على أولادكم وأهليكم، وأنقذوا أنفسكم وأنقذوهم من عذاب الله، كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ هذه البلاد وجميع بلاد المسلمين من الزلازل والمحن وسوء الفتنة ما ظهر منها وما بطن، نسأله أن يرحم جميع الأموات، ويشفي جميع المرضى والجرحى والمصابين، كما نسأله عز وجل أن يجعل ما نرى وما نسمع عبرة لنا ولغيرنا، ولا يرينا أو يسمعنا أيّ مكروه في أي بلاد من بلاد المسلمين.
الوقفة الثالثة: الاستعداد لزلزال اليوم العظيم:
عباد الله، تخيلوا أن زلزالاً بالأرض كلها سيحصل ـ وسيحصل هذا ـ، هل عملتم وأخذتم حسابكم واحتياطاتكم للزلزال الأكبر الذي سيضرب الأرض كلها؟ قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ ?لأرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ?لأرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى? لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ?لنَّاسُ أَشْتَاتًا لّيُرَوْاْ أَعْمَـ?لَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة]. سورة ما أكثر ما نقرؤها في صلواتنا ونوافلنا، وما أقل ما نتدبر فيها. الزلزال الحقيقي العظيم، وتخرج الأرض ما فيها من بشر ومعادن وغيرها، ويسأل الله الإنسان: ما الذي حدث؟! فتحدِّث بأن الله أوحى لها أمرها، أليس هو الذي خلقها؟! فإذا أمرها أطاعت مباشرة، فيخرج الناس أفواجًا وجماعات ليأخذوا صحائف أعمالهم إما باليمين وإما بالشمال. ماذا عملنا؟ أو ماذا سنعمل لذلك الزلزال؟ الزلزال الأكبر الذي يُكشف بعده كل شيء، والذي سينفضح بعده كل مجرم؛ عملت كذا في يوم كذا، وعملت كذا وعملت كذا في يوم كذا، فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته.
(1/5717)
العيد وصدقة الفطر
فقه
الزكاة والصدقة
فارس بن مجزع العمار
عرعر
26/9/1429
جامع الفوزان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انصرام الشهر. 2- التكبير ليلة العيد. 3- صلاة العيد. 4- من آداب العيد. 5- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن هذه الجمعة آخر جمعة في شهركم الكريم، تدق الناقوس، إلا أن هذه الأيام كلها إلى انصرام وإلى زوال، فما من موجود إلا ونهايته الزوال، وما من مقيم إلا وآخر أيامه الارتحال، فاستقيلوا عثاركم، وخلّدوا في صحف القبول آثاركم، وأكثروا من الابتهال والتضرع لمولاكم.
أمة الإسلام، لقد شرع الله لكم عبادات في ختام هذا الشهر، يزداد بها الإيمان، وتكمل بها العبادة، وتتم بها نعمة الله علينا، وذلك لأن الإنسان خطاء مقصر.
فمن تلكم العبادات التكبير ليلة العيد إلى دخول الإمام لصلاة العيد، وهو من السنن المنسية التي هجرها كثير من الناس، فينبغي إحياء هذه السنة، فيكبر الرجال ويرفعون أصواتهم بالتكبير في المساجد والأسواق والبيوت، يكبر وهو راكب، ويكبر وهو ماشي، ويكبر وهو على جنب، ويشرع للنساء أيضا التكبير ولكن بدون رفع صوت.
ومن الأعمال المشروعة بعد رمضان صلاة العيد، وقد اختلف أهل العلم في حكمها، ولقائل أن يقول: ما بال الخلاف يذكر على المنبر؟! وإني لا أحب أن أذكر الخلاف على المنبر، ولكن لأبين عظم شأن صلاة العيد التي تهاون فيها فئام من الناس بحجة أنها سنة وليست واجبة، فقد ذهب جمع من أهل العلم إلى وجوبها على الأعيان لحديث أم عطية قالت: أمرنا ـ تعني النبي ـ أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين. متفق عليه. ومما يؤكد أهميتها والحرص عليها أن رسول الله واظب عليها حتى فارق الدنيا صلوات الله وسلامه عليه. وإن قلنا بأنها فرض كفاية فلا ينبغي للمكلّف أن يتركها بغير عذر شرعي.
ومن آداب صلاة العيد الغسل يوم العيد، ويستحب أن يأكل قبل خروجه إلى المصلى في عيد الفطر تمرات، والأفضل أن يكون وترا، وأن يخرج إلى العيد ماشيا، وعليه السكينة والوقار، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يخرج إلى العيد ماشيًا ويرجع ماشيًا. رواه ابن ماجه (1295) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/388). ويستحب للمأموم التبكير إلى مصلى العيد بعد صلاة الصبح.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن الأعمال المشروعة بعد رمضان زكاة الفطر لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود (1609).
زكاة الفطر فرض على كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو عبد، فرضها رسول الله طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين.
والواجب إخراجها قبل صلاة العيد، ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. وفي الصحيحين: أمر رسول الله بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. ولا مانع من إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وبذلك يعلم أن أول وقت لإخراجها هو ليلة ثمان وعشرين لأن الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين.
ومقدارها صاع من تمر أو شعير أو بر وهو ما يعدل ثلاثة كيلوات تقريبا.
ومن حكم زكاة الفطر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، فترقع خلل الصوم، فيكون بذلك تمام السرور وطعمة للمساكين وزكاة للبدن حيث أبقاه الله عاما من الأعوام وأنعم عليه بالبقاء ومواساة للمسلمين وشكر لنعم الله على المسلمين إلى غير ذلك من حكم لا يعلمها إلا الله عز وجل.
(1/5718)
الطامة الفضائية في بث المسلسلات التركية
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد الله بن طه سربل
عمّان
مسجد الكتاب والسنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تصوير المشكلة. 2- الهدف من عرض هذه المسلسلات الهابطة. 3- متابعة الناس لهذه المسلسلات. 4- التحذير من متابعة هذه المسلسلات.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، نتحدّث اليوم عن مشكلة وطامة لا زال شياطين الإنس والجن يروجون لها ويزينونها في عقول سفهائنا وسفيهاتنا، وأصبح الكثير والكثير من الرجال والنساء يلهثون ويركضون وراء هذا الدجل المتسلسل وغير المتناهي، لعلكم عرفتم ما هو المقصود، أؤكد على ما عرفتم وأقول: نعم، إنني أعني ما يعرض على شاشات التخنث والدعارة من أفلام ومسلسلات، طاب للكثير من الجاهلين متابعتها.
فأقول: يا أيها الجاهل، نعم أعنيك، أنت يا كلّ من يتابع الانحطاط الأخلاقي على شاشات الجحيم والعذاب والنكال، فأيّ شيء تتابع؟! وإلى أي شيء تنظر؟! وإلى متى؟!
لن أنشغل اليوم في الحديث عن الحكم الشرعي لمثل هذه المسلسلات القبيحة الذكر، وأنها حرام بل ودياثة وحيوانية، بل وأحطّ من الحيوانية، لكني سأحاول أن أقرّب الصورة الواضحة التي غمضت والحق الذي أريد له أن يتنحى عن واقع السفهاء الضحايا. فيا من يدعي الفهم، ويا من يعتبر نفسه عاقلا، اسمع فإني اليوم مبلّغ، وتفكّر فإني قد أشهدت الله في عليائه أني وعظت ونصحت.
إن ما يعرض اليوم على كثير من القنوات إنما هو بضاعة فاسدة، هدفها جني الأموال الحرام بأي وسيلة، بل وبأسهل وسيلة، ولا يهم القائمين على تلك القنوات الفاسدة خلق ولا دين ولا مبدأ إذا كانت النتيجة هي المال، فقد اتخذوا جمع المال مقصدا، وتفننوا وأبدعوا في هذا، فتراهم يعرضون برنامج الفتاوى يتخلّله دعايات راقصة، ويعرضون أخبارَ الأمة المبكية بابتسامة وقحة، ويتلونون بتلون المواسم، فيحتفلون بعيد الأضحى والفطر كما يحتفلون بالكرسمس والفالنتاين، أناس أحطّ من الانحطاط وأرذل من الرذيلة، وقد نجحوا فيما خططوا، ولا يزالون مستمرين في نجاحهم؛ لأن سفهاء القوم في تزايد، وغثاء الأمة لا زال يرغي ويزبد، فكثير هم الذين يعيشون على هامش الحياة تقودهم غواية أي غاوٍ، ويلهثون خلف كل راكض، ويصيحون مع كل ناعق.
مؤسف أعظم الأسف ومخز غاية الخزي أن ترى الرجل يتملص من انشغالاته وأعماله ليكون في تمام الساعة الرابعة أمام الشاشة يتابع الحماقات، أو تسمع أن فلانا من أهل الصلاة يؤخر العشاء عن وقتها لأنها تتزامن مع مسلسل سخيف، بل ربما دخلت على مجلس رجال فرأيتهم يتكلمون بقصص فاحشة داعرة، فتتسع حدقة عينك وتستهجن كلامهم وتستغرب، ثم تفاجأ أنهم يتكلمون عن المسلسل اللعين ذاته، يذكرون مخنثيه ومومساته وأحداث حلقاته، ويحللونها ويتناقشون في مشاكلها وكأنهم طرف في القضية، والمشكلة عند النساء أعظم وأدهى، فإذا كان الحياء واجبا على الرجال فهو على النساء أوجب، وإني لأعجب من امرأة رأس مالها حياؤها وهي لا زالت تخسره وتدوسه وتدنسه مع كل حلقة تبث، ألا يكفينا ما نعانيه من ظهور السفور والتبرج والاختلاط وجرائم الشرف؟! فهل مثل هذه الدناسات تطهر ما ابتلينا به، أم أنها تزيد النار اضطراما، أم أننا نرغب في تجربة ما جربه الغرب العاري المنحل لنحصد ما حصدوا من نكال؟! فيا للعار! ويا للأسى! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أقول: إن هذا الحد من الاهتمام والانشغال بهذه السفاهات كانت أقل مما كان يتوقع أصحابها، ومثل هذه السخافات لا بد أن تروج بمثل هذه الطريقة ويهتم بها مثل هذا الاهتمام حتى يتم إنتاج غيرها وغيرها، فيصبح الإثم مشتركا، ويصبح المنتج والمخرج والمؤلف والممثل والمدبلج شركاء مع المشاهد في هذا الوزر والإثم العظيم الذي عنوانه: "شيوع الفاحشة في المؤمنين"، ليكون الكل واقعا فيما أخبر الله تعالى عنه بقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19]. فالكل في الإثم سواء، كما أن آكل الربا وموكله في الإثم سواء، وكما أن الراشي والمرتشي في الإثم سواء، وكما أن المتبرجة والناظر إليها في الإثم سواء، بل وإن كل من يجلس بين المتابعين لهذه الدناسات دون أن ينهاهم وينصحهم هو معهم في الإثم سواء، ولو أني أنا إمام مسجدكم سكتت عن عاصيكم لاشتركت معكم في الإثم، فنسأل الله العافية للجميع، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].
إن مثل هذه السخافات ما كان ليروّج لها إلا بوجود من يرغب بمتابعتها، فإن كنت ممن يتابع فأبشر بكل شر، أبشر بالانحطاط الخلقي في بيتك، وأبشر بسوء العاقبة التي وعدها الله للديوث الذي يقر الخبث في أهله.
إخوتاه، ما زلنا مقصرين، وما زال أهل الصلاة والقربات فينا أقلة، ولا زلنا نعاني الويلات والابتلاءات في ديننا ودنيانا بسبب ما جنت أيدينا وحصدت أفعالنا وأقوالنا، فهلا رجوعا إلى الله! وهل من توبة قبل الموت! فكفى ما كان، فحالنا لا يرضى به إنسان، ومهلا ورفقا بنفسك يا من تتعبها وتثقلها بالذنوب، فوزرك لن يحمله أحد سواك، فتخلص من أثقالك وأوزارك، وتقوَّ بالصالح من أعمالك، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، اللهم إني قد بلغت فاشهد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5719)
انهيار دولار قارون
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
إبراهيم بن سلطان العريفان
الخبر
17/10/1429
جامع أبي عائشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة قارون. 2- انهيار الاقتصادي الأمريكي. 3- موقف الشعوب الإسلامية والعربية من الحدث. 4- أثر شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الاقتصاد. 5- ضرورة الاعتبار بما حدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان والعقيدة، من سنن الله تعالى الكونية قول الرسول : ((حقٌ على الله تعالى أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)).
لقد حدث الأمس القريب ما حدث لقارون الذي قصّ الله علينا قصته: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وتجبَّر وتغطرس في كبريائه، وآتاه الله مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ، ذكَّره الذاكرون، ونصحه الناصحون: يا قارون لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، لكن قارون لم يأخذ بالنصيحة، بل كفر بنعمة الله عليه، وقَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ، وافتخر قارون بماله وقوته وجيشه، فيقول الله: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ. وفي يوم من الأيام كعادته خرج على قومه في أكمل زينة وأعظمها، حتى قال الضعفاء ممن تعلقت قلوبهم بالدنيا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، لكن الله يمهل ولا يهمل، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ، ليكون عبرة لمن اعتبر، ويكون عظةً لمن اتعظ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ. نعم، لا يُفلح الكافر مهما كان معه من عدة وعتاد.
سبحان الذي جعل الأيام دولا! فلا دوام لحال إلا بإذن الملك القهار, ليدل الخلق على جبروته, ويعظهم بقدرته وقوته, وحتى يتوب التائبون، ويؤوب الأوابون, وينيب المنيبون، ويركع لعظمته الراكعون.
وهذه سنة عامة في كل الأمم، فبالأمس القريب حدث ما حدث لقارون من الانهيار الاقتصادي الأمريكي العالمي.
كان العالم يتكلم عن أمريكا على أنها هي القطب الأوحد الذي يدير العالم، وأنها أعظم الأمم، وأكبر القوى... إلى غير ذلك من الهالات التي أطلقوها عليها حتى أصابها من غطرسة الكبرياء والقوة والتسلط ما رأينا من احتقار لإرادات الشعوب وتحطيم لكبرياء الأمم وازدراء لأديانها وأعراضها ومقدراتها.
واليوم بعد الانهيار الكبير للاقتصاد الأمريكي يتحدث الناس عن انهيار أمريكا كقوة عظمى وكقطب أحادي, وعن بداية تلاشي الهيمنة الأمريكية على العالم, وانتهاء زمن أمريكا شرطي الكرة الأرضية الغاشم المدلل.
ويذكرني إعجاب الناس بقوة أمريكا ثم تعجبهم من انهيار اقتصادها بما حدث من قوم موسى عليه السلام مع قارون, ففي عز زمن الغطرسة الأمريكية كان لسان حال الأمم: يا ليت لنا مثل ما أوتيت أمريكا, وهو نفس قول قوم موسى لقارون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. واليوم بعد بداية الانهيار الكبير لأمريكا كقوة عظمي هرول الجميع يقول: ويكأنه لا يفلح الكافرون, الفرح العالمي ببداية انهيار أمريكا مشاهد ومنظور, وذلك نتاج طبيعي لتكبرها وغطرستها, وسنن الله لا تكذب، فلا محالة هذه الدولة الظالمة إلى زوال, ومن أساء فسترد إليه سيئته لا محالة. لما خسف الله بالاقتصاد العالمي الأمريكي أصبحت الشعوب والدول يقولون: وَيْكَأَنَّ اللَّه يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده وَيَقْدِر لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّه عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ، لَوْلا لُطْف اللَّه بِنَا وَإِحْسَانه إِلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بهم لأَنّنا وَدِدْنَا أَنْ نَكُون مِثْلهم، وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِح الْكَافِرُونَ.
فبداية الانهيار الأمريكي هو الجزاء الطبيعي للغطرسة والتكبر وإرادة العلو والفساد في الأرض.
بكى الدولارُ يُسْمعهمْ أنينا فضجُّوا بالبكاءِ لهُ حنينا
وناداهمْ لنصْرته فهبوا عبيدًا بالنفاق مُسلَّحينا
هو الدولار ربّهُمُ ينادي وقد خضعوا له ذلاَّ سنينا
سأحكي قصَّةَ الدولار إنِّي رأيت الربْطَ بالدولار هونا
كذوبٌ والْخداع له قرينٌ ويبقى دائمًا خِبا خؤُونا
هوَى الدولار واعجبًا هُويَّا هوى فانحطَّ أسفلَ سافلينا
لقد جمعوا الألوفَ ممُلْيرات وكم من مثلها جمعوا الْمئينا
فلما صار كنزهُمُ عظيما وظنوا الكنز مَحفوظا مصونا
تنادوْا فِي مطامعهمْ سِراعا تسير جيوشهم متتابعينا
هم الأشرارُ بالأطماعِ جاؤوا أناخوا بالعراق مُهجّينا
تهيِّجهمْ على العدوانِ هودٌ وراموا ذلَّنا وتصاغرونا
وقد جاؤوا وبالطغيان حلُّوا بأرض العزِّ كي يستعبدونا
فلمْ تتَصَرَّمِ الأيامُ حتى جعلنا ملكهمْ ذُلاّ مُبينا
ألا يا طامعينَ بنا أفيقوا فنحن الأُسد نطحنها طحينا
ونَحن القوم بالأسياف نشفي ونصل حرابنا الداء الدفينا
وكم كانت بها الطغيان يشقى غدا لبروقِ لمعتها مَهينا
فعادوُا بعد حربِهمُ صِغَارا على ظهْر الصَّغَارِ مطأطئينا
وعاد الذلُّ مردودًا عليهم وأصبح كنزُهمْ سَلْحا وطينا
خزينتهمْ من الإفلاس تبكي وكان ثراؤُها بَهرَ العيونا
وعاد الفقرُ والإقلالُ فيهمْ ونَحنُ العزُّ والأمْجاد فينا
فما موقف الشعوب الإسلامية وأخص منها العربية من الأحداث؟ فلا شك أن الانهيار الأمريكي مفرح للشعوب العربية المقهورة، والتي تشعر بالظلم والقمع سواء بسبب الاحتلال الأمريكي للعراق والدعم المتواصل لإسرائيل ومحاربة الشعب الفلسطيني, كذا احتلال أمريكا لأفغانستان المسلمة, وتعاونها الدائم مع الهند للضغط على باكستان، ومحاربتها للمسلمين في الصومال والسودان, كل هذا يجعل المسلمين في فرح لبداية الانهيار الأمريكي. ولكن المحزن هو انهيار اقتصاديات الكثير من الدول العربية المسلمة التي ربطت اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي، وربطت عملتها بالعملة الأمريكية, مما سيؤثر لا محالة على اقتصاديات شعوب المنطقة العربية.
ولكن هذا الجانب المظلم له أسباب تتعلق بالشعوب لا بد أن تقف الشعوب العربية مع نفسها فيه, لعل أهم هذه الأسباب ضعف شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتكون في حق الحاكم بالنصح والتبيين من العلماء العاملين, حفاظًا على الدماء والأعراض والأموال.
وليعلم الجميع أن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها علاقة وثيقة باقتصاد الدولة، فبوجودها يزدهر الاقتصاد، وبفقدها ينهار، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ، ثم قال : ((كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرا)) ، وقال : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)). ومثل هذا كله قول الله تعالى في قصة أهل السبت: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.
فيا أمة الإسلام، أما آن أوان تطبيق شرع الله في النفس والمال, أما آن أوان تطبيق الاقتصاد الإسلامي بعدما جربت النخب كل الاقتصاديات المستوردة, أما آن أوان الوقوف مع النفس وإعطاء العلماء حقهم من الاحترام والتبجيل ووضعهم في صدارة الأمة والأخذ بنصيحتهم عملاً بكتاب الله وسنة نبيه.
سائلين المولى أن يمنَّ علينا بحفظه، وأن يشرح صدورنا للعمل بكتابه وسنة نبيه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين، ما يحصل في هذه الأيام للاقتصاد العالمي يجب أن لا يمر علينا مرور كرام، بل هي عبرة لمن اعتبر؛ أقوى اقتصادٍ في العالم ها هو أمامنا ينهار وإن قام مرة أخرى لكن هذه الضربة لم يتوقعها أي خبير اقتصادي ولم يحتسب لها أي بنك عالمي.
سبحان الله! أين ذهبت مئات الآلاف من الملايين من الدولارات في لمح بصر؟! كأنها مُحِقت، كأن الأرض قد ابتلعتها، وصدق الله حيث قال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ، رؤوس أموالها بالمليارات فجأة تُفلِس كأنها لم تكن بالأمس موجودة، خبراؤهم الاقتصاديون تشرَّدوا في الشوارع، مئات الملايين في الغرب مهدَّدون بالتشرد، لم يتوقعوا هذه الخسائر، وصدق الله: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
من منا أقوى اقتصادًا في العالم؟! أراهم الرب من هو أقوى منهم، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، أليس هذه عبرة لأولي الأبصار؟!
هذا فرعون لما عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ، وظن فرعون أنه خالدٌ مخلدٌ في الأرض، فإذا موسى عليه السلام وضعاف بني إسرائيل يرفعون أيديهم تضرعًا إلى الله: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ، فمن كان يظن أن فرعون صاحب أكبر دولة في زمانه وأقوى من يبطش في الأرض في ذلك الزمان، فإذا الرب جل وعلا يستجيب لدعوة موسى، وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، انهار اقتصاد فرعون. فهي ذكرى وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، لكن أنَّى لهم أن يتذكَّروا؟!
كم جاءتهم من عواصف! كم شرَّدت الفياضانات الملايين من البشر! لكن الغرب أصبح أعمى اليوم، وها هو الاقتصاد العالمي اليوم ينهار أمام العالم، أقوى اقتصاد في العالم، لقد نهبوا سبعمائة ألف مليون دولار، هذا جزء يسير مما نهبوه من الشعوب الضعفاء، هذا جزء يسير مما تسبَّبوا فيه من الجوع في العالم. فهذه الأموال التي أخذوها من حرام ها هي الآن تذهب أمام أعينهم. والآن الغرب يعيش في قلق وخوف دائم، سائلين المولى أن لا يرفع الضر عنهم. أي أمنٍ واستقرار يسعون إليه الغرب الآن؟!
لقد استجاب الله دعوات المخصلين من أهل الإيمان في شهر رمضان، وهم يدعون الله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ. لقد كانت الضربة أليمة أليمة جدًّا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. لقد أعلنوا الحرب على الله بمعاملاتهم الربوية، فهي عبرة لمن اعتبر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فإذا لم تتركوا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، حرب لا يقاومها جيش ولا قوة ولا عتاد، حرب من الله تأتيهم لا تحميهم خزانة ولا وزارة مالية، إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، وصدق رسول الله : ((إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) ، فإذا ظهر الربا في قوم فقد استحلوا عذاب الله بأنفسهم.
واعلموا أن ظهور الربا في بلاد المسلمين أشد من بلاد الغرب؛ لأن المسلمين أُنزل عليهم القرآن وهم يعرفون حُرمة الربا وهم يقرؤون القرآن: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ، فإذا ظهر الربا في بلاد المسلمين فهو أشد وأنكى من ظهوره في بلاد الغرب، فهل اعتبرنا؟! وهل اتخذنا هذا الحدث عبرة لنا؟!
والله، لا ينجو العالم اليوم من الانهيار الاقتصادي إلا بنظام اقتصادي إسلامي، واليوم نشاهد تسابق البنوك الربوية في بلاد المسلمين إلى تطبيق النظام الإسلامي.
يا مسلمون، كلما اقتصر الإنسان على المال الحلال ولو كان قليلاً يبارك الله فيه، وكلما ترك الإنسان الربا ولو كان مربحًا يُبارك الله فيه.
اعلموا أن كل جسم نبت من سحت من حرام من ربا فالنار أولى به، كيف يرضى المسلم على نفسه وعلى أولاده أن ينبتهم من مال حرام؟!
ليكن ما حل بالغرب عبرة لنا، عقوبات إلهية جماعية لأمة بطشت في الأرض وفسدت واعتدت، والإعلام لم يظهر لنا الحقيقة، بل الحقيقة جماعات قد وضعت استقالاتها من البنوك الربوية، ملايين من البشر مشردون، أمراض واضطرابات نفسية حلت بالأسر والجماعات، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويهدى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر...
(1/5720)
صيام الجوارح
فقه
الصوم
نهار بن عبد الرحمن العتيبي
الدوادمي
12/9/1429
جامع الحميضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المقصود بصيام الجوارح. 2- أثر الوقوع في المحرمات على الصيام. 3- صيام اللسان. 4- صيام العينين. 5- صيام الأذنين. 6- صيام اليدين والرجلين. 7- صيام القلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
المقصود هنا بصيام الجوارح هو حفظها من كل قول أو فعل محرم يؤدي إلى تقليل أجر الصائم، وقد بين لنا النبي أن الأقوال والأفعال المحرمة تنقص من أجر الصائم حيث قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري وأبو داود. ونسبة الصيام هنا للجوارح هو من باب نسبة الفعل إلى جارحة الفاعل؛ لأنه هو الذي قام بهذا الفعل، وقد نسب النبي الفعل إلى الجوارح فقال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) متفق عليه. قال ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري: "واحتج للشافعي فيما ذكر الخطابي بأن الأفعال تضاف للأيدي لقوله تعالى: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وقوله: بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج: 10]، وليس المراد في الآيتين جناية الأيدي فقط، بل جميع الجنايات اتفاقا، فكأنه إذا قال: "زنت يدك" وصف ذاته بالزنا؛ لأن الزنا لا يتبعض".
ووقوع الجوارح هنا في المحرمات ليس من المفطرات الحسية للصائم، ولهذا قال العلماء: إن هذه المعاصي تؤدي إلى نقصان أجر الصائم، وقد نقل ابن الوزير الاتفاق على أن الكذب والغيبة يكرهان للصائم ولا يفطرانه، وهذه الجوارح التي يجب على المسلم حفظها ومنعها من فعل المحرمات والحرص على أن تصوم عنها هي ما يلي:
1- صيام اللسان:
صيام اللسان هو منعه من القول المحرم سواء في نهار رمضان أثناء الصيام أو في الليل بعد إفطار الصائم، وقد ذكر رسول الله خطورة اللسان على صيام المسلم بقوله: ((من لم يدع قول الزور)) ، والمقصود بقول الزور هو كل قول مائل عن الحق، ومنه الكذب والبهتان والسب والشتم والغيبة والنميمة، ومن أعظمه شهادة الزور الكاذبة في أخذ الباطل أو إبطال الحق.
وقد بين رسول الله أهمية حفظ الصيام من كل قول محرم يخل بهذا الصيام، فقال : ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم)) متفق عليه.
وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم أن الإنسان محاسب على كل كلمة يقولها، فقال سبحانه وتعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]، والرقيب: هو ملَك يراقبه، وأما العتيد أي: أنه حاضر معه.
كما نبه رسول الله على أهمية حفظ اللسان فقال: ((من يضمن لي ما بين لحييه ـ أي: لسانه ـ وما بين رجليه ـ أي: فرجه ـ أضمن له الجنة)) متفق عليه. قال النووي رحمه الله: "اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء".
2- صيام العينين:
صيام العينين يكون بامتناعهما عن النظر لكل ما هو محرم من عورات لا تحل أو نساء متبرجات أو نظر امرأة لرجل بشهوة أو غير ذلك، فإن وقع المسلم في شيء من ذلك فإن ذلك ينقص أجر صيامه، وقد نبه إلى ذلك رسول الله عندما نسب الزنا إلى العينين عند النظر إلى ما هو محرم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي قال: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) متفق عليه. قال ابن حجر في فتح الباري: "قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي، ولذلك قال: ((والفرج يصدق ذلك ويكذبه)) ".
3- صيام الأذنين:
صيام الأذنين يقتضي منعهما من الاستماع للكلام المحرم كالاستهزاء بالله عز وجل أو برسوله أو بالدين الإسلامي أو بشعيره من شعائره أو كالغيبة أو النميمة أو الأغاني المحرمة، ومما يدل على نقص الصيام عند استماع الكلام المحرم نهي النبي حيث قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، ولا شك أن استماع المحرمات هو من الجهل الذي نهى عنه النبي في هذا الحديث.
وقد نهى الله تعالى في كتابه الكريم عن استماع المحرمات فقال سبحانه: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: 55]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 3]، وقال سبحانه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36].
وأما إذا وجد المسلم أو المسلمة في مكان فيه غيبة أو نميمة فإنه إما أن يرد عن عرض أخيه المسلم ويمنع المغتاب أو النمام من ذلك لقول النبي : ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) رواه الترمذي وأحمد بسند حسن، وإذا لم يستطع المسلم الرد عن عرض أخيه أو كان في مجلس فيه كلام محرم كسبِّ الله جل جلاله أو سب النبي أو سب الإسلام أو غيبة أو نميمة فإنه يجب عليه أن يفارق هذا المجلس لقول الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68]، وقوله سبحانه: الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا أي: الذين يخوضون فيها بالطعن والاستهزاء.
وكذا يحرم على المسلم استماع الأغاني لما ثبت عن رسول الله فيما رواه الإمام البخاري تعليقا ووصله ابن حجر حيث قال: ((ليأتين على الناس زمان يستحلون فيه الحر والحرير والخمر والمعازف)).
وسمعك صن عن سماع القبيح تصون اللسان عن النطق به
فإنك عند استماع القبيح شريك لقائله فانتبه
4- صيام اليدين والرجلين:
صيام اليدين هو بامتناعهما عن فعل الحرام من أخذ للمال الحرام أو تناول المشروب أو المطعوم المحرم أو البطش وإلحاق الأذى بالآخرين، أما صيام الرجلين فبمنعهما من السير إلى الأمور المحرمة أيا كانت هذه الأمور، وقد نبه إلى ذلك رسول الله بقوله: ((العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني)) رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (4150). قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: " وفي الرواية الثانية: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة; فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) ، معنى الحديث: أن ابن آدم قدّر عليه نصيب من الزنا، فمنهم من يكون زناه حقيقيا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازا بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يقبلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنا، أو النظر، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب. فكل هذه أنواع من الزنا المجازي. ((والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه)) معناه: أنه قد يحقق الزنا بالفرج، وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك. والله أعلم".
5- صيام القلب:
والقلب يصوم عن المحرمات التي لا ترضي الله تعالى من كبر وحسد أو غل وحقد على أحد من المسلمين، فإن كان القلب يحمل كفرا أو نفاقا يخرج صاحبه من الملة فإن هذا يتنافى مع الصيام أصلاً، فإن من شروط الصيام أن يكون الصائم مسلما، وما كان دون ذلك من المعاصي القلبية فإنها ـ والله أعلم ـ تنقص أجر الصائم. فقد ذكر رسول الله تحريم الأعمال التي يحملها المسلم في قلبه على إخوانه المسلمين فقال: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا)) متفق عليه.قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "المراد النهي عن ظن السوء، قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس; فإن ذلك لا يملك".
ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر; فإن هذا لا يكلف به كما سبق في حديث: ((تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة ما لم تتكلم أو تعمد)) ، وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر، ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم. قال: وقال بعضهم: يحتمل أن المراد الحكم في الشرع بظن مجرد من غير بناء على أصل ولا نظر واستدلال، وهذا ضعيف أو باطل، والصواب الأول.
كما حذر رسول الله من الكبر فقال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال رسول الله : ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم.
فهل حفظنا ـ أخي المسلم وأختي المسلمة ـ صيامنا من كل ما يخل به أو ينقص من أجره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر)) رواه ابن ماجه وأحمد والبيهقي وصححه السيوطي في الجامع الصغير والألباني في صحيح الجامع الصغير (3490).
قال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال؛ لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه وتعظيم حرماته وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات".
ولا يخفى على كل مسلم أن الله تعالى قد فرض علينا الصيام وأمرنا به من أجل أن نكون من المتقين، فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]. قال البغوي في معالم التنزيل (1/149): " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني بالصوم؛ لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات"، وقال ابن كثير في تفسيره (1/289): "لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان"، وقال ابن الجوزي في زاد المسير (105): "قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لأن الصيام وصلة إلى التقى؛ إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلكم تتقون محظورات الصوم".
ويجب حفظ الجوارح مما ينقص أجر الصائم في رمضان حتى في غير وقت الصيام، وذلك بوجوب صيامها عن المحرمات، فيجب صيام البطن عن أكل أو شرب الحرام في الوقت الذي يجوز فيه الأكل، أي: من بعد المغرب إلى أذان الفجر، فإن أكل محرما أو شرب محرما فإن ذلك يقلل من أجر الصائم. مِن أكل الحرام أكلُ الأموال المحرمة كالربا والغش وأكل المخدرات والحشيش والقات وغيرها، أما شرب المحرمات فكشرب الدخان والشيشة والمسكرات كالخمر وغير ذلك مما حرم الله شربه، أما لو شرب الصائم أو أكل شيئا حلالا أو محرما في وقت الصيام فإنه يبطل الصوم بالإجماع.
وكذا من صيام الجوارح صيام الفرج عن الزنا وعمل قوم لوط والاستمناء أثناء الليل، فإن فِعل هذه المحرمات يقلل أجر الصائم، أما فعل هذه المحرمات أثناء النهار فإنه مفطر، أسأل الله السلامة والعافية، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإخواني المسلمين من المتقين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5721)
التحذير من الوقيعة في علماء الشريعة
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد الله بن عمر البكري
الدوحة
25/10/1429
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم والعلماء الربانيين. 2- وجوب توقير أهل العلم واحترامهم. 3- موقف أهل السنة من العلماء. 4- التحذير من الوقيعة في العلماء. 5- الغرض السيئ من الوقيعة في العلماء. 6- تفاوت أقدار العلماء. 7- العمل على إيجاد العلماء العاملين.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، العلماء، وما أدراك ما العلماء، أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، أهلُ الرحمة والرضا، بهم يقتدى، وبعلمهم يهتدى، كم من جاهل علَّموا، وتائه أرشدوا، وحائر بصّروا، وعلى طريق الجنة دلُّوا، وكم من مكروب جاء مستفتيا لكربته فرجوا ولضيقه نفسوا. بقاؤهم في الناس نعمةٌ ورحمة، وذهابهم مصيبة ورزية، قال النبي : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
والعلماء أولى الناس بخشية الله، وأحرى الناس بمعرفته؛ لذا قال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. والعلم رحمةٌ من الله ومنحة يمنحها من اصطفاه، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ. والعلم بصيرة من الله، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. والعلم بينةٌ تستبين بها الحقائق، ويخرس عندها كُل ناطق، قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ. والعلم طريق ينتهي بالعبد إلى الجنة والرضوان كما قال : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) ، فالعلم بالله أقرب طريق إلى جنة الله ورحمته.
وبالعلماء يحفظ الله الإسلام وتستبين الأحكام ويُعرف الحلال والحرام؛ لذا كان لهم على الأمة حق التعظيم والتبجيل والتقدير والتوقير، فكم بذلوا في التحصيل، وكم تركوا من حظوظ الدنيا ليقوم الدين؛ لذا كان من عاداهم محاربا لرب العالمين كما قال مخبرا عن ربه جل وعلا: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)).
والعلماء العاملون هم أولياء الله، وقد جاء عن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أنهما قالا: "إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من آذى فقيها فقد آذى رسول الله ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله عز وجل).
والوقيعة في أهل العلم والفضل من سيما المنافقين كما أخبر ربنا جل وعلا عنهم بقوله: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وتعظيم أهل العلم تعظيم لحرمات الله، ومن يُعَظِّم حُرٌماتِ اللهِ فَهُوَ خيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ ، وَمَن يُّعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ.
والشعيرة كلُّ ما أذِنَ اللهُ وأشعَرَ بفضله وتعظيمه، فيدخل فيها العلماء دخولاً أوليًا؛ لأنهم مما أشعر الله بفضله وتعظيمه. ومن رحمة الله بالعبد ولطفه به أن يُحبب العلماء إلى نفسه، ومن أحب قومًا حُشر معهم، والمرء مع من أحب. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمَّا يلحقْ بهم، أي: ليس عنده مثل ما عندهم من الاستقامة والخير لكنه يحبهم، فقال : ((المرء مع من أحب)). فمن أحب العلماء حشر معهم، ومن أحب الفجار حشر معهم. وإذا أحب الله العبد حبَّب إلى قلبه أهل العلم والصلاح والفضل، فوقرهم وأثنى عليهم واعتقد فضلهم، فحب العلماء طاعةٌ وقربه وإيمان بالله وحسبة، نحبهم لكتاب الله الذي حفظوه، ولسنة رسول الله التي وعوها وعلّموها ودعوا إليها، نحبهم للدين، نحبهم لما فيهم من سمت الأخيار وشعار الصالحين، نحبهم لعظيم بلائهم وما قدموا من خيرٍ ونصحٍ للأمة، فاللهم عظّم أجورهم، وثقل في الآخرة موازينهم. ومن أحب العلماء حرص على مجالسهم ومواعظهم والعمل بتوجيههم ونصحهم والقرب منهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ومن حق علمائنا علينا ذكرُهم بالجميل، والترحمُ على موتاهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ، فمن وجد في قلبه غلا عليهم فهو على خطر عظيم.
ومن حقهم علينا أن ننشر فضائلهم ونذكر مآثرهم، وأن نذب عن أعراضهم، فلحوم العلماء مسمومة، من شمَّها مرض، ومن لاكها مات، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه فيهم بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أيها المسلمون، ((العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) كما أخبر المصطفى ، فمن أعرض عن العلم فهو المغبون الخاسر.
ومن سمات أهل السنة والجماعة أنهم وسط في الموقف من العلماء والصالحين، فيدينون لله بتوقيرهم، بلا غلو ولا جفاء، فلا يدعون لهم العصمة في حياتهم، ولا يجعلون قبورهم أوثانا ومشاهد بعد مماتهم، كحال أهل الضلال، فأهل الحق يتقربون إلى الله تعالى بتوقير العلماء وتعظيم حُرماتهم ومعرفة أقدارهم وعظيم بلائهم، كما قال الحسن رحمه الله: "كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
والعلم هو المعيار للحق لا الكثرة كما قال سفيان الثوري رحمه الله: "لو أن فقيها على رأس جبل لكان هو الجماعة".
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يُحسنه والْجاهلون لأهل العلم أعداء
وإطلاق اللسان في أعراض الصالحين والمصلحين من أسباب الخسران المبين، ففي الصحيح: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) ، وعند أبي داود أنه قال: ((لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) ، هذا في عامة الناس، فكيف بمن يقع في أعراض العلماء الذين هم صفوة الناس؟! إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
وقد كثر في الآونة الأخيرة وقوعُ بعضِ السفهاء في أعراض العلماء بالجملة وبالتعيين، حتى كتب صحفي تافه يطالب بالحجر على علماء الأمة، وهو أحق بالحَجر بل بالصفع، ولولا نفع النعل لكان ضربه بها متعيّنا، ولكن كما قيل:
وقِح إذا ضرب النعال بوجهه صرخ النعال: بأي حق أُضرب؟!
فالنعال فيها نفع لأقدام العلماء، وتواضع لمقامهم الشريف، وذاك وأمثاله لا نفع لهم بل ضرر محض وتطاول على أكابر الأمة وأعلام الهدى، وليسوا إلا قربا منفوخة بهواء نتن، فهو وأمثاله حري بالبصق في وجهه الذي اختلطت به معالم الذكورة بالأنوثة، وكم من نكرة تافه من كاتب رقيع وصحفي وضيع وقع في جبل من جبال العلم أو علم من أعلام الدعوة والإصلاح، فأعمل لسانه السليط وأجرى قلمه البذيء في التنقص والتندر وتزوير الأقوال وتحريف الفتاوى وتحميل الكلام ما لا يحتمل إلا في قلبه المريض وفهمه البليد.
معاشر المسلمين، لقد أدرك العلمانيون وهم دعاة فصل الدين عن الحياة أخزاهم الله، أدركوا أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة أو ينالوا من الأمة مبتغاهم ما دام للعلماء في الأمة شأنٌ وهيبة وتأثير وتبجيل، بما جعل الله لهم في القلوب المؤمنة من التقدير والتوقير، فسعوا لإسقاطهم وتشويههم بكل ما أوتوا من قوة، ولم يألوا جهدا في ذلك، وإنه لانتهاك بشع أن يطعن الرويبضة من العلمانيين وغيرهم من الأسافل في علمائنا الأكابر بكلام بذيء، يعفُّ اللسان عن نقله، مما يدُلّ على ما في قلوبهم من الدغل ومعاداة ورثة الأنبياء وما يحملونه من الحق، ولكن هيهات هيهات أن يبلغوا غايتهم، أو أن يوهنوا بنطحهم صخرة العلم والفضل، بل تنحي قرونهم دونها. أما العلماء فمكانتهم في النفوس المؤمنة عظيمة، ومنزلتهم عند أهل الإسلام رفيعة، فلا يضرهم نعيق الغربان ولا قول البهتان.
وما ضر نهرَ الفرات يوما أن خاض بعض الكلاب فيه
معاشر المسلمين، إن من مكامن الخطر في الوقيعة في أهل العلم أن جَرح العالم بلا موجب ليس جرحا لشخصه، بل تزهيد فيما يحمله من الحق والهدى وتنفير عما يدعو إليه من الخير والإصلاح. وأعداء أهل العلم يدركون هذا جيدا، فيطعنون في العلماء وهم يريدون النيل من الشريعة، ولكن بعضهم يجبن عن التصريح، والنتيجة واحدة، وهو إبطال الحق الذي يقول به ويدعو إليه هذا العالم أو ذلك.
وهم في هذا يسيرون على سَنن أسلافهم من المشركين الذين أرادوا صرف الناس عن الإسلام، فطعنوا في شخص الرسول ، فقالوا: ساحر وشاعر ومجنون وكذاب وطالبُ ملك ورئاسة، وهم يعرفونه جيدا بصدقه وأمانته ورجاحة عقله وزهده في الدنيا، ويعلمون أنهم يكذبون لكنهم لم يجدوا ما يصرفون به الناس عن الحق إلا الطعن في حامله؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنهم إذا استطاعوا أن يشوهوا صورة الرسول في أذهان الناس فإنهم سيُعرضون عنه ولن يسمعوا منه، وهذا دأبُ أعداء الإسلام إلى اليوم، طعون متوالية وإساءات متتالية لسيد الأولين والآخرين، وغرضهم في ذلك خداع عامتهم وصرفهم عن البحث عن حقيقة الإسلام، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، فالمسلمون الجدد في تزايد مستمر، والبحث عن حقيقة الإسلام صارت هواية للكثيرين، تقودهم إلى اعتناق هذا الدين، ولنفس الغرض الذي يطعن فيه أعداء الإسلام في صاحب الرسالة لصرف الناس عما جاء به يعلو نباح دعاة العلمنة في الطعن على حملة الشريعة وحراس العقيدة من علماء الأمة، ولكن هيهات هيهات.
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
معاشر المسلمين، إن ما يُشاع بين الحين والحين من نسبة أقوال ومواقف تسيء لعالم من علماء الأمة أو داعية من دعاتها لا يخلو من أحد احتمالات ثلاثة: فإما أن يكون ذلك القول مفترى عليه من الأصل ولا صحة له مطلقا، وإما أن يكون قولا فُهم على غير وجهه أو حُرف مضمونه أو تلاعب خبيث بمقصوده، وإما أن تكون زلة وكبوة، فلا ينبغي إشاعتها ولا ترويجها، بل يُناصح فيها سرا إن لم يكن قد أظهرها وأعلنها أو دعا إليها. والعالم عند أهل السنة غير معصوم، إلا أن الأصل فيه العلم والفضل وتوقير الشريعة والوقوف عند حدودها.
ولنعلم يقينا أن أكثر ما يُشاع عن أهل العلم مما لا يليق بهم هو إما كذب عليهم أو سوء فهم لكلامهم أو تحريف متعمد لأقوالهم، فينبغي على من بلغه عن أهل العلم شيء يستغربه أن يتحقق من صحة نسبته، وأن يسأل عن وجه كلامه في حال ثبوته عنه.
فكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ومن عظمت الشريعة في نفسه أحب حملتها ومبلغيها، وعظم ما يحملونه من علم الكتاب والسنة، وحرص على التأدب معهم، وأنصت إليهم إذا تحدثوا، وأطاعهم إذا أمروا أو نهوا؛ لأن طاعتهم من طاعة الله، وسؤالهم مما أمر به الله كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. والمحب للعلماء يظهر حبه للعالم إذا تكلم بإنصاته وخشوعه وتأثره ودموعه، فيكون كلام العالم في قلبه كالغيث للأرض الطيبة، ينبت أنواعا من الطاعات، ويزيد في الإيمان، ويقوي اليقين. ومن أكرم أهل العلم فهو الكريم، ومن أساء إليهم فهو الخِبُ اللئيم. وما أحوجنا إلى التأدب معهم في مشهدهم ومغيبهم، فنذكرهم بأرفع الألفاظ وأجلِّها، فإهانتهم في الخطاب من سَنن اللئام، ومن أساء الأدب معهم فهو على خطر عظيم؛ لأن الله عز وجل قد أعلى قدرهم ونوه بمنزلتهم، فقال سبحانه وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ. فاللهم اجز علماءَنا عنا خير الجزاء، وارحم ميتهم، وسدد حيهم، إنك مجيب الدعاء.
ومتى أدْرَك المسلم قِيمة العِلْم وأهَمِيَّة العُلماء وأنَّهُ لا صلاح للعِبَاد في دينهم ودُنْيَاهُم إلاَّ بتوجيه أهل العِلم فإنه لا يملك إلا أن يحبّهُم، حتَّى أَفْتَى جَمْعٌ من أهلِ العلم بأنَّهُ يَحْرُمُ البَقاء في بلدٍ ليسَ فيهِ عالم يُفتِي النَّاس ويُبَصِّرهُم حيث لم تكن وسائل التواصل الحديثة متاحة، ولك أن تتَصَوَّر نَفْسَك في وادٍ مُظْلِم مُوحِش كثير السِّبَاع، أو طريق طويل بين أشْجَارٍ وصخور وجبال ودروب مُوحِشَة وسِبَاع، ثُم جاء أحد معهُ نُور، يدُلُّك الطَّريق، كم له من الفضل عليك! فأهل العلم بهذهِ المَثَابة، بل أعظم؛ لأن النجاة الحاصلة بسببهم ليست مقصورة على الدنيا، بل تمتد لتوصلك إلى جنة الله ورضوانه.
وتتفاوت أقدار أهل العلم بحسب النور الذي معهم، فمنهم طالب العلم الذي معه كالمصباح يضيء لنفسه ولمن كان قريبا منه، ومنهم العالم المتمكن فنوره كالشمس يغطي أرجاء الدنيا بعلمه ونوره؛ لذا كان الإمام أحمد يقول عن الإمام الشافعي: "كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن"؛ لأنه أنار بعلمه للمسلمين كافة، ومثله كان أحمد وسائر الأئمة العظام، وعلى دربهم كبار علماء زماننا، رحم الله أمواتهم وسدد أحياءهم.
ولينظر العاقل إلى حال البلدان الإسلامية التي أُهين فيها العلماء وأزيحوا عن مقام التوجيه والريادة كيف ساءت أحوالهم وأين وصلت أخلاقهم وكيف اضمحلت ديانتهم، حتى أصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرا، وإذا لم تكن دفة التوجيه والإرشاد والبيان بيد العلماء فمن يتولاها؟ا لفضائيات الساقطة أم الصحف المنحرفة أم الرويبضة؟!
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إذا أنعم الله على العبد فرزقه الذرية من الأبناء والبنات فليكن من شكره لله عز وجل أن يعلمهم العلم النافع الذي تزكو به نفوسهم ويقربهم من ربهم، وما أحسن أن يكون في نفس من أنعم الله عليه بالذرية أن يُقدم ابنًا من أبنائه أو بنتا من بناته يتعلم العلم الشرعيَّ النافع عند الله عز وجل يوم تكون كثير من العلوم وبالاً على أصحابها. فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على حث أبنائكم على حِلق القرآن ومجالس العلم، وربوهم على حب العلماء وتقديرهم وإجلالهم، واغرسوا ذلك في نفوسهم يكن لكم مثل أجورهم وتكونوا ممن خلَّف ولدًا صالحًا يدعو له، فيكون ذلك الباقي له من الدنيا بعد أن يُخلِّف فيها كلَّ ما جمع فيها. فكم من أبٍ علَّم ابنه العلم الذي ينفع عند الله عز وجل، فكان علمُ ابنه وما علَّم من المسلمين في ميزان حسنات ذلك الأب. وكم من حريص على الدنيا صرف أبناءه عن تعلم القرآن وعن حلق الذكر فكان أول المصطلين بنار عقوقه.
فيا من حُرم العلم لا تحرمه أبناءك، حثَّهم عليه، وخذ بأيديهم إلى حلق القرآن ورياض العلم والإيمان، ومتى عَلِم الله في قلبك أنك تحب العلم لابنك لربما أقر عينك في حياتك قبل موتك فرأيته عالمًا من علماء المسلمين وإماما من أئمة الدين الذين يذبون عن دين الله ويقيمون شريعة الله وما ذلك على الله بعزيز، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وإذا يسر الله إنشاء مدارس دينية لتخريج من يقوم بواجب حفظ الشريعة من إمامة وخطابة وقضاء ودعوة وفتوى ونحوها ـ كما هو في جميع بلدان المسلمين ـ فلنحرص أن يكون لأبنائنا نصيب من الخير، ولعل الله أن يشرح صدور ولاة أمرنا الكرام لإنشاء مدارس شرعية في جميع المراحل لتخريج العلماء والدعاة الذين تفتقر البلد إلى عدد كبير منهم، بجانب المدارس العامة، فنسأل الله أن يجري هذا الخير على أيديهم عاجلا، وهم أهل لذلك، فحاجة البلد إلى مدارس شرعية لا تقل عن حاجتها إلى غيرها من المدارس المتخصصة الأخرى. ولا يخلو بلد من بلدان المسلمين من عدد كبير من المدرس الشرعية، ولسنا أقل حرصا منهم على ديننا، بل إن قطر قد سبقت غيرها في كثير من أبواب الخير وخدمة الدين بفضل الله جل وعلا، ثم بحرص ولاتنا على دينهم وشريعتهم ونصرة إخوانهم وإصلاح ذات البين.
اللهم إنا نسألك صلاح الأبناء والبنات، وأن ترزقنا خيرَهم وصالح دعائهم بعد الممات.
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5722)
شعبان والتهيئة لرمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
ياسين باصبيع
غير محددة
29/7/1429
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دخول شهر شعبان وسبب تسمية. 2- ما جاء في فضل الصوم فيه. 3- غفلة الناس عن شعبان. 4- رفع الأعمال فيه إلى الله. 5- أسباب فضل الطاعات في وقت غفلة الناس. 6- كيف تهيئ نفسك لرمضان في شعبان؟ 7- التهيئة بكثرة الصوم فيه وسر ذلك. 8- التهيئة بكثرة القرآن وأنواع الإحسان. 9- أعظم ما يهيئ النفس لرمضان الابتعاد عن الشرك والشحناء. 10- السر في عدم المغفرة للمشرك والمشاحن في ليلة النصف من شعبان. 11- بدعة تخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بعبادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: عباد الله، إن المؤمن ليتقلب في هذا الزمان، ويمد الله له في أجله، وكل يوم في هذه الدنيا هو غنيمة له يتزود منه لآخرته، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62].
أيها المؤمنون، ها نحن نودع شهر رجب، ونستقبل شهر شعبان، وفاز من فاز بالتقرب إلى الله بالطاعات والاستعداد في رجب لرمضان، ودخل علينا شعبان فماذا نحن فيه فاعلون؟ ولأجل ذلك فإن لنا في هذه الخطبة مع هذا الشهر وقفات ودروسًا وعضات نُذكر فيها ببعض فضائله وأحكامه، وننظر فيها حال رسولنا الله فيه لنقتدي به. فماذا ورد في فضله؟ وما الذي جاء فيه من أحكامه؟ وما كان يفعله النبي إذا دخل شعبان؟
أما شهر شعبان فقد سمي بشعبان لأن العرب كانوا يتشعبون فيه أي: يتفرقون لطلب المياه، وقيل: لتشعبهم في غارات الحرب بعد خروجهم من شهر رجب الحرام، وقيل: لأنه شهر شعب أي: ظهر بين شهري رجب ورمضان.
أما فضله وما يستحب فيه فعله فقد جاء عند أحمد وغيره وصححه ابن خزيمة وحسنه الألباني عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)).
أيها المسلمون، ألا ترون هذه الأيام غفلة الناس عن شهر شعبان؟ يغفلون فيه عن الطاعات والقربات، ويغرقون في الشهوات والملذات، ويشتغلون بغير شعبان عن شعبان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعمره بالطاعة والصيام، ويقول لأسامة: ((ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان)) ، فشهر شعبان يغفل الناس عنه بسبب أنه بين شهرين عظيمين، وهما شهر رجب الحرام وشهر رمضان الصيام، فاشتغل الناس بهما، فصار مغفولاً عنه، بل وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر محرم، وليس هذا بصحيح، فصيام شعبان أفضل من صيام رجب؛ إذ يقول عنه : ((ترفع فيه الأعمال، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) ، ولقد قال العلماء رحمهم الله: "في هذا الحديث أيضًا دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل".
فتعرضوا لنفحات الله عباد الله، وتلمسوا مرضاته، فإن الأجور المترتبة على الاشتغال بالطاعات وقت غفلة الناس أكبر، وإن فوائد إحيائها بالطاعات أعظم، فمن تلكم الفوائد أن الطاعات فيها تكون في سرٍ وخفاء، وإخفاء الطاعة وإسرارها من أعظم أسباب قبولها، فإنها تكون خالصة لله تعالى، بعيدة عن السمعة والرياء. وإن الطاعات وقت غفلة الناس شاقة على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس ما دامت موافقة لسنة النبي ، يقول : ((الأجر على قدر النصب)).
عباد الله، إن أعمال السنة ترفع إلى الله تعالى في شعبان، أعمال العباد تعرض على الله عرضا بعد عرض، فتعرض كل يوم بالليل والنهار، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة كل اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان، ولكل عرض حكمة، يُطْلِعُ الله عليها من شاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية.
أيها المؤمنون، ولما كان شهر شعبان كالمقدمة لرمضان ـ ولا بد في المقدمة من التهيئة ـ شرع فيه من الصيام وغيره من القربات ما يهيئ القلوب لرمضان، ليحصل التأهب وترويض النفوس على طاعة الرحمن؛ ولهذا كان النبي يكثر فيه من الصيام، ويغتنم وقت غفلة الناس وهو من هو، هو رسول الله ، هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولذلك فإن السلف كان يجدّون في شعبان، ويتهيئون فيه لرمضان.
فيا عبد الله، بماذا تهيئ نفسك لرمضان في شهر شعبان؟ وكيف تهيئها؟ اسمع رعاك الله:
أولاً: هيئ نفسك بما رغبك فيه رسول الله ، ألا وهو كثرة الصيام في هذا الشهر، فقد كان يكثر من الصيام فيه، فعن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: كان رسول الله يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية البخاري (1970): كان يصوم شعبان كله. ولمسلم في رواية: كان يصوم شعبان إلا قليلاً. وفي رواية لأبي داود قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان. وكلها أحاديث صحيحة، وهذا يدل على شدة محافظته على الصوم في شعبان، والمقصود صيام أكثر الشهر لا كله. قال ابن حجر رحمه الله: "كان صيامه في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه، وكان يصوم معظم شعبان".
أيها المسلمون، إن من أسباب كثرة الصيام في شعبان أن الواحد منا قد يشتغل عن صوم الثلاثة الأيام من كل شهر لسفر أو عمل أو غيره، فيجتمع عليه تركها، فما الحل لتعويضها وقضائها؟ قال العلماء: له أن يقضيها في شعبان، وقد كان النبي إذا عمل بنافلة أثبتها، وإذا فاتته قضاها، ولعل هذا من أسباب كثرة صيامه في شعبان.
ومن فضيلة الصيام في هذا الشهر وكثرته واستحبابه أن بعض العلماء قال: إن صيام شعبان أفضل من الصيام في غيره الشهور كصيام شهر المحرم الذي هو أفضل الصيام بعد رمضان؛ لأن أفضل التطوع بالصيام ما كان قريبا من صيام فرض رمضان قبله أو بعده، لأنه يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، فيكون لصيام رمضان بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فصوم شعبان كالقبلية لرمضان، وصيام الست من شوال كالبعدية لرمضان، فالسنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالنسبة للصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وما بعده أفضل من الصيام المطلق الذي لا يتصل به.
وقال ابن رجب رحمه الله: " قيل في صوم شعبان: إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط".
عباد الله، وأما من يضعفه الصوم في شعبان عن صيام رمضان فإنه لا يصوم إذا انتصف شعبان، لقول رسول الله : ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان)) رواه أحمد وغيره وصححه الألباني وفي سنده كلام، والنهي في هذا الحديث من أجل التقوّي على صيام رمضان، وقيل: النهي في حق من كان مفطرًا ولم يصم أول الشهر، فإذا بقي من شعبان قليلاً أخذ في الصوم.
ثانيًا: بماذا تهيئ نفسك ـ يا عبد الله ـ لرمضان؟ هيئها بما تيسر لك من الطاعات من الإكثار من قراءة القرآن وصلة الأرحام وسائر أنواع الإحسان، قال سلمة بن كهيل: "كان يقال: شهر شعبان شهر القراء"، وقال أبو بكر البلخي: "شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، ومن لم يزرع ويغرس في رجب ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!"، وقال أيضا: "مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر".
أيها المسلم، ها قد مضى رجب فما أنت فاعل في شعبان، إن كنت تريد الحصاد في رمضان، فهذا حال نبيك وحال سلف الأمة في هذا الشهر، فما موقعك من هذه الأعمال والدرجات؟ فالبدار البدار إلى طاعة العزيز الغفار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحاب وإخوانه.
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن كتاب الله وسنة نبيه فيهما الهداية والنور، وفي غيرهما ضلال وغرور، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِي?مَةِ أَعْمَى? [طه: 123، 124].
عباد الله، إن من أعظم ما يهيئ المؤمن نفسه لرمضان في شهر شعبان ما جاء عند الطبراني وابن حبان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي قال: ((يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) وهو حديث صحيح. فتعاهدوا ـ عباد الله ـ توحيدكم من أن ينقضه شرك أكبر أو ينقصه شرك أصغر، وطهروا أنفسكم من الشحناء والبغضاء وحزازات النفوس ووغل الصدور، فإن الله تعالى يغفر في ليلة النصف من شعبان لكل عباده إلا للمشرك والمشاحن.
فإياكم والإشراك بالله، لنتفقد أنفسنا؛ فلعل الواحد منا مبتلى بشيء من هذه الشركيات وهو لا يدري، فالمشرك هو الذي عبد غير الله تعالى بأي نوع من أنواع العبادة؛ من دعاء أو نذر أو ذبح أو نحو ذلك من العبادات، فمن فعل ذلك فقد أشرك واستحق العقوبة، وهي عدم المغفرة والخلود في النار، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء: 116].
وأما المشاحن فهو المباغض والمخاصم والمقاطع والمدابر والحاقد والحاسد، فكل هذه أوصاف للمشاحن، وهي سبب لعدم المغفرة، فعن أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا)) رواه مسلم، وعن أبي ثعلبة الخشني عن النبي قال: ((إن الله ليطلع على عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه)) رواه الطبراني وهو في السلسلة الصحيحة (1144). وهي مقطِّعة للصلة والرحم، ومفسدة لذات البين، قال : ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تتحابون به؟ أفشوا السلام بينكم)).
فالجامع بين الشرك والشحناء أن كليهما يحلق الدين ويفسده، والفرق أن الشرك يبطل الدين فلا يبقي منه شيئا، أما الشحناء فتهتكه وتتركه بلا روح، وإن لم تجتث أصله. فالشحناء مفسدة للدين، تحلقه، وما دخل الحسد والحقد في القلوب إلا وكان سببا في ضعف الإيمان، وربما انتفائه بالكلية، كما حصل لإبليس لما حسد وحقد على آدم عليه السلام، ولذا أكّد الله تعالى في التحذير من الشحناء، وذكرها في سياق التحذير من أعظم الذنوب وهو الشرك؛ لأن الشرك مفسد لعلاقة الإنسان بربه، والمشاحن مفسد لعلاقته بإخوانه المؤمنين، وإذا فسدت علاقة الإنسان بربه وبإخوانه لم يبق له من دينه شيء، فكيف يغفر الله له؟! لذلك حُرم من فضل تلك الليلة المباركة.
ألا واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن بعض الناس يخصص يوم النصف من شعبان بالصيام وليلتها بالقيام وببعض الأدعية والأذكار وإنشاد بعض الأشعار، ولم يثبت ذلك كله في حديث عن النبي المختار ، إنما جاء في أحاديث ضعيفة أو موضوعة مكذوبة على رسول الله كما قال ابن رجب وغيره، وكل هذا لا تقوم به حجة ولا يعمل به في الأحكام.
نعم، من كان من عادته قيام الليل فلا يترك قيام الليل في تلك الليلة، ومن كان من عادته صيام النوافل فوافق ذلك ليلة النصف من شعبان فليصم ولا يترك الصيام، وكذلك من كان من عادته أن يصوم في شعبان فليصمه اقتداءً بالنبي. فسيروا على هدي نبيكم الموصل إلى طريق الجنان، واجتنبوا طرق الغواية والبدع والضلال الموصلة إلى دار البوار.
فيا أيها الأبرار والأخيار، استقبلوا هذا الشهر بالتوبة النصوح من الإشراك بالله ومن البدع، واستقبلوه بالاستغفار من جميع المعاصي والآثام، فرمضان عما قريب سيحل، فيا أيها المسلم ماذا أعددت لرمضان؟ وبماذا هيئت نفسك؟ فلقد مات أقوام وولد آخرون، وسعد أقوام وشقي آخرون، واهتدى أقوام وضل آخرون، فقدِّر نعمة الله عليك، واسأله أن يبلغك رمضان، وخذ أمورَك بالجد.
أيها المذنب ارجع إلى ربك، أيها العاق لوالديه أحسن إلى والديك، أيها القاطع لرحمه وجيرانه عد لصلة أرحامك وجيرانك، شعبان يدعوك ويهتف بك أن تعال طهر نفسك، وتعاهد قلبك، انفض غبار الشقاقِ واتباع الهوى والانسياق وراء وساوس الشيطان، واحرص على ما ينفعك، فعمّا قليل سترتحل، وإلى الآخرة ستنتقل.
فيا من ضيع الأوقات جهلا بِحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قهرا ويُخلى الموت قهرا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مُخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم فخير ذوي الْجرائم من تدارك
ثم اعلموا أن الله قد أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقُدسه، وأيّه بكم ـ أيها المؤمنون ـ من جِنِّه وإنْسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
فصلُّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشرية.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأبرار وصحابته الأطهار، المهاجرين منهم والأنصار، وعنَّا معهم بجودك وعفوك يا عزيز يا غفَّار.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمر الطُّغاة والمعتدين، وانشر الأمن والاستقرار والرخاء في جميع بلاد المسلمين يا رب العالمين...
(1/5723)
تدابير الفئة الضالة
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
حامد بن ناصر الباهلي
الدوادمي
8/7/1429
جامع بلدة أوضاخ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة دم المسلم. 2- خبر التدابير العدوانية. 3- وجوب الاجتماع والاعتصام بحبل الله ولزوم الجماعة. 4- ضرورة التحذير من الفئة الضالة. 5- الإشادة بجهود رجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عبادَ الله، إنّ القلبَ ليحزن وإن العقلَ ليذهَل حين يرقُب المسلم تلك الأحداثَ التي ابتُليت بها هذه البلاد المباركة من أقوامٍ حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام ضلّوا الطريقَ وتنكبوه، تلوّثت عقولهم وأفكارهم بفكر خاطئ؛ فكر التكفير والتدمير والتخريب، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا. نظر الحبيب والمصطفى الرحيم بأمته إلى الكعبة المشرفة وقال: ((ما أطيبك وما أطيب ريحك، وما أعظمك وما أعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم منك)) ، وقال رسول الله : ((لا يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) أخرجه أحمد والبخاري، وقال رسول الله: ((لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم)) أخرجه الترمذي، وقال رسول الله: ((لو أنّ أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار)). من أجلِ هذا ـ أيها الأحبة ـ فإنّ متغيِّرات العصر ومضلاّت الفتن وتكالبَ الأعداء تدعو المسلم الغيورَ على أمّته الصادقَ في تديُّنه الناصحَ لإخوانه المسلمين أن يربأ بنفسِه أن يكونَ معولَ هدمٍ في يدِ أعدائه من حيث يعلم أو لا يعلم.
أيها الأحبة في الله، تابعنا بأسى وحزن بالغ عبر وكالة الأنباء السعودية ما صرح به مسؤول في وزارة الداخلية عن قيام أفراد من فئة الضلالة والتكفير بتدابير ونوايا عدوانية تستهدف عقيدة وأمن وثروات بلاد الحرمين الشريفين، حيث كشف البيان عن وجود مخازن للأسلحة والمتفجرات الخطيرة معدة للقيام بأعمال تخريبية وتدمير منشآت اقتصادية، تستهدف مصالح الأمة، وذلك لنشر الفوضى في هذه البلاد الطاهرة المباركة التي هي قاعدة الإسلام وحصن الإيمان ومنبع الرسالة المحمدية؛ ليؤكد ضرورة التكاتف والتآخي بين المواطنين والمقيمين بل من المسلمين جميعًا لكشف عوار هذه الفئة الضالة وعدم التساهل معها؛ حفظًا لمصالح الأمة وممتلكاتها الخاصة والعامة وأرواحها البريئة، ودفعًا لشرورهم وشرور من يقف خلفهم.
عباد الله، إن وقوع مثل هذه التدابير وما سبقها من أحداث ليؤكد وجوب اجتماع كلمة المسلمين والاعتصام بحبل الله تعالى، فإن الحق تبارك وتعالى أمر بالاجتماع، ونهى عن الفرقة والتحزب، فقال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: 105]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159].
ومن الاعتصام بحبل الله لزوم جماعة المسلمين وطاعة ولي الأمر، فالسمع والطاعة لولي الأمر من المسلمين في غير معصية الله أصل من أصول أهل السنة والجماعة، وقد تواترت النصوص الشرعية القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ضرورة طاعة ولاة الأمر في المعروف ولزومها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]، وقال : ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثره عليك)) رواه مسلم، وقال : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقط أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)) متفق عليه. فالتمرد على ولي الأمر معصية لله ومخالفة لأمر الله ورسوله، وتمزيق لوحدة الأمة، وتهديد لأمنها وكيانها واقتصادها، وسبب للخوف والقلق بين أفراد المجتمع، وتشجيع لارتكاب الجرائم بشتى أشكالها وصورها.
عباد الله، إن من أوجب الواجبات على العلماء وطلاب العلم والخطباء والوعاظ والمرشدين والمعلمين والموجهين التنبيه على خطر هؤلاء وسوء صنيعهم، وتوجيه الشباب وإرشادهم إلى منهج الوسطية والاعتدال منهج أهل السنة والجماعة، والتحذير من الدعوات المضللة والأفكار المنحرفة والمؤامرات الماكرة التي تحاك ضد الإسلام وأهله، والرجوع إلى العلماء والأمراء وأهل الاختصاص فيما يشكل عليهم أو يثار عليهم أو يقع من الأمور المهمة والقضايا العامة، قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83]. كما أن خروج بعض الشباب إلى بعض البلدان الإسلامية لدعوى الجهاد يعد خروجًا على ولي الأمر وفرصة لأعداء هذه البلاد المباركة لإحراج قادة هذه البلاد وشعبها، وإلحاق الضرر والعنت بها، فالذهاب إلى تلك البلدان بدون إذن ولي الأمر مخالف للشريعة، وما يحصل من عدوان على الإسلام وأهله واحتلال لبعض بلدانهم وإزهاق أرواحهم واستباحة حرماتهم لا يكون مبررًا بأية حال للتفجير والتكفير والخروج على ولاة الأمر وجماعة المسلمين، وقد قال النبي : ((إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به)) خرجه الشيخان.
أيها الأحبة في الله، يجب على المواطنين والمقيمين على حد سواء الحذر والحذر وعدم التستر والتساهل على هولاء أو إيوائهم، فإن هذا يعد من كبائر الذنوب، وقد قال الحبيب في الحديث المتفق عليه: ((لعن الله من آوى محدثا)) ، فكيف بمن أعانهم أو أيد فعلهم أو رضي بصنيعهم؟! فلا شك ولا ريب أن إثمه أعظم وأشد. فالواجب على الجميع أن يستشعروا عظم المسؤولية، فالجميع في سفينةٍ واحدَة، ومَن خرقها أغرقَ الجميع.
إنّ التهاونَ والتّساهلَ يؤدِّي إلى انفلاتٍ وفوضى، وإنّ الإحساسَ الجادَّ بالمسؤوليّة وخطر النتائج هو الذي يحمِل كلَّ عاقلٍ وكلّ مخلص على رفضِ هذه الأعمال وعدم قبول أيّ مسوّغ لها، ومع يقين المؤمِن بأنّ الله حافظٌ دينَه ومُعلٍ كلمتَه وجاعلٌ كيدَ الكائدين في تضليل إلا أن المسؤوليةَ عظيمة، فلا بدّ من الوقفةِ الصّادقةِ من أجلِ وضعِ الأشياء في مواضعها والأسماء في مسمّياتها، فالإسلام إسلام، والإجرامُ إجرام، والإصلاحُ غيرُ الفساد، وإيذاءُ المؤمنين وسفك دماء المسلمين غيرُ الجهاد المشروع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، أنار بنورِ هدايته قلوب أهل السعادة فهي لربها طائعة، أحمده سبحانه وأشكره وقد تأذن للشاكرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الحقِّ والتوحيد واليقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله ذو الشرف الأسنى والكمال والسيادة، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، الشكر لله ثم للقائمين على أمن هذه البلاد المباركة والسهر على راحة الموطنين والمقيمين، والشكر موصول لرجال أمننا البواسل على ما قاموا به من جهد جبار وعمل عظيم مبارك في مطاردة هؤلاء وتعقبهم وكشف خططهم الخبيثة في مهدها، فهم مصدر الفخر والاعتزاز، بل هم بإذن الله صمّام الأمان في حماية بلاد الحرمين الشريفين، فهم على ثغر عظيم وجهاد في سبيل الله ورباط لحماية مقدسات المسلمين وحفظ مصالح الأمة وأملاكها العامة والخاصة، بارك الله في الجهد، وسدد الخطى، وحفظ بلادنا من الفتن والشرور.
اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم رد كيد الكائدين ومكر المعتدين...
(1/5724)
إسلام باذان
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القصص
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
8/2/1429
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كتاب الرسول إلى كسرى. 2- موقف كسرى من كتاب النبي. 3- كمال عقل باذان. 4- إسلام باذان وأتباعه باليمن. 5- دروس وعبر من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله تعالى في السر والنجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29].
أيها المؤمنون، هل تعرفون رجلاً اسمه باذان؟ اختر الإجابة الصحيحة: هل هو نجم كروي يباع ويشترى في سوق الكرة العالمي، أو هو بطل من أبطال الفن المعروفين في ساحات العربدة والسخف، أو هو رجل شاع صيته في عالم الاختراعات والابتكارات؟ أجب يا رعاك الله.
معذرة، إجابتك خاطئة، ليس هذا ولا ذاك، ولكنه كان واليًا لكسرى ملك الفرس على اليمن، كان يحكم اليمن باسم كسرى إمبراطور زمانه، كان أمره نافذًا على بقعة كبيرة من جزيرة العرب، لكنه أسلم وصار من أتباع الرسول ، هل عرفته؟ تعال معي ـ أخي في الله ـ لنعلم قصته وقصة إسلامه:
أخي يا رعاك الله، كتب النبي كتابًا إلى كسرى ملك فارس ، واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بنَ حذافة السهمي ، فجهَّز عبد الله بنُ حذافة راحلته، وودَّع صاحبته وولده، ومضى إلى غايته ترفعه النجاد، وتحطه الوهاد، وحيدًا فريدًا، ليس معه إلا الله، حتى بلغ ديار فارس، فاستأذن بالدخول على ملكها، وأخطرَ الحاشية بالرسالة التي يحملها له، عند ذلك أمر كسرى بإيوانه فزُيِّن، ودعَا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا، ثم أذِنَ لعبد الله بن حذافة بالدخول عليه.
دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس، مشتملاً شملته الرقيقة، مرتديًا عباءته الصفيقة، عليه بساطة الأعراب، لكنه كان عاليَ الهمَّة، مشدود القامة، بين جوانحه عزَّةُ الإسلام، وفي فؤاده كبرياءُ الإيمان، له هيبة المؤمن، ومَن هاب اللهَ هابه كلُّ شيء.
فما إن رآه كسرى مقبلاً حتى أومأ إلى أحدِ رجاله أن يأخذ الكتاب من يده، فقال عبد الله بن حذافة: لا، إنما أمرني رسول الله أن أدفعه إليك يدًا بيد، وأنا لا أخالف أمر رسول الله، فقال كسرى لرجاله: دعوه يدنو مني، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده، ثم دعا كسرى كاتبًا عربيًا مِن أهل الحيرة، وأمَرَه أن يفضَّ الكتاب بين يديه، وأن يقرأه عليه، فإذا فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام الله على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك)).
فما إن سمع كسرى هذه الرسالة حتى اشتعلت نار الغضب في صدره، فاحمر وجهه، وانتفخت أوداجه، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بدأ بنفسه، وبدأه بقوله: ((من محمدٍ رسول الله إلى كسرى)) ، غضب هذا الرجل المغرور المتكبر، وجعل يمزِّقها دون أن يعلم أي شر يجره على نفسه، مزقها وهو يصيح: أيكتبُ لي بهذا وهو عبدي؟! ثم أمر بعبد الله بن حذافة أن يُخرَج من مجلسه، فأُخرج. فلما بلغ النبيَّ ذلك الخبرُ قال: ((اللهم مزِّق ملكه)).
قام كسرى منتفخا، وأمر كاتبه أن يكتب إلى باذان نائبه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي ظهر بالحجاز رجلين جَلْدين من عندك، ومُرهما أن يأتياني به. فما كان من باذان إلا أن انتدب رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله ، وحمَّلهما رسالةً له، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى دون إبطاء.
فخرج الرجلان يُغِذَّان السير إلى غايتهما شطر المدينة، حتى إذا بلغاها علما مما رأيا من تعظيم أهل المدينة للنبي وحبهم له مدى خطورة المهمة التي أقبلا من أجلها. ولما دخلا على رسول الله وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما أشاح بوجهه عنهما وقال: ((ويلكما، من أمركما بهذا؟)) قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله : ((ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي)).
ودفع الرجلان إلى النبي رسالة باذان، وقالا له: إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه، فإن أجبتنا كلَّمنا كسرى بما ينفعك ويكفّ أذاه عنك، وإن أبيت فهو مَن قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك وإهلاك قومك.
أيها الإخوة في الله، لم يغضب النبي ، بل تبسَّم عليه الصلاة والسلام، وقال لهما: ((ارجعا إلى رحالكما اليوم، وائتيا غدًا)). فلما غدوا على النبي في اليوم التالي قالا له: هل أعددتَ نفسك للمُضِيِّ معنا إلى لقاء كسرى؟ فقال لهما النبي : ((إن ربي قتل ربكما الليلة)) ، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه وقتَله، فحدَّقا في وجه النبي ، وبدت الدهشة على وجهيهما، وقالا: أتدري ما تقول؟! أنكتب بذلك لباذان؟! قال: ((نعم)) ، وقولا له: ((إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى، وإنَّك إن أسلمتَ أعطيتكَ ما تحت يديك وملَّكتكَ على قومك)).
إخوة الإسلام، خرج الرجلان من عند رسول الله ، وقدما على باذان، وأخبراه الخبر. طار عقل باذان، لكن باذان كان رجلا لبيبًا عاقلا حازما، فقال لمن حوله: إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من شهر لنعرف حقيقة محمد، قال له جلساؤه: كيف ذلك؟ قال باذان: ننتظر حتى تأتينا الرسل من فارس، فلئن كان ما قال محمّدٌ من قتل كسرى حقًا فإن محمدًا نبيّ صادق، وإن كان غير ذلك فلنا معه شأن آخر. وعلم أهل اليمن بالقصة كلها، فظل باذان ومن معه من أهل اليمن في انتظار الرسل من قبل كسرى.
انتظروا شهرًا كاملاً حتى جاءت الرسل، فقال لهم أهل اليمن: هل حقًا قُتل كسرى؟ فتعجب الرسل قائلين: من أخبركم؟! من أعلمكم؟! قال باذان: كيف تم ذلك؟! قالوا: لقد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، واستلم حكمه، فحسبوا الليلة التي قتل فيها فإذا هي الليلة التي أخبر عنها رسول الله ، ثم فض باذان رسالة شيرويه التي فيها: "أما بعد: فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا انتقامًا لقومنا، فقد استحلَّ قتلَ أشرافهم وسبيَ نسائهم وانتهابَ أموالهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن عندك". فما إن قرأ باذان كتاب شيرويه حتى طرحه جانبًا، وأعلن دخوله في الإسلام، وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن.
يا لا باذان، لقد آمن قلبه وفؤاده، وآمن معه أهل اليمن.
قلت ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، فاستغفروا ربكم إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد: فعندما دخل أهل اليمن في دين الله أفواجا أرسل لهم من أصحابه معلمين يعلمونهم الدين، كان منهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري ووبْر بن يُحَنّس وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. وقد أمر رسول الله وبر بن يُحنَّس الخزاعي الذي وجهه إلى صنعاء أن يبني لهم مسجدًا في أرض جعلها باذان وقفًا لله، وحدد الرسول أوصاف المسجد، فحدد موضعه في صنعاء بين الصخرة الململة والمنقورة، وهي موجودة إلى اليوم، وحدد علامة واضحة هي جبل ضين الذي يبعد عن صنعاء 30 كلم ليكون قبلة للمسجد.
ولما كان الرسول المعصوم من الخطأ هو الذي حدد الصفات التي يكون عليها المسجد من حيث دقة الموقع وزاوية الميل نحو الكعبة وجِهة المسجد بالنسبة للكعبة فلا شك أن هذا التوجيه سيكون دقيقًا، لذلك كان أهل اليمن ولا يزالون يعتبرونه أفضل مساجد اليمن؛ لأنه بني طبقا لتوجيهات الرسول ووصفه.
وجاءت التقنية الحديثة فاستعملوا البرنامج الذي يعرفه المهتمون بالحاسب الآلي (جوجل إيرث) فوجدوا أن من يجعل خطًا من قبلة المسجد إلى جبل ضين يجده يتوازى مع الكعبة تماما دون أي انحراف. فسبحان الله الذي علم نبيه ما عجزت عنه البشرية إلى عصور متأخرة.
عباد الله، إن لنا في قصة باذان دروسًا كثيرة نستقي بعضها ونترك بعضها لكل مسلم يستخلصها لنفسه؛ فإن الذي قدر أن ينتهي ملك كسرى قادر على أن يدمر ملك إمبراطوريات قائمة على الفساد والإفساد في الأرض، وإن الذي قتل كسرى وهو آمن في دولته لقادر على أن يهلك كل جبار أشر.
أيها المؤمنون، ولنا معجزات النبي تصديق يرفع إيماننا ويزيدنا يقينًا فيما نحمله من عقيدة في الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام. وإن الذي كتب أن يؤمن الوالي الفارسي باليمن لقادر على أن يكتب الإيمان والهداية لقادة غربيين قد يكون على أيديهم إسلام قومهم. والإيمان إذا تغلغل في النفوس يرفعها بعد أن كانت مهينة، ويجعلها قائدة بعد أن كانت منقادة، ويجعل لها الرفعة والسيادة بعد الذلة والهوان.
أيها المؤمنون، إننا في زمن إن لم ننتبه فيه لأنفسنا صرنا لقمة سائغة في أفواه الغرب المارد، فعلينا أن نعتز بما نحمله من قيم ومبادئ، ولنقل للعالمين: إننا نحن المؤمنون بربنا السعداء بديننا الفرحون بفضل الله علينا.
لقد أصدر الرئيس الفرنسي مرسوما يمنع افتتاح أي فرع لمطاعم "مكدونالدز" الأمريكية في برج إيفل الفرنسي الشهير، وذلك لأن هذه المطاعم تمثل عادات وثقافات أمريكية تناقض العادات والثقافات الأوربية، فأين نحن من عادات غربية وتقاليد وأعياد وموضات يفتعلها الغرب فيصفق لها بعض أبنائنا السذج الذين لا يعرفون حقيقتها؟! فلنعتز بقيمنا، ولنرفع رؤوسنا عاليًا، فإنا نحن الأعزاء إن تمسكنا بديننا.
إخواني، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ردهم إليك ردًا جميلاً، اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم وفقنا لكل خير واجعلنا من أهل الخير واجعل عواقبنا إلى خير...
(1/5725)
واقع مشكلة الغلاء العالمي وعلاجه
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
موسى بن محمد كمارا
بماكو
12/4/1429
جامع علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف غلاء الأسعار في مالي. 2- محاربة الإسلام للفقر من ناحية الفكر والتصور. 3- محاربة الإسلام للفقر من ناحية السلوك والتصرف.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، أعلنت منظمة ( fida ) أن الغلاء للمواد الغذائية الأساسية بلغت 65 بالمائة، وأن أكثر من 33 دولة في العالم مهدد بويلاته، وقد بالغت منظمة ( fmi ) في المشكلة وقالت: إنها قد تثير الحرب في بعض الدول؛ مما أدى إلى إقالة حكومة دولة (هايتي)، لذا طالبت منظمة ( fao ) القيادات مواجهته بحكمة، فالواقع أننا في بلدنا مالي نستهلك شهريا 55 ألف طن رز, والدول المصدرة للرز قد أوقفوا هذه السياسة، فالهند مثلا منعت التصدير, والصين علقته بضرائب غالية، لذا وقّعت حكومتنا مع تجارها إيراد 127 ألف طن رز من الآن حتى سبتمبر القادم، مما يمكّن تجار التقسيط من البيع بـ310 فرنك لكلغ الواحد، لكن سعره الآن في سوق (مانيامبوكو) لا زال بـ350 فرنك، ولمواجهة المشكلة مستقبلا لا بد من الاهتمام بزيادة الحصيلة الزراعية، بتوفير كافة الإمكانات للفلاحين، لكن الواقع أن كيس 50 كلغ فوسفات قد بلغ سعره 22500 فرنك، بزيادة ضعف سعره على العام الماضي، وعند الفلاحين مبدأ (كلما انعدمت الفوسفات كان الحصاد سلبيا)، ولكن الحكومة تتوقع توازنا في الأسعار ابتداء من نهاية شهر الجاري.
وعليه فإن ديننا الإسلام حارب الفقر والغلاء من جهتين: في مجال الفكر والتصور، وفي مجال السلوك والتصرف.
ففي مجال الفكر والتصور يقول العلماء: "التصرف ناتج عن التصور"؛ لذا ميز الله المسلم بالتصور الصحيح لهذه القضية، فاعتبرها مصيبة يجب التعوذ منها ومحاربتها، وحث على طلب الغنى، والدعاء به للنفس وللآخرين، كما فعله لعبد الرحمن بن عوف وعروة بن جعد ، لأن المال ركن هام لإقامة الدين والدنيا، وفي الحديث القدسي: ((يقول تعالى: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة)) صحيح الجامع، ويقول رسول الله : ((ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر)) أخرجه أحمد وابن ماجه، ورغَّب في الإنفاق والصدقة وهي لا تتحقق غالبا إلا في ظل الغني فقال : ((اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى, واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة)) رواه البخاري.
أما في مجال السلوك والتصرف فهو المجال الذي يستوجبه التصور بحلول عملية وواقعية، ومن ذلك العمل والكسب الحلال، لقوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ، وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وجعله دليلاً على صدق التوكل على الله والثقة به، يقول الرسول : ((لو أنكم تَوَكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا)) رواه الترمذي، فحث على التجارة، فالرسول اشتغل بها، وتاجر مع عمه ثم مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، واشتغل صحابته الكرام بذلك ومنهم أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وغيرهم رضي الله عنهم، كما حث على الزراعة، يقول رسول الله : ((ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة)) رواه البخاري، كما حث على الصناعة، يقول الرسول : ((ما أكل أحدٌ طعامًا قَطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده)) رواه البخاري، ولم يعترف الإسلام بالملكية التي لا يكون مصدرها العمل والطرق المشروعة، فحرّم أعمال الغصب والرشوة والسرقة والنصب والمقامرة والربا وما ينشأ عنها من مكاسب مالية، واتخذ إزاء ذلك عقوبات رادعة، وفي ذلك إلزام لأفراد المجتمع بالبحث عن الكسب المشروع، ونهى عن التسوّل والاحتيال على الآخرين، روى الشيخان من حديث ابن عمر يقول رسول الله : ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم)) رواه مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والحديث، ونفعنا بهما، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، أوصيكم وإياي بتقوى الله في السر والعلن، وفي القول والعمل.
واعلموا أن مسؤولية الولاة تتجلى في تهيئة سبل العمل للعاطلين وتزودهم بأدواته وإعدادهم مهنيًا، وعلى أصحاب العمل حفظ حقوق العمال، وعلى الولاة وأصحاب العمل كفالة المجتمع، أقرباء وأرامل ويتامى ومعوقين وفقراء بالزكاة والصدقات بطريقة تغنيهم عن المسألة، قال : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية...)) الحديث رواه الترمذي.
(1/5726)
حتى لا ننسى الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد الله بن صالح المؤدب البدروشي
شنني قابس
7/8/1429
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الضيوف في هذه الحياة الدنيا. 2- آخر ضيف. 3- حب السلف للقاء الله تعالى. 4- الاستعداد للموت. 5- حال الإنسان مع الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة في الإيمان والعقيدة، الإنسان على امتداد حياته يستقبل ضيوفا، يرغب في بعضهم ولا يرغب في آخرين، يفرح بزيارة بعضهم ويحزن لزيارة آخرين، رغم أن الضيف زيارته محددة ومدة بقائه وإن طالت قصيرة مع عمر الإنسان، فهو ضيف زائر، لكن من الناس من يحسن استقبال الجميع المرغوب فيه وغير المرغوب فيه، ومن الناس من يحسن التعامل مع من يحب ولا يستطيع ذلك مع ما يكره، فمن هؤلاء الضيوف؟ ومن سنختاره منهم لنتحدث عنه في لقائنا اليوم.
تعالوا نستعرض بعضهم ثم نتولى الاختيار:
الضيف الأول: النعمة، ينعم الله على الإنسان بشتى النعم، يبتليه ويمتحنه أيشكر أم يكفر؟ أينسى أم يذكر؟ يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء: 83].
الضيف الآخر: المصيبة يصيب الله بها الإنسان، يبتليه أيصبر أو يضجر؟ أيتذلل للمخلوق أم يحتمي بالخالق؟ وربنا وخالقنا يقول: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 155، 156].
الضيف الآخر: الأيام، هذه الدقائق والساعات التي نعيشها ما هي إلا ضيوف تحل علينا ثم تنطلق، وفي الأثر: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود، وما أنت يا ابن آدم إلا أيام معدودات، إذا ذهب يوم ذهب بعضك.
أربعة وعشرون ساعة، كل ساعة هي خزانة فارغة، املأها ـ أيها الإنسان ـ بما تريد، املأها ذكرا وقرآنا وعملا مثمرا وإحسانا، أو املأها ظلما ومعصية وشرورا، فإذا انقضت الساعة أغلقت إلى قيام الساعة، وعند قيام الساعة يقال لك: أيها الإنسان، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14].
الضيف الآخر: رمضان الذي بدأ عطر نسائمه يحل علينا، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185]. هذا الشهر الكريم هو كذلك أيام معدودات، ثم ينطلق، فمن الناس من يفوز فيه بالرضوان وبالعتق من النيران، ومن الناس من يفرط فيه ويخرج منه بالخيبة والخسران.
وتطول قائمة الضيوف لنصل إلى الضيف الأخير، ذلك الضيف الذي لا يليه ضيف، والزائر الذي ليس بعده زائر، لنقف عنده قليلا، فمن يكون هذا الضيف؟ ألا إنه الموت، إنه القدر الذي قضاه الله على كافة خلقه، لا فرق في ذلك بين كبير أو صغير، أو بين غني أو فقير، أو بين عظيم أو حقير، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78].
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار؟
الدار جنة الخلد إن عملت بما يرضي الإله وإن قصّرت فالنار
لكننا جميعا نكره الموت بقدر ما نحب الحياة، فلم هذا الكره؟ لماذا نكره الموت مع أن النبي خير بين البقاء في الدنيا وبين الموت فقال: ((بل الرفيق الأعلى)) ، وعلى دربه سار صحابته، كانوا يرحبون بالموت، ويحسنون استقباله، فهذا بلال بن رباح يأتيه الموت فتبكي زوجته وتقول: وا كرباه! فيقول لها: لا، لا تقولي: وا كرباه، بل قولي: وا طرباه، غدا ألقى الأحبة: محمدا وحزبه. وهذا أبو هريرة يأتيه الموت فيقول: مرحبا بالموت حبيبا، اللهم إني أحب لقاءك فأحبّ لقائي. وهذا الشيخ عبد الله بن المبارك يفتح عينيه عند الموت ويضحك ويقول: لمثل هذا فليعمل العاملون.
ترى ما الفرق بيننا وبينهم؟! أبو حازم الأعرج واسمه سلمة بن دينار، شيخ المدينة النبوية، قدم أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك إلى المدينة في طريقه إلى الحج، فبعث إليه ليسمع من حكمته ومواعظه ما يملأ القلوب إيمانا، قال: يا أبا حازم، لماذا نكره الموت؟! قال أبو حازم: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمار إلى الدمار.
هذا الموت ماذا أعددنا له؟ أي عبادة خالصة أديناها؟ أي تعامل حسن قمنا به أم أننا نسير مع الأيام على خطى شهواتنا وملذاتنا؟! نرتضي النوم والراحة، ونحب اللهو والترفيه، وما حسبنا حسابا للطارق، وما قدرنا حق المفاجئ، كأن الموت الذي فاجأ غيرنا لا يأتينا، كأننا كتبنا مع الحياة عهد الخلود.
إلى متى هذا التراخي والتمادي؟! وحادي الموت بالأرواح حادي
فلو كنا جمادا لاتّعظنا ولكنّا أشد من الجماد
تنادينا الْمنية كل وقت وما نصغي إلى قول المنادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاص ولكن الذنوب إلَى ازدياد
ماذا أعددت يا ابن آدم؟ ليس مهِمّا أن تموت صغيرا أو كبيرا، لكن الأهم كيف تموت؟ تموت طائعا؟ تموت تقيا؟ تموت وربّ الكون عنك راض؟ ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه سمعه أصحابه يدعو الله في كل صلاة: اللهم أمتني ميتة حسنة، سألوه عن ذلك فقال: الميتة الحسنة أن يتوفاني ربي وأنا ساجد. بعد خمسين عاما ظل ثابت يردّد ذلك الدعاء ويكرر ذلك الرجاء حتى مرض مرضه الأخير، سمع النداء بالمسجد النبوي لصلاة المغرب، فنادى أبناءه فأجلسوه، قال لهم: احملوني إلى المسجد، قالوا: يا أبانا إنك مريض والله جل وعلا يقول: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ [النور: 61]، قال لهم: أوَأسمع حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح ولا أجيب؟! احملوني، فحملوه حتى أجلسوه في الصف، وصلى المغرب مع الجماعة، حتى كانت آخر سجدة سجدها مع الساجدين، رفعوا من سجودهم إلا ثابت بقي ساجدا، حركوه بعد الصلاة فعلموا أن الله قد حقق رجاءه، مات ساجدا. فماذا أعددت ـ يا ابن آدم ـ لتكون من أهل البشرى، لتكون من أهل البهجة؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا في الحياة الدنيا؛ فعلوا الخير، عملوا الصالحات، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30-32]؛ لأن الموت ليس النهاية، وليس القبر هو المثوى الأخير كما نقرأ في الصحف ونسمع في الإذاعات: شيع فلان إلى مثواه الأخير، ولو كان القبر هو المثوى الأخير لكنا ارتحنا من عناء كبير. بعض الناس يقولون: "اللي مات ارتاح"، وكيف يرتاح والزاد قليل والسفر طويل؟!
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شي
وحال الإنسان مع الموت حال عجيب، فهو لا يدرك أنه ضعيف إلا عند الموت، ولا يدرك أنه ظلم الناس وظلم نفسه إلا عند الموت، ولا يدرك أنه ضيع الأوقات وفرط في صالح الأعمال إلا عند الموت. رب العزة جل جلاله أخبرنا عن حال بعض الناس عند الموت، فقال: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون: 99، 100]، يتمنى نفسا يقول فيه: لا إله إلا الله بصدق وإخلاص، يتمنى لحظة يكلم فيها أخاه الذي عاش عمرا لا يكلمه من أجل نخلة أو من أجل جزء من بيت قديم، قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ، يظل الإنسان في غفلته، لاهثا وراء الحياة الدنيا، مطيعا لهواه، سائرا وراء شهواته، يخطط المسكين لعام قادم ولأعوام، يضرب أخماسا في أسداس، ولا يدري كم بقي له من نفس أو من ساعات، فما أجهل الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا، وحتى يزول الجهل وحتى يقدر الإنسان العواقب وحتى يكون الإنسان مستعدا لتلك اللحظة الحاسمة ظل القرآن يذكرنا بالمآل ويذكرنا بالنهاية؛ حتى لا نغتر، ولكي لا ننسى، ومن أجل أن نخشى الله فلا نظلم ولا نتجبر ولا نطغى، ظل القرآن يردد على مسامعنا: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
نفعني الله وإياكم بأسرار كتابه، ووفقنا للعمل بما فيه والتأدب بآدابه، وأجارني وإياكم من خزيه وأليم عقابه، وحشرنا في زمرة نبيه الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولوالدي ووالديكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5727)
حق الجار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
خالد بن سلمان الضوّي
سكاكا
جامع الثغيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إتمام الإسلام لمكارم الأخلاق. 2- عناية العرب في جاهليتهم بحسن الجوار. 3- حث الإسلام على حسن الجوار. 4- من صور الإحسان للجار. 5- التحذير من أذية الجار. 6- الموقف من جار السوء. 7- وصية مأثورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَ ضلالةٍ في النار.
عباد الله، يقول الله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ، فالإسلامُ جاء بكلِّ ما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ، وهذا من عَظَمَةِ هذا الدينِ وكمالِه وهيمنتِه على الأديانِ كلِّها.
ومن ذلك الكمالِ قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاقَ)) ، فالأخلاقُ الكريمةُ التي كانتْ عند القبائلِ والشعوبِ جاءتِ الشريعةُ الإسلاميةُ داعيةً إليها ومكملةً ما نقصَ منها بما يضمن صلاحَ البلادِ والعبادِ.
وأحد تلكَ الأخلاقِ الكريمةِ التي كانتْ في الجاهليةِ قبلَ الإسلامِ حسنُ الجوار، فلقد كان العربُ في جاهليتِهم يحمون الذمارَ ويتفاخرون بحسنِ الجوارِ، يقول طفيلٌ الغنوي في مدح جيرانه:
جزى الله عنا جعفرًا حيث أشرفت بنا نعلُنا في الشارفين فزلتِ
همُ خلطونا بالنفوسِ وألْجؤوا إلَى غرفات أدفئت وأظلتِ
أبوا أن يملونا ولو أنَّ أمَّنَا تلاقِي الذي يلقون منَّا لَملّتِ
وقال الآخرُ يتفاخرُ بحُسْنِ جوارِه:
ما ضرّ جارًا لِي أجاوره أن لا يكونَ لبيته سترُ
أعمى إذا ما جارَتي بَرَزَت حتى يواري جَارتي الخِدرُ
ويقول الآخر:
تعيرنا أنا قليلٌ عديدُنا فقلت لها: إن الكرامَ قليلُ
وما ضرنا أنا قليلٌ وجارُنا عزيز وجارُ الأكثرين ذليلُ
هكذا يتفاخرون بحماية الجار وحسن الجوار، ثم بعث الله نبيَّنا محمدًا ليُتَمِّمَ هذه المكرُمةَ ويرعاها حقَّ رعايتِها، فجاءت النصوصُ الشرعيةُ مؤكدةً على حق الجارِ، محرضةً على الإحسانِ إليه، محذرةً من التعدي عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحْسِنْ إلى جارِه)).
عبادَ الله، ومن شدةِ العنايةِ بالإحسانِ إلى الجارِ أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبيَّ فيوصِيهِ كثيرًا بالجارِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما زالَ جبريلُ يوصيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيورِّثُه)) أي: حتى ظننتُ أنه سيجعلُ الجارَ وارثًا لمالِ جارِه إذا ماتَ من كثرة ما يوصي به.
والجارُ هو من كان مجاورًا لدارك ولو كانت بينك وبينه أربعون دارًا، رُوي عن النبيِّ أنه قال: ((أربعونَ دارًا جارٌ)). قال الإمامُ الزُّهريُّ رحمه الله: "أربعونَ دارًا بين يديكَ، وأربعون دارًا من خلفِك، وعن يمينِك، وعن شمالِك". هذه هي حدودُ الجار الذي أوصى به جبريلُ النبيَ ، ثم أوصى به النبيُّ أمَّتَه وحرَّمَ أذاه وضرَرَه.
ومن صور الإحسانِ إلى الجارِ الدعاءُ والاستغفارُ له، روي أن النبي سمع رجلاً يقولُ: اللهم اغفِرْ لي ولفلان، قال: ((من فلان؟)) قال: جارٌ لي أمرَني أن أستغفِر له، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قد غُفِر لكَ وَلَه)).
ومن حقوقِ الجارِ على جارِه أن تعرِضَ عليه العقارَ أولاً إذا أردتَ بيعَه، لما في الحديثِ الشريف: ((إذا أرادَ أحدُكم أن يبيعَ عقارَه فليعرِضهُ على جارِه)). فهذه صور من صور الإحسان إلى الجار حثنا عليها هذا النبي الكريم وذاك الدين الحنيف.
ومن الإحسانِ إلى الجارِ تقديمُ الهدايا إليهِ في المناسباتِ، فإنَّ الهديةَ تجلِبُ المودةَ وتزيلُ العداوةَ، وذلك بحسبِ الاستطاعة، ولو أن تفعلَ ما أوصى بهِ النبيُّ أبا ذرٍ حين قالَ: ((يا أبا ذرٍ، إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً فأكثِرْ ماءَها، وتعاهَد جيرانَك)) ، ويقولُ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يا نساءَ المسلماتِ، لا تَحقِرَنَّ جارةٌ لجارتِها ولو فِرْسِنَ شاةٍ)) ، كلُّ ذلك تنبيهًا من النبي على الاهتمامِ بالإحسانِ إلى الجارِ وعظمِ حقِه، حتى رُوي عن النبي أنه قال: ((وَمَنْ قُتِلَ دون جارِه فَهُو شهيدٌ)).
يُروى أنَّ رَجُلا كان جَارًا لأبي دُلَفٍ ببغداد، فأدركَتْهُ حاجةٌ وَرَكِبَهُ دينٌ فادحٌ حتى احتاجَ إلى بيعِ دارِه وطلبَ ثمنًا لها ألفَ دينارٍ، فقالوا له: إنَّ دارَك لا تساوي أكثرَ من خمسِمائة دينارٍ، فقال: نعم، ولكنّني أبيعُها بخمسِمائة، وأبيعُ حُسنَ جوارِ أبي دُلَف بخمسِمائةٍ أخرى، فبلغ قولُه أبا دُلَف فأمَرَ بقضاءِ دينِه ووصَلَهُ وواسَاه. فأينَ هذا من قِصةِ الرجلِ الآخرِ الذي باعَ داره بأقلَّ من ثمنِها، فسُئلَ عن ذلك فقال:
يلوموننِي أنْ بِعْتُ بالرُخْصِ منْزِلِي ولَم يعلمُوا جارًا هناكَ يُنَغِّصُ
فقلتُ لَهم: كُفُّوا الْملامَ فإنَّما بجيرانِها تغلُو الديارُ وترخُصُ
وقد حذر النبي أشدَّ التحذيرِ من أذى الجار حتى قال: ((واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن)) ، قالوا: من يا رسولَ الله؟ قال: ((من لا يأمَنُ جارُه بوائِقه)) ، قالوا: وما بوائِقُه؟ قال: ((شرُّه)). فهذا وعيدٌ شديدٌ وقسمٌ أكيدٌ من الصادقِ المصدوقِ على نفيِ إيمانِ من لا يطمِئِنُّ جارُه إليه، ولا يأمَنُ أن يخونَه سواءً في عرضِه أو في مالِه، ولو كان شيئًا قليلاً، وذكر بعضُ أهلِ العلمِ أن هذا الحديثَ ينبئُ عن تعظيمِ حقِ الجارِ، وأنَّ إضرارَه من كبائرِ الذنوب.
عبادَ الله، قال رسولُ الله لأصحابه يومًا: ((ما تقولون في الزنا؟)) قالوا: حرامٌ حرَّمُه اللهُ ورسولُه، فهو حرامٌ إلى يومِ القيامةِ، قال: ((لأنْ يزنيَ الرجلُ بعشرِ نِسوةٍ أيسرُ عليهِ من أن يزنيَ بامرأةِ جارِه)) ، ثم قال: ((ما تقولون في السرقة؟)) قالوا: حرامٌ حرَّمَها الله ورسوله، فهي حرامٌ إلى يومِ القيامة، قال: ((لأن يسرقَ الرجلُ من عَشرةِ أبياتٍ أيسرُ عليه من أن يسرِقَ من بيتِ جارِه)).
وقد جاء رجلٌ إلى النبيِّ يشكو جارَه، فقال: ((اذهبْ فاصبِر)) ، فأتاه مرتين أو ثلاثا، فقال: ((اذهبْ فاطرحْ متاعَك في الطريقِ)) ، فطرحَ متاعَه في الطريقَ، فجعلَ الناسُ يسألونه فيقول: لي جارٌ يؤذيني، فجعلَ الناسُ يقولونَ: اللهم العنْهُ، اللهم أَخْزِه، فبلغ ذلك الفعلُ الجارَ فأتاه فقال: ارجعْ إلى منزلِك، فو اللهِ لا أوذِيكَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيه منِ الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على النبي الأمين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وأحسنوا إلى جيرانِكم تفوزوا برضا ربكم، واعلموا أن الجارَ له حقٌ عظيمٌ، لا يقوم به إلا من وَفقهُ الله، واحذروا من أذى الجارِ فإنه موجب للنار، فقد سأل الصحابةُ النبيَّ ذاتَ يومٍ فقالوا: يا رسولَ اللهِ، فلانةُ تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ وتؤذي جيرانَها، قال: ((هي في النار)) ، ثم قالوا: يا رسولَ الله، فلانةُ تصلي المكتوباتِ وتصدَّقُ بالأثوارِ من الإقطِ ولا تؤذي جيرانَها، قال: ((هي في الجنة)). وهذا حديث صحيح صححه الألباني وغيره.
واسألوا الله ـ عبادَ الله ـ الجارَ الصالح، وتعوذوا بالله من جارِ السوء، فقد كان من دعاءِ النبي : ((اللهم إني أعوذُ بك من جارِ السوءِ في دارِ المُقامةِ فإن جارَ الباديةِ يتحولُ)) ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((تعوذوا من ثلاثِ الفواقرِ من مجاورة جارِ السوءِ، إن رأى خيرًا دفنه، وإن رأى شرًا أذاعَهُ)) الحديثَ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من سعادةِ المرءِ الجارُ الصالحُ والمركَبُ الهنيءُ والمسكنُ الواسعُ)).
ومن ابتلي بجارِ سوءٍ فعليه أن يصبرِ عليه، ويناصِحَه بقدرِ الإمكانِ، ويحسنَ إليه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يحبُ الرجلَ له جارُ السوءِ يؤذيه فيصبرُ على أذاه)).
عبادَ الله، نختم بهذه الوصية الشريفة المروية عن النبي حيث قال: ((من أغلقَ بابَه دونَ جارِه مخافةً على أهلِه ومالِه فليس ذلك بمؤمنٍ، وليس بمؤمنٍ من لم يأمنْ جارُه بوائِقَه، أتدري ما حقُ الجارِ؟ إذا استعانَك أعنته، وإذا استقرَضَك أقرضته، وإذا افتقرَ عُدت عليه، وإذا مَرِضَ عُدته، وإذا أصابَه خيرٌ هنأتَه، وإذا أصابَتْهُ مصيبةٌ عزيْتَه، وإذا ماتَ اتّبَعتَ جِنازته، ولا تستطِلْ عليه بالبناءِ تحجبُ عنه الريحَ إلا بإذنِه، ولا تؤذِه بقُتَارِ قِدرِك إلا أن تغرِفَ له منها، وإن اشتريتِ فاكهةً فأهْدِ له، فإن لم تفعلْ فأدخِلْها سِرًا ولا يخرِجْها ولدُك ليغيظَ بها ولدَه، أتدرون ما حق الجار؟ والذي نفسي بيدِه، ما يبلغُ حقُ الجارِ إلا قليلٌ ممن رَحِمَه الله)) ، فما زال يوصِيهم بالجارِ حتى ظَنُّوا أنه سيورِثَّه، ثم قال رسول الله : ((الجيرانُ ثلاثةٌ، فمنهم من له ثلاثةُ حقوقٍ، ومنهم من له حَقَّانِ، ومنهم من له حقٌ، فأما الذي له ثلاثةُ حقوقٍ فالجارُ المسلمُ القريبُ له حقُ الجوارِ وحقُ الإسلامِ وحقُ القرابةِ، وأما الذي له حَقَّانِ فالجارُ المسلمُ له حقُ الجوارِ وحقُ الإسلامِ، وأما الذي له حَقٌ واحدٌ فالجارُ الكافرُ له حقُ الجوارِ)) الحديث.
عبادَ الله، وصلوا وسلموا عن من أمرتم بالصلاة والسلام، حيث قال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5728)
الكذب
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
خالد بن سلمان الضوّي
سكاكا
جامع الثغيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاخرُ العرب في جاهليتها بالصدق. 2- التحذير من الكذب. 3- من صور الكذب. 4- بيان خطورة الإشاعة وعقوبتها. 5- من قصص السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَ ضلالةٍ في النار.
عبادَ الله، إن من مكارمِ الأخلاقِ التي جاءتِ الشريعة بإكمالها مكرُمةَ الصدقِ، حيثُ كانتِ العربُ في جاهليتها تتفاخرُ بالصدقِ وتُعَظّم الصادقين، وتنفِر من الكَذِب وتهجو الكاذبين، فهذا أبو سفيان بنُ حرب قبل إسلامه يذهبُ في رهطٍ من قريشٍ في تجارةِ إلى الشامِ، فيسمعُ بهم هرقلُ ملكُ الروم، فيبعثُ إليهم ليسأَلَهم عن هذا النبيِ الجديدِ صلى الله وسلم على نبينِا محمد، فأتوه فسألَهم فَصَدَقُوه، قال أبو سفيان وهو يومئذٍ مشركُ: (وَاللَّهِ، لَوْلا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ). هكذا كان الكفارُ في كفرِهم وأهلُ الجاهليةِ في جاهليتِهم يترفَّعُون عن الكذبِ ويستحيونَ من أن وينسب إليهم.
كما كانوا يعظمون الصدقَ والصادقينَ حتى لقبوا نبينا قبلَ بعثته بالصادقِ الأمينِ، وصدقُوا فهو عليه الصلاة والسلام حاملُ لواءِ الصدقِ في الجاهليةِ والإسلامِ، وما زادَه الإسلامُ إلا تمسكًا بالصدقِ وعملاً به ودعوةً إليه وصبرًا على الأذى فيه، تقول عائشة رضي الله عنها: ما كان خلقٌ أبغضَ إلى رسول الله من الكذب، ولقد كان الرجلُ يحدِّث عندَ النبي بالكِذْبةِ فما يزالُ في نفسِه حتى يعلمَ أنه قد أحدثَ منها توبة. وقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالصدقِ، فإن الصدقَ يهدي إلى البرِ، وإنَّ البرَ يهدي إلى الجنةِ، وما يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يكتبَ عندَ اللهِ صِدِّيقًا، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذبَّ يهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النارِ، وما يزالُ الرجلُ يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يكتبَ عندَ الله كذابًا)).
وإن الإنسان العاقل ليغضب أن يقال له بين الناس: يا كاذب، فكيف يرضى أن يكتب عند الله كذابا؟! قال الأحنفُ بنُ قيسٍ رحمه الله: "اثنان لا يجتمعان أبدًا: الكذبُ والمروءةُ".
عبادَ الله، لقد جاء عن النبي أحاديثُ كثيرةٌ تحذرُ من هذا الخلقِ الرديءِ، وتُبينُ أنَّه من كبائرِ الذنوبِ، وتُبَيِّنُ خطرَه وضررَه ومصيرَ صاحبِه وعقوبتَه في الدنيا والآخرةِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا كَذَبَ العبدُ تباعدَ عنه المَلَكُ ميلاً من نَتَنِ ما جاءَ به)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أربعٌ من كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا، أو كانت فيه خَصلةٌ من أربعةٍ كانت فيه خَصلةٌ من النفاقِ حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلَفَ، وإذا عَاهَد غَدَر، وإذا خَاصَم فَجَر)).
ومن أشد الكذبِ الكذبُ على رسولِ الله ، فهو من الذنوبِ الموجبةِ لدخولِ النارِ، أجارنا اللهُ من النار، وذلك بأنْ يقولَ: قالَ رسولُ الله وهو كاذبٌ، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ كَذِبًا عَليَّ ليسَ كَكَذِبٍ على أحدٍ، فمن كَذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأْ مَقْعَدَه من النارِ)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الذي يَكذِبُ عليَّ يُبنى له بيتٌ في النارِ)).
والكذبُ ـ عبادَ الله ـ له صورٌ متفرقةٌ وأوديةٌ متشعِبة، يجمعها وصفٌ واحدٌ هو: الإخبارُ بخلافِ الحقيقةِ عَمْدًا. والكذب إذا تَضَمَّنَ يمينًا وأفضى إلى أكلِ مالِ مسلمٍ بالباطلِ كان أعظمَ جُرمًا وأشدَّ عقوبة، فعن عبدِ الله بنِ عمروِ بنِ العاصِ رضي الله عنهما أن النبي عَدَّ الكبائرَ وفيها اليمينَ الغموسَ، قيل: وما اليمينُ الغموسُ يا رسول الله؟ قال: ((التي يَقتطِعُ بها مال امرئٍ مسلمٍ هو فيها كاذبٌ)) ، وقال : ((من اقتطعَ حقَ امرئٍ مسلمٍ بيمينِه فقد أوجبَ اللهُ له النارَ وحرَّم عليهِ الجنةَ)) ، فقال رجلٌ: وإن كان شيئًا يسرًا؟ قال: ((وإنْ كانَ قَضيبًا من أراكٍ)).
ومن أنواع الكذبِ المنتشرةِ بين الناسِ الكذبُ لإضحاكِ الجلساءِ، فعن مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةََ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ويلٌ للذي يُحدِثُ بالحديثِ ليضحِكَ به القومَ فيكذِبُ، ويلٌ له، ويل له)) رواه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن". فويلٌ لمن أغضبَ الخالقَ ليُفرِحَ ويضحِكَ مخلوقًا مثلَه لا يملِك لنفسِه ضرًا ولا نفعًا، ولا يملِك مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا. ومعلومٌ أن النبيَّ يمازح أصحابه دون إكثارٍ ولا يقول إلا حقًا، والصحابةُ والتابعونَ ومن بعدَهم يمزَحُون ويضحَكون ولا يقولون إلا صِدقًا، قال ابنُ سيرين رحمه الله: "الكلامُ أوسعُ من أنْ يكذِب ظَريفٌ"، يعني: أنَّ أبوابَ الكلامِ المباحِ واسِعة مُشرَعة أمامَ من أرادَ المِزاح، فلماذا يلجأُ للكذبِ؟! وفي الحديثِ: ((إن في معاريضِ الكلامِ مندوحةً عن الكذبِ)).
ومن هذا النوعِ من الكذبِ ما يُعرَفُ عندَ الغَرْبِ بِـ"كِذْبَةِ أبريل"، إلا أنَّ هذهِ عَادةٌ ذاتُ جُذورٍ دينيةٍ وثنيةٍ، وللأسفِ أنَّه يُقلِدُهم فيها بعضُ الجهلةِ في وسائلِ الإعلامِ ومواقعِ الإنترنت بحجة المزاح، وهم بذلك يحيونَ سُنَنَ الكافرينَ، ويخالفون أخلاقَ المؤمنينَ وسنةَ خاتمِ المرسلينَ عليه الصلاة والسلام، مع ما يُصاحِبُ تلك البِدعةَ من الاعتدادِ بتقويمِهم ونشرِ ثقافتهم وأخلاقِهم الرديئةِ.
فينبغي الحذرُ والتحذيرُ من عاداتِ الكفارِ، خصوصًا إذا كانت ذاتَ جذورٍ عَقَديةٍ، وعدمُ المشاركةِ بشيءٍ من ذلك، بل والإنكارُ على من فعلَ ذلك، وتوضيحُ الحقِ له. وإنْ تعجبْ فعجبٌ فعل بعضُ الناسِ في هذه الكِذبةِ عندما يحبِكُونها، حيثُ يقولونَ: هذه كِذبةُ أبريل، وكأنهم يستحلونَ الكذبَ في هذا الشهرِ والعياذُ باللهِ من ذلك، ومن يعتقِدُ حِلَّ الكَذِبِ فهو على خطرٍ عظيمٍ.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنه لا يوجدُ كَذِبٌ أبيضٌ ولا أسود، ولا يَحِل شيءٌ من الكذبِ إلا في أحوالٍ ثلاثٍ: كَذِبُ الرجلِ على امرأتِه ليرضيَها، والكَذِبُ في الَحربِ، والكَذِبُ ليصلحَ بين الناسِ، كما أخبرَ بذلك رسولُنا.
ومن أنواعِ الكذبِ الكذبُ في الرؤيا، قال : ((إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ)). قَالَ اِبْن بَطَّال: "الْفِرْيَةُ هي الْكِذْبَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يُتَعَجَّب مِنْهَا"، ومعنى الحديثِ أنَّ من أعظمِ أنواعِ الكذبِ على اللهِ أن يقولَ الإنسانُ: رأيتُ في منامي كذا وكذا وهو في الحقيقةِ كاذب، فالرؤيا الصالحةُ جزء من ستةٍ وأربعينَ جُزءًا من النبوةِ، وجزاءُ من يكذِب في إحدى أجزاءِ النبوةِ ما قاله رسولُ الله : ((مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ)) رواه البخاري، وهذا يكونُ عقابًا وتعذيبًا له يومَ القيامةِ إذ لا يستطيعُ أحد أن يعقِدَ بين شعيرتينِ كما يعقِد بين حبلين.
ومن زمرةِ الكاذبينَ أيضًا من نقلَ حديثًا وهو يعلمُ أنه كَذِب، قال عليه الصلاة والسلام: ((من حَدَّثَ حديثًا وهُو يرى أنَّه كَذِب فهو أحدُ الكاذبينَ)) ، وهذا يدلُّ على وجوبِ التثبتِ، وعدمِ نشرِ ما يغلِبُ على الظنِ كَذِبُه، إما لبُعدِه وغرابتِه، أو لصدورِه من معروفٍ بالكذبِ، أو لكونه في مسلمٍ يبعُدُ أن يقعَ منه ذلكَ، وكذلك الثرثارُ الذي يحدِّثُ بكل ما سمعَ هو من زُمرةِ الكاذبينَ أيضًا، قال رسولُ الله : (( كفى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمِع)).
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أن الدابَّة التي يسيرُ بها الكَذِبُ والمَطِية التي ينتشرُ بها هي كلِمَة: "زعموا" أو "قالوا" أو "سمعنا" أو "قرأنا" أو نحوِ ذلك من العباراتِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((بئس مَطِيَّةُ الكَذِبِ زعموا)) ، قال عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ الشيطانَ ليتمثلُ في صورةِ الرجلِ، فيأتي القومَ فيحدِّثُهم بالحديثِ من الكَذِبِ، فيتفرقون، فيقولُ الرجلُ منهم: سمعتُ رجلاً أعرفُ وجهَهُ ولا أدري ما اسمُه يحدِّث). قال الله تبارك وتعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً.
وإذا كان في المجتمعِ من ينقُل الأحاديثَ وهو يعلمُ كَذِبها ومن يحدِّثُ بكلِّ ما سمعَ ومن يمتطي الكذبُ لسانَه بعنانِ "زَعموا" أو "قالوا" أو "سمعنا" أو "قرأنا"، إذا كانَ هؤلاءِ في المجتمعِ ترعرعتْ إذًا الإشاعةُ وبلَغَتْ عَنانَ السماءِ، ولا يخفى على عاقلٍ خطرُ الإشاعةِ في المجتمعِ، فكم من بيتٍ حطَّمتْ سمُعَته، وكم من مسلمٍ رَوعتْه، وكم من أمنٍ زَعزعتْه، وكم من بريء ظَلَمَتْه، وكم من عِرضٍ لطختْه، ولذلك كانَ عَذابُ مُصَدِّر الإشاعةِ الكاذبةِ في البرزخِ ـ وهو مرحلةُ ما بعدَ الموتِ إلى قيامِ الساعةِ ـ كان عذابُه أن يقومَ عليه قائمٌ بكَلّوبٍ من حديدٍ، فيُدْخِلُ ذلك الكلّوبَ في شِدْقِه، فيُشَرْشِرُ أحدَ شِدْقَيهِ حتى يبلُغَ قَفاه، ثم يَفْعَلُ بالشدقِ الآخرِ مثلَ ذلك، ثم يعودُ للشدقِ الأولِ فإذا هو قدْ التئمَ على هيئتِه الأولى، فيُشرشِرُه إلى قفاه، ثم يعودُ إلى الآخرِ... وهكذا يُعَذَّبُ في البرزخِ عياذًا بالله من ذلك لأنَّه يَكذِبُ الكِذْبةَ فتبلغُ الآفاقَ، كما جاءَ ذلك عن النبيِّ كما في حديثِ البخاريِّ ومسلمٍ.
فاتقوا اللهَ أيها المسلمونَ، واحذروا الشائعاتِ، احذروا من نشرِها وتوزيعِها، لا يكُنْ أحدُكم مُردِدًا لكلِّ ما يسمعُ، يقولُ الإمامُ مالكُُ رحمه الله تعالى: "اعلم أنَّه فساد عظيم أن يتكلمَ الإنسانُ بكلِ ما سمعَ".
وكثيرًا ما تكونُ الإشاعةُ مواكبةً للأزماتِ، متكاثرةً في أوقاتِ النكباتِ والمشكلاتِ الشخصيةِ والعائليةِ وتداعياتِها، فتبدأُ العناكِبُ تنسجُ القِصصَ والمواقفَ النابعةَ من تصوراتِهم وخيالاتِهم وتحليلاتِهم، وتنشُرُها بين الآخرينَ، إما بغرَضِ التسليةِ أو بغرضِ التشهيرِ أو حتى التشفي، لتجدَ الجميعَ في النهاية يتحدثونَ فيها.
إن خطرَ الإشاعةِ على المجتمعِ يكونُ أكثرَ خطورةً عندما يتناولُ ما يَمَسُّ عقيدَتَه وقيمَه وأُسُسَه وبنيانَه، وأخطرُ من ذلكَ أن تكونَ الإشاعةُ تجري على يدِ من نثِقُ بهم، ويعتبرُهم المجتمعُ أهلَ العلمِ والمعرفةِ والثقافةِ، فهؤلاءِ أكثرُ خطرًا باعتبارِهم أكثرَ تأثيرًا في نفوسِ الآخرينَ، ومن هنا لا بدَّ من التريُّثِ والانتباهِ لكلِّ ما نتلقاه، ونلجأُ إلى إعمالِ العقلِ والتفكيرِ، لا أن نكونَ مجردَ إمّعاتٍ نتلقى ونقلّدُ وننشُرُ، فخطرُ الإشاعةِ على المجتمعِ يفوقُ أخطرَ الأمراضِ، فهي أكبرُ فتكًا وأكثرُ تأثيرًا، وتستحِقُّ منا حِرصًا ووعيًا وإدراكًا يوصِلُنا إلى جادةِ الحقِ والصوابِ.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيه منِ الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين.
أما بعد: فيا عبادَ الله، اعلموا أن من علاماتِ الساعة أن يفشوَ الكذبَ، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعةُ حتى تظهرَ الفتنُ، ويكثرَ الكذبُ، وتتقاربَ الأسواقُ، ويتقاربَ الزمانُ، ويكثُرَ الهرجُ)) ، قيل: وما الهرجُ؟ قال: ((القتل)). ومن علاماتِها أن يصدَّقَ الكاذبُ وتستقبِله وسائلُ الإعلامِ ويفسحَ لقلمهِ المجالَ، وتفردَ له الصفحاتُ ليكتبَ ويُنَظِّرَ ويُستشار، وفي المقابلِ يُكذَّبَ الصادقُ، ويُتهم بما ليس فيه، ولا يسمحُ له بالكتابةِ أو الظهورِ في وسائلِ إعلامِ المنافقينَ ونحوِ ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أمامِ الدجالِ سنينُ خداعةٌ؛ يُكَذَّبُ فيها الصادقُ، ويُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، ويُؤتمنُ فيها الخائنُ، ويَتَكلمَ فيها الرويبضةُ)) ، قيل: وما الرويبضةُ؟ قال: ((الفويسقُ يتكلمُ في أمرِ العامةِ)).
فاتقوا الله يا عبادَ الله، ولا يَغُرَّنَكُم باللهِ الغَرور، ولا يَفتِنكُم كثرةُ الهالكين، وكونوا مع الصادقينَ، واسمعوا إلى ما أعدَّه الله عزَّ وجل لمن تركَ الكذبَ، قال : (( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ)). ومعنى زعيم أي: ضامنٌ وكفيلٌ، والمرادُ برَبَضِ الجنةِ أي: أدناها. وقال عليه الصلاة والسلام: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ، فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكَذِبَ ريبةٌ)).
وهذا عبدُ الله بنُ سَلام وكان من أحبارِ يهودَ في المدينةِ يقولُ: لما قَدِمَ رسولُ الله المدينةَ انجفلَ الناسُ إليه، وقيلَ: قَدِم رسولُ الله، قَدِم رسولُ الله، فجئتُ في الناسِ لأنظرَ إليه، فلما استَثبَتُّ وجهَ رسولِ الله عرفتُ أنَّ وجههُ ليسَ بوجهِ كذابٍ، وكان أولَ شيء تكلم به أن قالَ: ((أيها الناسُ، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليلِ والناسُ نيام، تدخلوا الجنة بسلام)). فعلاماتُ الصدقِ البارزةُ في محيا رسولِ الله كانت من أسبابِ إسلامِ هذا العَالم اليهودي عبدِ الله بن سلام رضي الله عنه.
لو لم تكن فيه آيات مبينةٌ كانت بديهتُه تنبيكَ بالخبرِ
ويقولُ النبيُّ داعيًا إلى الصدق: ((عليكم بالصدقِ، فإنَّ الصدقَ يهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويَتَحرى الصدقَ حتى يكتبَ عندَ الله صِدِّيقًا)) ، فبين في هذا الحديثِ أن للصدقِ غايةً، وللصادق مرتبةً، أما غايةُ الصدقِ فهي البرُ والخيرُ ثم الجنةُ، وأما مرتبةُ الصادقِ فهي الصِّدِّيقيةُ، وهي المَرتبةُ التي تلي مَرتبةَ النبوةِ عندِ الله، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا.
واسمعوا لقصةِ الإمامِ الزهريِّ رحمه الله التي رواها يعقوبُ بنُ شيبةَ في مسندِه، قال: دخل سليمانُ بنُ يسار على الخليفةِ الأمويِّ هشامِ بنِ عبدِ الملكِ فقال له: يا سليمانُ، الذي تولى كِبْرَه يعني في قصةِ الإفكِ من هو؟ قال: هو عبدُ الله بنُ أبي، قال: كذبتَ هو عليٌّ، قال: أميرُ المؤمنينَ أعلمُ بما يقولُ، فدخلَ الإمامُ محمدُ بنُ شهابٍ الزهريُّ:
كأنه وهو فردٌ من جلالته في عسكرٍ حين تَلقاهُ وفي حشمِ
دخل فقال له الخليفةُ الأُمويُّ: يا ابنَ شهاب، من الذي تولى كِبَرُه؟ فقال الزهري: هو ابنُ أُبي، قال: كذبتَ هو عليُّ، فغضبَ الإمامُ الزهريُّ وانتفض قائلاً: أنا أكذبُ لا أبا لك؟! والله، لو نادى منادٍ من السماءِ: إنَّ الكذبَ حلالٌ ما كذبتُ، حدثني عروةُ وسعيدُ وعبدُ الله وعلقمةُ كلُّهم عن عائشةَ أن الذي تولى كِبْرَهُ هو عبدُ الله بنُ أبي، فقال الخليفةُ الأمويُّ: يبدو أننا أغضبنا الشيخ. الله أكبر، فهذه طريقُ رسولِكم ، وهذا هديُ سلفِكم الصالحُ رحمهم الله.
عبادَ الله، وصلوا وسلموا عن من أمرتم بالصلاة والسلام، حيث قال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5729)
التوازن والاعتدال
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
غازي بن مرشد العتيبي
الجموم
23/6/1429
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث النفر الذين تقالوا عمل النبي. 2- تقرير النبي لأصل الاعتدال والتوسط. 3- فوائد الاعتدال والاتزان. 4- مفاسد لتشدد والغلو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، روى البخاري ومسلم عن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي سألوا أزواج النبي عن عمله في السرّ، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي ، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا؟! لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
إن هذا الحديث ـ يا عباد الله ـ يمثل منهجًا عظيمًا وأصلاً كبيرًا، قد بنيت عليه أحكام الدين الكلية والجزئية، وهو: التوازن والاعتدال، والقيامُ لله بالقسط، من غير تشددٍ وغلو أو تفريطٍ وتساهل، كما قال الله سبحانه وتعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى: 17]، فقد جاء هؤلاء النفر في الحديث السابق، وبحثوا عن أعمال النبي التي لا يطلع عليها عموم الناس، وأرادوا من شدة حرصهم على الخير أن يأتوا بأعمالٍ لم يأت بها حتى النبي ، فقرر بعضهم أن يلزم العزوبة وأن يمنع نفسه من شهوتها التي ركبها الله فيها فلا يتزوج أبدًا، واختار آخرون أن يكفوا عن أكل اللحم أبدًا، وذهب آخرون إلى لزوم قيام الليل وعدمِ النوم على فراشٍ أبدًا، فلما علم النبي بذلك أنكره أشد الإنكار؛ لأنه مخالف لدين الله الذي أنزله على قلبه، فدين الله عز وجل مبني على مراعاة حظ الروح ومراعاة حظ البدن، من غير أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، فالنبي يصلي وينام، فلا يجعل الوقت كله صلاة أو كله نومًا، ويصوم ويفطر، فلا يجعل الوقت كله صيامًا أو فطرًا، ويتزوج النساء، فمن رغب عن سنته وأراد أن يخترع بعقله عبادةً لم يأت بها الدين فقد خالف هَدْي سيد المرسلين.
وقد كان النبي يغتنم أي موقف ويهتبل أي فرصة للدلالة على هذا الأصلِ وهو التوازن والاعتدال والإرشاد إليه، ففي الصحيحين عن أنس قال: دخل رسول الله المسجدَ وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: لزينب تصلي فيه، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: ((حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد)) ، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله غداة العقبة وهو على ناقته: ((القُط لي الحصى)) ، فلقطت سبع حصيات من حصى الحَذْف، فجعل ينفضهم في كفه ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا)) ، ثم قال: ((أيها الناس، إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)).
أيها المسلمون، إن التوازن والاعتدال لا يمكن أن يحقق إلا باتباع شرع الله عز وجل وامتثال أوامره واجتناب زواجره، أما اتباع الآراء المجردة عن هدي الشرع ونوره واتباعُ الأذواقِ والأهواء المخالفة واتباع الأعراف والتقاليد الفاسدة فلا يمكن أن يتحقق به توازنٌ أو يحصلَ به اعتدالٌ أبدًا.
وإنه ليس من التوازن والاعتدال ـ يا عباد الله ـ الوقوفُ في منتصف الطريق، والأخذ ببعضٍ من الحق وبعضٍ من الباطل، بل هذا يسمى في كتاب الله مداهنةً ومصانعة كما قال الله سبحانه وتعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9]، أي: ودوا لو تصانعهم في دينهم فيصانعوك في دينك.
وإنه ليس من التوازن والاعتدال التشددُ في غير موضع التشديد، وإدخال شيء في الدين ما نزّل الله به من سلطان من الاعتقادات المنحرفة والأفكار الضالة والتغيرات. وإنه ليس من التوازن والاعتدال التساهلُ والتفريط وتضييعُ حدود الله وانتهاكُ محارمه.
أيها الناس، إن من وفقه الله لأن يسير على الطريق الذي رضيه الله ودعا إليه فسوف يجني ثمارًا طيبة جليلة، ويحصّلُ مكاسبَ وآثارًا جميلة، ومن هذه الآثار الحسنة العظيمة دوام الأعمال الصالحة واستمرارها، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: ((القصدَ القصدَ تبلغوا)) ، ومعناه: أن من لزم الطريق المعتدلَ بلغ مقصوده من دوام العبادة وتحصيل مرضاة الله تبارك وتعالى.
أما اتباع الهوى والتقصيرُ في طاعة الله فيؤدي إلى الإخلال بمقام العبودية لله، وكذلك التشددُ والغلو يؤدي إلى انقطاع العمل والإخلال بمقام العبودية؛ لأن الفطرة البشرية لا تستطيع أن تصبر على ملازمة شدائد الأعمال والدوام عليها، كما قال : ((ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)).
بل إن من آثار الغلو الخطيرة أنه ينقل صاحبه إلى التساهل والتفريط، يقول شيخُ الإسلام بنُ تيمية رحمه الله: "وقد رأيت من هؤلاء خلقًا كثيرًا، آل بهم الإفراط فيما يعانونه من شدائد الأعمال إلى التفريط والتثبيط والملل والبطالة، وربما انقطعوا عن الله بالكلية، وذلك لأن أصل أعمالهم وأساسها على غير استقامة ومتابعة"، وإذا كان هذا في زمان ابن تيمية فكيف بما بعده من الأزمان؟!
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعتصموا بكتاب الله وسنة نبيه ، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل في اتباع دينه الخيرَ والسعادةَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له دعا إلى الهدى وحذر من الردى وأبدأ ذلك وأعاده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الورود والوفادة.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، وتزودوا من التقوى فإنها خير زادٍ وأجمل لباس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها المسلمون، إن التشديد في الدين زيادة عليه، وإن التساهل والتفريط نقص منه، وكل منهما من أسباب الخطر والهلاك، أما التوازن والاعتدال في العقائد والعبادات والمعاملات فهو من أسباب النجاة والسلامة من الآفات. وما أحسن قول العلامةِ ابن القيم رحمه الله: "والآفاتُ إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها".
ومن آثار التوازن والاعتدال صلاح القلب واستقامة العمل وكثرة الخير وسعة الرزق، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16]، أما الإفراط والتفريط ففيهما الضلال والزيغ وفساد السموات والأرض، كما قال سبحانه: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون: 71].
فتفقهوا ـ أيها الناس ـ في دينكم، وابحثوا عن أسباب نجاتكم وسعادتكم، واحذروا من أسباب سخط الله وعقابه.
وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5730)
خصائص الأمة
الإيمان
الإيمان بالرسل, فضائل الإيمان
عبد الله بن صالح المؤدب البدروشي
شنني قابس
24/10/1429
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدين الخاتم. 2- تفضيل الله تعالى لهذه الأمة. 3- خصائص الأمة المحمدية في الدنيا. 4- خصائص الأمة المحمدية في الآخرة. 5- واجبنا تجاه هذا التفضيل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان والعقيدة، من تمام نعمة الله على البشرية كلها أن ختم الديانات السابقة بالحنيفية السمحة، بملة الإسلام، فقال تبارك وتعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسلام دِينًا. وإن من تمام نعمة الله على أتباع هذا الدين أن خص دينه بخصائص عظيمة جليلة، وأفرده سبحانه وتعالى بخيرات لم تكن في الأديان السابقة كاليهودية والنصرانية. والمتأمل في هذه الخصائص يجد العجب العجاب من عظمة الإسلام وبهائه ورونقه وسموه؛ مما لا يزيد المسلم إلا تمسكًا بهذا الدين العظيم وارتباطًا واعتزازًا به أيما اعتزاز.
فضل الله عز وجل هذه الأمة على سائر الأمم، واختصها بكرامات كثيرة في الدنيا والآخرة ليست لغيرها، وإنما نالت ذلك باتباعها لشرع خالقها بالتزامها بالإسلام ذلك الدين القيم. هي خير الأمم وأكرمُها، وحسبنا شهادة الله في كتابه العزيز: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، قال : ((إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله)).
هذه الأمة المحمدية العظيمة التي حازت شهادة الخيرية جعل الله لها جملة من الخصائص امتازت بها على غيرها من الأمم:
من خصائص هذه الأمة أن جعلت لها الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة فلم يجد ماء ولا مسجدا فعنده طهوره ومسجده، فيتيمم ويصلي، بخلاف الأمم من قبلنا، فإن الصلاة أبيحت لهم في أماكن مخصوصة كالبيع والكنائس. يقول حبيبنا : ((جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظِّمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)).
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله وضع عنها الأثقال والآصار التي كانت على الأمم قبلها، فأحل لها كثيرًا مما حرم على غيرها، ولم يجعل عليها في أحكامها عنتًا وشدة، كما قال الله جل وعلا: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، فكانت شريعة المصطفى أكمل الشرائع وأيسرها وأسهلها، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((إني أرسلت بحنيفية سمحة)).
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله هداها ليوم الجمعة سيد الأيام وخير يوم طلعت فيه الشمس، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد)) رواه البخاري ومسلم.
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله تجاوز عنها الخطأ والنسيان وحديث النفس ما لم تعمل أو تتكلم، جاء في الصحيحين عن النبي قوله: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)).
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها محفوظة من الهلاك والاستئصال، فلا تهلك بالسنين ولا بجوع ولا بغرق، ولا يسلط عليها عدو من غيرها فيستبيح بيضتها ويستأصلها، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ـ أي: كسرى وفارس ـ ، وإني سألت ربي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ـ أي: مجاعة ـ ، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضا)) رواه الإمام مسلم.
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة من الخطأ عند اجتماعها على أمر، كما أنها لا تخلو من وجود طائفة قائمة بالحق في كل زمان لا يضرها من خالفها، عن كعب بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله : ((إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة)).
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله قبل شهادتها وجعل أهلها شهداءه في أرضه، فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن جنازة مرت فأثني عليها خيرًا، فقال النبي: ((وجبت وجبت)) ، ثم مرت أخرى فأثني عليها شرًا، فقال النبي: ((وجبت وجبت)) ، فلما سأله عمر عن ذلك قال: ((من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) رواه البخاري ومسلم.
هذه بعض خصائص هذه الأمة في الحياة الدنيا، أما خصائصها في الآخرة فهي موضوع وقفتنا بعد جلسة الاستراحة بإذن الله.
اللهم اهد أمتنا للعمل بشرائع هذا الدين، واحفظنا جميعا بما تحفظ به أولياءك الصالحين، واجعلنا يوم الفزع الأكبر من الآمنين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي أحب من عباده من خافه واتقاه، وأعز من أحبه واتبع هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن تحصن بذكره حفظه وحماه، وأشهد أن سيدنا وحبيب قلوبنا محمدا رسول الله وصفيه من خلقه ورضيه ومجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: أيها المؤمنون والمؤمنات، عباد الله، ومن تمام شرف هذه الأمة أن الله اختصها بخصائص في الآخرة كما اختصها بخصائص في الدنيا، فمن هذه الخصائص الأخروية أن هذه الأمة تأتي يوم القيامة غراء محجلة من آثار الوضوء، وبهذه الصفة يعرف النبي أمته من غيرهم عندما يكون منتظرهم على الحوض، فالغرة والتحجيل خاص بالأمة المحمدية. وحين قال عليه الصلاة والسلام: ((وددت أنا قد رأينا إخواننا)) قال له أصحابه: أوَلسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)) ، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! فقال: ((إنهم يأتون غرًا محجلين من الوضوء)) رواه مسلم.
ومن خصائص الأمة المحمدية الأخروية أنها تشهد لكل نبيّ أنكر قومُه أنه قد بلغ، تشهد له بأداء الرسالة وتبليغها، فيقبل الله شهادتها، يقول حبيب هذه الأمة : ((يجيء النبي فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتدعى أمة محمد فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم، فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه، قال: فذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] )).
ومن خصائصها أنها أول من يجتاز الصراط، وأول من يدخل الجنة، وقد جاءت في ذلك أحاديث كثيرة، منها قوله : ((فأكون أنا وأمتي أول من يجيز)) يعني الصراط. رواه البخاري. وفي الحديث الآخر عند البخاري أيضا يقول عليه الصلاة والسلام: ((نحن أول من يدخل الجنة)).
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها أكثر أهل الجنة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله : ((أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)) قال: فكبرنا ـ أي: طلبنا الزيادة ـ، ثم قال: ((أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟)) قال: فكبرنا، ثم قال: ((إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة)) رواه البخاري.
وهكذا تتألق هذه الأمة المباركة، ويترادف عليها فضل الله وكرمه، وتتقلب في إنعامه وإحسانه، ولكن هل شكرنا الله حق شكره أن جعلنا من هذه الأمة؟! هل كنا على مستوى هذا التكريم؟! هل أعطينا العالم صورة حسنة عن هذه الأمة المحمدية؟! أليس من المأساة أن يقول أحد فلاسفة الغرب المعاصرين: "أحمد الله أنني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين وإلا لما أسلمت"؟! قرأ عن الإسلام فأعجبه ما فيه فاعتنقه، فلما رأى المسلمين رأى الفارق الكبير بين القرآن والسنة وبين واقع المسلمين.
فلا بد أن نحقق في أرض الواقع هذه الخيرية، لا بد أن نحمل هذا الإسلام باطنا وظاهرا، لا بد أن نخرج به من مساجدنا إلى شوارعنا وأسواقنا وبيوتنا، نخرجه من تصورنا وخيالنا إلى عقولنا وقلوبنا، نخرجه من مصاحفنا إلى تعاملنا في كل مجال من مجالات الحياة؛ لنحقق الخيرية التي أرادها الله لنا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، بماذا؟ بأخوتنا الصادقة، بتراحمنا وتعاوننا، بإخلاصنا وصدقنا، بالخير الذي نزرعه في كل مكان لينعم أهل الأرض بهذا الإسلام، بمكارم الأخلاق وفضائل السلوك، بالأمان والطمأنينة التي يريدها الإسلام لكل لناس.
اللهم وحد كلمتنا، وحقق ألفتنا، وأعل رايتنا، وأصلح ذات بيننا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة...
(1/5731)
وجاء الشتاء
موضوعات عامة
مخلوقات الله
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
26/10/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آية تعاقب الليالي والأيام. 2- حكمة الفصول. 3- البرد من نفس جهنم. 4- الاستعداد لفصل الشتاء. 5- وجوب شكر نعم الله تعالى. 6- الاجتهاد في العبادة في فصل الشتاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إن تعاقب الليالي والأيام وتتابع الشهور والفصول والأعوام آية من آيات الله الباهرات التي تحمل في طياتها الدروس والعبر والعظات. إن المؤمن المستبصر يتخذ من كل حركة وسكون في الكون آية تدله على عظمة خالقه وقدرته وحوله وقوته.
إننا ـ عباد الله ـ نعيش هذه الأيام في بدايات فصل الشتاء، ذلكم الفصل الذي يتكرر كل عام، أوجده المولى سبحانه لحكم عظيمة ومنن جزيلة، أظهر المولى بعضها وأخفى البعض الآخر، لعل قلبًا يتعظ ونفسًا تدّكر، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض حديثه عن بعض حكم مخلوقات الله تعالى: "تأمل أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالح والحكم، إذ لو كان الزمان كلّه فصلاً واحدًا لفاتت مصالحُ الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفًا كلّه لفاتت منافعُ ومصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعًا كلّه أو خريفًا كلّه". ثم بدأ رحمه الله يذكر بعض فوائد البرد ودخول فصل الشتاء فقال: "ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر، ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها، واشتداد أبدان الحيوان وقواتها، وتزايد القوى الطبيعية، واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين".
فوا عجبًا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تَحريكة وتسكينة أبدًا شاهد
وفِي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
عباد الله، إن هذا البرد الذي نعاني منه في بعض الأحيان ويتمنى البعض سرعة ذهابه إنما هو نَفسٌ من أنفاس النار وجزءٌ من عذابها وزمهريرها، فإن الله تعالى يعذب أهل النار بالبرد كما يعذبهم بالحر، فمهما اشتد البرد أو الحر على العبد في هذه الحياة وقاسى منه وتألم فإن ذلك لا يعدو أن يكون نفسًا واحدًا من أنفاس النار والعياذ بالله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشدُ ما تجدون من الحر، وأشدُ ما تجدون من الزمهرير)) يعني البرد. أخرجه الشيخان. قال ابن عبد البر رحمه الله: "هذه الشكوى بلسان المقال"، وقال النووي رحمه الله نحوًا من ذلك ثم أضاف: "حملُه على حقيقته هو الصواب، وتنفسها على الحقيقة".
عبد الله، تذكر وأنت تفر من برد الدنيا وتتقيه وتستعد له بما تجد من ملابس ووسائل تدفئة لك ولأفراد أسرتك، تذكر زمهرير جهنم الذي لا واقي منه ولا حامي إلا التقوى والعمل الصالح بعد رحمة الله وفضله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].
عباد الله، إن أخذ الأهبة لهذا الفصل من العام والاستعداد له بأنواع الملابس والمدافئ هو من باب الأخذ بالأسباب التي هيأها المولى سبحانه لنا وأنعم بها علينا، ولقد امتن سبحانه على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام وأوبارها وأشعارها ما فيه دفء لهم، قال سبحانه: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل: 5]، وقال سبحانه: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل: 80].
روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان عمر رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم الوصية: (إن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا، فإن البرد عدوٌ، سريع دخوله، بعيد خروجه). وإنما كان يكتب بذلك عمر إلى أهل الشام لما فتحت في زمنه، فكان يخشى على من بها من الصحابة وغيرهم ممن لم يكن له عهدٌ بالبرد أن يتأذى ببرد الشام، وذلك من تمام نصيحته وحسن نظره وشفقته وحياطته لرعيته رضي الله عنه.
أيها المسلمون، إن مما لا يحتاج إلى برهان كثرةَ النعم التي تحيط بنا ورغد العيش الذي يغطينا، توفر لدينا بحمد الله ما ندفع به أذى البرد وشدته، مما يجعل أحدنا يمر به موسم الشتاء بلا كدر ولا مرض، يبيت دافئًا مطمئنًا على أهله وبيته. وهذه النعم تذكّرها واستشعارها يوجب شكر المنعم وحمده عليها، فبالشكر تقيّد النعم وتزداد، وبتركه تزول النعم وتفقد، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]. إن شكر النعم يجعلها تدوم على أصحابها في الدنيا، ويبقى شكرها ذخرًا لهم في الآخرة، عن أنس رضي الله عنه قال : ((ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة)) أخرجه الطبراني وغيره.
عباد الله، إن شكر النعم يكون باللسان وذلك بأن نحمد الله ونثني عليه مقابل إنعامه علينا، ويكون الشكر بالفعل، ولذلك صورٌ متعددة: منها ترك الإسراف والتبذير، وترك المباهاة والتفاخر، ومنها أيضًا مواساة المحتاجين والفقراء ممن يبيتون في العراء، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، بلا سكن ولا مأوى، ولا لباس ولا غطاء، عصفت بهم الكوارث والنكبات، وشردتهم الزلازل والفيضانات، إنهم إخواننا، وبعضهم من بني جلدتنا، فلنمد إليهم يد المعونة والمساعدة، ولنغنهم عن السؤال في هذه الأيام.
عباد الله، كم يملك أحدنا من الثياب على اختلاف أنواعها وألوانها، وكم تملك نساؤنا من الملابس على اختلاف أشكالها، وكم نشتري في العام الواحد لأطفالنا من أصناف الملابس والأحذية، فلنؤثر إخواننا ولو بفضل حاجاتنا، وبما استغنت عنه أنفسنا من ملابس الأعوام الماضية، ولنتذكر أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
أتدري كيف جارك يا ابن أمي يهدهده من الفقر العناء
وكيف يداه ترتَجفان بؤسا وتصدمه الْمذلة والشقاء
يصب الزمهرير عليه ثلجًا فتجمد فِي الشرايين الدماء
يجوب الأرض من حي لِحي ولا أرض تقيه ولا سَماء
معاذ الله أن ترضى بهذا وطفل الْجيل يصرعه الشقاء
أتلقاني وبي عوز وضيق ولا تَحنو فمن أين الحياء
أخي في الله لا تَجرح شعوري ألا يكفيك ما جرح الشتاء
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله، أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((الشتاء ربيع المؤمن)). قال ابن رجب رحمه الله في اللطائف: وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسّر فيه، كما ترتع البهائم في المرعى الربيع، فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام، جاء في المسند والترمذي عن النبي أنه قال: ((الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة)) ، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء.
وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلي ورده كلَّه من القرآن وقد أخذت نفسه حظها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة، يطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام)، ومن كلام يحيى بن معاذ: "الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقيٌ فلا تدنسه بآثامك"، أما عبيد بن عمير فكان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".
عبد الله،
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الْخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك بالعزم قل لي: متى؟
هذا، وصلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة...
(1/5732)
فضائل الجمعة وأحكامها
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
مراد بن عياش اللحياني
مكة المكرمة
20/3/1429
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعياد المسلمين. 2- فضل يوم الجمعة. 3- آداب يوم الجمعة. 4- من أحكام صلاة الجمعة. 5- فضل الصلاة على النبي يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الله فضل بعض الشهور والأيام على بعض، وجعل من الأيام مواسم وأعيادا، اصطفاءً منه واختيارًا، وتشريفًا منه وتكريمًا، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ. وإن الله تعالى قد جعل للمسلمين من أيام الدنيا ثلاثة أعياد: عيدين يأتيان في كل عام مرة مرة: عيد الفطر وعيد الأضحى، وعيد يتكرر كل أسبوع، وهو يوم الجمعة الذي قال فيه النبي : ((إن يوم الجمعة يومُ عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده)) رواه أحمد.
إن يوم الجمعة ـ أيها المسلمون ـ من أعظم الأيام عند الله قدرًا وأجلها شرفًا وأكثرها فضلاً، فقد اصطفاه الله تعالى على غيره من الأيام، وفضله على ما سواه من الأزمان، واختص الله به أمة الإسلام، وضلت عنه اليهود والنصارى، فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : ((أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق)) رواه مسلم.
((إن خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم جمعة)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
إن من بركات هذا اليوم أن الله يغفر لعبده ما ارتكب ما بين الجمعتين من آثام وخطايا إذا اجتَنب الكبائر، يقول : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) أخرجه مسلم.
عباد الله، إن يومًا بهذه المزية وتلك المكانة عند الله لهو حريّ بأن نعتني به، فقد شرع الله في هذا اليوم الغسل وجُعله أمرًا مؤكدًا، يقول : ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) متفق عليه، وهذا يدل على تأكيد الغسل وأهميته. وشُرِعَ الطيبُ ولبس أحسن الثياب، فعن سلمان أن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو مس من طيب ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) رواه البخاري.
ولقد ندب النبي المسلم أن يجتهد في التبكير إلى الجمعة لما في ذلك من الفضل العظيم، قال : ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) رواه البخاري. قال ابن القيِّم: "لمَّا كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان وكان يوم الجمعة يومَ صلاة جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان"، بمعنى أن الذي يبكر إلى الصلاة يوم الجمعة يكون له من الأجر كمن اشترى شيئًا مما ذكر في الحديث ووزعه على فقراء المسلمين، فمن ذهب في الساعة الأولى كان كمن اشترى من ماله الخاص بدنة فذبحها ثم وزعها على فقراء المسلمين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى هذا الفرق العظيم بين أجر من يبكر ويأتي في الساعة الأولى وبين من يتأخر ويأتي في الساعة الخامسة الأخيرة، إنه الفرق بين من يتصدق ويتبرع بالبدنة وبين من يتصدق ويتبرع بالبيضة، فانظر لنفسك ماذا أنت تختار. ولو حصل لك ظرف معين في إحدى المرات وتأخرت فاحرص أن تكون على الأقل مع من يقرب بقرة أو على الأقل دجاجة، لكن أن يكون طبعك وديدنك مع البيضة دائمًا فهذا أيضًا من الحرمان، أما إذا دخل الخطيب فإن البيضة أيضًا أنت لست من أهلها؛ لأن الملائكة تطوي صحفها وتجلس تستمع إلى الخطبة.
إن الملائكة يوم الجمعة يجلسون عند أبواب المسجد، يكتبون الأول فالأول، فإذا أتى الإمام طوَوا صحفَهم واستمعوا الذكر، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ((إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد، فيكتبون من جاء من الناس على منازلهم، فرجل قدم جزورا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة، ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم بيضة، فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر)) قال الهيثمي: "رجاله ثقات". وعن أوس بن أبي أوس عن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة وغسل وبكر وابتكر ودنا واستمع وأنصت كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها)) رواه الترمذي وحسنه.
فما أعظم هذا الأجر يا عباد الله، هنيئًا لمن بكر وأتى إلى المسجد قبل حضور الخطيب، وصلى ما قدّر له، وتشرف بكتابة اسمه في السجلات التي تحملها الملائكة القاعدون على أبواب المساجد في هذا اليوم العظيم، وأجر المسير والتبكير إلى الجمعة كل خطوة تعادل في الثواب صيام سنة وقيامها، أضف إلى ذلك أن المبكر إذا دخل المسجد فاشتغل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن حصل على خيرات كثيرة، والملائكة تستغفر له طيلة بقائه في المسجد، ويكتب له أجر المصلي ما دام ينتظر الصلاة، ولكن ومع كل أسف كثير من الناس زهد في هذا الأجر ورغب عن هذا الخير، فصار لا يأتي لصلاة الجمعة إلا في آخر لحظة، ومنهم من يأتي وقت الخطبة فقط أو في آخرها، وهذا أمر ملحوظ ومشاهد، يدخل الخطيب المسجد فلا تكاد ترى إلا بعض الصفوف، وما إن يشرع الخطيب في الخطبة ويسمعه الناس حول المسجد فيبدؤون في المجيء، ومنهم من يتأخر حتى قبيل الإقامة، وهذا لا شك أنه حرمان عظيم وتثبيط من الشيطان وضعف من النفس، فاتقوا الله عباد الله، لا تحرموا أنفسكم هذا الأجر العظيم، بكروا إلى الجمعة لتحوزوا على رضوان الله جل وعلا، ويُذكر في الأثر عن علقمة قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: (رابع أربعة، وما رابع أربعة من الله ببعيد، إنَّ الناس يجلسون يوم القيامة من الله عز وجل على قدر رواحهم إلى الجمعات، الأوَّل ثمَّ الثاني ثمَّ الثالث ثمَّ الرابع، وما رابع أربعة من الله ببعيد) حسنه المنذري.
وليتجنب المسلم ما يعوقه عن التبكير من السهر في ليلة الجمعة، وربما يسهر البعض إلى طلوع الفجر، ثم يستغرق معظم النهار نومًا، فعساه أن يستيقظ للفريضة ولو متأخرًا، وبعضهم ربما مضت عليه الساعات في نوم عميق، فتفوته الجمعة، إنها خسارة عظيمة لمسلم منحه الله الصحة والعافية، ولكنه لا يبالي بهذا اليوم ولا بفضائله.
وإذا دخل المسلم المسجد شُرع له أن يصلي ركعتين تحيةَ المسجد ولو كان الإمام يخطب؛ لأن النبي بينما هو يخطب إذ دخل سليك الغطفاني فجلس، فقال له النبي : ((أصليتَ ركعتين؟)) قال: لا، قال: ((قم فاركع ركعتين، وتجوّز فيهما)) رواه البخاري ومسلم.
وإذا تأخر المسلم عن الإتيان مبكرًا إلى المسجد وقد امتلأ المسجد فإنه يمنع من تخطّي رقاب الناس؛ لأن في ذلك أذًى للمسلمين وإشغالاً لهم عن الاستماع وإلهاءً لقلوبهم عن الإقبال على سماع الخطبة، فبينما كان النبي يخطب إذا رجلٌ يتخطى رقاب الناس، فقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.
إذا أتى المصلي إلى صلاة الجمعة فيشرع له الإنصات لخطبة الإمام والإصغاء إليها، ويحرم عليه التحدّث مع الغير والاشتغال بما يلهي عن سماع الخطبة، يقول : ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)) رواه البخاري.
ولقد كان النبي يخطب يوم الجمعة فذكّر أصحابه بأيام الله، ثم قرأ سورةً، فغمز أبو الدرداء أبيّ بن كعب رضي الله عنها، فقال: متى أنزلت هذه السورة؟ فإني لم أسمعها إلاّ الآن، فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا قال أبيّ: ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت، فأخبر أبو الدرداء النبيَّ بما قال أبيّ، فقال: ((صدق أبي)) قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
من مس حصى المسجد أو عبث بشيء من متاعه والإمام يخطب فقد لغا في جمعته، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من مس الحصى فقد لغا)) رواه ابن ماجة وصححه الألباني. وما من دين على وجه الأرض يلزم مؤمنيه في يوم من أيام الأسبوع أن يأتوا يوم الجمعة بالاستماع والإنصات كأشد ما يكون الاستماع والإنصات إلى خطبة الجمعة، لا يلتفتون عنها بشيء، ولا يردون السلام، ولا يشمتون العاطس، كلهم آذان صاغية، كأن على رؤوسهم الطير.
فانتبه يا عبد الله، لا تفسد جمعتك بعبث أو غيره، توجه بسمعك وقلبك إلى الخطبة، ولا تتكلم حال الخطبة، ولا تكن من الذين غلب عليهم الكسل أو عدم المبالاة، يملون من الجلوس ربع ساعة لاستماع ذكر أو موعظة، ولهذا تجدهم يأتون في آخر الخطبة حتى لا يطيل الجلوس، وبعضهم إذا جاء متأخرًا فإنه لا يجلس، يظل واقفًا حتى تقام الصلاة، ولو طُلِبَ من أحدهم أن يجلس في غير هذا المكان لجلس الساعات الطوال في لهو أو لعب أو غيره، فأي حرمان للعبد أكثر من هذا؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
قال سبحانه: إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. الصلاة على النبي من العبادات المشروعة في هذا اليوم، فإنَّ أوسَ بن أوس قال: قال رسول الله : ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا من الصلاة عليّ فيه، فإن صلاتكم يوم الجمعة معروضة عليّ)) ، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! أي: بليت وصرت رميمًا، فقال: ((إن الله عز وجل حرَّم على الأرض أن تأكل أجسامنا)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له.
قال ابن القيِّم: "ورسول الله سيِّد الأنام، ويوم الجمعة سيِّد الأيَّام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزيَّة ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أنَّ كلَّ خير نالته أمَّته في الدنيا والآخرة فإنَّما نالته على يده، فجمع الله لأمَّته بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم فإنَّما تحصل يوم الجمعة، فإنَّ فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنَّة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يردُّ سائلهم، وهذا كلُّه إنَّما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقِّه أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته".
(1/5733)
آداب النوم
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن فهد الريس
الحائر
جامع إصلاحية الحائر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الضعف البشري. 2- سلطان النوم. 3- من آداب النوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، الضعف في الإنسان صفة لازمة له لا تفارقه يقول الله تعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ؛ لذا فهو بحاجة ماسة إلى من ينصره ويقف معه عند حدوث المصائب والخطوب. والله جل وعلا هو خير ناصر وخير معين، وهو اللطيف الخبير سبحانه وتعالى كما يقول عن نفسه: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، وكما يقول أيضا: اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ.
ويتجلى ضعف الإنسان في صور عديدة، فإذا مرض ظهر ضعفه وعجزه، وإذا أصابته فاقة أيضًا، وإذا احتاج إلى أمر من أمور الدنيا وعجز عنه ظهر ضعفه وفقره إلى الغني الحميد سبحانه وبحمده.
وهناك صورة تتكرر علينا جميعًا في كل يوم وليلة يتجلى فيها ضعف المخلوق ويظهر عجزه واضحًا جليًا لا يحتاج إلى برهان، تلكم الصورة هي النوم يا عباد الله، فلا يستطيع النائم أن يدفع عن نفسه الاعتداء إذا وقع عليه، وقد يرى في منامه ما يزعجه ويكدر خاطره ولا يقدر على التحكم في رؤياه.
روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه غزا مع النبي فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، فنزل النبي تحت شجرة، فعلق بها سيفه ثم نام، فاستيقظ وعنده رجل وهو لا يشعر به، فقال النبي : (( إن هذا اخترط سيفي فقال: من يمنعك؟ قلت: الله، فشام السيف، فها هو ذا جالس)) ثم لم يعاقبه.
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى ضعف الإنسان وهو نائم، فهذا رسول الله عليه الصلاة والسلام ينام تحت شجرة معلقًا سيفه عليها، فيأتي هذا المشرك ويأخذ السيف، فينتبه رسول الله ، فيقول المشرك: ((من يمنعك مني يا محمد؟)) وبقلب الواثق بربه لم يتلعثم في الجواب أو يترجاه ليضع السيف أو يحتال عليه ليأخذه، مباشرة لجأ إلى ربه، فما هي النتيجة؟ ارتبك هذا المشرك، ولم يثبت السيف في يده، ووقع منه، فأخذه رسول الله وعفا عن المشرك ولم يعاقبه. هكذا هم الأنبياء؛ قلوب واثقة بالخالق، وتعامل رفيق بالخلق.
فالنوم ـ يا رعاكم الله ـ حالة لا يستغني عنها الإنسان السوي، ويظهر فيها ضعفه واضحًا جليًا؛ لذلك يشرع للإنسان إذا أوى إلى فراشه أن يفعل بعض الآداب ويقول بعض الأذكار المسنونة حتى لا يتضرر وتتسلّط عليه الشياطين.
نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمته أن نغتال من تحتنا، إنه أكرم من سئل وأجود من أعطى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف نبي من أشرف قوم.
عباد الله، النوم نعمة من نعم الله جل وعلا تستوجب الشكر والثناء، ومن صور شكر هذه النعمة أن نعمل بسنة النبي عليه الصلاة والسلام عند النوم.
ومن تلك السنن نفض الفراش قبل النوم عليه لما في ذلك من الفوائد، فقد يكون في الفراش ما يؤذي النائم من حشرة ونحوها، فإذا نفضه زال ما فيه وكان مهيّأً للنوم عليه.
ومن السنن أيضًا أن ينام على شقه الأيمن ويضع يده تحت خده ويقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك.
ومن السنن أيضًا أن يقول إذا أوى إلى فراشه: باسمك اللهم أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور.
وغير ذلك من الآداب التي صحت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا حافظ المسلم عليها كانت نومته هنيئة بإذن الله، ونال الأجر والثواب على اتباع السنة.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا اتباع السنة وشكر النعمة.
(1/5734)
المبادرة إلى الحج
فقه
الحج والعمرة
خالد بن سلمان الضوّي
سكاكا
2/11/1429
جامع الثغيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحج والعمرة. 2- حرص السلف على الحج والعمرة. 3- ظاهرة التهاون بحج الفرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فيا عبادَ الله، اعلموا أن أصدقَ الحديثِ كلامُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
يقول اللهُ جلَّ وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ، وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يا أيُّها الناسُ، إنَّ اللهَ قدْ فَرَضَ عليكُم الحَجَّ فحُجُّوا)). فالحَجُّ والعُمْرَةُ ـ أيها المسلمونَ ـ من أفضلِ العباداتِ وأجلِ القُرُبَاتِ، بهما تُحَطُّ الأوزارُ، ويَثقُلُ ميزانُ العبدِ بالحسناتِ، ويُرفَعُ في الجنةِ إلى أَعلى الدرجاتِ، يرجِعُ أقوامٌ من تلكَ المشاعِرِ المقدّسةِ إلى بيوتِهم ليس عليهم ذنوبٌ، كيومِ ولدتْهُم أمهاتُهُم، قال رسولُ اللهِ : ((من حَجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رَجَعَ من ذنوبِه كيومِ ولدتْهُ أمُّه)). والحَجُّ طريقٌ إلى الجنةِ كما قالَ : ((الحَجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنَّةَ)) ، وفي السُنَنِ من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنَّ رسولَ اللهِ قالَ: ((تابِعُوا بين الحَجِّ والعُمْرَةِ؛ فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ كما ينفِي الكيرُ خَبَثَ الحديدِ)) ، وقال رَسُولُ اللَّهِ : ((الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنْ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ)).
ولقدْ عَرَفَ الصحابةُ والتابعونَ والسلفُ الصالحونَ هذه الفضائلَ، فكانتْ لهم عجائبُ في الحرصِ على التَّرَدُّدِ على تلكَ المشاعرِ والإكثارِ من الحَجِّ والعُمْرةِ مَعَ بُعْدِ المسافةِ وصُعُوبةِ الوصولِ وخَوْفِ الطريقِِ وقِلَّةِ ذاتِ اليدِ، لكِنَّ حالهَم كما قالَ الأولُ:
روحٌ دعَاها للوِصالِ حبيبُها فسعتْ إليهِ تُطِيعُه وتجيبُهُ
فهذا نافعٌ يقولُ: سافرتُ مع عبدِ الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِضْعًا وثلاثينَ حِجةً وعُمْرةً. وهذا الحسنُ بنُ عليٍ رضي الله عنهما يَحُجُّ خَمْسَ عشْرَةَ مرةً، وربَّما حَجَّ ماشِيًا من المدينةِ إلى مكةَ، ونجائِبُهُ تُقادُ معه. وهذا الأسودُ بنُ يزيد النَّخَعِيُّ رضي اللهُ عنه زارَ البيتَ ثمانينَ مرةً حاجًا أو معتمرًا. وروى الإمامُ الذهبيُّ في السِيَرِ عن ابنِ المسيِّبِ رحمه اللهُ أنه قالَ: "حجَجْتُ أربعينَ حِجةً"، وكان سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ رحمه اللهُ يُحْرِمُ في السنةِ مرتينِ، مرةً للحَّجِ ومرةً للعُمْرَةِ. بل في زمَنِنَا هذا ذكَرُوا أنَّ سماحةَ الشيخِ عبدَ العزيزِ بنَ بازٍ رحمه اللهُ حَجَّ أكثرَ من اثنتينِ وخمسينَ حِجَّةً.
وكان هؤلاءِ الصحابةُ والتابعونَ والصالحونَ رحمهم اللهُ مع ذلكَ في غايةٍ من الخشوعِ للهِ وتعظيمِ شعائرِ اللهِ وحُرماتِه أثناءَ الحَجِّ، في عبادةٍ وذكرٍ ودعاءٍ وتعليمٍ ونفعٍ للناسِ، قال الحريريُّ رحمه اللهُ: أحرَمَ أنسُ بنُ مالكٍ رضي اللهُ عنه من ذاتِ عِرْقٍ، فما سمعناهُ متكلمًا إلا بذكْرِ اللهِ حتى حَلَّ، ثم قالَ: يا ابنَ أخي هذا الإحرامُ.
وهذا أحدُ الصالحينَ رحمه اللهُ تاقتْ نفسُه إلى الحَجِّ لكنَّه فاتَه، فأنشَأَ يقولُ:
يا راحلينَ إلى منى بقيادِي هيجتمو يومَ الرحيلِ فُؤادِي
وحَرَمْتُمُو جفني المنامَ بِبُعدِكُم يا ساكنينَ الْمُنحنى والوادِي
ويلوحُ لي ما بينَ زمزمَ والصفَا عندَ المَقَامِ سمعتُ صوتَ مُنادِي
ويقولُ لي يا نائمًا جِدَّ السُّرَى عرفاتُ تجلُو كلَّ قلبٍ صادِي
تاللهِ ما أحلى المبيتَ على منًى فِي ليلِ عيدٍ أبركِ الأعيادِي
ضَحَّوْا ضحاياهُم وسالَ دماؤُها وأنا المتيَّمُ قد نحرتُ فؤادِي
لبسوا ثيابَ البيضِ شاراتِ الرِّضَا وأنا الْملوَّعُ قد لبستُ سَوادِي
يا ربِّ أنتَ وصلتَهُم صلني بهم وبِجودِكُم يا ربِّ فُكَّ قِيادِي
أعوذ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
باركَ اللهُ لي ولكم في القُرْآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ من كُلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان واقتدى بهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإن تعجَبُوا ـ عِبادَ الله ـ فعجبًا لمن تجاوَزَ العشرينَ سنةً أو الثلاثينَ أو الأربعينَ أو ربما الخمسينَ ولم يَخْطُر ببالِه أن يَحُجَّ بيتَ اللهِ الحرامَ، أو نَوى لكنْ تَكَاسَلَ وأَخَّرَ وسوَّفَ، وقدْ تكرَّمَ اللهُ عليه بصحةٍ في الجِسمِ وعافيةٍ في البدنِ وسَعةٍ في المال وأمنٍ في الوطنِ، ثم هو يُسافِرُ في الإِجازاتِ إلى مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها، فإذا جاءَ موسمُ الحَجِّ جاءتْ الأشغالُ والمثبِّطاتُ، أو تجاهَلَ وتناسَى، وكأَنَّ الحجَّ ليسَ رُكنًا من أركانِ الإسلامِ العظامِ، أو كأنَّه غيرُ مكلَّفٍ أو غيرُ مخاطبٍ بقولِه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وهذا حِرْمانٌ عظيمٌ.
عبادَ الله، كانَ رسولُ اللهِ يقولُ: ((تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ ـ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ ـ ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ)) ، وصَدَقَ رسولُ اللهِ ، فإنَّ العُمُرَ قصير، والموتُ يأتي فجأةً، والصحةُ تزولُ، والمالُ ينفَدُ، وكان أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه يقولُ: (من كانَ ذا ميسرةٍ فلم يَحُجُّ فليمتْ إنْ شاءَ يهوديًا أو نصرانيًا).
فمن كان مُستطيعًا للحَجِّ ولم يحُجَّ فليتقِ اللهِ وليستعنْ به، وليبادرْ إلى هذه العبادةِ العظيمةِ، ليبرِئَ ذمَّتَه أمامَ اللهِ، وكذلك من تيسَّر له الحجُّ، ليشهدوا منافِعَ لهم، ويذكُروا اسمَ اللهِ، ويُعَظِّمُوا حُرُماتِه وشعائِرَهُ، ولينالوا الثوابَ العظيمَ، من محوِ السيئاتِ ومُضاعفةِ الحسناتِ وقَبولِ الدعواتِ.
اللهم وفقنا لهداكَ، واجعل عملنا في رضاك.
عبادَ الله، صلُّوا وسلموا على من أمرتكم بالصلاة والسلام عليه...
(1/5735)
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آثار الذنوب والمعاصي, البيوع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
11/10/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأزمة المالية العالمية. 2- يمحق الله الربا. 3- حرب الله على المتعاملين بالربا. 4- المؤمن الحقيقي. 5- موعظة وذكرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ فَإِن لم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لاَ تَظلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ تَتَنَاقَلُ وَسَائِلُ الإِعلامِ أَنبَاءً عَنِ انهيَارَاتٍ اقتِصَادِيَّةٍ مُفزِعَةٍ وَإِفلاسَاتٍ مَالِيَّةٍ مُوجِعَةٍ، مَصَارِفُ عَالَمِيَّةٌ تُعلِنُ إِفلاسَهَا، وَأَسوَاقٌ مَالِيَّةٌ يَشتَدُّ كَسَادُهَا، مُستَثمِرُونَ تَذهَبُ أَموَالُهُم، وَمُودِعُونَ تَتَبَدَّدُ أَرصِدَتُهُم، وَتُعقَدُ مُؤتَمَرَاتٌ لِدِرَاسَةِ الوَاقِعِ المُتَفَاقِمِ، وَتُبذَلُ أَموَالٌ لِلارتِقَاءِ بِالوَضعِ المُنحَدِرِ، وَيَرفَعُ تُجَّارٌ شَكَاوَاهُم، وَيَوَكِّلُونَ مُحَامِينَ لِمُتَابَعَةِ قَضَايَاهُم، وَتَضِجُّ الدُّنيَا وَتَرتَجُّ، وَيَدِبُّ في النُّفُوسِ خَوفٌ وَقَلَقٌ، وَيَتَمَلَّكُهَا ذُعرٌ وَهَلَعٌ، بَحثٌ في أَسبَابِ هَذَا التَّدَهوُرِ وَدِرَاسَاتٌ، وَاقتِرَاحَاتٌ لِلحُلُولِ وَتَخمِينَاتٌ، وَمُحَاوَلاتٌ لِلإِنقَاذِ يَائِسَةٌ وَتَصَرُّفَاتٌ بَائِسَةٌ، وَيَخرُجُ قَائِلُونَ بِتَأثِيرِ اِنخِفَاضِ بَعضِ العُمْلاتِ في هَذَا الشَّأنِ، وَيُغرِقُ آخَرُونَ في فَلسَفَاتٍ وَنَظرِيَّاتٍ اقتِصَادِيَّةٍ مَادِيَّةٍ، وَفي النِّهَايَةِ يُنَادِي مَن يُنَادِي مِن عُقَلاءِ تِلكَ الدُّوَلِ بِأَنَّ الحَلَّ هو في الاقتِصَادِ الإِسلامِيِّ، وَيَدعُونَ إِلى الرُّجُوعِ إِلى مَا وَرَدَ في القُرآنِ مِن تَعَالِيمَ وَأَحكَامٍ لِحَلِّ مَا نَزَلَ بِهِم مِن كَوَارِثَ وَأَزَمَاتٍ.
وَيَحِقُّ لِكُلِّ مُسلِمٍ يُؤمِنُ بِاللهِ وَيوقِنُ بِمَا جَاءَ في كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، يَحِقُّ لَهُ قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ أَن يُعلِنَهَا نَتِيجَةً صَرِيحَةً صَحِيحَةً، وَيُطلِقَهَا صَيحَةً مُدَوِّيَةً في كُلِّ مَحفَلٍ وَمِن عَلَى كُلِّ مِنبَرٍ: يَمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ، يَحِقُّ لِكُلِّ مُسلِمٍ أَن يُعلِنَ بِمِلءِ فِيهِ مَا صَحَّ عَنهُ حَيثُ قَالَ: ((مَا أَحَدٌ أَكثَرَ مِنَ الرِّبَا إِلاَّ كَانَ عَاقِبَةُ أَمرِهِ إِلى قِلَّةٍ)) ، وَفي لَفظٍ قَالَ: ((الرِّبَا وَإِن كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلى قلٍّ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَا ظَهَرَ في قَومٍ الزِّنَا وَالرِّبَا إِلاَّ أَحَلُّوا بِأَنفُسِهِم عَذَابَ اللهِ)).
إِنَّهَا سُنَّةُ اللهِ المُحكَمَةُ المُتقَنَةُ الَّتي لا تَتَغَيَّرُ وَلا تَتَبَدَّلُ، وَلا تُحَابي فَردًا وَلا مُجتَمَعًا، وَلا تُجَامِلُ غَنِيًّا وَلا قَوِيًّا، ((وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحوِيلاً)). وَيَتَذَكَّرُ المَرءُ مَا كَانَ مِن صِغَارِ المُسَاهِمِينَ وَمُتَوَسِّطِيهِم في بِلادِنَا قَبلَ بِضعِ سَنَوَاتٍ، مِمَّن أَصَابَتهُم حُمَّى المُسَاهَمَاتِ وَتَسَاقَطُوا في مُستَنقَعَاتِهَا الآسِنَةِ، فَغَامَرُوا بِكُلِّ مَا حَاشَتهُ أَيدِيهِم في سِنِينَ، وَبَذَلُوا مُهجَةَ أَفئِدَتِهِم وَاعتَصَرُوا مُخَّ عِظَامِهِم، فَجَعَلُوهُ في تِلكَ المُسَاهَمَاتِ المُحَرَّمَةِ، وَوَلَغُوا في كَثِيرٍ مِنَ المُعَامَلاتِ المَشبُوهَةِ، وَلم يَنتَهُوا وَلم يَتَوَرَّعُوا، وَظَلُّوا لا يَحلُمُونَ إِلاَّ بِالغِنى وَالثَّرَاءِ، ثُمَّ في مِثلِ طَرفَةِ عَينٍ انهَارَت أَحلامُهُم وَتَبَدَّدَت، وَذَهَبَت أَموَالُهُم وَاختَفَت، وَكَأَنَّ الأَرضَ قَدِ انشَقَّت فَابتَلَعَتهَا، أَو كَأَنَّ نَارًا قَد أُوقِدَت فَأَحرَقَتهَا، مَلايِينُ مِنَ الرِّيَالاتِ بَل بَلايِينُ وَقِيمَةُ سَيَّارَاتٍ وَعَقَارَاتٍ وَحَصِيلَةُ قُرُوضٍ وَدُيُونٍ وَضَعَهَا أُولَئِكَ المَخدُوعُونَ المُغَرَّرُ بِهِم في شِبَاكٍ قَد نُصِبَت لهم، لِيَمتَصَّهَا كِبَارُ المُرَابِينَ فَيُودِعُوهَا في المَصَارِفِ الرِّبَوِيَّةِ العَالَمِيَّةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُم قَد حَصَّنُوهَا وَحَفِظُوهَا إِذِ ابتَعَدُوا بها عَن أُولَئِكَ المَغبُونِينَ وَأَحرَزُوهَا إِلى تِلكَ المَصَارِفِ، وَأَن لا قَادِرَ عَلَى انتِزَاعِهَا مِن بَرَاثِنِهِم في ظِلِّ قُوَّةِ ذَلِكَ النِّظَامِ الاقتِصَادِيِّ الرَّأسِمَالِيِّ، وَمَا دَرَوا أَنَّهُم قَد دَخَلُوا في مُوَاجَهَةٍ خَاسِرَةٍ وَخَاضُوا مَعرَكَةً غَيرَ مُتَكَافِئَةٍ، لَيسَت مَع قُوَّةٍ أَرضِيَّةٍ أَو فِئَةٍ بَشَرَيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُوَاجَهَةٌ مَعَ القَوِيِّ المَتِينِ وَحَربٌ مَعَ العَزِيزِ الجَبَّارِ، فَإِن لم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَأَينَ يَذهَبُ الإِنسَانُ الضَّعِيفُ الحَقِيرُ الذَّلِيلُ مِن تِلكَ القُوَّةِ الجَبَّارَةِ؟! أَينَ يَذهَبُ مِن تِلكَ القُوَّةِ السَّاحِقَةِ المَاحِقَةِ؟! يَمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربي الصَّدَقَاتِ ، أَحَسِبَ أُولَئِكَ المُرَابُونَ المَخذُولُونَ أَنَّ الإِيذَانَ بِالحَربِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ قِتَالٌ بِسَيفٍ فَيَتَّقُوهُ أَو أَنَّهُ ضَربٌ بِمِدفَعٍ فَيَحذَرُوهُ؟! لا وَاللهِ، وَلَكِنَّهَا الحَربُ المُعلَنَةُ مِن رَبِّ العَالَمِينَ عَلَى كُلِّ مُجتَمَعٍ يَضِلُّ السَّبِيلَ، فَيَجعَلُ الرِّبَا قَاعِدَةً لِنِظَامِهِ الاقتِصَادِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ، إِنَّهَا الحَربُ الشَّامِلَةُ الغَامِرَةُ، عَلَى الأَعصَابِ وَالقُلُوبِ، وَعَلَى البَرَكَةِ وَالرَّخَاءِ، وَعَلَى السَّعَادَةِ وَالطُّمَأنِينَةٍ، حَربٌ يُسَلِّطُ اللهُ فِيهَا العُصَاةَ بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ، وَيُوَلِّي بَعضَ الظَّالِمِينَ بَعضًا بما كَانُوا يَكسِبُونَ. إِنَّهَا حَربُ الغَبنِ وَالظُّلمِ، حَربُ القَلَقِ وَالخَوفِ، وَأَخِيرًا حَربُ السِّلاحِ بَينَ الأُمَمِ وَالدُّوَلِ، وَالمُرَابُونَ مِن أَصحَابِ رُؤُوسِ الأَموَالِ العالَمِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ يُوقِدُونَ هَذِهِ الحَربَ بِطَرِيقٍ مُبَاشِرٍ أَو غَيرِ مُبَاشِرَ، إِذْ يُلقُونَ شِبَاكَهُم فَيَقَعُ فِيهَا الأَفرَادُ وَالمُؤَسَّسَاتُ، وَتَتَعَثَّرُ فِيهَا المَصَانِعُ وَالشَّرِكَاتُ، ثُمَّ تَنشَبُ فِيهَا الشُّعُوبُ وَالحُكُومَاتُ، ثُمَّ يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الفَرَائِسِ فَتَقُومُ الحَربُ، أَو يَزحَفُونَ وَرَاءَ أَموَالِهِم بِقُوَّةِ حُكُومَاتِهِم فَتَقُومُ الحَربُ، أَو يُثقِلُ الشُّعُوبَ سَدَادُ الدُّيُونِ لأُولَئِكَ المُرَابِينَ، فَيَعُمُّ الفَقرُ وَالسُّخطُ بَينَ الكَادِحِينَ وَالمُنتِجِينَ، فَيَفتَحُونُ قُلُوبَهُم لِلدَّعَوَاتِ الهَدَّامَةِ فَتَقُومُ الحَربُ، وَأَيسَرُ مَا يَقَعُ ـ وَمَا هُوَ بِيَسِيرٍ ـ خَرَابُ النُّفُوسِ وَانهِيَارُ الأَخلاقِ وَانطِلاقُ سُعَارِ الشَّهَوَاتِ، وَتَحَطُّمُ الكِيَانِ البَشَرِيِّ مِن أَسَاسِهِ وَتَدمِيرُهُ بِمَا لا تَبلُغُهُ أَفظَعُ الحُرُوبِ الذُّرِّيَّةِ المُرعِبَةِ.
إِنَّهَا الحَربُ المُسَعَّرةُ مِنَ اللهِ عَلَى المُتَعَامِلِينَ بِالرِّبَا، تَأكُلُ الأَخضَرَ وَتَلتَهِمُ اليَابِسَ، وَتَقضِي عَلَى كُلِّ مَا تُنتِجُهُ البَشرِيَّةُ الضَّالَّةُ الغَافِلَةُ مِن مَادِّيَّاتٍ تُعجَبُ بِخُضرَتِهَا وَزَهرَتِهَا وَكَثرَتِهَا، وَهِيَ الخُضرَةُ وَالزَّهرَةُ وَالكَثرَةُ الَّتي كَانَت حَرِيَّةً بِأَن تُسعِدَ البَشَرَ لَو أَنَّهَا نَشَأَت مِن مَنبتٍ زَكِيٍّ طَاهِرٍ، وَلَكِنَّهَا وَقَد خَرَجَت مِن مَنَابِعِ الرِّبَا المُلَوَّثَةِ، وَنَبَتَت عَلَى جَوَانِبِ مُستَنقَعَاتِهِ الآسِنَةِ، أَصبَحَت رُكَامًا خَنَقَ أَنفَاسَ البَشَرِيَةِ وَسَحَقَهَا سَحقًا، في حِينِ تَمَتَّعَت شِرذِمَةُ المُرَابِينَ العَالَمِيِّينَ بِهَذِهِ الأَموَالِ المَمحُوقَةِ البَرَكَةِ، وَمَضَت لا تُحِسُّ بِآلامِ البَشَرِيَّةِ المَسحُوقَةِ تَحتَ هَذَا الرُّكَامِ! أَفَتَرَى الحَكَمَ العَدلَ يُقِرُّ هَذَا الظُّلمَ وَيَرضَى بِهَذَا التَّجَاهُلِ لِعِبَادِهِ وَقَد أَخرَجَ لَهُمُ الطّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ لِيَستَمتِعُوا بِهَا وَيَعبُدُوهُ فَاستَأثَرَ بِهَا ظَالِمُونَ مُعتَدُونَ وَعَانَدُوهُ؟! لا وَاللهِ، لا يَرضَى العَزِيزُ الجَبَّارُ، فَاعتَبِرُوا يَا أُولي الأَبصَارِ.
فَالحَمدُ للهِ الَّذِي أَلبَسَ هَؤُلاءِ المُرَابِينَ لِبَاسَ الذِّلَّةِ وَالقِلَّةِ في الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبقَى، الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ. إِنَّهَا اللَّعنَةُ وَالنِّقمَةُ، عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيهِ وَكَاتِبَهُ، وَقَالَ: ((هُم سَوَاءٌ)).
إِنَّ المُجتَمَعَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الأَسَاسِ الرِّبَوِيِّ أَهلُهُ مَلعُونُونَ مُعَرَّضُونَ لِحَربِ اللهِ مَطرُودُونَ مِن رَحمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ في شَكٍّ مِن هَذَا أَيَّامَ نَشأَةِ النِّظَامِ الرَّأسِمَاليِّ الحَدِيثِ فَإِنَّ تَجرِبَةَ اليَومِ لم تُبقِ مَجَالاً لِلشَّكِّ أَبَدًا. إِنَّ عَالَمَ اليَومِ في أَنحَاءِ الأَرضِ لَهُوَ بِاعتِرَافِ عُقَلاءِ أَهلِهِ وَعُلَمَائِهِ وَمُفَكِّرِيهِ وَبِمُشَاهَدَاتِ المُرَاقِبِينَ وَالزَّائِرِينَ لأَقطَارِ الحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ عَالَمُ القَلَقِ وَالاضطِرَابِ وَالخَوفِ، عَالَمُ الأَمرَاضِ العَصَبِيَّةِ وَالنَّفسِيَّةِ، عَالَمُ الحُرُوبِ الشَّامِلَةِ وَالتَّهدِيدِ الدَّائِمِ، عَالَمُ حَربِ الأَعصَابِ وَالاضطِرَابَاتِ الَّتي لا تَنقَطِعُ، إَنَّهُ الشَّقَاءُ الَّذِي لا تُزِيلُهُ الحَضَارةُ المَادِّيَّةُ مَهمَا تَطَوَّرَت، وَالسَّبَبُ هُوَ خَوَاءُ الأَروَاحِ البَشَرِيَّةِ مِن زَادِ الرُّوحِ، مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَالاطمِئنَانِ إِلى اللهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قُلِ انظُرُوا مَاذَا في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا تُغنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لا يُؤمِنُونَ فَهَل يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِهِم قُل فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَينَا نُنجِ المُؤمِنِينَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُم في شَكٍّ مِن دِينِي فَلاَ أَعبُدُ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشرِكِينَ وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِوَكِيلٍ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقوا اللهَ تَعَالى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ، وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لاَ يُظلَمُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَيسَ الإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ في القُلُوبِ وَصَدَّقَتهُ الجَوَارِحُ وَالأَعمَالُ، الإِيمَانُ اعتِقَادٌ جَازِمٌ وَقَولٌ صَادِقٌ، لَهُ تَبِعَاتٌ وَآثَارٌ وَسِمَاتٌ، فَمَتى تَحَمَّلَ المَرءُ تِلكَ التَّبِعَاتِ وَأَتَى بما أُمِرَ بِهِ وَانتَهَى عَمَّا نُهِيَ عَنهُ، مَتى ظَهَرَت عَلَى جَوَارِحِهِ آثَارُ الإِيمَانِ وَبَرَزَت عَلَيهِ سِمَاتُهُ، مَتى بُنِيَت عَلَيهِ حَيَاتُهُ وَصُبِغَت بِهِ تَصَرُّفَاتُهُ، متى حُكِمَت بِهِ عِلاقَاتُهُ وَمُعَامَلاتُهُ كَانَ هُوَ المُؤمِنَ حَقًّا، أَمَّا مَن يَدَّعِي الإِيمَانَ وَأَعمَالُهُ لا تُثبِتُ لَهُ دَعوَاهُ، أَمَّا مَن يَدَّعِي الإِيمَانَ وَهُوَ لا يُقِيمُ لِلأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَزنًا وَلا يَقُومُ وَيقعُدُ إِلاَّ لِدُنيَاهُ فَمَا أَحرَاهُ بِالمَقتِ وَالبُعدِ مِنَ اللهِ.
فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن ظَللتُم تَبِيعُونَ في هَذِهِ المُسَاهَمَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَتَشتَرُونَ، يَا مَن تَتَهَاوَنُونَ بِالمُشتَبِهَاتِ وَلا تَتَوَرَّعُونَ، أَمَا آنَ لَكُم أَن تَتُوبُوا مِنهَا وَتَعُودُوا إِلى رَبِّكُم؟! أَمَا تَرَونَ الحَربَ قَد طَالَتنَا في بِلادِنَا وَشَبَّ أُوَارُهَا؟! أَمَا تَرونَهَا قَد ظَهَرَت في مُجتَمَعَاتِنَا وَثَارَ غُبَارُهَا؟! مَا نَعِيشُهُ مِن غَلاءٍ في الأَسعَارِ، مَا نَرَاهُ مِن شُحِّ الأَمطَارِ وَغَورِ المِيَاهِ في الآبَارِ، مَا نُحِسُّ بِهِ مِن قِلَّةِ البَرَكَةِ في الأَرزَاقِ وَالأَموَالِ، هَذَا القَلَقُ الَّذِي يَتَمَلَّكُ النُّفُوسَ، ذَلِكَ الضِّيقُ الَّذِي تَمتَلِئُ بِهِ الصُّدُورُ، تِلكُمُ العَدَاوَةُ المُلقَاةُ بَينَ النَّاسِ، الشَّحنَاءُ وَالبَغضَاءُ وَالشُّحُّ، أَتُرَونَ هَذِهِ أُمُورًا عَادِيَّةً غَيرَ مُستَنكَرَةٍ؟! إِنَّهَا وَرَبِّي لأَوضَحُ النُّذُرِ لِقَومٍ يَعقِلُونَ.
اللهُ يُنَادِيكُم بِاسمِ الإِيمَانِ: اِتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ ، لا تَأكُلُوا الرِّبَا أَضعَافًا مُضَاعَفَةً. فَالتَّوبَةَ التَّوبَةَ يَا عِبَادَ اللهِ، فَقَد دَعَا الإِسلامُ الجَمَاعَةَ المُسلِمَةَ الأُولى وَلا يَزَالُ يَدعُو البَشَرِيَّةَ كُلَّهَا إِلى المَشرَعِ الطَّاهِرِ النَّظِيفِ وَإِلى التَّوبَةِ مِنَ الإِثمِ وَالخَطِيئَةِ: وَإِن تُبتُم فَلَكُم رَؤُوسُ أَموَالِكُم لا تَظلِمُونَ وَلا تُظلَمُونَ. إِنَّ لِتَنمِيَةِ المَالِ وَسَائِلَهَا المُبَاحَةَ وَطُرُقَهَا النَّظِيفَةَ، سَوَاءٌ بِالعَمَلِ الفَردِيِّ وَالجُهدِ الذَّاتِيِّ، أَو بِالمُشَارَكَةِ الجَمَاعِيَّةِ التَّعَاوُنِيَّةِ، عَلَى طَرِيقَةِ المُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، بِإِعطَاءِ المَالِ مَن يَعمَلُ فِيهِ وَيُنَمِّيهِ بِالطُّرُقِ المُبَاحَةِ وَالوَسَائِلِ المَشرُوعَةِ، ثم يَقتَسِمُ الجَمِيعُ الرِّبحَ أَو يَتَحَمَّلُونَ الخَسَارَةَ مَعًا، أَو بِغَيرِ ذَلِكَ مِن وَسَائِلَ كَثِيرَةٍ لا تَخفَى عَلَى مَن آمَنَ قَلبُهُ وَصَحَّت نِيَّتُهُ وَأَرَادَ الرِّزقَ المُبَارَكَ وَطَلَبَ المَالَ الحَلالَ وَعَزَمَ عَلَى تَجَنُّبِ المَوارِدِ العَفِنَةِ النَّتِنَةِ، أَمَّا مَن أَبَى إِلاَّ الرِّبَا فَأَمَامَهُ مِنَ الخَسَارَةِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ مَا لا طَاقَةَ لَهُ بِهِ.
مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ أَن يَستَقِرَّ في النُّفُوسِ وَتَنعَقِدَ عَلَيهِ القُلُوبُ أَنَّ اللهَ سُبحَانَهُ هُوَ خَالِقُ هَذِهِ الحَيَاةِ، وَهُوَ مُستَخلِفُ الإِنسَانِ فِيهَا، وَهُوَ الآمِرُ بِتَنمِيَتِهَا وَتَرقِيَتِهَا، وَهُوَ المُرِيدُ لِهَذَا كُلِّهِ المُوَفِّقُ إِلَيهِ، العَالِمُ بما يُصلِحُ الشَّأنَ وَمَا يُفسِدُهُ، وَمِن ثَمَّ فَيستَحِيلُ أَن يُحَرِّمَ أَمرًا وَفِيهِ خَيرٌ لِلبَشَرِيَّةِ أَو صَلاحٌ، أَو قِيَامٌ لِحَيَاتِهَا أَو تَقَدُّمٌ. وَمَن تَرَاءَى لَهُ خِلافُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مِن خَلَلِ تَصَوُّرِهِ وَسُوءِ فَهمِهِ وَتَأَثُّرِهِ بِالدِّعَايَةِ المسمُومَةِ الَّتي دَأَبَت دُوَلُ الكُفرِ عَلَى بَثِّهَا وَزَرعِهَا في أَفكَارٍ بَعُدَت عَنِ اللهِ وَتَعَلَّقَت بِغَيرِهِ، وَمَن لم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ.
(1/5736)
تأملات في آيات الربا في كتاب الله
العلم والدعوة والجهاد, فقه
البيوع, القرآن والتفسير
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
18/10/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير القرآن الكريم من الربا. 2- الكلام على آيات الربا في سورة البقرة. 3- تدبر آيات الربا في سورة آل عمران. 4- شرح آيات الربا في سورة النساء. 5- آية الربا في سورة الروم. 6- ذم الربا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد آنَ لِلأُمَّةِ وَهِيَ تَرَى مَا آلَت إِلَيهِ أَحوَالُ المُرَابِينَ وَمَا انتَهَت إِلَيهِ أَموَالُهُم أَن تَتُوبَ إِلى اللهِ وَتَذَرَ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا؛ طَلَبًا لِمَا عِندَهُ تَعَالى مِنَ الأَجرِ وَالثَّوَابِ، وَخَوفًا ممَّا أَعَدَّهُ لِلمُرَابِينَ مِنَ الإِثمِ وَالعِقَابِ. وَقَد شَنَّ القُرآنُ عَلَى الرِّبَا وَآكِلِيهِ حَملَةً شَنِيعَةً وَهَدَّدَهُم وَتَوَعَّدَهُم، ثم أَرشَدَ الأُمَّةَ إِلى المَنهَجِ الاقتِصَادِيِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، تَعوِيضًا لها عَن هَذَا الوَجهِ الكَالِحِ مِن وُجُوهِ الجَاهِلِيَّةِ الجَهلاءِ، وَتَنْزِيهًا لها عن ذَلِكَ الخُلُق مِنَ أَخلاقِهَا العَميَاءِ، حَيثُ أَبدَلَهَا وَجهًا حَسَنًا مُشرِقًا يَتَمَثَّلُ في الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالإِنفَاقِ في سَبِيلِهِ وَالإِعطَاءِ لِوَجهِهِ.
وَأَوَّلُ مَا يُوَاجِهُ القَارِئَ لِكِتَابِ اللهِ مِن حَربِ الرِّبَا قَولُهُ سُبحَانَهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ: الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلى اللهِ وَمَن عَادَ فَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ يمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ فَإِن لم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لاَ تَظلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ [البقرة: 275-279].
تَبدَأُ الآيَاتُ بِتَصوِيرِ المُرَابِينَ بِصَورَةٍ مُرعِبَةٍ مُخِيفَةٍ، صُورَةٌ تُفزِعُ مَن رَآهَا وَتُرَوِّعُهُ، وَتَهُزُّ فُؤَادَهُ وَتَخلَعُهُ، إِنَّهَا صُورَةُ المَصرُوعِ مَن مَسِّ الجِنِّ، يَضطَرِبُ وَيَتَخَبَّطُ عَلَى غَيرِ هُدًى، وَيَتَمَرَّغُ وَيَهذِي وَيَهرِفُ، وَقَد مَضَى عَامَّةُ المُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ المَقصُودَ بِالقِيَامِ في هَذِهِ الصُّورَةِ المُفزِعَةِ هُوَ القِيَامُ مِنَ القُبُورِ يَومَ النُّشُورِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ ـ وَالعِلمُ عِندَ اللهِ ـ وَاقِعَةٌ قَبلَ ذَلِكَ في حَيَاةِ المُرَابِينَ وَقَبلَ مماتِهِم وَنُشُورِهِم، إِذْ تَرَاهُم وَهُم يَسعَونَ لِتَحصِيلِ المَالِ مِن أَيِّ وَجهٍ وَجَمعِهِ بَأَيَّةِ طَرِيقَةٍ، تَرَاهُم كَالمَجَانِينِ أَو هُمْ أَشَدُّ، وَاذهَبْ إِلَيهِم في صَالاتِ الأَسهُمِ تَرَ العَجَبَ ممَّا يُصيبُهُم مِن هَلَعٍ وَتَوَتُّرٍ وَقَلَقٍ، يَعقُبُهُ ارتِفَاعٌ في ضَغطِ الدَّمِ وَتَذَبذُبٌ في مُستَوى السُّكَّرِ، ثم إِغمَاءٌ وَغِيَابٌ عَنِ الوَاقِعِ، يَصِلُ بِبَعضِهِم إِلى أَن يُنقَلُوا إِلى المُستَشفَيَاتِ مَرضَى مَعلُولِينَ، أَو إِلى المَقَابِرِ مَوتَى مُوَدّعِينَ، كُلُّ ذَلِكَ هَمًّا وَكَمَدًا إِذَا نَزَلَ المُؤشِّرُ نَقَاطًا مَعدُودَةً أَو هَبَطَت قِيمَةُ الأَسهُمِ عِدَّةَ رَيَالاتٍ.
وَلأَنَّ المُرَابِينَ لا يهمُّهُم إِلاَّ مَا يَربَحُونَهُ لأَنفُسِهِم وَيَحُوزُونَهُ في جُيُوبِهِم فَقَدِ اعتَرَضُوا في عَهدِ رَسُولِ اللهِ عَلَى تَحرِيمِ الرِّبَا، وَ قَالُوا إَنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا ، فَكَمَا أَنَّ البَيعَ يُحَقِّقُ فَائِدَةً وَيَجلِبُ رِبحًا فَالرِّبَا في نَظرِهِم يُحَقِّقُ فَائِدَةً وَرِبحًا، وَهِيَ شُبهَةٌ ضَعِيفَةٌ وَحُجَّةٌ وَاهِيَةٌ وَاستِدلالٌ فَاسِدٌ؛ إِذْ إِنَّ عَمَلِيَّاتِ البَيعِ قَابِلَةٌ لِلرِّبحِ وَلِلخَسَارَةِ تَبَعًا لِمَهَارَةِ الشَّخصِ وَجُهدِهِ الذَّاتيِّ وَأَحوَالِ الحَيَاةِ، أَمَّا العَمَلِيَّاتُ الرِّبَوِيَّةُ فَالرِّبحُ فِيهَا مَضمُونٌ وَمُحَدَّدٌ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الرَّئِيسُ لِتَحرِيمِ الرِّبَا، حَيثُ يَربَحُ طَرَفٌ رِبحًا مُحَقَّقًا عَلَى حِسَابِ خَسَارَةِ الآخَرِ وَغَبنِهِ غَبنًا فَاحِشًا، وَمِن ثَمَّ فَقَد أَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ، وَعَرَضَ عَلَى المُرَابِينَ التَّوبَةَ في قَولِهِ: فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلى اللهِ ، فَمَن تَابَ وَانتَهَى فَلا يُستَرَدُّ مِنهُ مَا سَلَفَ أَن أَخَذَهُ مِنَ الرِّبَا، وَأَمرُهُ إِلى اللهِ يَحكُمُ فِيه بِمَا يُرِيدُهُ، ثُمَّ هَدَّدَ سُبحَانَهُ بِالنَّارِ مَن لم يَتُبْ وَعَادَ إِلى الرِّبَا مَرَّةً بَعدَ أُخرَى فَقَالَ: وَمَن عَادَ فَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ ، وَلأَنَّ كَثِيرِينَ قَد يَطُولُ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَتَقسُو قُلُوبُهُم وَيَنسَونَ الآخِرَةَ فَقَد أُنذِرُوا بِالمَحقِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ جَمِيعًا.
وَقَرَّرَ القُرآنُ لهم أَنَّ الصَّدَقَاتِ هِيَ الَّتي تَربُو وَتَزكُو، ثم وَصَمَ الَّذِينَ لا يَستَجِيبُونَ بِالكُفرِ وَالإِثمِ، وَلَوَّحَ لهم بِكُرهِ اللهِ لِلكَفَرَةِ الآثِمِينَ، فَقَالَ: يَمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ، وَصَدَقَ اللهُ وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً؟! فَهَا نَحنُ نَرَى أَنَّهُ مَا مِن مُجتَمَعٍ يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا ثم تَبقَى فِيهِ بَرَكَةٌ أَو يَدُومَ لَهُ رَخَاءٌ أَو تَستَمِرَّ سَعَادَتُهُ أَو يَنتَشِرَ أَمنُهُ، فَهَا هُوَ عَالَمُ الغَربِ وَمَن سَارَ عَلَى نَهجِهِ يَصحُو وَيَنَامُ عَلَى حُرُوبٍ قَائِمَةٍ وَأُخرَى مُنتَظَرَةٍ، وَتَثقَلُ الحَيَاةُ عَلَى النَّاسِ فِيهِ يَومًا بَعدَ يَومٍ، وَلا يُبَارَكُ لهم في مَالٍ وَلا في صِحَّةٍ. وَفي المُقَابِلِ نَجِدُ أَنَّهُ مَا مِن مُجتَمَعٍ قَامَ عَلَى التَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ المُمَثَّلَينِ في الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ إِلاَّ سَادَتهُ رُوحُ المُوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ، وَانتَشَرَ فِيهِ الرِّضَا وَالطُّمَأنِينَةُ، وَبَارَكَ اللهُ لأَهلِهِ في أَموَالِهِم وَوَسَّعَ أَرزَاقَهُم، وَأَدَامَ أَمنَهُم وَأَتَمَّ صِحَّتَهُم، وَزَادَ قُوَّتَهُم وَأرَاحَ نُفُوسَهُم.
وَقُولُهُ تَعَالى في آخِرِ الآيَةِ الَّتي نَهَى فِيهَا عَنِ الرِّبَا: وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ مَن أَصَرَّ عَلَى التَّعَامُلِ الرِّبَوِيِّ بَعدَ تَحرِيمِهِ فَقَدِ اختَارَ عَمَل الكُفَّارِ الآثِمِينَ وَلَو شَهِدَ بِلِسَانِهِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَالإِسلامُ لَيسَ كَلِمَةً بِاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ نِظَامُ حَيَاةٍ وَمَنهَجُ عَمَلٍ، وَإِنكَارُ جُزءٍ مِنهُ كَإِنكَارِ كُلِّهِ، وَلَيسَ في حُرمَةِ الرِّبَا شَكٌّ أَو شُبهَةٌ، وَلا في اعتِبَارِهِ حَلالاً وَإِقَامَةِ الحَيَاةِ عَلَى أَسَاسِهِ إِلاَّ الكُفرُ وَالإِثمُ.
وَبَعدَ هَذِهِ الآيَاتِ المُبَيِّنَةِ لِعَظِيمِ إِثمِ المُرَابِينَ وَعِظَمِ التَّهدِيدِ لِلمُتَّخِذِينَ لِلرِّبَا مَنهَجًا وَنِظَامًا يَعرِضُ القُرآنُ صَفحَةَ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ، وَيُبَيِّنُ خَصَائِصَ الجَمَاعَةِ المُؤمِنَةِ في هَذَا الجَانِبِ، وَيَعرِضُ القَاعِدَةَ الَّتي يَسِيرُ عَلَيهَا المُجتَمَعُ المُؤمِنُ، فَيَقُولُ سُبحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ ، وَالعُنصُرُ البَارِزُ في هَذِهِ الصَّفحَةِ هُوَ عُنصُرُ الزَّكَاةِ، عُنصُرُ البَذلِ بِلا عِوَضٍ وَالعَطَاءِ بِلا انتِظَارِ ثَمَنٍ، وَالَّذِي مِن ثَمَرَاتِهِ الأَمنُ وَالطُّمَأنِينَةُ وَرِضَا اللهِ وَرَحمَتُهُ لِهَذَا المُجتَمَعِ.
وَفي ظِلِّ هَذَا الرَّخَاءِ الآمِنِ الَّذِي يَعِدُ اللهُ بِهِ الجَمَاعَةَ المُسلِمَةَ الَّتي تَنبُذُ الرِّبَا مِن حَيَاتِهَا وَتَقِيمُهَا عَلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ وَالعِبَادَةِ وَالزَّكَاةِ يَهتِفُ القُرآنُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الهُتَافَ الأَخِيرَ لِيُحَوِّلُوا حَيَاتَهُم عَنِ النِّظَامِ الرِّبَوِيِّ الدَّنِسِ المَقِيتِ الظَّالِمِ، وَإِلاَّ فَهِيَ الحَربُ المُعلَنَةُ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ بِلا هَوَادَةٍ وَلا إِمهَالٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ فَإِن لم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لاَ تَظلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ. إِنَّهُ تَعلِيقٌ لإِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى تَركِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فَهُم لَيسُوا بِمُؤمِنِينَ حَقًّا إِلاَّ أَن يَتَّقُوا اللهَ وَيَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا. وَفي الأَمرِ بِالتَّقوَى قَبلَ النَّهيِ عَنِ الرِّبَا بَيَانُ أَنَّهُ مَا لم يَقُمْ في القَلبِ مِن تَقوَى اللهِ سُلطَانٌ يَحرُسُهُ وَيُمنَعُهُ مِن مَعصِيَةِ اللهِ فَلَن تُغنِيَ عَنهُ أَنوَاعُ التَّرهِيبِ الدُّنيَوِيَّةُ شَيئًا، وَلَن يَردَعَهُ عِقَابٌ أَو قَانُونٌ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَلَعَلَّ المُتَدَبِّرَ في أَوَاخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ يَلحَظُ الجَمعَ بَينَ الحَدِيثِ عَنِ الرِّبَا وَالحَدِيثِ عَنِ الصَّدَقَةِ بِوَصفِهِمَا الوَجهَينِ المُتَقَابِلَينِ لِلعِلاقَاتِ الاجتِمَاعِيَّةِ في النِّظَامِ الاقتِصَادِيِّ، وَبِوَصفِهِمَا السِّمَتَينِ البَارِزَتَينِ لِنَوعَينِ مُتَبَايِنَينِ مِنَ النُّظُمِ: النِّظَامِ الرِّبَوِيِّ الفَردِيِّ الرَّأسِمَاليِّ، وَالنِّظَامِ التَّعَاوُنِيِّ الجَمَاعِيِّ الإِسلامِيِّ، وَهَذَا مَا يَجِدُهُ المُتَدَبِّرُ لِكِتَابِ رَبِّهِ أَيضًا في آيَاتِ سُورَةِ آلِ عِمرَانَ، حَيثُ جُمِعَ الحدِيثُ عَنِ الرِّبَا وَعَنِ الإِنفَاقِ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في آيَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا الرِّبَا أَضعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ [آل عمران: 131-134]. فَبَعدَ النَّهيِ عَن أَكلِ الرِّبَا وَالدَّعوَةِ إِلى التَّقوَى رَجَاءَ الرَّحمَةِ وَالفَلاحِ، وَبَعدَ التَّحذِيرِ مِنَ النَّارِ الَّتي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ يَجِيءُ الأَمرُ بِالمُسَارَعَةِ إِلى المَغفِرَةِ وَإِلى جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ، ثم يَكُونُ الوَصفُ الأَوَّلُ لأُولَئِكَ المُتَّقِينَ هُوَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، فَهُمُ الفَرِيقُ المُقَابِلُ لِلَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا أَضعَافًا مُضَاعَفَةً، إِنَّهُمُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، لا تُبطِرُهُمُ السَّرَّاءُ فَتُطغِيهُم، وَلا تُضجِرُهُمُ الضَّرَّاءُ فَتُنسِيهُم، وَلَكِنَّهُم قَائِمُونَ بِالوَاجِبِ في كُلِّ حَالٍ، ثَابِتُونَ عَلَى البَذلِ وَالعَطَاءِ في كُلِّ وَقتٍ، مُتَحَرِّرُونَ مِنَ الشُّحِّ وَالبُخلِ وَالحِرصِ، مُرَاقِبُونَ للهِ مُتَّقُونَ لَهُ.
أَمَّا التَّعقِيبُ عَلَى هَذَا النَّهيِ بِالأَمرِ بِتَقوَى اللهِ وَاتِّقَاءِ النَّارِ الَّتي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ فَمَفهُومُهُ أَنَّهُ لا يَأكُلُ الرِّبَا إِنسَانٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَخَافُ النَّارَ الَّتي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ، وَأَنَّهُ لا يَأكُلُ الرِّبَا إِنسَانٌ يُؤمِنُ بِاللهِ وَيُرِيدُ أَن يَعزِلَ نَفسَهُ مِن صِفَاتِ الكَافِرِينَ، وَيُفهَمُ مِنهُ أَنَّهُ مِنَ المُحَالِ أَن يَجتَمِعَ إِيمَانٌ وَنِظَامٌ رِبَوِيٌّ في مَكَانٍ، وَأَنَّهُ حَيثُمَا قَامَ النِّظَامُ الرِّبَوِيُّ فَثَمَّةَ الخُرُوجُ مِن دَائِرَةِ الإِيمَانِ، وَهُنَاكَ النَّارُ الَّتي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ، وَهُنَاكَ الشَّقَاءُ وَالنَّكَدُ وَعَدَمُ الفَلاحِ، وَأَنَّهُ حَيثُ نَظُفَ المُجتَمَعُ مِنَ الرِّبَا وَتَرَكَ المُؤمِنُونَ التَّعَامُلَ بِهِ تَقَوى للهِ وَطَاعَةً لَهُ وُجِدَ الفَلاحُ وَالصَّلاحُ.
ثم يَجِيءُ التَّوكِيدُ الأَخِيرُ: وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ ، وَهُوَ أَمرٌ عَامٌّ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعلِيقٌ لِلرَّحمَةِ بِهَذِهِ الطَّاعَةِ العَامَّةِ، وَلَكِنَّ لِلتَّعقِيبِ بِهِ عَلَى النَّهيِ عَنِ الرِّبَا دَلالَةً خَاصَّةً، وَهِيَ أَنَّهُ لا طَاعَةَ للهِ وَلِلرَّسُولِ في مُجتَمَعٍ يَقُومُ عَلَى النِّظَامِ الرِّبَوِيِّ، وَلا طَاعَةَ للهِ وَلِلرَّسُولِ في قَلبٍ يَأكُلُ الرِّبَا، وَهَكَذَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّعقِيبُ تَوكِيدًا بَعدَ تَوكِيدٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَفي مَوضِعٍ آخَرَ مِن كِتَابِ اللهِ وَفي سُورَةِ النِّسَاءِ نَجِدُ لِلرِّبَا ذِكرًا في صِفَاتِ اليَهُودِ الَّتي استَحَقُّوا بها اللَّعنَ وَالطَّردَ مِن رَحمَةِ اللهِ وَحِرمَانَهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالحَلالِ، قَالَ سُبحَانَهُ: فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخذِهِمُ الرِّبَا وَقَد نُهُوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَأَعتَدنَا لِلكَافِرِينَ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 160، 161]. أَوَلَيسَ في ذَلِكَ عِبرَةٌ لِمَن حُرِمَ البَرَكَةَ في الرِّزقِ؟! أَوَلَيسَ في ذَلِك عِبرَةٌ لِمُجتَمَعَاتٍ مُنِعَت بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ؟! أَولَيسَ في ذَلِكَ عِبرَةٌ لِمَن غَلَت عَلَيهِمُ الأَسعَارُ وَشَحَّت عَنهُمُ الأَمطَارُ؟! بَلَى إِنَّهُ لَكَذَلِكَ، وَلَيسَ بَينَ اللهِ وَبَينَ أَحَدٍ مِن خَلقِهِ عَهدٌ أَن لاَّ يُعَذِّبَهُ إِذَا عَصَاهُ أَو يُعَاقِبَهُ إِذَا خَالَفَ أَمرَهُ وَانتَهَكَ حُرُمَاتِهِ، لَكِنَّهَا لا تَعمَى الأَبصَارُ وَلَكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتي في الصُّدُورِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَفي آيَاتٍ مِن سُورَةِ الرُّومِ يُوَجِّهُ الرَّبُّ جَلَّ وَعَلا أَصحَابَ المَالِ إِلى خَيرِ الطُّرُقِ لِلتَّنمِيَةِ وَالفَلاحِ، وَهِيَ إِيتَاءُ ذِي القُربى وَالمِسكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ وَالإِنفَاقُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ في سَبِيلِ اللهِ، وَقَد كَانَ بَعضُهُم كَمَا هِيَ الحَالُ اليَومَ يُحَاوِلُ تَنمِيَةَ مَالِهِ بِإِهدَاءِ الهَدَايَا إِلى المُوسِرِينَ مِنَ النَّاسِ كَي تُرَدَّ عَلَيهِ الهَدِيَّةُ مِنهُم مُضَاعَفَةً، فَبَيَّنَ لهم أَنَّ هَذَا لَيسَ هُوَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ لِلنَّمَاءِ الحَقِيقِيِّ، قَالَ سُبحَانَهُ: وَمَا آتَيتُم مِن رِبًا لِيَربُوَ في أَموَالِ النَّاسِ فَلا يَربُو عِندَ اللهِ وَمَا آتَيتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضعِفُونَ [الروم: 39]. هَذِهِ هِيَ الوَسِيلَةُ المَضمُونَةُ لِمُضَاعَفَةِ المَالِ، إِعطَاؤُهُ لِوَجهِ اللهِ بِلا تَحَرٍّ لِمُقَابِلٍ مِنَ الخَلقِ الفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ، وَبَذلُهُ رَجَاءَ مَا عِندَ اللهِ بِلا انتِظَارٍ لِرَدٍّ وَلا عِوَضٍ مِنَ النَّاسِ، فَاللهُ هُوَ الَّذِي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ، وَهُوَ الَّذِي يُعطِي وَيَمنَعُ، وَهُوَ الَّذِي يُضَاعِفُ لِلمُنفِقِينَ ابتِغَاءَ وَجهِهِ، وَيُنقِصُ مَالَ المُرَابِينَ الَّذِينَ يَبتَغُونَ وُجُوهَ النَّاسِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ الرِّبَا نِظَامٌ مَالِيٌّ يَهُودِيٌّ ظَالِمٌ مُتَعَسِّفٌ، نَصَّ القُرآنُ عَلَى تَحرِيمِهِ وَأَعلَنَ الحَربَ عَلَى أَهلِهِ، وَجَاءَ فِيهِ وَفي السُّنَّةِ تَقبِيحُهُ وَالتَّنفِيرُ مِنهُ، وَثَبَتَ بِالوَاقِعِ فَشَلُهُ وَوَخِيمُ أَضرَارِهِ عَلَى الأَفرَادِ وَالشُّعُوبِ وَالأُمَمِ، فَاتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا الرِّبَا، فَإِنَّ اللهَ سُبحَانَهُ ـ وَهُوَ خَالِقُ هَذَا الكَونِ وَخَالِقُ الإِنسَانِ وَمَالِكُ كُلِّ شَيءٍ ـ حِينَ استَخلَفَ الإِنسَانَ في هَذِهِ الأَرضِ وَمَكَّنَهُ ممَّا ادَّخَرَ لَهُ فِيهَا مِن أَرزَاقٍ وَأَقوَاتٍ وَقُوًى وَطَاقَاتٍ لم يَترُكْ لَهُ ذَلِكَ فَوضَى يَصنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ كَيفَ شَاءَ، وَإِنَّمَا استَخلَفَهُ فِيهِ في إِطَارٍ مِنَ الحُدُودِ الوَاضِحَةِ وَالرُّسُومِ البَيِّنَةِ، فَإِنْ هُوَ سَارَ عَلَى وِفقِ مَا أُمِرَ بِهِ وَوَقَفَ عِندَ حُدُودِ مَا نُهِيَ عَنهُ كَانَ فِعلُهُ صَحِيحًا نَافِذًا، وَإِنْ هُوَ خَالَفَ فَفِعلُهُ باطِلٌ مَردُودٌ، فَإِن هُوَ عَصَى رَبَّهُ وَأَنفَذَ مَا تَشتَهِيهِ نَفسُهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنهُ ظُلمٌ وَاعتِدَاءٌ لا يَرضَاهُ اللهُ وَلا يُقِرُّهُ المُؤمِنُونَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا ممَّا في الأَرضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقوَى، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد كَلَّفَ اللهُ عِبَادَهُ بِالعَمَلِ، وَنَدَبَهُم إِلى السَّعيِ وَطَلَبِ الرِّزقِ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ وَاستِعدَادِهِ وَفِيمَا يَسَّرَهُ لَهُ، ثم جَعَلَ سُبحَانَهُ الزَّكَاةَ فَرِيضَةً في المَالِ مُحدَّدَةً، وَدَعَا إِلى الصَّدَقَةِ وَأثابَ عَلَيهَا، وَأَمَرَ بِالقَصدِ وَالاعتِدَالِ، وَنَهَى عَنِ السَّرَفِ وَالشَّطَطِ، وَشَرَطَ عَلَيهِم أَن يَلتَزِمُوا في تَنمِيَةِ أَموَالِهِم وَسَائِلَ لا يَنشَأُ عَنهَا أَذًى لِلآخَرِينَ، وَلا يَكُونُ مِن جَرَّائِهَا تَعوِيقٌ أَو تَعطِيلٌ لِجَرَيَانِ الأَرزَاقِ بَينَ العِبَادِ، أَمَّا الرِّبَا فَهُوَ نِظَامٌ يَقُومُ عَلَى تَصَوُّرٍ لا نَظَرَ فِيهِ للهِ طَرفَةَ عَينٍ، وَمِن ثَمَّ فَلا رِعَايَةَ فِيهِ لِلمَبَادِئِ وَالغَايَاتِ وَالأَخلاقِ الَّتي يُرِيدُ اللهُ أَن تَقُومَ عَلَيهَا الحَيَاةُ، إِنَّهُ يَقُومُ عَلَى أَسَاسِ أَنَّ الإِنسَانَ هُوَ سَيِّدُ هَذِهِ الأَرضِ، وَأَنَّهُ حُرٌّ في وَسَائِلِ حُصُولِهِ عَلَى المَالِ وَفي طُرُقِ تَنمِيَتِهِ، حُرٌّ في التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالتَّمَتُّعِ بِهِ، وَهُوَ غَيرُ مُلزَمٍ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِ رَبِّهِ وَلا مُقَيِّدٍ بِمَصلَحَةِ الآخَرِينَ، وَمِن ثَمَّ فَلا اعتِبَارَ لَدَيهِ لأَن يَخسَرَ النَّاسُ أَو يُسحَقُوا إِذَا هُوَ أَضَافَ إِلى رَصِيدِهِ مَا يَستَطِيعُ إِضَافَتَهُ، وَلِذَا فَهُوَ يَضرمُ عَلَى جَمعِ المَالِ وَيَحتَدِمُ، وَيَدُوسُ في سَبِيلِ التَّمَتُّعِ بِهِ كُلَّ مَبدَأٍ وَيَتَجَاهَلُ كُلَّ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَعَلَى هَذَا فَالرِّبَا يُنشِئُ في النِّهَايَةِ نِظَامًا يَسحَقُ البَشَرِيَّةَ سَحقًا وَيَدُوسُ مَا لها مِن كَرَامَةٍ، وَيُشقِيهَا في حَيَاتِهَا أَفرَادًا وَجَمَاعَاتٍ وَدُوَلاً وَشُعُوبًا، فَالحَذَرَ الحَذَرَ الحَذَرَ، وَهَلُمَّ جَمِيعًا إِلى حَيَاةِ الإِيمَانِ وَالتَّقوَى وَالوَرَعِ، هَلُمَّ إِلى الرِّزقِ الحَلالِ في عَفَافٍ وَقَنَاعَةٍ، فَقَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ، هَيَّا إِلى حَيَاةِ التَّرَاحُمِ وَالتَّكَافُلِ وَالعَطَاءِ، فَإِنَّمَا يَرحَمُ اللهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَلا يَغُرَّنَّكُم أَن أَخَذَت مُؤَشِّرَاتُ الأَسوَاقِ في الارتِفَاعِ في اليَومَينِ المَاضِيَينِ، وَاترُكُوا الأَمرَ للهِ، يُعَوِّضْكُمُ اللهَ خَيرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُم وَيُبَارِكْ لَكُم فِيمَا بَقِي مِن أَموَالِكُم، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ.
(1/5737)
ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع
فقه
الصلاة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
2/11/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طريق الإصلاح. 2- فضل الصلاة. 3- أهمية الصلاة والحث على العناية بها. 4- التحذير من التهاون بالصلاة. 5- أمر الأهل بالصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُوهُ، وَأَوفُوا بَالعَهدِ وَلا تَنقُضُوهُ، بَلَى مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد عَلِمَ المُوَفَّقُونَ مِن عِبَادِ اللهِ أَنَّ مَا أَصَابَهُم مِن مُصِيبَةٍ وَمَا ظَهَرَ في الأَرضِ مِن فَسَادٍ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَا كَسَبَت أَيدِيهِم، وَأَنَّ أَوَّلَ خُطوَةٍ في طَرِيقِ الإِصلاحِ إِنّمَا هِيَ تَحدِيدُ مَا لَدَيهِم مِن أَوجُهِ الزَّلَلِ وَالقُصُورِ، وَاعتِرَافُهُم بِخَطَئِهِم وَظُلمِهِم أَنفُسَهُم، وَمِن ثَمَّ العَمَلُ عَلَى تَلافي القُصُورِ وَالسَّعيُ في تَصحِيحِ الخَطَأِ وَتَعدِيلِ المَسَارِ.
وَبَعدُ: أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَنَحنُ نَشكُو قِلَّةَ الأَمطَارِ وَغَورَ الآبَارِ وَغَلاءَ الأَسعَارِ، وَنَحنُ نَرَى تَعَقُّدَ الأُمُورِ وَنَعَيِشُ ضِيقًا في الصُّدُورِ، وَنَحنُ نَتَجَرَّعُ مَرَارَةَ الأَمرَاضِ وَالأَدوَاءِ، وَتَرزَحُ أُمَّتُنَا تَحتَ تَسَلُّطِ الأَعدَاءِ، فَيَجِبُ عَلَينَا أَن لاَّ نَذهَبَ بَعِيدًا في تَلَمُّسِ أَسبَابِ ذَلِكَ البَلاءِ، أَو نُجهِدَ أَنفُسَنَا بِالبَحثِ عَنهَا بِاستِقصَاءٍ، قَبلَ أَن نَقِفَ مَعَ عِمَادِ أَمرِنَا ورُكنِ دِينِنَا، فَإِذَا رَأَينَاهُ مُستَقِيمًا وَالأَمرُ فِيهِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ رَبُّنَا فَلْنُحَاسِبْ أَنفُسَنَا عَلَى سَائِرِ الأَعمَالِ بَعدَهُ، وَإِنْ نحنُ وَجَدنَا العَمُودَ مَكسُورًا وَالرُّكنَ مَهصُورًا فَلِمَاذَا نَشُدُّ الطُّنُبَ مِن حَولِنَا وَنَستَنكِرَ أَن يَسقُطَ عَلَينَا السَّقفُ مِن فوقِنَا؟!
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد عَلِمتُم أَنَّ الصَّلاةَ هِيَ عَمُودُ الدِّينِ وَرُكنُهُ الرَّكِينُ، وَأَنَّهَا قُرَّةُ عُيُونِ المُؤمِنِينَ وَمِعرَاجُ أَفئِدَةِ المُتَّقِينَ، وَأَنَّهَا كَانَت مَفزِعَ المُضطَّرِّينَ وَمَلاذَ المَكرُوبِينَ، يَتَقَرَّبُونَ بها إِلى رَبِّهِم وَيَنطَرِحُونَ بَينَ يَدَيهِ، وَيَرفَعُونَ فِيهَا حَاجَاتِهِم وَضَرُورَاتِهِم إِلَيهِ، وَيَشكُونَ لَهُ في ثَنَايَاهَا مَا يُصِيبُهُم، فَيَجِدُونَ مِنهُ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ وَكَشفَ البَلاءِ وَرَفعَ اللأْوَاءِ، وَكَانَتِ الخَيرَاتُ عَلَيهِم نَازِلَةً وَالأَرزَاقُ وَاسِعَةً، وَالبَرَكَاتُ فِيهِم دَارَّةٌ وَالخَيرَاتُ وَافِرَةٌ، حتى خَلَفَ مِنَّا قَومٌ أَلهَتهُمُ المَادَّةُ عَمَّا يُغَذِّي الأَروَاحَ، وَشَغَلَتهُم دُنيَاهُم عَن زَادِ قُلُوبِهِم، فَهَدَمُوا رُكنَ الدِّينِ وَكَسَرُوا عَمُودَهُ، وَقَطَعُوا الصِّلَةَ وَضَعُفَ مِنهُمُ الاتِّصَالُ، وَفَرَّطُوا في فَوَاتِحِ الخَيرِ وَقَصَّرُوا في خَوَاتِمِهِ، وَغَفَلُوا عَن أَنَّهُ لَيسَ بَينَ الرَّجُلِ وَالكُفرِ وَالشِّركِ إِلاَّ تَركُ الصَّلاةِ، وَأَنَّ مَن تَرَكَ الصَلاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَد بَرِئَت مِنهُ ذِمَّةُ اللهِ، وَأَنَّهُ لا حَظَّ في الإِسلامِ لِمَن تَرَكَ الصَّلاةَ، وَأَنَّ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ لم يَكُونُوا يَرَونَ شَيئًا مِنَ الأَعمَالِ تَركُهُ كُفرٌ غَيرَ الصَّلاةِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، ألم تَرَوا أَنَّ رَبَّكُم لَمَّا أَرَادَ أَن يَفرِضَ عَلَى نَبِيِّكُمُ الصَّلاةَ فَرَضَهَا عَلَيهِ في السَّمَوَاتِ العُلَى حِينَ أَسرَى به مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسجِدِ الأَقصَى، ثم رَفَعَهُ إِلَيهِ وَقَرَّبَهُ فَأَوحَى إِلَيهِ مَا أَوحَى، وَأَعطَاهُ مِنَ الخَيرِ حَتى رَضِيَ، ثم فَرَضَ عَلَيهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ الصَّلوَاتِ الخَمسَ؟! ثم أَلم تَرَوا إِلى نَبِيِّكُم بَعدَ ذَلِكَ كَيفَ ظَلَّ مُتَمَسِّكًا بِهَذِهِ الصَّلاةِ مُحَافِظًا عَلَيهَا مُهتَمًّا بِأَمرِهَا مُعَظِّمًا لِشَأنِهَا حَتى كَانَت هِيَ آخِرَ مَا أَوصَى بِهِ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ المَوتِ حَيثُ صَاحَ مُنَادِيًا: ((الصَّلاةَ الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَت أَيمَانُكُم)) ؟! ألم تَعلَمُوا أَنَّ الصَّلاةَ هِيَ أَكثَرُ الفَرَائِضِ في القُرآنِ ذِكرًا وَأَنَّهَا مَا ذُكِرَت مَعَ فَرِيضَةٍ غَيرِهَا إِلاَّ قُدِّمَت عَلَيهَا؟! أَلم تَعلَمُوا أَنَّهَا أَصلٌ وَغَيرَهَا فَرعٌ، لا يَقبَلُ اللهُ مِن تَارِكِهَا زَكَاةً وَلا صَومًا وَلا حَجًّا، وَلا يَأجُرُهُ عَلَى صَدَقَةٍ وَلا دَعوَةٍ وَلا جِهَادٍ، وَلا يُثِيبُهُ عَلَى أَمرٍ بِمَعرُوفٍ وَلا نَهيٍ عَن مُنكَرٍ، وَلا يَشفَعُ لَهُ عِندَهُ حُسنُ خُلُقٍ أَو طِيبُ تَعَامُلٍ؟! أَلم تَرَوا كَيفَ افتُتِحَت بها صِفَاتُ المُؤمِنِينَ المُفلِحِينَ وَبها خُتِمَت، قَالَ سُبحَانَهُ: قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ الَّذِينَ هُم في صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ ، ثم قَالَ في آخِرِ صِفَاتِهِم: وَالَّذِينَ هُم عَلَى صلاتِهِم يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَالِدُونَ ؟!
إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ هِيَ صِلَتُكُم بِرَبِّكُم، إِنَّهَا نُورُ وُجُوهِكُم وَسَعَةُ أَرازَقِكُم، وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لاَ نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى ، إِنَّهَا صَلاحُ أَبدَانِكُم وَأَوطَانِكُم، وَزَكَاءُ أَروَاحِكُم وَمَصدَرُ فَلاحِكُم، إِنَّهَا المَنهَاةُ لَكُم عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ، إِنَّهَا عَونُكُم عَلَى الشَّدَائِدِ وَقُوَّتُكُم في النَّوَازِلِ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ، إِنَّهَا المَفزَعُ لَكُم إِذَا حَزَبَتِ الأُمُورُ، وَالمَلجَأُ إِذَا مَسَّ اللُّغُوبُ، إِنَّهَا طُمَأنِينَةُ قُلُوبِكُم وَشَرحُ صُدُورِكُم،كَانَ نَبِيُّكُم إِذَا حَزَبَهُ أَمرٌ صَلَّى، وَكَانَ يَقُولُ: ((يَا بِلالُ، أَرِحْنا بها)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، الصَّلاةُ لم يُرَخَّصْ في تَركِهَا لا في مَرَضٍ ولا في خَوفٍ، ولا في شَدِيدٍ مِنَ المَوَاقِفِ أو حَالِكٍ مِنَ الظُّرُوفِ، بَل أُمِرَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَيهَا حَتى في حَالاتِ القِتَالِ وَتَرَاصِّ الصَّفِّ، وَأُكِّدَ عَلَيهَا حتى في أَوقَاتِ المَرَضِ وَلَحَظَاتِ الضَّعفِ، قَالَ سُبحَانَهُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفتُم فَرِجَالاً أَو رُكبَانًا فَإِذَا أَمِنتُم فَاذكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَا لم تَكُونُوا تَعلَمُونَ ، وَعَن عِمرَانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَت بي بَوَاسِيرُ فَسَأَلتُ النَّبيَّ عَنِ الصَّلاةِ فَقَالَ: ((صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لم تَستَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لم تَستَطِعْ فَعَلَى جَنبٍ)). اللهُ أَكبَرُ! يُصَلِّي المُسلِمُونَ رِجَالاً أَو رُكبَانًا، مُستَقبِلِي القِبلَةِ أَو غَيرَ مُستَقبِلِيهَا، وَالمَرِيضُ يُصَلِّي قَائِمًا، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَعَلَى جَنبِهِ.
فَمَاذَا بَقِيَ بَعدُ؟ لم يَبقَ إِلاَّ التَّشَاغُلُ عَنِ الصَّلاةِ وَالسَّهوُ عَنهَا، وَأَصحَابُ ذَلِكَ هُم المُتَوَعَّدُونَ بِقَولِ اللهِ جَلَّ وَعَلا: فَوِيلٌ لِلمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُم عَن صَلاتِهِم سَاهُونَ ، لم يَبقَ إِلاَّ التَّكَاسُلُ وَقِلَّةُ الذِّكرِ وَنُدرَةُ الفِكرِ، وَتِلكَ مِن صِفَاتِ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِم سُبحَانَهُ: إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُم وَإِذَا قَامُوا إِلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً ، لم يَبقَ إِلاَّ تَركُ الصَّلاةِ وَإِضَاعَتُهَا، وَتِلكَ هِيَ مُصِيبَةُ أَهلِ النَّارِ وَقَاصِمَةُ ظُهُورِهِم؛ فَإِنَّهُم حِينَ يُسأَلُونَ: مَا سَلَكَكُم في سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّينَ ، وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركَعُوا لاَ يَركَعُونَ وَيلٌ يَومَئِذٍ للمُكَذِّبِينَ ، فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَحَافِظُوا عَلَى الصَّلاةِ، وَاعرِفُوا قَدرَهَا وَلا تُضِيعُوهَا، فَإِنَّ مَن ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضيَعُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاقُو رَبّهِم وَأَنَّهُم إِلَيهِ راجِعُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لِلصَّلاةِ في الدِّينِ المَنزِلَةُ العَلِيَّةُ وَالرُّتبَةُ السَّنِيَّةُ، فَمَن أَتَى بها كَمَا أُمِرَ وَأَدَّى حَقَّهَا وَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَأَكمَلَ خُشُوعَهَا كَانَت قُرَّةَ عَينِهِ وَحَلاوَةَ قَلبِهِ وَانشِرَاحَ صَدرِهِ وَتَيسِيرَ أُمُورِهِ وَتَفرِيجَ كُرُوبِهِ وَانفِتَاحَ الرِّزقِ عَلَيهِ، وَمَن تَهَاوَنَ بها أَو تَرَكَهَا وَضَيَّعَهَا فَقَد وَقَفَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنَ العَذَابِ وَمَشَى عَلَى حَافَّةِ جِسرٍ مِنَ الضَّيَاعِ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((خَمسُ صَلَواتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى العِبَادِ، فَمَن جَاءَ بِهِنَّ ولم يُضِيِّعْ مِنهُنَّ شَيئًا استِخفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِندَ اللهِ عَهدٌ أَن يُدخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَن لم يَأتِ بِهِنَّ فَلَيسَ لَهُ عِندَ اللهِ عَهدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدخَلَهُ الجَنَّةَ)).
أَلا وَإِنَّ مِنَ المُحَافَظَةِ عَلَيهَا أَمرَ الأَهلِ بها وَالأَقرَبِينَ، وَبِخَاصَّةٍ مَن تَحتَ اليَدِ مِنَ البَنَاتِ وَالبَنِينَ، قَالَ سُبحَانَهُ: وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا ، بَلْ إِنَّهُ حَتى الصَّبيُّ الَّذِي لم يَبلُغِ الحُلُمَ لَهُ حَقٌّ أَن يُؤمَرَ بها وَيُعَوَّدَ عَلَيهَا وَيُؤَدَّبَ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مُرُوا أَبنَاءَكُم بِالصَّلاةِ لِسَبعٍ، وَاضرِبُوهُم عَلَيهَا لِعَشرٍ)).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ، و((استَقِيمُوا وَلن تُحصُوا، وَاعلَمُوا أَنَّ خَيرَ أَعمَالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلا يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إِلاَّ مُؤمِنٌ)) ،وَ ((أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ الصَّلاةُ عَلَى وَقتِهَا)) ، وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ، وَمَا عِندَهُ مِنَ الرِّزقِ وَالتَّوفِيقِ لا يُنَالُ إِلاَّ بِالطَّاعَةِ، وَالذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي هِيَ أَسبَابُ كُلِّ بَلاءٍ وَمَنشَأُ كُلِّ قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، وَلَن يَهلِكَ النَّاسُ حتى يُعذِرُوا مِن أَنفُسِهِم، وَالمُؤمِنُونَ الشَّاكِرُونَ مَوعُودُونَ بِالزِّيَادَةِ مُؤَمَّنُونَ مِنَ العَذَابِ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم ، مَا يَفعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ، وَمَن تَرَكَ الصَّلاةَ أَو تَهَاوَنَ بها فَمَا عَرَفَ الشُّكرَ.
فاتقوا الله وتوبوا إليه، إِنْ تَكفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُم وَلا يَرضَى لِعِبَادِهِ الكُفرَ وَإِن تَشكُرُوا يَرضَهُ لَكُمْ.
(1/5738)
الأمانة ومسؤوليتها
الإيمان
خصال الإيمان
هادي بن محسن مدخلي
صامطة
27/3/1429
جامع الشيخ حافظ الحكمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية أداء الأمانة. 2- معنى الأمانة. 3- أنواع الأمانة. 4- الوصية بحفظ الأمانة. 5- عظم أمانة المعلمين. 6- فساد الأمة إذا ضيعت الأمانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، فما خاب من اتقاه، وهي وصية الله للأولين والآخرين حيث يقول تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء: 131]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
عباد الله، إن من الأمور المهمة التي شرعها الله بين الخلق وجعلها من الصفات المحمودة بينهم وعليها ترتكز حياة الأمة أداءَ الأمانة؛ إذ إن الأمانة هي الرابطة بين الناس في أداء الحقوق والواجبات، ولا فرق بين حاكم وموظف وصانع وتاجر وزارع، ولا بين غني وفقير وكبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير وواجب الموظف ورأس مال التاجر وسبب شهرة الصانع وسر نجاح العامل والزارع ومفتاح كل تقدم بإذن الله ومصدر كل سعادة ونجاح بفضل الله، وإن مجتمعًا يفقد هذه الصفة الشريفة لهو من أفسد المجتمعات، ويكون ذلك في آخر الزمان؛ إذ إن الأمانة موجودة في الناس عن طريق الفطرة والوحي، ثم تقبض منهم لسوء أفعالهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد: 11]، فتزول الأمانة من القلوب شيئا فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة، ثم إذا زال الجزء الثاني خلفه ظلمة أشد من الظلمة التي قبلها، ويصبح الأمين بعد ذلك غريبا في الناس، حتى يمدح من لا خير فيه ولا إيمان.
عباد الله، ليست الأمانة مقصورة على الودائع التي تؤمَّن عند الناس من غال وثمين كالنقود والمجوهرات والأثاث وغير ذلك، بل الأمانة أوسع من هذا كله، فهي تشمل كل ما أوجبه الله على عباده، فالصلاة أمانة عندك أيها المسلم، مطلوب أن تؤديها في وقتها إن لم يكن لك عذر وبشروطها وأركانها، والزكاة أمانة مطلوب منك أن تؤديها في وقتها كاملة غير منقوصة إذا توفرت شروطها، والصيام أمانة بينك وبين الله إذا كنت قادرا، والحج أمانة إذا كنت مستطيعا له، والطهارة للصلاة وغيرها أمانة، والودائع والعواري التي عندك للناس أمانة، والسر الذي بينك وبين أخيك أمانة، والأعمال التي تتولاها من شؤون المسلمين أمانة، فالسلطان يتحمل أمانة، والقاضي ومن في حكمه يتحمل أمانة، والمدرس مؤتمن على عقول التلاميذ، مؤتمن على أداء الرسالة الشريفة التي تعلقت به وشرفه لله بها، والتاجر في متجره يتحمل أمانة الصدق في البيع والشراء وعدم الغش والخداع وتجنب المكاسب المحرمة، والموظف يتحمل أمانة في صرف وقته فيما ينفع الناس ولا يؤجل عمل اليوم إلى غد وأن يعامل الناس معاملة حسنة، والرجل في بيته يتحمل أمانة، وكل سيسأل عن أمانته، فيثاب إن حفظها، ويعذب إن ضيعها.
عباد الله، إن الأمانات التي حملها العبد ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أمانة بينك وبين الله، وهي ما كلفك به من عبادات كالصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها، فإن أديتها كما أمرك الله وبقدر الاستطاعة فقد أديت هذه الأمانة، وإن قصرت فيها أو نقصت منها بدون عذر فقد خنت الأمانة، والحساب عند الله تعالى.
النوع الثاني: أمانة بينك وبين نفسك، فإن أعطيت نفسك ما يمتعها في حدود المباحات وأسعدت حياتك بما يعود عليك بالخير وسخرت هذه النفس في ما يرضي الله فقد أديت الأمانة، وإن صرفت طاقات جسدك وعقلك فيما يعود عليك بالبلاء والوباء وأتبعت نفسك هواها وأعطيت روحك مناها فليلك عكوف على المحرمات ونهارك نوم عن الصلوات وتكاسل عن الطاعات فقد خنت الأمانة، ولا تدرك ذلك إلا عندما تلاقي الله تعالى وتقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت.
النوع الثالث: أمانة بينك وبين عباد الله، وهذه من أعظم الأمانات، فالودائع التي يودعها أصحابها عندك أمانة وأي أمانة؟! خاصة إذا لم يكن عليها شهود وإنما ائتمنك صاحبها، ولذلك يقول الله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ، والموظف الذي ائتمنته الدولة على تسيير أمور المواطنين مؤتمن، فإن داوم من أول اليوم إلى آخر وقت الدوام وترك التحايل والغش والإجازات الطبية المزورة والأعذار الكاذبة وراقب الله في عمله واحتسب خدمته للمسلمين فقد أدى الأمانة التي كلفه الله بها في هذا المجال، أما إذا لم يحضر الدوام إلا متأخرا وينصرف قبل نهايته ويغيب بعض الأيام ويأتي بإجازات طبية لا صحة لها أو يعتذر أعذارا كلها كذب يرضي بها المسؤول ولا يبالي بالله أو لم ينجز أعمال العباد بل يواعدهم إلى مواعيد أخرى مع قدرته على إنجازها في وقتها فهذا والله قد خان أمانته، وسوف يأكل راتبه حراما، ويمحق الله به كل شيء؛ النفس والأولاد والمال في الدنيا، وفي الآخرة حسابه على الله تعالى. والموظف العسكري أشد في هذا المجال؛ إذ إن عليه قسمًا أمام المسؤولين أن لا يخون، وأن يؤدي الأمانة التي كلف بها فوق كل أرض وتحت كل سماء، فإن أدى ما عليه سواء في دوام أو في دوريات أو في حراسة أو غيرها وإلا فقد خان الأمانة التي تحملها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أوصى الله تعالى عباده المؤمنين بالحفاظ على الأمانة أيا كان نوعها، بينهم وبينه، أو بين بعضهم بعضا، أو بين العبد ونفسه، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ، وقد جعل النبي خيانة الأمانة من علامات النفاق، والمنافق كما تعلمون أمره خطير وعاقبته وخيمة إذا مات ولم يتب، فقال : ((ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن فيه خصلة منهن ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
والمعلمون أمانتهم أشد وأشد، فهي أمانات وليست أمانة واحدة:
أولا: أمانة العلم الذي حُمِّله أيا كان نوعه، ولا سيما إذا كان علم الشريعة، فهذه الأمانة خيانتها من أكبر الخيانات، كيف وقد قال الله تعالى في هذا الصنف من الناس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ.
ثانيا: أمانة الجيل الذي بين يديه والذي ائتمنه أولياء الأمور عليه، فيجب على المعلم أن يسخر كل طاقاته في سبيل هؤلاء الطلبة الذين اؤتمن عليهم، وأن يصرف وقته أثناء الدوام كاملا في أداء ما كلف به من واجب لهم، ولا يتكاسل أو يتغيب أو يصرف الوقت في كلام لا يفيد، وأن يزرع فيهم الخلق القويم والسلوك المستقيم، وأن يربي فيهم حب الخير والفضيلة، ويحول بينهم وبين الوصول إلى الشر والرذيلة، فإن كان هكذا وإلا فلينتظر من الله العقاب الرادع بسبب خيانته لأمانته.
ثالثا: أمانة المسؤولية التي أناطتها به الدولة، وأعطته عليها المرتب الذي يعيش منه هو وأولاده، وأخذت عليه العهد بأداء الواجب كما ينبغي، وليعلم أن الله رقيب إذا خفي على المسؤول بعض الأمور، فإن الله تعالى لا يخفى عليه شيء.
فالعلم أمانة، والطلبة أمانة، والوظيفة أمانة، والله سائل كل راع عما استرعاه، عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، وعن أبي أمامة عن النبي قال: ((ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، ففكه بره أو أوبقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة)).
عباد الله، إن الأمانة أمرها عظيم وخطرها جسيم؛ ولذلك عرضها الله سبحانه وتعالى على السموات والأرض والجبال مع عظم خلقها وقوة جرمها إلا أنها لم تقبلها وخافت منها لما علمت أنها ثقيلة وأنها لا يمكن أن تؤديها على الوجه المطلوب، فلما عرضت على الإنسان قبلها وحملها بدون نظر إلى عاقبتها؛ ولذلك قال الله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَّحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً.
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا أماناتكم التي كلفكم الله بها، فقد أمركم في محكم كتابه بأدائها حيث قال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم، ملك بر رؤوف رحيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وارجوه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه على آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، فإن في تقواه والخوف منه تعالى سعادة المرء في الدنيا والآخرة.
ثم اعلموا أن لأمانة من الأمور المهمة للمجتمع، وبدونها يعيش المجتمع في بلاء عظيم، والأمة التي لا أمانة لها هي التي تنتشر فيها الرشوة، وينتشر فيها الغش والخداع والتحايل على الحق وتضييع الواجبات التي أنيطت بأفرادها، فما من إنسان منا إلا وعمله أمانة لله في عنقه، فالشعب أمانة في يد ولاة الأمور، والدين أمانة في يد العلماء وطلبة العلم، والعدل أمانة في يد القضاة، والحق أمانة في يد القائمين عليه، والصدق أمانة في يد الشهود، والمرضى أمانة في يد الأطباء، والمصالح أمانة في يد المستخدمين، والتلميذ أمانة في يد الأستاذ، والولد أمانة في يد أبيه، والوطن أمانة في يد الجميع، وأعضاء الإنسان أمانة لديه، فاللسان أمانة فاحفظه من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بعباد الله، والعين أمانة فاصرفها عن النظر إلى الحرام وتوجه بها إلى النظر إلى المباح الحلال، والأذن أمانة فجنبها استماع المحرمات واصرفها إلى استماع ما يعود عليك بالنفع والفائدة في الدنيا والآخرة، والرجل أمانة واليد أمانة فلا تبطش إلا المباحات ولا تمش إلا إلى الخيرات، وأموالكم أمانة لديكم فلا تصرفوها إلا فيما يرضي ربكم سبحانه وتعالى، من قبل أن يأتي يوم تسأل عن هذه الأمانة: ماذا عملت بها؟ فلا تستطيع الإجابة، فقد ثبت في الحديث أن النبي قال: ((لن تزول قدما عبد يوم القيام حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين أتى به وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)).
ولعظم أمر الأمانة تبرأت منها السموات والأرض والجبال مع قوتها وعظم خلقها، وتحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه ـ إن كانت معاملة في دائرة حكومية، وإن كانت طلاب علم يدرسهم، وإن كانت في بيع وشراء، وإن كانت وديعة من الودائع، وإن كانت حراسة أو دورية كان من ضمن أفرادها ـ، فيرى تلك الأمانة التي تحملها في الدنيا، فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها إلى أبد الآبدين).
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا أماناتكم كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله تعالى ـ أن ربكم المولى جل وعلا قد أمركم بالصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى...
(1/5739)
أهمية القلم وخطورته
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, العلم الشرعي
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
2/11/1429
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة النبي للكتابة والقراءة. 2- أهمية القلم. 3- مفاخرة المسلمين بالقلم. 4- الصفات المطلوبة في القلم. 5- القلم سلاح ذو حدين. 6- فشو القلم. 7- الحاجة إلى القلم الصادق الأمين الصافي الملهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].
أيها الناس، لقد أنعم الله جل وعلا على أمة الإسلام بالرسول النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة: 2]. غير أن أمية النبي لم تكن يومًا ما قدحًا في رسالته أو مثلبًا في نبوته، كلا بل إن هذا النبي الأمي هو من أمره الله بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]. إنه ـ والله ـ لنبي أمي يدعو أمته إلى القراءة والكتابة، كيف لا وهو يستشعر عظمة القلم بإقسام الله تعالى به في قوله: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم: 1]؟! والإقسام من الله تعالى لا يُتبَع إلا بشريف ما أبدَع وكريم ما صنَع، ومن ذلكم القلم الذي هو آلة الكتابة وأول مخلوقات الله تعالى على أحد الأقوال، كما في قوله : ((إن أوّلَ ما خلق الله القلم)) الحديث رواه أبو داود والترمذي.
القلم ـ أيها الناس ـ هو خطيب الناس وفصيحهم وواعظهم وطبيبُهم، بالأقلامِ تُدارُ الأقالِيم وتُساس الممالِك، القلمُ هو نِظامُ الأفهام وبريدُ اللسان الصامت، والكتابة بالقلم شرف ورفعة للمرء وبضاعة رابحة، هي للمتعلم بمنزلة السلطان وإنسان عينه بل عَين إنسانِه، بالقلم تخلَّد العلوم وتثبُت الحقوق، ولولا الكتابة لانقَطَعت أخبار بعضِ الأمم واندرست السنَن ولم يعرف الخلف مذهبَ السلف، ورحم الله سعيد بن العاص حين قال: (من لم يكتب فيمينه يسرى)، ولقد أحسن معن بن زائدة حيث قال: "إذا لم تكتبِ اليد فهي رجل".
أيّها المسلمون، لقد فاخَر كثيرٌ من المسلمين بالقلم حتى جارَوا به السيفَ والسنان، نعم لقد فاخر بذلك علماؤهم وشعراؤهم وبلغاؤهم ووعاظُهم، لقد رَقَموا بالقلم الجادّ صحائفَ الأبرار ليُحطّموا به صحائف الأشرار، ولقد أثّرت أقلامهم في إرهاب العدوّ عن بُعد ما لم تؤثّره السّيوف عن قُرب، لقد كانت نواياهم إبراز الخير لأمة الإسلام؛ نصحًا وإرشادًا، وأحكامًا وفقهًا، وأمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، وأدبًا وشعرًا لا يخرمان المروءة ولا يثلمان الرزانة والمنطق، لم تكن أقلامهم مأجورةً يومًا ما، ولم يقترفوا بالقلم ما يخدش حياء أمتهم أو يحدث ثلمة في هويتها، بل لم يكن همَّهم الإحبار أمام الدرهم والدينار وأمام حظوظ النفس والذات البالية، فضلا عمّا قد يصاحب مثلَ ذلكم من تعسُّف وشقشقةٍ تسترقّ الأقلام أو تجفِّف المحابر؛ لتحتكرَ بقلم لا يشفي من ألم.
عبادَ الله، صِدقُ القلم وفصاحتُه مِن أحسنِ ما يتلبَّس بِهِ الكاتب ويتَّزر بِه العاقلُ، وإنّ الاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورةٌ كما هو الأمر في المبنى، وهو بذلك صاحبٌ في الغربة ومؤنس في القِلة وزينٌ في المحافل، ناهيكم عن دِلالته على العقلِ والمروءة ورباطةِ الجأش والتبرِّي من ضيقِ العطَن ومصادرة الحقّ وعِشق الهوى الذي يُعمي ويصمّ، فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [الرعد: 17]. ثُمَّتَ إنّه ولا شك أنَّ من غرَس بقلمه فسيلاً فإنه يوشك أن يأكل رُطَبها، وما يستوي عند أولي النّهى وذوي الحِجى قلمان: أحدهما ثَرثار متَفَيهِق يكتُب قبلَ أن يفكّر، ويرمي قبل أن يبصر، يطِبُّ زكامًا فيُحدِثُ جُذامًا، والقلم الآخر قَلمٌ يَكتب على استِحياء محمودٍ واستشعارٍ لمسؤولية القلَم والمحاسبة عليه أمام الله، وله مع ذلك غَيرَة نابتة من حُبّ الله ورسوله والنصح لكلّ مسلم. وإذا ما تعارض القلمان فإن الخرسَ خير من البَيان بالباطل كما أنَّ الحصُور خير من العاهر، قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 100].
وحاصِلُ ذلكم ـ عباد الله ـ أنه ما رُئِي مثل القلم في حمل المتناقضات؛ فهو عند اللبيب المهتدي آلةٌ من آلات الخير والبرّ ومركبٌ من مراكبِ البلوغ والنجاح ورأب صدع الفلك الماخر، وهو عند النزِق المائِل عقرب خبيثة ودودُ عَلَق يلاصق لحمَ من يقارِبُه.
ومع هذا كلِّه ـ عباد الله ـ فإنَّ القلمَ في هذا الزمان قد فشا فُشوًا كبيرًا لم يكن كسابق الأزمان، وقد اتَّسع نطاقه ليبلُغَ القاصي والداني، كما قال المصطفى : ((إنَّ بين يدي الساعة تسليمَ الخاصة وفُشُوَّ التجارة حتى تُعين المرأة زوجَها على التجارة وقطعَ الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم)) رواه الإمام أحمد في مسنده.
وإنّ مما لا شكَّ فيه أنَّ الشيءَ إذا فشا وذاع ذُيوعًا واسِعًا كثُر مدّعوه وقلَّ آخِذوه بحقِّه، فيكثُر حينئذٍ الخطأ ويعمُّ الزّلل، فيفرِز ذلكم عُريَّ بعضِ الأقلام عن الأدَب، فلا تَرعَى حرمةً، ولا تُحسِن رَقمًا، ولا تزِن عاطفةً في نقاش، فتثور بسببها خواطرُ النفوس وتُبعَث الأضغان وتُكشَف الأستار ويشتدّ اللّغطُ رَقمًا بقلمٍ في قرطاسٍ ملموس بالأيدي، ناهيكم عن الكذِب والافتراءِ والتصريحِ بالعورات وما يخدِش العدلَ والإنصاف والموضوعية البريئة، مع ما يصاحب ذلكم من قلمٍ متعثِّر فيزداد خطرُه ويستفحل شرُّه، ومن ثمَّ ينوء صاحبُه بأحمالٍ لا يُقِلّها ظَهر ودموعِ ندمٍ على قُبح تَسطير ما لمدَدِها انقطاع، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10-12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: أيها الناس، إن المسلمين بعامة لفي حاجة ماسَّة إلى القلمِ الصّادق، إلى القلم الأمين، إلى القلَم الصافي من الدخَن، إلى القلَم الملهَم الذي يأخُذ بلُبِّ قارئه صدقًا ونُصحًا وصفاء، ينشر الحقَّ ويحيي السنة ويدلُّ الناس إلى ما فيه خيرُ دينهم ودنياهم، وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ?للَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة: 282].
إنَّ القَلمَ أمانةٌ، وحملتُه مِن بَني الإسلام كُثرٌ، غير أنَّ الإنسان كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً، وما كلُّ من حمل الأمانة عرف قدرَها؛ ولأجل ذا لفَت علماءُ الإسلام الانتباهَ إلى صفاتٍ وضوابطَ لا يسَع الأمةَ إهمالُها، ولا ينبغي أن يقصِّر فيها كاتبٌ أو ذو قلم، أو من جهة أخرى من قِبَل القراء وأمثالهم إلى عمَّن يتلقون ما ينفع، ولمن يقرؤون ما يفيد، وممّن يأخذون، ولمن يذرون، فتكلَّموا عن كونِ الكاتبِ مسلمًا مُستقيمًا؛ ليُؤمَن جانبُه ويوثَق فيما يسطّره بنانُه؛ حتى لا يذوقَ القراء مراراتٍ يتَجرّعونها ولا يكادون يُسيغونها غيرَ مرّة. كما تكلّم علماء الإسلام أيضًا عن كون الكاتب ذا علم وبصيرةٍ، وأن يقتصر صاحب التخصّص على تخصّصه، فلا يتحوّل الكاتب بقلمه من كونه صحفيًّا إلى كونه فقيهًا مفتيًا، ولا من كونه أديبًا إلى كونه طبيبًا، ولا من كونه مفكّرًا إلى كونه وصيًّا وصايةً مطلقةً على أفكار القراء ومصادر تلقّيهم، وحادي الجميع في ذلكم أن يكون المرجعَ كتاب الله وسنة رسوله.
وإن من أهمّ ما بيّنه علماء الإسلام والناصحون منهم أن يكون صاحب القلم متّصفًا بالعدالة والأنصاف وإدراك معنى الحوار السليم؛ لأن الكاتب الجائر ليس له قائد في فكره وقلمه إلا الهوى والتدليس والتلبيس والتهويش والتشويش، ولربما زاد ونقص وحرّف وأوّل، فكان كمن وصفَهم الله بقوله: تَجْعَلُونَهُ قَر?طِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام: 91]، وإذا كان الناس يُكبّون على وجوههم في النار بسبب حصائد ألسنتهم مع أن اللسان يفنى وينقطع حديثه، فما ظنكم بالقلم الذي يطول تسطيره ويبقى حيًّا وإن مات صاحبُه وأضحى فُتاتًا.
قلَمان لو تعرفهما لعرفتَ نوعَ مدادي
قلمُ الرزين وعكسه قلم السفيه الصادي
فاختر لنفسك واحدًا ينجيك يومَ معادي
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية...
(1/5740)
التسليم والانقياد لله رب العباد
الإيمان
حقيقة الإيمان
عبد الرحمن بن عبد العزيز الجليل
الرياض
جامع والدة نهار المنديل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسلم الحقيقي. 2- مثال قرآني عظيم للتسليم لأمر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن المسلم الحق هو الذي يفوض الأمر إلى الله ويسلّم الأمر إليه، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]. فهو الذي يعلم ما يضرّك وما ينفعك، وما يسعدك وما يشقيك جل جلاله وتقدست أسماؤه، فهل تنازع الله في أمره أو تعترض عليه في قضائه وقدره؟!
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تَحمل صخرًا ثقالاً
دحاها فلما استوت شدّها جميعًا وأرسى عليها الْجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الْمزن تَحمل عذبًا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالا فحالا
عباد الله، لقد ضرب لنا القرآن مثلاً عظيما في التسليم لأمر الله وتفويض الأمر إليه دون اعتراض أو منازعة، بل بقلوب ملؤها الطمأنينة والرضا واليقين بموعود الله، ولنذكر مثلاً واحدا فيه القدوة والعبرة والأسوة، إنه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
أيها المسلمون، لقد ترك إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولده إسماعيل في مكة، ولكنه لم ينسه ولم يغفل عنه، بل كان يزوره من حين إلى آخر، وفي إحدى هذه الزيارات رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في منامه أن الله يأمره بذبح ولده إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق لأنها بمثابة الوحي من الله، لذلك عزم إبراهيمُ على تنفيذ أمر الله، وهذا ما يقصه الله علينا في كتابه: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات: 99-112]. يا لله ما أعظمه من إيمان! ويا لله ما أعظمها من طاعة وتسليم!
وأمرت بذبْحك يا ولدي فانظر في الأمر وا عقباه
ويُجيب العبد بلا فزع: افعل ما تؤمر أبتاه
لن أعصي لإلَهي أمرا من يعصي يوما مولاه
واستلّ الوالد سكّينا واستسلم ابن لرداه
ألقاه برفق لِجبين كي لا تتلاقى عيناه
أرأيتم قلبا أبويا يتلقى أمرا يأباه
أرأيتم ابنا يتلقى أمرا بالذبح ويرضاه
أيها المسلمون، هذا إبراهيم عليه السلام، الشيخ الكبير المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام طالما تطلع إليه، ولطالما دعا الله وألح عليه أن يهبه إياه، فلما جاءه بعد سنين جاء غلامًا يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به وصباه يتفتح ويبلغ معه السعي ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا صنع? إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم. نعم، إنها إشارة، مجرد إشارة، وليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يناقش، ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب. كلا، إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان، فيا لله العجب ما عظمه من تسليم وانقياد! قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى. فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن لأمر ربه الذي يواجهه، والواثق بأنه يؤدي واجبه. وفي الوقت ذاته كلمات المؤمن الذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ويستريح من ثقله على أعصابه.
والأمر شاق، إي وربي إنه لشاقّ، وما في ذلك شكّ، فهو لا يطلب منه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب منه أن يكلفه أمرًا تنتهي به حياته، إنما يطلب منه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه، وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أن يتروّى في أمره، وأن يرى فيه رأيه. إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد، فليكن ما يريد، استجابة وما أعظمها من استجابة! وابنه ينبغي أن يعرف وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا؛ لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوّق حلاوة التسليم. إنه يحب لابنه أن يتذوّق لذة التطوع التي ذاقها، وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.
فماذا يكون من أمر الغلام الذي يعرض عليه الذبح تصديقًا لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه أبوه، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضا ويقين. يَا أَبَتِ في مودة وقربى، فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبَه ومودته مع أبيه. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ فهو يحسّ ما أحسه من قبل قلب أبيه، يحس أن الرؤيا إشارة، وأن الإشارة أمر، وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحّل ولا ارتياب. ثم هو الأدب مع الله ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ومساعدته على الطاعة: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ، ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجمًا ولا وزنًا، إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه وأصبره على ما يراد به: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ. يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان! ويا لنبل الطاعة! ويا لعظمة التسليم!
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وينتقل بنا السياق من وراء الحوار والكلام إلى الساعة الحاسمة، إلى تنفيذ أمر الله والذبح، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.
ومرة أخرى ـ عباد الله ـ يرتفع نبل الطاعة وعظمة الإيمان وطمأنينة الرضا وراء كلّ ما تعارف عليه بنو الإنسان. إنه يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادًا لنحره، والغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا، وقد وصل الأمر إلى نهايته، لقد أسلما فهذا هو الإسلام، هذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضا وتسليم وتنفيذ، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة، وليس الاندفاع والحماسة، قد يندفع المجاهد في الميدان يقتل ويقتل، ويندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل شيء آخر، ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص، إنما هو الاستسلام الواعي المتعقّل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون، لا بل هنا الرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل.
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا، كان قد أسلما، كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه. وهذا أمر لا يعني شيئًا في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما.
كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح والجسد الذبيح، والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح. وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
(1/5741)
نعمة الغيث
موضوعات عامة
مخلوقات الله
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
3/11/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرج بعد الشدة. 2- أهمية الماء وإشادة القرآن به. 3- الاعتبار بنعمة الأمطار. 4- من مظاهر كفران نعمة المطر. 5- سنن نبوية عند نزول المطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله هي طريقُ النجاة والسلامة وسبيل الفوز والكرامة، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72].
أيها المسلمون، إننا نتقلب في هذه الأيام في نعم من الله زاخرة وخيرات عامرة، سماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضرّ، فتح الله لنا برحمته أبواب السماء، فعمّ بخيره الأرض، وانتفع العباد.
إنه لا يخفى على أحد ما حصل من الضرر بتأخر نزول الغيث في الأعوام الماضية، فالآبار قد نضبت، والثمار قد ذبلت، والمواشي قد هزلت، ومعها القلوب قد وجفت. كاد اليأس أن يصيب بعض القوم لما رأوا في مزارعهم وديارهم، فإذا بالرحيم سبحانه ينزل بعض رحمته، فتنهمر السماء، وترتوي الصحراء، فلا إله إلا الله، ما أعظم جوُدَهُ! ما أكرم عطاءه! وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28].
عباد الله، إن إنزال الغيث نعمة من أعظم النعم وأجلها، امتن بها سبحانه على عباده، وأشاد بها في كتابه، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21، 22].
أيها المسلمون، إن مما يدل على عظم نعمة الغيث تلك الأوصاف التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فأحيانًا يصف الماء بالبركة، وأحيانًا يصفه بالطهر، وأحيانًا بأنه سبب الحياة، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة، يقول سبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق: 9]، ويقول سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان: 48]، ويقول سبحانه: وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل: 65].
عباد الله، لما كان كثير من الناس ينظر إلى نعمة الغيث نظر بصر مجرد غفلوا عن أشياء كثيرة، وفاتهم غيث القلوب، وهو النظر إلى تلك النعمة بنظر البصيرة والاعتبار بهذه الآية العظيمة؛ ففي هذا الغيث مواطن للعبر وآيات للتذكر، ومن أبرزها أنه دليل باهر وبيانٌ قاهر على توحيد الله وعظيم أمره وجليل سلطانه، لو اجتمع الإنس والجن والملائكة وأرادوا إنزال قطرة غيث واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وإذا أراد الله أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون.
ينشئ المولى سبحانه السحاب فتتراكم وتتجمع على أشكال مختلفة، ثم تأتي الرياح بأمره فتسوقها إلى بلد محدد دون بلد آخر، وإلى مكان محدد دون مكان آخر، فينزل المطر بقدر معلوم وفي أوقات معلومة بتقدير العزيز العليم، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: ليس عام أكثر مطرًا من عام، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، فيمطر قوم، ويحرم آخرون، وربما كان المطر في البحار والقفار، وهذا معنى قوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ الآية [الشورى: 27].
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن نزول المطر: "فيرش السحاب على الأرض رشًا، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدةٌ في الطريق الذي رُسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرةً قطرةً، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداهُ إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرةً واحدةً أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه"، ثم قال رحمه الله: "فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقًا للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني في الأرض الفلانية بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش"، فتبارك الله أحسن الخالقين ورب العالمين.
عباد الله، ومن الآيات والعبر في نزول المطر أنه دليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى وإثبات البعث والنشور، فالذي يحيي الأرض بعد موتها بالمطر قادر على إحياء الموتى بعد مفارقتهم للحياة، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39]، وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9].
أيها المسلمون، إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا لمن فضل الله ورحمته، فكلُنا يعلمُ أن بلادنا ليس بها أنهار، وأنها تعتمد بعد الله في بعض شؤونها على مياه الآبار التي تغذيها الأمطار، فعلينا أن نقوم بشكره سبحانه على نعمته، وأن نستعين بها على طاعته، فإن من قام بشكر الله زاده الله، ومن كفر بنعمة الله حرمه الله، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
إن إنزال المطر ـ عباد الله ـ ليس بالتأكيد أن يكون دليل رضًا من الله عن خلقه، فها هي دول الكفر والضلال ينزل عليها المطر صباح مساء وعلى مدار العام، فالمطر قد ينزل إنعامًا، وقد ينزل استدراجًا، وقد يكون رحمة، وقد يكون عذابًا.
لقد أهلك الله بهذا المطر أقوامًا تمردوا على شرعه وتنكروا لهديه، قال سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 9-16].
عباد الله، إن من مظاهر كفران نعمة إنزال المطر التشبهَ بأهل الجاهلية في نسبة إنزال المطر إلى غير الله من الكواكب والأنواء وغيرها من الأسباب، عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله الصبح بالحديبية على أثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ما قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، ومن كفران النعم أيضًا تسخير هذه النعمة في معصية الله تعالى، حيث يخرج البعض من الناس بعد نزول المطر إلى المتنزهات والصحاري مصطحبين منكراتهم ومعاصيهم من أنواع اللهو المحرم، يعصون الله في أرضه، ويستمتعون بنعمته، بل كثير من أولئك وللأسف يضيعون الصلاة أو يؤخرونها عن وقتها، وقد يصطحبون معهم أطباق الفضائيات ومختلف الآلات، مع إهمال واضح للبنين والبنات، وتبرجُ النساء وعدم الاحتشام في تلك الرحلات أمر لا يخفى.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وخذوا على أيدي السفهاء، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]. يقول مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية بن آدم".
اللهم اجعل ما أنزلته علينا عونًا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، ثبت عن نبيكم سُنَن قولية وسُنَن فعلية كان يأتي بها عند نزل الأمطار ومن ذلك أنه كان يقول إذا رأى الغيث: ((اللهم صيبًا نافعًا)) رواه البخاري، وفي رواية لأبي داود ((اللهم صيبًا هنيئًا)) ، وثبت عنه أيضًا أنه قال: ((مطرنا بفضل الله ورحمته)) رواه البخاري. أما إذا نزل المطر وخشي منه الضرر فيدعى بقوله : ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) أخرجه الشيخان.
أما السنن الفعلية فمنها استغلال وقت نزول المطر بالدعاء، واستحب بعض العلماء رفع اليدين لحديث: ((ثنتان لا يرد فيهما الدعاء: عند النداء، وعند نزول المطر)) أخرجه الحاكم وحسنه الألباني رحمه الله.
وكذلك يستحب كشف بعض البدن حتى يصيبه المطر، ثبت في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: كشف النبي عن بعض بدنه ليصيبه المطر، وقال: ((إنه حديث عهد بربه)) ، أي: حديث عهد بتخليق الله تعالى له. وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن أنس رضي الله عنه أن النبي كشف عن رأسه حتى يصيبه المطر.
أيها المسلمون، هذه الأمطار وتلك الأجواء الباردة تدفعنا أحيانًا لجمع الصلوات ولبس الخفاف والجوارب، وهذه الأفعال أفرد لها علماؤنا أبوابًا متفرقة في كتبهم، وحري بكل مسلم فضلاً عن طالب علم أن يتفقه في دينه ويتعلم أحكام تلك الأفعال حتى يقدم على العبادة على بينة وبصيرة.
اللهم يا ذا الأسماء الحسنى والصفات العلى أبرم لأمة محمد أمر رشد...
(1/5742)
عبادة منسية
الإيمان, التوحيد
الربوبية, خصال الإيمان
جمال بن عبد الله الزهراني
تبوك
جامع الأمير فهد بن سلطان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إحياء عبادة التفكر. 2- فضل التفكر. 3- أنواع آيات الله تعالى. 4- التفكر عبادة الأنبياء. 5- اهتمام السلف الصالح بعبادة التفكر. 6- حث القرآن الكريم على استعمال العقل. 7- التفكر في الشمس وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فحديثنا معكم اليوم ـ إخوة الإيمان ـ عن أمرٍ تصلح به القلوب بعد فساد، وتَقرُبُ بعد ابتعاد، وتصفو بعد كدر، وتفرح بعد حزن وقلق. إنّها عبادة قلبية لا تُمارس إلا بالقلب، وقد تُشارِكُ فيها العين، وهي من العبادات التي قد هجرها كثير من الناس إلا من رحم ربك، وقليلٌ هم. وسنُحاول اليوم إحياءها في أنفسنا، كالبذرة نغرسها وحتما ستؤتي أكلها ولو بعد حين ثمارًا يانعة تتغذى بها أرواح المؤمنين.
هذه العبادة ـ أيها الناس ـ قد عمل بها الأنبياءُ من قبل، وانتهجها حبيبكم وإمامكم محمد ، حتى صارت صفة ملازمة له، كما سار عليها مِن بعده سلف الأمة وخير القرون المفضلة، كيف وبهذه العبادة يُعرفُ المهيمنُ العزيزُ الجبارُ المتكبرِ جل جلاله وتقدست أسماؤه؟! لأن فيها الدليل على معرفته والإيمان به. فهل عرفتم هذه العبادة أم ليس بعد؟
إنّها عبادة التَفَكُّرِ في خلق الله عز وجل، إنّها عبادة من أعظم العبادات، بها يدخل العِباد على الله فيملؤون قلوبهم إجلالاً وتعظيمًا له، فهل وقفت مرةً في حياتك أمام منظرٍ مما خلقه الله تتعمّدُ من النظر فيه أن تشاهد جلال الله وعظيم شأنه عز وجل حتى يقول قلبك بكل قوة وتعظيمٍ وإجلال: "لا إله إلا الله"، يخشع بها القلب ويذل ويخضع لجلال روعة وعظمة خلق الله جل في علاه؟ هل مارست هذه العبادة في حياتك؟ وهل مارستها كثيرًا؟
إخوة الدين والعقيدة، بهذه العبادة يُعرَفُ اللهُ فيُحَبّ، وبها يُعرف مراد الله من الخلق، وبهذه العبادة يرِقُّ القلب ويتّصل بالخالق عز وجل، وبها تُتركُ المعاصي؛ لأنَّ هذه العبادة هي الباب الموصل إلى الله تبارك وتعالى، قال ابن القيم رحمه الله: "معرفة الله سبحانه وتعالى نوعان: الأول: معرفة إقرارٍ بوجوده، وهذه يشترك فيها البر والفاجر والمطيعُ والعاصي، فكل الناس يقولون: إن الله موجود. وأمّا النوع الثاني: فمعرفة حياءٍ ومحبةٍ وشوق وأُنسٍ واتصالٍ ورغبةٍ وخشيةٍ وإقبال، وهذه يفتح الله بها على من أراد أن يعرفه به".
أخي المبارك، كيف نصل إلى معرفة الله جلَّ وتقدَّس؟ إننا بالإمكان أن نصلَ إلى معرفة الله بطريقين:
الأول: آيات الله المقروءة، ألا وهو كلام ربنا عن نفسه في كتابه القرآن.
والثاني: آيات الله المنظورة، وهي صفحة الكون وما فيها من حياة؛ لكي لا يكون لمن لا يُجيدُ القراءةَ والكتابة حجة على الله تعالى، فيقول: لم أعرفك لأنني لا أجيد القراءة والكتابة، لم أكن أفهم. سبحان الله! ألم تنظر حولك؟! أفلم ينظروا؟! أفلم يسيروا في الأرض فينظروا؟! أفلم يسمعوا؟! أفلم يروا؟!
انظر حولك، وانظر إلى بديع صنع الخالق جَلَّ وعلا وتقدّس، تأمّل صَنعة الباري وقل: سبحان باريها! جبالٌ شاهقة، وبحارٌ ومحيطات، وسماء قد مُلئت بالنجوم والكواكب الكثيرة، وأرضٌ متنامية الأطراف قد مُلئت بالأشجار والأحجار والدواب، وكائنات تُرى بالعين المجرَّدة، وأخرى لا تُرى إلا بالمجهر، وشيء نعلمه وأخرى لا نعلمها، آيات عِظام تبهرُ العقول والأبصار. فلا إله إلا الله! سبحان من خلق فسوى وقدَّر فهدى!
وفي ظل هذه الآيات المنظورة يَنقلُ هذا الأعرابي ما صوَّرتهُ عدسات عينه عندما سُئل عن وجود الله فقال بفطرته السليمة: "البَعرَةُ تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على العزيز الخبير؟!". فلله ما أحسنه من استدلال! وما أعجبه من منطق وبيان!
هذا ولقد كانت آخرُ المراحل للنبي قبل بعثته هي عبارة عن تأمُّلٍ وتفكُّر، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها كما عند البخاري ومسلم الحديث الذي تروي فيه بدء الوحي فتقول: (ثُمَّ حُبّبَ إليه الخلاء، فكان يذهب إلى غار حراء يتحَنَّثُ فيه ـ أي: يتعبّد ـ الليالي ذوات العدد). فأي عبادة تلك ولم يكن ثَمَّةَ صلاة ولا صيام؟! فأي عبادة عرفها النبي قبل أن يكون نبيًا؟!
إنّها عبادة التأمل والتفكّر في خلق الله تبارك وتعالى، كان يمكث أيامًا طويلة يتفكر، حتى ازداد قُربه من ربه قبل بعثته؛ فكانت هذه العبادة بمثابة التهيئة من الله لنبيه ، ولم يكن يترك هذه العبادة أيضًا بعد بعثته، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبي قال لها ذات ليلة: ((يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي)) ، فقالت: والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: وكان جالسا فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا؟! لقد أُنزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191] )) حسنه الألباني في صحيح الترغيب.
ولم يكن النبي هو فقط مَن كان يؤدي هذه العبادة، بل باقي الأنبياء مِن قبله، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يقول تعالى عنه: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75].
فيا عبد الله، إذا كنت تريد معرفة الله فتفكر في مخلوقاته، عندها يزداد قُربُك ويزداد يقينك، فإنه كلما تفكَّرَ العبد المؤمن زاد يقينه وعظُمَ إيمانه وارتقى إلى منازل المتقين، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 49].
سُئِلت أم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكرُ والاعتبار. فانظر ـ يا رعاك الله ـ كيف كان التفكر في خلق الله تعالى مِن أفضل العبادات عند أبي الدرداء، ثمَّ انظر كم هي منسيةٌ هذه العبادة عند غيره. قال الإمام الحسن البصري: "تَفَكُرُ ساعة خير من قيام ليلة" أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وابن المبارك في الزهد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ركعتان مقتصدتان في تفكيرٍ خير من قيام ليلة والقلب ساه)، وقال عمر بن عبد العزيز: "الكلام بذكر الله عز وجل حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة"، وقال لقمان الحكيم: (إنّ طول الوحدة ألهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طَرْقِ باب الجنة)، وقال وهب بن المنبه: "ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، ولا فهم امرؤ قط إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل".
فهلا أعملنا هذا الفكر ـ أيها الأحبة ـ وأطلقنا له العنان يهيم في ملكوت الله؛ لعلّه يرجع بثمار المعرفة، فيتجدد بها الإيمان، ويُنال رضا الديّان، لتجلس في غرفتك بينك وبين نفسك، وشاهد خلق الله في نفسك، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ، أو لعلّك تراقب يومًا شروق الشمس وغروبها، وتتأمل ـ يا رعاك الله ـ كيف يولج الله الليل في النهار ويُولج النهار في الليل.
تأمل فِي الوجود بعيْن فكر ترَ الدنيا الدنيئة كالْخيالِ
ومن فيها جميعًا سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلالِ
عباد الله، ولو مررنا بكتاب الله لوجدنا أنّه دائمًا يدعونا إلى إعمال العقل، كما في قوله تعالى: أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17-20]، فيأمر الله عِبَاده بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاته الدَّالَّة عَلَى قُدْرَته وَعَظَمَته. ويقول سبحانه: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3-6].
فيا عبد الله، تفكَّر وتأمّل فيما حولك من الآيات العِظام، ألم تهزُزك معجزة الليل والنهار؟! ألم تُحرِّك شيئًا في وجدانك؟! ألم يؤثِّر فيك منظرُ السُّحب وقد تكومت كالجبال فأراقت ما بجوفها من ماءٍ منهمر؟! ألم يُظهر البهجةَ ما سرح به ناظرك حين أخذت الأرض زُخرُفَها وازّيَّنت؟! ألم تكن تلك الدقة المتناهية في تسيير الكون وعدم اضطرابه آيةً تُسيّر قلبك ولسانك ليلهج بالتسبيح لخالقها ومصَرّفها؟! أكُلُّ هذا لا يُحَرِّكُ مشاعرك؟! أكلُّ هذه الحياة وما يدور فيها من حولك مِن كثرة اعتيادك عليها لم يعُد منها شيء يثير إحساسك؟! إن هذا لهوَ أمرٌ في منتهى الخطورة على صاحبه؛ إذ كيف يخافُ اللهَ مَن لا يعرف قوَّته وعظمته؟! وكيف يُعَظَّّمُ الجبار عند قلوبٍ لا تعرف شيئًا مِن مُلكِ الله؟! وكيف يثق الإنسان بنصر الله وهو لم يتفكر في قدرته على تدبيره سبحانه وتصريفه للحياة؟!
وإليكم الآن ـ عباد الله ـ شيئًا مما يُظهِرُ نتائج التفكر المحمودةِ على القلوب، لنتأمّل ونتفكر سويًا في خلقه تعالى للشمس مثلاً في السماء، وما يدور في أفلاكها، وكيف أنَّ الشمس هي مصدر طاقتنا، ولولا الشمس لما كان هناك حياة على الأرض، يقول العلماء اليوم: إنَّ الشمس تتحرك بسرعة عجيبة، فهي تقطع في ثانية واحدة ما يقطعه الإنسان الماشي في خمسمائة سنة! هل تتخيل هذه السرعة الفائقة؟! واسمع لقوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38]، وتأمل كلمة تَجْرِي ، وليس (تتحرّك). فانظر بعد هذا وتفكر في عظمة شيء مِن ملك الله تعالى، فمن أنت ـ أيها المخلوق الضعيف ـ حتى تتكبر على الله؟! وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وجاء عن ابن عمر كما عند مسلم أنه قال: رأيت رسول الله وهو على المنبر يقول: ((يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها: أنا الملك)) حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله ؟ وفي رواية: رأيت رسول الله على المنبر وهو يقول: ((يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأرضيه بيديه)).
فتخيل هذه الأرض التي هي في قبضة الله، هل تعلم كم تساوي؟ إنّها نقطة في المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية تساوي نقطة في المجرّة، ومجرّة درب التبانة تساوي نقطة في آلاف المجرات، وآلاف المجرات تساوي نقطة في السماء الأولى. لا إله إلا الله! فانظر أنت ـ أيها المخلوق الضعيف ـ كم تساوي في مُلك علام الغيوب، انظر كم هو حجمك وكيف تعصي، وتأمّل كيف أنّه سبحانه لا يخفى عليه بعد ذلك دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ليلة ظلماء. أرأيت التفكر في خلق الله إلى ماذا يوصلك؟
إذًا فعلينا مراجعة الإيمانِ في قلوبنا، وأن نتعاهده بالتربية والرعاية، حتى نبني صرحًا متينا من الخوف والمراقبة لله تعالى.
بارك الله لي ولكم قي القرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، لِمَ لا نُعطي أعيننا حظها مِن العبادة؟ فهذه الأعين قد مضى عليها سنين وهي تعصي الله عز وجل وتتمنى أن تعبُد، إلا أننا لا نعطيها الفرصة لذلك، فلنترك أعيننا تعبد الله قليلاً؛ فلعلها تجد الحياة والإيمان طويلاً، ولنتأمل في خلق الله وننظر لجمال خلق السماوات العُلى عملاً بقوله تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. فانظروا كيف يداعب هذا الكلام عقولنا وقلوبنا قبل أسماعنا، فهل نظرتَ يومًا إلى السماء ورأيت فيها شقًا أو ثقبًا؟! فسبحان القائل: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ تفاوتٌ يعني: نَقْص أو عَيبٌ أو خَلَل، إلى أن قال تعالى: ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ. ولو كررت وأمعنت النظر كثيرًا فلن تجد أي خطأ في خلق الله عز وجل وتبارك، صُنعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.
هذا هو خلق الله، فكلما عشت مع هذه المعاني تعلّقت به وعبدته أفضل، وكلما تعلّقت به أكثر أنستَ به أكثر، وكلما نظرت إلى الخلق زهدت فيهم مهما كانت قوَّتُهم وجبروتهم، فهل أخاف وأجزع من مخلوقٍ وأنسى خالق السماوات والأرض؟!
يا من ظننتم أنّكم أنتم مَن صنَع الحضارة، يا من تظنون أنَّ بأيديكم قيادة البشرية، اخسؤوا فالله خالق كلِّ شيء وهو على كلِّ شيء وكيل، هو المدبر وهو المتصرّف في هذا الكون كله.
إذًا، انظر ـ يا عبد الله ـ كيف تُرَبي العقيدة في قلبك، أرأيت كيف يُثمِرُ جمالُ خَلقِ الله في قلبك حين تفكَّرت، وكيف يقوَى تعلُّقكَ بالله، وهذا هو التفكر الذي نتكلم عنه، وهذه هي النتيجة التي نريد.
(1/5743)
كي تكون أول الرابحين
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, مواعظ عامة
جمال بن عبد الله الزهراني
تبوك
جامع الأمير فهد بن سلطان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التجارة الرابحة. 2- تربية النبي أصحابه على التجارة مع الله تعالى. 3- التحذير من الانشغال بالدنيا عن الآخرة. 4- المال وسيلة لا غاية. 5- الزهد في الدنيا. 6- فتنة المال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمة الإسلام، نعرض اليوم على مسامعكم تجارة من التجارات، وضربًا من ضروب الأسهم والمرابحات. فلقد تهيأت فُرَصٌ للمستثمرين ومجالٌ من مجالات الربح في الأسواق وَعَدِّ الأرباح الخيالية، في سوقٍ هو أكبر وأعلى شأنًا من المضاربة في أسواق البورصات العالمية لدى كُبريات الشركات والمؤسسات.
وذلك ـ يا عباد الله ـ مما أفاء الله به علينا أمَّة الإسلام مِن الخير العميم. إنّها تجارة تستحق منّا أن نتحدث عنها على منابرنا في خطبة الجمعة هذه، نعم وأن نتسابق عليها وأن نتزاحم على الأبواب بكل ما نستطيع لجمع أكبر عَدَدٍ من الأسهم. أوَلَسنا مِن أمّة الإسلام؟! بلى، وهذه التجارة هي لأهل الإسلام والإيمان، كبيرًا كان أم صغيرًا، ذكرًا أم أنثى. فإلى هذه التجارة وإلى طريقة المساهمة فيها، فإني أراكم قد تلهفتم لمعرفتها وتاقت نفوسكم لسماعها.
يقول الرَّبُ تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10-13].
إي والله، إنها لَهِيَ بحقٍ نِعمَ التجارة، وَلتسقط جميع تجارات الدنيا وكنوزها الزائلة، إنه عَرضٌ رباني، إنها التجارة مع الله وحسب، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29، 30].
فيا لها من تجارةٍ أهلها هم الرابحون حقًا، لقد نزلت هذه التجارة على أسواق المؤمنين فطاشت بها جميع السِّلع وبارت، لقد تعلّق بها الصالحون من أمّة محمد وتسابقوا وتسارعوا، فربحوا ربحًا عظيمًا، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
وما لهم أن لاَّ يربحوا وقد باعوا نفوسهم رخيصة، والمشتري منهم هو الله جلَّ جلاله، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111].
فما أعظمها مِن تجارة! وما أعظمه من فوز نُرَبِّي أنفسنا وأهلينا عليه! كما كان النبي يربي أصحابه عليها، حيث كان يعلقهم بالآخرة وما فيها، ويُزَهِّدهم في الدنيا وحُطامها، فمما كان يقوله في هذا الأمر: ((مَن يشتري بئر رومة وله الجنة؟)) ، ويقول: ((من يجهِّزُ جيش العسرة وله الجنة؟)) ، ويقول في أحد: ((مَن يردُّهم عنَّا وله الجنّة؟)) ، وهو القائل: ((كم من عِذق رداح لأبي الدحداح في الجنة)) ، وقال: ((ربح البيع أبا يحيى)) ، وغير ذلك كثير، مبينًا لهم أنَّ ما عند الله خير وأبقى يقينًا بقول الله تعالى: قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 11].
فكانوا نِعمَ المستجيبين والسبّاقين للتجارة مع الله جلَّ وتقدّس، وكانوا منيبين مستغفرين رُكّعًا سُجّدًا لله، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 36-38].
إنّها التجارة مع الله، وإنّهم الرجال المؤمنون الصادقون الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.
اسمع يا من شغلته التجارة عن ذكر الله وعن الصلاة، اسمع يا من وقف على أبواب البنوك والصلاة تُقام؛ أشغلته أسهم دُنيوية عن ذكر الله وعن الصلاة، وكيف ولو فُتِحَت له الدنيا؟! أين نحن من قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ؟! وأين نحن من كلام النبي الحبيب كما جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة؛ إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)).
أيها المسلمون، عباد الله، تلك هي التجارة مع الله، وأمَّا شأن التجارة الدنيوية فإنه بلا شك ولا مِرَاء أنَّ المال هو قِوام الحياة، والحث على تحصيله وحُسن تدبيره مِن أولويات تعاليم الإسلام، وَمُبَيِّنَةً ضرورة كسبه من الحلال، وحُسن التصرُّف في الإنفاق؛ وذلك لِتُقضى به الحقوق وتؤَدَّى الواجبات وتُصان حدود الإسلام من عاديات الطغيان، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 32].
فالمؤمن هو أولى بذلك من غيره حتى لا يكون كلاً على الآخرين، لا عمل له ولا كسب؛ لأن الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحًا عاملاً، مؤديًا دوره في الحياة، آخذًا منها معطيًا لها كما يريد المولى جل جلاله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15].
وتأمَّلوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى النبي صالح عليه السلام وهو يبين حقيقة من الحقائق وسنة من سنن الله الكونية في الحياة واستعمار الأرض في قوله تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود: 61].
ولكن مهلاً يا رفاق، على رسلكم؛ فإنَّ المال في الحقيقة لا يُطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنَّما يُطلب عادةً لما يتضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنَّه في حدِّ ذاته وسيلة لا غاية، والوسيلة هذه قد تُحمد أو تُعاب، وتَصدُقُ هذه النظرة وتتضح في قوله سبحانه وتعالى لقارون: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77].
فالمال فتنة، وقليلٌ مَن ينجو منها، جاء عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنَّ لكل أمّة فتنة، وفتنة أمّتي المال)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح".
فاعلموا ـ عباد الله ـ أنّه ما سكن المال في قلب إنسان إلا تعلَّقَ بحطام الدنيا وركن إليها، وآثر الفاني على الباقي، ولذلك كان حبيبكم يُحَذِرُ أصحابه أشدَّ تحذير مِن الدنيا ـ كما أسلفنا ـ حتى زهِدوا فيها بعد أن علموا عِلمَ يقين أنّها فانية وليست بدار قرار، وما كان منهم إلا أن تَزَوَّدوا منها كزاد الراكب، وما بقي عَمَروا به الآخرة؛ لأنهم أمعنوا النظر وتفكَّروا في أمر الآخرة، فارتحلوا إليها بقلوبهم قبل أن ترحل إليها أبدانهم.
إنَّ لله عبادًا فُطَنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفِتنا
نظروا إليها فلمَّا علموا أنّها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالِح الأعمال سُفُنا
وبمثل هذا أوصى النبي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين قال له: ((كُن في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابر سبيل)) أخرجه البخاري. فامتَثَلَ ابن عمر رضي الله عنه هذه الوصية قولاً وعملاً، فأمَّا القول فقد كان يقول: (أذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك). وأمَّا الفعل فقد كان رضي الله عنه على جانبٍ كبير من الزُّهد فيها والقناعة منها باليسير الذي يُقيم صلبه ويستر بدنه، وما سوى ذلك يُقدّمه لغَدِه.
أيها الإخوة الأكارم، ولقد كان نبيكم يخاف على نفسه وعلى أمته من بسط الدنيا، فقد أخرج البخاري عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: صلَّى رسول الله على قتلى أُحد بعد ثمانِ سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فَرَط، وأنا عليكم شهيد، وإنَّ موعدكم الحوض، وإني لأنظرُ إليه مِن مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تُشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) وهو الجامع الصحيح.
ومثله لما قَدِمَ أبو عبيدة بمال البحرين ـ وذلك مِن حديث عَمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه كما عند البخاري ومسلم ـ فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي ، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرَّضوا له، فتبسم رسول الله حين رآهم، وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء)) ، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) ، وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)).
إخوة الإيمان، أمة القرآن، نبيكم حبيبكم إمامكم وقُدوَتُكم يخاف عليكم، يخاف أن تبسط علينا الدنيا، فتتَنافسُ عليها نفوسنا، وتتولّد الأحقاد بيننا، وتُشغلنا في دنيانا، وتُهلِكنا حتى نخسر أخرانا، ألا ذلك هو الخسران المبين.
وهكذا أيها المؤمنون، لو تأمّلنا في تأريخ كثير من الدول الإسلامية لوجدنا أنَّ مِن أسباب سقوطها وتسلط الأعداء عليها التنافسَ على الدنيا، ومصداق ذلك ما رواه ابن عمر أنَّ النبي قال: ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أدخل الله تعالى عليهم ذلا، لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) وهو في صحيح الجامع.
إذًا علينا ـ إخوة الإيمان ـ أن نَعلَمَ مما سبق بيان حقارة الدنيا، وليس المعنى أن نترك التجارة الدنيوية ونبقى جياعًا عارين محتاجين، بل معناه أن لا نجعلها مقصدًا كما جعلها الكفار، بل نجعل الدنيا وما فيها وسيلةً إلى تلك الحياة الأبدية، فنكون من الفريق الذي يحبّ المال لأجل الآخرة، وأن نجعل غاية هذه الأموال ومنتهاها في أيدينا، وأن لا نجعل لها مسكنًا في قلوبنا.
وعلى هذا المبدأ كان سلف الأمّة رضي الله عنهم حين اتخذوا الدنيا مطية للآخرة، فسادوا بها أهل الدنيا ونالوا العزة، ولمَّا تخلَّفنا عنهم في هذا المبدأ وجعلنا المال هو المقصد ركنّا إلى الدنيا وأحببنا الحياة ولذائذها، فكان مصيرنا أن ضُربنا بالذل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جَلَسَ رسول الله على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: ((إنَّ مما أخاف عليكم مِن بعدي ما يفتح عليكم مِن زهرة الدنيا وزينتها)) متفق عليه، وعنه أنَّ النبي قال: ((إنَّ الدنيا حُلوة خَضِرة، وإنَّ الله تعالى مُستَخلفُكم فيها فينظُرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) رواه مسلم.
وها هو يُخبرُ عن حقيقة الدنيا وخطورتها، وأنَّها ليست إلا خطرًا يُهَدِّد العبد المؤمن في حياته، ثم يخبرنا أيضًا عن عظيم شأن الكفاف والزهد في الدنيا بقوله: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
بل كانت نظرته للدنيا ـ بأبي هو وأمي ـ أعجب من ذلك كلِّه، فكما جاء عن ابن عباس: إنَّ نبيكم قال: ((ما لي وللدنيا؟! وما للدنيا وما لي؟! والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار، ثم راح وتركها)) وهو في صحيح الجامع. فكانت تقول أمكم عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطرٌ من شعيرٍ في رفٍ لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني. متفق عليه.
يا أمة الإسلام، هكذا كانت نظرة نبيكم إلى حقيقة الدنيا، وهكذا يجب أن ننظر إليها نحن.
ما شِقوةُ المرءِ فِي فقرٍ يعيشُ به ولا سعادته يومًا بإكثارِِ
إنَّ الشقيَّ الذي في النار منزله والفوز فوزُ الذي ينجو مِن النارِ
(1/5744)
وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا
الإيمان, موضوعات عامة
خصال الإيمان, مخلوقات الله
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
9/11/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إرادة الله تعالى اليسر بعباده. 2- سنة الابتلاء. 3- نعمة إنزال المطر. 4- وجوب شكر نعمة الأمطار. 5- تنبيه مهم. 6- إهلاك الله تعالى لبعض الأمم بالأمطار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، تَذَكَّرُوا أَنَّ اللهَ يُرِيدُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ، وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا. تَذَكَّرُوا أَنَّ اللهَ بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَأَنَّهُ سُبحَانَهُ قَرِيبُ الغِيَرِ، يَعجَبُ مِن قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُربِ غِيَرِهِ، يَنظُرُ إِلَيهِم يَائِسِينَ قَنِطِينَ، وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّ مَا بهم سَيَنكَشِفُ عَن قَرِيبٍ، اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ.
َلَكِنَّهُ سُبحَانَهُ مَعَ إِرَادَتِهِ اليُسْرَ بِعِبَادِهِ ورَحمتِهِ بهم وَلُطفِهِ فَإِنَّهُ يَبتلِيهِم بِأَنَوَاعٍ مِنَ البَلاءِ، كَمَا قَالَ سُبحَانَهُ: وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، يَبتَلِيهِم سُبحَانَهُ لِيَعلَمَ مِنهُم صِدقَ الوَلاءِ وَعَظِيمَ الرَّجَاءِ، وَلِيَنظُرَ صَحِيحَ التَّوبَةِ مِنهُم وَذُلَّ الدُّعَاءِ، فَيَجزِيَ الصَّادِقِينَ كَرِيمَ الجَزَاءِ وَعَظِيمَ الثَّنَاءِ، وَيَرفَعَ دَرَجَاتِهِم في الدُّنيَا وَفي الأُخرَى، ويُهلِكَ المُكذِّبِينَ المُستَكبِرِينَ عَنِ العِبَادَةِ، المُعرِضِينَ عَنِ التَّوبَةِ المُصِرِّينَ عَلَى الخَطِيئَةِ، وَيُنِيلَهُم مِنَ الذَّمِّ وَالعُقُوبَةِ مَا يَلِيقُ بهم مَا دَامُوا عَلَى تِلكَ الحَالِ، وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتَّى نَعلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُم وَالصَّابِرِينَ وَنَبلُوَ أَخبَارَكُم.
وَلَقَد كَانَ مِنِ ابتِلاءِ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالى لِعِبَادِهِ في هَذِهِ البِلادِ مَنعُ القَطرِ عَنهُم وَحَبسُهُ، وَقِلَّةُ المِيَاهِ في آبَارِهِم وَغَورُهَا وَشُحُّها، وَيَستَسقِي المُسلِمُونَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً وَسَنَوَاتٍ مَتَوَالِيَةً وَيَستَغِيثُونَ، وَيَدعُونَ وَمَا يَكَادُون يُجَابُونَ وَلا يُسقَونَ، وَمَا يَزدَادُ مَطرُ السَّمَاءِ إِلاَّ قِلَّةً وَامتِنَاعًا، وَمَا تَزدَادُ مِيَاهُ الأَرضِ إِلاَّ غَورًا وَنَقصًا، حتى لَيُصَابُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِاليَأسِ وَالقُنُوطِ، فَيَستَبطِئُونَ نُزُولَ الغَيثِ وَيُصبِحُونَ مُبلِسِينَ، وَلِكنَّ فَضلَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَاسِعٌ، وَرَحمتُهُ بِالمحسِنِينَ مِنهُم أَقرَبُ، فَهَا هُو سُبحَانَهُ يُغِيثُهُم هَذِهِ الأَيَّامَ، فَيَنزِلُ المَطَرُ بِرَحمتِهِ في أَنحَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ البِلادِ صَيِّبًا مِدرَارًا، فَلَهُ تَعَالى الحَمدُ عَلَى مَا أَعطَى، وَلَهُ الشُّكرُ عَلَى مَا أَولى، وَنَسألُهُ المَزِيدَ مِن فَضلِهِ وجُودِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ.
وَلا شَكَّ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أَنَّ إِنزَالَ الغَيثِ مِن أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تَعَالى عَلَى عِبَادِهِ، وَلا رَيبَ أَنَّ مِنَّةَ اللهِ عَلَيهِم بِالمَاءِ عَظِيمَةٌ وَكَبِيرَةٌ، فَهُوَ حَيَاةُ أَبدَانِهِم وَطَهَارَةُ أَجسَامِهِم، وَهُوَ حَيَاةُ زُرُوعِهِم وَقِوَامُ مَوَاشِيهِم، وَجَعَلْنَا مِنَ المَاء كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤمِنُونَ.
وَقَد ذَكَرَ سُبحَانَهُ إِنزَالَهُ المَاءَ في مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ مِن كِتابِهِ المَجِيدِ، وَجَعَلَهُ آيةً مِن أَعظَمِ آيَاتِهِ في الكَونِ، وَامتَنَّ عَلَى العِبَادِ بِإِنزَالِهِ؛ ممَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ نَفعِهِ لهم وَكَبيرِ احتِيَاجِهِم إِلَيهِ وَاضطِرَارِهِم لَهُ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: أَلم تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأَرضِ ثُمَّ يُخرِجُ بِهِ زَرعًا مُختَلِفًا أَلوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصفَرًّا ثُمَّ يَجعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكرَى لأُولي الأَلبَابِ ، وَقَالَ تَعَالى: أَلم تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصبِحُ الأَرضُ مُخضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَسمَعُونَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: أَوَلم يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاء إِلى الأَرضِ الجُرُزِ فَنُخرِجُ بِهِ زَرعًا تَأكُلُ مِنهُ أَنعَامُهُم وَأَنفُسُهُم أَفَلا يُبصِرُونَ ، وَقَالَ جَلَّ مِن قَائِلٍ: وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهجَةٍ مَا كَانَ لَكُم أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَسَالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسكَنَّاهُ في الأَرضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: أَفَرَأيتُمُ المَاءَ الذي تَشرَبُونَ أَأَنتُم أَنزلتُمُوهُ مِنَ المُزنِ أَم نحنُ المُنزِلُونَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ أَصبَحَ مَاؤُكُم غَورًا فَمَن يَأتِيكُم بِمَاءٍ مَعِينٍ.
وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَإِذَا تَبَيَّنَّا حَاجَتَنَا المَاسَّةَ إِلى هَذِهِ النِّعمَةِ العَظِيمَةِ، وَأَنَّهُ لا قُدَرَةَ لَنَا عَلَى جَلبِهَا إِذَا غَارَت وَاستَعادَتِها إِذَا نَضُبَت، أَو إِغداقِها إِذَا شَحَّت وَزِيَادَتِهَا إِذَا نَقَصَت، فَإِنَّ الوَاجِبَ عَلَينَا أَن نَشكُرَ اللهَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَى بَلادِنَا مِن هَذَا الغَيثِ الَّذِي أَنزَلَهُ عَلَى مُعظَمِ مَنَاطِقِهَا هَذِهِ الأَيَّامَ، فَالشُّكرُ يَحفَظُ النِّعَمَ وَيُقَيِّدُهَا، وَتَكرَارُهُ يَزِيدُهَا وَيُنَمِّيهَا، وَبِدَوَامِهِ دَوَامُها وَضَمَانُ استِمرَارِهَا، قَالَ سُبحَانَهُ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ ، وَقَالَ تَعَالى: وَسَنَجزِي الشَّاكِرِينَ.
وَإِنَّ شُكرَ اللهِ سُبحَانَهُ يَجِبُ أَن يَكونَ بِكُلِّ أَركَانِ الشُّكرِ؛ بِالقَلبِ اعتِرَافًا وَإِقرَارًا، وَبِاللِّسانِ تحدُّثًا وَثَنَاءً، وَبِالجَوَارِحِ وَالأَركَانِ طَاعَةً وَعَمَلاً، إِنَّهُ بِنِسبَةِ النِّعَمِ إِلى مُولِيهَا وَمُسدِيهَا، إِنَّهُ بِأَدَاءِ مَا افتَرَضَهُ الخَالِقُ الرَّازِقُ مِن فَرَائِضَ وَوَاجِبَاتٍ، وَتَركِ مَا نَهَى عَنهُ مِن مَعَاصٍ وَمُحَرَّمَاتٍ، واستِعمَالِ النِّعَمِ في طَاعَتِهِ وَعَدَمِ الاستِعَانَةِ بها عَلَى شَيءٍ مِن مَعَاصِيهِ، قَالَ تَعَالى: اِعمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا، وَقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ ، وَقَالَ تَعَالى: وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يَغتَرُّ بِنُزُولِ المَطَرِ على كُلِّ حَالٍ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ لا يَنزِلُ إِلاَّ رِضًا مِنَ اللهِ، وَيحسَبُ أَنَّ تَقلُّبَهُ في نِعَمِ رَبِّهِ دَلِيلُ رِضاهُ عَنهُ وَإِنْ أَسرَفَ وَعَصَاهُ، وَلَيسَ الأَمرُ كَذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلاَّ لَكَانَت بِلادُ المُسلِمِينَ أَكثَرَ البِلادِ مَطَرًا، وَلَكَانَت بِلادُ الكُفرِ أَقَلَّهَا غَيثًا وَخَيرًا، وَالوَاقِعُ عَلَى العَكسِ مِن ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ، لا يَعلَمُونَ أَنَّ تَوَالِيَ النِّعَمِ مَعَ استِمرَارِ المَعصِيَةِ قَد يَكُونُ استِدرَاجًا مِنَ اللهِ سُبحَانَهُ، فَإِنَّهُ سُبحَانَهُ يَقُولُ: سَنَستَدرِجُهُم مِن حَيثُ لا يَعلَمُونَ ، وَعَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((إِذَا رَأَيتَ اللهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ استِدرَاجٌ)) ، ثم تَلا رَسُولُ اللهِ : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ.
وَإِنَّنَا لا نَقُولُ هَذَا الكَلامَ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ سُوءَ ظَنٍّ بِاللهِ سُبحَانَهُ، وَلَكِنَّنَا نُحَذِّرُ أَنفُسَنَا وَإِخوَانَنَا مِنَ الغَفلَةِ عَن سُنَنِ اللهِ وَتَركِ شُكرِهِ جَلَّ وَعَلا وَكُفرَانِ نِعَمِهِ، فَكَم مِن أُمَّةٍ كَانَ مَسَاؤُها نَعِيمًا وَتَرَفًا ثم كَانَ صَبَاحُها جَحِيمًا وَعَذَابًا! وَكَم مِن دَولَةٍ كَانَ لَيلُها لَعِبًا وَلهوًا وَطَرَبًا ثم كَانَ نَهَارُهَا قَتلاً وَفَتكًا وَطَردًا وَتَشرِيدًا! وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ ، وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ، لَقَد كَانَ لِسَبَإٍ في مَسكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُرُوا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمطٍ وَأَثلٍ وَشَيءٍ مِن سِدرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ.
فَتَأَمَّلُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ في هَؤُلاءِ المُعَذَّبِينَ، فَمِنهُم قَريَةٌ كَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ ، وَأُخرَى ظَالِمَةٌ ، وآخَرُونَ أَعرَضُوا. نَعَمْ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، الكُفرُ بِأَنعُمِ اللهِ وَالظُّلمُ لِلنَّفسِ وَلِعِبَادِ اللهِ وَالإِعرَاضُ عَن شَرعِ اللهِ وَعَن طَاعَتِهِ كُلُّ أُولئِكَ ممَّا يَجلِبُ عَلَى القُرَى وَأَهلِهَا الجُوعَ وَالخَوفَ، وَيَمنعُهُمُ الأَمنَ وَالخَيراتِ وَنُزُولَ الأَمطَارِ وَالبَرَكَاتِ، وَيُنزلُ عَلَيهِمُ العَذَابَ وَيُحِلُّ فِيهِمُ النِّقمَةَ. وَفي المُقَابِلِ فَإِنَّ شُكرَ النِّعمِ وَأَدَاءَ الحُقُوقِ كَفِيلٌ بِتَوَافُرِ النِّعَمِ وَتَوَالِيهَا، عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ قَالَ: ((بَينَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرضِ فَسَمِعَ صَوتًا في سَحَابَةٍ: أَسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرَجَةٌ مِن تِلكَ الشِّرَاجِ قَدِ استَوعَبَت ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بِمِسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبدَ اللهِ، مَا اسمُكَ؟ قَالَ: فُلانُ، لِلاسمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبدَ اللهِ، لِمَ تَسألُني عَنِ اسمِي؟ فَقَال: إني سَمِعتُ صَوتًا في السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: أَسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَما إِذْ قُلتَ هَذَا فَإِني أَنظُرُ إِلى مَا يخرُجُ مِنهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ)). فَهَذَا جَزَاءُ مَن شَكَرَ النِّعَمَ وَاستَعَانَ بِهَا عَلَى مَا يُرضِي اللهَ وَأَدَّى حَقَّ اللهِ فِيهَا.
فَاحمَدُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم مِن هَذَا الغَيثِ المُبَارَكِ، وَاسأَلُوهُ سُبحَانَهُ أَن يَجعَلَهُ رَحمَةً لَكُم وَقُوَّةً وَبَلاغًا إِلى حِينٍ، وَاشكُرُوهُ يَزِدْكُم وَيُبَارِكْ لَكُم، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ في أَوقاتِهَا مَعَ الجَمَاعَةِ، وَاستَقِيمُوا عَلَى الصِّرَاطِ وبَادِرُوا إِلى الطَّاعَةِ، أَدُّوا الحُقُوقَ إِلى أَهلِهَا وَلا تَبخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُم وَلا تَعثَوا في الأَرضِ مُفسِدِينَ، وَارحَمُوا مَن في الأَرضِ يَرحمْكُم مَن في السَّمَاءِ، فَرِّجُوا كُرَبَ المَكرُوبِينَ، وَأَنظِرُوا المُعسِرِينَ، أَطيبُوا المَطعَمَ، وَاحذَرُوا أَكلَ الحَرَامِ، وَتُوبُوا إلى اللهِ مِن جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، أَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم، وَصِلُوا أَرحَامَكُم، وَاحذَرُوا كُلَّ مَا يَقطَعُ صِلَتَكُم بِرَبِّكُم وَيَجلِبُ سَخَطَهُ عَلَيكُم، ثم أَبشِرُوا بَعدَ ذَلِكَ بِالخَيرَاتِ وَالبَرَكَاتِ وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، فَإِنَّ خَزَائِنَ اللهِ مَلأَى، لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ، إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، وَهُوَ لم يَخلُقِ الخَلقَ لِيُعَذِّبَهُم وَلَكِنْ لِيَرحمَهُم.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، مَا يَفعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم، وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ، وَاشكُرُوهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم وَلا تَجحَدُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ كَمَا أَنَّ المطرَ نِعمَةٌ مِنَ اللهِ ورَحمةٌ فَإِنَّهُ جُندٌ مِن جُنُودِهِ المُطِيعِينَ، يُهلِكُ بِهِ مَن كَذَّبَهُ وَعَصَاهُ وَخَالَفَ أَمرَهُ، كَمَا أَهلَكَ بِهِ قَومَ نُوحٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبدَنَا وَقَالُوا مَجنُونٌ وَازدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَني مَغلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحنَا أَبوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنهَمِرٍ وَفَجَّرَنا الأَرضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمرٍ قَد قُدِرَ وَحَمَلنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلوَاحٍ وَدُسُرٍ تجرِي بِأَعيُنِنَا جَزَاءً لِمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَد تَرَكنَاهَا آيَةً فَهَل مِن مُدَّكِرٍ فَكَيفَ كَانَ عَذَابي وَنُذُرِ.
وَمَا زِلْنَا نَرَى إلى وَقتِنَا الحاضِرِ الأَعَاصِيرَ المُرَوِّعَةَ وَالفَيَضَانَاتِ المُدَمِّرَةَ، يُرسِلُهَا اللهُ عَلَى كَثِيرٍ مِن دِيَارِ الكُفرِ وَالفُسُوقِ، فَتَنسِفُ المَنَازِلَ وَتَهدِمُ المَسَاكِنَ، وَتَقتَلِعُ الأَشجَارَ وَتُتلِفُ الحُرُوثَ، وَيَغرَقُ فِيهَا النَّاسُ وَتَهلَكُ بِسَبَبِها الدَّوَابُّ وَالمَوَاشِي؛ ولِذَا فَقَد كَان نَبِيُّنَا يَفزَعُ عِندَ رُؤيَةِ السَّحَابِ ولا يَفرَحُ بِهِ فَرَحًا مُطلَقًا كَمَا يَفعَلُ النَّاسُ اليَومَ؛ لأَنَّهُ يَخشَى أَن يَكونَ عَذَابًا، قَالَت عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الغَيمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَن يَكُونَ فِيهِ مَطَرٌ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيتَهُ عَرَفتُ في وَجهِكَ الكَرَاهِيَةَ! فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُني أَن يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ قَد عُذِّبَ قَومٌ بِالرِّيحِ، وَقَد رَأَى قَومٌ العَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمطِرُنا)). وَكَانَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِني أَسأَلُكَ خَيرَهَا وَخَيرَ مَا فِيهَا وَخَيرَ مَا أُرسِلَت بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرسِلَت بِهِ)). وَكَانَ إِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَونُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقبَلَ وَأَدبَرَ، فَإِذَا أَمطَرَت سُرِّيَ عَنهُ. وَكَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعدَ والصَّوَاعِقَ قَالَ: ((اللَّهُمَّ لا تَقتُلْنَا بِغَضَبِكَ، ولا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنا قَبلَ ذَلِكَ)).
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاحمَدُوهُ أن جَعَلَ المَطَرَ عَلَيكُم نِعمَةً وَرَحمَةً، وَاشكُرُوهُ بِالقِيَامِ بما أَوجبَهُ عَلَيكُم وَأَمَرَكُم بِهِ، وَالانتِهَاءِ عَمَّا حَرَّمَهُ عَلَيكُم وَنَهَاكُم عَنهُ، وَاحذَرُوا مِنَ الأَشَرِ وَالبَطَرِ وَتَجَاوُزِ الحَدِّ بِالفَرَحِ، فَإِنَّ بَعضَ النَّاسِ يَحدُثُ مِنهُم في أَيَّامِ نُزُولِ الأَمطَارِ تَجَاوُزَاتٌ لا تَلِيقُ بِالشَّاكِرِينَ؛ مِنَ الخُرُوجِ بِنِسَائِهِم في البَرَارِي غَيرَ مُحتَشِمَاتٍ، أو الجُلُوسِ في العَرَاءِ وَعَدَمِ تَوَخِّي الأَمَاكِنِ السَّاتِرَةِ، أَو إِهمَالِ الصِّغَارِ وَالجُهَّالِ يَخُوضُونَ في مَجَارِي الأودِيَةِ أَو يَسبَحُونَ في السُّدُودِ وَالمُستَنقَعَاتِ؛ ممَّا يُعَرِّضُ حَيَاتَهُم لِلخَطَرِ، أَو تَركِ الحَبلِ عَلَى الغَارِبِ لِلشَّبَابِ وَالمُرَاهِقِينَ وَعَدَمِ السُّؤَالِ عَنهُم، حَيثُ يَخرُجُونَ لِلنُّزهَةِ وَيَترُكُونَ الصَّلاةَ، وَقَد يَتَنَاوَلُونَ المُحَرَّمَاتِ وَيَفعَلُونَ المُنكَرَاتِ، وَيَعبَثُونَ بِسَيَّارَاتِهِم وَيَتَعَدَّونَ الحُدُودَ، وَكُلُّ ذَلِكَ ممَّا لا يَلِيقُ بِالمُؤمِنِينَ الشَّاكِرِينَ. فَاحذَرُوا ذَلِكَ، وَاسأَلُوا اللهَ البَرَكَةَ فِيمَا نَزَلَ، فَإِنَّهُ لا قِيمَةَ لَهُ مَا لم يُبَارِكِ اللهُ فِيهِ، وَالقَحطُ الحَقِيقِيُّ أَن يَمحَقَ اللهُ البَرَكَةَ ممَّا في أَيدِي النَّاسَ وَيَسلُبُهُم إِيَّاهَا بِسَبَبِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، في صَحِيحِ مُسلِمٍ وَغَيرِهِ عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((لَيسَتِ السَّنَةُ بِأَن لا تُمطَرُوا، وَلَكِنَّ السَّنَةَ أَن تُمطَرُوا وَتُمطَرُوا وَلا تُنبِتَ الأَرضُ شَيئًا)).
(1/5745)
الحياء ذلك الخلق العظيم
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عبد الله بن صالح المؤدب البدروشي
شنني قابس
9/11/1429
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحياء. 2- حقيقة الحياء. 3- نماذج من حياء السلف الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان والعقيدة، نلتقي اليوم بإذن الله تبارك وتعالى مع خلق عظيم، مع خلق عظمه الله فاتخذه صفة من صفاته، وجعله حبيبنا خلقا من أخلاقه، وفتحه الرسول بابا لدخول آله وأصحابه وصالح المؤمنين من أمته.
هذا الخلق العظيم هو خلق الحياء، وإذا حضر الحياء حضرت الفضيلة والأخلاق الحميدة، وإذا غاب الحياء حلّت الفحشاء والبغضاء والشحناء، وصدق رسول الله حيث يقول: ((ما كان الفحش في شيء إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء إلا زانه)).
هذا الخلق العظيم هو صفة من صفات ربنا جل وعلا، يقول حبيبنا : ((إن الله حيي يحب الحياء، ستير يحب الستر)) ، ويقول أيضا: ((إن ربكم حيي كريم، يستحي أن يبسط العبد يديه إليه فيردهما صفرا)).
هذا الخلق العظيم هو كذلك خلق الملائكة، يقول النبي : ((أطت السماء ـ أي: ثقلت ـ وحقّ لها أن تئطّ، ما فيها موضع ثلاثة أصابع إلا وملك ساجد أو ملك راكع أو ملك قائم لله عز وجل، حتى إذا قامت القيامة يقولون: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك)) ؛ يستحيون من الله وهم ما عاشوا منذ خلقوا إلا في عبادة، فماذا يقول الإنسان؟! ماذا يقول ابن آدم وقد حملته الدنيا وألهته مشاغلها؟!
هذا الخلق العظيم هو خلق النبي ، أخبرنا الصحابي أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في حقّ حبيبنا قال: كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
هذا الخلق العظيم هو خلق الأنبياء جميعا صلوات الله وسلامه عليهم، يقول شفيع هذه الأمة : ((إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) ، فكل نبي دعا للتحلّي بالحياء.
هذا الخلق العظيم هو خلق الإسلام العظيم، يقول حبيبنا : ((إن لكل دين خلقا، وإن خلق الإسلام الحياء)).
فإذا كان هذا هو الحياء صفة لخالقنا وخلُقا لملائكته وأنبيائه وخاتم رسله، إذا كان هذا الحياء انبنى عليه الدين، فأين موقعنا من الحياء؟ هل نراه في عبادتنا؟ هل نراه في أخلاقنا؟ هل نراه في تعاملنا؟ هل نراه في بيوتنا؟ هل نراه في شوارعنا؟ هل نراه في أسواقنا؟
تعالوا نفتح معا صفحة الحياء لنقرأ في أعلاها في ناصيتها أعظم الحياء الحياء من الله، وكأني أنظر إلى مجلس رسول الله بالمسجد النبوي وهو يوجه ويعظ أصحابه، ومن خلالهم يعلّم الأمة جمعاء، يقول الحبيب : ((استحيوا من الله حق الحياء)) , قال الصحابة: إنا لنستحيي من الله يا رسول الله والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).
لما خلق الله جدنا آدم عليه السلام وخلق له زوجه وأسكنه فراديس جنته وأمره وزوجه أن لا يقربا تلك الشجرة خنس إليهما الشيطان، وأنساهما نداء الرحمان، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، وتجلى الخالق فهرب آدم، ظلّ يجري ويهرول يتخفّى تحت أشجار الجنة، ناداه ربّ العزّة تبارك وتعالى: إلى أين يا آدم؟ أفرارا مني؟! قال آدم: لا يا ربي بل حياء منك.
فأعظم الحياء هو الحياء من الله جل في علاه، فكيف الحياء من الله يا رسول الله؟ قال: ((أن تحفظ الرأس وما وعى)) ، أن تكون مؤمنا، أن لا تفكر إلا في خير، وأن لا تنظر إلا إلى حلال، وأن لا تتكلم إلا بطاعة، وأن لا تسمع إلا ما فيه أجر وثواب، أن تجعل نصب عينك وسمعك قول الخالق جل وعلا: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُول?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً.
أما إذا ضاع الحياء من الفكر رأيت عجبا، رأيت ناسا يلبسون ما يشتهون، ويتكلمون ما يشاؤون، ويسمعون ما يستلذون. إذا ضاع الحياء من الفكر رأيت أفلاما يندى لها الجبين، سمعت أغاني لا هم لها إلا الفحش والفواحش، قرأت أقلاما تتباهى بالمنكر وتتأفف من المعروف، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
فالحياء من الله أوّله أن تحفظ الرأس وما وعى، نعم يا رسول الله، ثم ماذا؟ قال: ((وأن تحفظ البطن وما حوى)) ، أن تملأ قلبك بحبّ الله وحب رسول الله وحب المؤمنين وحب الخير وحب كل خصلة حميدة وكل خلق فاضل، أن تطيب مأكلك ومشربك، أن تأكل حلالا وتشرب حلالا، يقول حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: تليت عند رسول الله قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي : ((يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به)).
((أن تحفظ البطن وما حوى) )؛ بأن تظفر بذات الدين، بالزوجة الصالحة التي تملأ حياتك خيرا وصلاحا، كانت أمهاتنا الصالحات من أسلافنا الطيبين إذا خرج زوجها للعمل تقول له: اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا حلالا؛ فإننا نصبر على الجوع ولكننا لا نصبر على نار جهنم، فَالصِّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ. كنّ يصُنَّ العرض، ويحملن الحياء حتى بعد الموت، الزهراء فاطمة بنت رسول الله ورضي الله عنها لما مرضت مرض الموت الذي توفيت فيه دخلت عليها أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأسماء بنت عميس هي الصحابية المهاجرة إلى الحبشة مع زوجها الأوّل ابن عم رسول الله جعفر بن أبي طالب الذي مات عنها شهيدا في غزوة مؤتة، فتزوجت أسماء من أبي بكر الصديق، فأنجبت له محمدا، ومات عندها الصديق، فكانت وصيته أن تغسله أسماء، فغسلته، ثم تزوجت الإمام علي بن أبي طالب، فولدت له يحيى، وماتت عنده في أواخر خلافة سيّدنا عثمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين. جاءت أسماء بنت عميس وكانت في ذلك الوقت زوجة للصديق، جاءت تزور الزهراء، فقالت لها: يا أسماء، والله إني لأستحي أن أخرج غدا ـ أي: إذا مت ـ على الرجال وجسمي بارز من خلال هذا النعش، وكانت النعوش آنذاك عبارة عن خشبة مصفّحة يوضع عليها الميت ثم يطرح على الجثة ثوب, ولكنه كان يصف حجم الجسم، فقالت لها أسماء: أوَلا أصنع لك شيئًا رأيتُه في الحبشة؟ فصنعت لها النعش المغطّى من جوانبه ـ مثل الذي عندنا الآن ـ ودعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت على النعش ثوبًا فضفاضا واسعا، فكان لا يصف، فلما رأته فاطمة قالت: سترك الله كما سترتني يا أسماء. نساءٌ مُسْلِمَاتٌ مُؤْمِنَاتٌ قَانِتَاتٌ تَائِبَات عَابِدَات، جمعهن الحياء فالتقين على طاعة الله.
((الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى)) ، ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: ((وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)). والله يا عباد الله، لو تذكر الإنسان الموت وفجاءة الموت وجعل هذا المصير بين عينيه وعلم أنه سيوضع في تلك الحفرة وفي ذلك اللحد الضيق يمدّد وحيدًا فريدًا لا حول له ولا قوة لاستحيا من الله حق الحياء، فإذا استحيا المؤمن من الله استحيا من الناس، واستحيا منه الناس، فسعد في دنياه وأخراه.
اللهم ارزقنا الحياء وطيب الأخلاق، واجمعنا على المحبة والتآلف والوفاق، واجعلنا من عبادك الطائعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5746)
البكاء من خشية الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
مراد بن عياش اللحياني
مكة المكرمة
9/11/1429
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هدي منسي. 2- فضل البكاء من خشية الله تعالى. 3- أسباب قسوة القلب. 4- طريق البكاء من خشية الله. 5- علامات رقة القلب. 6- نماذج من بكاء السلف من خشية الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد غاب عن حياة الكثيرين منا سمت جليل وسمة ربانية، أنستنا الدنيا ومشاغلها ولهونا بها في الليل والنهار هذه الخصلةَ الكريمة الشريفة، وهي صفة قد امتدح الله ورسوله فاعليها.
نعم، لقد فقدنا البكاء من خشية الله، وغاب عنا هذا السمت البكائي، وندر حتى صار يقال: إن فلانًا يبكي! وحتى صار من المستغرب أن تجد من يخشع في الموعظة، وحتى صار صفّ الملتزمين في الصلاة أشح بالدمع من الصخر. إن هذا كله مؤذن بخلل خطير ومنذر بشرٍّ وبيل.
لا نريد المخادعة ولا الضحك على النفس، فربما التمس الإنسان لنفسه ألف عذر، وربما قال ما قال إياس لأبيه: "إنما هي رقّة في القلوب"، يريد أن المسألة طبائع، فهناك من في قلبه رقة، وهناك من في قلبه قسوة! وكل هذه مبررات واهية وحجج ساقطة، واجعل نصب عينيك أبدًا قول من قال: "إذا لم تبك من خشية الله فابك على نفسك لأنك لم تبك".
كثير منا من يقرأ القرآن ولكن لا تدمع عيونه من خشية الله، وكثير منا من يستمع إلى أحاديث تذكره بالآخرة وتخوفه بالنار وتحببه في الجنة ولكن قلبه لا يخشع ولا يخضع ولا يلين، فقد عمت البلوى، وانتشرت المعاصي والآثام، فلم يبقَ لهذا القلب خوف من الله، ولم يبق لهذه العين خشية حتى تدمع شوقًا إلى الله.
أيها الإخوة، ليسأل الواحد منا نفسه: بالله عليك، متى آخر مرة دمعت عيناك خشية وخوفًا من الله؟ ولعل جواب كثير منا قد يكون: من سنوات عديدة، أو إنها لم تدمع أصلاً خشية لله، فلماذا هذه القسوة في القلوب؟! ولماذا هذا التحجر في العيون؟! ما هو إلا بسبب الابتعاد عن منهج الله والركون إلى هذه الدنيا الفانية، فقد نقرأ القرآن ولا نتأثر ولا نبكي، ونسمع أحاديث النبي ولا تقشعر الجلود، ونسمع المواعظ والتخويف بالله وبالآخرة ولا تحرك فينا ساكنا، وحسبنا هذا التهديد الإلهي المخيف: فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ ، قال مالك بن دينار رحمه الله: "ما ضرب الله عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله عز وجل على قوم إلا نزع منهم الرحمة".
أيها المؤمنون، إن البكاء من خشية الله تعالى مقام عظيم، وهو مقام الأنبياء والصالحين، إنه مقام الخشوع وإراقة الدموع خوفًا من الله، إنه التعبير عن حزن القلب وانكسار الفؤاد.
عباد الله، يقول الله سبحانه وتعالى عن أولئك الذين تدمع عيونهم من خشية الله وترق قلوبهم لذكر الله، يقول سبحانه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، ويقول عنهم سبحانه أيضًا: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ، ويقول كذلك: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا.
إن البكاء من خشية الله تعالى من أعظم الأمور التي يحبها الله تبارك وتعالى، فعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله)) الحديث. رواه الترمذي وصححه الألباني.
وانظروا إلى الفضل العظيم الذي أعده الله سبحانه لصاحب العين التي تدمع خشية وخوفًا من الله، يقول النبي : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) ، ويقول : ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) رواهما الترمذي وصححهما الألباني. وقد عدّ النبي الرجل الذي يبكي من خشية الله من السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، يقول النبي : ((سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله)) ، ذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) متفق عليه.
ما رق قلب لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقًا إلى الخيرات مشمرًا في الطاعات، ما رق قلب لله عز وجل إلا كان حريصًا على طاعة الله ومحبته، ما رق قلب لله عز وجل إلا وجدت صاحبه مطمئنًا بذكر الله، وما رق قلب لله عز وجل إلا وجدته أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل، فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطشه تبارك وتعالى، ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفًا وخشية للرحمن سبحانه وتعالى، ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا ارتعدت فرائصه من خشية المليك سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون، من أعظم أسباب القسوة للقلب وقلة البكاء من خشية الله الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها.
وكذا من الأسباب كثرة الذنوب، فوالله ما تحجّرت العيون وقست القلوب إلا بتراكم المعاصي والآثام، فأصبح القلب لا يجد مساغًا لآيات تتلى وأحاديث تُذكِّر، والنبي يقول: ((إن العبد إذا أذنب ذنبًا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني. فقد أظلم هذا القلب بشؤم المعصية، فكيف لقلب علاه الران أن يبكي من خشية الله؟! وكيف لقلب سودته المعاصي والآثام أن يتفكر في خلق الله؟!
ومن أسباب قسوة القلوب الجلوس مع الفساق ومعاشرة من لا خير في معاشرته؛ ولذلك ما ألف الإنسان صحبة لا خير في صحبتها إلا قسا قلبه من ذكر الله تبارك وتعالى.
أحبتي في الله، إن البكاء من خشية الله نعمة ما وجدت على الأرض أجل وأعظم منها، وما من قلب يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ؛ لذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر: كيف أرقّق قلبي لذكر الله ومحبته؟
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ للبكاء أسبابًا وسبلاً، أولها الإيمان بالله، فما رقّ قلب بسبب أعظم من الإيمان بالله، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا رقّ قلبه ودمعت عينه، فلا تأتيه الآية من الله والحديث عن رسول الله إلا قال بلسان حاله ومقاله: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
وكذا من الأسباب النظر والتدبر في كتاب الله وآياته، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. فالمؤمن المتدبر لآيات الله هو أرق الناس قلبا وأنقاهم نفسًا، وما قرأ العبد هذه الآيات متفكرًا متدبرًا إلا صارت العين تدمع والقلب يخشع والنفس تخضع، وإذا بأرض هذا القلب تنقلب خصبة غضّة طرية، تنبت في النفس السكينة والخضوع لله رب العالمين، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
إن هذا القرآن موعظة ربّ العالمين وكلام إله الأولين والآخرين، فما قرأه عبد يرجو الهداية إلا وتيسرت له أسبابها واتضحت له طرائقها. هذا القرآن الذي حوّل قلوب الصحابة من الظلمة إلى الإشراق ومن الغلظة إلى الرقة، فها هو عمر بن الخطاب يسمع آيات من سورة طه فتملأ قلبه القاسي رقة وخشية، وها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يسمع آيات من الذكر الحكيم فيسارع إلى هذا الدين مؤمنًا مستجيبًا لأوامره داعيًا قومه إليه، وهذا أسيد بن الحضير جاء ليمنع مصعبًا من الدعوة في المدينة فيشير عليه مصعب بسماع بعض الآيات، فما هي إلا آيات تتلى وإذا بها تسري إلى القلب سريان النور في الظلماء، حتى يسلم أسيد ويتحول من محارب للإسلام إلى داع إليه؛ لذلك ما أدمن عبد تلاوة القرآن إلا رق قلبه من خشية الله.
ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله تذكّر الآخرة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وجحيمها، أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة وأن المتاع فان فإنه حينئذ يحتقر الدنيا، ويقبل على ربها، عندئذ يرق قلبه وتدمع عينه وتخشع جوارحه.
أيها المؤمنون، إن لرقّة القلب علامات، فمن علامات رقة القلب أن لا يفتر صاحبه عن ذكر ربّه، فإن ذِكرَ الله تطمئن به القلوب، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. وفي القلب فاقة لا يسدّها إلا ذكر الله، فيكون صاحبه غنيًا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أشكو قسوة قلبي! قال: أذِبه بذكر الله.
ومن علامات رقّة القلب أن يكون صاحبه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، ووجد فيها راحته ونعيمه وقرّة عينه وسرور قلبه، وسبحان الله! نحن الواحد منا إذا دخل في الصلاة تذكّر أمور دنياه، وما هذا إلا لقسوة في القلب.
ومن علامات رقه القلب أن صاحبه إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات وجد لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله ودنياه.
ومنها أن صاحبه يخلو بربّه فيتضرع إليه ويدعوه، ويتلذّذ بين يديه سبحانه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اطلب قلبك في مواطن ثلاثة: عند سماع القرآن، وعند مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده فسَل الله قلبًا فإنه لا قلب لك).
ولعلنا نسأل أو نتساءل: من أين تأتي رقة القلوب وانكسارها وإنابتها إلى ربها؟ ومن الذي يتفضل عليها بإخباتها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، كما قال : ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد ضرب أسلافنا المثل الأعلى في خشوعهم وإنابتهم لربهم عز وجل، فأورثهم الله نور الإيمان في قلوبهم، فصارت قلوبهم لينة من ذكره تعالى، فما تكاد تخلو بالله إلا فاضت أعينهم من الدمع من كمال خشيته. وكان أولهم حبيبنا ورسولنا ، فقد كان أخشى الناس لله وأرقهم قلبًا عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنّ النبي قال له: ((اقرأ عليّ القرآن)) ، فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيدًا ، فقال رسول الله : ((حسبك)) ، فإذا عيناه تذرفان. وقد ثبت عنه أنه كان إذا صلى سمِع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتدّ غليانه. رواه أبو داود وأحمد والنسائي.
أيها المسلمون، هذه حال النبي في بكائه من خشية الله، أخذها الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم، فقد روى الحاكم والبزار بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر بعد وفاة النبي فاستسقى، فقدم له قدح من عسل مشوب بماء، فلما قربه إلى فيه بكى وبكى حتى أبكى من حوله، فما استطاعوا أن يسألوه عن سبب بكائه، فسكتوا وما سكت، ثم رفع القدح إلى فيه مرة أخرى، فلما قربه من فيه بكى وبكى حتى أبكى من حوله، ثم سكتوا فسكت بعد ذلك، وبدأ يمسح الدموع من عينيه ، فقالوا: ما أبكاك يا خليفة رسول الله؟! قال: كنت مع رسول الله في مكان ليس معنا فيه أحد وهو يقول: ((إليكِ عني، إليك عني)) ، فقلت: يا رسول الله، من تخاطب وليس ها هنا أحد؟! قال : ((هذه الدنيا تمثّلت لي فقلت لها: إليكِ عني، فقالت: إن نجوتَ مني فلن ينجو مني من بعدك)) ، فخشيت من هذا.
وبكت فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله ذات مرة، فسئلت فقالت: رأيت عمر بن عبد العزيز ذات ليلة قائمًا يصلي، فأتى على هذه الآية: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ، فبكى ثم قال: وا سَوءَ صباحاه، فسقط على الأرض وجعل يبكي حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق إفاقة فنادى: يا سَوءَ صباحاه، ثم قفز فجعل يجول في الدار ويقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت، حتى أتاه الإذن للصلاة، فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.
وقام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى، ثم اجتمع عليه أهله ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل أبو حازم هدأ محمد بن المنكدر بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ، فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا: أتينا بك لتخفّف عنه فزدته بكاء! ولكنه قول الله: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ.
وكان الربيع بن خثيم يبكي بكاء شديدا، فلما رأت أمه ما يلقاه ولدها من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بنيّ، لعلك قتلتَ قتيلا؟! فقال: نعم يا والدتي قتلت قتيلا، فقالت: ومن هذا القتيل يا بني نتحمل إلى أهله فيُعفوك؟ والله، لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك، فقال الربيع: يا والدتي هي نفسي، يا والدتي هي نفسي.
عباد الله، هذا بكاء السلف، وهذه دموع البكائين تسيل، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينا للدموع تعار
(1/5747)
المخدرات وأضرارها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
خالد بن سلمان الضوّي
سكاكا
جامع الثغيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله تعالى للإنسان. 2- مقصد حفظ العقل. 3- تحريم المخدرات. 4- أضرار الخمر والمخدرات. 5- المخدرات المنتشرة بين الشباب في هذا الزمان. 6- نهاية المتعاطي. 7- وعيد متعاطي الخمور والمخدرات. 8- جزاء المتقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَ ضلالةٍ في النار.
عبادَ الله، نِعَمُ اللهِ عزَّ وجلَ على الإنسانِ لا تعدُّ ولا تحصى، قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ. ومن هذه النعمِ تكريمُه عزَّ وجل لبني آدم، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ، قال القرطبيُّ رحمه الله: "التفضيلُ إنما كان بالعقلِ الذي هو عُمدةُ التكليفِ". فمن هنا جاءَ الشرعُ المطهرُ بحفظِ العقلِ، بل كان ذلك من أعظمِ مقاصدِه إضافةً إلى حفظِ الدينِ والنفسِ والمالِ والنسبِ، ونهى الشرعُ الحنيفُ ومنعَ من الإخلالِ بالعقلِ، بل رتَّبَ العقوبةَ على ذلك؛ لأن الإنسانَ بلا عقلٍ دابّةٌ لشهواتِه، تقوده يمينًا وشمالاً، وتحركه إلى الأمامِ والخلفِ، وتلقي به في مهاوي الردى.
ومن هذا المقصدِ انطلق تحريمُ الخمر; لأن الشريعةَ جاءت لمصالحِ العبادِ لا مفاسدِهم، وأصلُ المصالحِ العقلُ, كما أن أصلَ المفاسدِ ذهابُه، فمنعت الشريعةُ من كلِ ما يذهبُه أو يشوِّشُ عليه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ. سمعَ هذه الآيةَ أصحابُ النبي فكانتِ الوقفةُ الأخيرةُ مع الشهوةِ التي مالت إليها النفوسُ، فكُسِرتِ الدِنانُ، وأريقتِ الخمورُ حتى جرت في سككِ المدينةِ، رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا هو الإسلامُ: الاستسلامُ لله بالتوحيدِ، والانقيادُ له بالطاعة، والبَراءةُ من المعاصي.
وتحريمُ الخمرِ من أعظمِ نعمِ الله عز وجل، وإلا كيفَ يمكنُ أن نتصورَ حالَ المجتمعِ الإسلاميِّ لو لم يحرّمِ الله الخمرَ؟! كيف سيكونُ حالُ الناسِ في الفسوقِ والفجورِ والجرائمِ والعقوقِ والحوادثِ إلى آخرِ ما تعاني منه الشعوبُ الكافرةُ اليوم من الجرائمِ وحوادثِ السيرِ والانتحارِ والأمراضِ البدنيةِ والنفسيةِ وغيرِ ذلك؟! فله الحمدُ كما اصطفى لنا الدينَ وأكملَه، وأتمَ النعمةَ، ورضيَ لنا الإسلامَ دينًا.
عبادَ الله، والمخدراتُ التي ظهرت في هذا الزمان قد أجمعَ العلماءُ على إلحاقها بالخمر؛ لاستواء العلةِ الجامعةِ، بل هي أشدُّ خطرًا من الخمورِ باتفاق الأطباءِ والعقلاءِ بل وعامةِ الناس، ويستدلُّ على إلحاقِها بالخمرِ بما جاء عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنه قال: قال رسولُ الله : ((كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلُّ مسكرٍ حرامٌ)) ، وعن أمِ سلمةَ رضي الله عنها قالت: نهى رسولُ اللّه عن كلِّ مسكرٍ ومُفتِّرٍ. رواه أبو داود. والمفتِّرُ هو ما يجعلُ الأعضاءَ تتخدَرُ وترتخي، وهذه العلةُ موجودةٌ في المخدراتِ، وموجودةٌ في المنشطاتِ بعد زوالِ مفعولهِا. والعِبرةُ ـ عبادَ الله ـ بالمعاني لا بمسمياتِ أهلِ الفسوقِ في كل زمانٍ ومكانٍ، فعن أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه أنه سمعَ رسول اللّه يقول: ((ليشربنَّ ناسٌ من أمتي الخمرَ؛ يسمونها بغيرِ اسمِها)).
أيها المسلمون، مضارُ الخمرِ والمخدراتِ والمنشطاتِ أكثرُ من أن تحصرَ، ومن مضارِها الدينيةِ أن شاربَ الخمرِ يرتفع عنه وصفُ الإيمانِ حالَ تناولهِا، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمنٌ)) الحديثَ رواه أبو داود.
وهي مفتاحُ كلِ شرٍ كما أخبرَ بذلك النبيُّ حين قال: ((لا تشربِ الخمرَ؛ فإنَّها مفتاحُ كلِ شرٍ)) رواه ابن ماجه، وصدقَ رسولُ اللهِ ، فهي مفتاحُ الزنا والقتلِ والسرقةِ للحصولِ على المالِ، وهي الطريقُ إلى الانتحار وسَبَبُ العقوقِ والحوادثِ المروريةِ وإهمالِ الزوجةِ والأولادِ والوظيفةِ، وغير ذلك من الشرور التي لا يحيط بها إلا الله.
وهي رجسٌ من عملِ الشيطانِ، ومن أعظمِ ما يؤجِّجُ العداوةَ والبغضاءَ بين المؤمنينَ، ومن أعظمِ ما يصدُّ عن ذكرِ الله وعن الصلاة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ. ومن تأمَّلَ حالَ المدمنينَ وبُعدَهم عن الذكرِ والصلاةِ وما يحدُثُ بينهم من جرائمَ بسببِ المخدراتِ علمَ جيدًا معنى هذهِ الآيةِ.
ومن أكثرِ المخدراتِ انتشارًا في مجتمَعِنا ما يسمّى بـ(الكبتاجون)، ويسمِيها متعاطُوها بـ(الأبيضِ) أو (أبو قوسين) أو (القضوم) أو غيرِ ذلك من الأسماء. ومشكلةُ تعاطيها وغيرِها من الحبوبِ المنشطةِ قدْ أصبحتْ من أخطرِ المشاكلِ الصحيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ بل والعالمِ أجمع، خاصةً أنَّ أغلبَ ضحايا (الكبتاجون) ممن يكونون في سنِ الشبابِ والإنتاجيةِ, وقد تأكدَ علميًا خطرُ الحبوبِ المنشطةِ على الصحةِ، عِلاوةً على مشاكِلها الأخرى الدينيةِ والأسريةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ.
ومما تجدُرُ الإشارةُ إليه أن انتشارَ (الكبتاجون) بين شبابِ أمتِنا أمرٌ مخططٌ له ويستهدِفُ تخريبَ الأمةِ اجتماعيًا وأخلاقيًا واقتصاديًا، وقد صرَّحَ مديرُ عامِ مكافحةِ الجريمةِ بالمملكةِ العربيةِ السعوديةِ في ندوةِ المخدراتِ بجامعةِ الملكِ عبدِ العزيزِ والتي نشرتْها صحيفةُ الندوةِ السعوديةِ بأن ما تم ضبطُه من الحبوبِ المخدرةِ والمنبِهةِ بلغَ مائتينِ وستةً وسبعينَ مليون حبة, وذلك خلالَ سبعِ سنواتٍ فقط في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، ثم قال: "لقد تأكدَ لدى وَزارةِ الداخليةِ في المملكةِ أن هناك أطرافًا دوليةً تعملُ بشكلٍ مكثفٍ على غزوِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ بالمخدراتِ، بالأحرى إسرائيلَ، إن المملكةَ كغيرِها من البلادِ العربيةِ والإسلاميةِ مقصودةٌ في عمليةِ إغراقِ السوقِ بالمخدراتِ وتدميرِ هذا المجتمعِ وتفكيكِ مقوماتِه، ولا يجبُ أن ننظرَ إلى عمليةِ انتشارِ المخدراتِ على اعتبارِ أنها عمليةٌ تجاريةٌ بحتةٌ" اهـ. فماذا ننتظر ـ عبادَ الله ـ من إسرائيل وأشباهِها غيرَ السمومِ الفتاكةِ؟!
هذه الحبوبُ المسمّاةُ بـ(الكبتاجون) تقومُ بمنعِ الدماغِ من إرسالِ إشاراتِ النُعاسِ والاسترخاءِ إلى الجسمِ، ليظل في عملٍ ونشاطٍ دائمٍ، والدماغُ يرفضُ ذلكَ، مما يتسببُ حتمًا في تلفٍ جزئيٍّ في الدماغِ، علمًا بأن هذه الموادَ نظرًا لابتعادِها عن حدودِ المراقبةِ القانونيةِ تباعُ في أسواقِ التهريبِ بصورةٍ غيرِ نقيةٍ، وتحتوي غالبًا على شوائبَ وأخلاطٍ خطيرةِ السُّميةِ، تضافُ إما بقصدِ الغشِ، أو لتقويةِ مفعولِها، أو للفتكِ بشبابِ المسلمينَ كما تخططُ لذلك إسرائيلُ وغيرُها من أعداءِ الإسلامِ، والضحيةُ لكلِّ هؤلاءِ واحدةٌ، هذا المتعاطي المسكينُ الذي يفرّط في عقلِه أعزِّ ما يملِكُه الإنسانُ ويفرِّطُ في دينِه وصحتِه وحياتِه.
وأيضًا تزيدُ جرعةُ المتعاطي لهذه الحبوبِ يومًا بعدَ يومٍ، حتى يصل إلى الإدمانِ التامِّ، ومع الإفراطِ في الاستخدامِ تدمِّرُ جهازَ المناعةِ للجسمِ، مما يضعفُ المقاومةَ للأمراضِ، ثم تؤدي إلى ظهورِ حالاتٍ من الهلوسةِ السمعيةِ والبصريةِ واضطرابِ الحواسِّ، فيتخيَّلُ أشياءً لا وجودَ لها، وقد تظهرُ عليه أعراضٌ تشبهُ مرضَ الانفصامِ، وكذلك الشعورُ بالاضطهادِ والبكاءِ بدون سببٍ والشكِ في الآخرينَ؛ مما يسببُ مشاكلَ عائليةً واجتماعيةً للمتعاطي.
ناهيك عن الأضرارِ الماديةِ والتكاليفِ الباهظةِ لهذه المخدراتِ التي تُلجِئ المتعاطيَ إلى بذلِ كلِّ ما في يديهِ من مالٍ لتُجارِ المخدراتِ، ثم يلجأُ بعدَ ذلك للاستدانةِ من الأهلِ والأصدقاءِ، إلى أن يصلَ الحال ببعضِهم إلى ارتكابِ الجرائمِ للحصولِ على هذه الحبوبِ، فإما أن يعملَ مروجًا تابعًا لهؤلاءِ التُّجارِ، أو سارقًا أو نحوِ ذلك.
عبادَ الله، إن النهايةَ الحتميةَ لمتعاطي هذه المنشطاتِ إما السجونُ، وإما المستشفياتُ النفسيةُ، ناهيك عن تدميرِ الأسرةِ وطلاقِ الزوجةِ وضياعِ الأولادِ والفصلِ من العملِ والعُزلةِ الاجتماعيةِ وغيرِها من النهاياتِ الشقيةِ لمن عصى ربه وأطاعَ شيطانه وتأثرَ برُفقاءِ السوءِ.
أيها الشبابُ، اتقوا الله عز وجل، واشكروه على نِعَمِه، نِعمَةِ الدينِ المحكمِ الذي أُحِلَّتْ لنا فيه الطيباتُ، وحُرمت علينا فيه الخبائثُ، واشكروا الله عز وجل على نعمةِ العقل، وزورا مرّةً واحدةً فقط مستشفى الصحةِ النفسيةِ؛ لتروا شبابًا في عُمْرِ الزهورِ، اختلت عقولُهم بسببِ حبةٍ أو سيجارةٍ أو شرابٍ، واعتبروا بغيرِكم قبل أن يعتبِرَ بكم غيرُكم.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِ العالمينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الأمينِ.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الله أعدّ لمتعاطي المخدرات والخمور عقوباتٍ دنيويةٍ وأخرويةٍ، أولُها اللعنُ والطردُ من رحمةِ اللهِ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقولُ: ((أتاني جبريلُ فقال: يا محمدُ، إنّ الله عز وجل لعنَ الخمرَ وعاصرَها ومعتصرَها وشارَبها وحاملَها والمحمولةَ إليه وبائعَها ومبتاعَها وساقيها ومستقيَها)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مدمنُ الخمرِ كعابدِ وثنٍ)) رواه أحمد وغيره.
ومن عقوباتِه ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ : ((أربعةٌ حقٌ على الله أن لا يدخلَهم الجنةَ ولا يذيقَهم نعيمَها: مدمنُ الخمرِ، وآكلُ الربا، وآكلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حقٍ، والعاقُ لوالديه)).
ومن عقوباتِه ما جاءَ عن عبدِ الله بنِ عمروٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ : ((من شربِ الخمرَ وسكِرَ لم تقبلْ له صلاةٌ أربعينَ صباحًا، وإن ماتَ دَخَلَ النارَ، فإن تابَ تابَ اللهُ عليه، وإن عادَ فشرِبَ فسكِرَ لم تقبلْ له صلاةٌ أربعينَ صباحًا، فإن ماتَ دخلَ النارَ، فإن تابَ تابَ اللهُ عليه، وإن عادَ فشرِبَ فسكِرَ لم تقبل له صلاةٌ أربعينَ صباحًا، فإن ماتَ دخلَ النارَ، فإن تابَ تابَ اللهُ عليه، وإن عادَ كان حقًا على الله أن يسقيَه من رَدْغَةِ الخبالِ يومَ القيامةِ)) ، قالوا: يا رسولَ الله، وما رَدْغَةُ الخبالِ؟ قالَ: ((عُصارةُ أهلِ النارِ)). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللّه : ((من ماتَ وهو يشربُ الخمرَ يدمنُها لم يشربْها في الآخرةِ)) رواه أبو داود.
واسمعوا ـ عبادَ الله ـ لما أعدَّه اللهُ للمتقينَ الذينَ تركُوا هذه الشهواتِ لوجهِ الله عزَّ وجلَّ: يقول الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ، اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم، أَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: "أي: ليست كريهةَ الطعمِ والرائحةِ كخمرِ الدنيا، بل حسنةُ المنظرِ والطعمِ والرائحةِ والفعلِ". وعن حكيم بنِ معاويةَ عن أبيه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((في الجنةِ بحرُ اللبنِ وبحرُ الماءِ وبحرُ العسلِ وبحرُ الخمرِ, ثم تُشقَقُ الأنهارُ منها بعدَ ذلك)).
وقال تعالى: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "نزَّه الله سبحانه وتعالى خمرَ الجنةِ عن الآفاتِ التي في خمرِ الدنيا من صُداعِ الرأسِ ووجَعِ البطنِ وهو الغَولُ وذهابِها بالعقلِ جملةً، فقال تعالى ها هنا: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي: بخمرٍ من أنهارٍ جاريةٍ لا يخافونِ انقطاعَها ولا فراغَها، قال مالكٌ عن زيدِ بنِ أسلمَ: خمرٌ جاريةٌ بيضاءُ أي: لونُها مشرقٌ حسنٌ بهيٌ لا كخمرِ الدنيا في منظرِها البشعِ الرديءِ من حمرةٍ أو سوادٍ أو اصفرارٍ أو كُدورةٍ إلى غيرِ ذلك مما يَنفِرُ الطبعُ السليمُ منهُ" اهـ.
وقال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ، وقال جل وعلا: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً. كلُّ ذلك وغيرُه مما لم تره عينٌ، ولم تسمعْ به أُذُنٌ، ولم يخطرْ على قلبِ بشرٍ، أعده الله لمن اتقى الله وأطاعَه.
أيها المسلم، استيقظ من غفلتِك، وقللِ من لهوِك، وخالِف شيطانَك وشهوتَك، واستبقِ طيباتِك لحياتِك الأُخرى، اجتهدْ في طاعتِك، وقللْ من نومِك، وادخرْ راحتَك لقبرِك، فان وراءك رقدةً صباحُها يومُ القيامة.
عبادَ الله، صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، من اليهود والنصارى وسائر المشركين والمنافقين، وانصر المجاهدين لإعلاء دينك في مشارق الأرض ومغارِبها، اللهم أفرغ عليهم صبرًا وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين...
(1/5748)
إنا كفيناك المستهزئين
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
خالد بن سلمان الضوّي
سكاكا
22/2/1429
جامع الثغيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل النبي. 2- حفظ الله تعالى للنبي. 3- عواقب الاستهزاء بالنبي. 4- الرسوم المسيئة. 5- دروس وعبر من الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَ ضلالةٍ في النار.
بشرى لنا معشر الإسلام إنّ لنا من العناية ركنًا غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرمِ الرسل كنا أكرم الأممِ
اللهم صل على محمد إمامِ المرسلين وقائد الغرِ المحجلين وسيدِ ولد آدم أجمعين، صاحبِ اللواء المعقود والمقامِ المحمود والحوضِ المورود، خليلِ الرحمان وكليمِ المنّان، زكاه الله في عقله فقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ، وزكاه في لسانه فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، وزكاه في علمهِ ومعلّمِهِ فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ، وزكاه في بصره فقال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ، وزكاه في فؤاده فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، وزكاه كلَّه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظَيمٍ.
كادته الشياطين، وتكالب عليه المشركون، وحدقت به النكبات، فجعل الله له من بين كلِ ذلك فرجًا ومخرجًا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يُحرس حتى نزلت هذه الآية: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، قالت: فأخرج رأسه من القبة فقال: ((انصرفوا فقد عصمني الله)) رواه ابن جرير في تفسيره. وروى أيضًا عن محمد بن كعب القرظي وغيرِه قالوا: كان رسول الله إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرةً ظليلةً، فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: يا محمد، من يمنعك منّي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((الله عز وجل)) ، فرعدت يدُ الأعرابي بأمر الله عز وجل الذي خلقها وأنبت عظمها وكساها لحمًا وأجرى فيها العروق، ردعت يده وسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله فقال: ((من يمنعك منّي؟)) فقال بذلةِ الخائنِ وصغارِ المشرك: كن يا محمدُ خيرَ آخذ، فعرض عليه الرسول الإسلامَ فأبى، ولكن عاهده أن لا يحاربه، فأطلق سراحه، فرجع إلى قومه قائلاً: جئتكم من عند خير الناس. ثم إنه أسلم بعد ذلك كما حكاه الإمام الذهبي.
عنايةُ الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدروع وعن عالٍ من الأُطُمِ
جاءت لدعوته الأشجارُ ساجدةً تَمشي إليه على ساقٍ بلا قدمِ
ظنوا الحمامَ وظنوا العنكبوت على خير البريةِ لَم تنسجْ ولم تحُمِ
معاشر المسلمين، هذه صورة من صور عصمة الله لنبيّه من المشركين.
ومن صور عصمته ـ بل هي أعظمها ـ عصمته من الشياطين، ما جاء عن عبد الرحمن التميمي رضي الله عنه أن رجلاً سأله: كيف صنع الرسول حين كادته الشياطين؟ قال: جاءت الشياطين إلى رسول الله من الأودية، وتحدرت عليه من الجبال، وفيهم شيطان معه شعلة من نار، يريد أن يحرق بها وجه رسول الله ، فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل، قال: ((ما أقول؟)) قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن، قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله. رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
ومن صور عصمة الله لرسوله حماية جسده الشريف بعد موته، ففي عهد الملك العادل نور الدين بن زنكي رحمه الله في القرن السادس الهجري رأى هذا السلطان الصالح رسول الله في المنام يقول: أنقذني من هذين، ويشير إلى رجلين أشقرين، فاستيقظ فزعًا، ثم خرج من الشام إلى المدينة على رواحلَ خفيفةٍ في عشرين رجلاً ومالٍ كثيرٍ، وحينما وصلها صلى في المسجد النبوي، وأمر بجمع أهل المدينة لتوزيع الصدقات عليهم، فحضروا كلهم، والسلطان يتأملهم ليجد من في الصفة التي رآها في المنام، فقال السلطان: هل بقي أحد؟ فقالوا: لم يبق إلا رجلان مغربيّان صالحان كثيرا الصلاة والصيام، ويكثران الصدقة بحيث سدّا خلةَ أهل المدينة في هذا العام المجدب، فقال: عليّ بهما، فأتي بهما، فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي إليهما بقوله: أنقذوني منهما، فقال: من أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجين، فاخترنا المجاورة عند رسول الله ، فقال: أين منزلهما؟ فأخبر أنه في رباط بقربِ الحجرة الشريفة، فأمسكهما وحضر إلى منزلهما، فرأى فيه مالاً كثيرًا وختمتين وكتبًا في الرقائق، ولم ير فيه شيئًا غير ذلك، ففتش السلطانُ البيتَ ورفع حصيرًا، فرأى سردابًا محفورًا ينتهي إلى صوبِ الحجرةِ الشريفةِ، فارتاعت الناسُ لذلك، وقال السلطان: ما هذا؟ وضربهما ضربًا شديدًا، فاعترفا بأنهما نصرانيان، جاءا بدفعٍ من بعضِ ملوكِ النصارى بغرض سرقةِ جسدِ النبي ، فأمر بهما فضُربت أعناقُهما تحت الشباكِ بجوارِ الحجرةِ الشريفةِ، ثم أمر السلطان بإحضارِ رصاصٍ كثيرٍ، وحَفَرَ خندقًا عميقًا إلى الماء حولَ الحجرة النبوية كلِّها، وأذيب ذلك الرصاصُ وملئ به الخندقُ، فصار حول الحجرةِ سورًا رصاصيًا إلى الماء. ذكر هذه القصة السمهودي في وفاء الوفا والمراغي في نصيحة أولي الألباب والمطري في تاريخه.
معاشر المسلمين، ومن عصمة الله لنبيه كفايتُه أمرَ المستهزئين، قال الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. روى ابنُ جرير بسنده عن عامر أن المستهزئين بالرسول كلّهم من قريش، العاص بنُ وائل فكُفي بأن أصابه صداع في رأسه فسال دماغه حتى مات، والحارث بنُ عيطلة كُفي بصَفَرٍ في بطنه وهو داء أو دود يصيب البطن حتى هلك، وابنُ الأسود فكُفي بالجدري، والوليد بنُ المغيرة وكفي بأن رجلاً ذهب يصلح سهمًا له فوقعت شظية فوطئ عليها فلم يزل مريضًا حتى هلك، وعبدُ يغوثَ كفي بالعمى.
قال العلامةُ السعديُّ رحمه الله: "فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قِتلة". وقال الله تعالى: إنَّ شانِئَكَ هو الأبْتَرُ ، قال السعديُّ رحمه الله: "أي: مبغضُكَ وذامُّكَ ومنتقِصُكَ هُوَ الأبْتَرُ أي: المقطوعُ من كل خيرٍ، مقطوعُ العملِ، مقطوعُ الذكرِ". وقال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: "فلا يوجد من شنأَ رسول الله إلا بتره الله".
وقد حكى الشيخُ أحمد شاكر رحمه الله أن خطيبًا فصيحًا مفوَّهًا أراد أن يثني على أحد كبارِ المسؤولين لأنه احتفى بطه حسين وكان أعمى، فلم يجد من مدحٍ لهذا المسؤول إلا التعريضَ برسول الله في قصته مع ابنِ أمِ مكتوم، فقال هذا الخطيبُ مادحًا ذلك المسؤولَ: "جاءه الأعمى فما عبسَ وما تولّى". قال الشيخ أحمد شاكر: ولكن الله لم يدع لهذا المجرمِ جرمَه في الدنيا قبلَ أن يجزيَه في الأخرى، فأُقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضعِ سنينَ وبعد أن كان عاليًا منتفخًا مستعزًّا بمن لاذ به من العظماء والكبراء، رأيتُه خادمًا على بابِ مسجدٍ من مساجدِ القاهرةِ يتلقّى نِعالَ المصلينَ يحفظُها في ذلةٍ وصغار.
عباد الله، وفي هذه الأيام تتحدى إحدى دولِ الغربِ النصرانيةِ مشاعرَ المسلمينَ ضاربةً بكل مبادئ الحضارة التي يتغنون بها والتسامحِ والأعرافِ الإنسانيةِ عرضَ الحائطِ، عندما حاولت استفزازَ المسلمين برسومٍ كاريكاتيريةٍ لرسول البشريةِ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:
كناطحٍ صخرةً يومًا ليوهنها فلم يَضِرْهَا وأوهى قرنَه الوعلُ
ومن الطبيعيِّ أن تظلَّ هذه الدولة كغيرِها من دولِ الغربِ الصليبيّ الحاقدِ عدوةً لكلِّ ما يمتُّ للإسلامِ بصلةٍ، لا لشيء إلا لأن بعض أبناء شعبها بدؤوا يفكرون جديًا بالتخلي عن نصرانيتهم واعتناق الإسلام كغيرهم من شعوب العالم، فهي تريد بخبثٍ ثني شعبها عن اختيار الدين الحق عبر حركة تشويه متعمد لشخص الرسول.
والعجيب أنه كلما كثر الطعن فيه كثُرَ الإقبالُ على دينه ورغبةُ الناسِ في معرفة هديه وسيرته ، والطريف أن الأخبار جاءت بأن فنادقَ الدانمرك باتت ترفضُ استقبالَ الرسّام المجرم المعتدي على سيد الأنامِ؛ لأنه بات خطرًا على بقيةِ النزلاءِ، حتى بات يتمنى كوخًا آمنًا يؤويه بين الجبال، ناهيك عن الخوف والهلع اللذين يتقلب على جمرهما، ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على النبي الأمين.
أما بعد: فمع هذه الآياتِ والأحاديثِ والقصصِ لعلنا نقف وقفاتٍ سريعةً نستنبطُ الفوائدَ والدروسِ:
ومن ذلك أن مقامَ النبيِّ وجميعِ الأنبياءِ والمرسلينَ عليهم السلامُ أسمى وأرفعُ من أن تنالَ الرسومُ المسيئةُ منهم، وأنَّ مثلَ هذه الإساءات التي توجهُ ضدَّ الإسلامِ ومقدساتِه لا تزيدُ المسلمين إلا تمسكًا بدينهم ونصرةً ومحبةً لنبيهم، كما تزيدُ عددَ الباحثينَ عن حقيقةِ الإسلامِ ومعرفةِ شخصيةِ الرسولِ.
ومن الفوائد أنه يجب علينا تفقُدُ محبةِ الرسولِ في قلوبنا وقلوبِ أهلينا، فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَ إليه من والده وولده والناسِ أجمعين)) رواه مسلم. ومن علامات الحبِ الصادقِ لرسول الله طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر.
يا مدعي حبَّ أحمد لا تخالِفهُ الخُلْفُ يحرمُ في دنيا المحبينا
ومن علامات حبه اتباع سنته وعدم الاعتراضِ على شريعته أو الاستهانةِ بشيء من سنته، كإعفاء اللحيةِ وتقصيرِ الثيابِ والسواكِ وغيرِ ذلك. ومن علاماتِ حبه كثرةُ الصلاةِ والسلامِ عليه في الصباحِ وفي المساءِ وعند ذكرِهِ.
ومن علامات حبه نصرته، قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَّنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَّأَصِيلاً. قال قتادة رحمه الله: وَتُعَزِّرُوهُ أي: تنصروه، وَتُوَقِّرُوهُ أي: تعظموه. النصرةُ بحسب الاستطاعة، وأقلُّ ذلك الغضبُ على تلك الفعلةِ النكراءِ، والدعاءُ على من استهزأ به، ومقاطعةُ البضائعِ الواردةِ من تلك الدولةِ الصليبيةِ الحاقدةِ، كما دعا إلى ذلك سماحة الشيخ صالح اللحيدان وغيرُه من العلماء.
ومن فوائدِ ما سبق تفقُد عقيدةِ الولاءِ والبراءِ في نفوسِنا وأهلينا، تلك العقيدةُ التي كادت أن تذوبَ في قلوبِ كثيرٍ من المسلمين، يحرضهم على ذلك زمرةٌ من المنافقين تسنّموا منابرَ الإعلام، داعين إلى تقارب الأديان والتقاءِ الثقافات واستبدال لفظِ "الكافرِ" بلفظِ "الآخر".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ عليٍ، والصحابةِ أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، من اليهود والنصارى وسائر المشركين والمنافقين، اللهم عليك بمن استهزأ بنبيك ، اللهم اكفناه بما شئت، واجعله عبرةً للمعتبرين، يا رب العالمين...
(1/5749)
ذم العنصرية الجاهلية
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
خالد بن سلمان الضوّي
سكاكا
جامع الثغيب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال أهل الجاهلية. 2- إبطال الإسلام للتفاخر بالأحساب والأنساب. 3- العزة بالإسلام. 4- ذم دعوى الجاهلية وتفاخرها. 5- انتشار دعوى الجاهلية في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَ ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون، لقد كان أهلُ الجاهليةِ قبلَ الإسلامِ متناحرينَ متفرقينَ، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ، لا يحكمهم دينٌ قويمٌ، ولا عقلٌ سليمٌ، ولا فِطرةٌ سويةٌ، القويُ يأكلُ الضعيفَ، كلُ قبيلةٍ تفخر بحسبها على أختِها، وكلُ قبيلةٍ تطعنُ في نسبِ جارتِها، يتحالفونَ ويتداعَونَ ثم يقتتلونَ، فتُفنِيهم الحربُ أجيالاً بعدَ أجيالٍ بسببِ استغاثةِ طيشٍ أو نخوةِ شُؤمٍ، لسانُ حالِهم:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشُدْ غزيةُ أرشدِ
يقاتل الرجل منهم في صفِ قبيلته ولو كانت على باطلٍ في وضحِ النهار.
وأحيانًا على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
ولقد ابتلي كثيرٌ من أهلِ الإسلامِ في هذه الأزمانِ بخَصلةٍ مَشينةٍ تمتد جُذورُها إلى تلك الجاهليةِ الأولى، إنها العصبيةُ الجاهليةُ التي جاءتِ الشريعةُ الإسلاميةُ محاربةً لها دون هوادةٍ، وجعلت إلغاءَها واحتقارَها مقصِدًا من مقاصِدِ بِعثةِ رسولِ اللهِ إلى العالمِ، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا كلُ شيءٍ من أمرِ الجاهليةِ تحتَ قدمي موضوعٌ، ودماءُ الجاهليةِ موضوعةٌ، وإنَّ أولَ دمٍ أضعُ دمُ ابنِ ربيعةَ)) ، وكان ابنَ عمِ رسولِ اللهِ قُتِلَ صغيرًا.
وتتنزَّلُ الآياتُ القرآنيةُ وتسير الأحاديثُ النبويةُ بإبطالِ تلكَ العادةِ الجاهليةِ وإحلالِ القواعدِ الشريفةِ مكانَها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، وفي هذه الآيةِ إشارةٌ إلى وجهِ ردِّ التفاخرِ بالنسبِ، حيث أفادتْ أنَّ شرفَ النسبِ غيرُ مكتسبٍ، ولا يدخلُ في كسبِ الإنسانِ، يقول تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ، قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: "ولهذا لم يُثْنِ اللهُ على أحدٍ في القرآنِ بِنَسَبِه أصلاً، لا على ولدِ نبيٍّ ولا على أبي نبيٍّ، وإنما أَثنى على الناسِ بإيمانِهم وأعمالِهم".
وقد قَرَّرَ هذه الحقيقةَ تقريرًا واضحًا صريحًا رسولُنا في بدايةِ البِعثةِ حيث قامَ عندما نزلَ قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، ثم قالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ سَلِينِي مَا شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((ومن أَبطأَ به عملُه لم يُسرِع به نسبُه)).
لقد جاءَ الإسلامُ ـ عبادَ الله ـ ماحيًا لكل تلكَ الظواهرِ المَقيتةِ في حياتِهم، ثم ساوى بينهم في الحقوقِ والواجباتِ، وجعلَ شِعارَهم الإسلامَ، ونخوتَهم المسلمين، قال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ، وفاضَلَ بينهم بالتقوى وطاعةِ اللهِ تعالى، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يا أيها الناس، إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ علي أعجميٍّ ولا لِعَجَمِيٍّ علي عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسودَ ولا أسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى)).
عبادَ الله، ولا سبيلَ إلى عِزةِ وانتشارِ الإسلامِ كما كان أولَ أمرِه إلا إذا ألغى المسلمونَ جميعَ الشعاراتِ إلا شعارَ الإسلامِ، فصارت موالاتهُم ومعاداتهُم على هذا الدينِ القويمِ، إذا أحبوا أحبُوا لله، وإذا أبغضوا أبغضُوا لله، وبذلك تُنالُ وِلايةُ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه: (نحن قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلامِ، ومهما ابتغينا العزةَ بغيرِ الإسلامِ أذلنا اللهُ).
وليُعْلَم أن معرفةَ الإنسانِ لقبيلتِه وانتسابَه لها ومعرفةَ أنسابِها وحفظَ تلكَ الأنسابِ لا يُذَمُّ في الشرع، بل جاءَ عنه أنه قال: ((تعلموا من أَنسابِكم ما تَصِلون به أرحامَكم)) رواه الترمذي وصححه الألباني، لكن ما يُذَمُّ هو الافتخارُ بالقبائلِ والتعالي بالأحسابِ على الناسِ وذمِ أنسابِ الناسِ أو احتقارِ بعضِ القبائلِ أو بعضِ من لم يُعرَف بقبيلة أو ليس بعربيِّ، فتلك دعوى الجاهلية وتلك هي المنتِنة.
وتذكيرًا لنفسِي ولإخواني المسلمينَ سأذكُرُ بعضَ ما جاء عن النبي في هذا البابِ؛ إذ هو كفيلٌ بنزعِ ما قد يَعلَقُ بقلوبِ البعضِ من عُنصريةٍ بغيضةٍ وعصبيةٍ جاهليةٍ، وعلى المسلمِ التسليمُ والقَبولُ لأمرِ اللهِ تعالي وأمرِ رسولِه ، قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.
فعن أُبي بنِ كعبٍ رضي الله عنه قالَ: سمعت رسولَ الله يقول: ((من تعزى بعزاءِ الجاهليةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلا تَكْنُوا)) ، يعنى قولوا: "اعضض ذكر أبيك" صراحة لا كناية، وقد كتب عمر بنُ الخطاب إلى أمراء الأجناد: (إذا تداعت القبائلُ فاضربوهم بالسيف حتى يصيروا إلى دعوة الإسلام)، وقال عليه الصلاة والسلام: ((وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي)) ، وهذا تهديدٌ لمن يغضبُ ويقاتلُ لقبيلتِه وليس لله، وتكونُ نصرتُه لعصبتِه لا للحقِّ، ويوالي من والت قبيلتُه ولو كانَ أفجرَ الناسِ، ويعادي من عادت قبيلتُه ولو كان تقيًا صالحًا، حتى يقاتلَ تحتَ رايةٍ عَمياءَ لا يبحثُ تحتَها عن حقٍ ولا يجتنبُ في ظلِها باطلاً.
وعن الحارثِ الأشعريِّ رضي الله عنه أن النبي قال: ((ومن دعا بدعوى الجاهليةِ فهُو من جُثاءِ جهنمَ)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟! قال: ((وإن صامَ وإن صلى وزعمَ أنَّه مسلمٌ، فادعوا المسلمينَ بأسمائِهم بما سماهُم اللهُ عزَّ وجلَّ المسلمينَ المؤمنينَ عبادَ الله عز وجل)).
وفي غزوةٍ من الغزواتِ كسعَ رجلٌ من المهاجرينَ أنصاريًا، فغضِبَ الأنصاريُّ غضبًا شديدًا، حتى تَداعوا وقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المهاجريُّ: يا لَلمهاجرين، فخرج النبيُّ فقالَ: ((ما بالُ دعوى أهلِ الجاهليةِ؟)) ثم قال: ((ما شأنُهم؟)) فأُخبِر بكسعةِ المهاجريِّ الأنصاريَّ، فقال النبيُ : ((دعوها فإنَّها خبيثةٌ)) ، وفي رواية: ((دعوها فإنَّها مُنتِنَة)) ، وهذا أبلغُ حديثٍ في ذمِ العصبيةِ الجاهليةِ.
وعن أبي ذرٍ قال: كان بيني وبينَ رجلٍ من إخواني كلامٌ، وكانتْ أمُّه أعجميةٌ، فعيَّرتُه بِها، فشكاني على النبي ، فلقِيتُ النبيَّ فقال: ((يا أبا ذرٍ، إنَّك امرؤٌ فيكَ جَاهليةٌ)) ، قلت: يا رسولَ اللهِ، مَن سَبَّ الرجالَ سَبُوا أباه وأمَّه، قال: ((يا أبا ذرٍ، إنَّك امرؤٌ فيكَ جَاهليةٌ)) ، وقال له رسولُ الله: ((انظر فإنَّك لستَ بخيرٍ من أحمرَ ولا أسودَ إلا أنْ تَفضُلَه بتقوى)).
عبادَ الله، ومن أمورِ الجاهليةِ التي كانتْ وما زَالت في أمةِ محمدٍ التفاخرُ بالأحسابِ والطعنُ في الأنسابِ، يزرعُها الشيطانُ في قلوبِ أتباعِه ويتعاهَدها جيلاً بعدَ جيلٍ، قال عليه الصلاة والسلام: ((أربعٌ في أمتي من أمرِ الجاهليةِ لا يتركُونَهن: الفخرُ في الأحسابِ، والطعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنجومِ، والنياحةُ)) ، والأحسابُ جمع حَسَبٍ، وهو ما يَعُدُّه المرءُ من الخِصال لَه أو لآبائِه من نحوِ شجاعةٍ وفصاحةٍ، والفخرُ فيها أي: الشَرَفُ بالآباءِ والتعاظُمُ بِعَدِّ مناقِبِهم ومآثِرِهم وفضائِلهم، والطعنُ في الأنسابِ أي: الوقوعُ فيها بنحوِ ذمٍّ وعيبٍ، وهذان الأمرانِ من الجهلِ والكِبر، ويؤديانِ إلى التقاطُعِ والتدابُرِ، ويغذيانِ الفتنةَ، فلا فخرَ إلا بالطاعةِ، ولا عِزَّ لأحدٍ إلا باللهِ، ولا فضلَ إلا بالتقوى والعملِ الصالحِ، ومعنى الحديثِ: أنَّ هذه الأربعَ محرمةٌ، ومَعَ حرمَتِها فإنَّ كثيرًا لا يتركونَها مع علمِهم بحُرمتِها وأنَّها من أفعالِ أهلِ الجاهليةِ، وذلك وباءٌ وخيمٌ وَحَوبٌ كَبير.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((اثنتانِ في الناسِ هما بهم كُفْرٌ: الطعنُ في النسبِ، والنياحةُ علي الميتِ)). ومعنى هذا الحديثِ كما قال القاضي عياضٌ رحمه الله أي: من أعمالِ أهلِ الكفرِ وعادتِهم وأخلاقِ الجاهليةِ، وهما خَصلتانِ مذمومتانِ محرمتانِ في الشرعِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين.
أما بعد: فيا عبادَ الله، ومما يؤسف له قيامُ بعضِ وسائلِ الإعلامِ ومواقعِ شبكةِ المعلوماتِ وبعضِ الشعراءِ والبرامجِ الشعريةِ بتغذيةِ هذه العنصرياتِ البغيضةِ والنَعراتِ الجاهليةِ، وفتحِ المجال ليتفاخرَ السفهاءُ بأحسابِهم وأنسابِهم وقبائِلهم، وينفقونَ الأموالَ ويُضيعونَ الأوقاتَ في أمرِ جاهليٍّ أتى الإسلامُ لهدمِه ونهى عنه وحَرَّمَه، وقد حذَّر النبيُ المُصرينَ على التفاخُرِ بأحسابِهم المتعالينَ بأنسابِهم، حذَّرهم من السقوطِ إلى حضيضِ الهوانِ عندَ الله، قال عليه الصلاة والسلام: (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، فالناسُ رجلانِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ)).
فالذين يَفخرون بأحسابِهم أو قبائِلهم أو بأي رابطةٍ غير رابطةِ الإسلامِ ينطبِقُ عليهم هذا الوعيدُ، وهو أن اللهَ يجعلُهم أحقرَ وأذلَّ وأهونَ من الجُعلانِ التي تَدفَعُ النتنَ والنَجَسَ بأنفِها. وما أكثرَ هذا الافتخار البارد بين خَفيفي الهمةِ الذين ارتكبوا كلَّ رذيلةٍ وتَعروا عن كلِ فضيلةٍ، ومع ذلك افتخروا بآبائِهم وأجدادِهم وأنسابِهم على بعضِ فضلاءِ البريةِ، واحتقروا أناسًا فاقُوهم دينًا وأخلاقًا وعلمًا وأمًا وأبًا، وهذا هو الضلالُ البعيدُ والحمقُ الذي ليس له مثيلٌ، وصدق القائل:
أقول لمن غَدا في كلِّ وقتٍ يفاخِرُنَا بأسلافٍ عظامِ
أتقنعُ بالعظامِ وأنت تَدرِي بأنَّ الكلبَ يقنعُ بالعظامِ
يقول أحدُ العلماءِ: "من خَصائِصِ عالي الهمةِ أن يكون عِصاميًا لا عِظاميًا". فالعِصامِيُّ هو من سادَ بِشَرَفِ نفسِه، وهو الذي يبني مجدَه بنفسِه، وفي مقابله العِظاميُّ، وهو من تَقدَّمَ بشرفِ آبائِه، فهو يفخَرُ بآبائِه الذين صاروا عِظامًا، فسُمي عِظاميًا.
وقال عبد الله بنُ معاوية في هذا المعنى:
لسنا وإِنْ كَرُمتْ أوائِلُنا يومًا على الأحسابِ نَتَّكِلُ
نبنِي كما كانتْ أوائِلُنا تبنِي ونَفْعَلُ فوقَ ما فَعَلُوا
فَكبيرُ الهِمةِ لا يَضِيرُه أنْ لا يكونَ ذا نسبٍ، بل لا يَضِيرُه أن يكونَ ذا نسبٍ وضيعٍ، وهذه من أعظمِ محاسنِ الإسلامِ، فبلالٌ الحَبشيُّ سَمِع النبيُّ خَفْقَ نَعليهِ في الجنةِ، وأبو لهبٍ القرشيّ عم رسولِ الله تَوعَّده الله بنارٍ ذاتِ لهبٍ، بل إذا فَتَّشتَ في أكابرِ علماءِ المسلمينَ تجدُهم من العبيدِ والموالي والأعاجمِ، فأغلبُ الأئمةِ والمحدثين والمشاهيرِ هم من الأعاجمِ الذين لم يكونوا عَرَبًا، فلا يَضِيرُ كبيرَ الهمةِ أن لا يمُتَّ بآصرةِ اللحمِ والدمِ إلى قومٍ كرامٍ، فإنه بعلوِ همتِه سوفَ ينتسِبُ إلى الكرامِ.
كن ابنَ من شئتَ واكتسِبْ أدبًا يغنيكَ محمُودُه عن النسبِ
إنَّ الفتى من يقولُ ها أنا ذا ليس الفتى من يقولُ كانَ أَبي
ويقول المتنبي:
لا بقومي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي وبنفسي فَخِرتُ لا بجدودي
عبادَ الله، وصلوا وسلموا عن من أمرتم بالصلاة والسلام، حيث قال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5750)
البيت المسلم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا الأسرة
محمد بن إبراهيم السبر
العريجاء
2/11/1429
جامع الأميرة موضي السديري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة البيوت. 2- منافع السكن. 3- عناية الإسلام بإصلاح البيوت. 4- السبيل لإصلاح البيوت. 5- صفات البيت المسلم. 6- أهمية تربية الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه سبحانه وتعالى خير زادٍ يُدَّخر في هذه الحياة وبعد الممات؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الإخوة المسلمون، نعمة من نِعَم الله تعالى على عباده في هذه الحياة، أنْ هيَّأ لهم الأُسرَ والبيوتات، ومنَّ عليهم بالسكن والتجمعات، وجعلها سكنًا ورحمةً ولباسًا وموَّدة، يتفيَّأ المسلم خلالها عن الحر, ويستدفئُ بها من البرد، وتسترُه عن الأنظار، وتحصنُه من الأعداء، قال سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل: 80]. قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله تعالى: "يذكر تبارك وتعالى تمامَ نِعَمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها ويستترون، وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع".
عباد الله، لقد جعل الله تعالى البيوت سكنًا يأوي إليها أهلُها، تطمئنُّ فيها النفوسُ, وتأمنُ فيها الحرماتُ، وتسترُ فيها الأعراض، ويتربَّى في كنفها الأجيال، وهو سبحانه وتعالى يريد بذلك من البيوت أن تكون قلاعَ خيرٍ ومحبةٍ ووئامٍ، وحصونَ برٍّ وحنانٍ وأمانٍ, وديارَ خيرٍ وفضيلة وإحسانٍ.
ويدرك المسلم ـ يا رعاكم الله ـ قدرَ نعمة السكن والمأوى على بني آدم حينما يرى أحوال مَن سُلبوا هذه النعمةَ، من المشرَّدين واللاجئين من إخواننا في العقيدة والدين, الذين يعيشون في الملاجئ، أو على أرصفة الشوارع، حينها يعلم يقينًا معنى التشتُّتِ والحرمان، الناجمينِ عن فقد السكن والمأوى. كما يدرك المسلم هذه النعمةَ عندما يرى إخوانه في العقيدة في بلادٍ منكوبةٍ من العالم الإسلامي يتضوَّرون جوعًا في الزمهرير القارس والحَرِّ المهلك، لا يجدون ملجأً ولا مسكنًا كريمًا، يعيشون أمضَّ عيشةٍ، بلا راحةٍ ولا هدوءٍ، ولا سعادةٍ ولا اطمئنانٍ، استولى الأعداء على بلادهم، فهدَّموا منازلهم، وأقضُّوا مضاجعهم، وكدَّروا ما صفا من عيشهم، والله المستعان. كما تبرز عظمةُ هذه النعمة نعمةِ السكنِ والمأوى أمام المسافر واضحةً جليةً، حيث بيَّن ذلك المصطفى بقوله: ((السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدكم نَهْمَتَهُ من سفره، فليُعجِّل الرجوع إلى أهله)) رواه البخاري ومسلم.
معاشر المسلمين، ومن هنا جاء الاهتمام العظيم في الإسلام بإصلاح البيوت؛ لأن الأسرة هي الدِّعامة الأساس في صرح الأمة واللبنة الأولى في تكوين المجتمع، فعلى قدر ما تكون اللبنة قويةً يكون البناء راسخًا منيعًا، وكلما كانت ضعيفة كان البناء واهيًا آيلاً للانهيار والتصدع. البيت المسلم هو المدرسة الأولى التي يتخرج منها الأعضاءُ الفاعلون في المجتمع سلبًا أو إيجابًا، ساسةٌ وقادة، علماءُ وقضاةٌ، مربونَ ودعاةٌ، وطلاب ومجاهدون، وزوجاتٌ صالحاتٌ، وأمهاتٌ مربياتٌ.
عباد الله، لقد سعى الإسلام سعيًا حثيثًا لإصلاح الأسر والبيوت، وبدأ ذلك بالأسس التي يتكوَّن منها البيت المسلم، وفي مقدمة ذلك اختيارُ الزوجة ذاتِ الصلاحِ والدينِ؛ لأنها بإذن الله تعالى أهمُّ عوامل الإصلاح للبيت بعد الرجل؛ قال رسول الله : ((تنكح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربتْ يداك)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة)) رواه مسلم. وهذا من جانب الزوج، وأما من ناحية الزوجة فقد أرشدَ الإسلام الأولياءَ إلى اختيار الزوج الصالح ذي الخُلقِ القويم والدين المستقيم، قال : ((إذا أتاكم مَن ترضَوْنَ خُلقه ودِينه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ)) رواه ابن ماجه وهو صحيح. وباجتماع الزوج الصالح والزوجة الصالحة يُبنى البيتُ الصالح بإذن الله تعالى، فالله يقول: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف: 58].
كما أمر الإسلام بإحياء البيوت بذكر الله تعالى قراءةً لكتاب الله وصلاةً وعبادةً وذكرًا؛ ولذلك كان من سنته صلاةُ النافلة في بيته؛ فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا)) متفق عليه. وفي هذا دلالة واضحة على أنه يجب على المسلم أن يجعل في بيته نصيبًا من العبادة، لا سيما الصلاة؛ لتعليم أبنائه وأهله الصلاةَ، وتعويدهم عليها، ونتذكر في هذا المقام أيضًا محرابَ مريمَ، وهو مكان عبادتها الذي قال الله فيه : كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران: 37].
وإن بيتًا يُنشَّأ على طاعة الله ـ أيها الإخوة ـ لحريٌّ به أن يكون بيتًا إيمانيًّا، يعظُمُ ثوابُ أهله، ويصفو عيشهم، قال رسول الله : ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى، فأيقظ امرأته فصلَّتْ، فإن أبتْ نَضَحَ في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحتْ في وجهه الماء)) رواه أحمد وأبو داود، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله يصلي مِن الليل، فإذا أوتر قال: ((قُومي يا عائشةُ فأوتري)) رواه مسلم.
البيت المسلم حريصٌ أهلُه على الصلاة جماعة، يخرجون إليها مبكِّرين؛ قال تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: 43]، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعوِّدوهم الخير، فإن الخير عادة) رواه البيهقي.
البيت المسلم معطر بذكر الله وقراءة القرآن، محصن من الشيطان، وقد رغَّب في قراءة القرآن في البيوت، لا سيما سورة البقرة؛ لأن قراءتها في البيت تطردُ عنه الشياطين بإذن الله تعالى، قال : ((لا تجعلوا بيوتكم مقابرَ, إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) رواه مسلم، وقال : ((إذا دخل الرجل بيتَه فذَكَر اسم الله تعالى حين يدخل وحين يَطعم قال الشيطان ـ يعني لأصحابه ـ: لا مبيتَ لكم ولا عشاء ها هنا، وإن دخل فلم يَذكُر اسم الله عند دخوله قال: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه قال: أدركتم المبيت والعشاء)) رواه مسلم وأحمد، وقال : ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكَّلتُ على الله لا حول ولا قوة إلا بالله فيقال له: حسبك، قد هديت وكُفِيت ووُقِيت، فيتنحى له الشيطان، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجلٍ قد هُدي وكُفي ووُقي؟!)) رواه أبو داود والترمذي وهو في صحيح الجامع (499).
كما بيَّن الفرقَ بين البيت الذي يُذكر الله فيه والبيتِ الذي لا يُذكر الله فيه، فقال: ((مَثلُ البيت الذي يُذكر الله فيه والذي لا يذكر الله مَثلُ الحي والميت)) رواه البخاري ومسلم.
وكم في بيوت المسلمين ـ يا عباد الله ـ من بيوت ميتة، بل هي في الحقيقة مأوى للجن والشياطين، بعيدةٌ عن ذكر الله، مليئةٌ بالفساد والمنكرات، لا يُسمعُ فيها إلا مزاميرُ الشياطين، وأصواتُ المطربين والمطربات؛ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19]، وما أقبحَ البيوتَ إذا خلتْ من ذكر الله، فاجتالتْها الشياطينُ، وعششت فيها وفرخت، فصارت قبورًا موحشةً وأطلالاً خربةً، فعميت قلوبُ ساكنيها، وابتعدت عنها الملائكة.
البيت المسلم مأمور بحسن الجوار، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36]، وقال : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِّثه)). والإحسان إلى الجار يكون بالسلام عليه والبشاشة في وجهه وتعهده بالزيارة وإسداء الهدية والنصح له والفرح لفرحه والتألم لألمه وكف الأذى عنه، قال : ((ليس منا مِن لم يأمَن جارُه بوائقَه)).
البيت المسلم مطهر من صوت إبليس، قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: 64]، قال مجاهد: "صوت الشيطان الغناء"، قال : ((ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري، قال الوليد بن يزيد: "إياكم والغناءَ؛ فإنه ينقص الحياءَ، ويزيد الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لَيَنوبُ عن الخمر، ويفعل ما يفعله السكر"، وقال الإمام أبو حنيفة: "الاستماع إلى الأغاني فسق"، قال مالك: "إنما يفعله الفساق"، قال الإمام أحمد: "الغناء يُنْبِت النفاق في القلب، لا يعجبني".
البيت المسلم مُطَهَّر من التصاليب؛ لأنها شعار النصارى، قالت عائشة رضي الله عنها: لم يكن النبي يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه. رواه البخاري وأبو داود. وقد انتشرت التصاليب في بيوت المسلمين في السجاد والستائر ونقوش الحائط، فتنبَّه ـ أخي الموحِّد ـ ولا تكن من الغافلين.
البيت المسلم سليم من المخالفات التي نهى عنها اللهُ ورسوله، عن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورةٌ)) متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((مَن اقتنى كلبًا إلا كلبَ صيدٍ أو ماشيةٍ فإنه يَنقصُ من أجره كُلَّ يوم قيراطان)) ، وفي روايةٍ: ((قيراطٌ واحد)) متفق عليه.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وتمسكوا بهدي رسوله الأمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فاتقوا الله رحمكم الله، واشكروه على نعمه وآلائه، فبالشكر تدوم النعم وتُحفظ.
البيت المسلم يُعنى بحسن تربية الأولاد امتثالاً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. والتربية مسؤولية ملقاة على عاتق الوالدين، قال : ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)).
وإحسان تربية الأولاد يجعلهم ذخرًا لوالديهم يوم القيامة، قال : ((إن الله عز وجل لَيرفعُ الدرجةَ للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنَّى لي هذا؟! فيقول: باستغفار ولدك لك)) رواه أحمد. كما أن حسن التربية سبب لثناء الناس على الوالدين، وسوء التربية يجلب الشتمَ والإهانة لهما بسبب أفعال الأولاد.
البيت المسلم مؤسس على تقوى من الله ورضوان، ولا يدخله إلا أهلُ التقوى والإيمان من العلماء والدعاة والأخيار وصالحي الإخوان، قال الله تعالى عن نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا [نوح: 28]. والمؤمن الفطن ـ عباد الله ـ يختار الصالحين لصحبة أولاده، قال تعالى: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]، وقال : ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المِسْك ونافخ الكير؛ فحاملُ المسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيِّبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)) متفق عليه.
عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ وَلاَ تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
قال : ((المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدُكم مَن يخالل)) رواه الترمذي وأبو داود. قال سفيان بن عيينة في تفسيره لهذا الحديث: "انظروا إلى فرعون معه هامان، وانظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم، أشر منه، وانظروا إلى سليمان بن عبد الملك صحِبه رجاءُ بن حيوة أحد الأعلام الأفاضل فقوَّمه وسدَّده".
والصحبة السيئة مصدر خطر كبير، فكم من شخص تحطم وانتكس وتبلَّد حسه ووهنت مشاعره بسبب الرفقة السيئة، وكم من إنسان فسَدتْ أخلاقه وانهدم بيته وطلقت زوجته وتحطمت حياته وانسلخ من دينه وحيائه بسبب الرفقة السيئة.
ربُّ البيت المسلم لا ينشغل عن تدبير شؤون بيته وأسرته بحجة العمل والارتباطات، قال : ((إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا)). إن بعض الآباء ـ هداهم الله ـ يضِنُّ على أسرته وزوجته بساعة في اليوم، ويوم في الأسبوع، يقضي حاجاتهم، ويصلح شؤونهم، ويلعب معهم، يحاورهم، يناقشهم. وللأب ـ عباد الله ـ دور مهم في توجيه وتربية الأسرة لا يمكن أن تقوم الزوجة به، فتعاونْ ـ أخي في الله ـ مع زوجك لحفظ أولادك وتربيتهم ومتابعتهم بالمشورة والحوار وسماع الرأي الآخر برفق ولين.
والمرأة التي تخرج للعمل وتترك الأولاد لتربيهم الخادمات ويرعاهم السائقون ويقومون عليهم، فالخادمات مصدر خطر على الأطفال، فبعضهم تَعلَّم صلاةَ النصارى من الخادمة، ومهما بلغ حرص الخادمة على تربية الأولاد فلا يمكن أن يبلغ حرص الأم، خادمةٌ في أحد البيوت تتعاطى السحر والشعوذة وتضر بأهله، أخرى تعذب الأطفال, وثالثة تسمم الطعام، ناهيكم عن جرائم القتل وهتك الأعراض.
وَهَلْ يُرْجَى لأَطْفَالٍ كَمَالٌ إِذَا ارْتَضَعُوا ثُدَيَّ النَّاقِصَاتِ
الخادمة في البيت أجنبية لا تحل الخلوة بها ولا النظر إليها، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور: 30]، كما يجب أن تحجب الخادمة، وتتحجب عن الرجال البالغين والشباب المراهقين، وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53]، كما أن الذهاب مع السائق بدون مَحرَم خلوة محرَّمة، قال : ((لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثَهما)).
البيت المسلم ـ عباد الله ـ يجب أن يصان من المجلات الهابطة والقنوات الماجنة ومواقع الإنترنت غير اللائقة، قال أحد الفضلاء:
اسْمَعْ كَلاَمِي يَا حَبِيبِي وَاضِحًا مِنْ غَيْرِ غِشّ
فِيمَا يُسَمِّيهِ الأَنَامُ بِعَصْرِنَا طَبَقًا وَدِشّْ
هُوَ بُوقُ تَنْصِيرٍ لِقِسِّيسٍ لَئِيمٍ مُنْتَفِشْ
هُوَ ضَحْكَة سَكْرَى تَرِنُّ وَصَوْتُ عُهْرٍ يَرْتَعِشْ
ومن مات وقد أدخل القنوات الماجنة إلى بيته فيُخشى عليه من قول النبي : ((مَن استرعاه الله رعيةً فمات وهو غاشٌّ لهم لم يَرح رائحةَ الجنة)).
على الوالدين ـ عباد الله ـ أن يحذَرا ويحذِّرا أولادهما من الاستخدام السيئ للإنترنت، فـ90 في المائة من المستخدمين للشبكة من شباب المسلمين يدخلون المواقع المحرمة، وهناك أكثر من 400 ألف موقعٍ إباحي على هذه الشبكة، ومن البلايا دخول المرأة المسلمة على هذه الشبكة، وما جر ذلك من ويلات ومآسٍ: محادثة الشباب بألفاظ بذيئة، مبادلتهم الصور الماجنة والخليعة، إهمال خدمة البيت والأولاد والدراسة.
البيت المسلم متميز في إسلامه، يوالي ويحب في الله، ويعادي ويبغض في الله، ولا يتشبه بأعداء الله، ولا يقلِّدهم, ولا يشاركهم أعيادَهم الشركية والبدعية؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن تشبَّه بقوم فهو منهم)).
البيت المسلم يُحافَظ فيه على الفطرة، فالرجل يحافظ على رجولته، والمرأة تحافظ على أنوثتها؛ فيُصان الأولادُ عن التشبه بالنساء، والبناتُ عن التشبه بالرجال،. إنَّ تشبُّه أحد الجنسين بالآخر ومظاهر التميع والتفرنج بابُ شر، ووسيلة لإشاعة الانحلال في المجتمع، وفتح لأبواب الفساد؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لَعَنَ رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال. رواه البخاري. وعنه رضي الله عنه قال: لعن رسول الله المخنثين من الرجال والمُتَرَجِّلات من النساء. رواه البخاري.
والتشبه قد يكون بالحركات والسكنات والمشية والكلام، وقد يكون في اللباس؛ كلبس الرجل للقلائد والأساور والأقراط، وكأن تلبس المرأة ما اختص به الرجل؛ كالقميص والثوب؛ قال : ((لعن الله الرجلَ يَلبس لبسةَ المرأة، والمرأةَ تلبس لبسة الرجل)) رواه أبو داود.
فيا أيها الأب المسلم، ويا أيها الزوج المؤمن، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن بيوتكم أمانة في أعناقكم استرعاكم الله على مَن فيها مِن الزوجات والأولاد، والله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعى: أحَفِظَ أم ضيَّع؟ فيا خيبةَ مَن ضيع الأمانة وأساء التربية!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم: 6، 7].
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين...
(1/5751)
لحظات فراق الحبيب لأمته
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مراد بن عياش اللحياني
مكة المكرمة
13/3/1429
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم حدث وفاة النبي. 2- شعور النبي بدنو أجله. 3- توديع النبي للناس. 4- ابتداء المرض واشتداده. 5- لحظات الوفاة. 6- موقف الصحابة من وفاته. 7- تغسيله وتكفينه والصلاة عليه. 8- العبر والعظات من وفاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، قبل ألف عام ومائتين تقريبًا مات أمير من أمراء العرب وقوادهم آنذاك يقال له محمد بن حميد الطوسي، فرثاه الشاعر العباسي المعروف أبو تمام بقوله:
كذا فليجل الْخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد مُحمد وأصبح في شغل عن السفر السفر
كأن بني نبهان يوم وفاته نُجوم سَماء حط من بينها البدر
مضى طاهر الأثواب لَم تبق روضة غداة مضى إلا اشتهت أنَّها قير
عليك سلام الله وقفًا فإننِي رأيت الكريم الْحر ليس له عمر
فلئن قيلت هذه الأبيات في رثاء واحد من أمراء أمة محمدٍ ، فيا ترى ما يقول الإنسان وهو يستذكر اللحظات الأخيرة والساعات التي سبقت وفاة سيد الأولين والآخرين ؟! لا ريب أن الحديث عن وفاته لا يحتاج إلى بليغٍ تهتز له المنابر، ولا يحتاج إلى خطيب تحمل صدى قوله المنائر، إنه حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحل أعيننا بعد برؤيته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزقنا جواره في جنته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي بلغ دين الله وأرشد إليه وناجى ربه ودعا إليه صلوات الله وسلامه عليه.
أيها المؤمنون، في آخر العام التاسع بدأ يشعر بدنو أجله وقرب رحيله وفراقه لمن حوله، وكان أول إرهاصات هذا الأمر العظيم أنه عليه الصلاة والسلام ودّع معاذًا لما بعثه إلى اليمن ومعاذ على راحلته وهو يمشي يقود الناقة، وأوصاه بما يفعله في الدعوة، ثم قال: ((يا معاذ لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا، يا معاذ لعلك تمر على قبري ومسجدي)) ، ثم ودعه عليه الصلاة والسلام.
وفي خطبة عرفة كان يقول بعد كل مقطع من خطبته: ((ألا هل بلغت؟)) فيقول أصحابه: نعم، فيقول: ((اللهم فاشهد)) ، حتى إنه كان واضحًا معهم وهو إمام المخلصين: ((أيها الناس، إنكم ستسألون عني، فماذا أنتم قائلون؟)) فقالوا: نشهد أنك بلّغت الرسالة وأديت الأمانة ووفيت وأديت الذي عليك كله، ثم رفع سبابته إلى السماء ثم نكتها إلى الأرض ثم قال: ((اللهم فاشهد)).
وكان يودع الناس شاعرًا بقرب أجله ودنو رحيله، وخرج ليلةً مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع يستغفر لهم ثم قال: ((يا أبا مويهبة، إن الله خيرني بين أن أعطى مفاتيح الأرض والخلد فيها ثم الجنة)) ، فقاطعه أبو مويهبة وقال: بأبي أنت وأمي، اختر مفاتيح الأرض والخلد فيها ثم الجنة، فقال : ((لا والله يا أبا مويهبة، ولكني اخترت لقاء ربي ثم الجنة)).
ثم رجع وقد أحس بصداعٍ في رأسه، فدخل على عائشة فقالت: وا رأساه! فقال: ((بل أنا وا رأساه)) ، أخبر عن مرضه وعن الصداع الذي أصابه، ثم أخذ يشتد عليه الصداع مع الحمى تصيبه، وأخذ المرض يثقل عليه شيئًا فشيئًا، فلما أثقل عليه عرف أنه لا يستطيع أن يأتي إلى بيوت نسائه كلهن، فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث اشتد عليه وجعه، فاستأذن أزواجه أن يكون في بيت عائشة رضي الله عنها، فأذنّ له، فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة رضي الله عنها تخط رجلاه على الأرض متكئًا على الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما حتى أتى إلى بيت عائشة، فمكث في بيتها يشتد عليه المرض شيئًا فشيئًا وهو يشعر بدنو أجله، فأخذ يصنع أشياء يودِّع بها الناس وتبرأ بها ذمته، فإنه لما ثقل عليه الوجع طلب أن يهرق عليه سبع قرب من ماء لم تحل أوكيتهن، ثم خرج إلى الناس عاصبًا رأسه، فدخل المسجد وبدأ بالمنبر، وأول ما بدأ في خطبته صلى على شهداء أحد واستغفر لهم وفاءً لهم ثم قال: ((أيها الناس، من كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليقتصّ منه)) ، فقام عكاشة بن محصن أمام الناس قائلاً: يا رسول الله، أما إنك قد طلبت القصاص منك، فأنا أريد أن أقتصّ منك، وذلك أنك يوم كنت تسوي الصفوف يوم بدر طعنتني بعصًا كانت في يدك في خاصرتي، وقد آلمتني، وأنت عرضت نفسك للقصاص، فقام علي فقال: أنا في القصاص فداءً له، فقال : ((لا يا علي، بل يقتص مني)) ، فأمر بالعصا التي كانت معه فأُتِيَ بها، ورفع عكاشة العصا في يده واتجه نحو المنبر، وارتفع صوت البكاء في المسجد، موقف من أشد المواقف على أصحاب محمد حبيبهم في مرضه الشديد وصحابي يقتص منه أمام الناس، فلما وصل عكاشة بن محصن إلى المنبر ألقى العصا من يده ثم ضم الجسم الشريف ومرّغ وجهه في وجه النبي وبكى بكاءً شديدًا وهو يقول: جسمي لجسمك فداء، فضجّ المسجد بالبكاء.
ثم أوصى الناس بالأنصار خيرا وفاءً لهم فقال: ((فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)) ، ثم أوصى بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ثم أوصى بالصلاة وقال: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، ثم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أبيائهم مساجد)) ، ثم قال: ((إن عبدًا خيّره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده)) ، فبكى أبو بكر ، وفهم المراد، وقال من أقصى المسجد: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((على رسلك يا أبا بكر)) ، ثم التفت يبيّن لهم فضل ومكانة أبي بكر فقال: ((إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقينّ في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر)) ، فلما انتهى من ذلك صلى بهم الظهر، ثم رجع إلى بيته يزداد عليه المرض شيئًا فشيئًا، ثم دخلت عليه فاطمة رضي الله عنها فسارّها بشيء فبكت، ثم سارّها بشيء فضحكت، ثم سئلت عن ذلك بعد فأخبرها في الأولى أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقًا به وأنها سيدة نساء أهل الجنة فضحكت رضي الله عنها.
ثم إنه قبل وفاته بأربعة أيام أعتق غلمانه وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ثم مكث المرض يشتدّ عليه فكان يغيب أحيانًا ويفيق أحيانًا من شدة الحمى التي كانت تصيبه، فلما عرف أنه لا يقدر أن يصلي بالناس أرسل إلى أبي بكر أن يصلي، فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها في أن يقف في مقام رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعته، فأوصت من يدعو عمر أن يصلي بهم، فصلى بهم عمر فسمع ذلك رسول الله فقال: ((يأبى الله ذلك والمؤمنون، لا يصلينّ بالناس إلا أبا بكر)) كالإشارة إلى استخلافه من بعده. ثم ثقل عليه المرض وبقي أبو بكر يصلي بهم حتى خرج عليهم رسول الله ذات يوم ووجدهم يصلون خلف أبي بكر، فأشار إلى أبي بكر أن ابق مكانك، فلم يقبل فرجع أبو بكر، فلما فرغ من الصلاة قال لأبي بكر: ((ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟)) فقال أبو بكر: ما كان لأبي بكر أن يتقدم بين يدي رسول الله ، ثم عاد إلى بيته يشتدّ عليه الوجع ويرى من الكرب ما الله به عليم.
حتى كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول استهل ذلك اليوم أن الناس كانوا في صلاة الفجر فإذا به يكشف الستار الذي كان بينهم وبين بيت عائشة رضي الله عنها، فلما رآه الصحابة متهللاً وجهه كأنه ورقة مصحف كادوا أن يفتتنوا ظنًا منهم أنه برئ، فهمّ أبو بكر أن يرجع فأشار إليهم أن ابقوا مكانكم، ونظر إليهم نظرة مودع، إنها النظرة الأخيرة التي لن يراها أصحابه وأحباؤه بعدها في الدنيا، إنها طلّة الفراق لن ينعموا بعدها برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا أبدًا بعد هذا اليوم، ثم رجع إلى حجرته يشتد عليه المرض، وبين يديه ركوة فيها ماء، فكان يضع يديه في الركوة ويمسح بها وجهه الطاهر ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت)) ، ثم دخلت عليه فاطمة وهو على هذا الحال فقالت: وا كرب أبتاه! فقال وهو العارف بربه: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)) ، ودخل عليه أسامة وأشار إليه أن ادع لي، فلم يستطع أن يدعو له بلسانه ولكنه رفع يديه يدعو لأسامة في سره. ثم ثقل عليه المرض فدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك يستاك به، فأمعن وحدّ البصر في عبد الرحمن، ففهمت عائشة أنه يريد السواك، فأشارت إليه فأومأ برأسه أن نعم، فأخذت السواك من أخيها ومضغته ولينته ثم أعطته رسول الله كآخر عمل يصنعه في حياته، ثم أرجعه ورفع إصبعه وشخص بصره نحو السقف وتحركت شفتاه وأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم اغفر لي وارحمني، بل الرفيق الأعلى)) كررها ثلاثًا حتى كان آخر ما قال: ((بل الرفيق الأعلى)) ، ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه.
إنا لله وإنا إليه راجعون، مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر والبر والفاجر والصغير والكبير، مات من كان للأيتام أبا، مات من كان للأرامل عونًا وسندا، مات نبي الأمة وقدوة الخلق، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار وتشنفت بسماع صوته وجميل حديثه الأسماع والآذان، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30، 31].
_________
الخطبة الثانية
_________
أصيب الصحابة بالذهول لفقد نبيهم، ومن ذلك ما كان من موقف عمر بن الخطاب، يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي! وإن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال يزعمون أنه مات.
وأقبل أبو بكر من بيته بالسنح، فدخل المسجد ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله وهو مسجى، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبّله وبكى وقال: وا صفياه، ثم قبله أخرى وقال: وا خليلاه، ثم قبله وقال: طبت حيًا وميتًا يا رسول الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتها. ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران: 144]. قال ابن عباس: والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، فأهوى إلى الأرض، وعلم أن رسول الله قد مات.
وفي يوم الثلاثاء غسلوا رسول الله من غير أن يجردوه من ثيابه، وغسله العباس وعليّ والفضل وقُثَم ابنا العباس وشُقْران مولى رسول الله وأسامة بن زيد، ثم كفنوه وهو سيد ولد آدم وخير خلق الله، وأقسم الله له بأنه ما ودعه وما قلاه، ومع ذلك كفِّن كما كفِّن الموتى، فحفروا تحت فراشه وجعلوه لحدًا، حفره أبو طلحة، ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة عشرة، يصلون على رسول الله ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم النساء، ثم الصبيان، ثم وضعوه في قبره وحثوا التراب على ذلك القبر الشريف الطاهر.
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبْر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الطهر والكرم
أيها المؤمنون، هذا نبأ وفاة نبيكم وفيه من العبر والعظات الشيء الكثير، من أبرزها ما قاله الغزالي رحمه الله: "فما بالنا لا نتعظ بمصرع محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وحبيب رب العالمين؟! لعلنا نظن أننا مخلدون، أو نتوهم أنا مع سوء أفعالنا عند الله مكرمون، هيهات هيهات". فأعدوا ـ عباد الله ـ عدة الرحيل قبل فوات الأوان، فإن الآجال تنزل بلا استئذان، وتحل بلا إعلان، فأكثروا ـ عباد الله ـ من ذكر هادم اللذات، فليس بعد موت نبينا محمد خالد، ولا في البقاء مطمع، بل الأمر كما قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.
ومن الفوائد الظاهرة في هذا النبأ شدة حرص النبي على أمته حتى وهو في آخر لحظات حياته، يوصي وينصح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فما أصدق ما قاله الله تعالى فيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
ومن فوائده شدة اعتناء النبي بأمر التوحيد، وذلك يتضح من أن النبي افتتح دعوته بالدعوة إلى عبادة الله وحده سبحانه، واختتم حياته بالتحذير من الشرك وتعظيم غير الله، فإن من آخر وصاياه قوله : ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
ومن فوائد هذا النبأ عظم شأن الصلاة وخطرها، فإن النبي كرر الأمر بها وحث على الاهتمام بها وهو يعاني سكرات الموت، فالله الله بالصلاة يا عباد الله؛ فإنها عمود الإسلام ولا إسلام لمن لا صلاة له.
ومن فوائد هذا النبأ خطورة بقاء الكفار من المشركين واليهود والنصارى في جزيرة العرب، فإن النبي أوصى بإخراجهم في آخر حياته، وما ذلك إلا لخطر بقائهم في هذه الجزيرة، فإن هذه الجزيرة جزيرة الإسلام وحصنه الحصين.
ومن فوائد هذا الحدث العظيم عظم منزلة أبي بكر رضي الله عنه، فقد نصر الله به الدين، وثبت به المؤمنين، وليس في الناس بعد الأنبياء خير منه، فهو أعمق الصحابة إيمانًا، وأثبتهم يقينًا، وأعلمهم بالله ورسوله، وأحزمهم في دين الله، وأطوعهم لله ورسوله، رضي الله عنه وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
(1/5752)
فضل الصحابة
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
فهد بن عطاء الجديع
دومة الجندل
جامع التليعان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقيدة أهل السنة في الصحابة. 2- أسباب علو منزلة الصحابة. 3- التحذير من بغض الصحابة والطعن فيهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم على أصحاب رسول الله ، فهم يترضون عن الصحابة جميعًا، ولا يحملون غلاً في قلوبهم لأحد منهم كما هو حال الذين في قلوبهم مرض، لا يسبون أحدا منهم، ويكفون عما شجر بينهم من خلاف، ويعتقدون أنهم جميعًا مجتهدون، فالمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد وذنبه مغفور بفضل سابقته وجهاده مع رسول الله ، فلهم من الحسنات الماحية للسيئات الشيء الكثير.
فما الذي جعل أصحاب النبي بهذه المكانة العالية؟ سوف نذكر في هذه العجالة بعض تلك الصفات:
أولاً: المدح الكثير والعظيم لهم في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، بحيث يتعذر جمع كل ما قيل فيهم رضي الله عنهم:
فعلى سبيل المثال قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]، فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنه قد رضي على المهاجرين والأنصار، وأنه أعد لهم الجنة، ولذلك فأهل السنة والجماعة إذا ذكروا أحدًا من أصحاب النبي ترضوا عليه، قال ابن كثير رحمه الله: "فقد أخبر الله العظيم أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض بعضهم أو سب بعضهم".
ومن ذلك قوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح: 18، 19]. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وعدد المبايعين فيها من الصحابة ألف وخمسمائة، ومن رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر لأن العبرة بالوفاة على الإسلام.
وقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10]، يقول ابن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا لقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ، فثبت أن جميعهم من أهل الجنة، وأنه لا يدخل أحد منهم النار".
وأما من قول النبي فقد ثبت عنه أنه قال: ((لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)) رواه مسلم، وقال : ((خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) رواه البخاري، وقوله : ((لا تسبوا أحدا من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه، وقوله : ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)) رواه الترمذي، وقوله : ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبتْ النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) رواه مسلم، وعنه أنه قال: ((يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله ؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)) رواه البخاري.
ثانيا: من أسباب شرف الصحابة وعلو قدرهم قوة الإيمان واليقين الجازم بصدق ما جاء به النبي :
حضر أبا ذر رضي الله عنه الموتُ وهو بالربذة، فبكت امرأته لأنه لا أحد معها، فقال لها أبو ذر: فلا تبكي، فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا منهم: ((ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين)) ، وليس من أولئك النفر رجل إلا قد مات في قرية وجماعة من المسلمين، وأنا الذي أموت بفلاة؟! والله ما كذب ولا كذبت فأبصري الطريق. فبينما هي كذلك إذا هي بنفر، فألاحت بثوبها فأقبلوا، قالوا: ما لك؟ قالت: امرؤ من المسلمين يموت، تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم حتى جاؤوه، فقال: أبشروا، فحدثهم الحديث الذي قال رسول الله.
ثالثا: كثرة الابتلاءات والمعارك التي خاضوها مع رسول الله وبعده:
لقد خاض النبي خمسا وعشرين معركة في عشر سنين، وهو ما يعني أن كل عام كان فيه معركتان، هذا خلاف السرايا التي كان يرسلها النبي والتي تزيد على مائة سرية. فلك أن تتصور حجم التعب والألم الذي حصل لهم بسبب هذه المعارك، وحجم القتل الذي استحر فيهم، هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا يقاتلون آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم.
رابعا: التحمل الشديد للعذاب في سبيل هذا الدين:
فعن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم يجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به. وعن أبي جهاد رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي ، فقال له ابنه: يا أبتاه، رأيتم رسول الله وصحبتموه والله لو رأيته لفعلت، فقال له أبوه: اتق الله وسدد، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتنا ليلة الخندق وهو يقول: ((من يذهب فيأتينا بخبرهم جعله الله رفيقي يوم القيامة؟)) فما قام من الناس أحد من صميم ما بهم من الجوع والقر حتى نادى في الثالثة: ((يا حذيفة)). وما قصة آل ياسر وبلالٍ وصهيبٍ وخبابٍ عنا ببعيد.
خامسا: حبهم الشديد للجهاد في سبيل الله:
فقد دخل عمر رضي الله عنه المسجد والنعمان بن مقرن رضي الله عنه يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته قال: إني أريد أن أستعملك، فقال النعمان: أما جابيا فلا ولكن غازيا، قال عمر: فأنت غاز، فوجهه إلى أصبهان، فلما وصل وجمع جنده قال لهم: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى: فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية: فنظر رجل في سلاحه وفي نعله فأصلحه، وأما الثالثة: فاحملوا على العدو، وإني داع بدعوة فعزمت على كل امرئ منكم لما أمّن عليها: اللهم أعط اليوم النعمان شهادة في نصر المسلمين وافتح عليهم، فكان أولَ صريع، وفي رواية قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله، فأمّنا وبكينا.
لما خرج رسول الله إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه، فأمر النبي أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة لابنه سعد رضي الله عنهما: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله إلى بدر فقتله عمرو بن عبد وُدّ.
سادسا: الإنفاق بلا حدود في سبيل الله عز وجل:
فقد بعث النبي إلى عثمان رضي الله عنه يستعينه في جيش العسرة، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فصبت بين يديه فجعل النبي يقلبها بين يديه ويقول: ((غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا)). وبينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة، قالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء، قال: وكانت سبعمائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول: ((قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا)) ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال: لئن استطعت لأدخلنها قائما، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله.
سابعا: الحب الخالص لرسول الله :
فهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه رفعه المشركون على خشبة ليصلبوه، فنادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، فضحكوا ثم قتلوه. وكذا قال زيد بن الدثنة رضي الله عنه وقد اجتمع رهط من قريش لقتله فيهم أبو سفيان، فقال له أبو سفيان حين قدم للقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا فنضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتلوه.
وفي غزوة أحد كسرت رباعيتة النبي وشج وجهه ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع في حفرة، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة بن عبد الله حتى استوى قائما، وكان بجانبه مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري فرأى الدم يسيل على وجهه ، فخشي أن يصيب عينيه، ولم يكن معه ما يمسح به الدم فمصه كله عن وجه رسول الله ، ولم يشأ أن يمج دم رسول الله في الأرض، فابتلعه رضي الله عنه، فقال رسول الله : ((من مس دمي دمه لم تصبه النار)).
وهذه امرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأحد، فلما نعوا لها أباها قالت: فما فعل رسول الله ؟ ثم نعوا أخاها فقالت: فما فعل رسول الله ، ثم نعوا لها زوجها فقالت: فما فعل رسول الله قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أروني أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، أي: صغيرة.
وهناك من الصفات الشيء الكثير، تركناها خشية الإطالة، كالرحمة فيما بينهم، والعلم بالكتاب والسنة، والزهد في الدنيا، وكثرة العبادة، وسمو الأخلاق، والطاعة المطلقة لرسول الله ، وعسى الله أن ييسر لها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
روى الترمذي عن عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله يقول: ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه )، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كان أصحاب رسول الله خير هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه).
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله حتى أبا بكر وعمر! فقالت: (وما تعجبون من هذا؟! انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر). وعن ابن عباس أنه قال: (لا تسبوا أصحاب محمد ؛ فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة).
قال العلماء: "ولو لم يرد شيء من الآيات والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم لأوجبت الحالة التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين والصبر والورع واليقين". قال الإمام الطحاوي رحمه الله مبينا عقيدة أهل السنة والجماعة: "ونحب أصحاب رسول الله ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
(1/5753)
بطولات نسائية
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, المرأة, تراجم
عبد الرحمن بن عبد العزيز الجليل
الرياض
جامع والدة نهار المنديل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريف مفهوم البطولة في هذا الزمان. 2- البطولة الحقيقية. 3- بطولات صفية بنت عبد المطلب. 4- بطولات أم عمارة. 5- بطولات خولة بنت الأزور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، هل قرأتم قصص البطولات وسمعتم بحكايات التضحِيات وروايات الحب والفداء؟! إنّ أغلب ما يتداوله الناس اليوم من القصص والأخبار لا تعدو أن تكون ملفّقةً من عقل ذاك القاص أو إنشاء ذلك الروائي أو فكر ذاك المؤرخ، فيشوبها الكذب والتكلُّف والتهويل والتضليل ليشتروا بها ثمنا قليلا. أما قصتنا هذه ففيها بطولة نادرة عجيبة وتضحية صادقة عظيمة، إنها صورة تحمل الصدق المتين والثبات المنقطع والهمّة الحية والإيمان الراسخ، إنه مشهد ولاء، لكن ليس لعذراء، ولا لأجل متعةِ غناء، ولا إرضاء حزب أو قبيلة، إنها بطولة أسالت الدماء ومزّقت الأبدان، فلا وراءها في الدنيا عيش ولا لذة ولا طيب استقرار وبقاء، إنها ليست هجران عشيقة، ولا نشوانَ يشدو أغنيةً خليعة.
أيها المسلمون أحفاد الأبطال، إن مصطلح البطولة تُلوعب به في هذا الزمان، فحمَله سوى أهله، وانتسب له غير آله وربعهِ، فأنتم ترون رموز الجبن والهوان أبطالا صناديد، وأرباب الخنا والفجور أعلامًا مشاهير، وصناع السفاهة والطيش أفذاذًا ميامين.
أيها العقلاء، كيف ترضون أن يُسمى الجبان بطلا هُماما؟! أين عقول أقوام جعلت المهانة شجاعة والدناءة مكانة والسفاهة رُقيًا وحضارة؟!
إذن ما البطولة الحقة يا معاشر المسلمين؟ إن البطولة الحقيقية إيمانك الصادق بالله تعالى ونضالك عن الشريعة وثباتك على المبادئ الصادقة وصدعك بالحق وصبرك على المكاره الشديدة، كيف يكون بطلاً من يهاب لَسْعة الزُّنبور أو يخاف ظلمة الليل أو لا يطيق العيش في الشدة والحر أو يبكي على فوات الطعام والشراب واللذة اليسيرة الفانية؟!
ولقد اصطفى الله لنبيه رجالاً ونساءً رباهم على عينه، وجعلهم منارات هدى يستضاء بها عبر التاريخ، وكلما خلا زمانٌ من القدوات فبهم يقتدى، وهل عُقمَ النساء أن يلدن أمثال عمر وخالد والمثنى والزبير والقعقاع رضي الله عنهم؟! فما بقي إلا التشبه بهم، كما قيل:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحٌ
قدوتنا اليوم نساء لكنهن ليسوا كالنساء، وقفن مواقف رجولية يعجز عنها الرجال بل عما دونها، قال المتنبي:
و لو أن النساء كمن فقدنا لفضِّلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ولا التذكير فَخرٌ للهلال
عباد الله، إن أحدنا عندما يقرأ ويسمع فتوحات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مع قلة العدة والعتاد ليعجب أشد العجب ويتساءل: هل هؤلاء من بني البشر؟! ولكن سرعان ما يتلاشى العجب عندما نرى شجاعة نساء ذلك الجيل وإقدامهن على ساحات الوغى وميادين القتال، فإن كان هكذا نساؤهم فكيف الحال إذن برجالهم؟!
وإليكم شيئا من سيرة بعض نساء ذلك الجيل الفريد.
أيها المسلمون، ها هي صفية بنت عبد المطلب الفارسة عمة النبي ، لقد كانت رضي اللَّه عنها مقاتلة شجاعة، إنها أم الزبير بن العوام، ولا عجب، لما خرج رسول الله إلى غزوة الخندق جعل نساءه في بيت لحسان بن ثابت، فجاء أحد اليهود، فرَقَى فوق الحصن حتى أطل على النساء، فقامت إليه صفية رضي اللَّه عنها فضربته وقطعت رأسه، ثم أخذتها، فألقتها على اليهود وهم خارج البيت، فقالوا: قد علمنا أن هذا أي النبي لم يكن ليترك أهله ليس معهم أحد يحميهم، فتفرقوا.
وها هي أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية لما كان يوم أحد خرجت مع زوجها غزية بن عمرو وولديها تحمل قربة وبعض أدوات الطب والجراحة لتسقي العطشى وتداوي الجرحى، ونظرت أم عمارة فإذا بالمسلمين بعد النصر يتجرعون الهزيمة نتيجة مخالفتهم لأوامر قائدهم المصطفى ، وإذا بالمقاتلين يفرون من حول النبي ، فألقت بالقربة وأدوات الجراحة وشدت ثوبها على وسطها وحملت السيف لتدافع عن رسول الله. تصف أم عمارة هذا المشهد التاريخي: رأيتني وقد انكشف عن رسول الله ـ أي: يوم أحد ـ فما بقي إلا في نفر ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه ندافع عنه، والناس ـ أي: المسلمون ـ يمرون به منهزمين، ورآني ولا درع لي أدافع بها عن نفسي، فرأى رجلاً موليًا هاربًا ومعه درع فقال النبي : ((ألق ترسك إلى من يقاتل)) ، فألقاه فأخذته فجعلت أدافع به عن رسول الله، وأقبل رجل على فرس فضربني فاتقيت الضربة بالدرع، وولى هاربًا، فضربت عرقوب فرسه بالسيف فوقع على ظهره، وسمعت النبي يصيح: ((يا ابن أم عمارة، أمك أمك)) ، فجاء ابني وعاونني عليه حتى قتلته. وينظر النبي إلى جروح أم عمارة فيقول لولدها: ((أمك أمك، اعصب جرحها، اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة، اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة)) ، لكنها تقفز للدفاع عن النبي قائلة: والله، ما أبالي ما أصابني من الدنيا، ويقول النبي : ((ما التفت يمينا إلا وأم عمارة تذود عني، وما التفت شمالا إلا وأم عمارة تقاتل دوني)).
وخرجت أم عمارة من معركة أحد بثلاثة عشر جرحًا، أخطرها ضربة سيف في الرقبة، وظلت تنزف وتداويه سنة.
ولم تتوقف أم عمارة عن القتال في سبيل الله، فخرجت مقاتلة في كل الغزوات، ووقع اختيار النبي على ابنها حبيب ليكون أحد رسوليه إلى مسيلمة كذاب بني حنيفة الذي ادعى النبوة، وكان حبيب أصغر ولدي أم عمارة، وسيمًا قوي الإيمان وحبيبًا بالفعل إلى قلب أم عمارة، فلما بلغ الرسالة وأدى الأمانة قتله مسيلمة، فجاءها رسول الله ومعه أبو بكر وعمر يواسونها في مصابها الأليم، وكان جرحها ما زال ينزف، فنذرت أن تشهد قتل مسيلمة وتشارك فيه، إلى أن كانت حروب الردة ومعركة اليمامة، ولم يجد الصديق رضي الله عنه بدًا من موافقة أم عمارة على الوفاء بنذرها والإذن لها بالخروج مع الجيش للقتال، وكانت رضي الله عنها قد كبرت في السن ووهن منها الجسم، فشدت ثوبها على وسطها وراحت تقاتل المرتدين وتبحث عن مسيلمة، وانتصر المسلمون وأصيبت يومئذ بأكثر من اثني عشر جرحًا في مختلف أنحاء جسدها، وقطعت يدها من عند كتفها المصاب، فتركتها وراحت تبحث عن مسيلمة، فنظرت فإذا بالكذاب وقد اخترقت حربةُ وحشي قاتل حمزة جسده، فتقدمت إليه تضرب وتطعن حتى خمدت أنفاسه، عندئذ اطمأن قلبها واستراحت نفسها، ولم يمض سوى زمن يسير حتى أسلمت الروح آمنة مطمئنة لتلقى الحبيب محمدا وصحابته في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنها.
أيها المسلمون، سبق الفارس الملثَّم جيش المسلمين، وفي شجاعة نادرة اخترق صفوف الروم، وأعمل السيف فيهم، فأربك الجنود، وزعزع الصفوف، وتطايرت الرؤوس، وسقطت الجثث على الأرض، وتناثرت الأشلاء هنا وهناك، وتعالت الصَّرَخات من الأعداء والتكبيرات من جيش المسلمين. ليت شعري! من هذا الفارس؟ وايم اللَّه، إنه لفارس شجاع. كلمات قالها خالد بن الوليد قائد جيش المسلمين في معركة أجنادين عندما لمح الفارس وهو يطيح بسيفه هامات الأعداء، بينما ظن بعض المسلمين أن هذا الفارس لا يكون إلا خالدًا القائد الشجاع، لكن خالدًا قد قرب منهم، فسألوه في تعجب: من هذا الفارس الهُمام؟! فلا يجيبهم، فتزداد حيرة المسلمين وخوفهم على هذا الفارس، ولكن ما لبث أن اقترب من جيش المسلمين وعليه آثار الدماء بعد أن قتل كثيرًا من الأعداء، وجعل الرعب يَدبُّ في صفوفهم، فصاح خالد والمسلمون: لِلَّه درُّك من فارس بذل نفسه في سبيل اللَّه! اكشف لنا عن لثامك، لكن الفارس لم يستجب لطلبهم، وانزوى بعيدًا عن المسلمين، فذهب إليه خالد وخاطبه قائلا: ويحك! لقد شغلتَ قلوب الناس وقلبي لفعلك، من أنت؟ فأجابه بصوت خافت: أنا خولة بنت الأزور، إنني يا أمير لم أُعرِضْ عنك إلا حياءً منك لأنك أمير جليل وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور. فلما علم خالد أنها امرأة سألها وقد تعجَّب من صنيعها: وما قصتك؟! فقالت المرأة: علمتُ أن أخي ضرارًا قد وقع أسيرًا في أيدي الأعداء، فركبتُ وفعلتُ ما فعلتُ، قال خالد: سوف نقاتلهم جميعًا ونرجو اللَّه أن نصل إلى أخيكِ فنفكه من الأسر. واشتبك جيش المسلمين مع الأعداء، وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، وكان النصر للمسلمين، وسارت تلك الفارسة تبحث عن أخيها، وتسأل المسلمين عنه، فلم تجد ما يشفي صدرها ويريح قلبها، فجلست تبكي على أخيها وتقول: يا ابن أمي ليت شِعْرِي في أية بَيْدَاء طَرَحُوكَ، أم بأي سِنَانٍ طعنوك، أم بالْحُسام قتلوكَ، يا أخي لك الفداء، لو أني أراك أنقذكَ من أيدي الأعداء، ليت شِعْرِي أترى أني لا أراك بعدها أبدًا؟ فما إن سمعها الجيش حتى بكوا وبكى خالد بن الوليد، وما هي إلا لحظات حتى أتى الخبر بالبشرى بأن أخاها ما زال على قيد الحياة، وأن جيش الأعداء قد أرسله إلى ملك الروم مكبَّلا بالأغلال، فأرسل خالدٌ رافعَ بن عميرة في مائة من جيش المسلمين ليلحق بالأعداء ويفك أسْرَ أخيها، فما إن سمعتْ بخروج رافع بن عميرة حتى أسرعتْ إلى خالد تستأذنه للخروج مع المسلمين لفك أسر أخيها، فذهبتْ معهم حيث أعدوا كمينًا في الطريق، وما إن مرَّ الأعداء بالأسير حتى هجموا عليهم هجمة رجل واحد، وما لبثوا أن قضوا عليهم وفكوا أسر أخيها وأخذوا أسلحة العدو وتظهر بسالة تلك المرأة ومدى دفاعها عن الإسلام، ففي موقعة صجورا وقعت هي ونسوة معها في أسر جيش الروم، ولكنها أبت أن تكون عبدة في جيش الروم، فأخذت تحث أخواتها على الفرار من الأسر، فقامت فيهن قائلة: يا بناتَ حِمْيَر وبقية تبع، أترضين لأنفسكن أن يكون أولادكن عبيدًا لأهل الروم؟! فأين شجاعتكن وبراعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب؟! وإني أرى القتل عليكن أهون مما نزل بكُنَّ من خدمة الروم. فألهبت بكلامها حماس النسوة، فأبَيْن إلا القتال والخروج من هذا الذُّل والهوان، وقالت لهن: خذوا أعمدة الخيام، واجعلوها أسلحة لكُن، وكنَّ في حلقة متشابكات الأيدي مترابطات، لعل اللَّه ينصرنا عليهم، فنستريح من معرَّة العرب. فهجمت وهجم معها النسوة على الأعداء، وقاتلن قتال الأبطال حتى استطعن الخروج من معسكر الأعداء، وتخلصن من الأسر.
ولم تنته معارك خَوْلة في بلاد الشام، فقد أُسِرَ أخوها ضرار مرة أخرى في معركة مرج راهط، فاقتحمت الصفوف من أجله، وخاضت مع المسلمين معركة أنطاكية حتى تمَّ النصر فيها للمسلمين، كما اشتركتْ أيضًا في فتح مصر، وغدتْ مفخرة نساء العرب ورجالهم.
وظلتْ السيدة خَوْلة رضي الله عنها على إيمانها وحبها للفداء والتضحية، ودفاعها عن دين الله، ورفْع لواء الإسلام حتى توفاها الله.
تلك هي الفارسة الفدائية خولة بنت الأَزْوَر، صحابية جليلة، أَبْلت بلاء حسنًا في فتوح الشام ومصر، وكانت من أشجع نساء عصرها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5754)
عبادة التفكر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
صالح بن عبد الكريم الزيد
الرياض
17/10/1429
جامع ابن عدوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة قسوة القلوب. 2- سبب قسوة القلوب. 3- المقصر إما مكذب أو أحمق. 4- عظم منزلة عبادة التفكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، كل منا يشتكي قسوة القلب وثمرة ذلك، نسمع القرآن فلا نتأثر، نسمع الوعظ فلا نتعظ، نسمع الوعد بالجنة فلا نعمل لها، نسمع الوعيد بالنار فلا نستعد للابتعاد عنها وكأننا لسنا المقصودين، نعلم ضعفنا وهواننا ونعلم عظمة ربنا ولا تتحرك فينا شعرة، كل منا لاه في دنياه ساه في هواه غارق في شهواته وملذاته، نرى الموت يتخطف من حولنا ويذهب بهم إلى الجنة أو النار وكأننا من الموت محصنين، والسبب في ذلك ـ أيها المسلمون ـ أنا لا نتفكر في أمرنا وما نحن عليه وما نحن قادمون إليه، أضعنا عبادة التفكر التي أمرنا الله بها، والتي هي تفكر الإنسان في عظمة الله وملكوته وفي خلق السموات والأرض والفلك بأكمله وهذه المخلوقات من حولنا، تفكر الإنسان في نفسه: من هو؟ ومم خلق؟ وإلى أي شيء هو صائر؟ ما المطلوب منه؟ وهل قام بما عليه؟ وما مصيره بعد مدة قصيرة؟ كيف حاله في قبره؟ وكيف حاله عند وقوفه بين يدي ربه ومعه سجل أعماله؟ هل هو مستعد لهذا اللقاء وهذا الموقف الرهيب الذي من فكر فيه راقب ربه وتغير سلوكه وأحسن عمله؟
يتعجّب مَن يرى حالنا في هذه الدنيا من تعلق شديد بها وغفلة عن الآخرة مع ما نراه من دلائل عظمة الله وما نوقن أننا إليه صائرون من أهوال الموت والقبر والبعث والحساب والوقوف بين يدي الله ثم إلى الجنة أو النار، ولا يظهر أثر ذلك علينا في عبادتنا وتعاملنا، فلا خشوع في الصلاة، ولا استقرار في المساجد، ولا تذلل بين يدي الله، قلوب قاسية وجوارح إلى أعمال الدنيا مسرعة وإلى أعمال الآخرة بطيئة وكسولة.
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر يوما فقال: (أيها الناس إني تفكرت في هذا الأمر ـ يعني: أمر الدنيا وفنائها وأمر الآخرة وبقائها ـ تفكرت في هذا الأمر وما نحن عليه، فإن كنا مكذبين فنحن هلكى، وإن كنا مصدقين فنحن حمقى)، أي: إن كان إهمالنا وتفريطنا لأننا مكذبون بالآخرة والجزاء والحساب فنحن كفار هلكى؛ لأن التكذيب بذلك كفر، وإن كنا مصدقين بالآخرة والجزاء والحساب ونفرّط فيه ونبقى هكذا لا نعمل ولا نستعد لهذا اليوم فنحن حمقى لا نعرف مصلحة أنفسنا، بل نسعى في ضررها من حيث نظن أنا نسعى في نفعها.
هذا الكلام يقوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمنه، فماذا نقول نحن اليوم وهذه حالنا؟! ماذا نقول ونحن نعلم أن الذي لا يعمل ليوم الحساب ولا يستعد للوقوف بين يدي ربه إما هالك أو أحمق؟! إما هالك لكونه مكذبا وكافرا، أو أحمق لكونه لا يعرف مصلحة نفسه، بل يسعى في ضررها من حيث يظن أنه يسعى في مصلحتها.
أيها الإخوة، فكروا في حالكم ومآلكم وما أنتم إليه صائرون، وفكروا في هؤلاء الموتى الذين أمامكم يرحلون وأنتم بهم لاحقون، وتفكروا في عظمة ربكم وسعة ملكه وفقركم وعجزكم، فإن مجرد التفكر في ذلك عبادة، ومن فكر في ذلك عبد الله وخافه واستعد للقائه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أذكركم بصورة واحدة من صور عبادة التفكر وكيف ترفع صاحبها وتعلي منزلته لتجعله في منزلة أصحاب العبادات الكثيرة وفي مصافهم.
وذلك في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: ((رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) ، فهذا رجل تذكر الله وتفكر في عظمة وتفكر في وقوفه بين يدي الله ففاضت عيناه خوفا ووجلا، فكان جزاؤه أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، مع أن هذا التفكر لم يستغرق منه وقتا طويلا، ولم يأخذ منه جهدا كبيرا، ولكن قيمة هذه العبادة وأثرها في النفس ترفع مكانتها عند الله لتجعله في هذه المنزلة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتذكر ويتفكر ويعتبر، ثم يعمل ويستعد لما هو إليه صائر.
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5755)
مفاتيح الرزق
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
صالح بن عبد الكريم الزيد
الرياض
24/10/1429
جامع ابن عدوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرية طلب الرزق. 2- أسباب شرعية للرزق. 3- ضرورة اتخاذ الأسباب الحسية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، لقد تكفل الله بالرزق للجميع فقال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ، ولكن طلب الرزق فطرة في الإنسان والحيوان، فكل يسعى في طلب الرزق، وقد جعل الله جل شأنه للرزق أسبابا حسية وأسبابا شرعية، فركز كثير من الناس على الأسباب الحسية واهتموا بها، مع أنها ليست متاحة للجميع، بل ولا ميسورة لهم كلهم على قدم المساواة، وغفل الكثير منهم عن الأسباب الشرعية التي هي ميسرة ومتاحة للجميع وكل يستطيع الحصول عليها.
وسأذكر بعض الأسباب الشرعية للرزق التي جاءت في نصوص قرآنية أو نبوية عن المصطفى ، ومنها:
أولاً: الاستغفار، قال الله تعالى: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ، قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار"، وهذا أيضا يعني أن كثرة الذنوب لها أثر على منع الأرزاق وعلى قلة بركتها.
ثانيًا: ومن أسباب الرزق التوكل على الله، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرًا ، روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما بسند صحيح قول النبي : ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا)).
ثالثًا: من أسباب الرزق التقوى، وهي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية؛ فلا يفقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، يقول تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3].
رابعًا: من أسباب الرزق المتابعة بين الحج والعمرة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه النسائي وغيره بسند صحيح.
خامسًا: مما يُستجلب به الرزق صلة الرحم، قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنْسَأ له في أثره فليصل رحمه)) رواه البخاري، وفي رواية: ((من سره أن يُعظم الله رزقه وأن يمد في أجله فليصل رحمه)) رواه أحمد.
أين أنت ـ أيها المسلم ـ من صلة الرحم، اتَّقِ الله وصِلْ رحمك يبسط لك في رزقك، ولعلك تعجب من أن الفَجَرَة إذا تواصلوا بسط الله لهم في الرزق، اسمع لهذا الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني من حديث أبي بكرة يقول رسول الله : ((إن أعجلَ الطاعة ثوابًا لَصِلَةُ الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فَجَرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا)).
سادسًا: من أسباب الرزق أيضًا الإنفاق في سبيل الله، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ ، ويقول : ((ما نقص مال من صدقة، بل تزده بل تزده)) ، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، أنفِقْ أُنفِقُ عليك)). الله أكبر، ما أعظمه من ضمان بالرزق! ((أنفقْ أُنفقُ عليك)).
سابعًا: من أسباب الرزق ومفاتيحه الإحسان إلى الضعفاء والفقراء وبذل العون لهم، فهذا سبب في زيادة الرزق وهو أحد مفاتيحه، قال رسول الله : ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه البخاري.
فمن رغب في رزق الله له وبسطه عليه فلا ينسَ الضعفاء والمساكين، فإنما بهم ترزق ويُعطى لك، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((أبغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) رواه النسائي وأبو داود والترمذي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف: 46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، ما تقدم ذكره جملة من الأسباب الشرعية للرزق وغيرها كثير، وهي متنوعة ومتعددة، فإن فاتك ـ أيها المسلم ـ هذه فلا تفتك الأخرى، اعزم على طلب الرزق وأخلص النية لله جل شأنه وسترى أثر ذلك.
لكن هناك أمر يجب التنبيه عليه في مثل هذا المقام، وهو أن هذه الأسباب الشرعية لا تكفي بمفردها، بل لا بد للإنسان أن يفعل الأسباب الحسية لكي يرزق، وهي العمل والتخطيط ودراسة الأسواق وملاحظة العرض والطلب، فلا يكفي مثلا التوكل أو الاستغفار وينتظر أن تمطر عليه السماء ذهبا وفضة؛ بل عليه أن يهتم بهذه المفاتيح الشرعية للرزق ثم يفعل الأسباب والمفاتيح الحسية، ومتى جمع بين الأمرين سيجد توفيقا للخير وبركة فيه وصرفا عن الخسائر، فمثلا من يصل رحمه ويفعل الأسباب الحسية يوفق الله إلى أبواب رزق لم تكن في حسبانه وتوقعه، ويصرف عنه أسباب خسائر لا يعرفها، ولذلك فالمشروع للمسلم أن لا يعتمد على الأسباب الحسية فقط، ولا على الأسباب الشرعية فقط، بل يجمع بينهما، فالطيور تخرج في الصباح جائعة وتعود ممتلئة البطون، فهي خرجت تبحث وتطلب الرزق، فرزقها الكريم، وكذلك ابن آدم يتوكل على الله، ويخرج في طلب الرزق، ويستغفر ويتصدق ولو من المال القليل، فسيجد العوض عند الله رزقا مباركا متناميا.
اللهم إنا نسألك رزقا حلالا طيبا مباركا فيه، واجعله عونا على طاعتك ومرضاتك يا رب العالمين.
هذا، وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5756)
لا إله إلا الله: معناها ومكانتها وأركانها
التوحيد
أهمية التوحيد
محمد بن سليمان الحماد
الرياض
3/4/1429
جامع التركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلمة التوحيد. 2- تحقيق التوحيد. 3- معنى كلمة التوحيد. 4- ركنا كلمة التوحيد. 5- كلمة بخصوص الإساءة للمصحف الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لقد تعرفنا في الخطبة الماضية على أهمية التوحيد وآثاره وفوائده على المجتمع والفرد، وعرفنا بعضًا من الوسائل التي تنمي وتزيد رسوخ التوحيد في النفوس، واليوم يطيب المقام ويتطهر ويزدان المكان ويتعطر ويسعْدُ الجنان ويتنور بكلام حول أشرف مبدأ وأعظم كلمة، الكلمة التي من أجلها رُفعت رايات الجهاد، وبفضلها تحررت العباد، وبسببها تنكرت قريش للنبي الهاد، إنها الكلمة التي مَن قالها عُصم دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله، ومن خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نُصر. لما قالها المسلمون أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم وضاق بها ذرعا إبليسُ وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيَها ويُظهرَها ويَنْصُرَها على من ناوأها، إنها أول أركان الإسلام وبوابته العظمى، ومعرفة معناها أول واجب على الإنسان، إنها الكلمة الطيبة التي قال الله عنها: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 24، 25]. إنها كلمة الإخلاص والتوحيد (لا إله إلا الله) التي اتفقت عليها كلمة الرسل صلى الله عليهم وسلم، بل هي خلاصة دعوتهم وزبدة رسالاتهم.
أيها المسلمون، إن لهذه الكلمةِ فضلاً عظيمًا وأجرًا جزيلاً، فعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: ((قال موسى: يا رب، علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله)) رواه بن حبان والحاكم وصححه. نعم، هذا وزنها لمن أدى حقها فأقامها وحققها بأركانها وشروطها.
هذه الكلمة لا يكفي فيها النطق، بل لا بد من الشهادة بها، ولا تعتبر الشهادة إلا إذا كانت مصحوبة بالإقرار والإذعان وواطأ القلبُ عليها اللسان، يقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان: 22]. يقول ابن كثير: :أي: أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه, ولهذا قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ أي: في عمله"، ونقل الإمام الطبري قولا لابن عباس تفسيرا لهذه الآية فقال: "قوله: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى قال: لا إله إلا الله"، ويقول القرطبي: "قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي: يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى، وَهُوَ مُحْسِنٌ لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع".
إخواني، إن التوحيد وكلمتَه لا بد له من تحقيق، يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد: "بابٌ: من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب"، ثم ذكر قول الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120]. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: "تحقيقه: تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي"، وقال في قرة العيون: "وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة، لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخلص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه، وهم في صدر هذه الأمة كثيرون، وفي آخرها هم الغرباء، وقد قلّوا، وهم الأعظمون قدرًا عند الإله، ولقد دلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله".
أيها الأحبة، هذا هو فضل هذه الكلمة العظيمة، وهذا شأنها ومكانتها في الإسلام، فحري بنا أن نلزمها ونعرف معناها وأركانها وشروطها حتى نفوز بأجرها وجزائها.
فمعناها: لا معبود بحق إلا الله، والدليل قول الله تعالى: اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62]، ويخطئ من يظن أن معناها: لا خالق إلا الله، يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الأصول الثلاثة: "معناها: لا مألوه بحق إلا الله وحده". وهذه الكلمة هي توحيد الألوهية الذي هو إفراد الله بجميع أنواع العبادة، وأما توحيد الربوبية فقد أقرّ به المشركون كما أخبر الله عنهم بقوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ، ولم ينازعوا فيه ولا امتنعوا من الإقرار به، فاحتج الله عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية فقال: فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس: 31] أي: تتقون الشرك به في عبادته.
أيها الموحدون، إن هذه الكلمة تشتمل على ركنين عظيمين، وهما: النفي بقولك: (لا إله)، والإثبات بقولك: (إلا الله)، قال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: "وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمةَ مشتملةٌ على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله". قال الإمام المجدد ابن عبد الوهاب في الأصول الثلاثة: "وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26-28]، فعبّر عن معنى (لا إله) بقوله: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، وعبّر عن معنى (إلا الله) بقوله: إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي ". قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "فدلت كلمة (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنًا من كان، وإثبات الإلهية لله وحده، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيًا وإثباتًا، واعتقد ذلك وقَبِله وعمِل به، فما أجهل عُبَّاد القبور والطواغيت بحالهم! ما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله)! سبحان الله! مشركو العرب ونحوهم جحدوا بها لفظًا ومعنى، وهؤلاء المشركون جحدوا بها معنى وأقروا بها لفظًا، فتجد أحدَهم يقولها وهو يؤلّه غير الله بأنواع العبادة كالحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء. ولأئمة الدعوة كلام نفيس بديع واضح في معناها وأركانها، فليراجع لمسيس الحاجة إليه".
وأما شروط هذه الكلمة فسنأتي عليها الجمعة القادمة إن شاء الله.
إخواني، يتبين توحيد العبد عند ازدحام الأوامر، فمتى قدم أمر الله على أمر غيره فهو موحد، وإن قدم أمر غيره على أمره فيخشى عليه من الشرك.
فتأمل ـ أخي المسلم ـ وحاسب نفسك، وتذكر أن من كان مع الله كان الله معه، ومن وجد الله فما الذي فقد؟! كما أن من فقد الله فما الذي وجد؟! إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58].
أيها المسلمون، لا يسعنا إلا العمل وسرعة النظر في حالنا مع هذه الكلمة وتجديد العهد مع الله ومحاولة تحقيق التوحيد لنفوز بأجرها وجزاء الله لأهلها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
وبعد: فقد سمعتم كما سمع الناس كلهم بل كما سمع حتى الجمادات من حجر وشجر ما حدث من كافر لعين علج قذر من امتهانٍ لكتاب الله العزيز؛ مما أقض مضجع كثير من المسلمين، وما إخال تلك الأسود المأسورة إلا أنها تمنت أن لو تمكنت منه لخلطت دمه بلعابها ثم لانتقشت من لحمه.
إنني ـ أيها المسلمون ـ لا أناشدكم الانتفاضة والغضب، فإن هذا من أضعف الإيمان، ولكني أنبهكم وأعظكم أن تكونوا ممن أهان الكتاب وهو لا يشعر، فهل قمنا بحقه خير قيام؟! إن الواجب على المسلمين أن يعرفوا حقه ليأتوا به، فإن من حقه علينا تلاوته تلاوة مستقيمة وعدم اللحن فيه وكذا عدم هجره، ثم تدبره وتفهمه ثم العمل به.
هذا، وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5757)
الحج جهاد
فقه
الحج والعمرة
أحمد بن صالح الطويان
الرياض
جامع الغزي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستعداد للحج. 2- الشوق للبيت العتيق. 3- من حكم الحج. 4- فضل الحج. 5- الحج المبرور. 6- الأجر على قدر النفقة والنصب. 7- أهمية تعلم المناسك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الإخوة، كلما دارت الأيام وأقبل موسم الحج من كل عام تستعد النفوس مُسلمةً مؤمنةً لتلبية نداء الله ودعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام، مقتدية بنبيها محمد ، وسالكة طريق المؤمنين الذين أمّوا هذا البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.
أجيالٌ مضت وطافت وأفاضت ونحرت وسعت، أممٌ تتلوها أمم، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]. قطعوا الفيافي والققار، واجتازوا الجبال والوديان، وعبروا البحار والأنهار، أو طاروا على متن الهواء قاصدين بيت الله الحرام.
روى الحاكم من حديث بن عباس قال أتى رسول الله على وادي الأزرق فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: وادي الأزرق، فقال: ((كأني أنظر إلى موسى عليه السلام مهبطا له جوار إلى الله بالتكبير)) ، ثم أتى ثنية فقال: ((كأني أنظر إلى يونس عليه السلام على ناقة حمراء جعدة خطامها ليف وهو يلبي، عليه جبة صوف)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا، منهم موسى عليه السلام، كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان، وهو محرم على بعير من إبل شنوءة، مخطوم بخطام من ليف، له ضفيرتان)).
أيها الإخوة، من حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل الحج بواد غير ذي زرع؛ ليكون القصد للنسك والعبادة لا للتنزه والسياحة، بل لإقامة شعائر الله وتعظيم حرماته، وجعل شعار الحج التوحيد دعوة للعقيدة الصافية، وجعل لباسهم واحدا يستوي فيه الغني والفقير ويرمز للوحدة والقوة.
إن هذه الأمة تشهد قوتها في تجمعها وتدرك عزها في ترابطها بحبل الله المتين. من هنا نعلم ـ أيها الإخوة ـ أن هذا البيت هو الملتقى الجامع لهذه الأمة، يتلاقى فيه المسلمون متجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، مُتخلين عن كل سِمةٍ إلا سمةَ الدين. إن مشاهد الحج لتؤكد أن رابطة الإسلام هي الرابطة الوثقى، وأن نسبه هو النسب الثابت.
ولهذا صار الحج من أفضل الأعمال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري ومسلم.
والحج سبب لتكفير السيئات ورفعة الدرجات، يغسل الخطايا ويمحو السيئات، قال : ((من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري ومسلم. والمبرور من الحج ليس له جزاء إلا الجنة.
والحج يهدم ما كان قبله من الأعمال السيئة، فعن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله: ((أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)) رواه ابن خزيمة.
والحج جهاد لا قتال فيه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ فقال: ((لكنّ أفضل الجهاد حج مبرور)) ، وقال : ((جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة)).
وهو سبب للغنى وإجابة الدعاء، قال : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)) ، وفي رواية: ((فإن متابعة ما بينهما يزيدان الأجل وينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث)) رواه الترمذي، وعن جابر قال: قال رسول الله : ((الحجاج العمار وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) رواه البزار وهو حسن.
أيها الإخوة، في الحج منافع دنيوية وأخروية، في شهود هذه المناسك منافع أخروية يجدها من حج بيت الله مخلصا لله تعالى لا رياء ولا سمعة ولا فخر، فالإخلاص أصل من الأصول وأساس من الأسس التي يقوم عليها الحج، فعن أنس قال: حج رسول الله على رحل رث وقطيفة خَلِقة لا تساوي أربعة دراهم، ثم قال: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)) رواه الدارقطني.
والمال الطيب من النفقة الحلال التي لا يقبل الله غيرها، ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)).
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
واعلم أن النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله، فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف)) رواه أحمد وهو حسن.
أيها الإخوة، كلٌ من المسلمين يرجو الحج المبرور، إن الحج المبرور إطعام الطعام وطيب الكلام وإفشاء السلام، غذاءٌ للأبدان بالطعام، وغذاءٌ للأرواح بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والدعوة الصادقة.
ألوف ومئات يؤمون هذا البيت، قد أنفقوا ما يملكون ليصلوا إلى هذا البيت، فهل يجدون من القِرى من أهل الحرم؟! إننا نرى ـ ولله الحمد والمنة ـ التوزيع المجاني للمياه والأطعمة والمشروبات والمأكولات، ولكن دعوة للمزيد ونفع النفس في هذا الموسم العظيم.
أيها الإخوة، إن من الناس من لا يريد مشقة تعترضه في حجه، وهذا لا يمكن حصوله، ولكن المشقة تختلف باختلاف الناس وقدراتهم وأحوالهم، والمشقة الحاصلة من العبادة فيها أجر وثواب، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لكِِ من الأجر على قدر نصبك ونفقتك)) رواه الحاكم وهو صحيح. وإن المسلم الحق من يجد المتعة في مشقة العبادة، فيتسلح بسلاح الصبر ورجاء الثواب.
والعلم بمناسك الحج وآدابه سلاح يتسلح به الحجاج في مقاومة الجهل والأخطاء، وسبيل للقبول، وأداء لهذه العبادة كما فعلها رسول الله ، وقد أمرنا المصطفى بذلك فقال: ((خذوا عني مناسككم)) ، فالتقليد الأعمى الذي يفعله بعض الحجاج "رأيت الناس يفعلون شيئا ففعلته" خطأ يجب أن يصحح، فكتب العلماء الموثوقين المشهورين بالعلم كثيرة ولله الحمد، وكذا أشرطتهم، فما على المسلم إلا التحري والاستعداد بالقراءة والسماع والتعلم والسؤال عما أشكل، فإنما شفاء العي السؤال.
أيها الإخوة، إن رحلة الحج عبادة وغذاء روحاني ومدد رباني يشهده الحجاج، فيجدون حلاوة الإيمان، ويشعرون بلذة الطاعة، ويتذوقون طعم العبادة، فيزيد الإيمان، ويرق القلب، وتدمع العين. ومن الناس من هو بالعكس من ذلك، فالحج عنده عادة ولهو وغفلة وضياع للأوقات واتباعٌ للشهوات، فلا يحرم المسلم نفسه فضل ربه، وليستعد بالصحبة الصالحة والرفقة المتعلمة المتأدبة بآداب الإسلام وأخلاقه، يتعاونون على البر والتقوى، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
وليتعجل الحج من يتكاسل عن أداء الفريضة؛ فإنه لا يدري ما يعرض له من الشواغل، قال : ((تعجلوا الحج ـ يعني الفريضة ـ فأحدكم لا يدري ما يعرض له)). وإنك لتعجب من أناس يقطعون بالأسفار ويتكاسلون عن أَداء الفريضة والإتيان بهذا الركن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5758)
مواقف للذكرى والاعتبار
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, مواعظ عامة
عبد الوهاب بن حبيب الله الخوارزمي
جدة
مسجد الجهني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعظ النبي لأصحابه. 2- تذكرة. 3- الأمر بالتقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ، ويقول جلَّ وعَلا: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ، ويقول جلَّ وعَلا: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: خطبنا رسول الله خطبة ما سمعتُ مثلها قط، فقال : ((لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)). وزاد أبو ذر في روايته: ((ولَمَا تلذذتم بالنساء على الفُرُش، ولخرجتم إلى الصُّعدات تجأرون إلى الله)) ، وفي رواية: ((عُرِضَت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم من الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)). فما أتى على أصحاب رسول الله يوم أشد منه، فطأطؤوا رؤوسهم ولهم خنين أي: جعلوا يبكون؛ لأنهم رضي الله عنهم أدركوا بقوله : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)) أدركوا صورًا شتى، ذَكَروا الجنة وما أعد الله فيها لأهلها من النعيم المقيم، وذَكَروا النار وما فيها من النكال والعذاب الأليم، ذَكَروا عظمة الجبار في انتقامه من الظالمين والعصاة ممن اتبع هواه وكان من الغاوين.
وأنتم ـ يا عباد الله ـ تذكروا أن الدنيا دار فناء ولا بقاء لها ولا لأهلها، قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ. تذكروا النهاية المحتومة لكل حي، وما يكون في آخر المرحلة من نزع الروح والاحتضار ومعاناة سكرات الموت ويا لها من سكرات! تذكروا جمود العينين ويَبْس اللسان ووقوف الجنان عن النبضات، تذكروا وأنتم جثث هامدة قد انقطعت منكم الآمال، تذكروا صورة البعث والنشور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، وقبل ذلك تذكروا القبر، واعلموا أن عذاب القبر ونعيمه حق لا مرية فيه، إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، تذكروا قيام الناس من قبورهم لرب العالمين حُفاةً عُراةً غُرْلاً في موقف القيامة وأهواله، تذكروا دُنُوَّ الشمس من الخلائق، تذكروا تطاير صحف الأعمال، إما إلى اليمين وإما إلى الشمال، تذكروا صورة المرور على الصراط منصوبًا على متن جهنم، أنتم فوقه تسيرون وجهنم تحتكم تزفر، تذكروا الصراط ورسول الله واقف عنده يقول: ((اللهم سَلِّم سَلِّم)) ، تذكروا كلاليب جهنم وهي تخطف الناس إلى الهاوية، تذكروا ذلك الصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف، يجتازه الناس على قدر أعمالهم حتى يكون منهم من يُجْتَذَب إلى النار، وتذكروا صور العذاب في النار؛ من حر وسَموم وزمهرير وزقوم، وتذكروا الزبانية الغلاظ الشداد، تذكروا أهلها ينادُون ويستغيثون، لهم فيها بالويل ضجيج، أمانيُّهم فيها الهلاك، وما لهم من أسر جهنم فكاك، قد شُدِّت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ذل المعاصي، ينادُون من فجاجها وشعابها بُكِيًَّا من تَعاظُم العذاب: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفلذت منا الكُبُود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فيجيبهم بعد زمان: قَالَ اخْسَؤوا فِيْهَا ولا بد من الخلود. أين هذا البكاء وأنتم تكفرون؟! أين هذا البكاء وأنتم تزنون؟! أين هذا البكاء وأنتم تغشون وتخدعون وتمكرون؟! أين هذا البكاء وأنتم تمترون؟! ثم يجيبهم الله جلَّ وعَلا قائلاً مصداقًا لقولهم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.
تصوَّر ـ يا عبد الله ـ إن كنت عاصيًا ومِتَّ على غير توبة، تذكر نفسك وأنت في أودية جهنم تهيم، ومن طعامها وشرابها تأكل صباحًا ومساءًَ، تذكر إن مت على المعاصي والذنوب، تذكر جسمك هل يتحمل هذا العذاب.
عباد الله، تذكروا أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم والسعادة الأبدية التي لا يعتريها نقصٌ ولا زوالٌ ولا انحلالٌ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً.
يا عبد الله، أين عقلك؟! فرِّق يا مسكين، فرِّق بين النعيم والجحيم، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً , يا غشاش لنفسه، فرِّق بين الجنة والنار، وبين الصحيح والسقيم، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر)) ، ثم قال : ((اقرؤوا ذلك في كتاب الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )).
عباد الله، إنها الجنة التي لا يَخْرب بنيانها، ولا يَهْرَم شُبَّانها، ولا تبلى ثيابهم، سالمة من الأنجاس والأكدار والتنغيصات والأمراض والأسقام، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا ، ويقول الله تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ , اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
عبد الله، تزوَّد واستَعِد، فإن أمامك سفرا طويلا، ومكثا في القبور لا يعلم مدته إلا الله، وجليسُك فيه الأعمال، فإن كانت صالحة فهنيئًا لك، وإن كانت سيئة فيا ويلك على مر الأزمان.
اللهم أحسن ختامنا يا رب العالمين, واجمعنا ووالدِينا وجميع المسلمين والمسلمات في جنات النعيم، يا رب العالمين.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه...
_________
الخطبة الثانية
_________
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، أحمده سبحانه القائل عن نفسه: لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وأتباعه، وسلَّم تسيلمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.
اتقوا يومًا يوضع فيه الكتاب، وتلاقُون فيه الحساب، يومًا يُنشر لكم فيه واضحًا ملف أعمالكم، وديوان حصيلتكم من خير أو شر، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ، ويقول جلَّ وعَلا: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا , ويقول جلَّ وعَلا: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله فضحك فقال: ((هل تدرون مِمَّ أضحك؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: ((من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألَمْ تُجِرني من الظلم؟! فيقول سبحانه: بلى، فيقول: إني لا أقبل اليوم شاهدًا إلا مني، فيقول تعالى: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا , والكرام الكاتبين شهودًا، فيُختم على فيه، فيقول لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله ـ نعوذ بالله من الخزي والندامة ونعوذ بالله من الفضيحة يوم القيامة ـ ، ثم يُخَلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعْدًا لكن وسُحقًا، فعَنْكُنَّ كنت أناضل)).
فاتقوا الله ـ يا عباد الله ـ من ذلك اليوم العظيم والهول الجسيم، اتقوا ذلك الموقف الذي ستُقْدِمون فيه للمساءلة والمحاسبة، وسيُوقَف كل منا بين يدي الله عزَّ وجلَّ متخليًا عنه أقرب قريب وأصدق صديق، كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
عباد الله، اسألوا الله عزَّ وجلَّ أن يخفف عليكم الحساب، واسألوه أن يحسن لكم الخاتمة، ودائمًا أكثروا من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، حتى تلقوا ربكم، وأكثروا من قول: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
عباد الله، صلوا على الناصح الأمين محمد بن عبد الله الذي أمركم الله أن تصلوا عليه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، ويقول : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين يا رب العالمين...
(1/5759)
إلى من حج بيت الله
فقه
الحج والعمرة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
14/12/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انقضاء الحج. 2- فضل الحج المبرور. 3- تبشير الحجيج. 4- الحث على الاستقامة والاستمرار في الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، اِنقَضَت أَيَّامُ الحَجِّ وَالزِّيَارَةِ، وَرَجَعَت وُفُودُ الحُجَّاجِ مِن أُمِّ القُرَى، رَجَعُوا بَعدَ أَن حَجُّوا البَيتَ الحَرَامَ، وَعَادُوا بَعدَ أَن وَقَفُوا بِتِلكَ المَشَاعِرِ العِظَامِ، فَهَنِيئًا لهم هَذِهِ الرِّحلَةَ الإِيمَانِيَّةَ العَظِيمَةَ، هَنِيئًا لهم مَا كَسَبُوهُ مِنَ الحَسَنَاتِ وَمَا مُحِيَ عَنهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ، مَن حَجَّ مِنهُم للهِ مُخلِصًا وَلِنَبِيِّهِ مُتَّبِعًا، وَابتَعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمعَةِ وَالفَخرِ، وَسَلِمَ مِنَ الرَّفَثِ وَالفُسُوقِ وَالجِدَالِ، فَلْيَطِبْ بما أَسلَفَ نَفسًا، وَلْيَهنَأْ بما قَدَّمَ قَلبًا، فَقَد أَدَّى فَرضًا وَقَضَى تَفَثًا، وَرَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ مُمَحَّصًا وَمِن خَطَايَاهُ مُخَلَّصًا، في الصَّحِيحَينِ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: ((مَن حَجَّ فَلَم يَرفُثْ وَلم يَفسُقْ رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ)) ، وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: كُنتُ جَالِسًا مَعَ النَّبيِّ في مَسجِدِ مِنًى، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ وَرَجُلٌ مِن ثَقِيفٍ، فَسَلَّمَا ثم قَالا: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئنَا نَسأَلُكَ، فَقَالَ: ((إِنْ شِئتُمَا أَخبَرتُكُمَا بما جِئتُمَا تَسأَلاني عَنهُ فَعَلتُ، وَإِنْ شِئتُمَا أَن أُمسِكَ وَتَسأَلاني فَعَلتُ)) ، فَقَالا: أَخبِرْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الثَّقَفِيُّ لِلأَنصَارِيِّ: سَلْ، فَقَالَ: أَخبِرْني يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: ((جِئتَني تَسأَلُني عَن مَخرَجِكَ مِن بَيتِكَ تَؤُمُّ البَيتَ الحَرَامَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَن رَكعَتَيكَ بَعدَ الطَّوَافِ وَمَا لَكَ فِيهِمَا، وَعَن طَوَافِكَ بَينَ الصَّفَا وَالمَروَةِ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَن وُقُوفِكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَن رَميِكَ الجِمَارَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَن نَحرِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ مَعَ الإِفَاضَةِ)) ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَعَن هَذَا جِئتُ أَسأَلُكَ، قَالَ: ((فَإِنَّكَ إِذَا خَرَجتَ مِن بَيتِكَ تَؤُمُّ البَيتَ الحَرَامَ لا تَضَعُ نَاقَتُكَ خُفًّا وَلا تَرفَعُهُ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَكَ بِهِ حَسَنَةً وَمَحَا عَنكَ خَطِيئَةً، وَأَمَّا رَكعَتَاكَ بَعدَ الطَّوَافِ كَعِتقِ رَقَبَةٍ مِن بَني إِسمَاعِيلَ عَلَيهِ السَّلامُ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالصَّفَا وَالمَروَةِ كَعِتقِ سَبعِينَ رَقَبَةً، وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللهَ يَهبِطُ إِلى سَمَاءِ الدُّنيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ المَلائِكَةَ، يَقُولُ: عِبَادِي جَاؤُوني شُعثًا مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرجُونَ جَنَّتي، فَلَو كَانَت ذُنُوبُكُم كَعَدَدِ الرَّملِ أَو كَقَطرِ المَطَرِ أَو كَزَبَدِ البَحرِ لَغَفَرتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغفُورًا لَكُم وَلِمَن شَفَعتُم لَهُ، وَأَمَّا رَميُكَ الجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيتَهَا تَكفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ، وَأَمَّا نَحرُكَ فَمَذخُورٌ لَكَ عِندَ رَبِّكَ، وَأَمَّا حِلاقُكَ رَأسَكَ فَلَكَ بِكُلِّ شَعرَةٍ حَلَقتَهَا حَسَنَةٌ وَيُمحَى عَنكَ بها خَطِيئَةٌ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالبَيتِ بَعدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ وَلا ذَنبَ لَكَ، يَأتي مَلَكٌ حَتى يَضَعَ يَدَيهِ بَينَ كَتِفَيكَ فَيَقُولُ: اِعمَلْ فِيمَا تَستَقبِلُ فَقَد غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى)) رَوَاهُ الطَّبرَانِيُّ وَالبَزَّارُ وَاللَّفظُ لَهُ، وَرَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
أَيُّهَا الحَاجُّ الكَرِيمُ، يَا مَن بَذَلتَ النَّفسَ وَالنَّفِيسَ، وَضَحَّيتَ بِالجُهدِ وَالوَقتِ، وَاجتَهَدتَ حَتى أَتَيتَ البَيتَ العَتِيقَ، فَطُفتَ بِهِ وَسَعَيتَ وَلَبَّيتَ، وَصَلَّيتَ خَلفَ المَقَامِ وَشَرِبتَ مِن زَمزَمَ، وَوَقَفتَ عَلَى الصَّفَا وَالمَروَةِ فَكَبَّرتَ وَهَلَّلتَ، وَدَفَعتَ إِلى عَرَفَةَ وَبِتَّ بِمِنى وَمُزدَلِفَةَ، وَرَمَيتَ الجَمَرَاتِ وَنَثَرتَ العَبَرَاتِ، وذَبَحتَ وَحَلَّّقتَ أَو قَصَّرتَ، وَدَعَوتَ وَسَأَلتَ وَرَجَوتَ، وَتُبتَ إِلى اللهِ وَأَنَبتَ، مَن أَسعَدُ مِنكَ وَأَحظَى؟! مَن أَهنَأُ مِنكَ وَأَرضَى؟! تَجَرَّدتَ للهِ في لِبَاسِ العُبُودِيَّةِ وَالذُّلِّ، وَحَسَرتَ رَأسَكَ وَنَبَذتَ رَفاهِيَتَكَ، وَمَدَدتَ يَدَيكَ وَرَفَعتَ كَفَّيكَ، فَأَبشِرْ وَأَمِّلْ مَا يَسُرُّكَ، لَقَد دَعَوتَ رَبًّا كَرِيمًا، وسَأَلتَ مَلكًا عَظِيمًا، وَرَجوتَ بَرًّا رَحِيمًا، لا يَتَعَاظَمُهُ ذَنبٌ أَن يَغفِرَهُ وَلا فَضلٌ أَن يُعطِيَهُ، لَقَد دَعَوتَ رَبَّكَ الَّذِي إِنْ تَقَرَّبتَ إِلَيهِ شِبرًا تَقَرَّبَ إِلَيكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبتَ إِلَيهِ ذِرَاعًا تَقَرَّبَ إِلَيكَ بَاعًا، وَإِنْ أَتَيتَهُ تَمشِي أَتَاكَ هَروَلَةً، فَأَحسِنْ ظَنَّكَ بِرَبِّكَ، فَإِنَّ رَبَّكَ عِندَ ظَنِّكَ، وَعَطَاؤُهُ أَعظَمُ مِن أَمَلِكَ، وَجُودُهُ أَوسَعُ مِن مَسأَلَتِكَ، وَتَذَكَّرْ أَنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَيكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مَعَ الحُجَّاجِ أَشعَثَ أَغبَرَ مُنكَسِرًا، فَقَالَ وَهُوَ الجَوَادُ الكَرِيمُ: أَفِيضُوا عِبَادِي مَغفُورًا لَكُم.
فَهَنِيئًا لَك وَبُشرَى وَقُرَّةَ عَينٍ، فَقَد عُدتَ كَيَومَ وَلَدَتكَ أُمُّكَ، فَاجعَلْ مِن حَجِّكَ بِدَايَةً لِحَيَاةٍ جَدِيدَةٍ، وَفُرصَةً لِمُعَامَلَةٍ مَعَ اللهِ صَادِقَةٍ، لَقَد كُفِيتَ مَا سَلَفَ وَمَضَى، فَاستَأنِفْ عَمَلَكَ وَأَحسِنْ فِيمَا بَقِيَ، اُصدُقِ التَّوبَةَ، وَأَخلِصْ في الإِنَابَةِ، وَاعزِمْ عَلَى المُحَافَظَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ مَا بَقِيتَ وَالاستِمرَارِ عَلَى تَركِ المَعَاصِي مَا حَيِيتَ، إِنَّ مِن عَلامَةِ قَبُولِ الحَسَنَةِ فِعلَ الحَسَنَةِ بَعدَهَا، وَمِن عَلامَةِ رَدِّ الحَسَنَةِ إِتبَاعُهَا بِالسَّيِّئَةِ، وَإِنها لَفُرصَةٌ عَظِيمَةٌ أَن بُيِّضَت صَحِيفَتُكَ وَنُقِّيتَ مِنَ الخَطَايَا وَطُهِّرتَ مِنَ الأَوزَارِ، وَعُدتَ خَفيفًا ممَّا أَثقَلَكَ مِنَ الأَغلالِ وَالآصَارِ، فَاتَّقِ اللهَ حَقَّ التَّقوَى، اِحفَظِ الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى، وَتَذَكَّرِ المَوتَ وَالبِلَى، حَافِظْ عَلَى مَا اكتَسَبتَ وَجَنَيتَ، وَإِيَّاكَ أَن تَهدِمَ مَا شَيَّدتَ وَبَنَيتَ، فَإِنَّ الشَّيطَانَ إِذْ لم يَستَطِعْ صَدَّكَ عَنِ الحَجِّ فَهُوَ حَرِيصٌ كُلَّ الحِرصِ أَن يُفسِدَ عَلَيكَ العَمَلَ وَيُذهِبَ الأَجرَ، وَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلى الذَّنبِ بَعدَ التَّوبَةِ نَوعٌ مِنَ المُخَادَعَةِ وَالمُرَاوَغَةِ، يَجدُرُ بِكَ أَن تَكُونَ أَبعَدَ النَّاسِ عَنهَا وَأَحذَرَهُم مِنهَا، لَقَد حَرِصتَ في حَجِّكَ عَلَى السُّؤَالِ عَن كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَكُنتَ جَادًّا في تَطبِيقِ السُّنَّةِ قَبلَ فِعلِ الوَاجِبِ، أَلا فَلْيَكُنْ هَذَا دَيدَنَكَ طوَالَ عُمُرِكَ، لَقَد حَرِصتَ أَيَّامَ حَجِّكَ عَلَى أَن لاَّ يَكُونَ مِنكَ رَفَثٌ وَلا فُسُوقٌ وَلا جِدَالٌ، أَفَلا تَكُونُ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ عُمُرِكَ؟! أَفَلا تَحفَظُ سَمعَكَ وَبَصرَكَ؟! أَفَلا تَصُونُ لِسَانَكَ وَجَوارِحَكَ؟! أَفَلا تَحفَظُ وَقتَكَ عَنِ الضَّيَاعِ فِيمَا لا يُرضِي رَبَّكَ؟! لَقَدِ استَحضَرتَ أَنَّ أَيَّامَ الحَجِّ مَعدُودَةٌ وَمُدَّتَهُ قَصِيرَةٌ، فَعَزَمتَ عَلَى أَن لاَّ تَقَعَ في مَحظُورٍ وَصَبَرتَ عَلَى ذَلِكَ، أَلا فَاعلَمْ أَنَّ الحَيَاةَ كُلَّهَا قَصِيرَةٌ، وَأَنَّ العُمُرَ أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ، قَالَ تَعَالى: كَأَنَّهُم يَومَ يَرَونَهَا لم يَلبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَو ضُحَاهَا ، فَاصبِرْ وَصَابِرْ وَرَابِطْ، وَسَارِعْ وَاجتَهِدْ وَجَاهِدْ، فَإِنَّ المُسلِمَ لا يَزدَادُ بِطُولِ العُمُرِ إِلاَّ خَيرًا، وَلا يَرضَى لِنَفسِهِ أَن يُعقِبَ الطَّاعَةَ بِالمَعصِيَةِ، وَلا أَن يُفسِدَ التَّوبَةَ بِالنُّكُوصِ، كَيفَ وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتي نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ، وَقَالَ تَعَالى لِنَبِيِّهِ : وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتى يَأتِيَكَ اليَقِينُ ، وَلَمَّا استَوصَى أَحَدُ الصَّحَابَةِ النَّبيَّ قَائِلاً: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لي في الإِسلامِ قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ، قَالَ: ((قُل: آمَنتُ بِاللهِ ثم استَقِمْ)).
أَلا فَاستَقِمْ ـ أَخِي الحَاجَّ ـ عَلَى مَا بَدَأتَ مِن عَمَلٍ صَالحٍ، فَإِنَّ الاستِقَامَةَ عَلَى الصِّرَاطِ وَالثَّبَاتَ عَلَيهِ، مَدعَاةٌ إِلى أَن يُختَمَ لِلمَرءِ بِالخَاتِمَةِ الحَسَنَةِ، وَأَن يُبَشَّرَ عِندَ مَوتِهِ بِرِضَا رَبِّهِ وَدُخُولِ جَنَّتِهِ، وَتِلكَ وَاللهِ هِي أَغلَى مَطلُوبٍ وَأَسنى مَرغُوبٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ فَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَإِنَّهُ كَمَا أَكرَمَ اللهُ الحُجَّاجَ بِالحَجِّ فَقَد أَنعَمَ عَلَى سَائِرِ المُسلِمِينَ بِنِعَمٍ عَظِيمَةٍ، وَيَسَّرَ لهم عِبَادَاتٍ جَلِيلَةً، مَرَّت بهم عَشرُ ذِي الحجَّةِ الَّتي هِيَ أَفضَلُ أَيَّامِ الدُّنيَا عِندَ اللهِ، وَمَرَّ بهم يَومُ عَرَفَةَ الَّذِي يُكَفِّرُ صِيَامُهُ سَنَتَينِ، وَمَرَّ بهم يَومُ النَّحرِ فَصَلَّوا وَضَحَّوا , ثم تَوَالَت عَلَيهِم أَيَّامُ التَّشرِيقِ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَذَكَرُوا اللهَ، وَحَمِدُوهُ وَشَكَرُوهُ عَلَى مَا رَزَقَهُم, فَمَا أَجدَرَهُم أَن يَفرَحُوا بِذَلِكَ كُلِّهِ، قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ ممَّا يَجمَعُونَ ، مَا أَجدَرَهُم أَن يَزدَادُوا حَمدًا للهِ وَشُكرًا فَيُضَاعِفُوا العَمَلَ! قَالَ سُبحَانَهُ: اِعمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ ، مَا أَجدَرَهُم أَن يَستَمِرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَيَجعَلُوا الحَيَاةَ كُلَّهَا للهِ كَمَا أَرَادَ اللهُ حَيثُ قَالَ سُبحَانَهُ: قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ.
(1/5760)
الريح
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عبد الله بن عبد الرحمن الشهري
الطائف
جامع ابن سيف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من سنن الله تعالى في هذه الحياة. 2- نعمة الهواء. 3- معتقدات فاسدة عن الريح. 4- حقيقة الريح. 5- آثار الريح. 6- أسماء الريح. 7- الريح في القرآن الكريم. 8- الريح من جنود الله تعالى. 9- أسماء الريح. 10- تنبيه مهم. 11- النهي عن سب الريح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، فقد جرت سنة الله عز وجل في عباده أن يعاملهم بحسب أعمالهم، فإذا اتقى الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم أنزل عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، كما قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16]، وإذا تمرّد العباد على شرع الله وفسقوا عن أمره أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال، فإذا كان العباد مطيعين لله عز وجل معظمين لشرعه أغدق عليهم النعم وأزاح عنهم النقم، وإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية ومن الشكر إلى الكفر حلت بهم النقم وزالت عنهم النعم. فكل ما يحصل للعباد من محن وكوارث ومصائب فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30].
إن ما نشاهده من هذه الآيات الكونية لهو آية من آيات الله، تجعل المؤمن متصلاً بالله ذاكرًا له شاكرا لنعمه مستجيرا به خائفا من نقمته وسخطه.
عباد الله، إن من نعم الله علينا هذا الهواء الذي نتنفسه، ولشدة الحاجة إليه جعله الله مبذولا متاحا للمخلوقات في كل مكان وبدون ثمن أو مال، ولكن عندما يتلوّث هذا الهواء بالقدر الذي لا يمكن الإفادة منه فإن حال الناس تصبح صعبة وحرجة، تصل ربما إلى حالات من الإغماء أو الاختناق.
لقد كان في جميع الحضارات والأمم السابقة خرافات ومعتقدات خرافية عن الرياح، وكان يسود الظن بأن هناك آلهة مختلفة للرياح والعواصف, وجاء القرآن الكريم ليبين مباشرة بأن الرياح بيد الله الواحد، وأنها مسخرة بإذنه، متناسقة مع باقي المسخرات، وتسير بنظم ثابتة في هذا الكون ليؤازر بعضها بعضًا. والسؤال الآن: ما هي الرياح؟ أو ما هو الريح؟ والجواب جاء على لسان من علمهم القرآن من زمن بعيد أن الريح هي: (حركة أجسام لطيفة غير مرئية)، أما المصطلح العلمي للرياح الآن فهو: (حركة جزيئات الهواء والغازات المكونة للغلاف الجوي, والرياح توصف ككمية موجهة لها سرعة واتجاه).
ومن آيات الله أن جعل في هذه الجزيئات الخفيفة القوة الخارقة التي تقلع الأشجار وتهدم الديار, والآن تستخدم في رفع الأثقال وتكسير الأحجار, وهي أيضا الرياح اللطيفة التي تنقل الروائح الجميلة وعبير الأزهار، وتنقل حبوب اللقاح وتسوق السحاب بإذن الله.
الرياح هواء متحرّك عبر سطح الأرض، وقد تهب الرياح ببطء ولُطف شديدين، لدرجة تجعل من الصعوبة الإحساس بها، أو قد تهب بسرعة وعُنف كبيرين لدرجة تجعلها تدمر المباني وتقتلع الأشجار الكبيرة من جذورها. والرياح القوية يمكنها أن تضرب أمواج المحيط العاتية التي من شأنها أن تحطم السفن وأن تغمر الأرض. وبإمكان الرياح إزالة التربة من الأراضي الزراعية، ومن ثم تتوقف المحاصيل عن النمو، وتستطيع ذرات التربة الناعمة التي تحملها الرياح أن تُبلي الصخر وتغير ملامح الأرض.
الرياح أيضًا جزء من الطقس، فاليوم الحار الرطب قد يتحول فجأة إلى بارد إذا ما هبّت الرياح من منطقة باردة، والسحب المُحَمَّلة بالمطر والبرق قد تتكون حيث يلتقي الهواء البارد بالهواء الحار الرطب، وقد تدفع رياح أخرى السحب بعيدًا وتسمح للشمس بأن تدفئ الأرض مرة أخرى. ويمكن للرياح أن تحمل العاصفة الهوجاء إلى مسافات بعيدة.
وتُسمى الرياح وفقًا للاتجاه الذي تهب منه، فعلى سبيل المثال تهب الرياح الشرقية من الشرق إلى الغرب، والرياح الشمالية من الشمال إلى الجنوب.
وجاء ذكر كلمة (رياح) في القرآن الكريم عشر مرات، وذكر لفظة (ريح) أربع عشرة مرة, ولفظ (ريحًا) أربع مرات. وجاء ذكر الرياح مجموعة دائما مع الرحمة (مبشرات, حاملات, مرسلات, ناشرات, ذاريات, لواقح). وإن كل مرة ذكر فيها الريح مفردة تكون مقترنة بالعذاب (عاصف, قاصف, عقيم, صرصر)، إلا في سورة يونس في قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22], وسورة يوسف في قوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف: 94]، فورود كلمة الرياح مع الجمع تعني أن الرياح بهذه الصفة المقرونة بها قد يحدث في نفس الوقت على أماكن أخرى من الكرة الأرضية؛ مثل (تصريف الرياح) أو (يرسل الرياح)، فهي كمرسلات هنا وهناك ناشرات في نصف الكرة الشمالي والجنوبي في نفس الوقت. أما الإفراد فإنها تأتي بمواصفات خاصة كجسد واحد يؤدي غرضا محدودًا, فريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء تؤدي غرضًا بعينه.
أيها المؤمنون، إن الريح جند من جنود الله تعالى التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة بإذن ربها دمرت المدن وهدمت المباني واقتلعت الأشجار وصارت عذابا على من حلت بدارهم، فلما عتا قوم عاد وقالوا: من أشد منا قوة أرسل الله عليهم الريح العقيم، فقال جل وعلا: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42]، قال البغوي في تفسيره (4/233): "هي التي لا خير فيها، ولا بركة، ولا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا، ما تذر من شيء أتت عليه من أنفسهم وأنعامهم ومواشيهم وأموالهم إلا جعلته كالرميم أي: كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس، قال مجاهد: كالتبن اليابس". وقد سماها الله تعالى (عاتية) في قوله: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة: 6]، قال المفسرون: عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، وقيل: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب.
كيف لا وهي جند من جنود الله ينصر بها من يشاء من عباده المؤمنين؟! كما حصل في بعض غزوات الرسول ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9]، روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "هي الصبا، كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم ـ أي: خيامهم ـ حتى أظعنتهم"، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله : ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدَبور)) ، والصبا هي الريح الشرقية، والدَبور هي الريح الغربية. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سرّ به وذهب عنه ذلك ، قالت عائشة: فسألته فقال : (( إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي )) رواه مسلم. وكان النبي إذا عصفت الريح قال : ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به)) رواه مسلم.
وقد قال الله عن قوم صالح عندما أرسل عليهم الريح: فلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، فلم يظنوا في السحابة التي أظلتهم سوى أنها ظاهرة كونية قد تتسبّب في نزول المطر، خاصة وأنهم كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، ولكن لم تكن هذه الغمامة سوى العذاب.
ونقل ابن كثير في تفسيره عن عبد الله بن عمرو قال: (الرياح ثمانية، أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب: فالعقيم والصرصر وهما في البر، والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب، فجعله عقيما، وأودعه عذابا أليما، وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فيجعله صرصرا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه).
أيها المسلمون، كما أن الرياح جند من جنود الله يسلطها على من يشاء فإنها أيضا خلق من خلق الله يسخرها لمن يشاء من عباده، قال المولى تبارك وتعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ، وقال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ، قال قتادة: "تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين".
والرياح لها أسماء وأنواع، فمنها: البَليل وهي: الريح الباردة ذات الندى، الجَامِلة وهي: الريح السريعة المَرّ، الحاصِبة: التي تجيء بالحصباء، الخَريق: الشديدة البرد تخترق الثياب، الرَّاعفة: الشديدة المطر، السَّموم: الريح الحارة، الصَّبَا: التي تهبّ من نقطة الشرق، الصَّرْصَر: الريح الباردة، اللواقِح: التي تلقّح الشجر، العَقِيم: التي لا تقلع الشجر ولا تحمل المطر، المُتَنَاوِحَة: التي تهبّ من جهات مختلفة، النافخة: الريح التي تبدأ بشدّة، النَّسِيْم: الريح بنفَس ضعيف، المِعْجَاج: التي تثير الغبار، الزوبعة: التي تهبّ من الأرض نحو السماء مثل الإعصار.. وغير ها كثير.
أيها المسلمون، إن مما ينبغي الحذر منه هو نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة كما يسميها بعضهم: (غضب الطبيعة)! وكما يقول بعضهم: إن هذه ظواهر طبيعية لها أسباب معروفة لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، كما يجرى ذلك على بعض الألسنة، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها ولا يعتبرون بها. قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "ونحن لا ننكر أن يكون لها أسباب حسية، ولكن من الذي أوجد هذه الأسباب الحسية؟ إن الأسباب الحسية لا تكون إلا بأمر الله عز وجل، والله بحكمته جعل لكل شيء سببا؛ إما سببًا شرعيا وإما سببًا حسيًا، هكذا جرت سنه الله عز وجل".
نسأل الله عزّ وجل أن يجعلني وإياكم من الذين إذا وُعِظُوا اتعظوا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أذنبوا استغفروا، إنه سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن من الناس من يتذمّر عندما يرى الريح والغبار، وربما تطاول فسبها وشتمها، وهذا أمر قد نهى عنه رسول الله حيث قال: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذا الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذا الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) رواه الترمذي (7315)، وقال: ((لا تسبوا الريح؛ فإنها من روح الله تعالى، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها)) رواه أحمد وصححه الألباني، وقد أخرج الإمام مسلم رضي الله عنه في صحيحه في باب: في معجزات النبي من حديث أبي حميد قال: انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله : ((ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم منكم أحد، فمن كان له بعير ليشد عقاله)) ، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء.
ومما ينبغي التنبيه عليه قول بعض الناس: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا"، فهذا حديث ضعيف جدا، وإنما الثابت من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام هو ما ذكرناه آنفا.
فاللهم أرسل علينا ريحا طيبة رطبة محملة بالمطر غير المهلك، وقنا شر ريح السموم والعذاب، واجعلنا من عبادك الذين يقدرون نعمك حق قدرها.
(1/5761)
النظام الاقتصادي في الإسلام
فقه
البيوع
فهد بن عبد الله الصالح
المجمعة
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنظيم الإسلام للحياة الاقتصادية. 2- أصول الاقتصاد الإسلامي. 3- فضل إنظار المعسر. 4- خطورة الدَّين. 5- دروس الأزمة الاقتصادية.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد نظم الإسلام الحياة الاقتصادية بقانون من الخالق جل وعلا, وذلك لينعم الخلق بحياة اقتصادية آمنة, تحترم الغنيَّ والفقير, وتراعي المصلحة العامة والخاصة, وتحفظ للناس حقوقهم, ولهذا أجازت البيع وحرمت الربا والغرر والتغرير والقمار، وأذنت في التجارة ومنعت من الاحتكار ومن بيع البائع ما لا يملك أو ما ليس في حوزته ومن ربح ما لا يضمن؛ ليقتسم الجميع الربح والخسارة. ولو أخذت النظم الحديثة بهذا القانون الإلهي العادل لم تحتج إلى تجربة شيوعية ولا رأسمالية يثبت فشلها مع مرور الأيام, وتتعرض الأسواق بسببها للانهيار والشركات للإفلاس والمحلات للتقبيل.
وإن من مضامين خصائص التشريع الإسلامي في الاقتصاد أنه نظام مرتبط بالعقيدة والأخلاق، يتعانق فيه الاقتصاد بالدين القويم والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة، وإنها لصفعة في وجوه الذين ينادون بفصل الدين عن الحياة وحصره في عبادات شخصية محدودة، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا.
إنّ الاقتصاد الإسلاميّ يرجع إلى أصول مهمة وقواعد جمّة:
فأولها: الصدق والأمانة في التعامل، فهما صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ ، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا ، وفي الحديث الصحيح: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) ، وفي حديث آخر: ((التاجر الأمين الصدُوق مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي، وفي الصحيحين: ((فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما)).
والصدق كما أنه مطلوب مع المسلمين فهو مطلوب مع غير المسلمين؛ لذا لما صدق المسلمون في بيوعهم وسائر تعاملاتهم كان لذلك الأثر البالغ في دخول كثير من المجتمعات في الإسلام أفواجًا، كما حصل ذلك في بعض دول شرق آسيا، لقد عرفوا الإسلام من تاجر مسلم لم يكن جاء للدعوة، كان يأتي لهم عبر السفن ليبيع لهم ما لديه ويشتري منهم سلعا يبيعها في بلده، فتأثروا بصدقه وأخلاقه، فسألوه عما يحثه على ذلك، فقال: إنه ديني، فانتشر الإسلام بسبب ذلك.
ومن الأصول: التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات، قال : ((رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى) ). ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وإقالة البيع أي: الاستجابة إلى فسخه إذا رغب المشتري ذلك لظهور عدم احتياجه للسلعة، وقد قال : ((من أقال مسلمًا أقال الله عثرته)) رواه أبو داود وابن ماجه وسنده صحيح.
ومن تلك الأصول: ما اشترط الإسلام لِصحة العقود كلها، وهو مبدأ التراضي التام من المتعاقدين، والاختيار الكامل على إجراء التصرفات، حتى لا يُجبر أحدٌ على ما لا يرضاه من تعامل، أو يؤخذ منه شيء بغير طيب نفس منه، ففي التنزيل: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ؛ ذلكم أن الأموال في الإسلام محترمة مصانة، وهي أحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها وجودًا وعدمًا، وفي الحديث يقول : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)).
أيها المسلمون، لقد قرن القرآن الكريم بين تحريم الربا وبين أمر آخر في غاية الأهمية، ألا وهو إنظار المعسر، كما قال تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ، وعن رسول الله أنه قال: ((أُتي بعبد من عباد الله آتاه الله مالاً، فقال له الله: ماذا عملت به في الدنيا؟ قال: يا رب، آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلُقي الجواز، فكنت أيسِّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق به منك، تجاوزوا عن عبدي)) رواه البخاري.
إنّ أهمية هذا المبدأ ـ أيها الإخوة في الله ـ لا تقتصر على القيمة الأخلاقية والإنسانية التي يجسدها فحسب، بل هو يؤدي وظيفة اقتصادية في غاية الأهمية، ربما لم تكن أكثر وضوحًا قبل الأزمة التي نعيشها اليوم، فالأزمة كما نعلم بدأت مع تعثّر المقترضين من ذوي الدخل المنخفض، هذا التعثر أدى إلى تراجع في تمويل القروض العقارية، ومن ثم في تراجع أسعار العقار؛ مما فاقم من مشكلة التعثر، وأدى إلى سلسلة من الإخفاقات في المؤسسات المالية والمصرفية، ثم انتقلت العدوى إلى بقية دول العالم. فإذا كان الانهيار ابتدأ من تعثر السداد فإن من أهم عوامل تطويق الأزمة ومحاصرة تداعياتها هو إمهال المدينين غير القادرين على السداد، وهذا ما حث عليه الإسلام.
ومن معالم النظام الاقتصادي الإسلامي أنه أباح البيع وحثّ عليه؛ ليتحقق العدل والمواساة بين أفراد المجتمع في تدوير المال فيما بينهم وعدم احتكاره لدى طائفة بعينها دون البقية، كما قال الحق سبحانه: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ، وسمح بالدَّين عند الضرورة الملحة للسيولة وبالقدر الذي لا يضرّ بالفرد والمجتمع, ولهذا نجد نصوصًا شرعية كثيرة تلمح إلى خطر الدَّين, كما في استعاذته من المغرم وهو الدّين, ومن ضلَع الدين أي: ثقله، كما في حديث البخاري: كان النبي يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال)) ، وفي صحيح البخاري أيضًا عنه أنه كان يدعو في الصلاة ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) , فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ ـ يا رسول الله ـ من المغرم! فقال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)) ، وفي سنن النسائي أنه كان يدعو بهؤلاء الكلمات: ((اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء)). واليوم نرى كيف غلبت الديون شركات وبنوكًا كبرى, وأرغمتها على الإفلاس.
ولحرص الشارع على إطفاء أثر الدين وحسم نتائجه المرة على الفرد والمجتمع ـ أيها الإخوة ـ فقد تكفل بتسديد دين المعسرين بيتُ مال المسلمين, ففي الحديث الصحيح: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم, فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه)) ، وفي رواية للبخاري: ((فمن مات ولم يترك وفاء)).
ولتثقيف المسلم بضرورة إعادة الدين إلى صاحبه فقد أمر الشارع بتحسين النية عند اقتراض المال للحاجة, كما جاء في صحيح البخاري: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)). وهذا فيه تحذير من تبييت المقترض للنية السيئة وإضمار عدم السداد؛ وذلك محافظة على الأموال وصيانة لها من الأيدي العابثة وحرصًا على عدم تعريض المجتمع إلى هزات عنيفة بسبب الديون المتراكمة؛ ولهذا حرمت الشريعة الإسلامية على الموسر المماطلة في السداد, فقال عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم، يحلّ عرضه وعقوبته)) , وها هي المحاكم تعجّ بالمماطلين الذين لو حكموا شريعة الله في واقعهم لما تضرر إخوانهم منهم.
وكذا حث الإسلام على القرض الحسن؛ ليشيع في أبنائه روح المحبة والتكافل, ويقطع الطريق على القرض بالفائدة المحرم في شريعة الإسلام؛ لأنه ابتزاز للمحتاج الذي ألجأته الضرورة أو الحاجة لاقتراض المال, وبما أن النظام الرأسمالي يسمح بنظام القرض بالفائدة لذا فقد أضر به ضررًا بالغًا في أسواقه المالية؛ حيث تسببت هذه القروض الربوية في أعنف زلزال عرفته الشركات والبنوك الأمريكية.
وبعد: أيها المسلمون، فإن ما حصل فيه دروس كبيرة ومواعظ لأولي الألباب:
منها ظهور سنة الله تعالى في المتعاملين بالربا، وصدق الله العظيم حين قال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ، كيف لا تمحق أموالهم وتذهب بركتها وهم يحاربون الجبار جل وعلا؟!
ومن ذلك فشل كل نظام أو قانون لا يقوم على العدل وفضائل الأخلاق التي جاءت بها الديانات السماوية الصحيحة، وأنه بالإيمان بالله وبما شرع وتحقيقِ تقواه واتباعِ شريعته تحصل الخيرات وتعمّ البركات وتتنزل الرحمات، وقد قال الله جلا الله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5762)
حقوق الإنسان
أديان وفرق ومذاهب, الأسرة والمجتمع, فقه
قضايا المجتمع, قضايا فقهية معاصرة, مذاهب فكرية معاصرة
فهد بن عبد الله الصالح
المجمعة
14/12/1429
القادسية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليوم العالمي لحقوق الإنسان. 2- إخفاقات في مجال حقوق الإنسان. 3- تكريم الإسلام للإنسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَا بعد: فأوصيكم ونفسي ـ يا عباد الله ـ بتقوى الله؛ فإن تقوى الله هي مفتاح كلّ خير ومغلاق كلّ شرّ.
أيها المسلمون، قبل يومين مرّت الذكرى الستون لليوم العالمي لحقوق الإنسان، تلك الحقوق التي أعلنتها هيئة الأمم قبل ستين عامًا، فقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بكرامة الإنسان وبحريته وبسائر حقوقه إلى آخر الديباجة المدونة في ملفاتها.
ومع مرور هذه الستين فلقد عجزت هذه المنظمات أن توقف في العالم سيلَ الجرائم والمذابح والحروب بحقّ إبادة البشر، وفشلت في منع الصراعات العرقية والمذهبية، كما أن الذين يموتون من الجوع والمرض وحوادث السيارات بعشرات الملايين سنويّا، ناهيكم عن سجلّ طويل في مجال انتهاك حقوق الإنسان وإهانته وإذلاله واستغلال الضعيف لصالح القوي، حتى البيئة لم يستطيعوا منع تلوثها.
إن ما يجري للإنسان من حروب وحصارات وظلم واضطهاد وفقر ومجاعة هو ـ أيها الإخوة ـ بسبب غياب شرع الله في ضبط الحياة من كافة جوانبها المختلفة، وصدق الله: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 16، 17].
أيّها المسلمون، لقد جاء الإسلام بمبادئ وقيَم وعقائد ترفع من شأن الإنسان وتصون حقوقه وتحميه من التسلط والاستبداد.
إن أوّل ركيزة يقوم عليها بناء الإسلام هي عقيدة التوحيد، هذه العقيدة التي هي تكريم للإنسان وإثبات لعزته وحريته، فالمؤمنون تعلموا من هذه العقيدة أن الذي تنحني له الوجوه وتسجد وينادى بالدعاء والضراعة هو قيوم السموات والأرض وحده دون سواه، والبشر قاطبة ينتظمهم سلك العبودية المطلقة لله وحده، فكلمة العبودية في القرآن تعني الحرية، فالناس عبيد لله أي: هم أحرار من غير الله، فلا يحقّ لإنسان أن يستعبد إنسانًا مثله، ومبادئ الحرية التي يعلنها الغرب ويفتخر بها أمام العالم وتداعب أحلام البشرية قد شرعها الله من فوق سبع سموات، إنها حرية متزنة مضبوطة بضابط الشرع، فلا فوضى، ولا إباحية، ولا تعدٍ على حقوق الغير، ولا فرق بين أحد وأحد بسبب اللون أو العرق، للإنسان أن يمتلك ما يشاء وأن يتصرف في ممتلكاته بالحق، وجاء الإسلام بتشريعات تحمي هذه الحرية بأن شرع حدًا للسرقة وحرّم النهب والاغتصاب والتحايل.
وكما أوجب الزكاة وحثّ على الصدقة دعا إلى تنشيط الأسواق بالبيع والشراء والصناعات، وحرم كل بيع يهدّد هذه الحركة، وها هي أسواق العالم كلها تهتزّ وتنهار بسبب الربا، وكلما كان هذا النظام أو المصرف قريبا من شرع الله كحال البنوك الإسلامية كان إلى السلامة أقرب.
وكما خلق الله اللسان فقد كفل الإسلام حرية الرأي، فمن حق أي آدمي أن ينطق بما يكنه ضميره ما دام لم يخرج عن الضوابط والحدود، فالسباب واللعان والغيبة والكذب وتجريح الناس محرّم في الإسلام، وقول الحق مشروع ومندوب، ففي الحديث: ((الكلمة الطيبة صدقة)) ، ولقد أخذ الرسول البيعة من بعض أصحابه على قول كلمة الحق، بل إن قول الحق من سمات الرجولة ومن علامات الإيمان، روى الإمام أحمد بسنده إلى النبي أنه قال: ((ألا لا يمنعنّ رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه)).
ومن الحريات التي شرعها الإسلام للإنسان ـ أيها المسلمون ـ حرية المأوى، فلا يجوز الدخول في مساكن الغير إلاّ بإذن أصحابها، ولقد كانت العرب تحترم هذه الحرية، فجاء الإسلام وأقرّها وأكّد عليها، فمن العيب عند العرب الدخول على البيوت إلاّ بإذن أصحابها، ولما أرادت قريش التخلّص من محمد ودعوته وخطّط لهم الشيطان بقتله لم يقتحموا عليه منزله، بل جلسوا خارجه انتظارًا لخروجه حتى أغشاهم الله وخرج ولم يروه. ومن حقّ صاحب البيت أن يرفض مقابلة أيّ إنسان ما لم يكن على موعد مسبق.
والحرية الفردية مكفولة في الإسلام أيها الإخوة، فلا يصحّ لأحد أن يتعدّى على أحدٍ في خصوصياته حتى ولو كان كافرًا؛ لأن الكافر في نظر الإسلام إنسان له حقوقه.
وللإنسان في شريعة الإسلام حرية التنقل في أرض الله الواسعة، ولهذا عاتب الله المعتذرين بقوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97].
والعدل مطلب الإنسانية على مرّ العصور، ولقد أخفقت النظم القديمة والحديثة في تحقيقه، أمّا شريعة السماء فتقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90].
العدل في الإسلام ينبع من عقيدة التوحيد، ويعمّ سائر نواحي الحياة وجميع الأفراد، إنه من الظلم أن يصرف العبد شيئًا من خصائص الله لغير الله، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. العدل في الإسلام يشمل العدل مع النفس ومع الزوج ومع الأولاد ومع العمال ومع سائر البشر، يكون العدل في القضاء والحكم. إن شريعة الإسلام هي شريعة العدل والإحسان والمساواة.
ومنعا لأيّ تعد من أحد على أحد شرع الله حقوقا وواجبات بين كل طرفين متعاقدين؛ بين الرجل والمرأة، بين الأب وابنه، بين التاجر وشريكه، بين المعلم وتلميذه، بين رب العمل وموظفه، وأوجب الله بيان هذه الواجبات والحقوق حتى يلتزم كل طرف بها، وحذر الله من جحدها أو حتى التهاون بها، وما ذاك إلا لتستقيم الحياة ولا يتضرر طرف من الأطراف، وشرع الإسلام الإصلاح بين الناس منعا للفتنة وحفظا للحقوق.
ودين الإسلام ـ أيها المسلمون ـ يقرّ واقع التفاوت بين الناس في المواهب والقدرات تشجيعًا للنشيط وتحريكًا للكسول.
وإذا كان الله قد كرم بني آدم فلقد حرم كل إهانة أو إذلال أو تجريح أو تعدّ على نفسيته وعرضه، أو مماطلة في حق أو تأخير لمطلب أو أي إعاقة لمصلحة عامة تحت أي ذريعة أو مسمى.
أما التعرض للإنسان أو السبب في فقدان روحه أو المشاركة في ذلك أو حتى إقرار المجرم على جريمته فهو من أعظم الانتهاكات لحقوقه، وقد قال : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) رواه الترمذي؛ ولذلك كانت عقوبة القاتل في الإسلام بجنس فعله، فيعاقب بمثل ما ارتكب من القتل جزاءً وفاقًا، فكما أنه حَرَمَ المقتولَ من الحياة فإنه يستحقّ أن يُحرَمَ منها جزاء ما اقترفت يداه، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، ويترتّب على تنفيذ القصاص وإقامة الحدود الأخرى أن يخيّم الأمن على المجتمع، ويعيش الناس في استقرار وطمأنينة.
والإسلام له نظامه الفريد في المحافظة على البيئة العامة للناس؛ لأن التلوّث البيئي جريمة في حق الإنسانية، تسبب لهم ألوانا من الأمراض والعاهات، وتحرمهم من خيرات الأرض وبركات السماء.
وبعد: أيها المسلمون، هذا ـ معاشر الأحبة ـ عرض موجز وسريع لشريعة الإسلام في نظرتها للإنسان طالما هو كائن على وجه الأرض؛ مبادئ ومُثُل تصون الحقوقَ وتحفظ الكرامات وتحقّق السعادة وتدافع عن المنجزات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5763)
أعياد المشركين
الأسرة والمجتمع, الإيمان
الولاء والبراء, قضايا المجتمع
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
18/12/1428
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة ربانية. 2- ظاهرة الإعجاب بالغرب وتقليدهم. 3- الاحتفال برأس السنة. 4- مخالفة أهل الكتاب. 5- التحذير من المشاركة في أعياد المشركين. 6- مفاسد مشاركتهم. 7- صوَر المشاركة. 8- مسائل مهمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الله جلَّ شأنه كتب على عباده أن كلَّ أمةٍ تستبدل الضلال بالهدى وتتخلى عن خصائصها وتخجل من مبادِئها أنها أمة لا تزال في تقهقر وانحطاط واضمحلال في فكرها وقوتها وسلوكها.
وإن مما ابتليت به أمة الإسلام الإعجاب والتبعية المطلقة لأعداء الإسلام من قِبَل ضعفاء النفوس من المسلمين الذين بلغ بهم الإعجاب والافتتان بحضارة الغرب أَوجَه، فأضحوا من الداعين إلى الاحتذاء بحذوها والسير في ركابها، حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلوه.
أيها المسلمون، لم يعد خافيًا اغترار كثيرٍ من المسلمين وتقليدهم وافتتانهم بما يأتي من أخلاق بلاد الكفر، فأعياد الميلاد وأعياد رأس السنة والتعلقُ والافتتان ببعض مشاهير الكفرة رياضةً أو فنًا أمرٌ مشاهد، حتى حاكاهم بعض شباب الإسلام في حركاتهم وقصاتِ شعورهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، في هذه الأيام يستعدّ النصارى الضالون للاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية، وهذا العيد بدأ وللأسف يغزو مجتمعاتنا، وتعلقت به نفوس بعض شبابنا ذكورًا وإناثًا، انشغلوا به، وتهيؤوا له، واتخذ بعضهم مناسبته عطلةً وعيدًا؛ وذلك بسبب ضعف الإيمان في قلوبهم وتقليد النصارى واتباع سيرهم ونهجهم في كلِّ ما يفعلونه، وبسبب الانبهار والإعجاب بحضارة الغرب المادية الزائفة والانخداع ببريقها المخدر، وبسبب الغزو الفكري والثقافي والترويج الإعلامي المسموع والمرئي والمقروء الذي يحرض على هذه الضلالات، ويلفت إليها أنظارَ الناس وأسماعَهم، ويحرك قلوبهم لها، ويثير أهواءهم للاستعداد لها والمشاركة فيها.
أيها المسلمون، لقد كان رسولكم يحرصُ كلَّ الحرصِ على أن تخالف أمته اليهود والنصارى في كلِ شيء، حتى قال عنه اليهودُ أنفسهم كما يرويه أنسٌ رضي الله عنه عند مسلمٍ: ما يريدُ هذا الرجلُ أن يدعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. وإذا كان اليهود والنصارى يتجاهلون أعيادنا ولا يحتفلون بها بل يستهزئون ويسخرون منا فما بالُ البعضِ يحتفل بمناسباتهم ويحييها على سنتهم ابتغاءً وطلبًا لرضاهم؟! وتناسى أولئكَ قوله سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120].
عباد الله، لقد أكثر أهل العلم في نقل التحذير من أعياد الكفار والمشاركة فيها، جاء عن مجاهد وغيره من السلف في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان: 72] قال رحمه الله: "الزور هي أعياد المشركين"، وقد صرح الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة باتفاق أهلِ العلمِ على عدم جوازِ حضور المسلمين أعيادَ المشركين، وجاءَ عن عمرَ رضي الله عنه أنه قال: (لا تدخلوا على المشركين في كنائسِهم يومَ عيدهمِ؛ فإن السخطة تنزل عليهم)، وقال أيضًا رضي الله عنه: (اجتنبوا أعداء اللهِ في أعيادهم) أخرجه البيهقي بسند صحيح.
قال تقي الدين رحمه الله: "وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليسَ قد يعرض لعقوبة ذلك؟! ثم قوله: (اجتنبوا أعداء اللهِ في عيدهم) أليس نهيًا عن لقائِهم والاجتماع بهم فيه؟! فكيف بمن عَمِلَ عَملهم؟! ولقد كان عليٌ رضي الله عنه يكرهُ موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به، فكيف بموافقتهم في العمل؟!".
أيها المسلمون، إن مشاركة النصارى في أعيادهم تورث نوع محبة ومودةٍ وموالاةٍ، والمحبة والموالاةُ لهم تنافي الإيمان، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ [الممتحنة: 1]. ثم إن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجبُ سرورَ قلوبهم وانشراح صدورهم بما هم عليه من الباطلِ، والمشابهةُ والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجبُ مشابهة ومشاكلةً في الأمور الباطنة من العقائد الفاسدة على وجه المسارقة والتدرج الخفي، قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: "إذا أردت أن تعرف الإسلام من أهل زمان فلا تنظر إلى ازدحامهم على أبواب المساجد، ولا ارتفاع أصواتهم بـ(لبيك)، لكن انظر إلى موالاتهم لأعداء الشريعة".
عباد الله، إن مشاركة المسلم للكفار في أعيادِهم ليست مسألة إثم ومعصية، وليست مسألة خطأٍ وزلةٍ، لكنها قد تكونُ مسألة إيمان وكفر؛ لأن المشاركة نوعٌ من التشبه، وقد قال النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) أخرجه أحمد وغيره.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا الحديث أقلُّ أحوالِه تحريمُ التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كُفر المتشبِّه بهم، كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51]، وهو نظيرُ ما سنذكره عن عبد الله عمرو أنه قال: (من بنى بأرض المشركين وصنَع نيروزهم ومهرجانهم وتشبّه بهم حتى يموت حُشرَ معهم يوم القيامة) أخرجه البيهقي بإسناد جيد.
أيها المسلمون، إن مشاركة النصارى في أعيادهم لا تقتصرُ على الحضور فقط، بل هناك صورٌ أخرى للمشاركة يغفل عنها كثيرٌ من الناس، ومنها: تهنئة الكفار بأعيادهم، وهذا منكرٌ عظيم وجرمٌ كبير؛ لأنه نوعُ رضا بما هم عليه من الباطل وإدخالٌ للسرور عليهم.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرامٌ بالاتفاق، مثلَ أن يهنئهم بأعيادِهم وصومهم، فيقول: عيدٌ مبارك عليكَ، أو: تهنأُ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشدُ مقتًا من التهنئةِ بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرجِ الحرام ونحوه، وكثيرٌ ممن لا قدرَ للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدًا بمعصيةٍ أو بدعةٍ أو كفرٍ فقد تعرض لمقتِ الله وسخطهِ" اهـ.
ومن صور المشاركة أيضًا للمشركين في أعيادِهم ما نشاهدهُ جليًا في بعض أسواقنا من بيع ما يستعينون به على إقامةِ شعائِر دينهم وأعيادهِم من شموع وورودٍ وبطاقاتٍ، أو كتابةِ عبارات التهنئةِ على الحلوياتِ والورود وغيرهِا، أو تأجيرِ الفنادق أو المسارحِ أو المجمعاتِ السكنية ليقيموا فيها حفلاتِهم وأعيادِهم، فإن هذا كلَّه من التعاون على الإثمِ والعدوانِ، والمالُ الذي يُجنى من وراءِ ذلكَ سحتٌ، وأيّ لحمٍ نبتَ من سحتٍ فالنار أولى به، قال تقي الدين رحمه الله: "ولا يجوزُ بيعُ كلِ ما يستعينون به على إقامةِ شعائِرهم الدينية".
فاتقوا الله عباد الله، واعتزوا بدينكم وإسلامكم، واحذروا سخط ربكم ومقته وعقابه، وخذوا على أيدي سفهائكم الذين شدَّ بعضهم الرحالَ هذه الأيام إلى بلاد الكفار لمشاركتِهم في أعيادِهم، ولأجلِ أن يمتعوا أعينهم وأنفسهم بالحرامِ، ثم يرجعونَ وقد حملوا أوزارهم على ظهورِهم، ألا ساء ما يزرون.
عباد الله، ها هنا بعضُ المسائل المهمة المتعلّقةِ بهذه الأعيادِ الكفريةِ يحسنُ التنبيهُ عليها ومنها:
أولاً: لا يجوز تهنئةُ الكفار بأعيادِهم، وإذا هنؤونا بأعيادِهم فإننا لا نجيبهم على ذلك؛ لأنها ليست بأعيادٍ لنا، ولأنها أعيادٌ لا يرضاها الله تعالى.
ثانيًا: لا يجوز للمسلم أن يُهدي لمسلم آخر بمناسبةِ هذه الأعيادِ الباطلة، ومن باب أولى أنهُ لا يجوز للمسلم أن يُهدي للكافر في يومِ عيدٍ من أعياده؛ لأن ذلك يعدُ إقرارًا ومشاركةً في الاحتفالِ بالعيدِ الباطل.
وإذا كانت الهديةُ مما يستعانُ به على الاحتفال كالطعامِ والشموع ونحوه كان الأمر أعظمَ تحريمًا، وذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى أن ذلك كفرٌ.
ثالثًا: يجوزُ للمسلم أن يُهدي للكافر والمشركِ بقصد تأليفهِ وترغيبهِ في الإسلام، لا سيما إذا كان قريبًا أو جارًا، وقد أهدى عمرُ رضي الله عنه لأخيه المشركِ حلّة، لكن لا يجوزُ أن تكون الهديةُ للكافرِ في يوم عيدِ من أعيادهِ أو لأجلِ عيدٍ من أعيادِهم.
رابعًا: إذا أهدى إليكَ كافرٌ هديةً جازَ لك قبولها، تأليفًا لقلبه وترغيبًا له في الإسلام، كما قَبِلَ النبيُ هدايا بعضِ الكفارِ كهدية المقوقسِ وغيره.
وإذا جاءت الهديةُ من الكافر في يوم عيدهِ فلا حرجَ في قبولها، ولا يعدُ ذلك مشاركةً ولا إقرارًا للاحتفالِ، قال ابنُ تيميةً رحمه الله: "وأما قبولُ الهديةِ منهم يومَ عيدِهم فقد قدّمنا عن علي رضي الله عنه أنه أُتي بهديةِ النيروزِ فقبلها". لكن ذكر العلماءُ شروطًا لقبول الهديةِ من الكافرِ في يومِ عيدهِ وهي:
أن لا تكون الهديةُ من ذبيحةٍ ذبحت لأجل العيد.
وأن لا تكون الهدية مما يستعان به على التشبه بِهم في يومِ عيدهم كالشمعِ والبيض ونحو ذلك.
وأخيرًا أن يكون قبولُ الهدية بقصد تأليفهِم ودعوتِهم للإسلام لا مجاملةً أو مودةً أو محبة.
اللهم يا حي يا قيوم، علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، قال الأميرُ شكيبُ أرسلان رحمه الله ما مضمونه: "أضاع الإسلامَ جاحدٌ وجامد، أما الجاحدُ فهو الذي يأبى إلا أن يفرنج المسلمين ويجرّدَهم من جميع مقوماتِهم ويحملهم على إنكار ماضيهم، ويجعلهم أشبه بالجزءِ الكيماوي الذي يدخلُ تركيب جسمِ آخر فيذوبُ فيه، ثم يقول: فإذا دعا هؤلاء داعٍ إلى الاستمساكِ بقرآنِهم وعقيدتهم ومقوماتهم وباللسان العربي وآدابِهِ والحياة الإسلامية قامت قيامتهم وصاحوا: لتسقط الرجعيةُ، وقالوا: كيف تريدون الرقي وأنتم متمسكونَ بأوضاع باليةٍ قديمةٍ من القرون الوسطى ونحن في عصرٍ جديد؟! ثم يضيف رحمه الله: وجميعُ هؤلاء الخلائق تعلموا وتقدموا وطاروا في السماءِ، والمسيحي منهم باق على إنجيلهِ وتقاليده، واليهوديُ باقٍ على توراتهِ وتلمودهِ، واليابانيُ باقٍ على وثنيتهِ، وهذا المسلم المسكينُ يستحيلُ أن يترقى إلا إذا رمى قرآنه وعقيدته ولباسه وفراشه وطعامه وشرابه وآدابه وانفصل من كلِ تاريخه، فإن لم يفعل فلا حظ له في الرقي" اهـ.
أيها المسلمون، إن عزة الإسلام وأهلهِ عزةٌ دائمةٌ، لا يرفعها تأخرُ حضاري، ولا تراجعٌ علمي، ولا انكسارٌ عسكري، ولا تقهقر مادي، نحن الأعزاء بالله إن صدقنا في إيماننا وإسلامنا، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]، قال عمر رضي الله عنه: (نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزةَ بغيره أذلنا الله).
صلوا على السراج المنير والبشير النذير...
(1/5764)
الرجولة
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, مكارم الأخلاق
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
21/12/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمنية العمرية. 2- أهمية الرجال. 3- صفات الرجولة. 4- الرجولة المزيفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يُروَى عَن أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ لأَصحَابِهِ يَومًا: تَمَنَّوا، فَتَمَنَّوا مِلءَ البَيتِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ مَالاً وَجَوَاهِرَ يُنفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَكِنِّي أَتَمَنَّى رِجَالاً مِثلَ أَبي عُبَيدَةَ وَمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ وَحُذَيفَةَ بنِ اليَمَانِ، فَأَستَعمِلُهُم في طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
رَضِيَ اللهُ عَن عُمَرَ، مَا كَانَ أَصوَبَ رَأيَهُ وَأَدَقَّ فَهمَهُ! فَلَقَد تَمَنَّى حِينَ تَمَنَّى وَبَلَغَ الغَايَةَ في ذَلِكَ، وَلِمَ لا وَهُوَ المُلهَمُ المُوَفَّقُ الَّذِي يَعلَمُ المُقَوِّمَاتِ الَّتي تَنهَضُ بها الدُّوَلُ وَالحَضَارَاتُ وَالأُسُسَ التي تَحيَا بِوُجُودِهَا الأُمَمُ وَالمُجتَمَعَاتُ؟! إِذْ مَا قِيمَةُ المَعَادِنِ وَالثَّرَوَاتِ وَما تُغني الأَموَالُ وَالتِّجَارَاتُ مَا لم يَكُنْ ثَمَّةَ رِجَالٌ يَحفَظُونَهَا وَيَرعَونَهَا وَيَستَثمِرُونَهَا الاستِثمَارَ الصَّحِيحَ الأَمثَلَ؟! مَا قِيمَتُهَا مَا لم تَتَوَافَرْ عُقُولٌ زَاكِيَةٌ تُخَطِّطُ وَأَيدٍ عَامِلَةٌ تُنَفِّذُ؟!
إِنَّ رَجُلاً وَاحِدًا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الرُّجُولَةُ الحَقِيقِيَّةُ لَهُوَ أَعَزُّ مِن كُلِّ مَعدِنٍ نَفِيسٍ وَأَغلَى مِن كُلِّ جَوهَرٍ ثَمِينٍ، وَإِنَّ الرَّجُلَ الصَّالحَ التَّامَّ الرَّجُولَةِ الَّذِي يَعلَمُ مَا عَلَيهِ فَيُؤَدِّيهِ وَمَا لَهُ فَيَقِفُ عِندَهُ لَهُوَ عِمَادُ الأُمَّةِ وَرُوحُ نَهضَتِهَا وَمِحوَرُ التَّغيِيرِ فِيهَا وَمُنطَلَقُ إِصلاحِهَا.
لا يَهُولَنَّكُم مَا في البِلادِ مِن مَكَاتِبَ وَإِدَارَاتٍ وَمُؤَسَّسَاتٍ، وَلا يَغُرَّنَّكُم مَا يُفتَتَحُ فِيهَا مِن مَرَاكِزَ وَمَصَانِعَ وَشَرِكَاتٍ، وَلا مَا يُوَفَّرُ لهَا مِن أَجهِزَةٍ حَدِيثَةٍ وَوَسَائِلَ وَأَدَوَاتٍ، وَلا تَفرَحُوا بِكَثرَةِ التَّغيِيرِ في مَنَاهِجِ التَّعلِيمِ وَالتَّنوِيعِ في طُرُقِ التَّدرِيسِ، وَلا بِمَا يُقَامُ هُنَا وَهُنَاكَ مِن دَورَاتٍ تَدرِيبِيَّةٍ، وَلا مَا يُوفَّرُ فِيهَا مِن وَسَائِلِ تَوصِيلِ المَعلُومَةِ، فَلَن تَنفَعَ المَنَاهِجُ وَلا المُقَرَّرَاتُ وَلا الدَّورَاتُ، وَلَن تُغنِِيَ الوَسَائِلُ وَلا الطُّرُقُ وَلا الأَدوَاتُ، وَلَن تُنَفَّذَ خِطَطٌ وَلَن تُقَامَ مَشرُوعَاتٌ إِلاَّ عَلَى أَيدِي رِجَالٍ أَشِدَّاءَ أَقوِيَاءَ، صَادِقِينَ مُخلِصِينَ أُمَنَاءَ، تُستَخرَجُ عَلَى أَيدِيهِم الكُنُوزُ وَتُفتَحُ بِسَبَبِهِمُ البَرَكَاتُ، وَتَنمُو بِعُقُولِهِم البِلادُ وَتَقُومُ عَلَى سَوَاعِدِهِم الحَضَارَاتُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا في الدُّنيَا مِن ذَكَرٍ إِلاَّ وَهُوَ يَدَّعِي الرُّجُولَةَ، وَمَا ذُكِرَتِ الرُّجُولَةُ في مَجلِسٍ إِلاَّ اشرَأَبَّتِ الأَعنَاقُ وَاتَّسَعَتِ الأَحدَاقُ مُعَبِّرَةً عَنِ حَملِهَا وَالاتِّصَافِ بها، غَيرَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ العَظِيمَةَ وَالسِّمَةَ الكَرِيمَةَ وَإِن حَاوَلَ كُلُّ فَردٍ أَن يَنسِبَهَا إِلى نَفسِهِ أَو يَنسِبَ نَفسَهُ إِلَيهَا قَد ضَاعَت مَضَامِينُهَا وَفُقِدَت أَركَانُهَا عِندَ فِئَامٍ مِنَ المُدَّعِينَ لها، فَصَارُوا أَشبَاهَ رِجَالٍ وَلا رِجَالَ، ذَلِكَ أَنَّ لِلرُّجُولَةِ خَصَائِصَ وَصِفَاتٍ، مَدَحَهَا الشَّرعُ وَأَثنى عَلَى أَهلِهَا، وَأَشَادَ بِذِكرِهِم وَرَفَعَ مَكَانَتَهُم، وَمَعَ هَذَا أَضَاعَهَا كَثِيرُونَ وَافتَقَدُوا الحَدَّ الأَدنى مِنهَا. وَإِنَّ نَظرَةً في كِتَابِ اللهِ بِتَدَبُّرٍ وَتَأَمُّلٍ لَتُثبِتُ قِلَّةَ الرِّجَالِ في هَذَا الزَّمَانِ، وَاقرَؤُوا إِن شِئتُم قَولَهُ تَعَالى: لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى مِن أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ، وَقَولَهُ عَزَّ وَجَلَّ: في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ لِيَجزِيَهُمُ اللهُ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللهُ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ.
فَفِي هَذِينِ المَوضِعَينِ نَجِدُ أَنَّ مَكَانَ الرِّجَالِ هُوَ المَسَاجِدُ، يَأتُونَ إِلَيهَا طَاهِرَةً أَعضَاؤُهُم صَافِيَةً قُلُوبُهُم، خَاشِعَةً أَفئِدَتُهُم سَاكِنَةً جَوَارِحُهُم، خَائِفِينَ وَجِلِينَ مُخبِتِينَ، يَذكُرُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ، وَيُقَوُّونَ صِلَتَهُم بِهِ في كُلِّ وَقتٍ، فَأَينَ مِن هَذِهِ الصِّفَةِ مَن تَهَاوَنُوا بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ وَتَشَاغَلُوا؟! أَينَ مِنهَا مَن نَامُوا عَنهَا وَتَكَاسَلُوا؟! هَل عَرَفَ أُولَئِكَ مَعنى الرُّجُولَةِ أَو ذَاقُوا طَعمَهَا؟! هَل عَرَفَ الرُّجُولَةَ مَن شَغَلَهُ الفِرَاشُ الوَثِيرُ عَن صَلاةِ الفَجرِ؟! هَل عَرَفَ الرُّجُولَةَ مَن لا يَأتي الصَّلاةَ إِلاَّ دُبُرًا؟! هَل عَرَفَ الرُّجُولَةَ مَن لا يُؤَدِّي نَافِلَةً وَلا يَحرِصُ عَلَى التَّزَوُّدِ بِسُنَّةٍ؟! وَأَينَ مِنَ الرُّجُولَةِ مَن لا يَسعَى إِلى ذِكرِ اللهِ يَومَ الجُمُعَةِ، تَفُوتُهُ الخُطبَةُ وَلا يَكَادُ يُدرِكُ الصَّلاةَ؟! إِنَّ ممَّن يَتَسَمَّونَ بِالرُّجُولَةِ اليَومَ أَفرَادًا تَشغَلُهُم عَنِ الصَّلاةِ قَنَاةٌ مَاجِنَةٌ، وَتُلهِيهِم عَن المَسَاجِدِ مَسرَحِيَّةٌ فَاجِرَةٌ، وَيُنسِيهِمُ الذِّكرَ مَجلِسُ لَعِبٍ وَلَهوٍ، فَمَا أَبعدَهُم عَن أُولَئِكَ الرِّجَالِ المُتَطَهِّرِينَ الذَّاكِرِينَ، الرَّاكِعِينَ السَّاجِدِينَ القَائِمِينَ، الَّذِينَ لا تَشغَلُهُم عَن صَلاتِهِم تِجَارَةٌ، وَلا يُلهِيهِم عَن طَاعَةِ رَبِّهِم بَيعٌ وَلا شِرَاءٌ. وَإِنَّ مَن لم يَحرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُهُ في آخِرَتِهِ وَفَرَّطَ في سَبَبِ نَجَاتِهِ وَهِيَ الصَّلاةُ وَزَهِدَ في مَوَاضِعِ إِقَامَتِهَا وَهِيَ المَسَاجِدُ لَهُوَ لِمَا سِوَاهَا مِن أَمرِ دِينِهِ وَدُنيَاهُ أَضيَعُ، وَلَهُوَ في أَمَاكِنِ العَمَلِ وَالإِنتَاجِ أَزهَدُ، وَكَيفَ يُؤتَمَنُ تَارِكُ صَلاةٍ عَلَى أَدَاءِ عَمَلٍ أَو إِنجَازِ مُهِمَّةٍ، فَضلاً عَن أَن يَكُونَ صَاحِبَ قَضِيَّةٍ أَو حَامِلَ رِسَالَةٍ؟! إِنَّ تَارِكَ الصَّلاةِ المُتَهَاوِنَ في أَدَائِهَا مَعَ الجَمَاعَةِ لم يُفلِحْ في قِيَادَةِ نَفسِهِ فَيَحمِلَهَا عَلَى مَا يُنجِيهَا، فَكَيفَ يَقُودُ مُجتَمَعًا أَو تَسِيرُ وَرَاءَهُ أُمَّةٌ؟! كَيفَ يُدِيرُ مَصنَعًا أَو شَرِكَةً أَو مَركَزًا؟! كَيفَ يُوصِلُ رِسَالَةَ مَدرَسَةٍ أَو مَعهَدٍ أَو جَمعِيَّةٍ؟! بَلْ كَيفَ يَرعَى زَوجَةً وَيُكَوِّنُ أُسرَةً، أَو يُرَبِّي أَبنَاءًَ وَيَحفَظُ إِخوَةً، أَو يَكُونُ قُدوَةً لِطُلاَّبٍ وأُسوَةً لِمُوَظَّفِينَ؟! إِنَّ شَيئًا مِن ذَلِكَ لا يَكُونُ وَلَن يَكُونَ.
وَمِن صِفَاتِ الرِّجَالِ المَذكُورَةِ في القُرآنِ صِدقُ العَهدِ وَالثَّبَاتُ عَلَى المَنهَجِ وَعَدَمُ المُرَاوَغَةِ وَالتَّقَلُّبِ وَالنُّكُوصِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ مَادِحًا صِنفًا عَزِيزًا مِنَ الرِّجَالِ: مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً ، لم يُبَدِّلُوا وَلم يُغَيِّرُوا، وَلم يَنحَرِفُوا أَو يَمِيلُوا، بَلِ استَقَامُوا عَلَى المَنهَجِ وَثَبَتُوا عَلَى الصِّرَاطِ، فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَهُوَ عَلَى عَهدِهِ، وَمِنهُم مَن هُوَ سَائِرٌ عَلَى أَمرِ رَبِّهِ لا يَلتَفِتُ عَلَى شَيءٍ إِلاَّ عَلَى مَا يُرضِيهِ، يَنتَظِرُ أَن يَتَوَفَّاهُ رَبُّهُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ. إِنَّهُ الثَّبَاتُ عَلَى المَنهَجِ الَّذِي افتَقَدَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ اليَومَ حَتى ممَّنِ اشتَغَلُوا بِالعَمَلِ لِلإِسلامِ، فَنَشَأَ عِندَهُم قُصُورٌ في التَّصَوُّرِ وَانحِرَافٌ في السُّلُوكِ، وَبُلُوا بِكَثرَةِ التَّغَيُّرَاتِ وَتَعَدُّدِ الاتِّجَاهَاتِ، وَمَالُوا عَن مَنهَجِ اللهِ في عَدَدٍ مِنَ القَضَايَا إِلى مَنَاهِجَ مُستَورَدَةٍ أَو آرَاءٍ مُلَفَّقَةٍ، وَأَضَاعُوا أَهدَافَهُمُ السَّامِيَةَ وَغَايَاتِهِمُ النَّبِيلَةَ، في خِضَمِّ طَلَبِهِم أَهدَافًا قَرِيبَةً وَابتِغَائِهِم مَتَاعًا زَائِلاً، أَلا فَمَا أَجمَلَهُ بِالمُسلِمِ إِذْ عَرَفَ أَن يَلزَمَ! مَا أَجمَلَهُ بِهِ إِذْ آمَنَ أَن يَستَقِيمَ! وَمَا أَحرَاهُ وَقَد عَمِلَ أَن يُدِيمَ العَمَلَ! قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِمَنِ استَوصَاهُ: ((قُلْ: آمَنتُ بِاللهِ ثم استَقِمْ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)). وَكَانَ مِن أَخلاقِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَن يُثبِتَهُ.
وَقَد دَلَّتِ الدَّلائِلُ وَأَثبَتَتِ التَّجَارِبُ في مَنَاحِي الحَيَاةِ المُختَلِفَةِ أَنَّهُ لا يُنتِجُ إِنتَاجًا نَافِعًا إِلاَّ الثَّابِتُونَ في طَرِيقِهِم، فَلَم تَكُنْ كَثرَةُ العَمَلِ يَومًا بِمُغنِيَةٍ عَمَّنِ انقَطَعَ، وَلم تَكُنْ قِلَّتُهُ بِضَارَّةٍ مَن ثَبَتَ وَدَاوَمَ، وَلَكَم يُحسِنُ إِلى نَفسِهِ وَمُجتَمَعِهِ وَأُمَّتِهِ مَن لَزِمَ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الخَيرِ وَبَابًا مِن أَبوَابِ البِرِّ، فَفَرَّغَ لَهُ مِن نَفسِهِ وَوَقتِهِ وَجُهدِهِ جُزءًا، وَثَبَتَ فِيهِ وَصَبَّ عَلَيهِ جُلَّ اهتِمَامِهِ، إِمَّا في جَمعِيَّةِ بِرٍّ أَو جَمعِيَّةٍ تَحفِيظٍ، أَو في مَكتَبِ دَعوَةٍ أَو شُعبَةِ تَوعِيَةٍ، أَو إِمَامَةٍ أَو خَطَابَةٍ، أو في غَيرِهَا ممَّا يَنفَعُ في دِينٍ أَو دُنيا، أَمَّا المُتَرَدِّدُونَ المُتَلَوِّنُونَ المُتَذَوِّقُونَ الَّذِينَ يُشَرِّقُونَ وَيُغَرِّبُونَ فَإِنَّهُم لا وَقتًا حَفِظُوا، وَلا بِفَائِدَةٍ خَرَجُوا، وَلا جِيلاً رَبَّوا، فَمَا أَحرَاهُم أَن يَندَمُوا إِذَا رَأَوا مَا وَصَلَ إِلَيهِ غَيرُهُم ممَّن هُدُوا وَاستَقَامُوا وَثَبَتُوا وَدَامُوا.
وَمِن صِفَاتِ الرِّجَالِ في القُرآنِ مَا وَرَدَ في قَولِهِ تَعَالى: وَجَاءَ مِن أَقصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسعَى قَالَ يَا قَومِ اتَّبِعُوا المُرسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لا يَسأَلُكُم أَجرًا وَهُم مُهتَدُونَ ، فَهُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ لم يُعرَفِ اسمُهُ، تَكَبَّدَ عَنَاءَ المَجِيءِ مِن أَقصَى المَدِينَةِ، وَسَارَعَ إِلى مَقصُودِهِ وَلم يَتَبَاطَأْ، فَعَلَ ذَلِكَ لِتَأيِيدِ الرُّسلِ وَنَصِيحَةِ قَومِهِ لِيَتَّبِعُوهُم، أَلا فَمَا أَكبَرَ الفَرقَ بَينَهُ وَبَينَ كَثِيرٍ مِنَ المَفتُونِينَ اليَومَ، ممَّن دَرَسُوا في الغَربِ أَو أُعجِبُوا بِأَهلِهِ، أَو رَضعُوا مِن ثُدُيِّ شُبُهَاتِهِ وَتَشَرَّبُوا سُمُومَ شَهوَاتِهِ، فَصَارُوا لا يَتَحَمَّلُونَ عِبَادَةً وَلا يَستَقِيمُونَ في طَاعَةٍ، وَلا يَثبُتُونَ عَلَى فَضِيلَةٍ وَلا يَصبِرُونَ عَن شَهَوَةٍ، ثم لم يَكتَفُوا بِضَلالِهِم في أَنفُسِهِم حَتى عَمِلُوا عَلَى إِضلالِ الآخَرِينَ. وَإِنَّكَ لَتَجِدُ هَؤُلاءِ ـ لا كَثَّرَهُمُ اللهُ ـ كُتَّابًا في الصُّحُفِ، أَو مُتَحَدِّثِينَ عَلَى القَنَوَاتِ، أَو مَسؤُولِينَ يَستَغِلُّونَ مَنَاصِبَهُم لِبَثِّ سُمُومِهِم، يَفعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ طَلَبًا لِلشُّهرَةِ وَالشَّهوَةِ، فَأَينَ هُوَ الرَّجُلُ التَّقِيُّ الخَفِيُّ الَّذِي يُدَافِعُ عَنِ الحَقِّ وَيُنَافِحُ وَيَأمُرُ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَى عَنِ المُنكَرِ؟! أَينَ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَتحَرَّكُ سَرِيعًا لِنَصرِ الخَيرِ وَبَذلِ النَّصِيحَةِ لأَهلِهِ وَلَو كَانَ وَحدَهُ، فَيَكُونَ كَمُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ الَّذِي قَالَ اللهُ عَنهُ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِن آلِ فِرعَونَ يَكتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ، أَو كَذَلِكَ الَّذِي قَالَ اللهُ عَنهُ: وَجَاءَ رَجُلٌ مِن أَقصَى المَدِينَةِ يَسعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلأَ يَأتَمِرُونَ بِكَ لِيَقتُلُوكَ فَاخرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.
وَمِن صِفَاتِ الرِّجَالِ في القُرآنِ القِيَامُ عَلَى مَن وَلاَّهُمُ اللهُ أَمرَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ، وَحُسنُ تَوجِيهِهِم وَالاجتِهَادُ في تَربِيَتِهِم، قَالَ سُبحَانَهُ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِن أَموَالِهِم. وَإِنَّ اطِّلاعًا عَلَى حَالِ بَعضِ البُيُوتِ وَجَولَةً في كَثِيرٍ مِنَ الأَسوَاقِ لَتُرِيكَ كَم تُقتَلُ الرُّجُولَةُ وَتُذبَحُ عَلَى أَيدِي أُنَاسٍ أَسلَمُوا لِنِسَائِهِمُ القِيَادَ، وَتَرَكُوا لَهُنَّ الحَبلَ عَلَى الغَارِبِ، يَطُفنَ في الأَسوَاقِ كَالهَمَلِ، يَلبَسنَ مَلابِسَ الفِتنَةِ، وَيَظهَرنَ بِمَظَاهِرِ التَّبَرُّجِ، لا يَترُكنَ دُكَّانًا إِلاَّ دَخَلنَهُ، وَلا بَائِعًا إِلاَّ فَتَنَّهُ، وَتَرَى الشَّبَابَ وَرَاءَهُنَّ يُلِينُونَ لَهُنَّ الكَلامَ وَيَرمُونَ عَلَيهِنَّ الأَرقَامَ، وَذَلِكَ الأَبُ أَوِ الزَّوجُ في سَيَّارَتِهِ يُقَلِّبُ جَوَّالَهُ، أَو في سُوقِهِ يُمَارِسُ أَعمَالَهُ، وَقَد يَكُونُ أَرسَلَ أُولَئِكَ النِّسَاءَ مَعَ السَّائِقِ أَو مَعَ طِفلٍ أَو مُرَاهِقٍ. وَفي صُورَةٍ أُخرَى مِن فُقدَانِ الرُّجُولَةِ وَمَوتِ الغَيرَةِ تَرَى مَن لا يَستَنكُِر دُخُولَ العُمَّالِ وَالسَّائِقِينَ في بَيتِهِ، بَل تَرَى بَعضَ أُولَئِكَ العُمَّالِ وَالسَّائِقِينَ وَكَأَنَّهُ وَاحِدٌ مِن أَهلِ البَيتِ، يَأمُرُ فِيهِ وَيَنهَى، وَيُضَاحِكُ النِّسَاءَ وَيُمَازِحُهُنَّ، وَيَنظُرُ مِنهُنَّ إِلى مَا لا يَحِلُّ، فَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، يَكثُرُ الذُّكُور وَيَقِلُّ الرِّجَالُ، فَتُذبَحُ الفَضِيلَةُ وَتُقتَلُ الرُّجُولَةُ، وَتُغتَالُ المَبَادِئُ وَتُطعَنُ القِيَمُ، وَتُهتَكُ الأَعرَاضُ وَيُعتَدَى عَلَى الشَّرَفِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد جَعَلَت بَعضُ المُجتَمَعَاتِ لِلرُّجُولَةِ مَقَايِيسَ كَاذِبَةً وَمَعَايِيرَ فَاسِدَةً، ثم قَاسَتِ النَّاسَ عَلَيهَا أَو خَدَعَتهُم بها، فَتَرَاهُم يَعُدُّونَ في الرِّجَالِ كُلَّ مَن طَالَ شَارِبُهُ أَو وَفَرَت لِحيَتُهُ، أَو مَن تَقَدَّمَت سِنُّهُ وَشَابَ عَارِضَاهُ، أَو مَن بُسِطَ لَهُ في جِسمِهِ وَطالَت قَامَتُهُ، أَو مَن فُتِلَت عَضَلاتُهُ وَقَوِيَت بُنيَتُهُ، أَو مَن بَرَعَ في جَمعِ المَالِ وَعَدَّدَهُ، وَلَعَمرُ اللهِ لَو كَانَتِ الرُّجُولَةُ بِهَذِهِ المَقَايِيسِ وَحدَهَا لامتَلأَت بِالرِّجَالِ المَيَادِينُ وَلَضَاقَت بِهِمُ البُيُوتُ، وَلَكِنَّ الرُّجُولَةَ أَعلَى مِن تِلكَ الصِّفَاتِ وَأَسمَى، فَكَم مِن شَابٍّ في سِنِّ الثَّلاثِينَ أَو كَهلٍ في سِنِّ الأَربَعِينَ أَو شَيخٍ في سِنِّ السَّبعِينَ، فَإِذَا فَتَّشتَ قُلُوبَهُم وَجَدتَ قُلُوبَ أَطفالٍ وَأَفئِدَةَ مُرَاهِقِينَ، تَفرَحُ بِالتَّوَافِهِ وَتَبكِي عَلَى الحَقِيرِ، وَتَتَطَلَّعُ إِلى مَا لَيسَ لها وَتَشِحُّ بِمَا في أَيدِيهَا. وَكَم مِن غُلامٍ في مُقتَبَلِ العُمُرِ دُونَ العِشرِينَ، وَلَكِنَّكَ تَرَى فِيهِ لِلرُّجُولَةِ عَلامَاتٍ وَتَلمَحُ مِنهَا أَمَارَاتٍ، تَلمَسُهَا في قَولِهِ الرَّصِينِ، وَتَرَاهَا في عَمَلِهِ المَتِينِ، وَتَجِدُهَا في تَفكِيرِهِ الرَّزِينِ، وَيُصَدِّقُهَا خُلُقُهُ العَالي وَتَعَامُلُهُ النَّاضِجُ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاعلَمُوا أَنَّ الرُّجُولَةَ لَن تَنمُوَ وَلَن تَتَرَعرَعَ وَلَن تَطُولَ شَجَرَتُهَا وَلَن تَتَفَرَّعَ وَلَن يَتَرَبى الرِّجَالُ الصَّالِحُونَ المُصلِحُونَ إِلاَّ في ظِلِّ عَقَائِدَ رَاسِخَةٍ، تَقُومُ عَلَى أُصُولٍ ثَابِتَةٍ، وَتَحفَظُهَا مَبَادِئُ مُتَمَكِّنَةٌ، أَسَاسُهَا التَّوحِيدُ الخَالِصُ، وَبِنَاؤُهَا العَمَلُ الصَّالِحُ، وَتَضبِطُهَا القِيَمُ وَتَرعَاهَا الفَضَائِلُ، أَمَّا في ظَلامِ الشَّكِّ المُزَعزِعِ لِلقُلُوبِ وَالإِلحَادِ المُحَيِّرِ لِلعُقُولِ وَمَهَاوِي الشُّبُهَاتِ المُضِلَّةِ، أَمَّا في مُستَنقَعَاتِ الرَّذِيلَةِ وَالانحِلالِ وَالسُّفُورِ الَّتي تَحفِرُهَا وَسَائِلُ الإِعلامِ وَالقَنَوَاتُ وَالفَضَائِيَّاتُ وَتُغَذِّيهَا الجَرَائِدُ وَتُؤَيِّدُهَا المَجَلاَّتُ وَتَنقُلُ عَفَنَهَا الجَوَّالاتُ وَالشَّبَكَاتُ فَلَن يَتَخَرَّجَ لِلأُمَّةِ رِجَالٌ. وَإِنَّ الدُّنيَا لم تَرَ الرُّجُولَةَ في أَجلَى صُوَرِهَا وَأَكمَلِ مَعَانِيهَا كَمَا رَأَتهَا في تِلكَ النَّمَاذِجِ الكَرِيمَةِ الَّتي صَنَعَهَا الإِسلامُ عَلَى يَدِ رَسُولِهِ العَظِيمِ مِن رِجَالٍ يَكثُرُونَ عِندَ الفَزَعِ وَيقِلُّونَ عِندَ الطَّمَعِ، لا يُغرِيهِمُ الوَعدُ وَلا يُلَيِّنُهُم الوَعِيدُ، وَلا يَغُرُّهُمُ النَّصرُ وَلا تُحَطِّمُهُمُ الهَزِيمَةُ، وَلَن تَستَعِيدَ الدُّنيَا الرُّجُولَةَ إِلاَّ بِإِحيَاءِ تِلكَ النَّمَاذِجِ العَظِيمَةِ في الوَاقِعِ وَعَرضِ سِيَرِهِم عَلَى النَّاشِئَةِ.
فَاتَّقُوا اللهَ أُمَّةَ الإِسلامِ، وَسِيرُوا سِيرَةَ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللهِ، وَتَرَسَّمُوا خُطَاهُ، وَأُحيُوا سُنَّتَهُ، وَاهتَدُوا بِهَديِهِ؛ تَفُوزُوا وَتُفلِحُوا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ، وَقِفُوا عِندَ حُدُودِهِ، وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد قَالَ تَعَالى عَنِ المُنَافِقِينَ: وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِنْ يَقُولُوا تَسمَعْ لِقَولِهِم ، وَمَعَ هَذَا فَهم كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ عَلَيهِم ، وَفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّهُ لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيَامَةِ فَلا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَاقرَؤُوا إِنْ شِئتُم قَولَهُ تَعَالى: فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيَامَةِ وَزنًا )) ، وَكَانَ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ نَحِيفًا دَقِيقَ السَّاقِينَ، انكَشَفَت سَاقَاهُ يَومًا فَضَحِكَ بَعضُ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ : ((وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثقَلُ في المِيزَانِ مِن أُحُدٍ)) ، وَعَن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبيِّ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِندَهُ جَالِسٍ: ((مَا رَأيُكَ في هَذَا؟)) قَالَ: رَجُلٌ مِن أَشرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِن خَطَبَ أَن يُنكَحَ وَإِن شَفَعَ أَن يُشَفَّعَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ، ثم مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَا رَأيُكَ في هَذَا؟)) فََقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِن خَطَبَ أَن لاَّ يُنكَحَ وَإِن شَفَعَ أَن لاَّ يُشَفَّعَ وَإِن قَالَ أَن لاَّ يُسمَعَ لِقَولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((هَذَا خَيرٌ مِن مِلءِ الأَرضِ مِن مِثلِ هَذَا)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ، وَفِيهِمَا أَنَّهُ عَلَيهِ السَّلامُ قَالَ: ((لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ)).
إِنَّهَا صُوَرٌ لِمَا قَد يَسِيرُ عَلَيهِ النَّاسُ في قِيَاسِ الرُّجُولَةِ، وَتَوجِيهٌ لَهُم إِلى مَا يَجِبُ أَن يَكُونُوا عَلَيهِ وَيَعتَبِرُوهُ في ذَلِكَ، فَلَيسَت صُورَةُ اللَّحمِ وَالدَّمِ هِيَ المِقيَاسَ، وَمَا كَانَ المِقيَاسُ الجَمَالَ أَو حُسنَ الشَّارَةِ وَالهَيئَةِ، وَمَا هُوَ في القُوَّةِ وَلا الفُتُوَّةِ، وَلا في كِبَرِ البُطُونِ وَلا طُولِ الأَجسَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ في الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعمَلُوا عَلَى التَّحلِّي بِأَخلاقِ الرِّجَالِ المَذكُورَةِ في كِتَابِ اللهِ، أَو المُجمَعِ عَلَى حُسنِهَا عِندَ عِبَادِ اللهِ.
(1/5765)
اللهم بارك في الأعمار
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
28/12/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصر الأعمار. 2- الآجال مضروبة. 3- مفهوم زيادة العمر. 4- أسباب زيادة الأعمار. 5- التأكيد والحث على الصدقات الجارية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، بِأَيِّ شَيءٍ تُقَاسُ الأَعمَارُ؟ أَبِالدَّقَائِقِ أَم بِالسَّاعَاتِ؟! أَبِالشُّهُورِ أَم بِالسَّنَوَاتِ؟! إِن كَانَت تُقَاسُ بِذَلِكَ فَمَا أَقَلَّهَا وَمَا أَقصَرَهَا! خَاصَّةً وَقَد جَعَلَ اللهُ أَعمَارَ أُمَّةِ محمَّدٍ نِسبَةً إِلى أَعمَارِ السَّابِقِينَ قَصِيرَةً، وَقَضَى أَن تَكُونَ سَنَوَاتُهُم قِيَاسًا إِلى سَنَوَاتِ أُولَئِكَ قَلِيلَةً، قَالَ : ((أَعمَارُ أُمَّتي مَا بَينَ السِّتِّينَ إِلى السَّبعِينَ، وَأَقلُّهُم مَن يَجُوزُ ذَلِكَ)) ، وَحَتى وَلَو عَاشَ المَرءُ مِنَ السِّنِينَ عَشَرَاتٍ أَو مِئَاتٍ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلى المَوتِ وَالفَنَاءِ، ثم يَرجِعُ إِلى اللهِ ويُرَدُّ إِلى مَولاهُ، قُلْ إِنَّ المَوتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بما كُنتُم تَعمَلُونَ ، وَهُنَا يَبرُزُ سُؤَالٌ: هَل يُمكِنُ أَن يُطِيلَ المَرءُ عُمُرَهُ؟ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمكِنًا فَكَيفَ يَكُونُ؟
فيُقَالُ ابتِدَاءً: لَقَد قَضَى اللهُ لِكُلِّ إِنسَانٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ سِنِينَ مَعدُودَةً وَجَعَلَ لَهُ عُمُرًا مُحَدَّدًا، قَالَ سُبحَانَهُ: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَالَّتِي لم تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيهَا المَوتَ وَيُرسِلُ الأُخرَى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَقَالَ تَقَدَّسَ اسمُهُ: وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ، وفي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا زَوجِ النَّبيِّ قَالَت: اللّهُمَّ أَمتِعْني بِزَوجِي رَسُولِ اللهِ، وَبَأبي أَبي سُفيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: ((سَأَلتِ اللهَ لآجَالٍ مَضرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعدُودَةٍ وَأَرزَاقٍ مَقسُومَةٍ، لَن يُعَجَّلَ شَيءٌ مِنهَا قَبلَ أَجَلِهِ وَلا يُؤَخَّرُ، وَلَو كُنتِ سَأَلتِ اللهَ أَن يُعِيذَكِ مِنَ النَّارِ وَعَذَابِ القَبرِ كَانَ خَيرًا وَأَفضَلَ)).
وَمَعَ هَذَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَقَد وَرَدَ في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العُمُرَ يُزَادُ فِيهِ بِبَعضِ الأَعمَالِ، قَالَ تَعَالى عَن نَوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ: أَنِ اعبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغفِرْ لَكُم مِن ذُنُوبِكُم وَيُؤَخِّرْكُم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَصَحَّ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ في العُمُرِ إِلاَّ البِرُّ)). وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ في مَفهُومِ هَذِهِ الإِطَالَةِ وَالزِّيَادَةِ، إِلاَّ أَنَّ ممَّا لا شَكَّ فِيهِ مِصدَاقًا لِلأَدِلَّةِ أَنَّ العُمُرَ يُزَادُ فِيهِ بِأَعمَالٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ البَرَكَةُ في الوَقتِ وَالذِّكرُ الجَمِيلُ لَكَفَى بِهِمَا مَكسَبًا، فَإِنَّكَ تَرَى الرَّجُلَينِ يَعِيشَانِ في الدُّنيَا سَنَوَاتٍ مُتَسَاوِيَةً ويَتَمَاثَلانِ في العُمُرِ، وَلَكِنّ بَينَهُمَا مِنَ الفَرقِ كَمَا بَينَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا، فَفِي حِينِ يَمُوتُ ذِكرُ أَحَدِهِمَا بِمُجَرَّدِ دَفنِهِ، فَإِنَّ الآخَرَ يَظَلُّ حَيًّا كَأَنَّهُ لم يَغِبْ عَنِ الأَنظَارِ سَاعَةً، إِمَّا بِعِلمِهِ وَأَعمَالِهِ المُشَرِّفَةِ، أَو بِطُلاَّبِهِ أَو أَبنَائِهِ الصَّالحِينَ، أَو بِمَا وَقَفَهُ وَوَهَبَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَلَنَا أَن نَتَفَكَّرَ كَم هُمُ الَّذِينَ عَاصَرُوا الأَئِمَّةَ أَبَا حَنِيفَةَ ومَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحمَدَ، وَكَم هُمُ الَّذِينَ عَاشُوا مَعَ ابنِ تِيمِيَّةَ وَابنِ القَيِّمِ وَابنِ كَثِيرٍ وابنِ حَجَرٍ، وَأَمثَالِهِم مِنَ السَّالِفِينَ وَالمُعَاصِرِينَ كَالإِمَامِ محمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ وَالشَّيخِ ابنِ بَازٍ وَابنِ عُثِيمِينَ عَلَيهِم جميعًا رَحمَةُ اللهِ وَلَكِنْ، مَنِ الَّذِي يَذكُرُهُ النَّاسُ في كُلِّ يَومٍ وَيُثنُونَ عَلَيهِ وَيَتَرَحَّمُونَ وَيَدعُونَ لَهُ؟ وَمَنِ الَّذِي قَد مَاتَ ذِكرُهُ بِمُجَرَّدِ مَوتِهِ فَنُسِيَ؟ وَقَد قَالَ لَمَّا مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثنِيَ عَلَيهَا خَيرٌ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت)) ، وَمُرَّ بِأُخرَى فَأُثنِيَ عَلَيهَا شَرٌّ فَقَالَ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت)) ، فَقَالَ عُمَرُ : فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثنِيَ عَلَيهَا خَيرٌ فَقُلتَ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت)) ! وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثنِيَ عَلَيهَا شَرٌّ فَقُلتَ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت)) ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَن أَثنَيتُم عَلَيهِ خَيرًا وَجَبَت لَهُ الجَنَّةُ، وَمَن أَثنَيتُم عَلَيهِ شَرًّا وَجَبَت لَهُ النَّارُ، أَنتُم شُهَدَاءُ اللهِ في الأَرضِ)).
وَمِن هُنَا فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَعَرَّفَ الأَعمَالَ الَّتي تَطُولُ بِسَبَبِهَا الأَعمَارُ وَتَحُلُّ بِفِعلِهَا البَرَكَةُ فِيهَا، فَيَأخُذَ بها لِتَتَضَاعَفَ حَسَنَاتُهُ وَلا تَنقَطِعَ أَعمَالُهُ الصَّالِحَةُ بِمَمَاتِهِ، وَقَد جَعَلَ اللهُ بِفَضلِهِ هَذِهِ الأَعمَالَ كَثِيرَةً وَمُتَنَوِّعَةً، لِيَأخُذَ كُلُّ امرِئٍ مِنهَا بما يُنَاسِبُ حَالَهُ وَيُوَافِقُ قُدرَتَهُ، وَهِيَ أَنوَاعٌ:
الأَوَّلُ: مَا جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّهُ يُطِيلُ العُمُرَ: وَمِنهُ مَا تَقَدَّمَ مِن قَولِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((لا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ في العُمُرِ إِلاَّ البِرُّ)) ، وَقَالَ: ((مَن أَحَبَّ أَن يُبسَطَ لَهُ في رِزقِهِ وَأَن يُنسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) ، وَقَالَ: ((صَدَقَةُ السِّرِّ تُطفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ في العُمُرِ، وَفِعلُ المَعرُوفِ يَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ)) ، وَقَالَ: ((صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسنُ الخُلُقِ وَحُسنُ الجِوَارِ يَعمُرنَ الدِّيَارَ وَيَزِدنَ في الأَعمَارِ)).
النَّوعُ الثَّاني: الأَعمَالُ المُضَاعَفَةُ: حَيثُ يَعمَلُ المَرءُ العَمَلَ القَلِيلَ الَّذِي لا يُكَلِّفُهُ مِنَ الوَقتِ شَيئًا كَثِيرًا، وَمَعَ هَذَا يُثَابُ عَلَيهِ الأَجرَ الكَثِيرَ، وَقَد وَرَدَ مِن ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ يَضِيقُ المَقَامُ عَن حَصرِهَا، وَلَكِنَّ في ذِكرِ بَعضِهَا حَادِيًا لِلقُلُوبِ لِلتَّعَلُّقِ بِرَبِّهَا وَالإِكثَارِ ممَّا يُقَرِّبُهَا مِنهُ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبعٍ وَعِشرِينَ دَرَجَةً)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن صَلَّى في يَومٍ وَلَيلَةٍ ثِنتَي عَشرَةَ رَكعَةً بُنيَ لَهُ بَيتٌ في الجَنَّةِ: أَربَعًا قَبلَ الظُّهرِ وَرَكعَتَينِ بَعدَهَا، وَرَكعَتَينِ بَعدَ المَغرِبِ وَرَكعَتَين بَعدَ العِشَاءِ، وَرَكعَتَينِ قَبلَ صَلاةِ الغَدَاةِ)) ، وَقَالَ: ((يُصبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِن أَحَدِكُم صَدَقَةٌ: فَكُلُّ تَسبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمرٌ بِالمَعرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَنِ المُنكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجزِئُ مِن ذَلِكَ رَكعَتَانِ يَركَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)) ، وَقَالَ: ((صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ إِني أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتي بَعدَهُ، وَصِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ إِني أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((شَهرُ الصَّبرِ وَثَلاثَةُ أَيَّامٍ مِن كُلِّ شَهرٍ صَومُ الدَّهرِ)) ، وَقَالَ: ((مَن صَامَ رَمَضَانَ وَأَتبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهرَ)) ، وَعَن جُوَيرِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّ النَّبيَّ خَرَجَ مِن عِندِهَا ثم رَجَعَ بَعدَ أَن أَضحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: ((مَا زِلتِ عَلَى الحَالِ الَّتي فَارَقتُكِ عَلَيهَا؟)) قَالَت: نَعَمْ، قَالَ النَّبيُّ : ((لَقد قُلتُ بَعدَكِ أَربَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَو وُزِنَت بما قُلتِ مُنذُ اليَومِ لَوَزَنَتهُنَّ: سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ، عَدَدَ خَلقِهِ وَرِضَاءَ نَفسِهِ وَزِنَةَ عَرشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ في يَومٍ مائَةَ مَرَّةٍ كَانَت لَهُ عَدلَ عَشرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَت عَنهُ مائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَت لَهُ حِرزًا مِنَ الشَّيطَانِ يَومَهُ ذَلِكَ حَتى يُمسِيَ، وَلم يَأتِ أَحَدٌ بِأَفضَلَ ممَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكثَرَ مِنهُ)) ، وَعَن سَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: ((أَيَعجزُ أَحَدُكُم أَن يَكسِبَ كُلَّ يَومٍ أَلفَ حَسَنَةٍ؟)) فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِن جُلَسَائِهِ: كَيفَ يَكسِبُ أَحَدُنَا أَلفَ حَسَنَةٍ؟! قَالَ: ((يُسَبِّحُ مائَةَ تَسبِيحَةٍ، فَيُكتَبُ لَهُ أَلفُ حَسَنَةٍ أَو يُحَطُّ عَنهُ أَلفُ خَطِيئَةٍ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن صَلَّى عَلَيَّ مِن أُمَّتي صَلاةً مُخلِصًا مِن قَلبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ بها عَشرَ صَلَوَاتٍ، وَرَفَعَهُ بها عَشرَ دَرَجَاتٍ، وَكَتَبَ لَهُ بها عَشرَ حَسَنَاتٍ وَمَحَا عَنهُ عَشرَ سَيِّئَاتٍ)) ، وَقَالَ: ((مَنِ استَغفَرَ لِلمُؤمِنِينَ وَلِلمُؤمِنَاتِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ حَسَنَةً)).
النَّوعُ الثَّالِثُ: الأَعمَالُ الَّتي تَحُتُّ الخَطَايَا وَتُكَفِّرُ الذُّنُوبَ:
قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن تَوَضَّأَ فَأَحسَنَ الوُضُوءَ خَرَجَت خَطَايَاهُ مِن جَسَدِهِ حَتى تَخرُجَ مِن تَحتِ أَظفَارِهِ)) ، وَقَالَ: ((أَلا أَدُلُّكُم عَلَى مَا يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ مِنَ الخَطَايَا وَيَزِيدُ في الحَسَنَاتِ؟ إِسبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكرُوهَاتِ، وَكَثرَةُ الخُطَا إِلى المَسَاجِدِ، وَانتِظَارُ الصَّلاةِ بَعدَ الصَّلاةِ)) ، وَقَالَ: ((مَن سَبَّحَ اللهَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَتِلكَ تِسعٌ وَتُسعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المائَةِ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ غُفِرَت خَطَايَاهُ وَإِن كَانَت مِثلَ زَبَدِ البَحرِ)) ، وَقَالَ: ((تَابِعُوا بَينَ الحَجِّ وَالعُمرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنفِيَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ)) ، وَقَالَ: ((إِنَّ المُؤمِنَ إِذَا لَقِيَ المُؤمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَت خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ)).
النَّوعُ الرَّابِعُ: الأَعمَالُ الَّتي لا يَنقَطِعُ ثَوَابُهَا بِانتِهَاءِ العُمُرِ وَانقِطَاعِ العَمَلِ: وَمِنهَا: الأَبنَاءُ الصَّالِحُونَ، وَالعِلمُ النَّافِعُ، وَبِنَاءُ المَسَاجِدِ، وَتَوقِيفُ المَنَافِعِ العَامَّةِ، وَالصَّدَقَاتُ الجَارِيَةُ، في الحَدِيثِ: ((إِذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَو عِلمٌ يُنتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٌ صَالحٌ يَدعُو لَهُ)) ، وَقَالَ: ((إِنَّ ممَّا يَلحَقُ المُؤمِنَ مِن عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعدَ مَوتِهِ: عِلمًا نَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكهُ، وَمُصحَفًا وَرَّثَهُ، أَو مَسجِدًا بَنَاهُ، أَو بَيتًا لابنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَو نَهَرًا أَجرَاهُ، أَو صَدَقَةً أَخرَجَهَا مِن مَالِهِ في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلحَقُهُ مِن بَعدِ مَوتِهِ)).
فَاحرِصُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى مَا تَحُلُّ بِهِ البَرَكَةُ في أَوقَاتِكُم وَتُطَالُ بِهِ أَعمَارُكُم، فَإِنَّ الأَعوَامَ تَجرِي وَالسَّنِينَ تَذهَبُ، وَهَا أَنتُمُ تُوَدِّعُونَ عَامًا مَضَى كَأَنَّهُ شَهرٌ، وَتَستَقبِلُونَ عَامًا لَعَلَّكُم لا تَستَكمِلُونَهُ، فَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مَا تَرجُونَ بِهِ نَجَاتَكُم، وَأَخلِصُوا للهِ وَتَابِعُوا نَبِيَّهُ تُقبَلْ أَعمَالُكُم.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّا نَحنُ نُحيِي المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم وَكُلَّ شَيءٍ أحصَينَاهُ في إِمَامٍ مُبِينٍ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقوَى، وَخَافُوهُ في السِّرِّ وَالنَّجوَى، وَاعمَلُوا صَالِحًا يُبَلِّغْكُم جَنَّةَ المَأوَى.
أيُّهَا المُسلِمُونَ، وَمَعَ أَهَمِيَّةِ مَا ذُكِرَ مِن أَعمَالٍ صَالِحَةٍ في إِطَالَةِ العُمُرِ، إِلاَّ أَنَّ لَنَا وَقفَةً مَعَ النَّوعِ الرَّابِعِ، وَهِيَ الأَعمَالُ المُتَعَدِّي نَفعُها البَاقِي أَثَرُهَا، إِذ إِنَّ مَا ذُكِرَ مِن فَضَائِلِ الأَعمَالِ في الأَنوَاعِ الَّتي قَبلَهَا وَإِن كَانَت كَثِيرَةً وَأُجُورُهَا مُضَاعَفَةٌ، إِلاَّ إِنَّهَا ممَّا يَنقَطِعُ بِانقِطَاعِ النَّفَسِ وَخُرُوجِ الرُّوحِ مِنَ الجَسَدِ، أَمَّا الأَعمَالُ المُتَعَدِّيَةُ النَّفعِ، مِن تَعلِيمِ العِلمِ وَتَربِيَةِ الأَبنَاءِ تَربِيَةً صَالِحَةً، وَتَوقِيفِ المَنَافِعِ وَبِنَاءِ المَسَاجِدِ، وَطِبَاعَةِ الكُتُبِ وَنَشرِ المَصَاحِفِ وَنَحوِهَا، فَإِنَّهَا تَدُومُ أَعوَامًا طَوِيلَةً وَتَبقَى سِنِينَ عَدَدًا، وَقَد تَفنى أَجيَالٌ بَعدَ أَجيَالٍ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَتَذهَبُ دُوَلٌ وَتَجِيءُ دُوَلٌ وَهِيَ شَامِخَةٌ، وَهَا أَنتُمُ تَرونَ مِنَ الجَوَامِعِ وَالمَسَاجِدِ وَالمَدَارِسِ وَالأَربِطَةِ في العَالَمِ الإِسلامِيِّ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ ممَّا مَرَّ قُرُونٌ عَلَى بِنَائِهَا وَإِنشَائِهَا، وَمَاتَ مُنشِؤُوهَا وَغَبَرُوا، وَلا تَزَالُ تُؤَدِّي دَورَهَا كَمَا هِيَ عِندَمَا بُنِيَت وَقَد تَزِيدُ، وَقُولُوا مِثلَ ذَلِكَ في كَثِيرٍ مِنَ الكُتُبِ وَالمُجَلَّدَاتِ الَّتي أُلِّفَت مُنذُ مِئَاتِ السِّنِينَ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَنهَلُونَ مِنهَا عِلمًا وَتقَوَى، وَيَزدَادُونَ بِقِرَاءَتِهَا إِلى اللهِ زُلفَى، فَيَا للهِ كَم مِنَ الحَسَنَاتِ صَبَّت في مِيزَانِ مَن أَنشَؤُوا تِلكَ المَسَاجِدِ وَالأَوقَافِ أَو شَارَكُوا في إِنشَائِهَا، أَو مَن أَلَّفُوا تِلكَ الكُتُبَ أَو طَبَعُوهَا، كَم تَعَلَّمَ مُسلِمٌ مِن حُكمٍ شَرعِيٍّ فَعَمِلَ بِهِ، كَم صَلَّى مُصَلٍّ مِن رَكعَةٍ، كَم تَلا تَالٍ مِن حَرفٍ مِن كِتَابِ اللهِ، كَم رُفِدَ مِن ضَعِيفٍ وَأُعِينَ مِنِ ابنِ سَبِيلٍ، كَم كُفِلَ مِن يَتِيمٍ وَكَم رُعِيَت مِن أَرمَلَةٍ، أُجُورٌ وَحَسَنَاتٌ لا يُحصِيهَا إِلاَّ مَن أَحصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا، فَهَنِيئًا لأُولَئِكَ المُحسِنِينَ المُنفِقِينَ وَالعُلَمَاءِ العَامِلِينَ، هَنِيئًا لِمَن بَنى مَسجِدًا، هَنِيئًا لِمَن أَوقَفَ مُصحَفًا، هَنِيئًا لِمَن طُبِعَ عَلَى نَفَقَتِهِ كِتَابٌ أَو شَرِيطٌ، هَنِيئًا لِمَن أَنشَأَ دَارًا خَيرِيَّةً أَو حَلَقَةَ قُرآنٍ، أَو حَفَرَ بِئرًا أَو دَعَمَ مَركَزًا دَعَوِيًّا، وَيَا لَخَسَارَةِ مَن رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلم يُشَارِكْ في شَيءٍ مِن ذَلِكَ بما يَستَطِيعُ.
فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ بَينَ أَيدِيكُم الآنَ مِنَ المُؤَسَّسَاتِ الخَيرِيَّةِ مَا يُهَيِّئُ لَكُمُ الفُرَصَ الثَّمِينَةَ لِتُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمُ الشَّيءَ الكَِثيرَ، بَينَ أَيدِيكُم جَمعِيَّاتُ البِرِّ وَجَمعِيَّاتُ التَّحفِيظِ فَلا تَنسَوهَا، وَهُنَا مَكَاتِبُ الدَّعوَةِ وَالتَّوعِيَةِ فَادعَمُوهَا، وَثَمَّةَ مَسَاجِدُ تُعمَرُ وَأَوقَافٌ تُنشَأُ فَسَاهِمُوا فِيهَا. وَقَد رَأَينَا في عَصرِنَا الحَاضِرِ ـ وَللهِ الحَمدُ ـ صُوَرًا مُشرِقَةً تُجتَلَى، وَمَوَاقِفَ مُشَرِّفَةً تُقتَفَى، أَبطَالُهَا أَجوَادٌ مُحسِنُونَ، بَذَلُوا بِكَرَمٍ وَأَنفَقُوا بِسَخَاءٍ، وَأَرخَصُوا أَموَالاً لَهُم مُبَارَكَةً، تَعَلَّمَ بها أَبنَاءُ المُسلِمِينَ وَسُتِرَت بَنَاتُهُم، وَسُدَّت بها جَوعَاتٌ وَقُضِيَت حَاجَاتٌ، وَرُفِعَ بها جَهلٌ وَنُشِرَ عِلمٌ، وَأَسلَمَ بِسَبَبِهَا كُفَّارٌ وَاهتَدَى ضَالُّونَ، وَنُشِرَت بِفَضلِهَا سُنَنٌ وَقُمِعَت بِدَعٌ، وَظَهَرَ خَيرٌ وَازدَهَرَ مَعرُوفٌ، وَتَوَارَى شَرٌّ وَاندَحَرَ مُنكَرٌ. فَهَيَّا ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِلى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، سَارِعُوا وَسَابِقُوا، وَاضرِبُوا لأَنفُسِكُم في كُلِّ مَجَالٍ مِن مَجَالاتِ البِرِّ بِسَهمٍ، وَادخُلُوا مَعَ كُلِّ بَابٍ مِن أَبوَابِ الخَيرِ مَا استَطَعتُم، وَاحرِصُوا عَلَى مَا تَستَمِرُّ بِهِ حَسَنَاتُكُم وَيَتَدَفَّقُ نَهرُهَا، وَاعلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ، وَلِذَا فَإِنَّ في الاستِقطَاعِ الشَّهرِيِّ مِنَ الرَّوَاتِبِ عَلَى الجَمعِيَّاتِ وَمَكَاتِبِ الدَّعوَةِ خَيرًا كثيرًا، فَلا تَحرِمُوا أَنفُسَكُم وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيرًا وَأَعظَمَ أَجرًا ، وَمَن يَبخَلْ فَإِنَّمَا يَبخَلُ عَن نَفسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِلْ قَومًا غَيرَكُم ثم لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم.
(1/5766)
فلسطين الجريحة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
6/1/1430
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدد الجراح. 2- فلسطين القضية الأولى. 3- معاناة الشعب الفلسطيني. 4- زيف الشعارات الغربية. 5- نداء لمناصرة أهل غزة. 6- ضرورة النظر في القضية بمنظار القرآن الكريم. 7- كلمة لأهل غزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أصبحنا في زمن لا يدري الواحد منا أيّ الأحداث يتابع، وأيّ المآسي ينازع، تعددت الجراحات التي تفتّت كبد الحجر قبل بني الإنسان، ولا يجد المؤمن الصادق بدًا من متابعتها وإلقاء السمع إلى أحداثها ليرجع البصر والفؤاد خاسئًا كسيرًا وهو حسير.
كانت فلسطين موالاً لأمتنا ما بالها لَم تعد للناس موالا؟!
تعددت يا بني قومي مصائبنا فأقفلت بابنا المفتوح إقفالا
كنا نعالج جرحًا واحدا فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا
عباد الله، مع تعدد المصائب وتعدد الفواجع تبقى فلسطين قضيتنا ومصيبتنا الأساس التي لا ينبغي لنا تجاهلها ونسيانها، فلسطين تلك البلدة التي سالت من أجلها العيون ورخصت في سبيلها المنون، فلسطين أولى القبلتين وثالث المسجدين ومسرى نبينا محمد الأمين ، فلسطين من أجلها شدّ الرجال عزائم الأبطال وأحيوا في نفوسهم الحماسة والنضال.
عباد الله، شعب فلسطين منذ سبعين عامًا وهو يعيش تحت وطأة الاحتلال، مساكنهم الملاجئ والمخيمات، والملايين منهم يعيشون في التشريد والشتات، شعب فلسطين حياته كلها خوف وتعذيب، اعتقال وتهديد، تهديم للبيوت وإغلاق للمدارس، ومع الحصار الاقتصادي المفروض عليهم أغلقت المخازن والمتاجر لتسدّ عنهم أبواب الرزق ووسائل الحياة، تجويع وبطالة، استخفاف وإهانة، استيلاء على الأراضي وتحكّم في مصادر المياه، محتل يلاحق من يشاء، ويتّهم من يشاء، يقتل من يشاء، وينفي من يشاء، ثم يزعم أنه يريد السلام.
قد حصحص الحق لا سلم ولا كلم مع اليهود وقد أبدت عواديها
قد حصحص الحق لا قول ولا عمل ولا مواثيق صدق عند داعيها
أين السلام الذي نادت مَحالفكم؟! أين الشعارات؟! يا من بات يطريها؟!
تآمر ليس تخفانا غوائله وفتنة نتوارى من أفاعيها
عباد الله، لقد انكشفت عورة الدول الغربية وبانت سوأتها عندما ادعت حقوق الإنسان، وهي تتفرّج على ما يحصل على أرض الإسراء والمعراج، راضية بذلك، بل داعمة لكل ما يحصل من وحشية وإجرام، لقد كان من المتوقع أن الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب الكافر مثل "حقوق الإنسان" و"الشرعية الدولية" و"الديمقراطية" سيكون الغرب جادًا في عدم تجاوزها وتعدّي حدودها، لكن أحداث فلسطين الحالية كشفت زيف وعنصرية تلك الشعارات، وعلى رأسها شعار "حقوق الإنسان"، لقد علّمنا الغرب أن الديمقراطية هي الرضا باختيار الشعب، ولكن هذه الوصفة صدّرت لنا بصورة أخرى، بيانها يتضح جليًا في أحد أمرين:
1- إما أن يصل عملاء الغرب وأعوانه من أهل ذلك البلد عبر الانتخابات المزيفة.
2- أو أن يؤتى بقيادة لذلك البلد عبر الدبابات وعابرات القارات.
أما إذا انتخب الشعب الأوفياء الأمناء فجزاء ذلك الشعب بأكمله المقاطعة السياسية والاقتصادية والتجويع والاضطهاد، وليت الأمر توقف عند هذا فقط، بل عمد العدو إلى زيادة جراحهم بقصف أحيائهم ومخيماتهم، ليكافئهم على الاختيار الذي ارتضوه لأنفسهم، وهي رسالة من العالم لكل الشعوب التي تنتخب الأوفياء الأمناء؛ فإن مصيرها مصير ذلك الشعب الأعزل.
أإعادة الأمل الْجميل سجية للغرب هذا يا أخي كذاب
كم علقونا بالوعود وما وفوا وكذاك وعد الكافرين سراب
عباد الله، لا يخفاكم ما يمر به إخواننا في فلسطين هذه الأيام، إنهم يعانون من ضرب الطائرات وأزيز المدافع والمجنزرات، عشرات المساجد دمرت، ومئات البيوت هدّمت، آلاف الأنفس أزهقت، كم من نساء أيمت، وكم من أطفال يتّمت، وكم من مقابر جماعية أقيمت.
إن إخوانكم ـ يا مسلمون ـ يصارعون عدوهم وبطونهم خاوية وأسواقهم مغلقة ومنافذهم محاصرة، افتقد أطفالهم الحليب، ونفد عن مرضاهم علاج الطبيب، والعالم ينظر ولا مجيب! إنه ليس من عذر لأحد اليوم يرى مقدساته تنتهك، ويرى أطفالاً يقتلون ونساء يرملون وشيوخًا يعتقلون، ثم لا ينتصر لإخوانه ولا يحزن لمصابهم.
يا أهل الجزيرة، ويا أحفاد الصحابة، أين أنتم من بكاء الثكالى وصراخ اليتامى وأنين الأرامل والأيامى؟! أين أخوة الإسلام؟! أين رابطة الإيمان؟! بل أين أخلاق العروبة عما يلاقيه إخواننا في فلسطين؟! فمن ينتصر لهم؟! ومن يخفف مصابهم يا أمة الإسلام؟!
يا ألف مليون وأين هم إذا دعت الجراح
هاتوا من المليار مليونًا صحاحًا من صحاح
من كل ألف واحدا أغزو بهم فِي كل ساح
شعب بغير عقيدة ورق تذريه الرياح
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الذي ينظر إلى قضيتنا في فلسطين بمنظار القرآن لن يخدع أبدًا، فالمولى سبحانه يقول في كتابه: عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 100]، ويقول أيضًا: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64].
إن من يتعامل مع قضاياه على هدي القرآن فلن يضل أبدًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]، وقال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، وقال أيضًا: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217].
أيها المسلمون، إن من سنن الله سبحانه أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، وإن من سننه أيضًا أنه إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قومًا غيرهم، ويأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
أيها الإخوة المرابطون في أرض فلسطين المجاهدة، أرض الشموخ والفداء، وأرض الجهاد والإباء، يا أهلنا في الأرض المباركة، عذرًا إن وجدتم من كثير من أبناء أمتكم التخاذل والتثاقل، لكن ثقوا أن قلوبنا معكم، والله ناصركم، والمال نبذله فاستنهضوا الهمما.
يا إخواننا، إن أمل الأمة معقود بعد الله عليكم، فاصبروا وصابروا ورابطوا، فإن مع العسر يسرا، إن مع اليسر يسرا، لا تيأسوا من روح الله، فالنصر قادم بإذن الله تعالى، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
كانت فلسطين بالأخيار حافلة واليوم أنذال صهيون ترديها
كانت تعانق أمْجادا إذا ذكرت حن الفؤاد وفاضت عين باكيها
و الله لو كان فينا مثل معتصم لعبأ الجيش يرعاها ويحميها
ولو رآنا صلاح الدين في خور لِجرد السيف يفري من يعاديها
من أين يهنؤنا عيش وعافية وفي فلسطين آلام تعنيها؟!
بشراك يا أيها الأقصى بموعدة قد قالها المصطفى والله مجريها
لا وعد بلفور يبقى ذكره أبدا ولا لقيط يهود فِي مبانيها
لن تستمر يهود في غوايتها وسوف يَجتثّ قاصيها ودانيها
عباد الله، إن ما يجري في فلسطين المحتلة لهو امتحان شديد لأمة الإسلام؛ لأن القدس والمسجد الأقصى والبقاع الطاهرة هناك ليست لأهل فلسطين فقط، ولا للعرب أيضًا، بل هي لكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلا يملك أحد كائنًا من كان أن يتنازل عن شبر من أرضها لليهود الغاصبين، فهي أرض المسلمين أجمع، تفدى بالأرواح والمهج.
أيها المسلمون، النصر سيعلو على أيديكم أو أيدي غيركم، والباطل سيزهق بجهودكم أو جهود غيركم، ولكن لماذا لا يطلب المسلم الخير لنفسه؟! لماذا لا يكون لبنةً في طريق النصر وسهمًا من سهام الحق وأداة لإزهاق الباطل؟!
عباد الله، إن المأساة أليمة، وإن الخطب جسيم، وإن الذي يحدث هو مسؤولية كل من رآه أو علم به، إننا والله مسؤولون عن مناظر القتل ومشاهد الفقر والتجويع التي يمارسها اليهود والعالم يؤيده على إخواننا في فلسطين، إننا والله نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة.
أيها المسلمون، إن سلاح المال والدعاء لهما أعظم الأثر بإذن الله تعالى في دعم إخواننا المسلمين ودحر اليهود الغاصبين، وهما أيضًا نوع من أنواع الجهاد إن عجزنا عن الجهاد بذواتنا وأرواحنا.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5767)