من أسباب منع نزول المطر
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة, الدعاء والذكر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
21/1/1425
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- افتقار البشر إلى خالقهم. 2- الحث على الدعاء. 3- عاقبة الذنوب والمعاصي. 4- أثر التوبة والاستغفار في نزول الغيث. 5- من أسباب حبس القطر: منع الزكاة، البخس في المكيال، تفشي المعاصي والمنكرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا أن نتقي الله حق تقاته ونطيعه ونعلم أننا فقراء إلى الله ضعفاء مهما بلغ الشخص من القوة، محتاجون إليه سبحانه في كل نَفَسٍ ولحظة وثانية، بل وفي كل طرفة عين وأقلّ من ذلك. إن الغفلة تعترينا في كثير من أمورنا وأحوالنا وأوقاتنا، وذلك من الشيطان الرجيم العدوّ المبين والنفس الأمارة بالسوء وجلساء السوء من شياطين الإنس بعد شياطين الجن، ولكن علينا أن نتذكر ونتفكر دائمًا ونراجع أنفسنا ونحاسبها ونتَّعظ ونتدبَّر ونرجع إلى ربنا ونستغفره ونتوب إليه، فهو خير لنا في عاجل أمرنا وآجله وديننا ودنيانا وآخرتنا.
إن الله تعالى مع غناه عنا يأمرنا بدعائه ليستجيب لنا، وسؤاله ليعطينا، واستغفاره ليغفر لنا، ونحن مع فقرنا وعجزنا وضعفنا وحاجتنا إليه نعصيه ونعرض عنه، مع علمنا أن معصيته تسبّب غضبه علينا وعقوبته لنا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 15-17]، وقال عز وجل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وقال سبحانه وبحمده: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عاشر عشرة رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله ، فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهنّ: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابْتُلُوا بالطواعين والأوجاع ـ أي: الأمراض ـ التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ إلا ابتلوا بالسنين وشدة المَؤُونة وجَوْر السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا المطر القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
ففي هذا الحديث الشريف توضيح وبيان لما تؤول إليه أحوال العصاة من العقوبات العاجلة التي تذكّرهم بالله رب العالمين حتى يرجعوا إلى دينهم ويستقيموا على أمر الله، ولا يؤاخذ سبحانه وبحمده العصاة من المسلمين كما أخذ به الأمم من قبلهم بذنوبهم فيهلكهم كما أهلك الضالين من الأمم السابقة، ولكنه التذكير لهم بين حين وآخر، كما قال سبحانه وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وكما قال عز وجل: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]، وفي آية أخرى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61]، وقال عز وجل: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس: 11]، وقال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف: 58].
كل هذا الإمهال والتأجيل في العقوبات وعدم المؤاخذة الفورية بسبب الذنوب من أجل أن يتوب العباد ويرجعوا إلى ربهم ليغفر لهم سبحانه وبحمده، وهذا من لطفه وحلمه عز وجل ورحمته وعفوه وغفرانه، ولو استقام الناس على الصراط المستقيم لأسقاهم الله وأغاثهم بماء طهور وأنزل عليهم من الخير والبركات ما ينعمون به ومعه في الحياة الدنيا، ويجدون الجزاء الحسن والحياة الكريمة ليس في الدنيا فقط، وإنما في البرزخ وفي الآخرة الحياة الأبدية، قال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 16، 17]، فالاستقامة ولزوم الطاعة لله رب العالمين سبب في نزول البركات من السماء وخروجها من الأرض، والمعاصي والذنوب والآثام والإعراض عن تعاليم الإسلام سبب في منع نزول المطر وبركات السماء والأرض.
وكما كان ذلك في الأمم السابقة عقابًا عاجلاً حتى يرجعوا إلى ربهم فهو أيضًا لهذه الأمة الإسلامية، قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130]، فالمعنى أن الله عز وجل عاقب آل فرعون بالسنين التي هي الجُدُوبُ المتتابعة مع نقص الثمرات لعلهم يتذكرون أعمالهم السيئة، فيتوبوا إلى الله منها ويرجعوا إلى طاعته ويستقيموا على أمره، فيرد لهم سبحانه وبحمده ما كان شاردًا ويصلح لهم ما كان فاسدًا، ويعمر قلوبهم بالتقوى، وينزل لهم الغيث من السماء ويخرج لهم البركات من الأرض كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 66]، وقال عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
والإقلاع عن الذنوب والمعاصي والتوبة والإنابة إلى الله مع الاستغفار واللجوء إلى الله رب العالمين بالدعاء في خشوع وتضرع وانكسار واضطرار من أسباب نزول الغيث من السماء والإمداد بالأموال والبنين وجريان الأنهار والبركة في ذلك.
وكما كان في الأمم السابقة فهو أيضًا في هذه الأمة الإسلامية في الاستجابة السريعة من الله الغني الحميد الفعال لما يريد الذي قال في محكم التنزيل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وكما ورد في القرآن الكريم عن عبد الله ورسوله نوح عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح10-12]، وجاء أيضًا في القرآن الكريم عن نبي الله هود عليه الصلاة والسلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود: 52]، فبهذا يتضح أن كثرة الاستغفار والتوبة من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها من أسباب نزول المطر، وينضم إلى ذلك الإلحاح في الدعاء والاستقامة على منهج القرآن الكريم والسنة المطهرة والخروج من المظالم بأنواعها، سواء ظُلْم الإنسان لنفسه في التقصير في الطاعات وارتكاب المحرمات أو ظُلْمه لغيره بأي أسلوب كان، مع الإخلاص لله رب العالمين والصواب على سنة الرسول محمد حتى يقبل الله الأعمال، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف110]، ومع الالتزام أيضًا بآداب الدعاء وشروطه والابتعاد عن الموانع.
فمن الآداب واللوازم حمدُ الله والثناءُ عليه في أوله، والصلاةُ على الرسول محمد في آخره، والاكتفاءُ بسؤال الله الحاجة في أي دعاء، وعدمُ التعدي وتجاوز الحدود، وما أجمله من ربط قرآني في آيات متتالية تشير إلى النهي عن الاعتداء في الدعاء وأن رحمة الله قريب من المحسنين وعباد الله المتقين، ومن رحمته جل جلاله هذا المطر والغيث الذي ينزل على العباد، ولنستمع إلى هذه الآيات الكريمة من كلام رب العالمين، قال الله جل جلاله وتعالى سلطانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 55-57].
فعلينا أن نتدبر هذه الآيات الثلاث كلمة كلمة، والآية التي قبلها أيضًا والتي بعدها لنرتبط بكلام ربنا سبحانه وبحمده ونعيش معه لنجد لذة العبادة والمناجاة وحلاوة الإيمان التي يفقدها كثير من المنتسبين للإسلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)، وقال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".
وفي الحديث السابق ذكره في الخطبة الأولى سببان هامّان من أسباب القحط والجفاف والشدة ومنع نزول المطر وهما: منعُ زكاة الأموال وعدمُ أدائها لمستحقيها، ونقص وبَخْسُ المكاييل والموازين ليس سببًا في الجفاف والقحط فقط، وإنما في تضييق المعيشة وشدتها وجور الحكام أيضًا عليهم وظلمهم لهم: ((ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا)) الحديث.
أما منع الزكاة وعدم أدائها لمستحقيها ممن يخرجها فهو أمر مشاهد وملموس وأثره واضح في مجتمعات المسلمين التي تقدر فيها الزكاة بالمليارات أي: آلاف الملايين، وأقول: الزكاة وليست الثروات ورؤوس الأموال، فلو أن الزكاة تُؤَدَّى وتُخرج وتُعطى فعلاً لمستحقيها لما بَقِيَ فقيرٌ في العالم الإسلامي يَتَسَوَّلُ، ولما عاش عشرات الملايين من المسلمين على الكفاف ودون خط الفقر كما يُذاع الآن ويُشاع في الخطط الوهمية لمعالجة الفقر، مئات الملايين في العالم الإسلامي يصارعون الحياة ومتاعبها ومطالبها، فضلاً عن الملايين الذين لا يجدون الأعمال والرزق الحلال ليسدوا جوعهم ويستروا عوراتهم، فضلاً عن أن يحلموا بالزواج الشرعي وبناء المساكن أو يجدوا المراكب التي بها يستطيعون أن يصلوا لأعمالهم إن وجدت أو يقضوا حاجات من يعولون. ففريضة الزكاة لم تُؤْخَذْ فعلاً من الأغنياء وتُرَدّ إلى الفقراء وأصحاب الحاجات من الأصناف الثمانية، بل تُركت لتخمين الأغنياء أو بُخلهم بها أو وضعهم لها في غير موضعها من حيث المداهنة والمجاملة لبعض الناس، حيث يعطونهم إياها وليسوا مستحقين لها، أو دفعهم لها في المشاريع الخيرية وبنائها وتشييدها مثل بناء المساجد والمدارس والطرق وحفر الآبار وإنشاء السدود وإصلاح الأراضي الزراعية وبناء المساكن وغير ذلك مما يقوم به الأغنياء ظنًا منهم أو اعتقادًا بأن ذلك يخرجهم من تبعة أداء الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم، مع أن الله عز وجل حدّد الأصناف الثمانية والمصارف المشروعة التي تُدفع الزكاة فيها ولها، وقد يدفعها أحد التجار والأغنياء للإعلانات التجارية لبضاعته التي يسوّقها في الوسائل الإعلامية المختلفة، أو يشتري عمارات غير مكتملة أو يقوم بالعمارة ولا يكملها ويضع الملايين فيها تهرّبًا من الزكاة، وهناك أنواع من الحيل يعرفها أصحابها وسوف تمْحَقُ بركةُ أموالهم من أعمارهم وصحتهم هذا في الدنيا، أما في الآخرة فسوف تُطوَّق أعناقُهم ورقابُهم بما كانوا يكسبون، وسوف يجدون العذاب الأليم على تفريطهم.
ومن التحايل أيضًا: تجد أحدهم يدفع الزكاة في المشاريع التي يطلبها المسؤولون عند قيام أي حملة أو مشروع أو زيارة مسؤول، فهي في ظاهرها المفاخرة بالبذل والعطاء وفي نفس الباذل والمعطي هي زكاة وخروج من الزكاة ومحسوبة ومحسومة منها، وهذا غير صحيح وتحايل واضح على الفريضة العظيمة التي هي مثل الصلاة والصيام والحج واجب على المرء المسلم أداؤها بشروطها وواجباتها، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]، وعندما بعث رسولُ الله معاذَ بنَ جبل رضي الله عنه إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام جاء في وصية رسول الله لمعاذ: ((فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم بأن الله قد فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) الحديث. وسوف أتطرق إن شاء الله للزكاة وأوضاعها الراهنة من حيث المصارف وكثرة الجمعيات وازدواج الأعمال الخيرية عمومًا وقلة المردود والبركة وصرف كثير من الأموال في غير مصارفها وإهدار الأموال والأوقات والجهود وبعثرتها في أمور كان الأجدر باستغلالها في مواضع أخرى، وأتمنى أن تُوَحَّدَ عشراتُ الجمعيات في كل مدينة وبلدة في الداخل حتى تؤدي الغرض منها كما تم توحيد ذلك في الخارج، وإنه لأملٌ لا يَرُوقُ للقائمين على تلك الجمعيات لعدم تفكيرهم فيما يصرف على تلك المباني المستأجرة والموظفين والأثاث والسيارات والخدمات الأخرى. ولأسباب أخرى هم يعلمونها قبل غيرهم من حيث عدم الرغبة في توحيد الجهود.
أما نقص المكاييل وبخس الموازين في أسواق المسلمين والغش والتدليس والحلف بالأيمان الكاذبة فضلاً عن الكذب الواضح فحدّث ولا حرج، فهذا هو الواقع في كثير من المجتمعات الإسلامية، فأينما ذَهَبْتَ أو تعاملتَ في كل ما يتعلق بشراء أو بيع أيًّا كان لا تجد من يَصْدُقُ معك ويصدقك، بل أنت فريسة وقعت بين يديه ينظر ويفكر كيف يأخذ ما في يديك وبأي طريقة يحتال عليك، وعلى كل فرد أن يفكر في هذا الأمر طويلاً في معاملاته في البيع والشراء اليومية وليست الحولية أو العمرية مع أنها أشد وأنكى، وليست المعاملات في المؤسسات والشركات والإدارات الحكومية المبنية على ما يعرفه الجميع ولا يجهلونه، هذه الأسباب المصرّح بها والمرموز لها من الأسباب التي تمنع القطر من السماء، وإذا أضفنا إليها أنواع المعاصي التي تعجُّ بها الأجواء حتى حجبت عنا عَلِيلَ الهواء وأغضبت علينا رب الأرض والسماء من خلال تلك الوسائل التي تلتقط الخلاعة والخنا والمرذول من الفعال والتصرفات الشنعاء مما يخجل المسلم من ذكره مما يتناقله الناس باللوم والتقريع أو التأييد والتصفيق لأولئك المنتسبين للبشر الذين يُقْدِمُون على أفعال مُزْرِيَةٍ تترفع عنها بعض البهائم والأنعام حتى أصبح تَلَقِّي ذلك في مجتمعات المسلمين ومشاهدته في التلفاز والحاسب أمرًا عاديًا.
هذه المعاصي والآثام إذا انضم إليها ما يرتكبه بعض المسلمين علنًا أو سرًا، ومنها: الربا والزنا والمعازف والغناء وسفور النساء وتبرجهن واللواط والسِّحَاق وشهادة الزور وكتمان الشهادة والرشوة والاختلاس وسرقة الأموال العامة والخاصة والغش والتدليس والكذب والزور والبهتان والحسد والغيبة والنميمة والظلم الخاص والعام إلى جانب ما ذُكِرَ سابقًا ومما لم يُذْكَرْ، ومعلوم لدى الجميع أنَّ كلَّ ذلك من أسباب عدم نزول المطر والجفاف والقحط الحاصل، إلى جانب ذلك الروتين الرتيب في خروج الناس للاستسقاء وعدم التأدب مع الله عز وجل ابتداءً مِنْ أَوَّلِ لَفْظَةٍ يُطْلَبُ فيها الخروجُ للاستسقاء إلى جانب التوقيت في تاريخ معيّن وخروجٍ عامٍّ حتى في أماكن قد تتضرر منه مثل المدن التي على البحر، ومعظم الذين يخرجون مع قلتهم وخروجهم لأمور متعددة ومنها: ظهور صورهم وأسمائهم في وسائل الإعلام، كل هذا من أسباب منع نزول المطر من السماء شئنا أم أبينا، رضينا أم غضبنا، قلنا القول بصراحة أَمْ دَاهَنَّا وجاملنا أو نافقنا، فبعد أن يكون السحاب في السماء مُتَهَيِّئًا لنزول المطر في كثير من الأحيان إذا به ينقشع السحاب ولا ترى إلا زرقة السماء، فأين الاستجابة للمضطرين مع ادِّعَاء صفاء العقيدة؟! إذًا لا بد من معرفة الخلل والمعالجة بدلاً من الإصرار على عدم الإقلاع عن الأسباب والموانع في استجابة الدعاء، ومن كانت أعمارهم في الستين وأكثر يعرفون ذلك تمامًا عندما كان يخرج المسلمون للاستسقاء ولا يرجعون إلا ممطورين بإذن الله عز وجل؛ لأنهم يخرجون مضطرين فعلاً.
فعلينا أن نبتعد عن أسباب وموانع نزول الغيث، ونعمل على ما يقربنا إلى الله عز وجل ويكون سببًا في استجابة الله لدعائنا، ومن أهم أسباب استجابة الدعاء طيب الكسب من الحلال والبعد عن الحرام كما جاء في الحديث عن رسول الله : ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) ، ونطلب من الله أن يغيثنا ونحن مضطرين فعلاً خاشعين مستغفرين تائبين من جميع الذنوب والمعاصي، وكَفَى ما مرّ بنا من العبر والعظات فيما مرّ وفات، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وعلينا أن ننتبه ونبتعد عن الغفلة حتى لا نكون ممن قال الله فيهم: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس: 92]، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105]، ولنتأمل في هذا الحديث القدسي الذي حفظتُه من أكثر من ست وثلاثين سنة ولم أستطع الوقوف على درجته لضيق الوقت ولكنَّ الواقع يصدقه، فما أحلم الله وألطفه وأرأفه وأرحمه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، قال رسول الله فيما يرويه عن رب العزة والجلال أنه قال: ((إني والأنس والجن لفي نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، أتحبّب إليهم بالنِّعم ويتبغَّضون إليّ بالمعاصي، خيري إليهم نازل وشرّهم إليّ صاعد، فبي حلفتُ لأبعثنَّ عليهم فتنة تدع الحليم فيهم حيرانًا)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى28]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 48-50]، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان48: -50]، وقال سبحانه وبحمده: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، وقال سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] لا يأتي به إلا اللهُ ربُّنا سبحانه لا إله إلا هو الرؤوفُ الرحيمُ الواسعُ العليمُ الحكيمُ ذُو الجلالِ والإكرامِ.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله.
(1/5587)
الخسوف والكسوف
موضوعات عامة
جرائم وحوادث, مخلوقات الله
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
2/5/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر الله تعالى. 2- من نعم الله تعالى تعاقب الليل والنهار. 3- آية الشمس والقمر. 4- ظاهرة الكسوف والخسوف. 5- الحكمة من الكسوف والخسوف. 6- الحساب القمري والحساب الشمسي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا أن نتقي الله تعالى ونشكره على ما أنعم به علينا من النعم الظاهرة والباطنة، وعلى ما سخر لنا من مخلوقاته، حيث سخّر لنا سبحانه ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، لو تدبّرنا ذلك لوجدناه حقيقة ماثلة أمام أعيننا، ولكننا عن ذلك غافلون.
قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 12، 13]، وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان: 20].
ومن نعمته سبحانه وآياته الدالة على عظمته وقدرته وبديع خلقه تعاقبُ الليل والنهار وإدخالُهما في بعضهما، وسَلْخُ الليل من النهار، ومنامُنا بالليل والنهار، وسَعْيُنا لطلب الرزق من فضله في النهار، وتسخيرُه الشمس والقمر مستمريْن دائبيْن إلى قيام الساعة، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 32-34]، وقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: 23].
فهو عز وجل الذي سخر الشمس والقمر في حركة دائمة مستمرة لا تختلف ولا تتخلف؛ لنعلم عدد السنين والحساب، ولكي تتنوع الثمار مع منازل الشمس حسب الفصول والأزمان والأمكنة، ولنعلم الحساب بمعناه الواسع وما تحمله هذه الكلمة من معنى أوسع مما نعرفه ونتصوره، فهو سبحانه الذي سخرهما يسيران بنظام بديع محكم وسَيْرٍ سريع لا ندركه، وفي مسارات وأفلاك عِلْمُنا عنها قاصر ومحدود، وجَهْلُنا بها يجعلنا نُخَمِّنُ ونتصوَّرُ ونعتقدُ ونصحِّح ونُلْغِي ونقرِّرُ ونخاصِمُ ونهْجُر ونرْغي ونزْبد كلما سنحت لنا الفرصة ونتقَوَّل على الله بغير علم، ونسلك غير منهج السلف الصالح رحمهم الله الذين فهموا هذا وغيره منذ مئات السنين ولم نفهمه نحن في هذا العصر. فالواجب على المسلم أن يلزم حدوده فيما لا يعلم ولا يتكلم إلا بما وافق القرآن والسنة ووضّحه العلم الذي لا يزال أهله في عجز أمام بلاغة القرآن والسنة وإعجازهما.
قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ الرحمن: 5]، وقال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام: 96]، فلو تأملنا هؤلاء الكلمات الثلاث في هاتين الآيتين لكفت وأغنت عن الكثير من البحث والتقصي، فالشمس والقمر لا يختلفان عُلُوًّا ولا نزولاً، ولا ينحرفان يمينًا ولا شمالاً، ولا يتغيران تقدمًا ولا تأخرًا عمّا قدّر الله تعالى لهما في ذلك كما قال عز وجل: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88]. فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال قدرته وعلمه وبالغ حكمته وواسع رحمته، آيتان من آيات الله في عِظَمِهِمَا وفيما ينبعث من الشمس من النور والأشعة حيث هي مصدر النور والإضاءة والحرارة المتوَهِّجَة والملتهبة، وفيما يعكسه القمر من نور الشمس وإضاءته على الأرض، ففي هذا وغيره من التعاقب ومعرفة عدد السنين والحساب والمنافع وتتابع المصالح الدنيوية والأخروية على هذه الأرض، في ذلك كله آيات عظيمة تدل على عظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته وحكمته ورحمته وعلمه حيث وسع كل شيء رحمة وأحاط بكل شيء علمًا لا إله إلا هو العزيز الحكيم، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37-40]، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5، 6]، وقال عز وجل: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء: 12]، وقال جل جلاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
أيها المسلمون، هل تدبَّرنا هذه الآيات القرآنية العظيمة؟! وهل وَعَيْنَا وعرفنا أن كل العلوم والمعارف التي يتباهى بها الناس اليوم ويتشدقون ويفتخرون بالوصول إليها أنها موجودة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنا عنها غافلون أو متغافلون، وأنا نمرُّ على كثير من آيات القرآن الكريم دون تدبر وفهم لمعانيه مع أنه بِلُغَتِنَا العربية الفصحى التي لا نحتاج معها إلى كثيرِ تأملٍ من حيث وصول الفهم بسرعة للمقصود إلا فيما ندر لمّا ابتعدنا عن لغتنا الأمِّ التي أصبح الاعتزاز والافتخار بغيرها لدى بعض المسلمين موجودًا وأمرًا مقصودًا، بل الدعوة إلى تعلم تلك اللغات ومنها الإنجليزية أصبح أمرًا مفروضًا على الجميع حتى غَدَتْ شرطًا من الشروط التعجيزية للوظائف في هذا البلد ويطلبون إجادتها تحدثًا وكتابة حتى وإن كان التقديم على وظيفة عامل للنظافة، وهذا في معظم البلاد العربية إن كان طالب تلك الوظيفة من البلد نفسها ولا يطلبون ذلك من عمال بلاد لا يتقنون العربية ولا الإنجليزية؛ لأنهم لا يريدون أبناء البلد أصلاً، فيضعون العراقيل والشروط التعجيزية أمامهم، وإن كان هذا الشرط لكثير من الوظائف ذرًا للرماد في العيون؛ لئلا يحصل عليها أحدٌ من أبناء البلد، ومع هذا يحتجّون بأنه لم يتقدم لتلك الوظائف أحد لكي يستقدموا من الخارج. أعود للقول بأننا ابتعدنا عن لغتنا العربية حتى بين بني جلدتنا والذين يتكلمون بلغتنا ونعيش مع بعضنا أصبحنا لا نعتزُّ بها ولا نقيم لها وزنًا.
ومع تقدم وسائل العلم والتعلم وتوفرها بكل يسر وسهولة نجد الجهل يخيم على كثير من عقول الناس حول كثير من الأمور، ومنها: ظاهرة الخسوف والكسوف التي عَلِمَهَا علماءُ المسلمين منذ مئات السنين وليس لديهم شيء من مخترعات اليوم ومراصده وآلاته، ولكنه نور البصيرة التي أعطاهم الله إياها ووصلتنا علومهم تلك عن طريق كتبهم ومؤلفاتهم، وفَهِمَ ذلك وغيره ابنُ تيمية وابنُ القيم وغيرُهما رحم الله الجميع، ولم ينكر أحد منهم علم الحساب، ولكنه لا يعتمد عليه لوحده إلا بالرؤية الشرعية للقمر لإثبات دخول الأشهر، وإلا فالعلم موجود من قديم الزمن يعلمه كثير من الناس في ذلك الزمن ليعرفوا متى يزرعون ويسقون ويحصدون وغير ذلك من حياتهم المعيشية، فهو عِلْمٌ عَلَّمَهُم الله إياه بمعرفة البروج والفصول الموجودة بنصِّ القرآن الكريم، ومنها قول الله عز وجل: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 61، 62]، وقوله تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران: 190]، وقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1]، والآيات التي سبق ذكرها والتي تدلّ إضافة إلى هذا على تداخل الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما تدلُّ على أنهما آيتان عظيمتان أمام أعينهم وهما الشمس والقمر، فعلموا رحمهم الله السبب الشرعي والظاهري من الكسوف والخسوف الذي يجهله كثير من الناس اليوم ويعلمه المتخصصون وبعض المتعلمين وخاصة من المسلمين الذين لم يزدهم علمهم هذا وتعلمهم إلا تفاخرًا وشموخًا بالأنوف كأنهم قد أَتَوْا بشيءٍ غريب وعجيب.
والأغرب من ذلك بعض المتعالمين الذين لا يفقهون شيئًا ويردّدون ما يقوله غيرهم مع أن أحدهم لا يعلم متى يحصل الكسوف أو الخسوف، ولو قيل لأحدهم ما يلي لما علم الإجابة الصحيحة التي عرفها علماء المسلمين بأن كسوف الشمس لا يحصل إلا آخر يوم من الشهر سواء كان ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا، في هذين اليومين فقط إذا كان أحدهما هو آخر يوم من الشهر القمري، وخسوف القمر لا يكون إلا ليلة النصف من الشهر القمري، وبهذا يكون الخسوف دليلاً ثابتًا ودلالة واضحة على الشهر إن كان تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين يومًا عندما يتم حساب ذلك حسابًا دقيقًا، ومن هنا يتبين عدم صحة حساب أهل الحساب في بعض الأحيان عندما يكون خسوف القمر ليلة الرابع عشر من الشهر، أي: أن الخطأ في حسابهم للشهر السابق حيث اعتمدوه ثلاثين يومًا، فلا يمكن أن يكون الشهر القمري الهجري سبعة وعشرين يومًا أو ثمانية وعشرين يومًا، مع علمهم بأن حساب الشهر القمري هو: تسعة وعشرون يومًا واثنتا عشرة ساعة وأربع وأربعون دقيقة وثانيتان وثمانية أعشار الثانية (29 يومًا، و12 ساعة، و44 دقيقة، و2 ثانية، و8 من العشرة من الثانية)، ومع ذلك نجد الاختلاف بينهم في الحساب مع وجود الآلات الحاسبة بين أيديهم، وذلك لاختلافهم في نقطة بداية الحساب من حيث خطوط الطول والعرض على وجه الأرض، لهذا فإن الحساب بالقمر لا يؤخذ على إطلاقه بالحسابات الحالية لأن الاختلاف بين أهل الحساب موجود وواقع نعلمه ونُعَايِشُهُ في هذا الزمان، ولهذا فإن هذا الحساب يؤخذ على أنه مقرِّبٌ ومُؤَيِّدٌ للرؤية الشرعية لإثبات دخول شهري رمضان والحج وغيرهما من الأشهر القمرية المرتبط بها أي عبادة من صيام وحج وعدّة ومواقيت أخرى كما قال الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189].
لذلك أعود للقول بأنه يحصل الكسوف والخسوف عدة مرات في كل سنة من مرتين إلى ثلاث مرات ولكنه على مناطق ودول مختلفة من العالم وبنسبٍ متفاوتة جزئية أو كلية، وقد تمرّ عشرات السنين لا يعود كسوف الشمس على تلك المنطقة بنفس النسبة، فالمسلمون الأوائل قد علموا أن البروج منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة التي تسبح فيها، ومنها: الشمس والقمر حيث وُصِفَتْ الشمس بالسراج الوهّاج في الآية السابق ذكرها وفي قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ: 13]، وبأنها مصدر الضوء وأن القمر نور ومنير وعاكس لأشعة الشمس ونور الشمس ووهجها ولهيبها المنبعث منها الذي لو اقترب من الأرض أكثر مما هي عليه لأحرقها، وهذا مشاهد في فصل الصيف، ولو ابتعدت عنها أكثر من ذلك لتجمد كل ما على الأرض، وهذا واضح في فصل الشتاء وفي المحيطيْن المتجمديْن الشمالي والجنوبي من الأرض لعدم طلوع الشمس عليهما عدة أشهر في السنة.
لقد ذكر الله الشمس والقمر معًا في عدة آيات واضحة الدلالة لمن كان له أدنى بصيرة وعلم باللغة العربية ومعرفة دقيقة للجمع بينهما في هذا الأمر والمعنى في سريانهما وجريانهما أيضًا حيث تكرر ذلك في آيات عدة، قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5]، وقال عز وجل: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16]، وقال سبحانه وبحمده: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61]، وقال تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [ الإسراء: 12]، فآيةُ الليل: القمرُ، وآيةُ النهار: الشمسُ.
ولننظر إلى هذا الوصف الدقيق والجمع العجيب بين وصف الشمس والقمر وبين منازلهما وبروجهما وسيرهما في أفلاكهما في السماء، والسماء هنا المكان المرتفع عن الأرض والبعيد عنها حسب تقدير الله لتلك الأفلاك والمسارات وسير الكواكب والنجوم في مساراتها وطرقها التي قدرها الله لها في هذا الكون الواسع والفضاء الهائل واستمرارها في حركة دائبة ما دامت الحياة على هذه الأرض إلى أن تقوم الساعة وتُكشطَ السماءُ وتقع الآيات التي قبل ذلك كما جاء في سورة التكوير والانفطار والانشقاق وغيرها من السور والأحاديث النبوية.
وقد جاء أيضًا في آيات أخرى ربْطُهما بالليل والنهار واختلافهما وسلْخُهما وتكويرُهما وغير ذلك من التعبير القرآني الفريد ما دامت الحياة مستمرة في الدنيا، ومنها: ذِكْرُ السَّكَنِ في الليل وأنها لا تهدأ الأعصاب إلا في الليل والظلام ومنها أعصاب البصر، وكان التعبير بالسكن وليس بالنوم فلم يقل: (بليلٍ تنامون فيه)، وإنما قال: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ، النوم المقترن بالسكن والهدوء لهذه الأعصاب، لذا أذكر الآيات كما هي ليزداد المؤمن إيمانًا، وحتى يرتبط ويربط الخبراءُ من المسلمين هذه الآيات العظيمة ودلالاتها الدقيقة بين الذي تعلَّموه ويعلِّمونه لغيرهم بأسلوب مجرد عن الإيمان وعدم ربط ذلك بما ورد في القرآن الكريم، وإلا لو تمَّ التعلم والتعليم بما ورد في القرآن والسنة لاستفادوا هم أنفسهم في كثير من أبحاثهم وعلومهم ومعارفهم، وعلموا أن ذلك موجود في قرآنهم بعبارات دقيقة تَحلُّ جميع إشكالاتهم وتوضّح أن كل تلك المعارف والعلوم التي تعلموها قد سبقهم الإسلام إليها، فاستفادتهم هم أولاً ثم من يعلمونهم ويربطونهم بالخالق جل جلاله، كذلك ليبينوا لغير المسلمين عظمة هذا الدين الإسلامي، وشموله لجميع العلوم والمعارف وأنهم قد سُبقوا إلى ذلك كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38].
ولنتأمل هذه الآيات كاملة ونتدبر ما ورد فيها كلمةً كلمةً وترابطها العجيب والتعبير الدقيق فيها، قال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 96، 97]، إذًا فالمسلمون يعلمون هذا بنص القرآن الكريم في الآيات التي سبق ذكرها وفي غيرها، ومنها قول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر: 61]، وقوله عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل: 86]، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5، 6]، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء: 12]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [لقمان: 29]، وقال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 13-17].
وأوردت هذه الآيات المترابطة التي تدل المسلم على صفاء العقيدة ووجوب التزام التوحيد والتوكل على الله جل جلاله وإفراده بالعبادة والألوهية والأسماء والصفات والبعد عن الشرك والمشركين حيث لا ينفعون في الدنيا ولا في الآخرة ولا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم مقدار ما يكون على نَوَاةِ التَّمْرِ مِنْ غِلافٍ شَفَّافٍ أو خَيْطٍ صغيرٍ أو نُقْرَةٍ، وهو ما تمَّ التعبير عنها في القرآن الكريم بالقِطْمِيرِ والفَتِيلِ والنَّقِيرِ في عدة مواضع من سور القرآن وجاءت أيضًا في سورة النساء: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء: 49]، وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء: 77]، فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [النساء: 53].
فهذا الترابط العجيب والتذكير في هذه الآيات لو أخذه المسلم وتدبره وتفكر فيه لازداد إيمانه وارتبط بخالقه جل جلاله وتعالى سلطانه، فكيف به إذا بدأ بالآيات من أول سورة فاطر إلى آخرها؟! وكذلك القرآن كله ففيه من الآيات التي لو أنزلت على جبل لكان خاشعًا متذللاً لله رب العالمين.
أعود لذكر بعض الآيات: قال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: 5]، ولنتدبر هذه الآيات وترابطها العجيب والتذكير بوحدانية الله جل جلاله والخشوع له وعبادته وحده لا شريك له والبعد عن الكفر والكافرين وطرقهم ومسالكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم البعيدة عن الإسلام التي لا يخفى على الله منها شيء وإنما هو الإمهال لهم حتى يأتي يوم القيامة يوم الجزاء والحساب، قال عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت: 37-43].
وأكتفي بما ذكرته من الآيات؛ لأن المقام لا يتسع لذكر البقية البالغ عشرات الآيات في هذه المعاني المتعددة، ومنها الخسوف والكسوف.
إذًا فالمسلمون يعلمون ذلك وسبب حدوثه وأنه ليس من علم الغيب في شيء، بل هو من باب علم الحساب الذي علمه الله بني آدم من آلاف السنين، قال تعالى: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5]، وقال عز وجل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85]. ولعلماء المسلمين باعٌ طويلٌ في هذا في الماضي والحاضر حيث ألّفوا المؤلفات وكتبوا عن ذلك، ومنهم من له مجلدات مدعمة بالدليل من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولكنه لما حصل الخلط والدمج بين هذا العلم وبين استغلال المنجمين والسحرة والمشعوذين لعقول الناس وسذاجتهم منذ القديم حتى عصرنا هذا كان التخوف من أعمال السحرة والمشعوذين لأنهم يعتمدون في أعمالهم على علم النجوم، ونتيجة لذلك كان سوء الفهم والخلط في معرفة زمن حصول الكسوف أو الخسوف ومدّته ومكانه، وهل هو من علم الغيب أو من علم الحساب؟ فهو من علم الحساب لا علاقة له بعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، والإنسان عدو لما يجهل، قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59]، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد لله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فالناس لما اعتادوا كرّ الجديدين ينسون جدّتهما المتكررة فلا يردعهم مطلع الشمس ولا مغيبها ولا يهزّهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادرًا، ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ لهم من البِلَى والأمراض والآفات والتعطل والبوار والملل والسآمة والهمود، فالله جل جلاله يوقظ العباد من همود الإِلْف والعادة ويلفت نظرهم إلى تدبر الكون من حولهم ومشاهده الهائلة العظيمة وإلى منَّتِه عزَّ وجلَّ بتعاقب الليل والنهار الملائم للتكوين البشري وعدم طولهما عما هما عليه في الفصول الأربعة، مع أن الناس يحنّون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف ويحتاجون إلى فترة الليل لتجديد الطاقة والراحة من عناء النهار، فكيف لو طال عليهم النهار عما هو عليه، فالمؤمن يتفكر في ذلك وغيره ويتدبر قول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 71-73].
فالمسلمون عندما يكون الكسوف والخسوف يفزعون إلى الصلاة اقتداءً برسولهم محمد الذي أبطل عادة الجاهلية واعتقادهم بأنه لا يحصل ذلك إلا لحياة عظيم أو موته؛ حيث كسفت الشمس في عهد النبي في آخر حياته في التاسع والعشرين من شهر شوال في السنة العاشرة من الهجرة في يوم موت ابنه إبراهيم رضي الله عنه، فقام خطيبًا في الناس بعد أن صلى بالناس صلاة الكسوف التي تختلف عن الصلوات المفروضة في زيادة الركوع الثاني في الركعتين والقراءة والطول، فكان مما قاله : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)).
فهكذا يكون المؤمنون من المسلمين حيث يفزعون إلى الصلاة عند هذا وغيره إذا نزل بهم أمرٌ من الأمور كما فعل رسول الله ، وبذلك يزدادون إيمانًا مع إيمانهم، ليس خوفًا من انتهاء العالم والحياة على هذه الأرض كما نُقل عبر الوسائل المختلفة من اعتقاد بعض الفئات الضالة من الكافرين حيث أقدم بعضهم على قتل أولاده وزوجته ثم انتحر هو، أو الذين قاموا ببيع ممتلكاتهم حيث روّج المنجمون ذلك ورسخ في عقولهم وأفئدتهم نهاية العالم كما يقولون أو القيامة حسب اعتقاد المسلمين والتي لا تكون إلا بعد علامات وسطى وكبرى وفي يوم الجمعة وبعد مدةٍ اللهُ يعلمها، أما الفاسقون والمنافقون وضعاف الإيمان من المسلمين فقد تبلَّدَتْ أحاسِيسُهم خاصة لمَّا أُعْطِي الكسوفُ هالةً إعلاميةً قبل حلول وقته وعَمَدَ بعضهم إلى اللهو واللعب والأغاني، وأقلّهم سوءًا من جلس يتابع الفضائيات، واغْتَرُّوا بالغرب وقلَّدوهم حيث عمد كثير منهم إلى إقامة حفلات الأغاني واللهو والعبث في تجمعات عامة منقولة عبر القنوات، وهذا هو الذي يحصل ويُشاهد عبر القنوات من تلك الفئات.
ومن باب الشيء بالشيء يذكر ومن باب القول للمحسن أحسنت فقد أحسن إعلام هذا البلد الطيب بنقل شعائر صلاة الكسوف من الحرم المكي الشريف والمسجد النبوي، وقد أحسنت الجهات التي استقبلت الناس في المراصد المعدة لذلك بإقامة المحاضرات والتوعية وبعدها أقيمت صلاة الكسوف، وكذلك التوعية بأضرار النظر إلى الشمس مباشرة حال الكسوف حيث لا يعلمه كثير من الناس، وإننا لنرجو المزيد من ربط الناس بالله عز وجل وبيان أن ذلك موجود في القرآن والسنة بدلاً من عَزْوِه إلى علم البشر ومخترعاتهم ونسبته إلى علمهم القاصر لكي يزداد الناس إيمانًا وعلمًا ومعرفة بقدرة الله عز وجل وإحكامه لهذا الخلق البديع في هذا الكون الهائل، ولكي يزدادوا تدبرًا وتأملاً وتفكرًا في عظيم مخلوقات الله ويدعوا الناس لذلك حيث دعاهم رب العزة والجلال في كثير من آيات القرآن الكريم بدلاً من الجهل الجاثم على كثير من النفوس والمخيم على كثير من العقول، الجهل الذي استغله المروجون ممن له بصيص من هذا العلم الإلهي الذي علمه الله للناس واستغله المنجمون والسحرة والمشعوذون مع أن ذلك مذكور في القرآن الكريم وفي عبارات دقيقة يجهلها كثير من المسلمين حتى الحساب الشمسي والقمري واعتماد ذلك في العبادات والحياة المعيشية سواء بالنسبة للشمس، أو للقمر الذي هو المعتمد في ثبوت ودخول الشهر وعليه يتم الصيام والحج والمداينة وعدد الأيام والشهور في الكفارات وعدة المرأة عند طلاقها أو وفاة زوجها وهكذا، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189]، وعن الحساب بالقمر قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5]، وعن الحساب بالشمس قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء: 12]، وفي الحساب بهما والأخذ بذلك وردت أيضًا عدة آيات لإثبات الحساب بهما كما قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن: 5]، وكما قال عز وجل: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام: 96].
وإلى جانب هذه الآيات والآيات السابق ذكرها في الخطبة أسوق هذه الآيات ليتدبرها المشتغلون بعلم الفلك من المسلمين ويعلموا أن كل علومهم التي تعلموها موجودة في القرآن الكريم، وعليهم أنْ يَعُوا معانيَها ومقاصدَها من حيث الإفراد والتثنية والجمع بهذه الصفة والإيجاز ودقة التعبير؛ ليعلم المتعالمون مدى جهلهم بالحقائق العلمية المذكورة في القرآن الكريم بأوجز العبارات وأخصرها وأقصرها، وعليهم أن يرجعوا إلى تفسير علماء المسلمين الأولين ليعلموا أن الله قد أنار بصائرهم لمعرفة مدلولات تلك الآيات مع عدم وجود المخترعات الحديثة التي هي الآن موجودة بين أيدي خبراء الفلك والمشتغلين به ولا أقول: علماء الفلك حيث لم يصلوا إلى هذه الدرجة لأنهم مقلّدون ويردّدون عبارات غيرهم ويخطئون ويصيبون في الحسابات، وهذا مشاهد عند إثبات دخول رمضان ونهايته والحج وكيف يكون التباين والاختلاف بينهم عند ولادة القمر وغروبه في أول ليلة من الشهر وهكذا.
قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل: 9]، وقال عز وجل: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17]، وقال جل جلاله: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [المعارج: 40، 41].
فعلى المشتغلين بالحساب أن يتأملوا هذه الألفاظ ومقاصدها من حيث الإفراد لمعرفة جنس المشرق والمغرب للشمس والقمر، والتثنية الدالة على نهاية الطرفين في المشرق والمغرب من الناحيتين الشمالية والجنوبية، والجمع الذي يدل على اختلاف المطالع والمنازل والبروج والتنقل يوميًا في ذلك من أقصى نقطة في الشمال إلى الجنوب والعكس في الشروق والغروب، وليعلم المشتغلون بالحساب وعلم الفلك بأنهم لم يأتوا بجديد من حيث المبدأ والحقائق ومنها ما تمّ ذكره سابقًا دون توسع، وكذلك الحساب القمري المسمّى بالهجري والشمسي المتعارف عليه أنه ميلادي فهو موجود بكل جلاء ووضوح في آية مكونة من سبع كلمات نزلت على رسول الله قبل أكثر من ألف وأربعمائة وأربعين سنة من الآن حيث الآية مكية أي: نزلت قبل هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة النبوية، وقد جاءت في سورة الكهف للإخبار عن المدة التي مكثها الفتية المؤمنون في الكهف حيث لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية أي: ما يعادل ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، أي: أن الحساب الدقيق والفارق الواضح الذي لا يخالجه أي شك وهو المعمول به لدى أهل الحساب بأن كل مائة سنة شمسية ميلادية تعادل مائة وثلاث سنين قمرية هجرية أي: في كل مائة زيادة ثلاث سنين كما جاء في قول الله جل جلاله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف: 25]. فسبحان الله العظيم الذي أتقن كل شيء وهو على كل شيء قدير!
ولا يُفهم من هذا أني أدعو إلى الأخذ بالحساب على إطلاقه، ولكن للتقريب واعتماد الرؤية الشرعية في بداية كل شهر لحاجة المسلمين إليها في عباداتهم مثل الصوم والحج، أما مواقيت الصلاة فهي عن طريق الشمس كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد ، لذلك لا أستطرد في هذا وإنما هو التذكير للجميع بما ورد في شريعتنا الغراء، والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال تعالى: قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101]، وقال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191]، وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21]، رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 1-3]، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88]، وقال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 57، 58].
(1/5588)
زواج زينب بنت جحش وإبطال عادة التبني
سيرة وتاريخ, فقه
السيرة النبوية, النكاح
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
2/5/1408
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زواج زيد من زينب درس في المساواة. 2- قصة تبني رسول الله لزيد قبل الإسلام. 3- تحريم التبني ونسبة زيد لأبيه. 4- أمر الله تعالى نبيَّه بالزواج من زينب بعد طلاق زيد إياها. 5- كلمة في تربية الأيتام وكفالتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد كان لزواج الرسول من أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب شأن عظيم عند الناس منذ حصل إلى يومنا هذا. مع أن حقيقة هذا الزواج وما كان من أمره قد وردت في القرآن الكريم في آيات محكمات واضحة الدلالة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن نظرًا للشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام واستقرت في نفوس بعض المسلمين وجب إيراد الحق على مسامع المسلمين للدفاع عن عرض الرسول محمد.
ففي هذا الزواج ساوى الإسلام بين الحر والعبد، فلم يَعُدِ العبدُ يشعر بعبوديته، ولا الرقيقُ بِرِقِّهِ، وقضى على الخيلاء والكبرياء، إذ إن العرب كانوا ولا زالوا يأنفون من أن يختلطوا بِأَدْعِيَائِهِم اختلاطَ مُصَاهرةٍ أو نَسَبٍ، وفي هذا الزواج قضى الإسلام على عادات من عادات الجاهلية، ومنها التَّبَنِّي وما يترتب عليه، حيث كان الرجل منهم يَتَبَنَّى ولدًا لم يكن من صلبه فيتخذه ابنًا له، ويعطيه حقوقَ البُنُوَّةِ الْمُطْلَقَةِ، فيَرِث ويُورَث، ولا يَتَزَوَّج زوجَتَهُ من بعده، ولا يؤثر أحدًا عليه، فجاء الإسلام العظيم بتغيير وإبطال هذه العادة الجاهلية عادةِ التَّبَنِّي وإن كانت لا تزال في مجتمع المسلمين اليوم وتَجَدَّدَ أَمْرُهَا نسأل الله أن يخلّص منها مَن وقع فيها ويخلص المجتمع منها.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حَسَبًا، وكانت امرأة فيها حِِدَّة، فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36] ، وبعد نزول هذه الآية الكريمة قالت زينب رضي الله عنها للرسول : قد أطعتك فاصنع ما شئت. وهذه الطاعة من كمال محبته الواجبة على كل مؤمن ومؤمنة. فَزَوَّجَهَا زيدَ بْنَ حَارِثَةَ رضي الله عنه الذي دخل بها وهو فَرِحٌ مَسْرُورٌ حيث تَزَوَّجَ الْهَاشِمِيَّةَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، ولكنه أخذ يلقى منها المتاعب، وكانت تُغْلِظُ له في القول وتترفع عليه بشرفها وحسبها حتى عَافَتْهَا نفسُه، وضَجِرَ منها، فذهب إلى الرسول شاكيًا منها وطالبًا موافقة النبي على طلاقها، فقال له الرسول محمد : ((أمسك عليك زوجك واتق الله)) ، قال الرسول هذا وهو يعلم أنه لا بُدَّ له من طلاقها ومفارقتها حيث أوحى الله إليه بذلك وأخبره بنهايتها مع زيد، ومن ثَمَّ سوف يأمر الله نبيَّه محمدًا بالتزوج بها بعد طلاق زيد لها إبطالاً لعادة التَّبنِّي والأمور المتعلقة بها؛ لأن امرأة المُتَبَنَّى في الجاهلية لا يجوز أن يتزوجها الرجل الذي اتخذ زوجها ابنًا له، فحكمه عندهم مثل حكم الولد الحقيقي الشرعي، والرسول محمد قد اتَّخَذَ زيدًا ابنًا له على عادتهم وزَوَّجَهُ من قريبته زينب ثم افترقا، فأمر الله رسوله بتزوج زينب من بعد طلاقها من زيد ليبطل حكم الجاهلية ويؤسس حكم الإسلام، وليكون الرسول محمد هو القدوة في ذلك الأمر المتأصل في النفوس وعظيم الوقع على القلوب مما يقوله المنافقون والمغرضون وأعداء الإسلام.
وقبل التلميح لمعنى الآيات والحكمة من هذا الزواج أورد قصة زيد وتبني الرسول له، وتفضيل زيد للرسول على والده وذويه حين خَيَّرَهُ الرسولُ بين أن يبقى عنده أو يلحق بوالده وأهله.
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن زيدًا كان في أخواله بني مَعْن من بني ثعل من طَيّ، فَأُصِيبَ في نَهْبٍ، وجِيءَ به إلى سوق عكاظ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها، وكانت عمته خديجة بنت خويلد قد أوصته أن يشتري لها غلامًا عربيًا إن وجده، فلما قدم حكيمٌ سوقَ عكاظ وجد زيدًا يُبَاعُ فيها، فأعجبه ظَرْفُهُ وأدبُه فابتاعه أي: اشتراه، وقدم به على عمته خديجة وقال لها: إني ابْتَعْتُ الغلامَ الذي أوصيتني به، فإن أعجبك فخذيه وإلا فدعيه لي فإنه قد أعجبني، فأخذته خديجة، ثم تزوجها الرسول محمد وهو عندها، فأعجب الرسولَ ظرفُه وأدبُه، فاسْتَوْهَبَهَا إِيَّاهُ، قالت: أَهَبُهُ لك على أن الولاء لي إنْ أُعْتِقَ، فأبى الرسول قبوله على هذا، فوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أمسك والولاء له، فَشَبَّ عند الرسول يخدمه ويذهب في حاجته إلى الأسواق، ثم إنه خرج مرة في إبل لأبي طالب بأرض الشام فَمَرَّ بأرض قومه، فعرفه عَمُّهُ فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: مِنْ أَنْفَسِهِمْ؟ قال: لا، قال: فَحُرٌّ أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك، قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال له: أعربي أنت أم عجمي؟ قال: عربي، قال ممن أصلك؟ قال: من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد وُدّ، قال: ويحك! ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل، قال: وأين أصِبت؟ قال: في أخوالي، قال: ومن أخوالك؟ قال: طيّ، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه، وقال: أنت ابن حارثة، ودعا أباه، فقال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال يؤثرني على أهله وولده، فركب معه أبوه وعمه وأخوه وقدموا مكة، فَلَقُوا رسول الله ، فقال له حارثة: يا محمد، أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تَفُكُّونَ العاني وتطعمون الأسير، ابني عندَك فَامْنُنْ علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنه ابن سيد قومه، وإنا لنرفع إليك في الفداء ما أحببت ـ وهذا كان قبل البعثة ـ فقال رسول الله : أعطيكم خيرًا من ذلك، قالوا: وما هو؟ فقال: أُخِيِّره فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكُفُّوا عنه، فقالوا: جزاك الله خيرًا لقد أحسنتَ، فدعاه رسول الله فقال: ((يا زيد، أتعرف هؤلاء؟)) قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي وهذا أخي، فقال : ((هم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم)) ، فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدًا أبدًا، أنت مني بمكان الأب والعم، قال أبوه وعمه: يا زيد، أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل، فلما رأى رسول الله حرصه عليه قال: ((اشهدوا أنه حُرٌّ، وأنه ابني يَرِثُنِي وأَرِثُهُ)) ، فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد على الرسول ، ثم انصرفوا تاركين زيدًا عند الرسول محمد ، ومكث زيد يُدعى زيد بن محمد طوال بقائه مع الرسول حتى نزل قول الله تعالى: ?دْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ [الأحزاب: 5]، فَدُعِيَ زيد بن حارثة.
روى البخاري ومسلم وغيرهما رحمهم الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ?دْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ ، فقال النبي : ((أنت زيد بن حارثة بن شراحيل)) ، قال الله جل جلاله: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 4، 5].
بعد هذا الأمر الإلهي تألَّم قلبُ زيد لهذا النبأ وأحَسَّ بالغربة والوحشة حيث كان ينتسب إلى أكرم مخلوق وأشرف مبعوث وأحسب العرب وأعلاهم نسبًا، إذا به يؤمر بأن يرجع إلى نسبه الأول، فما كان محمد أبا أحدٍ من الرجال ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، فلما علم الرسول بحالة زيد النفسية زوّجه ابنة عمته الشريفة الحسيبة ليجبر خاطره وليعلم الناس أن الكفاءة للزواج إنما هي التقوى، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات: 13] ، ولكن الله تعالى أعلم رسوله بالأمر، وأنه سيبطل عادة التبني وسيكون الرسول هو الْمُنَفِّذ لهذا الأمر وأن زيدًا سوف يطلّق زوجته زينب بنت جحش وأن الرسول سيتزوجها من بعده، ولكن رسول الله تردّد في هذا الأمر وعَظُمَ عليه وقْعُهُ، فاحتفظ به لنفسه وخشي من إرجاف المنافقين واليهود والمشركين عامة وأنهم سيقولون: تزوج محمد زوجة ابنه بعد نهيه عن حلائل الأبناء، مع أن الله تعالى بين في آية التحريم أنه الابن من الصلب لِيُحْتَرَزَ من الابن الدَّعِيِّ، قال تعالى: وَحَلَـ?ئِلُ أَبْنَائِكُمُ ?لَّذِينَ مِنْ أَصْلَـ?بِكُمْ [النساء: 23]، ثم أنزل الله على نبيه قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة وبين أن الله هو الذي تولى تزويجها له من فوق سبع سماوات، وأن سبب ذلك لئلا يكون على أي مؤمن حرج متى أراد الزواج من زوجة ابنه الدعي بعد أن يطلقها، وأن هذا الأمر قد قدره الله تعالى فهو كائن لا محالة، ثم أعقب ذلك بآيات واضحات بأنه ليس على رسول الله حرج فيما فرض الله له، وهذه سنة الله في الأنبياء قبله من حيث أنواع الابتلاء والامتحان، وعليه أن يبلغ الرسالة ولا يخشى أحدًا إلا الله تعالى. ثم بين عز وجل بأن الرسول محمدًا ليس أبًا لأحد من الرجال ولكن رسول الله وخاتم النبيين.
ولنتأمل هذه الآيات التي توضح زواج زينب رضي الله عنها من زيد وفراقهما وزواجها من رسول الله والسبب في ذلك والنتائج، كان هذا في آيات متتاليات ما عدا النهي عن دعوة الموالي ونسبتهم لغير آبائهم فكانت في بداية سورة الأحزاب، نهي لجميع المسلمين عن ذلك مع أنه ورد التأكيد على المنع والنهي في آخر آية من الآيات التالي ذكرها من السورة نفسها بذكر رسول الله في هذا الموقف لمناسبة الآيات وترابطها من جميع الوجوه، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ?تَّقِ ?للَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ?للَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ?لنَّاسَ وَ?للَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـ?هُ فَلَمَّا قَضَى? زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـ?كَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ ?للَّهِ مَفْعُولاً مَّا كَانَ عَلَى ?لنَّبِىّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ?للَّهُ لَهُ سُنَّةَ ?للَّهِ فِى ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ?للَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيبًا مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ وَكَانَ ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمًا [الأحزاب: 36-40].
روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. وذلك أن الله تعالى أوحى إليه بأن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر، وقد بين الله الحكمة من ذلك في هذه الآيات وفي آيات أُخرى.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله لزيد بن حارثة: ((اذهب فاذكرها علي)) ، فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول: إن رسول الله ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب، أبشري أرسلني رسول الله يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أُؤَامِرَ ربي عز وجل، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن. رواه مسلم.
قال أنس رضي الله عنه: ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله وأطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويَقُلْنَ: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أ ُ خْبِرَ، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب وَوُعِظَ القومُ بما وُعِظُوا به.
قال تعالى: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ?لنَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى? طَعَامٍ غَيْرَ نَـ?ظِرِينَ إِنَـ?هُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَ?دْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَ?نْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ?لنَّبِىّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَ?للَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ?لْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عًا فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ?للَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذ?لِكُمْ كَانَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمًا إِن تُبْدُواْ شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمًا [الأحزاب: 53، 54].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمما سبق عَلِمْنَا أن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله ما كان يُدْعَى إلا زيد بن محمد حتى نزول قول الله تعالى: ?دْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ?للَّهِ [الأحزاب: 5]، وقد كانوا يعاملون المتبنى معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم والميراث وغير ذلك، فلما أبطل الله هذه العادة والحكم الجاهلي بالتحريم أباح الزواج من زوجة الدَّعِيِّ لأي شخص من المسلمين، أما بالنسبة للنبي محمد فلم يَكُنْ هذا النوع من الزواج مجرد إباحة فقط، بل هو إِلْزَامٌ وفَرْضٌ من الله جلَّ جلالُه وَبِوَحْيٍ منه سبحانه في قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة، أَمْرٌ وفَرْضٌ على النبي محمد بالزواج من زينب بنت جحش رضي الله عنها مُطَلَّقَةِ زيد بن حارثة رضي الله عنه بعد أن قضى زيد منها وطرًا؛ ليبين للأمة عدم الحرج في الزواج من زوجة الدَّعِيِّ، وكان التطبيق العملي لإبطال التبني مع الزواج أيضًا من زوجة الْمُتَبَنَّى وإبطال المفاخرة بالأنساب مما كان من زواج الهاشمية القرشية للمولى، وبعد طلاقها تزوجت بأرفع الناس مكانة وحسبًا ونسبًا وأكرمهم خُلُقًا ودِينًا، كان ذلك التطبيق على شخص رسول الله بالرغم من وقعه الأليم والحرج الشديد ونظرته الثاقبة لما سوف يتعرض له في قادم الأيام من أول ساعة لحصوله إلى أن تقوم الساعة، حيث إثارة المنافقين وأعداء الإسلام للتشكيك في مسار هذا الزواج والنيل من عرض رسول الله مع أن جميع خطواته من إبطال التبني وتحريم انتساب معلوم النسب لغير أبيه وزواج زينب من زيد ومفارقته لها وتزويجها لرسول الله والامتحان الصعب له مع التأكيد بأنه ليس أبًا لأحد من الرجال ولكنه خاتم الأنبياء والمرسلين، كل هذه المراحل والخطوات جاءت في القرآن الكريم في آيات واضحات الدلالة مع ذكر الأسماء في المكان المناسب في سورة الأحزاب وفي الأحاديث الصحيحة.
هذا التشكيك والحملة الشرسة في ذلك الزواج كان الرد عليه في آيات محكمة، مع أن نهاية الآية التي توضح السبب من وراء ذلك الزواج كان فيها الجواب الشافي الوافي الكافي الذي يَرُدُّ على أيِّ شبهة تدور في ذهن وعقل أي شخص وتُسْكِتُ أَيَّ مُشَكِّكٍ وتُخْرِسُ لسانَه وتَنْسِفُ تَشْكِيكَهُ وشُبْهَتَهُ، وأذكر الآيات لتطمئنَّ النفوسُ المؤمنةُ وترتاح بكلام الله العليم الحكيم، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ?تَّقِ ?للَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ?للَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ?لنَّاسَ وَ?للَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـ?هُ فَلَمَّا قَضَى? زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـ?كَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ ?للَّهِ مَفْعُولاً مَّا كَانَ عَلَى ?لنَّبِىّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ?للَّهُ لَهُ سُنَّةَ ?للَّهِ فِى ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ?للَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ?لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـ?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيبًا مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ وَكَانَ ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمًا [الأحزاب: 36-40].
وقد رفع الله الحرج عن المؤمنين عندما يريدون الزواج من زوجة الدعي، ونبه على ذلك بقوله جل وعلا: زَوَّجْنَـ?كَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب: 37] ، كما نبه تعالى في آية تحريم حلائل الأبناء بأن الابن هو الذي من صلب الرجل احترازًا من الابن الدعي، قال تعالى: وَحَلَـ?ئِلُ أَبْنَائِكُمُ ?لَّذِينَ مِنْ أَصْلَـ?بِكُمْ [النساء: 23].
ونسمع الآن أن بعض المسلمين يأخذ أحدُهم أولادَ غيرِهِ ذكورًا أو إناثًا ويربيهم وينسبهم إليه، أو يلتقط لقيطًا من أولاد الزنا أو يأخذهم من دور الرعاية الاجتماعية ويقوم على تربيتهم وينسبهم لنفسه ويعتبرهم أولاده، وهذا منكر عظيم من حيث الانتساب إليه واعتبار الولد الدّعيّ ولدًا له سواء كان ذكرًا أو أنثى؛ لأن ذلك يترتب عليه أحكام شرعية، وهذا لا يجوز قطعًا، وعلى من وقع فيه أن يتوبَ إلى الله ويُخَلِّصَ نفسه منه ويحذر غيره من الوقوع في مثل ذلك، أما من ناحية أَخْذِهِمْ وتربيتهم والإحسان إليهم من غير انتساب إلى الشخص بل معاملتهم مثل الأجانب من غير المحارم فهذا لا بأس به، بل جاء الترغيب في كفالة الأيتام في القرآن والسنة، وهذا يحتاج لخطبة كاملة، ويكفينا هنا الحديث الذي قال فيه رسول الله : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) ، مع الأخذ في الاعتبار معرفة وعلم وتطبيق حدود الله في ذلك وعدم تجاوزها من حيث الخلوة بالمحارم إن كان ذَكَرًا؛ لأنه ليس محرمًا لقريبات هذا الذي قام بتربيته إلا إن كان هناك رضاع في الحولين خمس رضعات فأكثر، وكذلك الأنثى ليس الرجلُ المحسنُ لليتيمة ولا أبناؤُهُ مَحَارِمَ لَهَا إلاَّ بالرضاع الْمُحَرِّمِ، وهذا الرضاع المحرم لا يكون إلا لأبنائه فقط، إلا إن كان اليتيم من أقارب الرجل أو المرأة ففارق المحرمية للجميع معروف لا إشكال فيه، وكذا الميراث والزواج وغير ذلك من الأمور وخاصة في الأدعياء، وعلى من علم أنه ينتسب إلى غير أبيه أن يبادر بالتوبة النصوح ويتخلى عن ذلك، فقد ورد في الحديث المتفق عليه عن رسول الله قوله: ((ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر)) ، قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْو?هِكُمْ وَ?للَّهُ يَقُولُ ?لْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ?لسَّبِيلَ ?دْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ?للَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءابَاءهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى ?لدّينِ وَمَو?لِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـ?كِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 4، 5]. ويجب معرفة الفرق بين كفالة الأيتام عمومًا والإحسان إليهم وبين التَّبَنِّي وانتساب الْمُتَبَنَّى للشخص، وقد كررت هذا حتى لا يُفْهَمَ أو يُنْقَلَ عني خلافُ ما أقصده، وفي هذا التوضيح كفاية لمن التبس عليه الأمر، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله.
(1/5589)
حادثة الإفك
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القصص
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
24/6/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة حادثة الإفك. 2- عفو الصديق عن مسطح بن أثاثة. 3- كيفية التعامل مع الإشاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فجدير بكل مسلم أن يعيش مع القرآن وتفسيره وأسباب نزوله ومع أحاديث رسول الله ، ويسترشد بهما ويتبعهما ويبتعد عما ورد النهي عنه في أحدهما، وإن المؤمن ليجد الأُنْسَ والطمأنينة والراحة عندما يتلو آيات الله أو تتلى عليه ويرى حال بعض الناس من المنافقين والفاسقين في ذلك الزمان ينطبق مع حال أتباعهم وأشباههم إلى أن تقوم الساعة، كيف لا والقرآن الكريم كلام العزيز الرحيم الذي خلق البشر وهو أعلم بهم وبما يصلحهم؟! سبحانه لا إله إلا هو العزيز الغفور.
وأورد حادثة الإفك على عائشة أم المؤمنين كما قالت رضي الله عنها، والتي كانت بعد غزوة بني المصطلق أو ما تسمى في بعض الروايات غزوة المريسيع؛ لكي يستفيد منها كل مسلم دروسًا عظيمة ويعلم أن البلايا والمحن وأنواع الاختبار والامتحان نزلت بأشرف وأطهر منه، فلا عليه إن نزل به شيء من ذلك إلا مقابلته بالصبر والاحتساب لينال الأجر في الدنيا والآخرة.
عن عروة بن الزبير رضي الله عنه وعن أبويه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي قالت: كان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيّتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه، قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله بعدما نَزَِلَ الحجابُ، فكنت أُحْمَلُ في هَوْدَجِي وأُنْزَلُ فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودَنَوْنَا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عِقْدٌ لي من جَزَع ظَفَارٍ قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. قالت: وأقبل الرَّهْطُ الذين كانوا يرحلُون لي، فاحتملوا هَوْدَجِي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إِذْ ذاك خِفَافًا لم يهبلْنَ ولم يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إنما يأكلن العُلْقَةَ من الطعام، فلم يستنكرِ القومُ خِفَّةَ الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمتُ، وكان صفوان بن الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثم الذكوانِيُّ من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فَخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي، وَوَاللهِ ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وَهَوَى حتى أَنَاخَ راحلته، فَوَطِئَ على يَدَيْهَا، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش مُوغِرِينَ في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أُبِيِّ بن سَلُولٍ، قال عروة: أ ُ خْبِرْتُ أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره ويستمعه ويستوشيه. فقال عروة أيضًا: لم يُسَمَّ من أهل الإفك إلاّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى، وإنَّ كِبْرَ ذلك يقال له: عبد الله بن أبيّ بن سلول. قال عروة: كانت عائشة تكره أن يُسَبَّ عندها حسان وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء قالت عائشة رضي الله عنها: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يُفِيضُون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله فَيُسَلِّمُ، ثم يقول: ((كَيْفَ تِيكُمْ؟)) ثم ينصرف، فذاك الذي يَرِيبُنِي ولا أشعر بالشَّرِّ حتى خرجتُ بعدما نَقهْتُ، فخرجتْ معي أمُّ مِسْطَح قِبَلَ المنَاصِع، وهو مُتَبَرَّزُنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الْكُنُفَ قريبًا من بيوتنا، وأَمْرُنا أمرُ العرب الأُوَل في التَّبَرُّزِ قِبَلَ الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أُثَاثَة بن عبَّاد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مِرْطِهَا فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قُلْتِ! أَتَسُبِّينَ رجلاً شهد بدرًا؟! فقالت: أَيْ هَنْتَاه، أَوَلَمْ تسمعي ما قال؟! قالت: وقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فَازْدَدْتُ مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليَّ رسول الله فَسَلّمَ ثم قال: ((كيف تيكم؟)) ، فقلت له: أتأذن لي أن آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أنْ أَسْتَيْقِنَ الخبرَ مِنْ قِ بَلِهِمَا، قالت: فأذن لي رسول الله ، فجئت أبويَّ فقلت لأمي: يا أمَّتَاه، ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بُنَيَّة، هوِّني عليك، فوالله لَقَلَّمَا كانت امرأةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثَّرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين اسْتَلْبَثَ الوحيُ يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الْوُدِّ، فقال: يا رسول الله، هم أَهْلُكَ ولا نعلم إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يُضَيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وإنْ تَسْأَلِ الجاريةَ تَصْدُقْكَ، قالت: فدعا رسول الله بَرِيرَةَ فقال: ((أَيْ بريرة، هل رأيت من شيء يَرِيبُكِ؟)) قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إِنْ رأيت عليها أمرًا قط أغمصه عليها أكثرَ من أنها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ تنام عن عجين أهلها فتأتي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، قالت: فقام رسول الله من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول، قالت: فقال رسول الله وهو على المنبر : ((يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)) ، قالت: فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه مِنْ فَخِذِهِ، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لَنَقْتُلَنَّهُ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فتثاور الْحَيَّانِ الأَوْسُ والْخَزْرَجُ حتى هَمُّوا أن يَقْتَتِلُوا ورسول الله قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله يخفِّضهم حتى سكتوا وسكت، قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أَبَوَايَ عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع وأبوايَ يَظُنَّانِ أن البكاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنتْ عليَّ امرأةٌ من الأنصار فأذنتُ لها، فجلستْ تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله حين جلس، ثم قال: ((أما بعد: يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه)) ، قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قَلَصَ دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله عني فيما قال، فقال أبي: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله فيما قال، قالت أمي: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرَّ في أنفسكم وصَدَّقْتُمْ به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لَتُصَدِّقُنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ?للَّهُ ?لْمُسْتَعَانُ عَلَى? مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] ، قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم حينئذٍ أني بريئة وأن الله مُبَرِّئِي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله مُنْزِلٌ في شأني وَحْيًا يتلى، وَلَشَأْنِي في نفسي كان أَحْقَرَ من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتْلَى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا، قالت: فوالله، ما رَامَ رسولُ الله مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنْزِلَ عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاءِ، حتى إنه لَيَتَحَدَّرُ منه مثلُ الْجُمَانِ من العَرَقِ، وهو في يومٍ شاتٍ؛ من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فَسُرِّيَ عن رسول الله وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: ((يا عائشةُ، أما اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فقد بَرَّأَكِ)) ، قالت : فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، فأنزل الله: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله، لا أُنْفِقُ على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور: 22] ، قال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فَرَجَعَ إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: ((يا زينب، ماذا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟)) فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تُسَامِينِي من أزواج رسول الله ، فعصمها الله بالورع، وطَفِقَتْ أختُها حَمْنَةُ تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط. ثم قال عروة: قالت عائشة: والله، إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله! فَوَالَّذِي نفسي بيده ما كشفتُ من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله لحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذه القصة العجيبة والحادثة الأليمة التي تحمل في طَيَّاتِهَا من الدروس والعبر والعظات الشيء الكثير، والتي نزلت ونزل وقعها الأليم على أشرف خلق الله محمد رسول الله وعلى زوجته الطاهرة أم المؤمنين عائشة وعلى أبويها أبي بكر الصديق وزوجته رضي الله عنهم أجمعين، والتي واجهوها بالصبر القوي الذي ألهمهم الله إياه وثَبَّتَهُمْ عليه عندما نزل بهم جميعًا هذا الابتلاء والامتحان والاختبار الذي يعتبر نِبْرَاسًا للأمة المسلمة، لكي يستفيدوا منه دروسًا عملية في حياتهم ومستقبل أيامهم، ليستلهموا منه العبر والعظات والتوجيهات وتسديد الآراء الصائبة.
إن من التعليمات التي وجهها الله تبارك وتعالى إلى المسلمين ـ وذلك في ضمن الآيات التي نزلت فيها براءة عائشة رضي الله عنها مما قال عليها المفترون ـ أن لاَّ يقبلوا من كل أحد قوله بدون رَوِيَّةٍ وتَثَبُّتٍ إذا كان يرمي غيره بما لا يرونه فيه، وعليهم أن لاَّ يُشِيعُوه في المجتمع، بل من واجبهم إذا وجدوا أن قد فشت في المجتمع مثل هذه الافتراءات والاتهامات الكاذبة أن يعملوا على كَبْتِهَا ويَحُولُوا دون شيوعها ويجتنبوا تناقلها بينهم. وإن الذين يُلَفِّقُونَ الأخبار الفاحشة ويذيعونها أو يحاولون أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم ويحاولون إِلْصَاقَ التُّهَمِ بالمؤمنين والمؤمنات ويرمونهم بما ليس فيهم إنهم لا يستحقون الحماية والتشجيع، بل يستحقون العقاب وإقامة الحدِّ على كل فرد منهم حتى يرتدع ويطهر لسانه وسمعه وبصره عن قَالَةِ السوء وقذف الغافلين من المؤمنين والمؤمنات، وليرتدع غيرهم من المخدوعين بهذه المقالات السيئة إن كان مؤمنًا ويكون تطهيرًا له، وإن كان منافقًا يقام عليه الحد كذلك من أجل أن يُكْبَتَ ويُخْرَسَ لِسَانُهُ، ولئلا تُسَوِّلَ له نفسُه إشاعةَ الفاحشةِ واتهامَ الأبرياء مرة أخرى، وليعلم أن هذا عقابه في الدنيا ما دام على هذه الحال، وفي الآخرة عذاب عظيم.
أما المؤمنون فيجب أن يَظُنُّوا بأنفسهم خيرًا، ولا يعتمدوا على سوء الظن وقالة السوء التي تنتشر في المجتمع بسبب منافق أو منافقة، إذا هم سمعوا عن ذلك يجب عليهم أن يُطَهِّرُوا أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم من هذا البهتان على المؤمنين والمؤمنات، وإن كانت التهمة تلحق بأحد منهم فليصبروا وليحتسبوا جزاء صبرهم عند الله، ثم إن كانت لديهم البينة على من أشاع ذلك فليطلبوا إقامة الحد الشرعي على ظهور أولئك المنافقين أو المخدوعين من المسلمين.
وإلى خطبة أخرى نتحدث فيها عن بعض ما ورد في أول سورة النور، وعلينا أن نتأمل الحادثة المؤلمة ووقعها الشديد من خلال هذه الآيات العظيمة في قول الله جل جلاله وتعالى سلطانه: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: 11-36].
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5590)
غزة تحتضر
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
3/1/1429
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السجن الكبير. 2- ضرب الحصار على غزة. 3- تدهور الأوضاع الصحية والاقتصادية والتعليمية في قطاع غزة. 4- غياب المجتمع الدولي. 5- واجب المسلمين تجاه الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أتحدّث إليكم اليوم لئلا يظنّ ظانّ أننا نسينا مع همومنا ورفع أسعارنا حقَّ الأخوة بيننا، وأننا تجاهلنا أننا أمة واحدة وجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. أتحدّث إليكم لئلا يظنّ أعداء الدين أننا بسبب انشغالنا بحضارتهم وافتتاننا بتقنيتهم اقتقدنا وهجرنا أخلاقنا التي تأبى الظلم وتأنف من الذل والهوان وتقول للموت إن قدم في سبيل العز والحق: أهلاً ومرحبًا، فما هي إلا نفس واحدة وليس ثمة إلا موتة واحدة، فإما أن نموت شرفاء، أو أن نموت أذلاء.
أيها المسلمون، سجنٌ كبير يحاصَر فيه مليون ونصف مليون مسلم بسبب أنهم اختاروا الاسلام نظامًا، وقالوا للكفر وأعوانه: تبًا وسحقًا وانهزاما. أعرفتم ذلكم السجن الكبير الذي يواجه أهله هذه الأيام الإبادة الجماعية؟ إنه ـ أيها الكرام ـ قطاع غزة.
عباد الله، أستأذنكم في هذه الدقائق بعرض موجَز للحال الذي وصل إليه قطاع غزة جرّاءَ ظلم العدو وصمت الصديق؛ لعل قلبًا يدّكر، ولعل نفسًا تنزجر.
منذ قيام الصهاينة بفرض الحصار الشامل على قطاع غزة والوضع الصحي هناك في تدهور وانحدار، فها هم المرضى الذين يعانون من أمراض خطيرة ويعجز الطب في قطاع غزة عن علاجهم، ينتظرون الموت في كل لحظة، وقد وصل عددهم إلى ألف وخمسمائة حالة مرضية تستلزم العلاج العاجل، وقد فارق الحياة من المرضى حتى الآن أكثر من أربعة وستين مريضا، جعلهم الله في عداد الشهداء. ولقد أعلنت وزارة الصحة هناك عن نفاد أكثر من 80 صنفًا من الأدوية، وهناك أكثر من 100 صنف على وشك النفاد من المستشفيات والمستودعات.
وهاكم نموذجًا لأثر الحصار على المرضى: في الخامسة عشر ربيعًا أضحت جثة هامدة لا تقوى على شيء، ما زالت في ريعان شبابها لكنها ليست كغيرها من الفتيات اللاتي يمرحن ويلعبن، منذ ثلاث سنوات وهي تعاني من مرض السكري وتحتاج لفحوصات لا توجد إلا في الخارج، لكن الحصار لم يرحمها وزاد من معاناتها، وقتل حلم علاجها بالخارج، وأرقدها بالمستشفى في انتظار الموت بلا رحمة، ومثل هذه الطفلة يعيش آلاف المرضى في قطاع غزة، فهل يا ترى ستوقظ آهات المرضى وعذاباتهم الضمير العالمي من سباته العميق؟! وهل ستحيي دمعات المرضى واستغاثاتهم آذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا؟!
أيها المسلمون، كل المصانع في قطاع غزة والمصانع الغذائية على وجه الخصوص متوقفة عن العمل، وهناك أكثر من ثلاثة آلاف مصنع ومؤسّسة اقتصادية مغلقة بالكامل، وبتوقف تلك المصانع والمؤسسات فقد قرابة خمسة وستين ألف عامل وظائفهم، ومن بقي منهم على رأس العمل لا تنتظم رواتبه بسبب حالة الإفلاس التي يتعرضون لها.
ومن المصانع ـ عباد الله ـ إلى قطاع الزراعة الذي أضحى 80 في المائة من محصوله معرّضًا للتلف بسبب الحصار وإغلاق المعابر وقلة السيولة النقدية لدى عامة الشعب. إن المُزارع في قطاع غزة يصبح ويمسي وهو ينظر إلى محصوله الذي زرعه وسقاه وعمل عليه منذ أن تطلع الشمس إلى أن تغيب نظرة ألم وحزن؛ لأنه لا يستطيع أن يبيع منه أكثر من 20 في المائة فقط، والباقي يفسد أمامه وبين يديه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، لا شك أنكم تألمتم من الزيادة الباهظة في أسعاركم مع أنكم بحمد الله تنعمون بالأمن والأمان، ويتقاضى الكثير منكم ما يسدّ به حاجته، لكن يا ترى ما حال إخوانكم هناك مع غلاء الأسعار؟! وهل تمكّنوا من الفرح بالعيد وشراء الأضحية وإدخال السرور على أولادهم في ظل الحصار وتوقف الرواتب وعدم صرفها لهم؟!
أُم تيسير إحدى نساء فلسطين تعيش منذ 7 سنوات في قطاع غزة على المعونات الإنسانية، وبعد الحصار وإغلاق المعابر لم تجد لا كوبونات ولا طرودًا غذائية من الجمعيات الخيرية، تقول: اضطررت إلى بيع أقراط بناتي حتى أتمكن من توفير الطعام للأسرة؛ لأننا منذ أكثر من شهرين لم نأكل لا لحمًا ولا دجاجًا.
عباد الله، لقد بلغ معدّل البطالة في قطاع غزة 80 في المائة، وأكثر من 90 في المائة من الأسر هناك تعيش تحت خط الفقر، 42 في المائة منهم يعيشون في فقر مدقع، وأصبح قطاع غزة مدينة اأشباح خاوية من كل شيء يبعث على الحياة والأمل.
أيها المسلمون، إن نقص الأدوية وقلة المخزون الغذائي وارتفاع الأسعار يتزامن مع حصار من نوع آخر، ألا وهو حصار العلم والمعرفة الذي لا يقل خطرًا وضررًا على المدى البعيد عن أثر الحصار الاقتصادي والمعيشي، فلقد منعت سلطات الاحتلال أكثر من 3 آلاف طالب وطالبة من السفر للالتحاق بالمدارس والجامعات خارج قطاع غزة حتى لا يعودوا خبراء ومختصين وقادرين على إدارة شؤون بلادهم.
عباد الله، بعدما اعتصرت آلام الحصار وإغلاق المعابر في قطاع غزة حياة الأحياء من المدنيين وسلبت المرضى أرواحهم في ظل منعهم من تلقي العلاج في الخارج، لاحق الألم الموتى في قبورهم بسبب منع سلطات الاحتلال دخول المواد اللازمة لبناء القبور، ويواجه سكان قطاع غزة معاناة شديدة لتوفير مواد البناء اللازمة لتشييد القبور لموتاهم بعدما نفدت هذه المواد من الأسواق. ولقد أشارت وزارة الأوقاف هناك أنها قامت ببناء 1000 قبر هذا العام، ولم يتبق إلا القليل من هذه القبور الشاغرة، ولا تكفي لنهاية الشهر الحالي، محذرة من كارثة إنسانية تحلّ بالموتى في حال استمرار إغلاق المعابر ومنع دخول مواد البناء.
أيها المسلمون، إن الحصار الحالي لقطاع غزة لم تشهده الأراضي الفلسطينية من قبل، ولقد طال هذا الحصار كلّ شيء حتى الحجر والشجر، بل حتى الأسماك حيل بينها وبين مسلم في غزة لتكون له قوتًا أو تحول بينه وبين الموتى جوعًا.
ووالله وبالله وتالله، لو حدث ربع أو عشر ما يحدث في غزة في أي مكان أو دولة في العالم يقطنها غير مسلمين لاعتبرت هذه الدولة وذلك المكان منطقة ودولة منكوبة تغاث من كل العالم وتمدّ بكافة الاحتياجات الإنسانية، ولا أدري والله كيف يحكم على مليون ونصف مليون مواطن في غزة بالإعدام ولا يحرك العالم ساكنا! أين العدل؟! وأين الانصاف؟! أين هيئات حقوق الإنسان؟! أين مجلس أمنهم؟! وأين هيئة أممهم؟! بل أين أنتم أيها المسلمون؟!
يا أهل الجزيرة، ويا أحفاد الصحابة، إني أناشدكم باسم الإيمان وأدعوكم باسم الإسلام وأستصرخكم بأخلاقكم الأصيلة التي تأبى الظلم والضيم أن تقدّموا ما تجود به أنفسكم لإخوانكم في غزة المحاصرة. تذكروا ـ أيها الكرام ـ وأنتم تنعمون وتمروحون بين أهليكم وأموالكم، تذكروا بكاء اليتامى وصراخ الثكالى وأنين الأرامل والأيامي، تذكروا أننا جسد واحد وإن فرَّقَتنا الحدود وحالت بيننا وبينهم السدود.
يا مسلمون، سينقشع الحصار طال أو قصر عن غزة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل سيخلدنا التاريخ وتذكرنا الأجيال القادمة مع الشرفاء أم مع غيرهم؟! هل ستبقي أسماؤنا وآثارنا خالدة كما خلّد التاريخ أسماء الخمسة الذي نقضوا صحيفة الحصار عن نبيكم ؟! فإن هيّج ذلك المروءة في نفوسكم فاعلموا بالأحرى ومن باب أولى أنه ليس من عذر لأحد اليوم يرى حرماته ومقدساته تنتهك ويرى أطفالاً يقتلون ونساءً يرملون وشيوخًا يعتقلون ثم لا ينتصر لإخوانه ولا يحزن لمصابهم، فقدموا ـ عباد الله ـ لأنفسكم معذرة عند ربكم.
يا مسلمون،
من أين يهنؤنا عيش وعافية وفي فلسطين آلام تعاينها
و الله لو كان فينا مثل معتصم لعبأ الجيش يرعاه ويَحميها
ولو رآنا صلاح الدين في خور لَجرد السيف يفري من يعاديها
بشراك يا أيها الأقصى بموعدة قد قالها المصطفى والله مجريها
لن تستمر يهود في غوايتها وسوف يَجتث قاصيها ودانيها
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ولا عدوان إلا على الظالمين.
عباد الله، إن بلوى نكبة فلسطين وتكرار ذكرها ينبغي أن يكون دافعًا لنا لا محبطًا، محرِّكًا للجهود لا جالبًا لليأس من النصر، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
أيها المسلمون، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقدّم شيئًا، نستطيع أن نتحدّث بهذه القضية في كل مجلس وبكل لسان، وأن نعرّف بها لنجلو الغشاوة ونحرك القلوب وندفع الآخرين للعمل. مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقتطع من أموالنا وقوتنا اليسير للتبرع لإخواننا وسدّ حاجتهم وفقرهم. ومع ضعفنا ـ عباد الله ـ نستطيع أن ندعو لإخواننا بالنصر والتمكين، وندعو على عدوهم بالهزيمة والعذاب والخسران.
(1/5591)
صبرا أهل غزة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
10/1/1429
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سوء الأوضاع في قطاع عزة. 2- التذكير بالأخوة الإيمانية. 3- آثار الحصار. 4- نشاطات الجمعيات اليهودية والنصرانية. 5- بشائر نبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: في مثل هذه الأيام الباردة الشاتية تخيّل نفسك مع أمك وأبيك وزوجتك وأولادك في ليلة مطيرة وأنتم جميعا في منزل تهدّمت أبوابه وتكسّرت نوافذه وانقطع عنكم الماء والكهرباء، أطفالك يصرخون من الجوع والبرد، وزوجتك الحُبلى يُقطّعها الألم ولا تستطيع شراء الدواء لها، ووالداك شيخان كبيران قد شحبت وجوههما ورقّ عظمهما وزاد مرضهما وعناؤهما، تخيّل نفسك في هذه الحال ولا مال لديك لشراء الغذاء والدواء، وإذا ضاقت بك الحيلة لطلب العلاج خرجت بوالديك وأطفالك مشيًا على الأقدام في هذا البرد القارص، مشيت إلى المستشفى فإذا به خواء ليس فيه إلا الأنين والصراخ، فعشرات المرضى قد سبقوك بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وهم ينتظرون ولكن لا دواء ولا أجهزة؛ لأن الكهرباء مقطوعة.
إخواني، إن هذه المأساة التي أعرضها لكم ليست من نسج الخيال، إنما هي حقيقة يعانيها إخواننا المحاصرون في غزة. إن عرض هذه المأساة ليست تقريرا إخباريا، ولكنّه تذكير بالواجب الذي تقتضيه الأخوة الإسلامية من النُصرة، يقول الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، ويقول جل شأنه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، وقال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) ، ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
إن عرض هذه المأساة تذكير لنا بنعمة الأمن التي نعيشها، إن عرض هذه المأساة تذكير لنا بأن الغفلة واللامبالاة بما يحل بالمسلمين من نكبات قد تؤدّي لحلول العقوبة بالغافلين اللاهين الذين لا تتمعّر وجوههم ولا تتألم نفوسهم لِمَا يحُلّ بإخوانهم.
بلغ عدد الموتى بسبب هذا الحصار المائة، وجُلّهم من المرضى والأطفال. إن إسرائيل تتحكّم بـ80 في المائة من كهرباء غزة، وبـ100 في المائة من المياه، وبـ70 في المائة من الوقود.
يا إخوان، إن الذي يجري في غزة ليس حصارا، إنما هو حرب إبادة لشعب اختار العيش بكرامة، إنه عقاب جماعي لشعب اختار الإسلام حلا وحاكما.
أيها المسلمون، في غزة أكثر من مليون وخمسمائة ألف مسلم يواجهون الإبادة الجماعية، لماذا؟ لأنهم أرادوا الإسلام نظاما يحكمهم، لأنهم لم ينتخبوا نظاما علمانيا، لأنهم أرادوا أن يعيشوا أحرارا كرماء، لأنهم وقفوا في وجه المحتل وقالوا في عزة وإباء: سنقاتلكم أيها اليهود، بكل نطفة في أصلاب الرجال، وبكل جنين في أرحام النساء، وبكل نسمة في الهواء، وبكل قطرة ماء وذرة هواء.
معاشر المسلمين، إن إخوانكم في غزة يعيشون مأساة حقيقية، انظروا ماذا حل بالناس يوم ارتفعت الأسعار، انظروا كيف ضجر الجميع عندما انهارت الأسهم، تأملوا كيف يصيب الناس الخوف، كيف يتأففون عندما تتأثّر وتتكدّر معايشهم وأرزاقهم، فكيف بمن حياته كلها كدر؟! دخوله كدر، وخروجه كدر، ونومه كدر، وقيامه كدر، يرى البؤس والشقاء في أعين أطفاله وفي عظام أبيه وأمه.
أحبتي في الله، إغلاق 4000 مصنع و3000 متجر عن العمل يصيب الحياة بالشلل، لم يعد هناك نشاط يسمى تجاريا إلا بالمبادلة اليدوية، تُعطيه زيتونا ويعطيك زيتا، تعطيه دقيقا ويعطيك بيضا، عادت الحياة إلى نمط بدائي بحت.
إخواني، المياه في قطاع غزة تنذر بكارثة بيئية، فنسبة الملُوحَة التي يتحملها الإنسان العادي من أجل سلامة الكلى لا تتعدى نسبةً في المائة، ونسبة الأملاح في المياه الملوثة فوق ذلك بكثير، ولا خيار لهم. أكثر من 70 في المائة من الأسر يعيشون تحت خط الفقر، فأين منظمات حقوق الإنسان التي تجوب مجاهل إفريقيا وتتكلم عن الفقر والمجاعة؟! اليوم البؤس والمجاعة موجودة في فلسطين بجوار إسرائيل التي تدّعي الديمقراطية ويقول الغرب: إنها نموذج الديمقراطية الذي يجب أن يحتذَى! فأين هذه الديمقراطية يوم أن اختار فلسطينيون حكم الإسلام؟!
يا إخوان، أكثر من 65 ألف شاب سُرحوا وأبعدوا عن وظائفهم؛ لا توجد مواد خام تُشغل المصانع أو تُوجِد للناس فرص عمل. أكثر من 80 في المائة من المحصول الزراعي دائما يُعرّض للتلَف بسبب الحصار، فالمُزارع السكين يزرع ويحرث ويسقي ويشقى من الصباح إلى الغروب وإذا حصد محصوله قيل له: لن تستطيع أن تبيع أكثر من 20 في المائة منه والباقي يفسد عندك وأمام عينيك، لماذا؟ لأنك اخترت الإسلام خيارا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
إغلاق المعابر وإغلاق الطرق يجعلهم يخسرون كل يوم الملايين من الدولارات، ويتوقّع المراقبون أن القطاع مقبل على كارثة بيئية واقتصادية وإنسانية خطيرة بسبب نقص الأدوية وقلة المخزون الغذائي وارتفاع الأسعار وزيادة مستوى التضخم. أخذ الدواء يتناقص في القطاع، ومات بسبب ذلك المئات من المرضى، هناك 450 مريضا بالسرطان في قطاع غزة، و400 مصاب بالفشل الكلوي، ونحو 450 مريضا بالقلب، هؤلاء معرّضون للموت جراء عدم توفر الأدوية والأجهزة الكافية لمتابعة حالاتهم، فضلاً عن منعهم من السفر.
ويزامن هذا الحصار حصار من نوع آخر، حصار العلم والمعرفة الذي لا يقلّ خطرا وضررا على المدى البعيد من الحصار الاقتصادي والمعيشي، فلقد منعت سلطات الاحتلال أكثر من 300 ألف طالب وطالبة من السفر للالتحاق بالمدارس والجامعات الأخرى، لماذا؟ حتى لا يعودوا إلى بلادهم أساتذة وخبراء ومختصين قادرين على إدارة شؤون بلادهم، حتى تمتلئ البلاد بالجهَلَة والأميين والمتخلفين ليتحول قطاع غزة إلى قطاع عمّال.
أما تحويل المال إلى قطاع غزة وتبرع الأهالي الذين يعيشون خارج فلسطين والذين يريدون أن يقفوا مع أهليهم فإن مشهدا جديدا من الحصار قد وقف على أبواب الحوالات المصرفية حيث كشفت مصادر فلسطينية أن الشركات العالمية العاملة في تحويل الأموال بالطرق السريعة إلى فلسطين وغزة خاصّة قد شُدِّد عليها وأصبح تحويل المال أمرا ليس يسيرا، لكن مع ذلك فإن هذا ليس بعذر أن نتوقّف عن دعم إخواننا في غزة والقطاع.
والله، إن مروجي المخدرات إذا سمعوا بنوع من المخدّر في بلاد من البلدان أشغلوا عقولهم بحثا عنه واجتهادا في الوصول إليه حتى يتمكّنوا منه، وإن أهل الفساد يوم أن يروا صورة راقصة على شاشة الفضائيات قلّبوا بأساليبهم وطرقهم حتى يعرفوا مكانها ليصلوا إليها أو هي تصل إليهم! فهل نعجز ـ يا عباد الله ـ أن نفكر أو نبحث أو نجتهد عن طريق من خلالها نوصل ما نستطيع من أجل غذاءٍ يُنقذ بيتا ودواء ينقذ طفلا وكساء ينقذ يتيما، والله ما هذا بعذر، فمن فتش وجد، ومن قلّب واجتهد فلن يعدم حيلة، يقول أحدهم: لقد رأيت وسمعت عن أناس لم يدخل اللحم في بيوتهم منذ سنة بل أكثر إلاَّ صدقة أو زكاة! ويذهبون إلى محلاَّت ذبح الدجاج ليعثروا على بقايا أرجلها؛ حيث يُوفّرها لهم أصحاب تلك المحلاَّت! ورأينا أناسًا يومًا يأكلون غداء فقط، ويومًا آخر يأكلون عشاءا!
وفوق هذا الحصار في كلّ يوم يصبّحهم اليهود ويمسّونهم بغارة ترمي فيها الطائرات بمئات الأطنان من القنابل التي تُسوّى بها المنازل بالأرض، فما بالك بأجساد الأطفال والنساء والشيوخ؟! أما يكفي هذا الحصار؟! أما يكفي التجويع؟! أما يكفي المرض؟! أما يكفي الإذلال؟! مع هذا كله القنابل والنار والدمار، اللهم رحماك يا رب بأهل غزة، رحماك بهؤلاء الأطفال الرضع والشيوخ الركّع.
_________
الخطبة الثانية
_________
وهكذا يُحارَب إخواننا في فلسطين، يحاربون في لقمة العيش، في نسمة الهواء، يحاربون في الدواء، يحاربون في عقيدتهم وحريتهم، في حين يُفتح المجال للمنظمات اليهودية والنصرانية في جمع التبرعات والأموال دون حسيب ولا رقيب!
جاء في تقرير نشرته جمعية ( NCRP ) الأمريكية ومقرها واشنطون: "بلغ حجم التبرعات الخيرية لعام 1998م 175 بليون دولار، يذهب تسع أعشار هذا المبلغ لدعم الكنائس والأنشطة الدينية الأخرى"، ويضيف التقرير أن 44 في المائة من هذا الرقم يخصّص لدعم الكنائس والتنصير وبعض الجمعيات الدينية الأخرى مثل اليهودية. وإذا نظرنا إلى نسبة 44 في المائة فإنها تشكل ما يساوي 70 مليون دولار تدفع للكنائس والأنشطة الدينية التنصيرية، وإذا تتبعنا مصادر هذه الأموال فإن 85 في المائة جاءت كتبرعات من الأفراد، أما الشركات الكبيرة والمؤسسات الخاصة فقد تبرعات بـ27 بليون دولار كمنَح وتبرعات، وكل ذلك في إحصائية عام 1998م.
إن الهجمة التي تريدها أمريكا بالجمعيات الإسلامية الخيرية في إطار ما تسميه بتجفيف المنابع الأَوْلى أن تقوم بها في أرضها التي أشرنا أن 77 بليون دولار سنويًا على الأقل تصرف للجمعيات الدينية، أين الحكومة الأمريكية من التعرض للمنظمات المتطرفة اليهودية والمنظمات اليهودية النصرانية الساعية على دعم صندوق الهيكل في القدس، والذي يجمع التبرعات من أتباع الطائفة الإنجيلية التي يصل أعضاؤها إلى خمسين مليونًا من الأمريكان، والذين يتبرعون بانتظام لهذا الصندوق الذي يهدف لهدم المسجد الأقصى المبارك وإنشاء هيكلهم المزعوم على أنقاضه؟! وهل علمت أن هناك أكثر من 37600 موقعًا على الإنترنت لمنظمات يهودية تطوعية خيرية في أمريكا فقط؟! وماذا عن البابا والكنيسة الكاثوليكية في روما؟! فمعلوم أن الفاتيكان يمتلك الطائرات الخاصة النفاثة والمراكب البحرية، بل وحتى جيشا خاصا به، ويمكن القول: إنه دولة داخل دولة إيطاليا! أين الحكومة الأمريكية من مؤسسة تطوعية أمريكية واحدة تدعى يونايتد ويز ( united ways ) لديها 1400 فرع حول أمريكا فقط؟! لو جمعت كل المؤسسات الإسلامية بالعالم لما وصل عددها لهذه المؤسسة لوحدها، فكيف تتبنى أمريكا محاربة المؤسسات والمنظمات الخيرية في البلدان المسلمة إذا عرفنا أنه يوجد بأمريكا أكثر من مليون ونصف المليون منظمة خيرية وهذا حسب إحصاءات قديمة؟!
يعمل داخل الولايات المتحدة في هذه المنظمات أكثر من 90 مليون متطوع بدعم وتشجيع من الحكومة الأمريكية، فيُعفى المتطوّع من الضرائب، إلى غير ذلك من التسهيلات والتشجيع! أما في الكيان الصهيوني فيوجد في إسرائيل وحدها أكثر من 35000 منظمة غير ربحية!
"مركز دراسات القطاع الثالث في إسرائيل" والمقصود به العمل الخيري أنجز مشروعات عام 1995م وحده بلغت قيمتها 11 مليار دولار، وظل هذا القطاع محافظًا على ذلك الإنجاز حتى نهاية عام 2002م. ويقدر بعض المصادر أن الكيان الصهيوني يحصل سنويًا على مساعدات وهبات مالية تصل قيمتها إلى 15 مليار دولار.
فصبرا يا أهل فلسطين، فإن أمَم الكفر ولو وقفوا ضدّكم بمكرهم وكيدهم فإن معكم الفئة التي لا تُغلب والمُعين الذي يَخذُل، ومعكم المَلك الذي لا تنفد خزائنه.
صبرا يا أهل غزة، فإنْ منعوا عنكم الدواء والغذاء والماء فإنهم لا يستطيعون أبدا أن يمنعوا عنكم مدد السماء، قولوا لهم: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ.
صبرا يا أهل الرباط، وأبشروا ببشرى النبي عندما قال: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، يا طوبى للشام)) ، قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟! قال: ((تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام)) ، وعن عبد الله بن حوالة قال رسول الله : ((ستجدون أجنادًا: جندًا بالشام، وجندًا بالعراق، وجندا باليمن)) ، قال عبد الله: فقمت فقلت: خِرْ لي يا رسول الله، فقال: ((عليكم بالشام؛ فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله)) ، قال ربيعة: فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث يقول: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فنظرت فإذا هو نور ساطع عُمد به إلى الشام، ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام)) ، وعن عبد الله بن حوالة أنه قال: يا رسول الله، اكتب لي بلدا أكون فيه، فلو أعلم أنك تبقى لم أختر على قربك، قال: ((عليك بالشام)) ثلاثا، فلما رأى النبي كراهيته للشام قال: ((هل تدرون ما يقول الله عز وجل؟ يقول: أنتِ صفوتي من بلادي، أدخل فيك خيرتي من عبادي، وإليك المحشر، ورأيت ليلة أسري بي عمودًا أبيض كأنه لؤلؤ تحمله الملائكة، قلت: ما تحملون؟ قالوا: نحمل عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام، وبينا أنا نائم رأيت كتابا اختلس من تحت وسادتي، فظننت أن الله تخلى من أهل الأرض، فأتبعت بصري، فإذا هو نور ساطع بين يدي، حتى وضع بالشام، فمن أبى أن يلحق بالشام فليلحق بيمنه، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله)).
(1/5592)
الشتاء ربيع المؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, مخلوقات الله
يحيى بن سليمان العقيلي
اليرموك
مسجد موضي الصباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول فصل الشتاء. 2- تفاعل المؤمن مع التغيرات المناخية. 3- عبادات الشتاء وأذكاره. 4- أحكام الشتاء ورخصه. 5- حياة القلوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المؤمنين، ها هو فصل الشتاء حلّت بوادره وتنزَّل برده، طال ليله وقصر نهاره، وللمؤمن مع الشتاء أحوال وأحكام، إذ هو يتفاعل مع التغيرات الكونية والأحوال المناخية بهدي كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، فيتحقّق إيمانه ويوثق صلته بالله سبحانه وتعالى، فإن تقلب الأحوال الكونية من صيف وشتاء وليل ونهار وجفاف وأمطار وسكون ورياح يعزِّز إيمان المؤمن بأن الله تعالى خالق الكون ومدبره، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور: 42]، فإذا تدبَّر المؤمن ذلك الملكوت وتأمّل في تغير الأحوال وتصاريف الأقدار ذكر الله تعالى وسبح بحمده، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].
وللشتاء ـ عباد الله ـ أحوال لمن أراد أن يتذكّر أو أراد شكورا، فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي قوله: ((الشتاء ربيع المؤمن)) ، وزاد البيهقي وغيره: ((طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه)) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مرحبا بالشتاء؛ تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام)، ومن كلام يحيى بن معاذ قوله: "الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنّسه بآثامك".
وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن ـ عباد الله ـ لأنه يرتع في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة، فإذا ما هطلت الأمطار أقر بفضل الله ونعمته ودعا بما سنه النبي : ((مطرنا بفضل الله ورحمته)) ، وعن زياد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت ـ أي: مطر ـ من الليل فلما أمطرت أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب)) ، وليتحرَّ المسلم ـ عباد الله ـ الدعاء حين نزول المطر، فهو من الأوقات الفاضلة، فعن النبي قوله: ((ثنتان ما تردان: الدعاء عن النداء وتحت المطر)).
معاشر المؤمنين، لقد سن النبي أدعية وأذكارا للأحوال المناخية، ومنها ما يكون في الشتاء خاصة، كالدعاء عند هبوب الرياح لقوله : ((الريح من روح الله، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها)) ، كما سن الرسول الدعاء عند سماع الرعد بقوله: ((سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)) ، كما سن الاستسقاء وهو طلب السقيا والمطر من الله تعالى بصلاة الاستسقاء أو بالدعاء المجرد أو بالدعاء على منبر صلاة الجمعة.
معاشر المؤمنين، اعلموا ـ حفظكم الله ـ أن للشتاء أحكامًا شرعية وآدابًا نبوية، ينبغي للمؤمن أن يتحراها لتكتمل عبادته ويتم له أجره وثوابه ويقتدي بسنة نبيه ، منها إسباغ الوضوء وإتمامه، فلا يعجله الشعور بالبرد عن إكمال الوضوء لأعضائه وإتمامها، بل إن ذلك الإتمام والإسباغ وقت المكاره هو مما يكفر الله به الخطايا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)) ، والمكاره تكون بشدة البرد أو الحر أو الألم، فيحتسب المسلم تلك الشدة وهو يتوضأ بأنها من مكفرات الخطايا ورافعات الدرجات.
نسأل الله تعالى أن يعمنا بفضله ويكرمنا بنعمته ويمن علينا بعافيته، فهو الجواد الكريم، وهو الرؤوف الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
وبعد: معاشر المؤمنين، إن من سماحة الإسلام ويسره تشريع رخص ترفع الحرج والمشقة عن الأمة، ففي الشتاء يرخص للمسلم أن يمسح على الجوارب درءاً للمشقة والبرد، يوما وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، بشروط مبينة في كتب الفقه. كما يرخص للمسلمين الجمع بين الصلوات وقت اشتداد المطر وحدوث البلل أو الوحل أو البرد، وإن حدثت مشقة في الاجتماع للصلاة جاز للمرء أن يصلي في بيته لقول ابن عمر رضي الله عنه: كان النبي ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة: (صلوا في رحالكم)، وإن كان الأمر ميسرا في زماننا ولله الحمد فالطرق معبدة والسيارات متوفرة والمساجد قريبة، ولكن هذا من يسر الإسلام وسماحته، والرخصة ـ عباد الله ـ سعة وتسهيل متى ما تحققت شروطها، والأولى بالمسلم أن يتحرى الوسطية فلا يتساهل بالأخذ بها ويخرج الصلاة عن وقتها فالصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا دون تحقق لمبررات الرخصة، ولا يتشدد تشددا يسبب المشقة على المسلمين.
معاشر المؤمنين، قال عليه الصلاة والسلام: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس بالشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير، وهو شدة البرد)). فإذا ما وجد المرء لسعة البرد تذكر زمهرير جهنم، فاستعاذ منها، وسأل الله تعالى برد الجنة ونعيمها، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13].
ومن مواطن العبرة والذكرى للمؤمن حين يرى الأرض وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، حيث أحياها ربنا جل وعلا بالمطر بعد موتها، فليعلم حينها أن القرآن وذكر الله تعالى يحيي القلوب بعد موتها وغفلتها، وهذا ما أشار إليه القرآن حين ذكر استبطاء الله تعالى لخشوع قلوب المؤمنين فقال جل وعلا: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد: 16، 17]، فالله تعالى يحيي القلوب بالقرآن كما يحيي الأرض بالمطر، فمن وجد غفلة في نفسه وقسوة في قلبه فليقبل على كتاب الله تعالى تلاوة وتدبّرا، فإنما هو هدى ورحمة للمؤمنين وموعظة وشفاء للمتقين.
نسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا بذكره وأفئدتنا بمعرفته وأبداننا بطاعته، وأن يغيث نفوسنا باليقين والإيمان.
هذا، وصلوا وسلموا على الحبيب محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5593)
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
24/1/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث الناس عن غلاء الأسعار والتدابير المتخذة بشأنه. 2- أهمية نظر العباد في علاقتهم مع ربهم تعالى. 3- ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. 4- قدرة الله وعزته. 5- النعمة والسعادة الحقيقية. 6- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمتِهِ وَيَجعَلْ لَكُم نُورًا تمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَتَكَلَّمُ النَّاسُ في غَلاءِ الأَسعَارِ، وَيَتَحَدَّثُونَ عَنِ أَسبَابِ ذَلِكَ، وَيَخُوضُونَ في مَصَادِرِهِ، ثم يُعَقِّبُونَ بما يَجِبُ عَلَى الحُكُومَاتِ وَمَا تَتَحَمَّلُهُ الوِزَارَاتُ، فَمِن رَاءٍ أَنَّ عِلاجَ ذَلِكَ تَكثِيفُ الرَّقَابَةِ عَلَى التُّجَّارِ وَالبَاعَةِ وَمُتَابَعَةُ أَصحَابِ الشَّرِكَاتِ وَالمُستَورِدِينَ وَمُحَاسَبَتُهُم، وَمِن ذَاهِبٍ إِلى أَنَّ الحَلَّ في زِيَادَةِ المُرَتَّبَاتِ وَرَفعِ المَعَاشَاتِ وتَكثِيفِ الإِعَانَاتِ، وَيَحدُثُ أَن تَتَفَاعَلَ الحُكُومَاتُ مَعَ رَعَايَاهَا، فَتَزِيدُ في الرَّواتِبِ مَا شَاءَ اللهُ أَن تَزِيدَ، وَتَتَبَرَّعُ بِإِعَانَاتٍ لِدَعمِ السِّلَعِ الضَّرُورِيَّةِ، وَتَسُنُّ مِنَ القَوَانِينِ وَتُصدِرُ مِنَ القَرَارَاتِ مَا تَرَاهُ حَاسِمًا لِلوَضعِ قَاطِعًا لَلمُشكِلاتِ.
وَإِذَا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ في النَّظَرِ القَرِيبِ صَحِيحًا وَهُوَ مِن بَذلِ الأَسبَابِ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَمرًا أَهَمَّ مِن ذَلِكَ وَأَولى بِأَن يُدرَسَ وَيُتَأَمَّلَ، ذَلِكُم هُوَ النَّظَرُ في هَذِهِ القَضَايَا مِن جِهَةِ عِلاقَةِ العِبَادِ بِرَبِّهِم وَخَالِقِهِم وَرَازِقِهِم، الذِي هُوَ أَرحَمُ بِهِم مِن أُمَّهَاتِهِم وَأَنفُسِهِم، فَقَد كَانَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيهِم قَبلَ هَذَا وَبَعدَهُ وفي أَثنَائِهِ أَن يَتَوَجَّهُوا إِلى رَبِّهِم جل وعلا، وَيَلجَؤُوا إِلَيهِ، وَيَطلُبُوا مِنهُ العَونَ وَالمَدَدَ وَالتَّيسِيرَ وَالتَّفرِيجَ، فَهُوَ تعالى الذي بِيَدِهِ الأَمرُ كُلُّهُ، وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ، وَهُوَ المُعِزُّ المُذِلُّ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّافِعُ الخَافِضُ، وَهُوَ الذِي لا مَانَعَ لِمَا أَعطَى وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَلا رَادَّ لِوَاسِعِ فَضلِهِ ولا لِمَا حَكَمَ بِهِ وقَضَى، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالى: مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لم يَشَأْ لم يَكُنْ، وَكُلُّ مَا يَفتَحُهُ لِلنَّاسِ مِن خَزَائِنِ رَحمتِهِ أَو مَا يُضفِيهِ عَلَيهِم مِن سَابِغِ نِعمَتِهِ أَو مَا يُضَيِّقُهُ مِن أَبوَابِ رِزقِهِ وَمَا يُمسِكُهُ وَيَمنَعُهُ مِن عَطَائِهِ فَلَهُ سُبحَانَهُ في كلِّ ذَلِكَ الحُكمُ النَّافِذُ وَالحِكمَةُ البَالِغَةُ، وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ، العَزِيزُ في انتِقَامِهِ ممَّنِ انتَقَمَ مِنهُ مِن خَلقِهِ بِحَبس رَحمتِهِ عَنهُ وَإِمسَاكِ خَيرَاتِهِ، الحَكِيمُ في تَدبِيرِ شُؤُونِ خَلقِهِ وَفَتحِهِ الرَّحمةَ لهم إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَلاحًا، وَإِمسَاكِهَا عَنهُم إِذَا كَانَ إِمسَاكُهَا حِكمَةً، وَهَذَا كَقَولِهِ تَعَالى: وَإِن يَمسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمسَسْكَ بِخَيرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدُيرٌ ، وَقَولِهِ جل وعلا: وَإِنْ يَمسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلا رَادَّ لِفَضلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ ، وقَولِهِ سُبحَانَهُ: قُلْ أَفَرَأَيتُم مَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَو أَرَادَني بِرَحمةٍ هَل هُنَّ مُمسِكَاتُ رَحمتِهِ قُلْ حَسبِيَ اللهُ عَلَيهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ ، وَفي الصَّحِيحِ أَنَّه كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعطَيتَ، وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعتَ، وَلا يَنفَعُ ذَا الجَدِّ مِنكَ الجَدُّ)).
إِنَّهَا صُورَةٌ جَلِيلَةٌ مِن صُوَرِ قُدرَةِ اللهِ وَعِزَّتِهِ، حِينَ تَقَعُ في قَلبِ عَبدٍ وَتَتَمَلَّكُهُ وَتَستَقِرُّ فِيهِ فَإِنَّهَا تُحدِثُ فِيهِ تَحَوُّلاً كَامِلاً في شُعُورِهِ وَتَصَوُّرَاتِهِ، وَتُغَيِّرُ مَوَازِينَهُ وَاتِّجَاهَاتِهِ، وَتُصَحِّحُ نَظرَتَهُ لِهَذِهِ الحَيَاةِ وَمَا فِيهَا، إِنَّهَا تَقطَعُهُ عَن قُوَّةِ أَيِّ مَخلُوقٍ في هَذَا الكَونِ أَو رَحمتِهِ، وَتُوصِدُ أَمَامَهُ بَابَ كُلِّ مَخلُوقٍ وَتُغلِقُ عنه كُلَّ طَرِيقٍ إِلَيهِ، وَتَصِلُهُ بِقُوَّةِ الخَالِقِ الرَّازِقِ المُعطِي، وَتُطمِعُهُ في رَحمةِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ الوَدُودِ، وَتَفتَحُ أَمَامَهُ أَبوَابَ الوَاسِعِ العَطَاءِ العَظِيمِ المَنِّ، وَتُفسِحُ لَهُ الطُّرُقَ إِلى القَادِرِ الذِي لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إِلى تَقوِيَةِ العِلاقَةِ بِهِ، وَتَفرِيغِ القَلبِ لِعِبَادَتِهِ وَالجَوَارِحِ لِطَاعَتِهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ مَا مِن نِعمَةٍ يُمسِكُ اللهُ مَعَهَا رَحمتَهُ إِلاَّ تَحَوَّلَت إِلى نِقمَةٍ، وَمَا مِن مِحنَةٍ تَحُفُّهَا رَحمةُ اللهِ إِلاَّ قَلَبَتهَا إِلى نِعمَةٍ، يَنَامُ الإِنسَانُ عَلَى الشَّوكِ مَعَ رَحمةِ اللهِ فَإِذَا هُوَ كَالمِهَادِ، وَيَتَقلَّبُ عَلَى الحَرِيرِ وَقَد أُمسِكَت عَنهُ الرَّحمةُ فَإِذَا هُوَ مِثلُ شَوكِ القَتَادِ، لا ضِيقَ وَاللهِ مَعَ رَحمةِ اللهِ، وَإِنما الضِّيقُ في إِمسَاكِهَا مِنهُ دُونَ سِوَاهُ، لا ضِيقَ مَعَ رَحمةِ اللهِ وَلَو كَانَ العَبدُ في غَيَاهِبِ السُّجُونِ أَو يَتَقَلَّبُ بَينَ أَنيَابِ الفَقرِ، وَلا سَعَةَ مَعَ إِمسَاكِهَا وَلَو تَمَتَّعَ في أَعطَافِ النَّعِيمِ وَسَرَّحَ نَظَرَهُ في مَرَاتِعِ الغِنى وَالرَّخَاءِ، وَمِن هُنَا فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَعُودُوا إِلى اللهِ وَيَتُوبُوا إِلَيهِ وَيُقَوُّوا الصِّلَةَ بِهِ، وَيَسأَلُوهُ مِن خَيرِهِ العَمِيمِ ويَرجُوا رَحمتَهُ الوَاسِعَةَ، التي مَا ضَاقَ مَعَهَا رِزقٌ وَلا سَكَنٌ، وَلا مُلَّ عَيشٌ وَلا سُئِمَت حَيَاةٌ، وَأَن لاَّ يُصبِحَ هَمُّهُمَ كَم زِيدَ الرَّاتِبُ؟ وَلا كَم رُفِعَتِ العَلاوَةُ؟ وَلا كَم دُعِمَت به تِلكَ السِّلعَةُ؟ وَلا كَم لَدَى فُلانٍ مِنَ المَالِ أَوِ الوَلَدِ؟ أَو مَاذَا أُعطِيَ عَلاَّنٌ مِنَ الصِّحَّةِ وَالقُوَّةِ؟ أَو مَاذَا مَلَكَ زَيدٌ مِنَ الجَاهِ وَالسُّلطَانِ؟ فَإِنَّ كُلَّ تِلكَ الأُمُورِ بِلا رَحمةِ اللهِ تُصبِحُ مَصدَرَ تَعَبٍ وَشَقَاءٍ وَقَلَقٍ، وَتَصِيرُ مَبعَثَ هَمٍّ وَنَغصٍ وَنَكَدٍ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِن رَحمةِ اللهِ أَن تُحِسُّوا بِحَاجَتِكُم إِلى رَحمةِ اللهِ، وَأَن تَرجُوهَا وَتَتَطَلَّعُوا إِلَيهَا وَتَطلُبُوهَا، وَأَن تَثِقُوا بِاللهِ وَتَتَوَقَّعُوهَا في كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَن تَعلَمُوا أَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا. ثم اعلَمُوا في المُقَابِلِ أَنَّ العَذَابَ كُلَّ العَذَابِ وَالضَّلالَ كُلَّ الضَّلالِ في الاحتِجَابِ عَن رَحمةِ اللهِ أَوِ اليَأسِ مِنهَا وَالقُنُوطِ أَوِ الشَّكِّ في حُصُولِهَا مِن وَاهِبِهَا سُبحَانَهُ، إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ ، وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم جَلَّ وَعَلا، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِذَا عُلِمَ وَتُيُقِّنَ أَنَّهُ متى فَتَحَ اللهُ أَبوَابَ رَحمتِهِ فَلا مُمسِكَ لها وَمتى أَمسَكَهَا فَلا مُرسِلَ لها فَإِنَّ مِن لازِمِ ذَلِكَ أَن لاَّ يَخَافَ العِبَادُ أَحَدًا إِلاَّ رَبَّهُم وَخَالِقَهُم، وَلا يَرجُوا أَحَدًا إِلاَّ وَاهِبَهُم وَرَازِقَهُم، لا خَوفَ وَلَو فَاتَتِ الوَسِيلَةُ، وَلا رَجَاءَ وَلَو بُذِلَت كُلُّ حِيلَةٍ، وَإِنما هِيَ قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ وفي أَثنَائِهِ مَشِيئَةُ اللهِ وَحُكمُهُ، وَاللهُ يَحكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ ، وَمَا بَينَ النَّاسِ وَرَحمةِ اللهِ إِلاَّ أَن يَطلُبُوهَا مِنهُ مُبَاشَرَةً بِلا وَاسِطَةٍ، وَأَن يَتَوَجَّهُوا إِلَيهِ بِالعَمَلِ الصَّالحِ وَيَتَقَرَّبُوا إِلَيهِ بِالطَّاعَةِ في رَجَاءٍ وَثِقَةٍ وَاستِسلامٍ، وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ ، فَاستَغفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ، وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ كَبِيرٍ.
(1/5594)
ختام العام الهجري
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
هتلان بن علي الهتلان
الظهران
30/12/1427
جامع محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعاقب الليالي والأيام. 2- دعوة للمحاسبة الجادة. 3- التذكير بالموت والمصير. 4- التذكير بأحوال إخواننا في فلسطين. 5- تكالب الأعداء على أمة الإسلام. 6- التحذير من فكر التكفير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر الإخوة، تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام، وإن في مرورها لعبرةً وعظة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا. وها أنتم تزدلفون إلى عام جديد وتودّعون عامًا من عمركم، مضى بما أودعتموه من عمل، ومهما عشت ـ يا ابن آدم ـ فإلى الثمانين أو التسعين وهبك بلغتَ المائتين، فما أقصرها من مدة! وما أقله من عمر! قيل لنوح عليه السلام وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا: كيف رأيت هذه الدنيا؟ فقال: (كداخل من باب وخارج من آخر).
فاتقوا الله أيها الناس، وتبصروا في هذه الأيام والليالي؛ فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم عن الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم هذه الأيام بما يقربه إلى الله، طوبى لعبد شغلها بالطاعة واتعظ بما فيها من العظات، تنقضي الأعمار، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44].
عباد الله، جمعتكم هذه هي آخر جمعة من هذا العام، بل وآخر يوم من هذا العام الهجري، فهنيئًا لمن أحسن فيه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام، فهلم نتساءل عن هذا العام: كيف قضيناه؟ ولنفتش كتاب أعمالنا: كيف أمليناه؟ فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرًا تبنا إلى الله واستغفرناه. وإنه لحري بالمسلم أن يحاسب نفسه، بل على المجتمع أن يحاسب نفسه، وعلى الأمة جميعًا أن تحاسب نفسها وتقف مع نفسها وقفات ومراجعات، كم يتمنى المرء تمام شهره وهو يعلم أن ذلك يُنقِص من عمره، وأنها مراحل يقطعها من سفره، وصفحات يطوِيها من دفتره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعدّ للقدوم إلى ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه؟!
عباد الله، ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع وتغرب، ففي طلوعها ثم غروبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما هي طلوع ثم غروب، ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام؟! فأنتم تودعون عامًا شهيدًا عليكم وتستقبلون العام الجديد.
فليقف كل منا مع نفسه محاسبًا: ماذا أسلفتُ في عامِي الماضي؟ فإن كان خيرًا ازداد، وإن يكن غير ذلك أقلع وأناب، فإنما تمحَى السيئة بالحسنة، قال : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)). ليحاسب كل منا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها، عن حقوق المخلوقين والتخلص منها، عن أمواله التي جمعها من أين جاءت؟ وكيف ينفقها؟ ليتساءل عن علاقته بنفسه مع ربه ومع الناس أجمعين.
أيها الناس، حاسبوا أنفسكم اليوم فأنتم أقدر على العلاج منكم غدًا، فإنكم لا تدرون ما يأتي به الغد، حاسبوها في ختام عامكم وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم، وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها. خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: (إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيِّب عنكم عِلمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18]).
هل نظر الإنسان وفكر كما فكر ابن الصمّة وهو أحد الصالحين؟! فذات مرة جلس مع نفسه يحاسبها فقال: كم عمري الآن؟! فتذكر أنه ابن ستين سنة، فأخذ يحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفًا وخمسمائة يوم، فقال يحاسب نفسه: ويلتا أألقى الله بواحد وعشرين ألفًا وخمسمائة ذنب؟! هذا على فرض أن الإنسان يذنب ذنبًا واحدًا كل يوم فقط، كيف وفي كل يوم عشرات الذنوب؟! فجعل يبكي ويبكي حتى سقط مغشيًا عليه ثم مات رحمه الله، فلما مات سمعوا من يقول: يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى!
وفي الحديث الذي رواه الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ميت مات إلا وندم، إن كان محسنًا ندم أن لا يكون قد ازداد إحسانا، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون قد استعتب)) ، فإن كان المحسن يندم على ترك الزيادة في عمله فكيف يكون حال المسيء؟! إنما أنت أيام، فكلما ذهب يومك ذهب بعضك.
نسير إلَى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهنّ مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهنّ قلائل
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الْموت مُجتهدا فإنَّما الربح والخسران في العمل
أيها المسلم، راجع نفسك على أي شيء تطوى صحائف هذا العام؟ فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعات أو أيام، فاستدرك عمرا قد أضعت أوّله، قال النبي : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
معاشر الإخوة، والله، لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتخبرنَّ بما كنتم تعلمون، فجنةٌ للمطيعين، ونار جهنم للعاصين، أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: 40].
إخوتي في الله، من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ثم اشتدّت عليه حسراته، وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة، وتقوده أيامه إلى المزيد من الردى والشقوة؟! إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين، فانتبهوا بإيقاظه واعتبروا بألفاظه.
ألا ينظر الناس فقد وهن العظم وابيض الشعر ورحل الأقران ولم يبق إلا الرحيل؟! عجيب حال هذا الغافل: يوقن بالموت ثم ينساه! ويتحقق من الضرر ثم يغشاه! يخشى الناس والله أحق أن يخشاه! يغتر بالصحة وينسى السقم! ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم! يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم! يهتم بالعلم ولا يكترث بالعمل! يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل! يطول عمره ويزداد ذنبه! يبيض شعره ويسودّ قلبه! قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحقّ عزاؤها.
سبحان الله عباد الله، ألم يأن لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟! أما علموا أن حياتها عناء ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى وملكها يفنى، ودها ينقطع وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل إما في نعم زائلة أو بلايا نازلة أو منايا قاضية؟!
يا قوم، إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39]، العمر قصير، والخطر المحدق كبير، والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الأحبة ـ فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا سوى الجنة أو النار. ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، من صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.
والمحاسبة الصادقة ما أورثت عملاً، فعليك ـ يا عبد الله ـ أن تستدرك ما فات بما بقي، فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسر من غير عمل. واعلم أن من أصلح ما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وبما بقي. والموت يأتيك بغتة، فأعط كل لحظة حقها، وكل نفَس قيمته، فالأيام مطايا، والأنفاس خطوات، والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن، الخسارة نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت حسيب نفسك.
عباد الله، لنتذكر بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فكم ولِد في هذا العام من مولود! وكم مات من حي! وكم استغنى فيه من فقير وافتقر من غني! وكم عز فيه من ذليل وذل فيه من عزيز! كم من قريب لنا وخليل وصاحب افتقدناه هذا العام وأفضى إلى ما قدم وعمل! نسأل الله أن يغفر لإخواننا وأخواتنا المسلمين.
أيها الإخوة، الأعمال بالخواتيم، فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، الموتى يتحسّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته وبقيت تبِعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وميقاته. في صحيح البخاري يقول النبي : ((أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره)).
فيا من كلّما طال عمره زاد ذنبه، وكلما ابيض شعره بمرور الأيام اسود قلبه بالآثام، شيخ كبير له ذنوب تعجز عن حملها المطايا، قد بيّضت شعره الليالي وسوّدت قلبه الخطايا، يا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مشتغل في نوم الغفلة والسنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا، يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور ويسمع الآيات والسور فلا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور، ما الحيلة ـ عباد الله ـ فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور؟! فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40].
ويا ابن آدم، كلما مضى عام من عمرك اقتربت من الموت وسكراته، فاقتربت من القبر وعذابه أو نعيمه، والقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران.
هل فكرت ـ أيها المسلم ـ متى يحملك أهلك وأصحابك على عرش، فإن كانت جنازتك صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها إلى أين يذهبون بها؟! هل فكرت ـ يا ابن آدم ـ في هذه اللحظة لحظة مصرعك وانتقالك إذا انتقلت من السعة إلى الضيق، وأُخِذت من الأهل والأصحاب، وتركت وحيدًا في قبرك لا أنيس ولا صاحب ولا معين إلا ما عملت من عمل؟!
انظر إلى نهايتك المحتومة إما إلى نار أو إلى جنة، إما إلى نار قعرها بعيد وحرّها شديد وعذابها سعير، نار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم ألف عام حتى ابيضت، ثم ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يضيء شررها ولا يطفأ لهيبها، نار عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يوم يقول الجبار: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذراعها سبعون ذراعًا فاسلكوه، قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور: 13، 14]، وقال: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 15، 16]، وقال: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ [الفجر: 23-25]. نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من سخطه والنار، ونسأل جنته ومرضاته.
أو إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون.
فاتقوا الله رحمكم الله، وتزودوا في دنياكم ما تحرزون إلى أنفسكم غدًا، فمن اتقى الله نصح نفسه وقدم توبته وقاوم شهوته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين وللمؤمنات، فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله هدم بالموت مشيد الأعمار، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، حكم بالفناء على أهل هذه الدار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من عذاب النار، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين والأنصار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد: أيها المسلمون، وإن على الأمة جمعاء أن تحاسب نفسها وتقف وقفات صادقة مع حالها وهي تودع عامًا هجريًا: ما حال مقدساتها؟ وأراضي القدس السليبة لا تزال تئنّ تحت وطأة اليهود الغاصبين أبناء القردة والخنازير، والمسجد الأقصى سويداء العين وسواد القلب عثا فيه اليهود وعثوا في الأرض المباركة من حوله هدمًا وتخريبًا وتقتيلاً وتشريدًا. إنها لحسرة وندامة وذلة أن ينصرم هذا العام ولا زالت أولى القبلتين وثالث المسجدين تحت وطأة اليهود المعتدين، ناهيك عن شلالات الدماء وقطع الأشلاء الكثيرة في أقطار شتى من المعمورة من أرض الإسلام.
كم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويتلمس حنان الأم الرؤوم، يرنو إلى من يمسح رأسه ويكفكف دمعته ويخفف بؤسه ويزيل لوعته! كم من أرملة توالت عليها المحن، فقدت عشيرها فاستبدلت كما استبدل أمثالها بعد العز ذلاً وبعد الرضا والهناء فاقة وفقرًا!
ولقد تكالب الأعداء على المسلمين من كل حدب وصوب، وأخذت أرصد أمة الإسلام تنقص من أطرافها، ففقدت أقطار وأمم وانتهكت محارم واستبيحت مقدسات، ودارت رحى الحرب على المسلمين حتى تداعت عليهم الأمم والشعوب، وتحقق فيهم قول المصطفى : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن؟! قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)). فهذا هو الوهن وهو سر الضعف الأصيل؛ أن يعيش الناس عبيدًا لدنياهم عشاقًا لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم شهواتها، وتموج بهم كالخاتم في الأصبع حين يكره المسلمون الموت ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم.
وإنهم لو تمسكوا بكتاب ربهم وعملوا بسنة نبيهم وحققوا الإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا لنصرهم الله وأعزهم، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]، وقال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 88]. فالنصر للمؤمنين وليس للفاسقين ولا المخربين ولا الظالمين، وإن هزيمة الأعداء ليست ببعيدة على الله تعالى ولا عزيزة عليه، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، فحين ينصر المسلمون الله عز وجل في أنفسهم وفي أهليهم وذرياتهم وفي معاملاتهم وتجاراتهم وفي مجتمعاتهم فإن الله ينصرهم على عدوهم، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197]، ولله في ذلك حكمة لقوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف: 14].
أيها المسلمون، ماذا جنت الأمة من موجة التكفير ومسلسلات التخريب والتفجير التي أطلت بظلّها السام على المسلمين؟! رحماك يا رب، يوجَّه السلاح وتولى البندقية إلى رقاب المسلمين! وممن؟ من أناس ينطقون الشهادتين ويصلون ويصومون! يا سبحان الله!! أي إسلام وأي دين وأي مروءة يجعل الإنسان يستحلّ دم أخيه المسلم ويسعى بالخراب والدمار والفساد والإفساد في مجتمعات المسلمين ويهلك الحرث والنسل ولا يقبل الحق ولا يستمع للنصح إلا ما أشرب من هواه؟! أما آن للأمة أن تراجع نفسها وتقضيَ على هذا الفكر المخرَّق فكر التكفير والتخريب واستباحة الدماء المعصومة كمعالجة الأسباب بفعل وعدل وإنصاف؟! أما آن لهؤلاء الأغرار أن يتّقوا الله تعالى ويدركوا خطر ما أقدموا عليه وقبح ما يخططون له؟! فالذنب عظيم، إي وربي إنه لعظيم، والخطيئة كبيرة، إي وربي إنها لكبيرة، فزوال الكعبة المشرّفة أهون عند الله من إراقة دم مسلم. فهلا جعلنا من توديعنا لعامنا المنصرم وقفة محاسبة لجميع المحطات، واستقبلنا عامنا الجديد بتوبة وأوبة صادقة واستمساك بدين ربنا عز وجل الذي لا صلاح ولا سعادة للمرء في الدنيا والآخرة إلا بذلك؟!
فيا أيها المسلمون، هذا عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه وقوّضت خيامه وغابت شمسه واضمحل هلاله؛ إيذانًا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دار إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرت من مخلد فيها! وصرعت من مكب عليها! فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي بمنكبي وقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري.
(1/5595)
مشاهدات من غزة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يحيى بن سليمان العقيلي
اليرموك
1/2/1429
مسجد موضي الصباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصول إلى غزة. 2- واجب الإغاثة. 3- حال المحاصَرين. 4- إقبال أهل غزة على الله تعالى. 5- صمود أهل غزة. 6- الحث على النصرة والمؤازرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فأوصيكم ونفسي ـ عباد الله ـ بتقوى الله تعالى، فالمتقون هم أولياؤه وأحباؤه، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63].
معاشر المؤمنين، أحدثكم اليوم بعد أن منّ الله تعالى علينا وأكرمنا ببلوغ أرض فلسطين المباركة، أرض غزة، أرض الشرف والعزة، أرض الصمود والرباط، وفدٌ من لِجان الخير في كويت الخير ذهبنا إلى غزة المحاصرة، لنعبّر باسم شعب الكويت عن النصرة والتضامن مع إخواننا هناك، ضد هذا الحصار الظالم الذي حجب الغِذاء والدواء، ولو استطاعوا لحجبوا عنهم الهواء.
ذهبنا هناك ـ عباد الله ـ إغاثة ونصرة، وأداءً لواجب شرعي وعملٍ إنساني، فالمسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسلِمه، والنفقة والإعانة والإغاثة في سبيل الله أمر رباني جاءت به الآيات البيّنات في مائة وثلاثة وثلاثين موضعا في كتاب الله، وإن المأساة هناك ـ عباد الله ـ لتُجَسِّد حقًّا قولَ الله عز وجل: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 273]، قال أهل العلم: "إذا هلك فقير واحد والأغنياء يعلمون به أثموا جميعا".
نعم والله يا عباد الله، فلقد أحصر أهل غزة لا بإرادتهم، ولكن بمكر الماكرين وكيد الكائدين، وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46].
معاشر المؤمنين، إن كان لذلك الحصار الظالم آلام وجراح حيث مات العشرات في المستشفيات لانقطاع الكهرباء واستُشهد العشرات وجرِح المئات بنيران العدوّ الصهيوني الجبان، إلا أن ما خفّف عن أهل غزة لوعتهم وضمّد جراحاتهم وصول إخوانهم من بعض الدول العربية، أبَوا إلا أن يكونوا بينهم تضامنًا وأخوّةً ونصرة، كم كان مفرحا منظرُ الشاحنات وهي تشقّ طريقها محمّلة بالدواء والغذاء الذي تبرعتم به أيها الإخوة وسائر الشعوب العربية غنيها وفقيرها؛ لتقول للمحاصَرين: نحن معكم واللهُ ناصركم، كم خفف ذلك من آلامهم بل وأسعدهم أيما سعادة، حتى قالوا لنا: إن ما يحدث من قدومكم ووفد أهل الخليج أمر عجيب، فبدل أن نذهب إليكم نطلب العون وإذا بكم أنتم تأتون إلينا وتبادئونا بالدّعم والعون، وهذا والله أشدّ ما يثبتنا بعد الله تعالى، فشكر الله دعمكم وشكر الله سعيكم وشكر الله نصرتكم يا أهل الكويت.
معاشر المؤمنين، لقد سجّلت في تلك الزيارة المباركة التي أكرمنا الله بها مشاهدات وملاحظات عن ذلك الشعب الصابر المرابط، بعد وصولنا فجرًا هناك ذهبنا للصلاة في المسجد، وإذا بالمسجد ـ عباد الله ـ يكاد يمتلئ بالمسلمين، يقبلون على الله ويقفون بين يديه خاشعين متضرعين، رفع الإمام يديه بعد الركعة الثانية داعيا الله تعالى بالثبات والنصر والفرج، لقد تذكّرت لحظتها ما قالته الهالكة (جولدا مايير): "إذا بلغ عدد المصلين في صلاة الفجر عددَ المصلين في صلاة الجمعة فقد هزمت إسرائيل"، لقد وجدنا إقبالا على الدين وصلةً بالله عز وجل، وتمثل ذلك في إقبال المئات بل الآلاف من الفتيان والفتيات على حفظ كتاب الله، ستّة عشر ألف طالب وطالبة تحتضنهم حلقات تحفيظ القرآن في مساجد غزة، هم بإذن الله تعالى سيكونون جيلَ النصر والتحرير، وتم اختيار الصفوة منهم لإتمام حفظ كتاب الله في مشروع خيري هو "مشروع الشفيع" لحفظ القرآن الكريم وكتُب الحديث، يخرج المئات ممن أتموا حفظ القرآن كاملا، وكم كان مفرحا لقلوبنا ونحن نتجوّل في حلقات ذلك المشروع ونستمع لتلاوة ذلك النشء الذي أقبل على كتاب الله برغبة وجدّ، فقد آمنوا بأن المعطي هو الله وأن الكافي هو الله وأن الناصر هو الله، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 126].
نسأل الله تعالى أن يفرّج الكربة ويثبّت القلوب ويحقق النصر وأن ينصر المؤمنين ويذلّ الكافرين والمتكبرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ناصر المؤمنين وولي المتقين ومذل الجبابرة والمتكبرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
وبعد: معاشر المؤمنين، إن مما أثار الإعجاب في نفوسنا والأمل في قلوبنا ذلك الصبر والجلد والثبات الذي رأيناه في أهل غزة، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، شبابا وشيبا، على الرغم من تعدد النكبات والويلات وجَور الأعداء وخيانة الأدعياء وشدة الحصار، إلا أنّ ذلك كله لم يكن ليزعزع الإيمان في قلوبهم ولا الأمل في نفوسهم، يقولون: نجوع ولا نركع، ونتألم ولا نخضع، قلوبهم متعلّقة بالله، ونفوسهم واثقة بنصر الله، وإذا اجتمعت التقوى مع الصبر في الأمة ـ عباد الله ـ فقد استجلبت معية الله وحفظه ونصره، قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 146-148].
فواصلوا ـ أثابكم الله ـ دعمكم، فمن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان مسلما أعانه الله، ومن نصر مسلما نصره الله، ومن آوى مسلما آواه الله، ومن ستر مسلما ستره الله، ومن خلف مجاهدا ومرابطا في أهله بخير فقد شاركه الأجر. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لصدقاتكم ونفقاتكم أثرا وخيرا وبركة وقبولا هي سر الأمن والأمان وباب لرضا الكريم المنان، وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 110].
(1/5596)
لن ننساك يا غزة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, المسلمون في العالم
إبراهيم بن صالح العجلان
الرياض
1/2/1429
جامع الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مأساة حصار غزة. 2- قصة حصار شعب أبي طالب. 3- فوائد حصار الشعب. 4- الفرج بعد الشدة. 5- وفاء النبي. 6- قراءة في حصار غزة. 7- وجوب نصرة إخواننا في غزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، ذبلت الأجساد، وجفَّت الأكباد، قرقرت البطون، وظمأت الأجواف، أطفال يصرخون، وشيوخ يئنون، مرضى يتوجَّعون، ورجال حائرون. إنه مشهد من مشاهد الحصار وصورة من أثره وآثاره.
ونحن نشاهد اليوم فصلاً من فصول مآسينا في غزة نسترجع بالذاكرة إلى الوراء، ونقطع حجب الزمان، لنقترب من صفحة من حياة النبي لا تُنسى؛ لنسلّي بذلك مصابنا، ولنصحِّح في الحياة مسيرنا. إنها قصّة المقاطعة الباغية والحصار الظالم الذي تعرّض له خير البشر وأصحابه الكرام رضي الله عنهم في شعب أبي طالب.
إخوة الإيمان، ها هي دعوة النبيّ في عامها السابع تتعاظم يومًا بعد يوم، ويعلو شأنها، ويتعالى شأوها، وانتقل المسلمون من حياة الكتمان والاستخفاء إلى مرحلة الجهر بالتوحيد والاستعلاء، فطاش من قريش صوابها واضطربت حبالها واشتعلت أفران الحمم في صدورها، وبالأخص بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، اللذين قلبا موازين القوة، وأصبح المشركون بعدها يضربون للفئة المستضعفة حسابات أخرى.
أجمعت قريش أمرها على قتل النبي ، فبلغ ذلك أبا طالب عمّ النبي ، فجمع أبو طالب بني هاشم مؤمنهم وكافرهم، وأخبرهم بمكيدة قريش، فتحركت فيهم حميَّة الدم والنسب، فقرَّروا أن ينحازوا بالنبي في شعب بمكة يقال له: شعب أبي طالب، وانحاز معهم حميَّةً أيضًا بنو المطلب بن عبد مناف.
رأت قريش هذه الحمية والمنعة، فعرفت أن دون ذلك دماء وأشلاء ورؤوسًا ونفوسًا، فقررت قريش معاقبة هذه الفئة المسلمة المارقة ومن تعاطف معها، فاجتمع رؤساؤهم في خيف بني كنانة (ويسمّى اليوم بالمعابدة)، اجتمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب اقتصاديّا واجتماعيا، وكتبوا في ذلك كتابا ألاّ يزوّجوا إليهم ولا يتزوّجوا منهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم شيئا ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلّموا إليهم رسول الله ، وعُلّقت هذه الصحيفة الظالمة في جوف الكعبة تأكيدا على التزام بنودها. وكان الذي كتب هذه الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري، فدعا عليه النبي فشلت أصابعه.
سارع المشركون في تطبيق هذا الحصار عمليا، فلم يتركوا طعاما يدخل مكة ولا بيعا إلا بادروا فاشتروه بأضعاف ثمنه حتى لا يشتريه بنو هاشم ولا يبيعونهم شيئا مما عندهم أبدا. وهكذا قل الطعام ونقص الزاد وجهد المسلمون وأقاربهم وحلفائهم من هذا الحصار والتضييق الاقتصادي.
أما أبو طالب عمّ النبي فقد وقف موقفا عظيما شريفا في حماية النبي ، كان يبيت الليل مستيقظا، يحمل سلاحه، ويطوف في الشعب مع جماعة من بني هاشم، ثم ينامون النهار، وكان أبو طالب يأمر حمزة والعباس أن يرابطا على مدخل الشِّعب ليرصدا تحركات المشركين، خوفا من غدره أو غيلة تستهدف حياة ابن أخيه، بل بلغ من خوفه وحرصه على حياة النبي أنه كان يطلب من النبي أن ينام على فراشه ويأمر أحد بنيه أن ينام مكان النبي.
مضت الأيام والأشهر وحال المسلمين المحاصرين يزداد من سوء إلى أسوء، وعمّ الجوع بين أهل الشِّعب، وندر الكلام، وقلت الحركة، وكان يُسمع من وراء الشِّعب أصوات النساء والصبيان يتضاعون من الجوع، وبلغ بالناس من الخماصة شيئًا لا يكاد يصدَّق حتى أكلوا كلّ ما يمكن أكله. ولعل موقفا واحدا يصوّر لنا شيئا من حالة الجوع التي عانى منها النبي ومن معه من المحصورين، فها هو سعد بن عبادة بن أبي وقاص يذكر لنا موقفا لا ينساه في الشِّعب، فيقول: (خرجت ذات يوم ونحن في الشعب لأقضي حاجتي، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا هي قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها، ثم رضضتها وسففتها بالماء، فتقويت بها ثلاث ليال). يحدث هذا في الشِّعب وأهل مكة مقيمون في ديارهم مطمئنون منعّمون.
ومن المواقف المذكورة أيام الحصار أن بعض المشركين كان يتعاطف مع أرحامه المحصورين هناك، فكانوا يرسلون إليهم حملات إغاثية ليلا, يستخفون بها عن أعين قريش، فكان أحد المشركين وهو هشام بن عمرو العامري يحمل البعير بالطعام والثياب، ويأخذ بخطام البعير حتى يقف على رأس الشِّعب، ثم يخلع خطام البعير ويطلقه في الشعب، وكان حكيم بن حزام يرسل الطعام لعمته خديجة بنت خويلد سرًا، فرآه أبو جهل يومًا، فجعل يمانعه عن إيصال الطعام ويهدد بفضحه والتشهير به، فجاء أبو البختري بن هشام، فوقف مع حكيم بن حزام، وحصلت مشادة بينه وبين أبي جهل انتهت برضّ رأس أبي جهل بحجر حتى أدماه، وانطلق حكيم إلى عمته بالطعام. الشاهد من هذه المواقف أن المعونات الغذائية كانت تدخل إلى الشعِّب سرًا، وكانت قليلة جدًا.
إخوة الإيمان، مع ما أصاب المسلمين من الجهد والبلاء في الشِّعب إلا أن هذا البلاء لم يكن شرًا محضًا، بل كان يحمل في طياته من الخيرية للدعوة المحمدية ما لا يدركه البشر بعقولهم، فمع ما في هذا البلاء من رفعة الدرجات وتكفير السيئات لأهل الإيمان إلا أن هذه المقاطعة والتجويع القهري كانت حدثًا إعلاميا تسامَع له العرب، وتساءلوا عن سبب هذه المحاصرة الاقتصادية والتي أخرجت قريشا عن رشدها ووقارها، فجعل العرب في غير مكة يتلقّطون أخبار هذا النبي ويتلهّفون لمعرفة حقيقة دعوته، فكان ذلك الحصار سببا في أن تخرج الدعوة المحمدية من إقليمية مكة إلى عالمية الجزيرة العربية آنذاك.
عباد الله، ومضت ثلاثة أعوام من عمر ذلك الحصار الآثم والمسلمون يستعينون على مدافعة ذلك القدر الإلهي بالصبر والمصابرة وانتظار الفرج من الله تعالى، انشقت السماء ونزل الوحي من الله تعالى على قلب سيد المرسلين ليخبره بأن تلك الصحيفة قد سلّط الله عليها دويبة ضعيفة فأكلت ورقتها إلا ما كان فيها من ذكر الله عز وجل. أخبر المصطفى عمّه أبا طالب بخبر السماء، فانطلق أبو طالب إلى قريش ليخبرهم بأمر الصحيفة وأن الأرضة قد أكلتها إلا اسم الله، ثم ساومهم أبو طالب على هذه المعلومة الغائبة عنهم فقال: إن كان كلام ابن أخي حقًا فانتهوا عن قطيعتنا، وإن يك كاذبًا دفعته إليكم، فقالوا: قد أنصفتنا، ومشى الجميع إلى جوف الكعبة فوجدوا الصحيفة كما أخبر عنها النبي ، ولكن أبى العناد والاستكبار إلا أن يركب رؤوس رؤسائهم، فأبوا إلا المضي في المقاطعة والمحاصرة.
بعد هذا الموقف وطول المقام على بني هاشم في الشَّعب تحركت مروءة رجال من قريش، فاجتمع نفر منهم ليلا، وتلاوموا على هذه الصحيفة الظالمة والرحم المقطَّعة، وتحركت فيهم وشائج النخوة والشهامة، فقرروا نقض الصحيفة وإنهاء حياة الضرّ التي قاساها بنو هاشم طوال أعوام ثلاثة، فلم يصبحوا من ليلتهم تلك إلا ويمّموا شطر تلك الصحيفة ومزقوها؛ ليعلنوا بعدها إنهاء أزمة الحصار وإخراج بني هاشم وبني عبد المطلب من هذا الشِّعب.
في السنة العاشرة من بعثة النبي يخرج سيد البشر هو ومن معه من الشِّعب ومحنة الحصار وهم أصلب إيمانًا وأشدّ ثباتا على الدين، وهكذا الأحداث والابتلاءات تصنع للأمة الرجال، وتخرج للمستقبل الأبطال.
إخوة الإيمان، كانت أيام الشِّعب وأحداثها عالقة في ذهن النبي ولم ينسَها مع الأيام، ولم يتجاهل أكرم الخلق لأهل الوفاء فضلهم، فكان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك يشرك بني المطلب مع بني هاشم من خمس الغنيمة، ويقول: ((إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد)) ، وكان يقول: ((إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام)). وفي يوم بدر كان النبي يوصي صحابته مرارًا أن يتركوا أبا البختري بن هشام ولا يقتلوه، لمواقفه أيام المقاطعة ودوره في نقض الصحيفة.
وبقيت معالم الشّعب في ذكريات النبي يوم دخل مكة فاتحا، فحينما كسر الأصنام وأزال الوثنية الجاهلية وأدانت له مكة أمر أصحابه أن تضرب له خيمة في شعب أبي طالب حتى ترى البشرية صدق وعد الله لنبيه ، فهذه البقعة التي شهدت يوما من الدهر تأوهات الجائعين وصبر المستضعفين ها هي اليوم تشهد مقام نبي الله عزيزا شامخا، ولا أثر للشرك ولا آثار للمشركين، وصدق الله وعده: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128].
وبقيت أطياف الحصار وأطلال الشِّعب ماثلة للنبي قبل أن يودّع الدنيا بأشهر معدودات، فها هو رسول الله في حجة الوداع يرمي جمرة العقبة في اليوم الثالث عشر ثم دفع إلى مكة، فأقام عمدًا بالمحصَّب وهو خيف بني كنانة الذي اجتمعت فيه قريش قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة على المقاطعة والحصار، أقام النبي في هذا المكان حتى يربِّي الأمة على اليقين بصدق موعود الله تعالى, فهذه الأماكن كانت يوما ما موقع معاهدات وتوقيع اتفاقيات على محاصرة الفئة المسلمة، ها هو اليوم ليشهد على بقعته مقام أولئك المستضعفين المضطهدين وهم في عزٍ ومنعة وكمال نعمة، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الص: 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اجتبى.
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هي السنن الكونية تتكرر، وها هي سياسة تجويع الشعوب وتجفيف البطون يشاهدها العالم رأيَ العين، في عصر المباهاة بالديمقراطية والمفاخرة بالقيم الإنسانية. ها هم اليهود اليوم ومن حالفهم من عبّاد الصليب وطواغيت البيت الأبيض يتحالفون على إبادة جماعيّة على أهل غزة؛ بفرض حصار كامل عليها حتى ضاقت بهم الأرض وأظلمت عليهم الدنيا وأصبحت بطون الأرض خيرًا لكثير منهم من هذا الوضع المأساوي الذي لا يطاق.
لقد صورت عدسات الإعلام حجم المعاناة والشظف المعيشي هناك، انقطعت الكهرباء، وعم الظلام بالليل، وعزّ الطعام، وقلّ الماء النقي، وتقاسم الناس الخبز، وتعطلت المستشفيات، وحرم المرضى من الدواء، بل حتى الأكفان لمواراة الموتى عدمت عندهم. صار الناس يتحركون هنا وهناك بحثًا عما يسكت بطونهم وأجوافهم. أكثر من مليوني مسلم يعيش هذه المعاناة في هذا السجن، بُحَّت أصواتهم وتعالت صيحاتهم، وتتابعت استغاثاتهم بدول الإسلام وأمم الكفر لإنقاذهم من هذه الكارثة والموت الذي ينتظرهم. إنها والله حالة تدمي القلب وتفتّ الفؤاد فتًّا على هذا المصير المأساوي الذي يلاقيه إخواننا في فلسطين.
لقد كشف لنا هذا الحصار الآثم زيف الشعارات البراقة التي تنادي بها دول النصرانية الطاغية الباغية، رأينا هذه الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير المصير رأي العين في فلسطين، رأينا رحمة الغرب المتحضّر بالإنسان حينما يختنق شعب بأكمله لأنه اختار من لا يريد أن يركع لساستهم وسياستهم، وكشف لنا هذا الحصار أيضا ضعف لحمة الأخوة الإسلامية وبرودة النخوة العربية، فإذا لم تتحرك فينا النصرة الإسلامية فأين الشهامة العربية؟! وإذا ماتت منا هذه النخوة فأين هو الضمير الإنساني عن نجدة هؤلاء الذين يلاقون شبح الموت البطيء؟!
نعم، لقد قعدت شعوب المسلمين عن نصرة إخوانهم المنكوبين هناك بسبب اتفاقيات الذلّ ومعاهدات الهوان التي شاركت فيها دول الجوار على محاصرة الشعب الفلسطيني وزيادة معاناته وتحمل تبعاته.
إخوة الإيمان، ويبقى السؤال الأهم: لماذا غزة قدرها الحصار دون بقية مدن فلسطين؟! لأن غزة هي التي تحتضن بين جنبيها أبطال فلسطين الذين رفعوا راية الجهاد أمام الغطرسة اليهودية، لأنَّ أبطال غزة هم الذين قالوا: مرحبا بالمنايا في سبيل كرامة الأمة وعزتها وحفظ مقدساتها، لأن أبطال غزة رفضوا حياة التركيع والذل والهوان، ورفضوا منطق الاستسلام باسم السلام أمام من لا يؤمن بعهد ولا ميثاق، إنهم الأبطال الذين قدموا دماءهم وأموالهم وأولادهم ثمنا لقضية فلسطين، إنهم الرجال الذين علّموا الأمة كفكفة الدموع وقالوا لها بعزة وشموخ: لا تبكوا على الشهيد فعندنا مولود جديد يذكّر بني صهيون بسعد وابن الوليد، فصبرا يا أهل الرباط، صبرا يا شامة الأمة ومجدها، صبرا يا من نفضتم غبار الغفلة والهوان عن جبين الأمة، وبشراكم قول النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قالوا: يا رسول الله وأين هي؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) رواه الإمام أحمد وغيره. هذا خبر إخواننا في الثغور هناك، فما خبرنا نحن هنا؟
إخوة الإيمان، إن ما يزيد جراحاتنا جرحا حياة الغفلة واللامبالاة بقضايا المسلمين، وقلّب نظرك في قنوات الإعلام العربي ترَ الرقص والتعرّي في الوقت الذي يتضاغى فيه أطفال غزة ونساؤها من الخصاصة، ويتألمون من قرس البرد ولذعاته. ومما يزيد مآسينا إيلامًا أيضا تلك المفاهيم المنكوسة والأقلام الموبوءة التي تحمّل كارثة الحصار على المظلوم ويصمتون عن الجلاد الغاصب الذي أسّس للظلم وأتى به هناك، ناهيكم عن تلك الأقلام التي لا يعنيها شأن القضية الفلسطينية في شيء ولم تحبِّر لنا يوما مقالا في نصرتهم ورفع معاناتهم، وإنما هي مشغولة بتحرير المرأة وخلع حجاب المرأة وقيادة المرأة ورفض محرم المرأة.
وأخيرا عباد الله، فإن نصرة إخواننا المظلومين المحاصرين واجب شرعي، ولئن حاصر بنو صهيون الماء والغذاء والعلاج والدواء فإنهم لن يحاصروا مدد السماء، فارفعوا ـ أيها المسلمون ـ أكفَّ الضراعة في أوقات الإجابة، وألحّوا وألظّوا إلى الله أن يرفع المعاناة ويكشف الحصار، مع التعاون والتواصي على إيصال الإعانة والإغاثة لهم بأسرع وقت، فالأمر لا يحتمل مزيدا من التأخر والتردد.
ولا ننسَ ـ عباد الله ـ مع هذه الأحداث أن نرتبط بالله، وأن يزيد يقيننا ثقة بموعود الله، فالمصائب مدرسة لصياغة رجال المجد، وجيل التمكين لن يخرج إلا من رحم الفواجع، فأمِّلوا ـ أيها المسلمون ـ وأبشروا خيرا، وأصلحوا أنفسكم ومجتمعاتكم تصلح لكم أوطانكم وبلدانكم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/5597)
العلاقات الاجتماعية بين الناس
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
5/11/1420
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة مطلب الجميع. 2- الترابط الوثيق بين الإيمان والعلاقات الاجتماعية. 3- حالة الإنسان بلا إيمان. 4- عناية القرآن والسنة بالجانب الاجتماعي. 5- سعة مفهوم العبادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
إن الحياة الطيبة الهنيئة هدف يبحث عنه كلّ إنسان، ولكن المولى سبحانه وتعالى اشترط بأن الحياة الطيبة في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة لا يمكن الشعور به أو الحصول عليه إلا إذا كان الإنسان مؤمنًا، ولا يدرك هذا الإيمان إلا إذا عرف كل واحد منا واجبه نحو ربه وواجبه نحو أخيه ونحو الجماعة التي يحيا فيها والأمة التي ينتسب إليها. ولو رجعنا إلى القرآن الكريم وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام لوجدنا بأن القرآن بين ووضّح بأن العلاقات الاجتماعية بين الناس تأخذ مكانتها وأهميتها بعد العقيدة مباشرة، قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [سورة الماعون].
نجد الآيات الأولى تقرّر مبدأ عظيمًا وهو أن الذي يزجر اليتيم وينهره ويهمل المسكين الذي أذلّته الحاجة وعضّه الفقر والبؤس بأنه إنسان مكذّب بلقاء الله وحسابه، ولو أنه آمن بالله وجزائه يوم القيامة لاندفع بقلب مليء بالرحمة والحنان، فأكرم اليتيم وأعطى المحتاج مما أنعم الله به عليه، ونجا بهذا العمل من عذاب الله وغضبه وعقابه. ونجد الآيات الأخيرة من السورة تفضح المتظاهرين بالصلاح والتقوى، فتصبّ عليهم الويل والهلاك والشقاء الأبديّ لأنهم إن صلّوا فصلاتهم رياء وسمعة، ولا تجد لصلاتهم أثرًا في حياتهم الاجتماعية اليومية، بل الآيات تدلّ أيضًا على أنهم يمنعون خيرهم الذي أعطاهم الله من المحتاجين من إخوانهم في العقيده والدين كما قال تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون: 4-7]. يراؤون في أعمالهم، ويمنعون الخير لغيرهم، فأيّ رباط أقوى وأمتن من هذا الرباط بين العقيدة الصحيحة والواجبات الاجتماعية الذي جعل الله فيها التراحم الاجتماعي والتعاون على نفع الآخرين أساسًا يبنى عليه تقويم الإنسان وجزاءؤه في الدنيا والآخرة؟!
استمعوا لقوله تعالى حينما يقرّر مصير من يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: 30-34]. إن هذا الذي أخِذ إلى جهنم في سلسلة عظيمة ثقيلة واجتمعت عليه أسباب الإهانة والذلّ هو أنه كان لا يؤمن بالله العظيم، وبالطبع عدم الإيمان بالله هو أكبر ذنب وأعظم جريمة، فإذا اقترن به ذنب آخر علم أن هذا الذنب كبير ما دام أنه جاء بعده في الترتيب، وهذا الذنب الكبير هو عدم الحضّ على طعام المسكين، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر: 42-45].
فهل متدبّر كتاب الله وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى رفع من شأن الإنسان وحث على الواجبات الاجتماعية بين البشر وجعل مرتبتها تلي مرتبة الإيمان؟! فالإيمان الصادق هو الدافع الوحيد لإنقاذ الضعفاء والمحرومين، وهو الذي يدفع الإنسان إلى التراحم والشفقة على الآخرين والتواصي بالخير على تحمّل المشاق والتواصي بالمرحمة فيما بينهم؛ لأن الغرض الذي يرمي إليه القرآن الكريم هو أن يكون الخير والتراحم خلُقًا اجتماعيًا شائعًا بين المسلمين، فلا يكفي أن يصبر البعض والبعض الآخر لا يهتم بالصبر ولا بالمرحمة، بل الواجب أن يوصي بعضنا بعضًا بالصبر والرحمة حتى يتشبّع الجو الإسلامي الاجتماعي بينهم في جميع المعاملات اليومية؛ لأن الذين تواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة هم أصحاب الميمنة كما قال تعالى : ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ [البلد: 17-20].
فيا أيها المؤمنون، دعونا نتأمل هذا الإنسان قبل أن يعرف الإيمان طريقه إلى قلبه ويعرف ربه وحقوق خلقه، ويقول تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج: 19-30]، فتراه هلوعًا، وإذا مسه الشر والبلاء جزَع وسخط، وإذا جاءه الخير منع وحرم غيره من المحتاجين، أما المؤمن فيعلم أن ما أصابه هو قدر مقدور، فإن كان شرًا صبر، وإن كان خيرًا شكر، كما قال عنه : ((عجبا لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكانت خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)) أو كما قال. وحين يبلغ الإيمان مبلغه في القلب يصبح هذا المؤمن له شأن آخر في المجتمع، إنه سخي، رحيم بالسائل والمحروم، مشفق من عذاب الله إن قصر في واجب، وهو عفيف اللسان والفرج واليد، فلا يخون أمانة، ولا يغدر بعهد، ولا يكذب، ولا يكتم الحق في شهادة.
ومما يلاحظ في هذه الآيات أن معظمها عبارة عن واجبات اجتماعية وأخلاق تربط المسلم بغيره، ومنها التضحية من أجله وأداء ما له من حقوق وواجبات، ونجد هذا واضحًا جليًا في سور القرآن المكية التي نزلت في مكة أثناء التشريع؛ مما يدل على أهميتها وعلى ضرورة العمل بها.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه ربه في الأمّيين يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ولو أخذنا من القرآن مثالاً لهذا الجانب الاجتماعي لوجدناه واضحًا في سورة الإسراء من قوله تعالى: لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً حتى قوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، نجد سبع عشرة آية منها خمس عشرة وصية كلّها وصايا اجتماعية، مثل قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء: 26]، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29]، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31]، وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [الإسراء: 32]، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ [الإسراء: 33]، وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 34]، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35]. كل هذه وصايا اجتماعية تهتمّ بالمجتمع الذي نعيش فيه، وتتفاعل معه، وتحثّ المسلم على التمسك بها بعد الإيمان بالله وتوحيده.
أما في السنة فقد قال في الحديث المتفق عليه: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) ، والحديث الآخر: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) ، فأين نحن ـ أيها المسلمون ـ من تطبيق كتاب ربنا وسنة نبينا محمد ؟! فالجواب الحتمي: نحن بعيدون كلّ البعد عنهما إلا من رحم ربنا.
ومما هو جدير بالملاحظة ويجب علينا جميعًا فهمه وإدراكه جيدًا هو أن هذه الواجبات والآداب الاجتماعية عبارة عن جوانب تعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج وقراءة القرآن، بل بعضها قد يفوق ثوابه ثوابَ كثيرٍ من أنواع التعبد المعتادة، وليست مجرّد مجاملات اجتماعية يومية، فتصور أن مسح رأس اليتيم عبادة، وصلة الرحم عبادة، وزيارة الأخ في الله عبادة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، ومصافحتك أخاك صدقة، وقضاء حوائج العباد عبادة. فمعنى ذلك أن كل حركة لصالح إنسان أو حيوان مأذون فيها شرعا إذا فعلتها لوجه الله فهي عبادة. فيستطيع الإنسان المؤمن الحريص على طاعة ربه أن يخرج من بيته في الصباح فيعود مريضًا أو يزور صديقًا أو يتبع جنازة ويرجع قبل العصر مثلاً وقد كتب له جميع وقته عبادة مع أنه لم يصلّ إلا الظهر، أليست هذه سعادة وتجارة مع الله غفل عنها كثير من الناس وحرموا نفعها في أيامنا هذه إلا من وفقه الله وسدد خطاه؟!
استمعوا إلى هذه البشرى من رسول العالمين: صلى رسول الله الفجر ذات يوم بأصحابه، فلما قضى صلاته قال: ((أيّكم أصبح اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من أطعم اليوم مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الرحمة : ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم. صام وتبع جنازة وأطعم مسكينًا وعاد مريضًا.
ولكي نعرف خطورة إهمال الجانب الاجتماعي في حياة المسلم فعلينا أن نستمع إلى رسول الله في الحديث الذي رواه مسلم حيث قال : ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)).
فلا يغترّ إنسان بعبادته وطاعاته إن لم يعمل بمقتضى هذه العبادة، فمن صلى مثلاً وهو لا يزال يفعل المنكرات فلا تنفعه صلاته، فقد قال تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ، وقال : ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت فيها)) وقال: ((إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له فيها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)) رواه أحمد.
عباد الله، اتقوا الله، اعلموا أن الله صلى وسلّم على نبيه قديما، فقال تعالى ولم يزل قائلاً عليمًا وآمرا حكيما تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...
(1/5598)
بنو إسرائيل وفلسطين
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
أديان, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
16/7/1421
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مناسبة الحديث عن اليهود. 2- صفات اليهود وجرائمهم كما وردت في القرآن والسنة. 3- سبب تمكين اليهود في هذا الزمان. 4- فضل بيت المقدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].
أيها الإخوة، لا زلنا نتدبّر القرآن الكريم ونعتبر بما فيه من قصص، ووصلنا في الجمعة الماضية إلى أن إخوان يوسف نجحوا في إقناع والدهم النبيّ يعقوب بإرسال شقيق يوسف بنيامين إليه في مصر، وبما أن الأحداث الحالية التي نعيشها الآن في فلسطين في نفس المنطقة أرض كنعان وكلّنا يسمع ويرى ما يحدث لإخواننا في أرض فلسطين من اليهود الغاصبين، وكما حسدوا أخاهم يوسف وحاولوا قتله فإن هذه البذرة السيّئة لا تزال فيهم، ولن تنفك عنهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
واسمحوا لي ما دام الوضع كما نرى أن نتحدث عن بني إسرائيل وما فعلوه في الأنبياء والرسل، وذلك بأن نتدبر القرآن الكريم أيضًا، وأن نأتي بشواهد منه أو من سنة نبينا محمد.
قال الله تعالى عنهم: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 60]. لم تجتمع كل هذه الصفات الذميمة إلا في اليهود قاتلهم الله، فقد لعنهم الله وطردهم من رحمته وغضب عليهم مبالغة وتأكيدا على جرمهم وفسادهم، بل مسخهم إلى قردة وخنازير، وهؤلاء عبدوا الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله من بشر أو شجر أو حجر أو هوى نفس أو مادة أو نساء أو غرض دنيوي زائل، وختم الله سبحانه الآية بقوله: أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ أي: أدنى منزلة من غيرهم وأبعد الناس عن طريق الهدى والاستقامة.
ورُبَّ قائل يسأل: ماذا فعل اليهود حتى استحقّوا كل هذه الأوصاف الدنيئة والعاقبة الفظيعة؟ فأقول: إن بني إسرائيل ـ وإسرائيل هذا هو اسم نبي الله يعقوب أبي يوسف ـ ما تركوا جريمة منكرة إلا فعلوها، ولا ضلالة إلا اتبعوها، والآيات الكريمة في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في وصفهم وبيان ما فعلوه كثيرة، حتى إنها لتصوّر جرائمهم أبلغ تصوير، فهم الذين عبدوا العجل لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه ليلقيَ إليه الألواح التي فيها شرائعهم وعقائدهم، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة: 51]. ولما أنزل الله عليهم المن والسلوى وهما أطيب أنواع الطعام وجعل السحاب والغمام يظلّهم وساترًا لهم من حرارة الشمس جحدوا نعمة الله عليهم وقالوا: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة: 61]، وطلبوا بدلاً من ذلك العدس والبصل والثوم. ولما أمرهم بدخول القرية المقدسة ماذا كان موقفهم؟ فلنستمع سويًا للسياق القرآني في ذلك: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة: 58، 59]، ومعنى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ أي: أن الكلمة التي بدلوها وهي قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ أي: قولوا: اللهم احطط عنا خطايانا وذنوبنا، فبدلاً من ذلك سخروا وقالوا: حبة حنطة في حبة شعير؛ مستهزئين وساخرين بالله ورسوله، فهل رأيتم ـ معشر المؤمنين ـ أناسا بمثل هذه الأخلاق يسخرون بأوامر الله سبحانه وتعالى وبأوامر رسوله موسى عليه السلام؟!
ولقد أرسل الله إلى بني إسرائيل من الأنبياء والرسل ما لم يرسل إلى أمة من الأمم، ذلك لكثرة تكذيبهم ولحقارة ودناءة نفوسهم، فلقد كانوا يقتلون أنبياءهم ويقدمون رؤوس بعضهم مهورا للبغايا منهم ولبنات الهوى، ولنستبين ونعرف عظيم جرمهم فاسمعوا ماذا يقول لكم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : (كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوقَ بقلهم في آخر النهار) أي: أنهم يبيعون ويشترون وكأنهم لم يقتلوا أنفسا بشرية، إنما قتلوا حشرات، والرسول يقول: ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيًا)) رواه أحمد. تأملوا شدة العذاب ومع ذلك لا يبالون؛ لأن أنفسهم خبيثة، وهذا متوارث فيهم جيلا بعد جيل. ولقد حاولوا قتل الحبيب محمد لما ذهب إلى يهود بني النضير يستعين بهم على قضاء ديتين كانتا على المسلمين، أجلسوه تحت جدار وأرادوا أن يلقوا على رأسه حجرًا ليقتلوه بأبي هو وأمي ، فأتاه الخبر من السماء سريعًا، فأمر بإجلائهم وإخراجهم من المدينة المنوّرة، مع أن النبي كان قد عمل معهم اتفاقيات وعهودا ومواثيق حين دخوله إلى المدينة في أول هجرته مع أصحابه رضي الله عنهم. ووضعت يهوديّة سمّا له حينما علمت من أي موضع من الشاة يحب ، فأُخْبِرَت بأنه الذراع، فسمت ذراع الشاة وقدمتها له هدية، فأكل ولم يستسِغه، فتفله وقال: ((إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة)) أو كما قال ، وأكل معه صحابي جليل فمات.
ولقد بلغ اليهود أحقر وأخسّ مرتبة من الدناءة حينما سبوا الله، تعالى الله علوا كبيرًا عما يقول هؤلاء الأنجاس، وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64].
واليهود هم أعدى أعداء المسلمين، وعداوتهم لنا تاريخية قديمة قدم التاريخ نفسه، ويشهد بذلك ربنا ولا أعظم شهادة من الله إذ يقول: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82]، ويصفهم الله بوصف قبيح: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64] أي: أنهم يجتهدون في نشر الفساد بكل أنواعه في الأرض، فتجدهم وراء نشر دور الدعارة في العالم، وهم وراء نشر الأفلام الإباحية والجنس في كل مكان، وهم الذين ينشرون الفساد الخلقي والعقائدي وينقضون العهود والمواثيق، ونقض العهود من سماتهم وصفاتهم المتأصلة في نفوسهم، يتوارثون هذه الصفة كابرًا عن كابر وأبًا عن جد، ويتفاخرون بذلك، ولقد نقضوا عهودَ موسى وعيسى وسيّدنا محمّد حينما خذلوا المسلمين في غزوة الأحزاب بالتفاهم والتآمر مع مشركي مكة بأن يطبقوا على النبي وصحبه من الجهتين: المشركون من جهة واليهود من خلف المسلمين، ولكن الله خيب أملهم، وبعد انتهاء الغزوة لم يتركهم النبي ، بل بأمر الله قام بقتل مقاتليهم وكل من بلغ من الرجال، وسبى ذريتهم ونساءهم، ولا يؤدبهم إلا هذا الأسلوب منذ عهد نبينا محمد حتى قيام الساعة؛ لأن هذا ديدنهم وهذه طبيعتهم؛ لا يتوقفون عن نقض العهود والخيانة إلا بالسيف، أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 100].
ومن هنا يجب على جميع المسلمين العارفين لدينهم جيدًا أن لا يطمعوا أو يأملوا في ودّ أو صلح مع بني إسرائيل في يوم من الأيام، وهذا حكم القرآن فيهم، وهذا وصف الله لهم، والذي يشك في هذا فليراجع إيمانه، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء: 122]، يقول تعالى مؤكدًا وضعهم الحقير: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران: 112]، إن في الآية حكمًا عليهم من الله بالصَّغَار والهوان والذلة إلى يوم القيامة.
ورُبّ سائل يقول: كيف ضربت عليهم الذلة وهم الذين يتسلطون على المسلمين في فلسطين ويقتلون يوميًا عشرات من المسلمين العزل دون خوف من ردع قوي فعال؟! والجواب بمراجعة الآية السابقة في قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ ، والمعنى: أن الذلة مضروبة عليهم دائمًا وأبدًا، والاستثناء هو بحبل من الله أي: إلا بعهد الله لهم إن كانوا تحت حماية المسلمين تحت ظل الدولة الإسلامية، وهذا غير متوفر في وقتنا الحاضر، إذًا يبقى حبل من الناس ومعناه أي: وسيلة تؤدّي إلى عز اليهود وتمكنهم وذل المسلمين لابتعادهم عن دينهم وتفرقهم وتشتتهم وتركهم الجهاد الذي قال عنه النبي : ((ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا)) ، وهذا هو الذي استفاد منه أعداء الدين، ونشروا الفساد، وأخرجوا المرأة من بيتها، واستخدموها كأداة إضلال وإفساد، وأقاموا نوادي العراة السرية، وأمدّوها بالأموال، ونشروا المخدّرات بين أبناء المسلمين؛ لأنهم يعلمون بأنهم لا يستطيعون أن يتحركوا أو يعيشوا إلا باستغلال هذا الحبل، وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ ، والعمل على إشغال المسلمين بكل ما يبعدهم عن دينهم. وانظروا إليهم كيف هم خائفون من شباب الحجارة حكومة وشعبًا، وصدق الله تعالى إذ يقول: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14].
أيها المؤمنون، هل من عودة صادقة إلى تعاليم القرآن الكريم وتدبره والعمل بما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه واتباع سنة نبينا محمد ؟! إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة، وصدق رسول الله حيث يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة ـ أي: تبايعتم بالربا، وهذا ما يحدث عياذا بالله في جميع أنحاء العالم ـ وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يحيي موات القلوب بروح الإيمان، وينشئ من موات الأمم جند الرحمن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الجبار الديان، نادى عباده فقال: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، خير من أذل بني يهود مشرّدا بهم في الأرض وأذاقهم كأس المرارة والحرمان، وحرم دخولهم ودخول أبناء عمومتهم النصارى جزيرة العرب، ونهى أن يجتمع في جزيرة العرب دينان، فصلى الله عليه وسلم ما تعاقبت الأجيال والأزمان، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
معاشر المسلمين، عظّموا ما عظم الله، وأحلوا ما أحلّ الله، فذلك دليل التقوى، فلقد ورد في شأن بيت المقدس ـ ردّه الله إلى المسلمين ـ نصوص كثيرة، منها ما ورد عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أوَّل؟ قال: ((المسجد الحرام)) ، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم المسجد الأقصى)) ، قلت: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلِّ فهو مسجد)) رواه البخاري ومسلم، وروى ابن ماجه والنسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمة، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأن لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ، فقال النبي : ((أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)).
ومن فضله أن الرّحال تشد إليه كما قال النبي : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)) أخرجه البخاري ومسلم. ويكفي شرفًا لبيت المقدس أن إليه أسري نبينا ، ومنه كان المعراج الذي صعد منه إلى السماء، وقيل: إنه أيضًا الذي تصعد منه الأرواح إلى السماء، ينظر إليه العبد إذا شخص بصره عند طلوع روحه، ووردت آثار كثيرة عن بيت المقدس وفضله، وبمسجده صلى النبي إمامًا بالنبيين والمرسلين، وقال عبد الله بن عمر : (بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته، وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه نبي أو قام عليه ملك). وفي بيت المقدس بشر الله زكريا بيحيى، وسخر الله لداود الجبال والطير في بيت المقدس، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يقربون القرابين ببيت المقدس، ويهلك الله يأجوج ومأجوج في بيت المقدس، وولد عيسى عليه السلام في المهد في بيت المقدس، وأنزلت عليه المائدة فيها، ورفعه الله إلى السماء منها، وينزل من السماء فيها ليقتل المسيح الدجال، وصلى نبينا محمد إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا قبل أن يوجهه الله إلى المسجد الحرام، وغير هذا من الفضائل كثير.
مما تقدم من الفضائل العظيمة يتضح لنا ما لبيت المقدس من المكانة العظيمة في نفوس وقلوب المسلمين، فجميع المسلمين اليوم مطالبون أن يطهّروا مصلى الأنبياء ومعراجهم إلى السماء من رجسِ اليهود والنصارى، والذين سجل الله عز وجل عليهم سخَطه في كل ركعة من الصلاة، فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، وهذا مسجد الأقصى ينادي، نساؤه وأطفاله يرمون بالحجارة، وشبابه يعتقلون من اليهود الحقيرين، ولسان الحال يقول: هذا المسجد الأقصى فتحه عمر وأعاده صلاح الدين فمن له اليوم؟! إلا أنني أبشر إخواني المسلمين بأنّ هذا المسجد لن يتخلى عنه المؤمنون المجاهدون حتى لو تنكر لهم بعض إخوانهم، وهذه البشرى من النبي ، قال النبي فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قال: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) فصدق رسول الله.
إنها من معجزاته ، أظنكم قد عرفتموهم أيها الأحبة في الله، إنهم شباب فلسطين الذين يواجهون اليهود بصدور عارِية وقلوب مؤمنة.
واعملوا أن الله صلى وسلّم على نبيه قديمًا، فقال تعالى ولم يزل قائلا عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيما، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
لبيك اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر المسلمين، واخذل من خذل الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين العزل في بيت المقدس وفي فلسطين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم سدد رميهم وحجارتهم...
(1/5599)
الهيكل المزعوم
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
أديان, القصص, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
8/11/1421
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى. 2- أكذوبة الهيكل. 3- الوجود الإسلامي في الأرض المقدسة. 4- دين سليمان عليه السلام هو الإسلام. 5- دلالات حادثة الإسراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، كنا قد تحدثنا طيلة الأسابيع الماضية عن اليهود وفلسطين، وبينا بأنه لا حق لهم في فلسطين ولا في المسجد الأقصى، وأثبتنا من كتاب ربنا انقطاعَ صلتهم بأنبياء الله ورسله، ولا يجوز لهم أن يفاخروا بتاريخ أنبيائهم وصالحيهم؛ لأنه تاريخ الإسلام والإيمان وهم ليسوا مسلمين ولا مؤمنين. واليوم سوف نتحدث عن زعمهم بأن سليمان بن داود عليهما السلام بنى هيكلاً قبل المسجد الأقصى بسنين عديدة بمكان المسجد الأقصى، وهو في الحقيقة جدد بناء المسجد.
قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران: 96]، وأخبرنا الله أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هما اللذان بنيا الكعبة بيت الله الحرام، قال تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 127، 128]، وبين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أربعون سنة كما أخبر بذلك سيد الأولين والآخرين فيما رواه الإمام مسلم في صحيحة عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام)) ، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم المسجد الأقصى)) ، قلت: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد)).
إذًا يقرر رسول الله وهو الصادق المصدوق في هذا الحديث الصحيح أن المسجد الأقصى في بيت المقدس هو ثاني مسجد بني للصلاة، ويقرر المدة الزمنية بين بناء الكعبة وبناء الأقصى بأنها أربعون سنة، بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة، ثم عاد إلى موطنه في المقدس وهناك بِناءُ ثاني بيت لله وهو المسجد الأقصى، وهناك رواية تقول بأن الذي بنى المسجد الأقصى هو يعقوب، ورواية إسرائيلية أخرى تقول بأن الذي بناه سليمان، ولكن الحقيقة هي ما أخبرنا به نبينا محمد بالحديث السابق، وأن الفارق الزمني بين المسجدين أربعون سنة. وبما أن القرآن أثبت بأن باني الكعبة في المسجد الحرام هو أبونا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام والفرق الزمني بين إبراهيم وسليمان عليهما السلام مئات السنين وهذه حقيقة تاريخية معروفه فمن المؤكد بأن الباني للمسجد الأقصى هو إبراهيم عليه السلام.
ونرى أن في هذه الحقائق إبطالاً قويًا لحجج ومزاعم اليهود حول القدس وحقهم بها بزعمهم أن هيكل سليمان بناه سليمان عليه السلام قبل المسجد الأقصى وأن المسلمين هم المعتدون لأنهم بنوا المسجد الأقصى مكان الهيكل، وهذه من أكاذيبهم المستمرة وخرافتهم الباطلة التي أخبرنا الله عنها في القرآن الكريم وذكرناها حينما ذكرنا سماتهم وشخصياتهم كقولهم: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة: 41]. من هذا علم بأن الوجود الإسلامي على أرض فلسطين أسبق زمنيًا من الوجود اليهودي، وأن المسجد أسبق بناءً من بناء سليمان، ومن المعلوم تاريخيًا أن المسلمين هم الذين بنوا المسجد الأقصى في القرن الأول لما فتح المسلمون فلسطين، ودخل عمر بن الخطاب بيت المقدس واستلم مفاتيح المدينة المقدسة من بطريركها صفرانيوس، وكان أثناء مسيره يتناوب ركوب البعير مع خادمه، وعندما بلغوا سور القدس كان دور الركوب لخادمه، فلما رآه المحصورون من النصارى آخذًا بمقود الراحلة وغلامه راكب فوقها أكبروه وبكى بطريركهم صفرانيوس وقال: "إن دولتكم باقية على الدهر، فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة"، ولما تسلم عمر مفاتيح المدينة كتب للنصارى أمانًا وهو المشهور بـ"العهدة العمرية"، وكان من شروط النصارى في الأمان أن لا يسكن اليهود مدينة القدس، وظلت المدينة المقدسة تحت رعاية الخلفاء المسلمين من الفتح العمري عام 17هـ/638م حتى تجرأ اليهود وأخذوا قسمًا كبيرًا منها عام 1368هـ/1948م.
وهناك حقائق يجب تأكيدها ومعرفتها وهي أن إبراهيم هو أول من بنى الأقصى في بيت المقدس، ثم حدثت للأقصى أحداث كثيرة، هدم بناؤه والله أعلم متى هدم ومن قام بهدمه ولماذا هدم، ولما جاء الإسلام كان الأقصى مهدومًا وبناؤه منقوضًا، فجاء الخليفة الوليد بن عبد الملك وجدد بناء الأقصى، إذًا ليس الأقصى بعد الهيكل المزعوم، ولم يكن المسلمون هم الذين أنشؤوا الأقصى وأوجدوه من العدم، إنما كانوا مجددين له ومعيدين له أصالته وبركته.
ويخبرنا القرآن الكريم أن الفترة التي هدم فيها الأقصى وأزيل بناؤه لم يفقد اسمه ولا أصالته ولم يمح من الوجود، بل هو المسجد الأقصى معروف مكانه وموقعه وإن هدم البناء وتساوى مع الأرض. وحينما أسري بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وصلى بالأنبياء لم يكن المسجد مبنيًا وقت الإسراء وقائمًا على الأرض؛ لأن المعتبر ليس إقامة البنيان بالدرجة الأولى، بل الحقيقة اليقينية القاطعة بما ذكره الله بوجوده في هذا المكان، ومن المعلوم بأن باني أول وثاني مسجدين في الأرض هو إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، والإسراء كان بين أول وثاني مسجدين في الأرض برسول الله محمد خاتم الأنبياء، والأمة الوارثة لأول وثاني مسجد في الأرض هي خير أمم الأرض أمة محمد وارثة دين إبراهيم عليه السلام وأولى الناس به وبدينه كما بين ذلك ربنا في كتابه العزيز حيث قال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68]، أين الذين اتبعوه من قومه الآن؟ لا وجود لهم، عند ذلك يأتي وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ، فهذا النبي هو محمد ، والذين آمنوا هم المؤمنين من أمته. إذًا نحن الوارثون لإبراهيم وملته بنص القرآن الكريم، وكذلك نحن الوارثون لجميع أنبياء بني إسرائيل كما وضحنا في خطبنا السابقة.
وقد جدد سليمان عليه السلام بناء مسجد بيت المقدس لعبادة الله ويُسْلِمَ فيه الناس لرب العالمين، أي: كان هيكله ـ كما يسميه اليهود ـ بيتا لله ومسجدًا لعبادة الله وطاعته وتقواه، وورث سليمان داود في كل شيء اختاره الله نبيًا مثل أبيه وخليفة وملكا وحاكما، وكان حاكمًا مسلمًا ونبيًا ورسولاً وملكًا عادلاً وعابدًا مجاهدًا، ولقد أقام لبني إسرائيل في فلسطين حكمًا إسلاميًا، وأتباعه كانوا مثله مسلمين مؤمنين، عاملهم على أساس إسلامهم وإيمانهم وليس على أساس جنسهم ويهوديتهم. وقد وضح القرآن الكريم هذه الحقيقة الإسلامية لأعمال وحكم سليمان عندما أشار إلى قصته مع ملكة سبأ حينما دعاها وقومها للإسلام وليس لليهودية كما يدّعي يهود اليوم الفاجرون، وكان نص الرسالة التي أرسلت إلى ملكة سبأ وحملها الهدهد يقول تعالى: قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 29-31]. كذلك لما أوشك قوم سبأ أن يسلموا أراد سليمان أن يريهم آية على قوة الإسلام وأهله، فطلب إحضار عرش ملكة سبأ بعد خروجها وقومها من اليمن، قال تعالى: قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 38]، وقال تعالى فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل: 42]. وانتهت قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ باستجابتها لدعوته ودخولها في دينه وهو الإسلام، ولقد سجل القرآن الكريم إسلامها في قوله تعالى: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل: 44]، إن قول ملكة سبأ: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هو أصدق وصف بأن سليمان عليه السلام كان مسلمًا، وحكمه كان إسلاميًا، وكان يدعو إلى الإسلام، وهدفه أن يسلم الناس لرب العالمين، وأقام هذا الحكم الإسلامي طيلة حياته في فلسطين، ولم يكن حكمه حكمًا يهوديًا عنصريًا كما يدعى أبناء القردة والخنازير من اليهود في عصرنا هذا.
بعد كل هذه الأدلة من القرآن الكريم بأن سليمان عليه السلام كان مسلما وكان يدعو للإسلام ونحن أحق به من اليهود ولا يجوز لهم أن يفاخروا بتاريخه ولا ينتمون إليه لأن تاريخه إسلامي ويدعو إلى الإسلام وهم ليسوا مسلمين ولا مؤمنين، وبالتالي فلا حق لهم بسليمان ولا بمسجده الأقصى الذي يسمونه الهيكل وعندنا من الأدلة الصحيحة ما يثبت صحة ما نقول، روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأن لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ، وشاهدنا هنا قوله: ((وأن لا يأتي هذا المسجد أحد)) ، فقال النبي : ((أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)) رواه ابن ماجه والنسائي.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يعز من أطاعه ويذل من عصاه، ويربي عباده ليعودوا إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا برفع علم التوحيد ظاهرًا وباطنًا، وأمرنا بموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ، أسري به إلى المسجد الأقصى ومنه عرج به إلى السبع سماوات، وعاد إلى مكة ولما يزل فراشه دافئًا من أثر جسمه الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.
أما بعد: أيها الإخوة، شاء السميع العليم أن يكون الإسراء برسول الله من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف، ولقد رأى آيات كثيرة وهو في طريقه من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ورأى أخرى وهو متوقف في الأقصى وحينما عرج به إلى السماوات العلى، ولقد أخبرنا بهذه الآيات لنأخذ منها العبر والدروس والعظات.
روى الإمام مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((أُتِيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته حتى أتيت ببيت المقدس، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت ركعتين)) ، وهذا البراق دابة خاصة وبقدرات خاصة تفوق سرعه دواب الأرض، واسمها يدل على ذلك، فالبراق مشتق من البرق، وسرعة البرق أو الضوء معروفة، فلقد قطع المسافة بين مكة وبيت المقدس في ثوانٍ معدودة والله أعلم بها وعلى ظهره محمد وجبريل عليهما السلام.
ووصل رسول الله بيت المقدس، وأتى المسجد الأقصى، وربط البراق بالحلقة التي على باب المسجد الأقصى والتي كان الأنبياء السابقون عليهم السلام يربطون بها دوابهم التي يركبونها عند قدومهم للصلاة في المسجد الأقصى، وما فعله رسول الله في ربطه للدابة في الحلقة تأسيًا بالأنبياء السابقين دليل على الأصالة التاريخية للمسجد الأقصى، وأنه كان مبنيًا على هذه البقعة المباركة من بيت المقدس قبل آلاف السنين، ومعلوم بأنه عدت عليه العوادي وتأثر بالمتغيرات والديانات، وهدم بناؤه فيما بعد، ولم يكن ليلة الإسراء مسجدًا قائمًا متكاملاً، بل كانت بعض أعمدته وأطلاله باقية وفيها تلك الحلقة التي ربط بها رسول الله البراق، وهناك جمع الله له الأنبياء والرسل السابقين، وصلى بهم رسول الله إمامًا، وهم جميعهم مأمومون خلفه بما فيهم أنبياء ورسل بني إسرائيل، وفي ذلك دلالة قاطعة واعتراف منهم بفضله ومنزلته عند الله وأنه خاتم الأنبياء ودينه هو الحق وما جعل الإمام إلا ليؤتم به ويتَّبع، وهذا أيضًا اعتراف منهم ونسخ لرسالاتهم برسالته ولكتبهم بكتابه الكريم، فلا عمل يقبل بالتوراة ولا بالإنجيل ولا بالزبور بعد نزول القرآن الكريم، وكذلك دعوة هؤلاء الأنبياء والمرسلين لأقوامهم وأتباعهم بالدخول في الإسلام والإيمان بالقرآن واتباع محمد والتخلي عما كانوا عليه من اليهودية أو النصرانية، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]، فإن أصروا على يهوديتهم أو نصرانيتهم ولم يستجيبوا لمحمد ولم يدخلوا في دينه فهم كفار مخلدون في النار وإن ادعوا أنهم على طريق إبراهيم أو موسى أو عيسى عليهم الصلاة والسلام، فعن أبي هريرة قال رسول الله : ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) رواه مسلم في صحيحه، معنى ذلك أن جميع يهود اليوم الذين لا يؤمنون بمحمد ولا يصدقونه كفار، وكذلك النصارى، وإننا نحن الوارثون لجميع الأنبياء والرسل الذين كانوا يدعون إلى الإسلام، وأن المسجد الأقصى للمسلمين، وأن سليمان بن داود عليه السلام جدَّد بناءه، وأن لا وجود لما يسمَّى بهيكل سليمان في أرض الواقع إلا في أذهان اليهود الحاقدين على الإسلام والمسلمين وقرآنهم؛ لأنه يفضحهم ويبين كذبهم وبهتانهم؛ من أجل ذلك يحاربونه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين سبيلك في كل مكان...
(1/5600)
قتل اليهودي كعب بن الأشرف
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القتال والجهاد
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
26/1/1422
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيد أعداء الإسلام. 2- أذى كعب بن الأشرف وحقده على الإسلام والمسلمين. 3- أمر النبي بقتل كعب. 4- قصة قتل كعب بن الأشرف. 5- حال اليهود بعد قتل كعب. 6- ميزة هذه الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا زلنا نتحدث عما يكيد به الأعداء لإبعاد المسلم عن دينه، وما يكيدون من مؤامرات وتخطيطات، ولكننا نريد أن نأتي بمثال حيّ حدث في بداية عهد النبي ، وكيف تمكن من القضاء عليه.
لقد ذكر أصحاب السيَر في كتبهم بعد غزوة بدر الكبرى وانتصار النبي وصحبه على أهل الشرك والكفر أن رجلاً من سادات يهود وكبرائها ومن أشدّ اليهود حقدًا على الإسلام والمسلمين يدعى كعب بن الأشرف، وكان غنيًا مترفًا شاعرًا من شعرائها، وكان حصنه في جنوب شرق المدينة، ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين وقتل صناديد قريش في بدر لم يصدّق وقال: أحق هذا؟! هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس! والله، إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. ولما تأكد لديه الخبر انبعث عدو الله يهجو رسول الله والمسلمين، ويمدح أعداءهم ويحرّضهم على المسلمين، ولم يرضَ بهذا القدر حتى ركب إلى قريش وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم ويشعل حقدهم على النبي ، ويدعوهم إلى حربهم، وعندما كان عندهم في مكة سأله أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد؟ وأي الفريقين أهدى سبيلا؟ وكان كعب يهوديًا من أهل الكتاب، وعندهم التوراة فيها حكم الله، ويعلم الحق من الباطل، ومع ذلك منعه حقده من قول الحق، فأجابهم كذبًا وبهتانًا: أنتم أهدى سبيلاً وأفضل من محمد ودينه، قال تعالى مبينًا حقدهم وكذبهم وهم أهل كتاب: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [النساء:51].
ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال حاقدًا على المسلمين ومثيرًا لأعدائهم عليهم، ثم ازداد سوءًا وأخذ يشبّب في أشعاره بنساء الصحابة والمسلمين، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشدّ الإيذاء، وحين بلغ السيل الزُبى وطفح الكيل وتعاظم شرّه قال رسول الله : ((من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله)) ، فقام له محمد بن مسلمة وعبّاد بن بشر وأبو نائلة أخو كعب من الرضاعة والحارث بن أوس وأبو عبس رضي الله عنهم، وكانوا خمسة رجال، فجعل قائدهم محمد بن مسلمة، وتفيد الروايات أن محمد بن مسلمة قال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: ((نعم)) ، قال: فأذن لي أن أقول شيئًا، قال: ((قل)).
فخرج الجميع متوجهين إلى كعب لقتله لأنه آذى الله ورسوله وأغاظه مقتل رجال من أهل مكة يوم بدر، ولما وصل إليه محمد بن مسلمة قال: يا كعب، إن هذا الرجل ـ يعني به النبي ـ قد سألنا صدقه بعد أن أسلمنا وإنه قد عنّانا أي: شق علينا، قال كعب: واللهِ لَتَمَلَّنَّهَ، قال محمد: فإنا قد اتبعناه فلا نحبّ أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفَنَا وسقًا أو وسقين، قال كعب: نعم ولكن أرهنوني، قال محمد: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم، قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! قال: أبناءكم، قال: كيف نرهنك أبناءنا فَيُسَبُّ أحدُهم فيقال: رهِن بوسق أو وسقين؟! هذا عارٌ علينا، ولكنا نرهنك اللأمة ـ أي: السلاح ـ، فوافق فواعدة أن يأتيه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة أبو نائلة وجلس مع كعب يتناشد معه أطراف الأشعار سريعةً، ثم قال له: ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال كعب بن الأشرف: افعل، فقال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل ـ يعني الرسول ـ علينا بلاء؛ عادتنا العرب، ورمتنا عن قوسٍ واحدةٍ، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، وصار الحديث على نحو ما دار مع ابن مسلمة، وقال أبو نائلة أثناء حديثة: إن معي أصحابًا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم، فوافق على ذلك، وفي ليلهٍ مقمرة اجتمع هؤلاء إلى رسول الله ، فمشى معهم إلى بقيع الغرقد يشيّعهم، ثم وجههم قائلاً: ((انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم)) ، ثم رجع إلى بيته وطفق يصلّي ويناجي ربه، فوصل الجميع إلى حصن كعب بن الأشرف، وكان كعب حديث عهد بزواج، فهتف به أبو نائلة فقام لينزل إليهم، فقالت له زوجته: أين تخرج هذه الساعة؟! أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم، قال كعب: إنما هو أخي ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنةٍ أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيّب ينفخ رأسه كبرًا، وقد قال أبو نائلة لأصحابه: إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمهُ، فإذا رأيتموني استمكنت منه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدّث معهم ساعة، ثم قال له أبو نائلة: هل لك يا كعب أن نتماشى إلى شعْب العجوز فنتحدث بقيه ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر, وزهي كعب بما سمع، فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة: أتأذن لي أن أشمّ رأسك، قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمّه وأشمّ أصحابه، ثمّ مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال كعب: نعم، فعاد لمثلها حتى اطمأنّ، ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال كعب: نعم، فأدخل يده في رأسه فلمّا استمكن منه قال: دونكُم عدوّ الله، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغنِ شيئًا، فأخذ محمد بن مسلمة معولاً فوضعه في ثُنتهِ ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو الله قتيلاً، وكان قد صاح صيحةً شديدةً أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران.
ورجعوا إلى المدينة وقد أصيب أحدهم بذباب بعض سيوف أصحابه، فجُرح ونزف الدم، فلما رأوه كذلك حملوه حتى إذا بلغوا بقيع الغرقد كبّروا، وسمع رسول الله تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر ، فلما انتهَوا إليه قال: ((أفلحت الوجوه)) ، قالوا: ووجهك يا رسول الله، ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ لم يؤذَ بعد.
أيها الإخوة المسلمون، أتعلمون ماذا حصل لليهود بعد هذه العملية الرائعة؟ لما علمت يهود بمصرع طاغيتها دبّ الرعب في قلوبهم العنيدة كعادتهم من الجبن والخوف والخور أنّ رسول الله لن يتوانى في استخدام القوه حين يرى أن النصح لا يجدي نفعًا لمن يريد العبث في أعراض المسلمات وإثارة الأعداء، ولم يحرك اليهود ساكنًا، بل لزموا الهدوء واستكانوا وارتاح المسلمون من كثير من متاعب اليهود الداخلية التي كانوا يتوجسونها.
أيها المسلمون، إن هذه العملية لم تكن في أواخر عهد النبي حين انتشر الإسلام وكثر أتباعه وتقوّى، بل كانت في بداية مراحل تأسيس الدولة الإسلامية، ولم يكثر أتباعه حينئذ، وكانت بعد أول غزوة يغزوها الرسول ، والجراح لم تلتئم بعد، وكان رسول الله ينتظر ردًا من مشركي مكة، فلم يكن ليتفرغ لليهود في المدينة، وهو في غنى عن فتح جبهة أخرى يقابل فيها الأعداء، ولكن أعراض المسلمات لا تحتمل تأخيرَ الرد على من دنّسها، وقلة العدد والعدة ليست هي التي تنصر أو تخذل، إنما النصر من عند الله، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]، ومع هذا كله فقد ثبت النبي ولم يرضَ الذلّ والإهانة، وأرسل هذه المجموعة لتقوم بهذه المهمة الخطيرة، والتي تمت على أكمل وجه بتوفيق الله وعونه، وأعز الله بها قومًا وأذل بها آخرين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الخلق ليوحدوه ويعبدوه، وأدرَّ عليهم الأرزاق ليحمدوه ويشكُروه، فوفق من شاء من عباده فانقادوا لعبادته وأطاعوه، وخذل من شاء بعدله فخالفوا أمره وعَصَوْه، أحمده وأشكره حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أدخرها ليوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أعطاه الله من الفضل فوق ما يتمناه ويرجوه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الذين آزروه ونصروه.
أيها المسلمون، لقد خص الله هذه الأمة بدين محفوظ وتاريخ ناصع مكتوب، تتناقله الأجيال تلو الأجيال بأسانيد قوية تميزت بها الأمة، تسابق الحفاظ والعلماء بنقل ما حفظوه وضبطوه، دين قويم وشرع حكيم، آيات تحفظ وأحاديث تروى، وسيرة عطرة وتاريخ مشرق.
نعم أيها المسلمون، إنه فخرٌ لنا وميزة نفاضل به الأمم ممن حولنا، ميزان نزن به واقعنا وما يَجِدّ فيه، لا ينطلق المرء في مواقفه ومعاملاته من هوى واجتهادات، وكل حدث لا بد من عرضه على ذلك الكنز العظيم مما ورثناه عن سلفنا الصالح، لسنا كبقية الأمم ما وصل إليها من دين وكتب سماوية غامض ومحرف؛ مما يضطرها إلى التناقض والتغير والاضطراب، فيتفرق شملها وتختلف مواقفها، أما نحن فديننا الإسلام واضح وجليّ، وتكفل الله بحفظه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، من استمسَك به أعَزَّهُ الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، ومن تركه ورغب عنه فضحه الله، صراطُ الله لا يقبل الذلة، ويأبى التبعية، ويرفض الخنوع، ويستعصي على الدُّخلاء، وإذا هزمت الأمة في عقيدتها فقد هيمنت عليها الأمم وأذلّتها، وما كان لها أن ترفع رأسها وتشعر بالعزة.
أيها الإخوة في الله، ما قام به الصحابي محمد بن مسلمة وأصحابه رضي الله عنهم في قتل كعب بن الأشرف إنما هو أمرٌ من رسول الله ، وهذا تشريع يجب الأخذ به والانقياد له والتمشي بموجبه، وليس بالضروري تكافؤ العدد والعدة الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم، مع أنها مهمة، فيكفي المؤمنين أن يُعِدُّوا ما استطاعوا من القوة، وأن يثقوا بالله ويثقوا بنصره ويثبتوا ويصبروا، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120]. إن كيدهم ومكرهم وتخطيطهم لا يضرّ ما دمنا متمسكين بكتاب ربنا وسنة نبينا ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23].
وعلى المؤمن أن يعلم علم اليقين أنه مكفيّ سوء البلاء ما استقام على أمر الله، محفوظ من كيد الأعداء ما دام معتصمًا بالله ومتوكلاً عليه، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141].
وإن الناظر ـ أيها الإخوة ـ فيما أصاب المسلمين من ابتلاء هذه الأيام يرى اختلافًا في موقف الناس فمنهم صابر ثابت كإخواننا في فلسطين وفي الدول التي تقاوم وتقارع الكفر وأهله، وهم أقلية، ومنهم جزع خائف تعلّق بغير الله واعتمد على أسباب وماديات لا تغني عنهم من الله شيئًا، ومنهم آخذٌ بالأسباب على وجهها معتمدًا على ربه فربُّنا من وراء كل شيء محيطٌ وهو الغني، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28].
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديمًا، فقال تعالى ولم يزل قائلاً عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدره وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5601)
رمي المؤمنين والمؤمنات بالزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
1/7/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حد القذف. 2- قصة الإفك. 3- دروس من القصة. 4- التحذير من إشاعة الفاحشة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد تعرفنا في الخطبة الماضية على حادثة الإفك على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما وردت بروايات رواها البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما رحمهم الله تعالى. ولقد أنزل الله تعالى في العشر الآيات الأولى من سورة النور أحكام الزنا والقذف واللعان، وذلك قبل حادثة الإفك وقبل أن تنزل الآيات ببراءة عائشة رضي الله عنها، وذلك لحِكَم عظيمة ولخَير كبير يعلمه سبحانه وتعالى، ونَبَّهَ بذلك المسلمين إلى حقيقة الأمر، وعلى أنّ رميَ أَحَدٍ بالزنا ليس بأمرٍ هَيِّنٍ يتلاعب به الناس ويتناقلونه في مجالسهم ومحافلهم، بل هو قول في غاية من الثقل يحمل صاحبه تبعةً كبرى، فإن كان الرامي صادقًا في رَمْيِهِ فَلْيَأْتِ بالشهداء ليلقى الزاني والزانية أشدَّ العقاب، وإن كان كاذبًا فهو جَدِيرٌ بأنْ يُضْرَبَ ظَهْرُهُ ثمانين جلدة حتى لا يعود لمثل هذه الفِرْيَةِ في المستقبل، أما إذا كانت هذه الرَّمْيَةُ من الزوج لزوجته فعليه أنْ يُلاعِنَهَا أمام القاضي كما ورد في القرآن الكريم.
وهذا الأمر لا يمكن أنْ يَتَفَوَّهَ به أحد ثم يجلس في بيته وَادِعًا مستريحًا ويترك مجتمع المسلمين يعيش في قَلَقٍ وفي تَطَلُّعٍ لهذه الأخبار الْمُفْتَرَاةِ وليَمُوج فيه البهتان وقذف المؤمنين والمؤمنات، كلا، إن المجتمع مجتمع المسلمين ما أُخْرِجَ إلا لإقامة الحق ودعم الخير في الدنيا، ولا يمكن أن يكون فيه الزنا أداة لِلَّعِبِ واللَّهْوِ، ولا أن تكون أخبارُه موضوعًا لتحادث الناس وتَرْوِيحِهِمْ عن أنفسهم، بل يجب أن يُقَامَ الْحَدُّ على القاذف والذي يُرَوِّج ويشيع أخبار الإفك حتى يرتدع ويطهر لسانه عن قالة السوء وقذف الغافلين من المؤمنين والمؤمنات، وليرتدع غيره من المخدوعين بهذه المقالات السيئة، ولئلا تسول له نفسه إشاعة الفاحشة واتهام الأبرياء مرة أخرى، وليبقى المجتمع المسلم مجتمعًا نظيفًا يظن كُلٌّ منهم بنفسه خيرًا، وكذلك بغيره، وليس معنى هذا أن يُقِرَّ أو يسكت أحد على جريمة الزنا وانتشارها في المجتمع، وسوف يأتي هذا في موضعه إن شاء الله، أما ما أقوله هنا فهو عن قذف الأبرياء من ذلك.
وقد وردت في الروايات أسماء الذين كانوا يتناقلون وينقلون في المجتمع حديث الإفك على عائشة رضي الله عنها، وهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي تولى كبره وهو رئيس المنافقين، وزيد بن رفاعة والغالب أنه ابن رفاعة بن زيد من اليهود المنافقين، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش من المؤمنين، وهؤلاء الثلاثة من المؤمنين انخدعوا بمكائد الاثنين من المنافقين وخاضوا في حديث الإفك على خطأ منهم، ولقد أقيم عليهم حدّ القذف ثمانين جلدة، ولم يقم الحدّ على رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول والمنافق الآخر ابن رفاعة، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ?مْرِئٍ مّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإثْمِ وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 11].
حقًا وصدقًا، إن حادثة الإفك التي جاء بها المنافقون وانخدع بها المؤمنون ليست شرًا، بل تحمل الخيرَ لِتَتَبَيَّنَ أحكامٌ كثيرةٌ يعلمها من ينير الله بصيرته وتتضح من خلال آيات القرآن الكريم، ولأن هذا القرآن الكريم كلام الله العزيز الرحيم العليم بما يصلح عباده، ولتكون آياته نورًا يستضيئون به ويتبعونه ويطبقون أحكامه، ليس في زمان دون زمان، ولا مكان دون آخر، ولكن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
فمن الخير في هذه الفتنة العظيمة ما ثبت من سيرة رسول الله وسلوك أهله في جانب، وسلوك أبي بكر الصديق وأهله رضي الله عنهم في الجانب الآخر، وسلوك عامة المسلمين في الجانب الثالث في هذا الموقف الأليم، لقد بلغت بهم مبلغ الطهارة من الدَّنَسِ والسُّوءِ، وما يتمتعون به من التماسك والعدالة الاجتماعية ورحابة القلوب وبراءة الصدور وقوة الإيمان والصبر عند الشدائد، الإيمان مع الصبر الذي لا تزعزعه الشدائد والمحن، واحتساب الأجر وعاقبة الصبر عند الله العزيز الحكيم الخبير الغفور الرحيم.
فها هو ذا رسول الله يُرْمَى في فراشه وعِرضه وقلبه ورسالته ويتحدّث به الناس شهرًا كاملاً في المدينة، ولكنه يصبر عليه ويعاني شدائده، وعندما يأتيه الحكم الإلهي لا يقيم الحدّ إلا على الأفراد الثلاثة من المسلمين الذين ثبتت عليهم جريمة القذف، ولا يقيمه على المنافقين.
وها هو ذا مسطح بن أثاثة ممن ينفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أقاربه الأَدْنَيْن يَفْجَعُهُ في فَلْذَةِ كَبِدِهِ، ومسطح ابن خالة أبي بكر، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفقه عليه أبو بكر، ولكن أبا بكر رضي الله عنه لا يقطع عنه صلة القرابة ولا يمسك يده عن مساعدته بعدما نزل قول الله تعالى: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَ?كِينَ وَ?لْمُهَ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور: 22]، فلما قرأها رسول الله على أبي بكر رضي الله عنه قال: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. وعاد ينفق على مسطح وأهل بيته وقال: والله لا أنزع النفقة منهم أبدًا.
وها هن أزواج النبي لا تساهم إحداهن في تشويه سمعة ضَرَّتِهَا ولا تقول فيها إلا خيرًا، والعجيب في الأمر أنَّ حمْنَةَ بنت جحش أخت زينب بنت جحش تخوض في حديث الإفك مع الذين خاضوا فيه وسعوا إلى تشويه سمعة عائشة رضي الله عنها لا لشيء إلا حمية لأختها، مع أن زينب رضي الله عنها لا تقول في عائشة إلا خيرًا، قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله سأل زينب بنت جحش رضي الله عنها عن أمري وما رأت وما سمعت فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرًا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي ، فعصمها الله بدينها وورعها، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك. رواه البخاري.
فهكذا لم تظهر النتيجة إلا على العكس مما قصده المنافقون، وما زادت المسلمين إلا تفوقًا في أخلاقهم. وهناك ناحية أخرى للخير في هذا الحادث، هي أنه سبب زيادة عظيمة في قوانين الإسلام وأحكامه وقواعده للحياة الاجتماعية، وقد تلقى فيه المسلمون من الله تعالى تعاليم إسلامية تدعو إلى الطهارة والعفة والكرامة، إذا عملوا بها سلم مجتمعهم من نشوء المنكرات والفواحش، ومن السهل الابتعاد عنها بإذن الله لو نشأت وحدثت في المجتمع.
ومن نواحي الخير في هذا الحادث إضافة على ما تقدم وهذا مهم جدًا يجب على المسلمين أن يعوه ويفتحوا أفئدتهم وعقولهم لهذا الأمر، وخاصة في هذه الأيام بعد أن روّج له دعاة الضلالة ممن ينتسب لبعض الطوائف المنتسبة للإسلام، ذلك هو ادِّعَاؤُهُمْ بأن الرسول يعلم الغيب في مماته الآن وهو في قبره، فإذا كان لا يعلم بهذه الحادثة ولا بغيرها في حياته مما هو من علم الغيب ولا ادَّعى ذلك لنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد ورد في القرآن الكريم بعد ذِكْرِ علم الساعة وأن علمها عند الله قولُ الله تعالى عنه: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]، فكيف يسوغ لدعاة الضلالة وأتباعهم في هذه الأيام أن يُعَارِضُوا صريح القرآن الكريم ويُضِلُّوا عباد الله ويروّجوا معتقداتهم وضلالاتهم الزائفة؟! وأغرب من ذلك أن يَغْتَرَّ بهم كثير من المسلمين المخدوعين ويعتقدوا أن ذلك من الإسلام ويجب أن يؤمنوا به، مع أن ذلك من أسباب الكفر والضلال ومناقضة القرآن الكريم وسنة النبي.
إن المسلمين المؤمنين حقًا يعلمون أن النبي لا يعلم الغيب، ولم يعلم إلا ما أخبره به الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل عنه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم: 3،4]، ولقد علموا أن علمه لا يفوق بعد ذلك علم عامة البشر إلا بما علمه الله، ولقد بَقِيَ قرابة شهر كامل يعاني الألم وفجيعة القلب في أمر عائشة فيسأل خادمة بيتها تارة بريرة وعليًا تارة أخرى وأسامة بن زيد ثالثة وأزواجه رابعة وأخيرًا يذهب إلى عائشة نفسها ولا يقول لها إلا: ((إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنتِ أَلْمَمْتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه)) ، فلو أنه يعلم الغيب على حد زعم دعاة الضلالة فلماذا كان يعاني الألم طوال هذه المدة؟! ولماذا يسأل غيره في أمر عائشة ويلقنها التوبة مع أنها لم تقترف ذنبًا؟! ولكن لما نزل الوحي وأحاطه بحقيقة الواقع علم ما لم يكن يعلم هو ولا غيره من البشر طوال شهر كامل تقريبًا. وقبل ذلك لما ذهب هو والجيش وتخلفت عنهم عائشة رضي الله عنها ولم يكن يعلم عن تخلفها وراءهم إلا مع الناس عندما جاءت بعدهم وطلعت عليهم، ولم يكن يعلم عن إشاعة الإفك في البداية إلا حينما انتشر الخبر وبَلَغَهُ ذلك كَأَيِّ شخص آخر، هذا من ناحية علمه من عدمه في هذه الحادثة، مع أن هناك مواقف أخرى تثبت عدم علمه الغيب إلا ما علمه الله عز وجل لإثبات نبوته وصدق رسالته عليه الصلاة والسلام، كما أثبت ذلك هو بنفسه، وكما ذكره ربنا عز وجل في العديد من آيات القرآن الكريم، ومنها: الآية السابقة التي جاءت بعد أسئلة الكفار له عن الساعة وموعدها، مع أنه أخبر بعلاماتها كما أخبره وأوحى إليه عز وجل، ومنها: ما قد وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ومنها: ما سوف يقع إلى أن تقوم الساعة، ولكن لنستمع إلى قول ربنا تبارك وتعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَ?هَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى ?لسَّمَ?و?تِ وَ?لأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ?للَّهِ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 187، 188]. نعم، لو كان رسولنا محمد يعلم الغيب لاستكثر من الخير ولما مسه السوء، فكيف بمن هو دونه من عامة المسلمين؟! وأخص الطائفة التي تدَّعي العصمة للمهدي المزعوم الذي يعيش منذ أكثر من ألف ومائتي سنة على حدِّ زعمهم في السرداب بعيدًا عن الأنظار ويعلم ما في الأمصار ويدير الأفلاك ويعلم الغيب وما يدور في الكون، ووضعوه فوق مرتبة النبي محمد ، بل أعطوه في أنفسهم وعقيدتهم صفة الألوهية التي لا تجوز إلا لله رب العالمين، وأوردت هذه الجمل الاعتراضية هنا لمناسبة الموقف واستغلاله وللمقارنة وللذكرى أيضًا، وقد أوردت بعض التوضيح لهذا في خُطْبَة المهديِّ في سلسلة علامات الساعة.
أعود للقول بأنه هكذا أراد الله أن يُنْقِذَ المسلمين بالتجربة والمشاهدة المباشرة من الْغُلُوِّ في شخص معلمهم ومرشدهم وقدوتهم ، وبالتربية الحيَّةِ لِيُخْلِصُوا العبادة لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض وتصريف الأمور كما يشاء تصريفًا لا يخرج عن فضله وعدله ورحمته وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو أن أكون بها ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله أفضل خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل من اهتدى بهديه وسلم تسليمًا.
قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ?للَّهَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [النور: 19، 20].
إن المفهوم المباشر لهاتين الآيتين باعتبار سياقهما ونزولهما ضمن الآيات في حادثة الإفك هو أن الذين يختلقون مثل هذه الاتهامات الكاذبة ويعملون على نشرها بإشاعة الفاحشة في المجتمع وَوَصْمِ المسلمين في أعراضهم وأنفسهم وأخلاقهم ويحبون أيضًا شيوع وانتشار الفاحشة في الذين آمنوا أنهم يستحقون العقاب حقًا في الدنيا والآخرة، إلا أن ألفاظ القرآن الكريم شاملة وعامة، فالمعنى شامل لجميع صور إشاعة الفاحشة والانحلال الخلقي، فهي تنطبق كذلك على إنشاء دور للفاحشة والبغاء وما يُرَغِّبُ الناس فيها ويثير غرائزهم الدنيئة من القصص والروايات والأشعار والغناء والصور والألعاب والمسارح والسينما ونشر أفلام الفجور والفسوق في المجتمع، كما تنطبق كذلك على المجالس والنوادي والفنادق التي يعقد فيها الرقص والطرب التي يشترك فيها الرجال والنساء على صورة خليعة مختلطة، ولم يقتصر أمر إشاعة الفاحشة على ما سبق ذكره، بل تعدّاه إلى أمور مذهلة مع وسائل التقنية الحديثة مما يُنشرُ ويُبَثُّ في الفضائيات أو الشبكة العنكبوتية من فضائح تترفع عنها البهائم عندما تمارسها مع بعضها، ومنها: الجمل الذي يغار من أن يراه أحد من البشر أثناء ممارسته لغريزته الطبيعية مع الناقة، فكيف بالذين ينتمون للجنس البشري وليس لديهم أدنى غَيْرَةٍ أو حياء لتلك الممارسات التي تُنشر هنا وهناك؟! بل هو ينشرها ويشيعها في المجتمع بأساليب مختلفة.
وأعظمهم جُرْمًا مَنْ يُنْشِئُ قنوات فضائية فضائحية تدعو للفواحش من قريب أو بعيد، ومع أنها تكلفه الملايين ويتحمل إضلال الناس وما يترتب على ذلك من عواقب سيئة إلا أن ذلك الإنفاق أحلى من العسل على نفسه، وفي المقابل ليس له سهم في نشر الفضيلة وتعاليم الإسلام السمحة، وما ذلك إلا من الحرمان والضلال المبين الذي لم يجد من يخرجه وينقذه من تلك الأوحال وذلك الخزي والعار الذي سوف يجد جزاءه وعقابه في الآخرة إن لم يَتُبْ ويرجع إلى الله التواب الرحيم، والله يتوب على من تاب ولو ارتكب أعظم الآثام.
أعود للقول بأن القرآن يصرح بأن أولئك جميعًا من الجناة، سوف ينالون عقابهم في الدنيا قبل الآخرة، فالذين يحبون شيوع الفاحشة في مجتمعات المسلمين ويروجون لها بأي وسيلة كانت لو وجدوا العقاب الرادع والوقفة الحازمة الصادقة التي تحارب الرذيلة ووسائلها المختلفة لرأينا واقعًا غير الذي تعيشه مجتمعات المسلمين اليوم حيث وصلت إلى حال يُرثى لها، وإن لم يقم عليهم العقاب من البشر في الدنيا فإن الله سوف يذيقهم العذاب بشتى ألوانه في الدنيا قبل الآخرة.
ومع ذلك فيجب على المسلم أن يبتعد عن رمي النساء الصالحات الغافلات الأغرار اللائي لا خبرة لهن بالفاحشة وقلوبهن طاهرة، وإلا فقد أَوْبَقَ نفسه وأوقعها في العذاب العظيم، كما أنه يجب على المرأة المسلمة أيضًا أن تبتعد عن القذف بالفاحشة للرجال أو النساء، وليس النهي عن الرمي والقذف مختصًا بالرجال، قال رسول الله : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ثم عدَّدهن وذكر من بينها: ((قذف المحصنات)) ، وورد في الأثر: ((قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة)) ، قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ?لْغَ?فِلَ?تِ ?لْمُؤْمِنـ?تِ لُعِنُواْ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ ?للَّهُ دِينَهُمُ ?لْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ ?لْمُبِينُ [النور: 23-25].
فالأمر إذًا في غاية الخطورة، فليتنبه كل مسلم، وليحذر من الوقوع في ذلك، وليتذكر دائمًا هاتين الآيتين الكريمتين وغيرهما، وخاصة الآية السابقة التي بدايتها: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [النور: 19].
وكما أشرت سابقًا فإن على المسلم أن يفرق بين حب إشاعة الفاحشة بأي أسلوب كان ونقل الأخبار الكاذبة ونقل التهم على الأبرياء وإلصاقها بهم في المنتديات والمجالس أيًّا كانت وبين الذي يراه المسلم من أشخاص يمارسون المنكر والفاحشة بحيث يرى ويشاهد الدخول والخروج على أماكن مشبوهة على نساء غير محمودات السيرة أو ركوبهن في سيارات آخر الليل أو في أي وقت مع أناس ليسوا بمحارم، ففي هذا الحال يجب على المسلم إخبار الجهات المعنية والمسؤولة لتقوم بواجبها نحو تغيير المنكر والوقوف ضد استشرائه وشيوعه في المجتمع، وفرق بين هذا وذاك، بين المنكر الظاهر ووجوب عدم السكوت عليه، وبين الحالة الأولى الممنوعة من حيث الإشاعة والظن السيئ والاتهام وقذف ورمي المحصنين والمحصنات، فالفرق واضح ولله الحمد والمنة، ولننتبه لهذا، وليقُم كل بواجبه في أي موقع كان.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
(1/5602)
الحجاب (1)
الأسرة والمجتمع, فقه
اللباس والزينة, المرأة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
13/5/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة وجوب تغطية المرأة وجهها. 2- حكم البرقع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد بعث الله محمدًا بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، بعثه الله لتحقيق عبادة الله عز وجل، وذلك بتمام الذل والخضوع له تبارك وتعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتقديم ذلك على هوى النفس وشهواتها، وبعثه الله متممًا لمكارم الأخلاق داعيًا إليها بكل وسيلة، فجاءت شريعته كاملة من جميع الوجوه لا تحتاج إلى مخلوق في تكميلها أو تنظيمها لأنها من لدن حكيم خبير عليم بما يصلح عباده رحيم بهم.
وإن من مكارم الأخلاق التي بُعِثَ بها رسولُنا محمدٌ خُلُقَ الحياءِ الذي عدَّه رسول الله من الإيمان وشعبة من شعبه، وإنَّ من الحياء احْتِشَامَ المرأةِ وتَخَلُّقَهَا بالأخلاق الكريمة الفاضلة التي تبعدها عن مواقع الفتن ومواضع الرِّيَبِ، وأكبر احتشام تفعله وتتحلى به ويصون عرضها ويحفظ لها كرامتها ويبعدها عن الفتنة هو الحجاب الشرعي وتغطية وجهها وكفيها عن الأجانب فضلاً عما هو فوق ذلك مما هو معلومٌ تحريمُ إِبْدَائِهِ وإظهارِه لغير المحارم.
ولقد كان الناس في هذه البلاد المباركة إلا ما ندر على الطريق الصحيح في أمر الحجاب، ونرى بوادر طيبة للأخذ بالأمر الواجب نحو النساء في أمر الحجاب، وقد حصل جدل كثير ولا زال حول الحجاب وجواز إظهار المرأة لوجهها أمام الأجانب عنها من غير المحارم، وقالوا بأنه لا بأس بالسفور وعدم تغطية الوجه واتبعوا هوى الأنفس في ذلك أو سوء الفهم لنصوص الكتاب والسنة، لذلك وجب إظهار الحق وإزالة الشك وذلك بإيراد الأدلة من القرآن الكريم وسنة النبيّ محمد ليتبين وجوب احتجاب المرأة المسلمة عن الرجال الأجانب عنها وتغطية وجهها ليكون المسلم على بصيرة في معرفة الأدلة الْمُوجِبَةِ لذلك، ولِيُلْزِمَ أهلَه بالحجابِ طاعةً لله سبحانه وعبادةً له، ولتفعله المرأة المؤمنة تقربًا إلى الله عز وجل وامتثالاً لأمره، ولِتَنَالَ رضاه عز وجل، ولِتُثَابَ على ذلك وتَحْصُلَ على الأجر من الله جَلَّ جَلالُهُ، وليس للعادة ومجاراة الناس، فإنْ فَعَلَتْهُ عادةً فليس لها من الأجر شيء لأن الأعمال بالنيات.
قال الله تعالى: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَو?تِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
ووجه الدلالة في هذه الآية على وجوب الحجاب على المرأة المسلمة عن الرجال الأجانب من عدة وجوه:
أولا: أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن عن الزنا، والأمر بحفظ الفرج أمر بحفظ واجتناب كل الوسائل المؤدية للوقوع في الزنا من نظر واختلاط وسفور وإبداء زينة للأجانب وسماع الأغاني والصور وخضوع في القول وضرب بالأرجل ليعلم ما يخفى من الزينة، وفي الحديث: ((العينان تزنيان وزناهما النظر)) ، إلى أن قال: ((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)). فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأمورًا به؛ لأن الوسائل والأسباب لها أحكام المقاصد والغايات.
ثانيًا: قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ ، إذا كانت المرأة مأمورة بأن تضرب الخمار على جيبها ـ والخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به ـ فإنها مأمورةٌ بِسَتْرِ وَجْهِهَا؛ لأنه إذا وجب سَتْرُ النَّحْرِ والصدر والرأس كان وجوب ستر الوجه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة، والناس الذين يطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه وأوصاف ما فيه من حواس وجمال، فإذا كان الوجه جميلاً لم ينظروا إلى ما سواه نظرًا ذا أهمية، ولو نظر أيُّ إنسانٍ إلى امرأة فَجْأَةً أو نَظَرَ تَأَمُّلٍ فإن أول ما يقع عليه نظرُه هو وَجْهُ المرأة، ومنه يعرف جمالهَا أو دَمَامَتَهَا، ولا يقع نظره لأول وهلة على رِجْلَيْهَا.
ثالثًا: لقد نَهَى الله تعالى عن إبداء الزينة مطلقًا إلا ما ظهر منها، وهي التي لا بد من أن تظهر كظاهر الثياب، أو ظَهَرَتْ من المرأة بدون قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ منها، ولذلك قال تعالى: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، ولم يقل سبحانه وتعالى: (إلا ما أَظْهَرْنَ منها)، فالفرق واضح بين أن تُظْهِرَ المرأةُ الزينةَ بنفسها وبين أن تَظْهَرَ الزينةُ عن غير عمد إِمَّا لِرِيحٍ بَسَبَبِهَا ظَهَرَتِ الزِّينَةُ بإسقاطِ ما على المرأة من لباس وحجاب، وإما أن تظهر من غير عمد ولا قصد، فأهل اللغة والفهم الصحيح يعرفون الفرق بين ظَهَرَ منها وأَظْهَرَتْهُ هي بنفسها بِطَوْعِهَا واختيارها، وهذا وجه خلاف لم يَفْقَهْهُ مَنْ مَالَ به الهوى ويريد أن تَكْشِفَ المرأةُ وَجْهَهَا وأخذ الشبهة وسعى بها ليفسد في الأرض وضرب بالآيات الباقية والأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب الحجاب على المرأة المسلمة عرض الحائط. وقِيلَ بأن النهي عن الزينة الأولى غير الزينة الثانية، فالأولى هي زينة الظاهر سواء في الملابس الخارجية التي تستر بها جسمها وعليها أن تسترها بالعباءة أو ما تتجمل به من ذهب وغيره أو الوجه والكفين إذا ظهرت من ريح وخلافها من غير تعمد لإظهارها، ولو كانت هي الزينة نفسها في الموضعين فإنما هي للتأكيد ولمعرفة الفرق في الحالتين، ولا تعارض بينهما أبدًا لمن يفهم اللغة العربية الفهم الصحيح كما سبقت الإشارة إليه بأن الفرق واضح بين ظَهَرَ وَأَظْهَرَ، فلو أن شخصًا لديه شاة وأخرجها هو وأظهرها من مكانها، أو خرجت هي بنفسها وظهرت من مكانها فإن التعبير يختلف في الحالتين، والمعنى يختلف أيضًا لأنه يلزم اشتراك شخص أو أي شيء عندما أَظْهَرَ بخلاف ظَهَرَ الشيء بنفسه ومن نفسه. ويتضح هذا المعنى جليًّا في التعبير بقولنا: خَرَجَ أَوْ أَخْرَجَ.
أعود للقول بأن الظهور حصل في كلتيهما، ولو كانت الزينة الأولى والثانية واحدة لاسْتَوَى في ذلك المحارمُ وغيرُ المحارم لمن قال بالاختلاف في الموضعين، مع أن الراجح في التكرار هو لوجود الجملة الاعتراضية التي تؤكد إسدال الخمار من فوق الرأس، فجاء بعدها التفصيل في ذكر المحارم ليتضح لمن تبدي المرأة زينتها، ولو أن الزوج والأب والأخ والابن وغيرهم من المحارم ينظرون إلى الوجه والكفين من المرأة وكذلك الأجنبي على حد سواء لما كان لذكر المحارم فائدة في الآية نفسها من سورة النور، وكذلك الآية الأخرى من سورة الأحزاب التي جاء فيها انتفاء الجناح والإثم عن النساء المسلمات في من ذُكِر في الآية المحكمة من كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَو?تِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، وقال عز شأنه وتعالى سلطانه: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْو?نِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْو?نِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَو?تِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَ?تَّقِينَ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَى? كُلّ شَىْء شَهِيدًا [الأحزاب: 55]، فلو أن هؤلاء المحارم للمرأة الذين ذكروا في هاتين الآيتين يستوون مع غيرهم في النظر إلى وجه المرأة وكفيها وزينتها الظاهرة لما تم استثناؤهم ولما كان في الاستثناء فائدة تذكر، ولو أن لهم حدودًا أخرى يمكن تجاوزها والنظر إليها من المرأة غير ذلك لَتَمَّ ذكرُها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، علمًا بأن هذه الآية في سورة الأحزاب جاءت بعد آية الاستئذان في الدخول وأدب الطعام والجلوس في بيوت النبي محمد ، كما هو الحال أيضًا في آيات سورة النور.
ومن ضمن الأوامر والنواهي الواردة في الآيات: الأمر بالسؤال والطلب لأي شيء من وراء حجاب،كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عًا فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53]. ثم أعقبها سبحانه بعد عدة آيات بالأمر الذي يقتضي وجوب الحجاب والذي لا إِشْكَالَ فيه ولا مِرَاء، وجوب الحجاب على نساء المؤمنين كما هو واجب على أزواج وبنات رسول الله ، الوجوب المأخوذ من هذا النص القرآني الواضح وضوح الشمس في رابعة النهار، هذا الدليل القطعي الدلالة في هذه الآية لو أُخِذَ مع الآيتين بعدها لكان كافيًا في وجوب ستر وجه المرأة المسلمة عن غير محارمها، وإذا انْضَمَّ إلى هذه الآياتِ الآياتُ التي سبقتها من سورة الأحزاب فإن الأمر سوف يتضح تمامًا، وإذا أُضِيفَ إليها الأدلة الأخرى من القرآن الكريم ومن صحيح سنة رسول الله فإنه لا يبقى أي إشكال لدى أي مسلم حول وجوب الحجاب على المرأة المسلمة عن الرجال من غير محارمها، وليتأمل كل مسلم الآيات والأحاديث الوردة في ذلك، قال تعالى: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 59].
رابعًا: رخص الله تعالى للمرأة في إبداء زينتها للتابعين غير أولي الإربة من الرجال، وهم الخدم الذين لا شهوة لهم البتة، وللأطفال الذين لم يَبْلُغُوا الشَّهْوَةَ ولم يَطَّلِعُوا على عورات النساء ولا يعرفون وصف المرأة، فهؤلاء الأجانب الذين استثناهم الله عز وجل بشروطهم يحل للمرأة أن تكشف وجهها لهم وما عداهم فلا، أما السائق والخادم والعامل وغيرهم من الموجودين في البيوت الآن فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف وجهها وكفيها لهم فضلاً عن أكثر من ذلك من جسمها كما هو واقع ومنتشر في بعض بلاد المسلمين.
خامسًا: إذا كانت المرأة منهية عن الضرب برجلها على الأرض لئلا يعلم أحد بما تخفيه من الخلاخل ونحوها مما تتحلى به لزوجها خوفًا من افتتان الرجال بها وما يُسْمَعُ من صوت خَلْخَالِهَا ونحوه، إذا كانت منهية عن ذلك فكيف بكشف الوجه؟! وأي شيء أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالاً في قدم امرأة لا يدري أَشَابَّةٌ هي أمْ عَجُوزٌ؟! أجميلة هي أم دميمة؟! فأي شيء أعظم فتنة: النظر إلى وجه سافرٍ جميلٍ مُمْتَلِئٍ شبابًا ونضارةً وحسنًا وتجملاً أم النظر إلى قدم امرأة؟! فَأَيُّهما أحقُّ بالسَّتْرِ والإخْفَاءِ: الوجهُ والْكَفَّانِ أَمِ الْقَدَمَانِ والزِّينَةُ التي عليها وهي مَنْهِيَّةٌ عن إظهارها؟! قال تعالى: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور: 31]، فالكعب العالي وما يقوم مقامه من الأحذية التي تَدُقُّ به المرأةُ الأرضَ خاصة على البلاط لِيُعْلَمَ مَشْيُهَا وَلَفْتُ الانتباهِ إليها مَنْهِيٌ عنه أيضًا.
سادسًا: تعقيب من الله تعالى في نهاية الآية الكريمة لمن كان في صدر الإسلام وإلى أن تقوم الساعة ينطبق عليهم جميعًا سواء امرأة لم تعرف الحجاب مِنْ قَبْلُ أَوْ رجل لم يعرف الحكم ولم يُلْزِمْ أَهْلَهُ ومن تحت يديه من النساء بذلك، التعقيب بالأمر بالتوبة مما هو مخالف لذلك الأمر في بداية الآية، ومما هو معلوم أن الأمر يقتضي الوجوب، والنهي في بداية هذه الآية وفي غيرها يقتضي التحريم المخالف لذلك، وهذا عام في كل أمور الشريعة، ولنستمع إلى قوله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]. ولا يَحْتَجَّ أحد بقوله: لم تفعله زوجتي وابنتي فيما سلف، أو تحتج امرأة بأنها كانت سافرة ولم يعد الحجاب صالحًا بعد أن رآها الناس، كلا؟ فالأمر من الله بالتوبة يقتضي وجوب التوبة والإقلاع عما سلف لينال الفلاح كل مؤمن ومؤمنة، والأمر بتحجب النساء عن الرجال الأجانب لم ينزل القرآن به في مكة المكرمة مع أن المؤمنين والمؤمنات جلسوا فيها ثلاث عشرة سنة لا تحتجب النساء عن الرجال وكذلك الحال في المدينة لم تنزل فرضيةُ الحجاب إلا في السنة السادسة من الهجرة أي: قرابة تسع عشرة سنة بعد البعثة النبوية، ومع هذا فلم تقل امرأة مؤمنة بأن الرجال كانوا يرونني قبل ذلك فلن أتحجب عنهم، ولم يقل مؤمن: إن فلانة لم تكن متحجبة من قبل فلن أتزوجها لأن الرجال قد رأوها، بل الكل خاضع لله وحده مطيع لأمر ربه ومنيب إليه، ويتوب الله على من تاب.
ولَفْتَةٌ يسترشد بها أهل العقول والفطر السليمة ليعلموا وجوب وفرضية الحجاب على النساء المؤمنات، فالآية المذكورة هي في سورة النور مع أن وجوب الحجاب يؤخذ من الآية نفسها ابتداءً من قول الله عز وجل: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ إلى نهاية الآية في قوله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، مع أن الأمر الذي يقتضي الوجوب يؤخذ من هذه الآية من أول كلمة فيها وآخر جملة والآية جميعها عندما يتدبرها من يريد الشرع المطهر، ومع هذا فهناك أمر بفرضية الحجاب وغيره من الأحكام في بداية السورة، وكذلك في نهاية السورة نَهْيٌ من الله عز وجل بعدم مخالفة أمر الرسول ، وإلا فإن العقاب ينتظر من يخالف أمره في الدنيا والآخرة، ولنستمع إلى قول الله عز وجل في بداية السورة، قال الله تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَـ?هَا وَفَرَضْنَـ?هَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَـ?تٍ بَيّنَـ?تٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور: 1]، فالكلام بلغة عربية واضحة حيث قال الله تعالى: وَفَرَضْنَـ?هَا بعد قوله: سُورَةٌ أَنزَلْنَـ?هَا ، ولم يقل: آية أو آيات منها، ثم عقب سبحانه بقول: وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَـ?تٍ بَيّنَـ?تٍ أي: آيات واضحات لا لبس فيها ولا غموض؛ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
ثم لنعلم دليل وجوب الاتباع للرسول محمد وعدم مخالفة أمره سواء في هذه الأحكام في هذه السورة أو في غيرها، قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]. فكانت هذه الآية في نهاية السورة، وتلك في أول آية من السورة التي ذُكِرَ فيها الحجاب وغيره من أحكام تجدر العناية بها من قبل كل مؤمن ومؤمنة.
وتنبيه لطيف إلى سياق آية الحجاب عن غير المحارم حيث جاءت تلك الآية بعد أن ذكر الله حد الزاني والزانية وعن اللعان وحادثة الإفك وعقوبة رمي المحصنات الغافلات المؤمنات في الدنيا والآخرة وعن حكم دخول بيوت الغير، ثم عقب سبحانه بما يحفظ للمؤمنين أنسابهم وأعراضهم وعدم وقوعهم في الفواحش أو القرب منها، وبعد آية فَرْضِ الحجاب على المسلمات جاء الأمر بتزويج الصالحين من العباد والإماء والاستعفاف ممن لا يستطيع النكاح حتى الغنى، وأعقب ذلك عز وجل بقوله تبارك وتعالى في منتصف السورة: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَـ?تٍ مُّبَيّنَـ?تٍ وَمَثَلاً مّنَ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ [النور: 34].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن إيراد الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الحجاب يحتاج إلى خطب عديدة لتوضيح الغامض وليعرف ذلك كل مؤمن، لكني أقتصر إن شاء الله تعالى على خطبة قادمة أكمل فيها إيراد الأدلة، أما الآن فمع الدليل الثاني من القرآن الكريم وهو قول الله عز وجل: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 59]، عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأنَّ على رؤوسهن الْغِرْبَان من السكينة وعليهن أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لهذه الآية: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة)، وقوله رضي الله عنه: (ويبدين عينًا واحدة) إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق عند المشي لِثِقَلِ الجلباب وسَمَاكَتِهِ، أما إذا لم تكن حاجة فلا مُوجِبَ لإظهار العين الواحدة فضلاً عن العينين، وما هذه البراقع المنتشرة بين النساء بالحجاب المأمور به، بل هي الفتنة والداء العضال حيث تَفْتِنُ المرأةُ الرجالَ بإظهار وَجْنَتَيْهَا وَحَاجِبَيْهَا وعينيها وجزء من أنفها ووجهها، فالبراقع الحالية لا يجوز للمرأة المسلمة استعمالها لأنها الفتنة بعينها، والتي تستعملها ليست متحجبة، بل هي متبرجة لأن البراقع بحالتها الراهنة حجاب المتبرجات الآن، والفرق بين الثقب في الحجاب لإظهار عين واحدة لترى المرأة الطريق من سماكة الحجاب غير البراقع الفاتنة التي تَعَدَّتْ حَدَقَاتِ العينين وليس العين الواحدة، فليتنبه المسلمون للتوسّع الحاصل في أمر البراقع التي فَتَنَتِ الرجالَ وَفَتَنَتِ النساءَ أيضًا حيثُ التَّفَنُّنُ في أشكالها وأنواعها وطرق لبسها وغير ذلك. والجلباب: هو الرداء فوق الخمار.
ولنتأمل قول الله عز وجل حين صدّر الخطاب والأمر بالنداء للرسول وأعقبه بفعل الأمر الذي يقتضي الوجوب، ثم ذكر عز وجل النساء المأمورات بذلك بدءًا بأزواجه عليه الصلاة والسلام وبناته ثم نساء المؤمنين وليس نساء الكافرين لتتّضح الحقيقة وتتجلى لمن كان لديه أدنى شكّ حول وجوب الحجاب على النساء المؤمنات، قال تعالى: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب: 59]. أَقَلُّ أَمْرٍ وأدناه من وراء الحجاب عدمُ معرفة الأشرار من المنافقين وغيرهم في كل زمان ومكان لئلا تُؤْذَى المرأةُ المسلمةُ، وما أجمله من تعقيب كالسابق في سورة النور، فالله يعلم من المرأة فيما سبق أنها غير متحجبة فلا تحتجّ هي أو يُحتجّ عليها بأنها لم تكن تلبسه من الصغر، فالله هو الغفور الرحيم سبحانه حيث قال تعالى: وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 59]. وما أجمل سياق الآيات قبل هذه الآية وبعدها فلنتدبره لنعلم حال المنافقين المغرضين الذين في قلوبهم مرض من زمن الرسول إلى قيام الساعة حول حجاب المرأة المسلمة، فالآية التي قبل آية الحجاب هي قول الله تعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]، أما الآيات بعدها فهي قول الله عز وجل: لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَ?لْمُرْجِفُونَ فِى ?لْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ ?للَّهِ فِى ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 60-62]، والآيات التي قبلها وسبق الإشارة إليها وفيها قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عًا فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ?للَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذ?لِكُمْ كَانَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب: 53]، وقوله تبارك وتعالى: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْو?نِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْو?نِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَو?تِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَ?تَّقِينَ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَى? كُلّ شَىْء شَهِيدًا [الأحزاب: 55]. فلتنظر ولتتأمل كل مسلمة هذه الجملة الأخيرة: إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَى? كُلّ شَىْء شَهِيدًا.
وإلى الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى لإيراد بعض الأدلة الواردة حول وجوب الحجاب على المرأة المسلمة...
(1/5603)
الحجاب (2)
الأسرة والمجتمع, فقه
اللباس والزينة, المرأة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
20/5/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة وجوب تغطية المرأة وجهها من القرآن. 2- أدلة وجوب تغطية المرأة وجهها من السنة النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد سبق الكلام في الخطبة السابقة عن وجوب الحجاب على المرأة المسلمة، وأوردت دليلين فقط من القرآن الكريم، وهما أعظم الأدلة وأوضحها لمن أراد العلم والعمل، وأعيدهما أيضًا لإتمام الفائدة، وهما قول الله عز وجل في سورة النور: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَو?تِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، وفي سورة الأحزاب قول الله عز وجل: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 59]، وكفى بهذين الدليلين إقناعًا لمن أراد الامتثال والطاعة لله ولرسوله، ومع هذا فأورد ما تيسر من الأدلة أيضًا.
الدليل الثالث: قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عًا فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53].
فهذه الآية نص واضح في وجوب تحَجُّبِ النساء عن الرجال وتَسَتُّرِهِنَّ منهم، والحجاب هنا أعم وأشمل من غطاء الوجه والكفين، فالسؤال يكون من وراء ساتر ومانع من جدار أو باب أو حجاب أو ما تتغطّى به المرأة وتستتّر وتمنع الرجال من رؤيتها بأي حاجب وساتر. وقد أوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنَّ التَّحَجُّبَ أطْهَرُ لقلوب الرجال والنساء وأَبْعَدُ عن الفاحشة وأسبابها، وفي هذا إشارة إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة وأن التحجب طهارة وسلامة.
الدليل الرابع: قوله تعالى: وَ?لْقَوَاعِدُ مِنَ ?لنّسَاء ?لَّلَـ?تِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَـ?تِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ [النور: 60].
يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرغبن في الزواج أنه لا جناح عليهن أنْ يَضَعْنَ ما يَلْبَسْنَهُ ويُغَطِّينَ به وُجُوهَهُنَّ وَأَيْدِيَهُنَّ إِنْ كُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ، فَعُلِمَ بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ما يَسْتُرُ وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحًا في ذلك ولو كانت عجوزًا؛ لأن لكل ساقطة في الحي لاقطة، ولأن التبرج يُفْضِي إلى الافتتان بالمتبرجة ولو كانت عجوزًا كبيرة في السِّنِّ، فكيف يكون الحال بالشَّابَّة والجميلة إذا تبرجت؟! لا شك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر، وَشَرَطَ سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح أي: لا ترغب في الزواج ولا تريده، وما ذاك والله أعلم إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة طمعًا في الأزواج، فَنُهِيَتْ عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانةً لها ولغيرها من الفتنة. ثم ختم الآية سبحانه بترغيب القواعد في الاستعفاف، وأوضح عز وجل بأنه خير لهن وإن لم يتبرجن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز، وأنه خير لهن من إبعاد وإلقاء الثياب الساترة لتلك الزينة؛ لئلا تراها أَعْيُنُ الرجال، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرًا للشابات من باب أولى وأبعد لهن عن أسباب الفتنة.
وتنبيه لطيف يجدر بنا إيضاحه: عندما نهى الله عز وجل المؤمنات عن إبداء الزينة من المرأة، ومعلوم أن الزينة من ذهب وفضة وجواهر ثمينة وكحل وحناء وغيرها من الأصباغ إنما تتجمل بها المرأة وتضعها على وجهها ويديها لِتَجْذبَ بها الرجال إليها من زوج وغيره، فإذا نُهِيَتْ عن إبداء الزينة وأُمِرَتْ بِسَتْرِهَا وإخفائِهَا فلا يكون سترهَا إلا بستر الوجه والكفين، وهذه نقطة مهمة يجب التنبه لها وإدراكها ليتضح كثير من الملابسات.
الدليل الخامس: قول الله عز وجل: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْو?نِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْو?نِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَو?تِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَ?تَّقِينَ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَى? كُلّ شَىْء شَهِيدًا [الأحزاب: 55].
قال ابن كثير رحمه الله: لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بَيَّنَ سبحانه أنَّ هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ الآية [النور: 31]، فَبَيَّنَ تعالى أن المرأة المسلمة لا جناح ولا إثم عليها في هؤلاء الأصناف من الأقارب في أنْ تُبْدِيَ وجهها وكفيها وزينتها الظاهرة لهم، وكذلك لعمّها أخِي أَبِيها، ولخالها أَخِي أُمِّها، ولِزَوْجِ الأمِّ قَبْلَ أبيها أو بعده من السُّنَّةِ المطهرة ومن القرآن الكريم في سورة النساء عند ذِكْرِ المحرمات على الرجال، أما من عداهم من الرجال فالآيات صريحة في ذلك حيث تكرر هؤلاء الأصناف في سورة النور وسورة الأحزاب، فالإثم واقع على المرأة المسلمة لا محالة إن هي أبدت وجهها وكفيها وزينتها الظاهرة لهم وإن كان لأخي الزوج أو أبناء عمه أو الأرحام والأصهار فيما جرت به العادة عند كثير من المسلمين حيث تكشف المرأة وتظهر سافرة أمامهم، فهذا لا يجوز فِعْلُهُ أبدًا، فَالْحَمْوُ هو الموت كما ورد في الحديث أن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قال: ((الحموُ الموتُ)) رواه البخاري ومسلم.
ثم لنتأمل التعقيب الإلهي بعد ذكر من يجوز للمرأة أن تكشف لهم عن وجهها وكفيها لئلا تسول لها نفسها الأمارة بالسوء وكذلك شياطين الإنس والجن عند غياب زوجها عنها أو من يأمرها بالحجاب، فعند غياب الآمِرِ لها بالحجاب قد يدخل عليها الْحَمْوُ أو ابْنُ الْعَمِّ أو ابنُ الْخَالِ أو الصِّهْرُ أو غيرُهم من القرابة بحضرة الأم أو الأخت، أو قد يكون أحد أقربائها الرجال ويقولون لها: اكْشِفِي عن وجهك لا شيء في ذلك، إن زوجك غائب أو أباك غير موجود أو من يأمرها بالحجاب، وتنخدع بكلامهم ويقع الجميع في الإثم وفي سخط الله عز وجل، وقد يَجُرُّ ذلك إلى وقوع الفاحشة بعد مدة سواء طال الزمن أو قَصُرَ، ولنستمع إلى التعقيب الإلهي من الله عالم الغيب والشهادة الذي يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفي ?لصُّدُورُ حيث قال سبحانه: وَ?تَّقِينَ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَى? كُلّ شَىْء شَهِيدًا [الأحزاب: 55]، فعلى المؤمنات أن يتقين الله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا لمن رخص لهن الله تعالى فيهم، وما عداهم فإن الله سَيُحَاسِبُهُنَّ عليهم، فهو على كل شيء شهيد مهما اخْتَفَيْنَ عن أعين الناس من أولياء أمورهن الذين لا يرضون ذلك، ومهما تَسَتَّرْنَ أو دَلَّسَ عليهن مُدَلِّسٌ أو مدلسة من أهل القلوب المريضة، فإن الله تعالى بالمرصاد، فعلى كل مؤمنة بالله أن تحتجب عن كل أجنبي يجوز له الزواج منها سواء كان قريبًا أو بعيدًا، وعلى كل مؤمن ولي أمر امرأة مؤمنة أنْ يُلْزِمَهَا الحجاب الشرعي ويُعَوِّدَهَا عليه من سِنٍّ مبكرة حتى تعتاده وتلتزم به.
تلك هي أدلة القرآن الكريم، أما السنة المطهرة فمنها ما يلي:
1- أن النبي لما رَغَّبَ في إخراج النساء حتى الحائض إلى مصلى العيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين قُلْنَ: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب! فقال النبي : ((لِتُلْبِسها أختُها من جِلْبَابِهَا)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة أن لاَّ تخرج المرأة إلا بجلباب، وعند عدمه لا يمكن أن تخرج بغير جلباب إلى مصلى العيد أو غيره، وقد سبق تعريف الجلباب.
2- قوله : ((إذا خَطَبَ أحدُكم امرأةً فلا جناح عليه أن ينظر منها ـ إذا كان إنما ينظر إليها لِخِطْبَةٍ ـ وإن كانت لا تعلم)). فنفي النبي الجناح وهو الإثم عن الخاطب خاصة إذا نظر إلى مخطوبته بشرط أن يكون نظرُه إليها لِلْخِطْبَةِ، وفيه الدلالة على أن غَيْرَ الخاطب آثِمٌ بالنظر إلى الأجنبية عنه والتي يجوز له زواجُها، وكذلك الخاطب يَأْثَمُ إذا نظر لغير الْخِطْبَةِ كالتلذذ والتمتع بالنظر إليها. ومعلوم أن النظر إلى الوجه هو الأساس وما سواه تَبَعٌ ولا يُقْصَدُ غالبًا، وقد وردت عدة أحاديث في ذلك عن رسول الله.
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الْغَلَسِ، وقالت: لو رأى رسول الله من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها.
4- وورد أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قَوْلُهَا: (رحم الله نساء الأنصار؛ لما نزلت آيات الحجاب في الليل شَهِدْنَ صلاة الصبح مع النبي وَكَأَنَّ على رؤوسهن الْغِرْبَان)، وهذا دليل على سرعة الامتثال لأمر الله وأمر رسوله، وأن الحجاب لم يُفْرَضْ عليهن في مكة، وإنما كان في المدينة في السنة السادسة من الهجرة كما ثبت في السنة.
5- قال رسول الله : ((مَنْ جَرَّ ثوبَه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) ، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف تصنع النساء بِذِيُولِهِنَّ؟! قال: ((يُرْخِينَهُ شِبْرًا)) ، قالت: إذًا تنكشف أقدامُهنَّ، قال: ((يُرْخِينَ ذِرَاعًا ولا يَزِدْنَ عليه)). ففي هذا الحديث دليل على وجوب سَتْرِ قَدَمِ المرأة، ومعلومٌ أنَّ الْقَدَمَ أَقَلُّ فتنةً من الوجه والكفين، فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه وما هو أولى منه بالحكم، فدل ذلك على وجوب ستر الوجه والكفين.
6- ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المرأة المحرمة بحجّ أو عمرة تُنْهَى عن لبْسِ النِّقَابِ والْقُفَّازَيْنِ، فالنقاب: هو الغطاء الْمُخَرَّقُ منه للعينين وتضعه المرأة على وجهها، والقفاز: ما تلبسه المرأة على كفيها لتستر به كفيها عن الأجانب، وهذا دليل على أن لبْسَ القفاز للنساء كان معروفًا من زمن رسول الله وليس مُبْتَدعًا الآن كما يعتقده بعض الناس ويتكلم فيه قَلِيلُو الفقه في الدين ومرضى القلوب من المنافقين، بل إن ذلك مَعْمُولٌ به في الزمن الأول منذ عهد الرسول.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد له حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فالدليل السابع من السنة ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول ، فإذا حاذونا سَدَلَتْ إحدانا جِلْبَابَهَا على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه). فقولها رضي الله عنها: (سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها) هذا توضيح لما يتمسك به مرضى القلوب والمشككون في وجوب الحجاب على المرأة المسلمة، توضيح لا إشكال فيه بأن الجلباب المقصود به غطاء الوجه الذي تسدله المرأة من فوق رأسها وتضعه على وجهها، وهو دليل على وجوب ستر الوجه حتى ولو في الإحرام؛ لأن المشروع بل الواجب في الإحرام كشف الوجه بالنسبة للمرأة ما لم تكن بحضرة أجانب عنها، فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذٍ لوجب بقاؤه مكشوفًا حتى ولو مرَّ بهم الركبان، فمع أن كشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند أكثر أهل العلم إلا أن الواجب لا يعارضه إلا ما هو أوجب منه، فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عن الأجانب وكان أعظم وجوبًا ما سَاغَ تَرْكُ الواجب الآخر وهو كشفه حال الإحرام. فهذا دليل قاطع إلى جانب الأدلة السابقة واللاحقة.
8- ثم يأتي دليل آخر من عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حديث الإفك حينما روت قصة ذلك بنفسها في عدة روايات عنها في الصحيحين وغيرهما بألفاظ في غاية الوضوح والدلالة القطعية على أن الحجاب المقصود هو: تغطية المرأة لوجهها لئلا يراها الرجال من غير محارمها، قالت رضي الله عنها عن صفوان بن المعطل: (فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل الحجاب، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ، فَخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي)، وفي رواية أخرى: (فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أَنْ يُفْرَضَ علينا الحجابُ)، وفي رواية: (قبل أن يُضْرَبَ علينا الحجاب). فقولها رضي الله عنها: (قبل أن يفرض علينا الحجاب) وتخميرها لوجهها بجلبابها دليل على أن تغطية الوجه في بداية الإسلام لم يكن واجبًا إنما كان الوجوب بعد نزول آيات الحجاب، ودليل قاطع لمواجهة مرضى القلوب من الفاسقين والمنافقين المشككين في وجوب تغطية وجه المرأة عن الأجانب عنها ولا يستطيعون الْقَدْحَ فيه وفي عِبَارَاتِه وجُمَلِهِ السابقة التي منها: (فعرفني حين رآني وكان قد رآني قبل الحجابِ)، وقولها: (فَخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي)، وقولها: (وكان قد رآني قبل أن يُفْرَضَ علينا الحجابُ)، وقولها: (قبل أن يُضْرَبَ علينا الحجابُ)، وغيرها مما يُلْقِمُ الفاسقَ والمنافقَ الحجَارةَ في فَمِهِ حتى تُسْكِتَهُ، ذلك الشخص الذي في قلبه زيغ ويتبع المتشابه مما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة كما ذكر الله ذلك عنهم في الآية التالي ذكرها.
وها هم دعاة الضلالة ممن ينتسب للإسلام يريدون أن تخلع المرأة المسلمة حجابها وتقود السيارة وتختلط بالرجال وتزاحمهم في العمل وأماكن تجمعاتهم، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ مِنْهُ آيَـ?تٌ مُّحْكَمَـ?تٌ هُنَّ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ وَأُخَرُ مُتَشَـ?بِهَـ?تٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ?بَهَ مِنْهُ ?بْتِغَاء ?لْفِتْنَةِ وَ?بْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ?للَّهُ وَ?لرسِخُونَ فِي ?لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لألْبَـ?بِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران: 7، 8].
9- دليل آخر روته أيضًا السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (خرجت سودة بنت زمعة بعدما ضُرِبَ الحجابُ لحاجتها...) إلى آخر الحديث الطويل، فالشاهد قولها رضي الله عنها: (بعدما ضُرِبَ الحجابُ) أي: أن الحجاب لم يكن مأمورًا به في بداية الإسلام، وإنما جاء الأمر من الله عز وجل فيما بعد، ولم يفرضه رسول الله من عند نفسه، بل كان التشريع من الله تعالى، مع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شدة غَيْرَتِهِ قال لرسول الله : يدخل عليك البَرُّ والفَاجِرُ، أَلاَ تَأْمُر نساءَكَ بالحجاب؟! فلم يُجِبْهُ رسولُ الله إلى ذلك؛ لأن التشريع من عند الله تعالى وليس من عنده ، فنزلت آيات الحجاب بعد ذلك، وكانت تلك من موافقاته لأمر ربه التي رويت عنه رضي الله عنه.
فيا أيها المؤمنون، إن الأدلة كثيرة ولا يتّسع المقام لذكرها وتفصيلها، بل الإجمال فيها كان أقرب فيما ذُكِرَ فقط، فمن أراد الامتثال لأمر الله ورسوله فيكفيه دليل واحد من القرآن أو السنة، وعليه أن يلزم أهله ومن تحت يده من النساء بالحجاب الشرعي وليكن غيورًا عليهم، ويخبرهن ويفهمهن بأن ذلك أمر الله وأمر رسوله، وأن يبتغين به وجه الله ليكون لهن الأجر العظيم من الله جل جلاله، وأنْ يَقْبَلْنَ ذلك عن رِضَا وقناعةٍ وحُبٍّ لله ورسوله، لا أن يعملن به عن كراهية وبُغْضٍ أو عن عادة يُسَايِرْنَ فيه غيرهن، فمتى كان عن كراهية وبغض ولو عَمِلْنَ به فإن ذلك من نواقض الإسلام، ومثلهن في ذلك من يُرَبِّي لِحْيَتَهُ وهو كَارِهٌ ومبغضٌ لعمله ذلك، فمع أنه عَمِلَ بالواجب لكن الكراهة والبغض في قلبه تحبط عمله ويصبح منافقًا لأنه لم يفعلها طاعة لله ورسوله وحبًا وتقربًا وعبادة لله تعالى، وأعظم من ذلك وأشد جرمًا من يربي لحيته للتدليس والتستر لفعل الجرائم والموبقات مع أنه قد لا يصلي، أو يصلي ويفعل ذلك لإيهَامِ الناس والتَّغْرِيرِ بهم أو الاصطياد في الماء الْعَكِرِ أو لقضاء حاجات بلحيته تلك صغرت أو كبرت، فإذا خفي مقصده عن البشر فلا يخفى على الله الذي يعلم السر وأخفى.
فعلى كل مسلم أن يلزم أهله بالحجاب الشرعي طاعة وعبادة لله ليحوزوا جميعًا على الأجر العظيم من الله جل وعلا؛ لأن الدال على الخير والداعي إلى الهدى له من الأجر كأجور من عمل به. فمتى كان العمل كذلك تظهر آثاره الطيبة في المجتمع وفي الأسر، ومتى كان العكس فالشر والوبال على أصحابه أولاً، ثم يسري ذلك على المجتمع عياذًا بالله من كل سوء.
وأعود للتذكير بالآيات القرآنية السابق ذكرها في الجمعتين وآيات أخرى لها ارتباط بها، ففيها الشفاء بإذن الله عز وجل، وهي طابع وخاتم جميل بليغ في نهاية كل خطبة، وإذا تُلِيَتْ في صلاة الجمعة بعد الخطبة المناسبة كانت أبلغ وأشد تأثيرًا في المستمعين، وأتمنى أن يَتْلُوَ كلُّ مسلم سورتي النور والأحزاب من البداية حتى النهاية ويربط بين الآيات وبين أول السورة وآخرها ويتأمل كل ما ورد فيهما من أحكام وعبر وعظات بعد قراءة التفسير لها، علمًا بأن هذه السلسلة من الخطب عن حادثة الإفك وقذف المؤمنات بالفاحشة والحجاب وزواج زينب بنت جحش رضي الله عنها وإبطال عادة التبني كلها من هاتين السورتين:
قال الله جل جلاله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 30، 31].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 53-62].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النور: 58-61].
(1/5604)
فتنة النساء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, المرأة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
27/5/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بوجوب الحجاب. 2- استغلال أعداء الإسلام لقضية المرأة. 3- إخبار النبي وتحذيره من فتنة النساء. 4- انتكاس الفطر. 5- وجوب امتثال أمر الله ورسوله. 6- التحذير من دعاة الضلالة وشبهاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد كان الكلام في الخطبتين السابقتين عن حجاب المرأة المسلمة، وأوردت الأدلة من كتاب الله الكريم ومن سنة نبيه محمد ؛ ليعلم كل مسلم وجوب احتجاب المرأة المسلمة عن الرجال الأجانب عنها وعدم جواز كشف وجهها للرجال من غير محارمها فضلاً عما فوق ذلك مثل الرأس والنحر والشعر والساقين والذراعين وما فوق ذلك أيضًا من العورات الْمُغَلَّظَةِ، وسببُ الحديث عن ذلك هو ما نراه ونشاهده ونسمعه ونعيشه واقعًا محزنًا ومؤلمًا من حال المسلمين اليوم في المجتمعات الإسلامية عمومًا حين قَلَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكَثُرَ دعاةُ الضلالة والرذيلة وأصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، والتبس على بعض المسلمين الذين يَتَلَقَّوْنَ الدين عادة حسبما يرونه في المجتمع، ولما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا من أهمية في حياة المجتمع المسلم لأنها أهم دعاماته وركائزه المهمة، والتي بوجودها يعيش المجتمع في خير وسعادة، وبفقدانها يعيش المسلمون حالة التعاسة والشقاء، ولأن هذه الحياة هي سفينة النجاة التي نعيش فيها جميعًا، إنْ تَرَكْنَا المخربين يخرقونها غرقنا جميعًا، وإن أخذنا على أيديهم نجونا جميعًا بإذن الله، لذلك كان الحديث وكانت هذه السلسلة المستمرة والمترابطة من أجل التوبة والرجوع إلى الله لئلا ينزل العقاب على الجميع ولا يختص بأصحاب المنكرات للأسباب المذكورة سابقًا، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، وقال عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
لتلك الاعتبارات السابقة وغيرها فالكلام اليوم عن النساء وفِتَنِهِنَّ؛ لأنهن البابُ الْمُوصَدُ الذي دخل معه أعداءُ الإسلام ولا زالوا يتسللون منه وعن طريقه إلى واقع المسلمين ومجتمعاتهم باسم الدفاع عن الحقوق الضائعة للمرأة والظلم الواقع عليها من الرجال، واستخدموا بني جلدتنا من دعاة الرذيلة وحَمَلَةِ الفكر الْعَفِنِ واتخذوهم سُلَّمًا للوصول إلى مآربهم، واستطاعوا أن يحرفوا كثيرًا من المسلمين عن دينهم أو يمسخوهم على أقل تقدير حتى ترى الرجل وقد كثرت الذنوب والمعاصي عليه وليس لديه أي إحساس أو شعور أو مبالاة بتعاليم الإسلام، وتكون المنكرات في نفسه وأهله وعرضه ولا يتحرك فيه سَاكِنٌ حيث تَبَلَّدَ إِحْسَاسُهُ وفَقَدَ غَيْرَتَهُ، وسبب ذلك كثرة الذنوب والمعاصي التي أصبحت مغلِّفَةً ومُغَطِّيَةً على قلبه وحجبت نور الإيمان عن الوصول إلى ذلك القلب الذي يحتاج إلى من يجلو عنه الصَّدَأَ، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى الله والإنابة إليه والتوبة من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها والعزم الصادق على عدم العودة إليها، قال الله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14].
وقد أخبرنا رسولنا محمد عن ظهور النساء الكاسيات العاريات اللائي يَمِلْنَ عن طريق الهدى والحق إلى طريق الضلال بصرف الرجال إليهن وفتنتهن لهم حتى يَتَنَكَّبُوا الصراطَ المستقيم ويبتعدوا عنه، وأخبر بِأَنَّهُنَّ مُنْتَسِبَاتٌ للإسلام وأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. وحذرنا أشد التحذير من فتنة النساء عمومًا وأن لاَّ نَقَعَ فيما وقعت فيه بنو إسرائيل حيث كانت أول فتنتهم في النساء، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)). ومهما كان الرجل حازمًا معهن فإنهن يَغْلِبْنَهُ ويُذْهِبْنَ عَقْلَهُ بكيدهن ومكرهن واحتيالهن وخروجهن من المآزق والمحاذير بما لا يستطيعه الرجال كما أخبر عز وجل عنهن بقوله: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله في أضحى أو فطر إلى المصلى فمرَّ على النساء فقال: ((يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار))، فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: ((تُكْثِرْنَ اللعن، وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أَذْهَبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إِحْدَاكُنَّ)) ، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادة المرأة مثل شهادة الرجل؟!)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟!)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها)) رواه البخاري ومسلم. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما تركت بعدي فتنة أَضَرَّ على الرجال من النساء)) رواه البخاري ومسلم.
نعم، إنهن أعظم وأضر فتنة دخلت على المسلمين، واستعملها الأعداء سلاحًا قويًا ليفتكوا بهذه الأمة المسلمة وليبعدوهم عن إسلامهم أو يبقوهم كالجسد بلا روح، وهذا ما وصلوا إليه في زماننا هذا عن طريق المرأة للمطالبة بحقوقها ورفع الظلم المزعوم والواقع عليها من قبل الرجل، ومن هنا بدأت الفتنة في العصر الحاضر في بلاد المسلمين، فمنذ أكثر من ثمانين عامًا خرجت أول امرأة مَارِقَةٍ عن تعاليم دين الإسلام ودَاسَتَ حِجَابَهَا بعد أن استطاع أعداء الإسلام من المنحرفين والمنحلين أخلاقيًا في إحدى الدول العربية إلى التوصل إلى أولئك الخبيثات بإقناعهن والتسلط عليهن ومسخهنّ وإبعادهن عن دين الإسلام، ثم الاختلاط والخلوة في المكاتب والمؤسّسات والوزارات والإدارات والمناسبات والأسواق وغيرها، حتى انتهى الحياء من وجوه الرجال والنساء على حدٍّ سواء وطُبِعَ على القلوب، وانتقلت تلك الظاهرة من بلد إلى بلد وأصبحن يقلدن بعضهن، ويقلدن في ملابسهن وحركاتهن وجميع أفعالهن المرأة الغربية، وسكت الرجال وذهب الحياء وقلَّتِ الغَيْرَةُ ومُسِخَ القومُ وأفتى المفتون بجواز كشف المرأة عن وجهها ومفاتنها حيث ضربوا بالآيات المحكمة من كتاب الله وبالأحاديث الصحيحة من سنة رسول الله عرض الحائط واتبعوا المتشابه، ولو بقي الأمر على كشف الوجه والكفين لكان ذلك أَيْسَرَ وَأَهْوَنَ، ولكنهن كشفن عن نحورهن ورؤوسهن وأذرعهن وسيقانهن وربما تعدى الأمر إلى كشف الأفخاذ وما وراء ذلك من السوءات والعورات.
ولقد انعكس الأمر حين انتكست الْفِطَرُ وانعكست المفاهيم وغَلَبَ الرَّانُ على القلوب وأصبح الرجال هم العورات وعليهم أن يَتَسَتَّرُوا ولا يظهر من أحدهم إلا القليل من وجهه حتى تغطيَ عمامتُه جَبْهَتَهُ إنْ وُجِدَتِ العمامة أَصْلاً حتى لا يكاد يرى الطريق من وضع تلك العمامة التي وصلت فوق أنفه وغَطَّتْ معظم وجهه وسَحَبَ ثوبَه وجَرَّهُ على الأرض لِيَسْتُرَ قَدَمَيْهِ لأنهما في نظره عورة لا يجوز للرجال أو النساء النظر إليهما، وغَطَّى كَفَّيْهِ بِطُولِ الكُمَّيْنِ في الثوب، أما المرأة فكما تقدم فقد قَصَّرَتْ ثَوْبَهَا إلى نصف الساق إن وُجِدَ الثوب حيث انتشر الْبِنْطَالُ وملابس الكافرات، وشَمَّرَتِ المرأة أيضًا عن سَاعِدَيْهَا وأظهرت محاسنها ومفاتنها الأخرى لأنها هي الرجل في الوقت الحاضر، والأدْهَى والأمَرُّ من ذلك والغريبُ في الأمر أن أولئك القوم مع المسلمين في الصلاة والصيام ومع ذلك يستغربون تعاليم الإسلام التي تأمر باحتشام المرأة ووجوب صيانتها عن أعين الرجال الأجانب والمحافظة عليها من جانب الرجل لأن له القوامة عليها وهو المسؤول عنها، ومع ذلك فإن دعاة التغريب يتركون لها الحبل على الغارب باسم الثقة والتقدم والتطور والعلم وما إلى ذلك من تُرَّهَاتٍ وانحطاط وسفالة ودناءة نفوس وبُعْدٍ عن الإسلام وتعاليمه.
وفي المقابل ينكرون على المتَدَيِّنَاتِ الْتِزَامَهُنَّ بالحجاب الشرعي ويَتَفَوَّهُونَ بعبارات تخرجهم عن ملة الإسلام وهم لا يشعرون، ويقولون أكثر من مقولات عبد الله بن أبيّ بن سلول وأتباعه الذين أُنزل فيهم وفي أمثالهم قرآنٌ يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 65، 66]. وينكرون أيضًا على المتدينين من الشباب تَقْصِيرَهُمْ لثيابهم والْتِزَامَهُمْ السنة في ذلك ورغبتَهم في التقيد بأحاديث المصطفى ، إما لجهلهم بتلك الأحاديث أو لمرض النفاق في قلوبهم ويطلقون لألسنتهم الْعَنَانَ.
وكان الأولى والأجدر بهم أن يُقْلِعُوا عن غَيِّهِم وضلالهم، فيلتزم الرجل بسنة المصطفى في جعل ثيابه ما بين نصف الساق إلى ما فوق الكعبين، ويُقَصِّر أَكْمَامَهُ إلى الرُّسْغَيْنِ، ويُظْهِر وجهه وتَذِلّ جبهتُه لله رب العالمين حين السجود ومباشرة الجبهة مع الأنف للأرض التي هي من ضِمْنِ الأعضاء السبعة الواجبِ السجود عليها. ويُلْزِمُوا أيضًا نساءَهم من زوجات وبنات وأخوات ومن كان تحت أيديهم حتى الخادمات بالحجاب الشرعي الذي لا يظهر معه قدر أنملة من المرأة لأي رجل أجنبي عنها، ولأن الله عز وجل سوف يسألهم عن ذلك، وسوف تكون الإجابةُ متعثِّرَةً، والعذرُ بالجهل غير مقبول منهم في هذا العصر إلا لمن رحم الله ولمن شاء سبحانه حيث أن الناس يعصون الله على علم منهم وبصيرة.
وإن الواجب على المسلمين اليوم امتثال أمر الله وأمر رسوله خاصة في حجاب المرأة وتحجيبها عن الرجال الأجانب ابتداءً بأخي الزوج وخاله وعمه وابن عمه وابن خاله وابن عمها وابن خالها وغيرهم وعدم السماح لهن بالاختلاط والخلوة بالرجال في أماكن العمل وغيرها من المجتمعات المختلطة بما فيها المناسبات والمتنزهات ومحلات الألعاب التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وعدم السماح أيضًا للمرأة بركوب السيارة لوحدها مع أجنبي عنها، وسوف تَحُولُ العراقيلُ والعقباتُ والتَّسْوِيفَاتُ دون تحقيق ذلك عند بعض الناس، ولكن مع حسن النية وصدق العزيمة سوف يتم التغلب عليه بإذن الله تعالى.
وليس الرجالُ أَشْرَفَ ولا أَغْيَرَ من رسول الله ولا صحابته الكرام، وليست النساءُ أشرفَ ولا أعفَّ ولا أطهرَ من أزواج رسولنا محمد أو بناته أو نساء الصحابة رضي الله عن الجميع الذين مَرَّ عليهم قرابة تسع عشرة سنة بعد البعثة وقبل أن يُفْرَضَ الحجابُ على النساء ولم يتردد أحد من الرجال والنساء في امتثال أمر الله وأمر رسوله.
إنَّ الخيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ في العمل بكتاب الله وسنة رسوله عن قناعة وإخلاص وصدق وصواب في العمل، والشَّرَّ كُلَّ الشَّرِّ في البعد عن ذلك ومخالفة أمر الله ورسوله، فعلى المسلمين عمومًا تطبيقُ تعاليم الإسلام والْعَضُّ عليها بالنواجذ، ولتتحرك الغيرة فيهم على محارمهم ويمنعونهن من كل شيء يخْدُشُ الْعِرْضَ ويَجْرحُ الكرامةَ ويُذْهِبُ الحياءَ، وليقفوا سَدًّا مَنِيعًا وحاجزًا قويًا لإغْلاقِ وَسَدِّ كل الأبواب والطرق التي تقودهن إلى الشر والهلكة والاختلاط والسفور والوقوع في الفواحش، مع الحرص على جعلهن جواهر مَصُونَة لا يُرَى من إحداهن شَيْءٌ أبدًا، بل تكون الواحدة مستورة من أعلى رأسها إلى أَخْمصِ قَدَمَيْهَا لا يُرى منها قدر أنملة إلا السواد متى كانت محتاجة لذلك الخروج، لئلا يطمع فيها طامع أو تمتد إليها يَدُ وَحْشٍ مُفْتَرِسٍ لِكَرَامَتِهَا وَعِفَّتِهَا، وعليهم أن يُبْعِدُوهُنَّ عن خفافيش الظلام التي تَسْرِي بالليل وتخطط للإيقاع بالإسلام وأهله عن طريقهن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، وقال عز وجل: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]، وقال عز وجل: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلقد كثر دعاة الضلالة في هذا الزمان وتَجَرَّأَ المنافقون على الْفُتْيَا والْقَوْلِ على الله بغير علم، واستخفّوا واستهانوا بالكذب على الله ورسوله، وأصبح الْجُهَّالُ يفتون الناس في أمور دينهم فَضَلُّوا وأَضَلُّوا، وسمعنا وقرأنا وشاهدنا ما يندَى له الجبين مما هو وَصْمَةُ عَارٍ في جَبِينِ الإسلام والمسلمين عندما وقف مسؤول له مكانته في بلد عربي قبل أكثر من عشر سنوات أي: في جمادى عام 1411هـ في مجتمع نسائي وهن سافرات وجهًا لوجه، وقف مفتيًا لهن بأن من حقّ المرأة أن تكون قاضية ووزيرة ورئيسة وعاملة في جميع الأعمال مشاركة الرجل جنبًا إلى جنب، وهُنَّ يُصَفِّقْنَ له، وَيَرُدُّ ذلك إلى أنّ الإسلام لا يُمَانِعُ ذلك بل يُجِيزُهُ ويَأْمُرُ به، ولا غرابة في هذا الرجل وأمثاله وما يصدر عنهم من أقوال وأفعال مخالفة لهدي الإسلام، ولكن الذي يتزعم دولة ويرأسها ويَدَّعِي الإسلامَ حينما أرادت مديرة مدرسة في فرنسا أن تطرد طالبة مسلمة لأنها تلبس الملابس القصيرة وتستر رأسها وشعرها ويُسَمُّونَ ذلك بالحجاب وليس هو الحجاب الشرعي، ووقف بَطَلُ القرن العشرين ليقول كلمة الكفر بأن الحجاب من التقاليد العربية القديمة وليست من الإسلام في شيء وأن بَنْتَهُ تلبس القصير وتسبح بالكالسون ـ أي الذي يُخْفِي بعض عورتها المغلظة فقط ـ وعندها تمّ طرد تلك البنت من تلك المدرسة بناء على فتوى من رئيس دولة عربية، وسمعنا عن أذناب الشيوعية وخروجهم والبعثيين والعلمانيين والحداثيين وأتباعهم ممن يتكلّم ويُطالب بقيادة المرأة للسيارة ويُجَوِّزُ كشفها عن وجهها واختلاطها بالرجال والخلوة بها، ومع هذا النشاز في المطالبات يُرَدِّدن دائمًا قولهم بأنه سوف يأتي اليوم الذي نرى فيه ذلك محتجين ببعض الممنوعات سابقًا التي أصبحت الآن لا غبار عليها ولا منكر لها. نسمع ونقرأ عبر الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة حول المطالبة بذلك وبتصوير المرأة بصورة أوسع، ويردّدون مطالبهم ومزاعمهم عبر الصحف اليومية بأقلامهم وأقلام أتباعهم، ولا يَكلُّون ولا يَمَلُّون ولم يَرْدَعْهُمْ أحدٌ، وكذلك يظهر منهم من يفتي بجواز كشف المرأة لوجهها، ويكتبون بأسماء مستعارة للنساء، ويطالبون بذلك بكل قوة عبر وسائلهم وطرقهم المختلفة التي ما إن تُكْبَتَ حتى تظهر من جديد يتمثلون أشباههم من الذين قال الله عنهم في محكم التنزيل: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]، وقال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8]، وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
أيها المسلمون، علينا أن نطبق تعاليم الإسلام، ولتتحرك الغيرة فينا على محارمنا مع منعهنّ من كل شيء يخدش العرض ويجرح الكرامة ويُذهب الحياء وكل شيء يقودهن إلى الشر والهلكة والاختلاط والسفور والوقوع في الفاحشة، نُبْعِدُهُنَّ عن الذين يصطادون في الماء العكر ويَتَحَيَّنُونَ ويَنْتَهِزُونَ الْفُرَصَ ويَسْتَغِلُّونَ المناسبات وانشغال الأمة بالأمور المهمة واستغلال نقاط الضعف وانتحال الأعذار بالأساليب البراقة التي تراها في الظاهر تحمل الرحمة ولكنها باطنًا تحمل الشقاء والعذاب، وهذه أساليبهم وطرقهم المعروفة لدى المتابعين لتحركاتهم منذ عشرات السنين، ولكننا ولله الحمد والمنَّة في هذا البلد المبارك نُطَمْئِنُ أنفسَنا بأنَّ ولاةَ أمرِنا يَسْعَوْنَ لتطبيق كتاب الله وسنة رسوله محمد لأن مُلْكَهُم ودولتهم قامت على ذلك منذ قرون، وهذا عهد وميثاق لن يتخلوا عنه إن شاء الله تعالى، وهذا ما نسمعه منهم بين فترة وأخرى، ونَفْخَرُ ونُفَاخِر به عند تكراره من ولاة أمرنا، ويعطينا المزيد من الراحة والاطمئنان على أن الطرق مقفلة والأبواب مؤصدة أمام أهل الشر ومحاولاتهم المستمرة والمستميتة على مَرِّ السنين، وإن كان يخرج من الحداثيين والعلمانيين بين فترة وأخرى من ينشر ضلالهم مُسْتَغِلِّين الأوقات المناسبة لهم والفرص السانحة التي تخدم مخططاتهم، ويظهر ذلك من خلال كتاباتهم المسمومة ومطالباتهم الخبيثة في الوسائل الإعلامية المختلفة، قال الله جل جلاله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء: 88، 89].
فعلينا أن نَثِقَ بعلمائنا وما يصدر عنهم في هذا البلد، ولا نتكلم في أعراضهم، ونضع أيدينا في أيديهم وفي أيدي ولاة أمرنا، والعلماء لم يُصْدِرُوا عدم جواز قيادة المرأة للسيارة لذاتِ القيادةِ نفسِها وبناء على هوى أو رغبة للمنع من عند أنفسهم، حاشا وكلا، إنما لأخذهم بالقاعدة الشرعية: دَرْءُ المفاسدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المصالح، والوسيلة تبرر الغاية، أو الغاية تبررها الوسيلة، ولأن المرأة سوف تخلع حجابها الواجب عليها وتذهب إلى أكثر من ذلك من ناحية السفور واختلاطها وخلوتها بالرجال، وهذا هو الذي تسعى إليه النساء المؤيدات لأولئك الأشرار حيث يخدمن أهدافهم ومقاصدهم وإن كُنَّ لا يعلمن شيئًا عن مخططاتهم، فالمرأة من أولاء النسوة وأمثالهن لا تريد زوجها بمفرده وإنما تريد العشرات من الرجال لأنها تقود سيارتها وتذهب من بيتها في أي وقت تشاء ومع من تشاء وترغب وتهوى وتختار في ليل أو نهار، فَهُنَّ يحرّمن ويقفن ضد تعدد الزوجات ويُرِدْنَ مئات الرجال، وكذلك الإباحيون والسفلة من الرجال تكلموا وكتبوا عن تعدد الزوجات وقالوا على الله بغير علم، ويتباكون على أولئك الذين عدَّدوا وعلى نسائهم، مع أن أولئك الأشرار لا يريدون أن يكتفوا بزوجة كما يدَّعُون ويتباكون إلا فيما يظهر للناس، بل يريدون الوصول إلى أكثر نساء المجتمع حيث السفور والاختلاط والاختلاء وخلع الحجاب.
لهذه الاعتبارات وغيرها مما يحفظ للمرأة كرامتها وعفتها ويصونها مما يخدش عرضها قال العلماء بذلك المنع، وقولهم حق لا شك فيه، ولا يشك فيه إلا كل منافق وفاسق مريض القلب، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 7، 8].
فعلينا أن نتقي الله في نسائنا وأعراضنا ونعمل ما في وسعنا لحفظهن وإلزامهن بتعاليم الإسلام التي يسعى الأعداء من بني جلدتنا لتقويضها، وقد وصلوا إلى مآربهم الخبيثة في كثير من الدول الإسلامية وكان الفساد العريض، والسعيد من اتعظ بغيره ونجا مما وقع فيه غبره، ولنتأمل هذه الآيات التالية: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم: 41-45]، ولنتدبر أيضًا هذه الآيات من سورة النساء ونعيها تمامًا وكذلك الآيات قبلها وبعدها، قال تعالى: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 80-83].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
(1/5605)
الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
4/6/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الحدود الشرعية. 2- وضع الإسلام للتدابير الوقائية لحماية المجتمع من الرذيلة. 3- تعظيم أمر الزنا والتحذير منه. 4- أسباب الوقوع في الزنا. 5- عقوبة الزاني في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من طبيعة البشر أن تكون لهم نزعات، فمنها نزعات إلى الخير والحق، ومنها نزعات إلى الباطل والشر، ولما كانت النفوس الشريرة والنزعات الخاطئة والأعمال السيئة لا بدّ لها من رادع يَكْبَحُ جِمَاحَهَا ويخفف من حِدَّتِهَا شرع ربُّ العبادِ وهو الحكيمُ العليمُ الرَّؤوفُ الرحيمُ حدودًا وعقوباتٍ متنوعةً بحسب الجرائم لتردعَ المعتديَ وتصلحَ الفاسدَ وتُقِيمَ الْمُعْوَجَّ وتكفِّرَ عن المجرم جريمته إِذْ لا يجمع الله بين عقوبة الدنيا والآخرة إن تاب العبد وأناب ورجع عن تلك الجريمة، أما إن عاد ورجع ولم يتب ولم يُقَمْ عليه الْحَدُّ مثلاً في المرة الأخرى فيما يجب فيه الحد أو القصاص فالتكفير عن الأولى وليس عن الأخرى.
ولقد أوجب الله إقامة الحدود على مرتكبي الجرائم كلّ حسب جريمته، فالسارق تُقْطَعُ يَدُهُ لأنه يسرق بها غالبًا، وقُطَّاعُ الطريق إذا قَتَلُوا قُتِلوا، وإن أخذوا المال فقط قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ من خلاف لأنهم يستعينون على قطع الطريق بأيديهم وأرجلهم فَقُطعت نكالاً وجزاءً من جنس العمل، وقاذفُ المحصنات والمحصنين يُجْلَدُ ثمانين جلدة حتى لا تُنتهك الأعراض، أما جريمة فساد الأخلاق وانهيار المجتمع تلك الجريمة التي تكمن في فعل الزنا واللواط فإنها جريمة عظيمة رَتَّبَ عليها الشارعُ عقوبةً أكبرَ، فالزاني الذي يَطَأُ فَرْجًا حرامًا إما أن يكون محصنًا، وإما أن يكون غير محصن، فالمحصن هو البالغ العاقل الذي تزوج امرأة وَوَطِئَهَا بنكاح صحيح، فإذا زنا فإنه يُرْجَمُ بالحجارة حتى يموت ثم يُغَسَّلُ ويُكَفَّنُ ويُصَلَّى عليه ويُدْفَنُ مع المسلمين إذا كان مسلمًا، وأما غير المحصن وهو من لم يتزوج على الوصف الذي ذُكِرَ فإنه إذا زنا يجلد مائة جلدة ويُسَفَّرُ عن البلد أي: يُغَرَّبُ سنةً كاملةً.
أيها المسلمون، إن الإسلام لا يُعَوِّلُ على سلاح التعزير الْمَحْضِ لحفظ المجتمع الإنساني من خطر الزنا تلك الجريمة والرذيلة القبيحة والتحلل السافر من قيود الأخلاق والتي بها تختلط الأنساب ويختلط الخبيث بالطيب، بل إن الإسلام أتى بالتدابير الإصلاحية والوقائية على نطاق واسع، وجعل التَّعْزِيرَ آخِرَ حَلٍّ لتطهير المجتمع من الذين يَعِيثُونَ في الأرض فسادًا ومن أجل أنْ يَحُولَ دون ارتكاب هذه الجريمة حيلولة تامة ولا يدع الأمر يُفْضِي إلى إقامة الحدود على الناس، ولأجل ذلك فإن الإسلام يعتني بإصلاح نفس الإنسان قبل كل شيء، ويعمر قلبه بخشية الله تعالى عالم الغيب والشهادة العزيز الجبار، ويشعره بمسؤوليته يوم القيامة التي لا يستطيع أنْ يَنْجُوَ منها بأي حيلة، ويُنَشِّئُ فيه الميلَ إلى طاعة الله ورسوله التي هي أول مقتضيات الإيمان، ثم ينبهه ولا يزال ينبهه مرة بعد أخرى على أن الزنا والفاحشة من كبائر الذنوب الموجبة للعذاب الأليم في الآخرة، نجد ذلك في مواضع عديدة من القرآن الكريم والحديث الشريف. ثم إن الإسلام بعد ذلك يوفر للإنسان السُّبُلَ الممكنةَ للنكاح ويزيل عن وجهه العقبات، يبيح له الزواج المشروع بمثنى وثلاث ورباع، أي: له الجمع في عصمته بين أربع من النساء إذا كان لا يكتفي بامرأة واحدة ولديه الطاقة والمقدرة على ذلك، ويُهَيِّئُ للزوج سهولةَ طلاقِ زوجته، وللزوجة سهولةَ مُخَالَعَةِ زوجِها إذا لم يحصل بينهما توافق ورغبت مفارقته، ويفتح الله أمامهما باب مراجعة الحكمين ـ أي: حكم من أهله وحكم من أهلها ـ ومراجعة القاضي ليحصل بينهما التوافق أو يفترقا ويتزوجا حيث شَاءَا، قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2، 3]، وقال رسول الله : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) رواه البخاري ومسلم.
فهذه عقوبة من يفعل تلك الفاحشة الكبرى والسيئة العظمى، جريمة الزنا التي يترتب عليها اختلاط الأنساب وتوريث الأجانب وانتهاك الأعراض وفقر الأغنياء وانتشار الأمراض، وما ظهر الربا والزنا في قوم إلا وظهر فيهم الفقر والمرض وجَوْرُ السلطان. وفي الحديث عن النبي : ((أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله في شيء، ولن يدخلها الله الجنة، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين)) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان رحمهم الله. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له)) رواه أحمد والطبراني رحمهما الله تعالى.
والزنا كله خبيث، لا يفعله إلا خبيث، وأعظمه جرمًا وأشده إثمًا وأكثره عذابًا يوم القيامة أن يزني الرجل بحليلة جاره أو امرأة مغيبة ـ أي: زوجها غائب عنها ومسافر ـ؛ لما فيه من اعتداء على حق الجار والخيانة له، والغائب الذي أَمِنَهُ وأَمَّنَهُ على أهله وَوَثِقَ به في ماله وبيته وزوجته وبنته، وقد يحصل القرب بين المتجاورين ويقع الاتصال والاختلاط فما يَلْبَثُ الشيطانُ حتى يُوقِعَ الشخصَ ويَزُجَّ به وبدينه وكرامته في الشر والفساد ويعبث بكرامة غيره وبِأَحَقِّ الناس عليه وأَلْصَقِهِمْ به، فَيَثِبَ على امرأته ويسلبها العفاف والشرف، ويُفْضِي بها وبدارها إلى الخراب وسوء المستقبل بالطلاق والفراق وكراهية الناس لها وتمزيق عرض زوجها وغيرته التي تقتله حينًا وتحمله على الانتقام حينًا آخر، قال رسول الله لأصحابه: ((ما تقولون في الزنا؟)) قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله : ((لأَنْ يَزْنِيَ الرجلُ بعشرِ نِسْوَةٍ أيسر من أن يزني بامرأة جاره)) رواه أحمد والطبراني، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله : أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)) ، قلت إن ذلك لعظيم، ثم أيّ؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أنْ يَطْعَمَ معك)) ، قلت: ثم أيّ؟ قال: ((أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)) رواه البخاري ومسلم. وليس معنى هذا أن الزنا مباح ولكن لِيُعْلَمَ عِظَمُ حَقِّ الجار ويَأْمَنَ كلٌّ على عرضه وماله وجميع حقوقه، فإذا كان الزنا حرامًا فإنه أشد حرمة وأعظم عندما يُرتكب مع حليلة الجار، وعذابه أشد وأنكى.
والله تعالى لا يُحَرِّمُ شيئًا على العباد ولا يمنعهم من ارتكابه إلا لما فيه من الضرر وما يترتب عليه من البلاء، ومما هو معلوم من الدين بالضرورة أن الزنا حرام، لذلك فكل طريق مؤدية إلى الزنا فهي حرام، أي: أن كل أسباب ودواعي الزنا محرمة.
فمنها: خلوة الرجل بالمرأة التي ليست من محارمه؛ لأن ذلك مَدْعَاة إلى إِغْرَاءِ الشيطان لهما بالفاحشة مهما بلغا من التقوى والإيمان، فما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، قال رسول الله : ((لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) رواه البخاري ومسلم، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان)) رواه أحمد. فكما أنه لا يجوز للمرأة أنْ تَخْلُوَ بالرجل الأجنبي عنها وتختلطَ به وتحتكَّ به وتشاركَه الأعمال مشاركةَ اختلاطٍ واخْتِلاَءٍ، فلا يجوز أيضًا أن يخلو بها خادم أو سائق أجنبي عنها أَيْ: غَيْر محرم لها.
ومن ذلك أيضًا: سفر المرأة من غير محرم، قال رسول الله : ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم)) رواه البخاري ومسلم. والعبرة بالمسافة في السفر وما يُسَمَّى سفرًا شرعًا وعرفًا، وليس العبرة بالزمن في السفر. فما يجوز فيه قصر الصلاة الرباعية يُعْتبر سفرًا، وبأي وسيلة كان السفر على الدواب أو السيارات أو القاطرات أو الطائرات أو السفن والبواخر.
ومن الأسباب أيضًا: تبرج النساء وخروجهن بثياب الزينة والطيب لِيُلْفِتْنَ أنظارَ الناس إليهن ليقعوا في شباكهن وحبائلهن وحبائل الشيطان الرجيم.
ومن أسباب الزنا كذلك: خروج النساء سافرات كاشفات الوجوه والأيدي غير متحجبات بالحجاب الشرعي الذي أوجبه الله وفرضه الله على النساء المؤمنات.
ومن أسباب الفتنة العظيمة المنتشرة بين نساء المسلمين: ذلك الحجاب المتبرج، أي: أن صاحبته تعتبر متبرجة، ومنه البراقع الفاتنة التي تُظْهِرُ الْوَجْنَتَيْنِ والعيون الساحرة الخائنة، فالنقاب غَيْر البُرْقُع لأن الخرق في النقاب على قدر عينٍ واحدة لرؤية الطريق من سماكة الحجاب، غير هذه البراقع المعروفة فلنتنبه لهذا.
ومنها: مصافحة المرأة الأجنبية للرجل، والنظر من المرأة إلى الرجل والعكس، واستماع الأغاني أو مزاولتها، وتداول الصور والأفلام الخليعة، أفلام الجنس أو مسرحيات وتمثيليات الحب والعشق والغرام، وكل يوم تظهر وسائل فتنة وشرٍّ تُرَقِّقُ ما قبلها، فها هي القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية تنشر الفضائح مما لا تمارسه بعض الحيوانات مع بعضها علنًا، فكيف بمن ينتسب للجنس البشري؟! إنهم يمارسون أعمالاً ويرتكبون أفعالاً عَلَنِيَّةً يندى لها الجبين ويستنكرها كل غيور ويخشى من عواقبها الأليمة التي لا تختص بأصحابها وإنما يعمُّ عقابها الجميع نتيجة السكوت وعدم الإنكار والتغيير، قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، وقال عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
كل ما تم ذكره من الأسباب المؤدية إلى الزنا محرمٌ بنص القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وكل ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وقد نهى الله المؤمنين عن الاقتراب من الزنا وأسبابه، ولم يَقُلْ لهم: (ولا تزنوا)، وإنما أمرهم بالابتعاد عن الأسباب المؤدية إليه حتى لا يقعوا فيه فقال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء: 32].
والإنسان إذا زنا تعلق قلبه بالزنا، بَدَّدَ ثروتَه، ومَحَقَ مالَه، وجَنَى على دينه وإيمانه، وأصبح أَسِيرَ شهوته وطَوْعَ إرادة الشيطان الرجيم، يتحكم فيه الْمُومِسَاتُ والْبَغَايَا، وينصرف عن زوجته إلى امرأة بَغِيٍّ خبيثة لا تَرُدُّ عن نفسها كَفَّ لاَمِسٍ ولا تبالي بمن أتاها، قد جمعت من الأمراض المعدية والآفات المهلكة أشدها فتكًا وأسرعها هلاكًا، وهل يُصَابُ بِالسَّيَلان والزُّهْرِيِّ وغيرهما من الأمراض الجنسية الخبيثة إلا الزناة ومَنْ لا يبالي بنطفته أين يضعها وكيف يخرجها؟! وقد يجنون على أناس أبرياء، فينقل الزاني إلى امرأته أو الزانية إلى زوجها مرضًا فينتشر البلاء وقد يقتصر عليهم، وقد يصاب البريء ببعض ذلك ويناله الشر والأذى وهو منه بعيد وله مجانب، كَأَنْ يتزوج امرأة صالحة كانت لدى خبيث فتنقله إلى الطرف الثالث الصالح، وقد يخرج أولاد الزناة مصابين بأمراض أو مُشَوَّهِينَ، أجارنا الله من ذلك وجميع المؤمنين والمؤمنات.
وقد تقتل الزانيةُ ولدَها فتجمع على نفسها مصيبتين، وتحارب الله بكبيرتين من الذنوب: الزنا وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، وربما وضعته على الطريق حَيًّا وتركته يموت أو يحيا، وليست بسائلة عنه ولا متحنّنة عليه لأنه نطفة وضعت في غير محلها، وربما بَلَتْ به أحدَ عبادِ الله المستورين ووضعته في سيارته أو أمام بيته مع أنه يوجد الآن أساليب متعددة لمنع الحمل أصلاً، نعوذ بالله من الفتن والفواحش ما ظهر منها
وما بطن.
ولقد كان الرسول يأخذ البيعة من النساء عندما فتح مكة على هذه الأمور، فقالت له هند بنت عتبة حين قال لها: ((ولا تزنين)) ، قالت: أَوَتَزْنِي الحُرَّة؟! قال: ((ولا تقتلن أولادكن)) ، قالت: ربَّيناهم صغارًا ونقتلهم كبارًا! وَأَكْرِمْ بها من حُرَّةٍ أَبِيَّةٍ تستنكر الزنا من الحرائر وتراه من شأن الإماء والولائد اللائي يَعِثْنَ بفروجهن.
قال تعالى: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة: 12].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحذر من الأسباب الموصلة إليها رحمة بعباده وصيانة لهم عما يضرهم في دينهم ودنياهم، أحمده على إحسانه وأشكره على لطفه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: ففي صحيح البخاري رحمه الله في حديث منام النبي الذي جاء فيه أنه جاءه جبريل وميكائيل قال: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لَغَطٌ وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَؤُوا ـ أي: صاحوا من شدة حره ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني ـ يعني من الرجال والنساء ـ فهذا عذابهم إلى يوم القيامة)). وعن عطاء في تفسير قوله تعالى عن جهنم: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ [الحجر: 44] قال: "أشد تلك الأبواب غَمًّا وحَرًّا وكَرْبًا وأَنْتَنُهَا رِيحًا للزناة الذين ركبوا الزنا". وورد في الأثر: "يا معشر المسلمين، اتقوا الزنا فإن فيه سِتَّ خصال، ثلاثًا في الدنيا، وثلاثًا في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فَذَهَابُ بَهَاءِ الوجه، وقِصَرُ العمر، ودوامُ الفقر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله تبارك وتعالى، وسوء الحساب، والعذاب بالنار"، وعن النبي أنه قال: ((من مات مُصِرًّا على شرب الخمر سقاه الله تعالى من نهر الغوطة، وهو نهر يجري في النار من فروج المومسات)) أي: الزانيات يجري من فروجهن صديد وقيح في النار ثم يسقى ذلك لمن مات مصرًّا على شرب الخمر.
ورد في الحديث أن فتى شابّا أتى النبي فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ مه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ادْنُهْ)) ، فدنا منه قريبًا، فقال: ((اجلس)) فجلس، فقال: ((أتحبه لأمك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم))، قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)) ، قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)) ، قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)) ، قال: فوضع يده عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه)) قال: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء من ذلك. رواه الإمام أحمد رحمه الله.
فأقول لمن كان واقعًا في هذه الفاحشة: عليه أن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه توبة صادقة، فباب التوبة مفتوح، والله يقبل توبة التائبين ويبدلهم فوق ذلك بدلاً من السيئات حسنات، فعليهم أن يعودوا إلى الله ويتذكروا قول الله تعالى: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 70].
أما المسلمون الذين عصمهم الله من تلك الفاحشة وغيرها فعليهم أن يفيقوا من غفلتهم ويستيقظوا من سباتهم العميق، وخاصة ممن ابتلي بالعمالة الوافدة من الخدم والسائقين والعمال الآخرين الذين يعتبرون ارتكاب تلك الجريمة من أبسط المنكرات ولا غبار عليها في نظرهم ويمارسونها في بيوت المسلمين لأنهم نَشَؤُوا وتَرَبَّوْا عليها في بلادهم، ولا أقول ذلك جزافًا ولا أتفوّه به بهتانًا وزورًا، وإنما هو واجب النصيحة وتغيير المنكر والأمر بالمعروف والخروج من إثم السكوت عن البيان مما اطلعتُ عليه وبلغني بأي طريق ليقف كل مسلم سدًا منيعًا ويغلق كل أبواب الشر والفساد عن أهل بيته ومن يعولهم ويقوم عليهم بالتربية والرعاية ومن هم تحت يده من العمالة الذين أفسدوا بيوت المسلمين بارتكاب ما حرم الله، وعلى كل مسلم غيور أن يطهر بيته من خبثهم ويستعين بالله على الاكتفاء والاستغناء عنهم بأي وسيلة مهما كلفه الثمن، وإذا كان مضطرًا ضرورة لا مناص عنها فليستقدم رجلاً مع زوجته والتأكد من إسلامهما وأنهما زوجان شرعيان لبعضهما. وإن جرائمهم المتعددة غائبة عن كثير من المسلمين الذين يستنكرون التركيز والإشارة والتلميح والتصريح لقليل مما يفعلون، ولكن خوف المصلحين وتخوفهم على مجتمعهم من الانغماس في الرذيلة يجعلهم قائمين بواجب النصيحة لأمتهم خوفًا من الله عز وجل ومن أليم عقابه إن هم سكتوا وكتموا ولم يبينوا. وإن كل مسلم يستطيع الوقوف على ما ذكر بالتلميح بأسلوبه الخاص ليطهر هذا البلد الطيب من شر أهل الفساد ولينجو الجميع من عذاب الله وسخطه، وليقوم كل بمسؤوليته المسؤولية التي ليست موكولة لجهة معينة، بل سوف يسأل عنها الجميع يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل.
وليس هذا الفساد الخلقي على إطلاقه على جميع العمالة الوافدة، فهناك ولله الحمد منهم من هو بعيد عن ذلك وغيره، قائم بما أوجب الله عليه، مبتعد عما نهى الله عنه. ولكن الكلام عن الغالبية العظمى التي تمارس تلك الفاحشة مع بعضهم البعض وفي بيوت المسلمين سواء ذلك السائق مع تلك الخادمة الأجنبية عنه أو الخادمة التي تدخل من تريد من عمال نظافة الشوارع وغيرهم إلى بيت كفيلها في غيابهم عنه أو في ساعات نومهم وراحتهم، ولا يظن أحدٌ أن رجلاً أو امرأة يستقدم لوحده دون زوج ويبقى عدة سنوات أنه خالٍ من تلك الغريزة، ومن ظن ذلك أو اعتقده أو تغافل عنه فقد غلط على نفسه ويجب أن يصحح وضعه، وإن الغيرة لتقتل كثيرًا من السائقين الذين يعملون لدى عائلات قد تكون نظيفة إلا من زوجة أو بنت، وسبب تلك الغيرة القاتلة إما أنه يريد أن يكون هو البطل فيها أو الغيرة الإسلامية الحقيقية ولكنه لا يستطيع أن يُغَيِّرَ شيئًا مما يرى ويُمَارَس فعلاً، فهل يتم استغفال أولئك السائقين لغيرتهم الدنيئة أو النظيفة مع تلك الممارسات أم لا؟ الجواب معروف لدى الجميع، وهل أولئك الغافلون ينتبهون لأعراضهم ولا يتركون الحبل على الغارب لنساء ناقصات عقل ودين؟ وهل يغارون على محارمهم ويخرجون معهم إلى المستشفيات والمتنزهات والأسواق إن دعت الضرورة لذلك؟ وهل يراقبون الهواتف التي أصبحت وسيلة للشر والفساد والمواعيد؟ هل تبتعد عنا الغفلة ونجد الصحوة ونبتعد عن الثقة المفرطة التي جنى المجتمع آثارها السيئة؟ هل تتحرك الغيرة لدى الرجال ممن تركوا الحبل على الغارب لنسائهم، وخاصة ممن ترك الأمر للسائق للذهاب بالنساء في كل مكان ولدى الخياطين وحتى الحلاقين بحجة اختيار تلك القصَّة للأولاد بنين وبنات وتقف إحداهن أمام محلّ الحلاقة أو في السيارة لتختار من يعجبها من الحلاقين أو الزبائن؟ فهل نرى التغيير لتلك المنكرات والقضاء عليها من أولئك الرجال أم أنهم سُلِبوا القوامة على النساء أو أعطوها بالوكالة للسائقين؟ هل نجد الغيرة على المحارم حتى لو كان ذهابهن إلى صلاة التراويح وغيرها مع السائقين؟ إن الانتباه واجب، والحذر من ترك الوسائل المفضية لذلك سهلة بين أيديهن حتى ولو كان في رمضان سواء لمن سُمِحَ لهن بالذهاب إلى المساجد أو القابعات في البيوت أو المتسكعات في الأسواق، وهل تتحرك الغيرة لدى الذين تزوجوا زواج المسيار وينتبهون لكيد النساء ومكرهن؟ فهذه إشارة لأمور قد تُمَارَسُ يجب الانتباه لها، واللبيب بالإشارة يفهم.
فاللهَ اللهَ ـ أيها الرجال ـ في الغَيْرَة على محارمكم وأعراضكم واليقظة التامة وإيجاد الحلول المناسبة التي تكفل للجميع البعد عن تلك الجريمة البشعة التي سُهِّلَتْ أسبابُها ووسائلُها كما ذكرت في الخطبتين ليقف كل منا سدًا منيعًا ضدّ وقوعها وممارستها لنخرج جميعًا من المسؤولية وعظم الأمانة والجواب عنها يوم القيامة.
وإن كان انتشار الزنا وظهوره وكثرته من علامات الساعة التي أخبر عنها رسول الله ولكن الإخبار عن ذلك لا يعني السكوت على هذه الجريمة وعدم الغيرة على الأعراض وإنكار المنكر والوقوف ضد وقوعه وأسبابه المؤدية إليه، كلا فإن الأمانة وثقلها عظيم تنوء بها الكواهل ويعجز عن حملها كثير من الناس، ويسدّد الله المؤمنين والمؤمنات ويثبتهم ويتوب عليهم.
قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 72، 73]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27، 28]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14]، وقال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 1-3]، وقال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء: 32]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 68-71].
(1/5606)
تحريم سماع الأغاني
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
16/5/1423
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الغناء بين الناس. 2- أدلة تحريم الأغاني والمزامير. 3- بعض أحوال أهل الغناء. 4- استحلال الغناء في هذا الزمان. 5- مفاسد الغناء. 6- كلمات للقائمين على القنوات الفضائية الماجنة. 7- كلمة للقائمين على القنوات الفضائية الدعوية. 8- كلمة لعامة المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أعظم ما يَصُدُّ عن ذكر الله ويشغل العباد عن طاعة ربهم استماع الأغاني والمعازف على اختلاف أنواعها وتعدد أشكالها، تلك الأغاني المجونية المصحوبة بآلات اللهو والطرب والمعازف التي احتلت غالب بيوت المسلمين اليوم، وحاصرتها حصارًا شديدًا، وتغلغلت إلى قلوب ساكنيها إلا من رحمه الله وعصمه من ذلك. لقد فُتن بها أكثر الرجال والنساء الذين ضعف إيمانهم وخفت عقولهم، واقتدى بهم شباب الأمة من بنين وبنات، فشغلوا أوقاتهم وملؤوا أرجاء بيوتهم بأصوات الفاسقين والفاسقات من مغنين ومغنيات، والتي تُبَثُّ عبر الوسائل المختلفة من قريب أو بعيد، أو تسجّل على أشرطة مسموعة أو مرئية ومسموعة في نفس الوقت وتباع في الأسواق، وغَصَّتْ بها كثير من البيوت وأدراج السيارات، ولا يكاد يمرّ الشخص ببعض البيوت أو دكان أو ورشة أو سيارة أو نقطة مرور إلا ويسمع صوت الشيطان ودعاة الضلالة وفي جميع المتنزهات العامة، وأَخُصُّ سيارات الشباب المركّب عليها السماعات المُدَوِّيَة بالغناء المصحوب بآلات الطرب التي تَرُجُّ الأرضَ رَجًّا بما يفهمونه وبما لا يفهمونه ولا يعقلونه من أصوات أجنبية عنهم، ونسمعها أيضًا على الأرصفة وفي العربات التي تَجُرُّهَا الحَمِيرُ والبغالُ أو الدراجات النارية والعادية (الهوائية)، وحتى جوار بيوت الله، ووصلت إلى أماكن بيع الخضار والفواكه وجميع الأسواق لِيُسْمِعُوا المشترين ما يغضب الله تعالى ويُسْخطه ويَصُدُّوا عن ذكر الله تعالى دون حياء أو خجل من ارتكاب المحرمات، ولا مُنْكِرَ عليهم في صنيعهم ذلك لكثرة العاملين من الوافدين الذين يعتبرون ذلك حلالاً لا غبار عليه حتى غدا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، يمرّ المؤمن وهو أذلّ من النعجة لا يستطيع تغيير المنكر أو الأمر بالمعروف بسبب كثرة أهل الشر وقلة المناصرين للخير والعاملين به وتقصير الْمَنُوطِ بهم إنكار المنكر والأخذ على أيدي السفهاء.
إن شياطين الإنس والجن يروجون تجارة الشيطان وحزبه، ومن وراء ذلك الصحف والمجلات الماجنة التي تنفرد بشأن هؤلاء الفاسدين الفاسقين وتنشر أسماءهم وصورهم على صفحاتها وتريد إعادة التائبين إلى المجون والفجور وإلى ما يغضب رب العالمين، وكذلك الحال من قبل الإذاعة والتلفاز، يُعِيدُ القائمون عليها أغاني التائبين والعائدين إلى الله ليضلوا الناس وليشوهوا سمعة أولئك التائبين وكأنهم باقون على منكراتهم، ويعيدون أيضًا أغاني الأموات المسجلة بالصوت أو الصوت والصورة معًا كأنما يقدمون لهم رصيدًا من الحسنات مع أنها السيئات للأموات منهم وللأحياء الذين روّجوا تلك المنكرات عبر الشاشات والإذاعات، ومن كان هذا صنيعه فهو من دعاة الضلالة الذين يقودون الناس إلى الهاوية لتعريف الناس بهم وترويج بضاعتهم المنتنة العفنة الخبيثة، حتى لقد أصبح كثير من الشباب والكبار والرجال والنساء يعرفون عن هؤلاء المغنّين والمغنيات وأغنياتهم وحياتهم كل دقيق وجليل، وحفظوا شعرهم ومقالاتهم الخبيثة، ويعرفون مواقيت بث تلك الأغاني آناء الليل وأطراف النهار، ولو سُئِلَ أحدُهم عن معنى "لا إله إلا الله" لَوَقَفَ حائرًا وقال: لا أدري، ولو سئل عن أوقات الصلوات لقال: لا أدري، ولو سئل عن اسم صحابي وعن حياته لقال: لا أدري، ولو اخْتُبِرَ عن حفظه لسورة من قصار السور من القرآن الكريم لَتَلَكَّأَ فيها كثيرًا إِنْ لم يكن غير عالم بها وحافظ لها، وكيف يدري ومن أين له أن يدري وهِمَّتُهُ متجهة لِضِدِّ ذلك وهو سماع الأغاني عبر التلفاز والمذياع وغيرهما مما يجده مسجلاً على أشرطة تباع أو تهدى له؟! وبئست الهدية هدية الضلالة.
أيها المسلمون، من كان في شك من تحريم الأغاني المتعارف عليها الآن والموسيقى والمعازف وجميع آلات الطرب فَلْيُزِلِ الشك باليقين من قول رب العالمين وقول الرسول الأمين في تحريمها وبيان أضرارها، فهناك النصوص المتعددة من الكتاب والسنة التي تدلّ على تحريم الأغاني والوعيد لمن استحلّ ذلك أو أصرّ عليه، والمؤمن يكفيه دليل واحد من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله ، فإذا تعددت الأدلة على ذلك كانت أوضح وأبين وأدحض لحجج المخالفين وأقوال المخادعين مرضى القلوب والمرجفين، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36].
الدليل الأول: قول الله تعالى في خطابه لإبليس عدو الله تعالى وعدو المؤمنين: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لأمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ وَكَفَى? بِرَبّكَ وَكِيلاً [الإسراء: 65،64].
قال مجاهد عن ابن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما قال عن استفزاز الشيطان بصوته: (إنه الغناء والمزامير واللهو)، وقال الضحاك أيضًا: "صوت الشيطان في هذه الآية هو صوت المزمار". إذًا يكفي الغناء والمزمار قبحًا وتحريمًا أن يكونا عُدَّةً للشيطان وعَتَادًا له؛ لِيُغْرِيَ بهما عباد الله على الفساد والفسق والعصيان، ويفتنهم بهما عن عبادة الله ويصدهم عن سبيله.
الدليل الثاني: قال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَـ?ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ لقمان: 6، 7].
قال أكثر المفسرين: المراد بلهو الحديث في هذه الآية الغناء، وحلف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حلف بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات على أن المراد بلهو الحديث في هذه الآية الغناء.
وأورد حديثًا صحيحًا واحدًا رواه الإمام البخاري رحمه الله، وأكتفي به وبِشَرْحِ بعض ألفاظه نظرًا لضيق المقام في الخطبة، ولأن من يتلذذ بسماع الأغاني الساعات الطويلة يكره إشباع موضوع الخطبة ولا يأتي لها إلا متأخرًا، وربما في آخر صلاة الجمعة؛ لأنه لا يريد سماع كلام الله وكلام رسوله ، وجَهِلَ الحكمة من خطبة الجمعة وصلاتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونسأل الله تعالى أن يهدي ضَالَّ المسلمين وأن يثبت قلوبنا على دينه، إنه نعم المولى ونعم النصير. ومن أراد الاستزادة فعليه بكتاب "إغاثة اللهفان" لابن قيم الجوزية رحمه الله وكتاب لأبي بكر الجزائري وفقه الله، وكذلك لابن رجب رحمه الله وغيرهم حول الأغاني.
فأما الحديث فهو الدليل الثالث: عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((لَيَكُونَنَّ من أمتي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ والْحَرِيرَ والخمرَ والْمَعَازِفَ)) رواه البخاري.
فالمراد بالحر: الفرج، والمعنى أنهم يستحلون الزنا، ومعلوم تحريم الزنا، ولا ينكر ذلك أحد من المسلمين، والحرير معلوم تحريمه، وقد سبق ذكر بعض الأحاديث الدالة على تحريمه على الرجال في خطبة سابقة، والخمر كذلك يعلم تحريمها كل مسلم، وبقي شيء يجهله أو يتجاهله أو يعرف عنه وعن حكمه كثير من المسلمين، ألا وهو آخر كلمة في الحديث الشريف وهي لفظة ((المعازف)) ، فالمراد بالمعازف آلات اللهو والطَّرَبِ من طَبْلٍ وطنْبُورٍ وعُودٍ وقِيثَارَةٍ وغيرها من آلات الملاهي.
ودلالة هذا الحديث الصحيح على تحريم الغناء دلالة قطعية لا شك فيها؛ لأنها قُرِنَتْ بالحرير والخمر والزنا، ولأن وجه الدلالة على الحرمة بداية الحديث وهو قوله : ((يستحلّون)) ، ومن المعلوم أنه لا يكون استحلال الشيء لشيء مباح، وإنما يكون لشيء محرم قطعًا، فبدأ بذكر استحلالهم للمحرمات الأربع الواردة في الحديث، ولو لم تكن هذه الأشياء محرمة لما كان لقوله : ((يستحلّون)) من معنى يُذْكَرُ، والأمر واضح لا يخفى على من أنار الله بصيرته.
وفي الحديث معجزة نبوية يخبر عنها رسول الله قبل وقوعها، وها هي واقعة ومشاهدة ومسموعة للجميع، وهي إِخْبَارُهُ عليه الصلاة والسلام بقوله المؤكَّد باللام وبالنون المشددة المؤكّدة بأنهم ينتسبون إلى أمته وهي قوله في مطلع الحديث: ((لَيَكُونَنَّ من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) ، صدق رسول الله الذي قال عنه تبارك وتعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم: 3، 4].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده عز وجل وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمن مفاسد استماع الأغاني: إفساد القلوب وإنبات النفاق فيها كما ينبت الماءُ العشبَ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماءُ البقلَ).
ومن مفاسد الأغاني: أنها تمحو من القلب محبة القرآن الكريم كلام رب العالمين؛ لأنه لا يجتمع قرآن الرحمن ووحي الشيطان في قلب مؤمن، ولا بد أنْ يُخْرِجَ أحدُهما الآخرَ، ويعلم ذلك الْمُولَعُونَ باستماع الأغاني أو ممارستها متى أخذ أحدهم القرآن الكريم ليقرأ فيه سورة أو آية من كتاب الله حيث الحرف بعشر حسنات ويستطيع أن يكسب مئات الآلاف من الحسنات في ساعة من يومه، مع أن بعضهم لا يتلو القرآن إلا في رمضان وقد لا يتلوه في حياته مرة واحدة، وأنّى له ذلك وقد استبدل به كلام الشيطان وأتباعه، ويعرف أحدهم مرض قلبه ونفسه لو أنصف من نفسه عندما يقرأ الإمام في ركعةِ صلاةٍ من الصلوات سورةً من قصار السور أو يقسمها في ركعتين كيف يستثقل الصلاة ويكره أن يأتي مرة أخرى ويصلي خلف ذلك الإمام لأنه أطال عليه، ولا يريد أن يقف عشر دقائق بين يدي ربه، مع أنه يجلس ويستمع إلى الأغاني في الليل والنهار ساعاتٍ طوالاً لا يملّ من ذلك، وأعجب من ذلك أن بعضهم لا يأتي إلى الجمعة إلا في آخر الخطبة ولم يسمع منها إلا يسيرًا ولم يستفد منها شيئًا ولا تأتي إلا بعد أسبوع كامل ثم يقول ما يقول في الخطيب من الانتقادات والكلام الفارغ، وهذا هو مكسبه وحصيلته من الجمعة، والله يجزيه بما يستحق.
ومفاسد الأغاني كثيرة، ومن أعظمها: أنها دعوة إلى الزنا وترغيب فيه، وهي رقية الزنا، فالمغنون يحرصون على إِسْمَاعِ الناس الأغاني التي فيها وصف محاسن المرأة وقصص الحب والغرام والعشق والمجون وأشعار الغزل التي فيها وصف الخدود والقدود والثغور والنحور والحواجب والعيون وما في معنى ذلك مما يثير الْوَجْدَ والهوى. ومما هو معلوم في دين الإسلام بالضرورة أن الله تعالى إذا حرّم شيئًا حرّم كل أسبابه ودواعيه، فهو تعالى حرم الزنا، وحرم كل ما يؤدي إلى الزنا، ومنه ذلك الاختلاط والسفور والخلوة بالمرأة الأجنبية والأغاني والصور وسفر المرأة بدون محرم وغير ذلك من الأسباب المفضية إلى الزنا وكل مقدماته أيضًا من نظرٍ وخضوعٍ بالقول ومصافحةٍ وتقبيلٍ وغير ذلك. والقاعدة الشرعية تقول: كل ما أدى إلى حرام فهو حرام.
وهذا الدليل الرابع: حديث من مشكاة النبوة ومن معجزات رسولنا محمد حيث أخبر بأنه سوف يحصل في أمته عليه الصلاة والسلام باستحلالهم ذلك وبنزول أقوام على جنب علَم وهو الجبل أو في قمته يأتيهم صاحب حاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا فيهلكهم الله تعالى ويضع الجبل عليهم ويمسخ آخرين من هذه الأمة قردة وخنازير، وهذا المسخ قد يكون مسخًا حقيقيًا، وقد يكون مسخًا معنويًا بحيث تكون فيهم طباع القردة والخنازير من الزنا والدياثة وغير ذلك من طباع تلك الحيوانات، والله أعلم.
قال رسول الله : ((ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب عَلَم، يروح بسارحة لهم ويأتيهم ـ يعني الفقير ـ لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فَيُبَيِّتُهُمْ الله ويضع العَلَمَ ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)) رواه البخاري رحمه الله.
والدليل الخامس: عن سهل بن سعد أن رسول الله قال: ((سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ)) ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: ((إذا ظهرت المعازفُ والْقَيْنَاتُ)) رواه ابن ماجة والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.
فيا أمة محمد ، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فطهروا بيوتكم ودكاكينكم وأسواقكم وسياراتكم ومدارسكم وجميع إداراتكم وكل ما استرعاكم الله عليه من تلك الأغاني والمعازف، وتلك الرعاية أمانة في أعناقكم، وسوف تسألون عنها يوم الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى كما قال عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران: 30]. وعلينا جميعًا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي السفهاء كل بقدر استطاعته، أما أنْ يَسْتَأْسِدَ أَهْلُ الشر والعصيان وتَقْوَى شَوْكَتُهُمْ وتظهر منكراتهم بأعلى الأصوات من غير خجل ولا حياء ولا خوف من الله عز وجل فإن العقوبة من الله عز وجل سوف تعمّنا جميعًا إن نحن سكتنا على ذلك وغيره، قال تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال: 25].
فلا بد من الأخذ على أيدي السفهاء الذين يريدون أن يغير الله علينا النعم ويسلبها منا جزاء ما يقترفونه وجزاء سكوتنا وذِلَّتِنَا وعدم إنكارنا للمنكر وإعلاننا لذلك مثل إعلانهم له أو أشد، وقد يرتفع نباح المغنية ويبلغ صوتها بالغناء والطرب والفحش عنان السماء إلى آخر ساعة من الليل ويَقُضُّ مضاجع النائمين والمستغفرين والمرضى وغيرهم من الجيران، ويزعجهم ويقلقهم ويعكر عليهم صَفْوَ حياتهم تلك الليلة التي تُبدأ في حفل ذلك الزواج بمبارزة رب العالمين رب السماوات والأرض وما بينهما بالمعاصي والخلاعة والمجون، فكيف يُرْجَى ويؤمل من توفيق وسداد في مثل هذه الأفراح المملوءة بالمنكرات؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون. وإن كان الغناء من الرجال محرمًا في حالة طبيعية وعادية، فماذا يكون حكمه إذا كان من مغنية بمكبرات الصوت تصل إلى عشرات الكيلومترات إلى ما قبل صلاة الفجر؟! وفوق ذلك أذيتها لعباد الله من المسلمين في نفس الحي وما جاوره من أحياء حيث يدخل صوتُها إلى داخل كل بيت بما يندى له جبين كل غيور ويحتار معه كل عاقل ولبيب، ويخشى العواقب المؤلمة إذا اقتدى بهم غيرهم وانتشر الشر وعَمَّ الفساد.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا يدًا واحدة ضد المنكرات؛ لئلا يستفحل شر أهل الباطل، ولئلا يحل بنا ما حل بغيرنا من الأمم الحاضرة والسابقة، ولنأخذ العبرة ممن حولنا قبل أن تحيط بنا أعمالنا وأعمال غيرنا، وعندها نعض أصابع الندم ولات ساعة مندم. ولا يكفي بأن نتألم ساعة وجود المنكرات أو تتغير وجوهُنا وتَتَمَعَّر ثم لا نُنْكِر ولا نقوم بأي عمل يُذكر ولا نتخذ الإجراءات الكفيلة بردع أهل الزيغ والفساد. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال: 53]، ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131].
وأتمنى وأوجه دعوةً ونداءً في الوقت نفسِه للمنتسبين للإسلام أصحاب عشرات القنوات الفضائية التي تبث كل ما يدعو للفاحشة وإثارة الشهوات ودَغْدَغَةِ الغرائز سواء بالأغاني والمجون أو بالوسائل الأخرى التي تثير كَوَامِنَ الشهوات في النفوس وتدعو إلى الفجور والفسوق والعصيان، أدعوهم وأرجو أن تصل هذه الدعوة إليهم بأي وسيلة وعن طريق أي شخص:
الدعوة أولاً: إلى أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم ويرحموها ويتفكروا هل يستطيع أحدهم ممن يملك المليارات إذا مات أن يأخذ درهمًا أو دينارًا معه في قبره، فضلاً عن الآخرة يوم العرض الأكبر يوم القيامة يوم الجزاء والحساب حيث لا يوجد هناك إلا الحسنات والسيئات ولا وجود للدراهم والريالات. إذًا عليهم أن يستعدوا لذلك اليوم العسير، لا يكونوا فقراء ضعفاء بعكس ما كانوا عليه في الدنيا، عليهم أن يقوموا بتخزين الأرصدة لهم في الآخرة بدلاً من الدنيا، وذلك بإنفاق كثير من فضول أموالهم في طرق الخير وكسب الثواب حتى يحوزوا على الأرصدة العظيمة من الحسنات؛ لكي تنقذهم بإذن الله في الآخرة. عليهم الإنفاق من فضول الأموال وليس من الزكاة، فالزكاة ركن من أركان الإسلام لا بد أن يقوموا بها ويؤدوها للأصناف الثمانية، عليهم أن يتلمّسوا حاجات الفقراء والمساكين من المسلمين ويؤمّنوها ويسدّدوا الديون عن المدينين ويتجاوزوا عن المعسرين حتى يتجاوز الله عنهم يوم القيامة.
ودعوتي الثانية لهم: إغلاق تلك القنوات التي لن تأتي لهم إلا بالسيئات، وتحويلها إلى قنوات تدعو إلى الفضائل لتجلب لهم الحسنات بدلاً من السيئات، وكيف يكون ذلك؟ هو بإعطائها لتلك القنوات الخجولة التي لم تستطع الوقوف على أرجلها والقائمة على حساب طبقة لا تكاد تجد مصاريفها الشهرية، ولكنها قامت بالاشتراك السنوي فيها تدعيمًا لها وللدعوة إلى الله، ومنها قنوات المجد التي لم تصل إلى أكثر المسلمين في بلاد الحرمين فضلاً عن الدول الأخرى، أو تلك القنوات التي تبث القرآن والإسلام ولكن عن طريق التسجيل ومن ثم البث لا عن طريق الشبكة وغيرها لأنها لا تستطيع إيجاد المباني والأستديوهات والتجهيزات الأخرى للبث المباشر وكل ما يتعلق بذلك.
الدعوة الثالثة: هي التفكير والتأمّل بكل تَجَرُّدٍ وصدقٍ وأمانةٍ: هل يرضى أحد من أصحاب تلك القنوات لزوجته أو بنته أو أخته أو أمه أو إحدى قريباته أن تمارس تلك الأعمال المشينة التي تعرض على الملايين طوال ساعات الليل والنهار؟! إذا كان لا يرضى ذلك أي غيور منهم على عرضه فهل يرضى أن يرى النساء من قرابته ممن ذكرت سابقًا أو من الذكور هل يرضى أن يشاهدوا تلك القنوات التي تبثّ الفواحش والفجور وتنشرها للعالم أجمع حتى تصل إلى كل بيت لإشاعة الرذيلة والقضاء على كل فضيلة وانتشار الأوبئة والأمراض وهَتْك الأعراض في المجتمعات وخاصة بين المسلمين في جميع بقاع الأرض حتى ينسلخوا من إسلامهم؟! إذا كان لا يرضى هذه الأفعالَ الشنيعةَ صاحبُ أيِّ قناةٍ من المسلمين فهل تتحرك لديهم الغيرة على أعراضهم وأعراض المسلمين وعلى إسلامهم ويَهُبُّوا غَيْرَةً لله ويُوقِفُوا عشرات القنوات بكل تجهيزاتها للدعوة إلى الله ونشر الإسلام وتعاليمه السمحة حتى يكتب الله لهم رِفْعَةَ الدرجات وكثرة الحسنات والعتق من النيران والفوز بالجنة إن شاء الله تعالى؟!
إن الأمل كبير في استيقاظ همم أولئك الرجال المنتسبين للإسلام وتحريك الغيرة فيهم واستنهاضهم للقيام ببعض ما أوجب الله عليهم في أموالهم وتوجيهها الوجهة الصحيحة لخدمة الإسلام والمسلمين وخدمة أنفسهم أولاً وأخيرًا وإنقاذها من رِبْقَةِ الهوى وشياطين الإنس والجن الذين أوقعوا المسلمين في طرق الغواية والضلال، إنا لنرجو أن يربؤوا بأنفسهم عن كل ما يشيع الفاحشة في المجتمعات جميعها وفي مجتمعات المسلمين خاصة، وإنهم لن يرضوا على أنفسهم أن يكونوا مَعَاوِلَ هَدْمٍ للفضيلة وإشاعة الرذائل والدياثة في المجتمعات جميعها، فضلاً عن أن يرضوها للمسلمين والمسلمات أو في خَاصَّةِ أنفسِهم، خاصَّةً وهم يعلمون قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19]، والحديث الشريف: ((لا يدخل الجنة ديوث)). والديوث هو الذي يقرّ الفاحشة في أهله أو يرضى بها.
إن باب التوبة مفتوح، ولا أحد من المخلوقات يستطيع أن يمنع أحدًا من البشر من دخول هذا الباب متى أراد الشخص وفي أي وقت من الأوقات، ولكن قبل خروج الروح قبل الغرغرة ومفاجأة الأجل، فمن رحمة الله بعباده أن فتح لهم هذا الباب العظيم للدخول منه، ويفرح ربنا عز وجل بتوبة العباد إذا تابوا وأنابوا، وفوق ذلك وبعد أن فتح لهم باب الرجاء والولوج منه يبدل سيئاتهم التي ارتكبوها حسنات، فالواجب المبادرة بالتوبة إلى الله جل جلاله، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 153]، وقال سبحانه وبحمده: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
والدعوة الرابعة: لأولئك القائمين على القنوات الخجولة الذين لم يفكروا في تأمين متطلبات القنوات ونشرهم للخير إلا على حساب أولئك المساكين، ولم يفكروا أنهم قد حرموا كثيرًا من الناس من هذا الخير، وحقًا إني أخاف عليهم من أن تنطبق عليهم الآيات التالية، وعليهم أن يفكروا طويلاً في ذلك ويحاولوا البحث عن طريق تمويل لمشروعاتهم غير هذه، ويطالبوا أصحاب المليارات من المسلمين بمساعدتهم ومساندتهم أو التكفل بتلك القنوات، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 174-176]، وقال : ((من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) رواه ابن حبان والحاكم، ورواه ابن ماجة بزيادةٍ وتعريفٍ للعلم المقصود وحصره في أمر الدين: ((من كتم علمًا مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
والدعوة الخامسة: لعموم المسلمين للدلالة على الخير وطرقه والوقوف مع أصحاب تلك القنوات والقائمين عليها وعلى الشبكات والوسائل الحديثة التي توصل الدعوة إلى الله إلى كل بقعة في العالم، الوقوف بأي أسلوب مهما كان وبأي دعوة ومساندة، وأقل ما هناك هو الدعاء لهم، قال رسول الله : ((الدال على الخير كفاعله)).
وعليهم أن يُجَنِّبُوا أنفسهم وأهليهم ومن تحت أيديهم ومسؤوليتهم ويحذروهم من تلك القنوات التي تدعو إلى الفواحش وهي وسيلة إليها، أو تلك التي تبثُّها وتنشرها والتي لا تمارسها البهائم على مرأى من بعضها وتغار على بعضها من أن يراها أحد من البشر، ومنها الإبل حيث لو رأى جملٌ إنسانًا ينظر إليه وهو يمارس شهوته مع الناقة لأدرك ذلك الإنسانَ ولو بعد حِينٍ، وقضى عليه بأن يضربه حتى يضعه تحت بطنه ويبرك عليه حتى الموت، وهذه الغيرة في الحيوانات يجب أن لا تغيب عن البشر إن كان لا زال عند من ذهبت غيرته أدنى بصيرة وتفكير، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
(1/5607)
التصوير
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, قضايا فقهية معاصرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
1/11/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة تحريم التصوير. 2- اختلاف المسلمين في هذه المسألة. 3- التحذير من تعليق الصور وتعظيمها. 4- تأويل بعض المسلمين لأدلة تحريم التصوير 5- مفاسد التصوير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن من الأمور الواجب معرفتها في هذا الزمان حكم التصوير عمومًا والتفصيل في ذلك خاصة، حيث تجرأ على الْفُتْيا كثير من المسلمين من طلبة العلم وغيرهم وذلك بسبب نظرتهم من زاوية ضيقة لأسباب التحريم، لذلك تأَوَّلُوا الأحاديث الصحيحة وفسروها تفسيرات قد تكون بعيدة في بعض الأحيان عن المقصود، وفيها الشَّطَطُ في غالب الأحيان، وأقنعوا بعض العلماء الذين أفتوا بالحل في التصوير لأنها كالصورة في المرآة وحبس الظل وغير ذلك من الفتيا المبنية على القناعة التي أُخِذت من زاوية واحدة ولم تنظر في الأمر من منظور أوسع وأشمل وتستعرض الأحاديث الصحيحة والواقع الذي يعيشه الناس في هذا الزمن، مع أنَّ مِنْ علمائنا الموثوق بهم مَنْ أَشْبع الموضوع بحثًا وجمع بين الأحاديث ورجّح، ومنهم: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله رحمة واسعة، وأورد بعض الأدلة على التحريم من كلام رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4].
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن الذين يصنعون هذه الصور يُعذبون يوم القيامة، يُقال لهم: أَحْيُوا ما خلقتم)) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله من سفر وقد سترتُ سَهْوَةً لي بِقِرَامٍ فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله تلَوَّن وجهُه وقال: ((يا عائشة، أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) ، قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صوّر صورة في الدنيا كُلِّفَ أنْ يَنْفُخَ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ)) متفق عليه، وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة)) متفق عليه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون)) متفق عليه، وعن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أُصَوِّرُ هذه الصورَ فَأَفْتِنِي فيها، فقال: اُدْنُ مِنِّي، فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فَدَنَا منه حتى وضع يده على رأسه، فقال: أنبّئك بما سمعت من رسول الله ، سمعت رسول الله يقول : ((كل مصور في النار، يُجْعَلُ له بكل صورة صورها نفس فيعذبه في جهنم)) ، قال ابن عباس: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا روح فيه. متفق عليه.
وكل الأحاديث التي تَمَّ ذِكْرُهَا متفق على صحتها مما رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
وروى البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: وعد رسولَ الله جبريلُ أن يأتيه فَرَاثَ عليه ـ أي: أبطأ ـ حتى اشتدّ على رسول الله ، فخرج فلقيه جبريل فشكا إليه، فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة. وروى الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي الهياج حيان بن حصين قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ أن لاّ تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سَوَّيْتَهُ. وعن جابر رضي الله عنه أن النبي أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبيّ حتى مُحِيَتْ كلُّ صورة فيها. وروى البخاري رحمه الله عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي : ((نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور)).
هذه بعض الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وتدلّ على أن ذلك من كبائر الذنوب المتوعّد عليها بالنار، وهي عامة لأنواع التصوير سواء كان للصورة ظِلٌّ أو لا ظِلَّ لها، وسواء كان التصوير في حائط أو ستر أو قميص أو ثوب أو عمامة أو ورق كبير أو صغير أو غير ذلك، وسواء كان التصوير باليد أو بالآلات الحديثة.
هذا هو حكم نفس التصوير الذي يجب أن يعتقده كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، والاعتقاد ابتداء هو التحريم، ولكن تبقى أمور يخفى حكمها على كثير من المسلمين بحيث يخلطون بين الحرام وبين ما أبيح لضرورة أو غيرها.
وقد يتفق كثير من المسلمين على أن الصور المجسمة لذوات الأرواح من الآدميين والحيوانات البرية والبحرية والطيور يتفقون على أنها حرام، وإذا أبعد وأزيل رأس أي مجسم أو صورة بالكلية ولم يبق إلا بقية الجسم فإن هذا العمل يخرجها عن شكل ذوات الأرواح، وتصبح مشابهة للجمادات، ويصبح هناك مسوغ شرعي لاستعمالها، هذا عند من يرى جواز ذلك، مع أن قطع الصورة وفصلها بخط يوضح أنها مقسومة بحيث لا تكون هناك حياة على حد تعبير الْمُجَوِّزِين والمبيحين لا يُقَدِّمُ ولا يُؤَخِّرُ في الحياة؛ لأن الصورة ليس فيها حياة أصلاً فكيف تكون الفتيا بما لا يبقى معه حياة؟! إذًا فالصور التي تصف جسم الإنسان بما فيه الرأس كاملاً والوجه بمعالمه هي صورة حقيقية، وتسمى صورة، وهي تعطي صورة واضحة واقعية وَصْفِيَّةً للشخص خاصَّةً إن كانت مُلَوَّنَةً، وليس من الْمُتَحَتِّمِ والضروري أن يكون الجسد كله ظاهرًا في الصورة، فَالْوجْهُ لوحده يُعْطِي التفاصيل المطلوبة والواضحة عن الشخص الْمُصَوَّرِ.
إن تعليق الصور وتعظيمها واحترام أصحابها وسيلة من وسائل الشرك التي جاء التحذير منها في الإسلام، وإني لأعجب كل العجب كيف يفهم ويدرك الكفار والملحدون خطورةَ الصور والمجسمات ولا يعلمها المسلمون الذين يعيشون في ديار الإسلام ويكادون يغيبون في الكتب الإسلامية التي بين أيديهم من كثرتها؟! إني أُنَزِّهُ هذا المكان عن ذكر أي شيوعي أو غيره من الملاحدة والكفار، ولكن أقول بأن زعيمًا شيوعيًا عاش في عصرنا وأمر بإزالة جميع الصور والمجسمات من جميع المحلات في بلاده، ألا يعني هذا أنه يعرف مدى التقديس لمن سبقه عن طريق هذه الصور؟!
ومع أننا نعلم حرمة تعليق الصور في البيوت وغيرها وكذلك وجود المجسمات للحيوانات وغيرها إلا أننا نجد التهاون بهذا الأمر كما هو الحال في غيره، فعندما يدخل الشخص بيتًا من بيوت المسلمين ـ إلا من رحم الله ـ يجد في الاستقبال عند الباب مجسمًا لأسد أو خيل أو ثعبان أو غير ذلك مما دُفعت فيه الأثمان الباهظة لإعلان العصيان على الله عز وجل، وفي المجلس صورة صاحب البيت مُتَصَدِّرَةً المجلس أو صورة والده أو من يعزّ عليه في شبابهم أو للقادة والزعماء من الرجال، أما صور النساء فإلى الآن لم نشاهدها في المعروضات العامة من المنازل، مع أنها موجودة في الغرف والأماكن الخاصة في البيوت عند كثير من المسلمين، وأعظم من هذا موجود عند دعاة التغريب والتفسخ، وكل ذلك من المنكرات الظاهرة التي يجب أن يعرفها كل مسلم ومسلمة، وأنه لا يجوز تعليقها أو نصبها بأي حال من الأحوال في البيوت والمكاتب أو غيرها من المحلات العامة والخاصة، وتجب إزالتها إلا ما دعت إليه حالات الضرورة في التعليم مثل الطب وغيره.
وهناك امرأة أمريكية أسلمت ولم يمرّ على إسلامها إلا أقل من سنة أي: في عام 1409هـ وكتبتْ عن الصُّور وحُرْمَتِهاِ كتاباتٍ جيدةً استحسنت فيها تحريم التصوير لما علمته من الشرور الناجمة عنها، وتعجبت من واقع المسلمين ومحاولة بعضهم التفسيرات الباردة التي تبيح التصوير.
فالواجب على كل مسلم أن يعرف الحلال من الحرام ويأخذ العلم عن العلماء الذين يخافون الله ويتقونه ويثقون بصدق ما قال رسول الله ، ويؤمنون بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وينظرون إلى أي آية أو حديث بمنظور واسع وشامل وليس من زاوية ضيقة، ويعلمون أن الخير كله في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله ، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]، وقال تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، لم يترك خيرًا إلا دل عليه، ولا شرًا إلا حذر منه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فقد فسر بعض المسلمين في القديم والحديث الأحاديث السالفة الذكر وغيرها من الأحاديث التي تدل على تحريم التصوير إجمالاً فَسَّرُوهَا بل قَصَرُوهَا على المجسمات أو على رسم اليد أو ما كان له ظل أو ما تمت به الحياة على حد قولهم، وأخرجوا الصُّوَرَ الْمُلْتَقَطَةَ بالآلات الحديثة من ذلك سواء كانت ملونة أو عادية وقالوا بأنَّ الصورةَ حَبْسٌ للظل، ومثلها مثل الصورة التي في المرآة إلى غير ذلك من التأويلات والتفسيرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونسوا أو تناسوا وغفلوا أو تغافلوا ـ خاصة في هذا العصر الذي كثرت شروره ـ عن الواقع وما يحيط بهم ومصدر تلك الشرور والمعاصي والآثام، نسوا شمولية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، وتناسوا صدق خبر رسول الله في الأحاديث الصحيحة الصريحة وأوّلوها حسب أفهامهم ولم يأخذوها جملة ويتأملوا واقع العالم بأجمعه، وغفلوا عن قول الله عن رسوله محمد : وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4].
أعود لأقول: مهلاً أيها المسلمون في أي مكان وَيَا مَنْ تعيشون هذا الزمان، عليكم أن تنظروا نظرة واسعة شاملة متأملة متأنية لهذا الموضوع الخطير، وعلى كل منا أن يستعرض جميع الأحاديث الواردة في التصوير، ثم يسأل ويجيب في الوقت نفسه بكل صدق وإخلاص بعد التفكير فيمن حوله وفيما حوله وعما سمع أو رأى أو قرأ وفيما يدور عبر القنوات والتقنيات الحديثة بجميع وسائلها نتيجة التصوير الذي سبّب الطلاق في بعض البيوت والمشاكل التي تأصّلت في النفوس إلى حدّ الانتقام أو علَّم الإجرام وتهريب المخدرات والحب والغرام عبر المسلسلات التي غرست كثيرًا من الصفات والتصرفات والسلوكيات غير المحمودة في النفوس: هل يرضى أحد منا أن تكون صورة لزوجته أو أخته أو بنته أو إحدى قريباته لدى أحد الأجانب عنها يتمتع برؤيتها أو يتناقلها الشباب بينهم وينسخون منها ما يريدون ويُوَزِّعُونَ، حتى إذا ما أراد أحدهم الزواج مِمِّنْ تَحِلُّ له منهنَّ ولم تَقْبَلْ وَاجَهَ وليَّها بأنها تُحِبُّهُ، والدليلُ على ذلك وُجُودُ صُورَتِهَا عنده، وأنَّ العلاقةَ بينهما قائمةٌ منذ زمن طويل؟! وقد يُقْدِمُ بعضُهم على ذلك التصرف المشين بعد دخول الزوج أو بعد العقد الشرعي أو بعد فترة من الزمن ليتمّ التفريق بينهما ويهدم بيت الزوجية بسبب تلك الصورة التي أخذتها بعضُ زميلاتها في غَمْرَةِ الفرح في عُرْسٍ أو خلافه أو باحتيال من أجل الذكرى أو غير ذلك من الأسباب المقنعة لها حتى وقعت في الشِّباك التي نُصِبَتْ لها وتبقى بسببها عَاضَّةً أصابع الندم على ما فُعِلَ بها، ويصبح ذلك عارًا عليها في حياتها بسبب الأشرار وهذا الاستغلال السيئ، هذا بالنسبة للصورة الواحدة لمن ذُكِرَ عادية أو ملونة، والجواب: لا يرضى أحد بذلك مهما كانت الظروف، إذًا فالأسئلة تَتْرَى للتصوير وطرقه وأساليبه المتنوعة التي تُظْهِرُ الأجسامَ كاملةً وحركاتِها والأصواتِ الْمُصَاحِبَةَ لها، ونبدأ من بعض الحفلات لزواج أو غيره التي يتمّ فيها التقاط الصور عبر الأفلام المسجلة بالصوت والصورة التي تعرض المشاهد المختلفة، فهل يرضى مسلم بأن تكون صورة لإحدى محارمه يتناقلها القريب والبعيد، أو تُعْرَض عبر جهاز الفيديو أو الحاسب أو الهاتف المحمول أو الشبكة العالمية وتتناقلها الأيدي الآثمة لتعرض عليهم رغمًا عن الأنوف؟! هل يرضى مسلم غيور بأن تكون إحدى محارمه ممثلة أو مغنية أو غير ذلك وتظهر على الشاشات في القنوات الفضائية أمام العالم؟! هل يرضى مسلم مؤمن بأن تعرض أفلام الجنس للبهائم البشرية الذين هم في صور البشر والتي أفسدت البيوت والأسر؟! هل يرضى أن تُعرض على أهل بيته الذكور منهم والإناث؟!
لقد وصل الأمر عند بعض ضعاف النفوس وفاقدي الإيمان ممن يدّعون الإسلام وفي غمرة الشهوة البهيمية العارمة أن يُثَبِّتَ أحدُهم آلةَ التصوير بالفيديو عند مباشرة زوجته وبأشكال مختلفة عبر المرايا العاكسة على السرير وفي جوانب الغرفة، فهل بعد هذا انحطاط وسفالة ودناءة وشهوة حيوانية بهيمية متردية؟! إن بعض الحيوانات أغير من هذا الصنف من الناس، واسألوا أهل الجمال عن هذه الْغَيْرَةِ فيما لو رأى جَمَلٌ شخصًا يشاهده أثناء ممارسته عمليته مع النَّاقَةِ، ماذا يفعل بذلك الْمُشَاهِد؟ إنه القضاء على حياة ذلك الشخص ولو بعد حين، وهذا الصنف أضلّ من بهيمة الأنعام، قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44].
أعود للأسئلة وإن طالت فلا بد منها ليُعرف الحكم الشرعي: هل يرضى أحد منا أن تكون صورة إحدى محارمه متصدرة إحدى المجلات العادية أو الخاصة بتصميم الأزياء، أو تعرض عبر الشاشات الفضائية للإعلانات الدعائية لأي سلعة تجارية؟! هل يرضى أحد أن يكون أحد أولاده ذكرًا أو أنثى سارقًا أو قاطع طريق أو مهرِّبًا للمخدرات أو زانيًا أو غير ذلك من الجرائم الخلقية من خلال اقتباسه تلك الأفعال مما يعرض بمسلسلات عبر الفضائيات سلبًا أو إيجابًا؟! هل يرضى عاقل أن يجلس أحد أفراد أسرته عند الحاسب المسمى بالكمبيوتر ليطلع من خلال الشبكة العنكبوتية المسماة بالإنترنت لتظهر له صورة من يريد في أي بقعة من بقاع العالم ويطلب من الجنس المقابل له أن يظهر له من خلال العدسات الموجودة لدى الطرفين في صورة مخلة بالشرف والحياء والفضيلة حتى تمارس الشهوة البهيمية أمام الطرف الثاني داخل البيوت في عُقْرِ الدور من خلال غرف الدردشة على حد تعبيرهم؟!
نعم، لقد وصل الأمر هذا الحد وأكثر، ولم يقف عند الفضائيات وما يبث من خلالها من أفلام مسبقة الإعداد والتخطيط لإضلال المسلمين واستهدافهم بشتى الطرق، بل ولم تَعُدْ قاصرةً عند أفلام الجنس التي كانت تعرض بالفيديو قبل عشرات السنين، لم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه وازداد سوءًا وطفح الكيل حيث الإرسال المباشر لأيّ بلد في العالم وبأبسط طريقة وأسهلها وأقلها كُلْفَةً وأسرعها وصولاً وإثارةً عبر عدسات الهاتف المحمول والأجهزة الحاسوبية من أي شخص لشخص آخر أو للملايين من الناس وفي أي بُقْعَةٍ من الأرض حتى لو كان بين الأرض والسماء، وكل يوم يأتي الجديد من الجنون التي تحْمل مع الفنون وأهلها، إن كل واحد منا بلا شك يجيب بعدم الرضا عن تلك الْفِعَالِ، إذًا ما مصدر تلك الأفعال التي لا نريدها ونرفضها تمامًا؟ وبِأَيِّ آلة ووسيلة كانت بداية النقل؟ وهل ذلك حَبْسٌ للظلِّ أو نَقْلٌ وتصويرٌ لواقعٍ حقيقيٍّ عبر وسائل تقنية في ثَوَانٍ ولحظاتٍ بدايتها عدسات التصوير الصغيرة أو الكبيرة؟ الجواب: إنه التصوير وعدسات التصوير والمصورون الذين يقفون خلف تلك الأجهزة صغرت أم كبرت عادية أو آلية من عدسةِ هاتفٍ أو حاسوب أو أي آلة أخرى صغيرة أو كبيرة، فهل يرضى المسلم أن تُصَوَّرَ زوجتُه أو إحدى محارمه من عدسات الهاتف المحمول المسمى بالجوال في قصور الأفراح أو المشاغل النسائية محلات إصلاح مظاهرهن مع تخريب البواطن؟! هل يرضى أن يتم ذلك ثم يُرْسَل في الحال أو بعد حين إلى أي شخص أو جهة أو مكان؟! إذًا ما الدافع لعدم رضاك ـ أيها المسلم ـ عن هذه الممارسات؟! الإجابة: هي الغيرة على المحارم والأعراض. هل هذه الغيرة مبنية على أساس من الدين، أم أنه الهوى أو الفطرة التي تتحرك في النفوس؟ كُلٌّ يحاول أن يجد جوابًا شافيًا ولكنه لا يستطيع، والحقيقة أن الغيرة تحركت في النفوس بسبب تحرك الفطرة الإيمانية التي تعلم أن دافعًا إيمانيًا يقف وراءها بالدفع ولكن لا تعلم حرمة التصوير الذي ورد على لسان رسول الله ، فهل يشك مسلم بعد ذلك في صلاح هذا الدين لكل زمان ومكان؟! وهل يراوده أدنى شك في الأحاديث الصحيحة ثم لا يفكر بعقل متفتح لسبب التحريم من كل الجوانب دون قَصْر ذلك على جانب دون آخر أو النظر من زاوية ضيقة؟!
فعلى الذي يقول بأن التصوير بالآلات الحديثة ما هو إلا حبس للظل وكالظل وكالصورة في المرآة، عليه أن يجيب عن الأسئلة السابقة بعد أن يتأمّل كل الأحاديث الصحيحة الواردة في التصوير وينظر في الواقع ويتجرد عن الهوى.
إن الأسئلة والإجابة أو الأجوبة كثيرة ولكن مقام الخطبة لا يسمح بالاسترسال فيها، وخلاصة القول: علينا أن نعتقد حرمة التصوير ابتداءً لا فرق في ذلك بين مجسم وغيره، أو ما كان بيد أو بآلة حديثة، ملونًا أو عاديًا، صورة واحدة أو أفلامًا، للذكور والإناث، من الآدميين والحيوانات والطيور وغيرها من ذوات الأرواح لعموم الأحاديث الدالة على حرمة التصوير، وهو في حق المرأة أخطر وأفسد للمجتمع، وقد حرص ولاة الأمر في هذا البلد بأن لا تظهر صورة امرأة في أي مجلة أو جريدة محلية، نسأل الله تعالى أن يزيدهم هدى وتوفيقًا وثباتًا على الحق، كما نسأله عز وجل أن يوفقهم لمنع دخول ما يفسد على المجتمع أخلاقه وسلوكه من مجلات وأفلام من خارج هذه البلاد المباركة، ومع أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء قد أصدرت قبل أكثر من شهرين ما يشفي ويكفي حول تلك المجلات والصور الخليعة إلا أن دعاة الشر والانحلال والفساد ودعاة خلع الحجاب والاختلاط كما هي عادتهم لا يهدأ لهم بال ولا ينامون بل يَسْعَوْنَ ليل نهار لإخراج المسلمة من بيتها بأي أسلوب والزَّجِّ بها بين دعاة الشهوة بعد أو قبل نزع الحجاب، وها هي إحدى مجلاتهم الصادرة هذا الأسبوع 29/3/1421هـ والتي تخالف دعوة ولاة الأمر تخطو خطوات تسبق مثيلاتها بعرض الصور النسائية من الداخل والخارج، وتبدأ بمناقشة التصوير النسائي الذي انتشر في محلات خاصة ومن عناوينها: (القبيحات يصبحن جميلات) ليلعبوا لعبتهم ويصلوا لأهدافهم من خلال مكرهم وتخطيطهم ودهائهم في غفلة من أهل الإيمان وفتور ممن يعنيهم الأمر، ومتى انتشرت الصور النسائية وأصبح ضرورة كما يدَّعون ويطالبون ويردِّدُون ولا يَسْأَمُون ولا يَمَلُّون عندها يصلون لما يريدون من نزع المرأة للحجاب، وإذا نزع الحجاب فسوف يكون الاختلاط بين الجنسين في شتى المجالات والأماكن والإدارات والمؤسسات التعليمية بدعوى الاقتصاد وعدم هدر الأموال والحاجة الملحة لذلك، ومن خلال ذلك يكون الاختلاء ويقع البلاء مع الخلوة التي بها ومعها تُمَارَسُ الشهوة، وعندها يصبح بلد التوحيد ومنارة الإسلام كغيره من البلاد، بعد ذلك هل يبقى أحد يعتقد وجوب الحجاب على المرأة المسلمة؟! فإذا قلنا: نعم، فهل يبقى للحجاب معنى إذا كانت صور النساء وظهورهن عن طريق التصوير واختلاطهن بالرجال في كل مجال؟! وإذا قلنا بأنه عليهن حرام، فهل ورد ما يخصهن بالتحريم دون الرجال؟! والإجابة تم توضيحها من خلال الكلام السابق، والصور لذوات الأرواح محرمة، وفي الآدميين أشد، وللمرأة أشد حرمة، ولا يُباح منها إلا ما كان للضرورة للرجال في البطاقة أو الرخصة أو الحفيظة أو الجواز أو استمارات الطلبة الذكور وكشف الجريمة وغير ذلك مما تدعو له الضرورة، وما كان للتعليم وما كان لنشر الإسلام وتعاليمه عبر الوسائل المختلفة دون توسع واهتمام بالمظاهر، مع الابتعاد عن عرض النساء أيًا كان فلا ضرورة في تعليم الدين عن طريقهن، بل لا يجوز أن تظهر المرأة أمام أي أجنبي عنها، وكما هو معلوم بأن الوسائل لها أحكام الغايات، والحكم يتبع المقصود إليه دون التابع.
فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى، ويُعِدّ نفسه للوقوف بين يدي الله تعالى، ويتذكر موقف الحساب والعقاب والثواب، وعلى المصورين الرجال والنساء أن يأخذوا بفتوى ابن عباس رضي الله عنهما ويَقْصُرُوا أعمالَهم على الجبال والأشجار والسفن والطائرات والسيارات والقطارات والمدارس والمساجد والمباني وآيات الله في البحار والجبال والأنهار والأرض والأنفس وفي حدود الضرورة والتعليم.
اللهم رُدَّ كيد أعداء الإسلام والمسلمين في نحورهم، واكفنا إياهم بما شئت وكيف شئت يا ذا الجلال والإكرام.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه...
(1/5608)
الخِطبة
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
22/11/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرق بين الخِطبة والخُطبة. 2- الحث على نكاح ذات الدين. 3- التحذير من تقديم الجمال أو المال أو النسب على الدين. 4- الصدق في وصف الخاطب والمخطوبة. 5- خطبة الرجل على خطبة أخيه حرام. 6- البحث عن الكفء من الرجال وتزويجه. 7- آداب الخطبة. 8- منكرات تحصل في الخطبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فهناك أمور تسبق الزواج قد يخفى على بعض المسلمين حكم الإسلام فيها، أو قد يتهاونون فيها ويعيشون بين الإفراط والتفريط، بين عادات الكفار والتشبّه بهم وبين العادات التي ورثوها عن الآباء والأجداد.
والْخِطْبَةُ بكسر الخاء: خِطبة الرجل للمرأة لِيَنْكِحَهَا أيْ: يتزوجها، وقد شرع الله الْخِطْبةَ قبل الارتباط بعقد الزوجية؛ ليتعرف كل من الزوجين على صاحبه، كما قال تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ?لنِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ [البقرة: 235].
أما الْخُطْبَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ فهي: حَمْدُ الله تعالى والثناء عليه والشهادتان المعروفة في مقدمة الخطب والمواعظ، والمسماة بخطبة الحاجة، ثم ذكر الكلام بعدها سواء كان قليلاً أو كثيرًا، ومنها خُطبة الجمعة والعيدين وخُطبة الاستسقاء وخُطبة الحاجة والْخطبة التي تسبق عقد الزواج عند الْخِطْبَةِ التي يتقدّم بها الرجل إلى أولياء الْمَخْطُوبَةِ وغير ذلك من أنواع الْخُطَبِ.
ويتفاوت المسلمون في هدفهم وغرضهم من الزواج، وخاصة في هذه الأيام، سواء الرجال أو النساء، مع أن ذلك وغيره قد حُدِّدَ في الإسلام وضُبِطَ بضوابط لو طُبِّقَتْ بعد الرضا والتسليم لَعَمَّ الرخاءُ والأمنُ وصلح المجتمع بإذن الله.
أما بالنسبة للرجل فعندما يريد اختيار الزوجة فعليه أن يبحث عن ذات الدين والخلق ويظفر بها وإن كانت دميمة أو ليست على درجة من الجمال أو مما يسعى إليه معظم الناس اليوم بالنسبة للمال أو الحسب والنسب أو الجمال، فكل هذه المطالب سريعة الزوال لأدْنَى وأَتْفَه الأسباب، وإن كان لا بأس بتلك المطالب مجتمعة أو بأحدها فهي خير إلى خير، ولكن التركيز على غير الدين ذاهب لا محالة، وقد تكون له عواقبه ونتائجه الْوَخِيمَة، أما الدين فهو الدعامة الراسخة الكفيلة بإذن الله بإرساء دعامات الأسرة المسلمة ورسوخ قواعدها، وهذا المطلب ثبتت خَيْرِيَّتُهُ وفضلُه في القرآن الكريم وفي الصحيح من حديث رسول الله ، قال تعالى: وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة: 221]، وقال رسول الله : ((تُنْكَحُ المرأةُ لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك)).
نعم، إن هذه الأمور الأربعة هي التي تدفع الرجل إلى الزواج من المرأة، وقد تكون مجتمعة فيها، وقد يجتمع فيها أمران أو ثلاثة، وقد يكون غير ذلك، والذي نسمعه من سنوات أن الذي يقدم على الزواج من الشباب لا يريد إلا المرأة الحسناء على حدّ تعبيره أي: الجميلة بمعنى أصح، ولا يهمّه الدين، وقد يتجه بعضهم إلى الرغبة في المال، وقد يسعى آخرون إلى الحسب والنسب والجمال، وهذه الأمور ليست محرّمة، لكنها أهداف ومطالب قصيرة الأمد والأجل، تنتهي وتتوقف في أيّ لحظة من اللحظات القريبة أو البعيدة، ولكنَّ الدينَ قليلٌ مَنْ يَبْحَثُ عنه مع أن السعادة فيه في الدنيا والآخرة، فالمرأة الصالحة أرض طيبة للأولاد، والأولاد الصالحون من خير الأعمال الصالحة التي لا ينقطع عمل ابن آدم منها بعد موته وتبقى بعده يَصِلُهُ ثَوَابُهَا بإذن الله بعد الممات. والمرأة الصالحة إِنْ نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ بكلامها ومنطقها وحسن معاشرتها وإن لم تكن جميلة، فجمال خُلُقِهَا يَغَطِّي النَّقْصَ في جمال خِلْقَتِهَا، وإنِ اجْتَمَعَ الأَمْرَانِ فالحمد لله وذلك خير على خير، وإنْ غِبْتَ عنها حفظتك في مالك وولدك وعرضها، وإن أمرتها أطاعتك، فهي خَيْرُ مَتَاعِ الدنيا كما قال : ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) رواه مسلم. وقد ورد في الأثر: (لا تزوّجوا النساء لحسنهن فعسى حُسْنُهُنَّ أنْ يُرْدِيَهُنَّ، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الإيمان، ولأَمَةٌ خَرْمَاءُ سوداءُ ذاتُ دِينٍ أفضل).
وكما أن الدين مطلوب من المرأة عند البحث عنها من قبل الرجل، فكذلك هو مطلوب أن يوجد في الرجل المتقدم للزواج من النساء لقول رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) ، وفي رواية: ((عريض)) بدل: ((كبير)) ، و((فزوجوه)) بدل: ((فأنكحوه)). ولننظر إلى دقة اللفظ في الحديث من حيث الدين والْخُلُق، فالمعلوم أن الخلق من الدين، والدين يشمل ذلك، ولكن قد يكون الشخص صاحب دين وصلاح ولكنْ فيه من الطباع والصفات والأخلاق أمور غير مرغوب فيها لدى المرأة، وخاصة التي سوف تعيش معه وتعاشره، مثل: البخل والشح والجبن والغلظة والفظاظة وضرب النساء وغير ذلك من الطباع والأخلاق التي قد لا تحتملها المرأة ولا ترضاها في الزوج الذي تريده، ولذلك جاء في الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)).
ولا بد للخاطب إذا كان غير الزوج نفسه أو الوسيط المسؤول عن حال المتقدم للمرأة أن يكون أمينًا صادقًا واضحًا فيما ينقله عن الرجل الذي يتقدّم لخطبة أيّ امرأة؛ لأن غالبية من يتمّ سؤالهم عن حال أي متقدم للزواج وخاصة بعض الناس الذين تأخذهم الحمية لزواج صاحبهم حتى يُوقِعُوا تلك المسكينةَ، فغالبيتهم أقرب إلى الغش والتدليس والكذب وأبعد عن الصدق والأمانة، وخاصة من أقربائه أو زملائه في العمل؛ لأنه يطلب منهم تزكيته وذِكْرَهُ بما ليس فيه من الأخلاق والمعاملة الحسنة حتى يظفر بتلك المرأة، فليتق الله كل مسلم ويعطي ما يعرفه من معلومات حقيقية سواء كانت إيجابية أو سلبية، لا ما يظنه أو يكون مبنيًا على التخمين سواء في صالح الخاطب أو ضده، فلا بد أن يكون أمينًا صادقًا ناصحًا، ولا حرج عليه فيما يذكره من حقائق عنه للأمانة، وليس ذلك من باب الغيبة إلا أن يكون قاصدًا للغيبة مُتَنَقِّصًا لأخيه المسلم. جاء في الحديث أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أتيت النبي فقلتُ: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله : ((أما معاوية فَصُعْلُوكٌ لا مالَ له، وأما أبو الجهم فلا يَضَعُ العصا عن عاتقه)) متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((وأما أبو الجهم فَضَرَّابٌ للنساء)) ، وهو تفسير لرواية: ((لا يضع العصا عن عاتقه)) ، وقيل معناه: كثير الأسفار.
فعلى المسلم أن لاَّ يُزَكِّيَ أحدًا إلا بما يعلم من حاله وواقعه فعلاً، ولا يشهد إلا بما يعرفه حقيقة لا ظنًا أو تخمينًا، وإذا لم يخالط الشخص ويتعامل معه في تجارة أو عمل أو سفر أو غير ذلك فليبتعد عن تزكيته أو مدحه بما يظهر منه؛ لأنه قد يكون تَصَنُّعًا عند غالب الناس فيما يظهر منهم، والله أعلم بالحقائق، فلا يشهد إلا بما يعلم.
فعلى ولي أمر المرأة أن يتقي الله تعالى في حُسْنِ اختيار الزوج الصالح صاحبِ الدين لموليته، وأن لا يجبرها على زوج لا تريده في الوقت نفسه؛ لأنها هي التي سوف تعيش معه ولها حق الرفض أو الموافقة، لأن بعض الأولياء يرغمون المرأة على الزواج ممن لا تريد، وهذا فيه من المحاذير العظيمة والعواقب الوخيمة ما الله به عليم، فعلى الولي أن يستشير المرأة التي يتولى أمر تزويجها سواء كانت بنتًا أو أختًا أو أُمًّا أو غير ذلك ممن كانت له ولاية عليها، سواء كانت بكرًا أم ثيبًا على خلاف في البكر لقول رسول الله : ((لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حتى تُسْتَأَمَرَ، ولا تُنْكَحُ البكر حتى تُسْتأذن))، قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال : ((أن تسكت)) ، وفي رواية: ((إذنها صُِمَاتُهَا)) ، وفي أخرى: ((رضاها صَمْتُهَا)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
ومن الأمور الواجب معرفة الحكم فيها عند الخطبة حرمة خِطْبة الرجل على خِطْبة أخيه المسلم إذا علم بذلك، أما إذا لم يعلم فلا حرج عليه؛ لأن الشخص يأتي لخطبة المرأة وهو لا يعلم غالبًا هل هي مخطوبة أم لا، وخاصة في المدن، أما في القرى والْهِجَرِ فإذا خُطِبَت المرأة فإنه ينتشر الخبر ويعلم بذلك مجتمعها الذي تعيش فيه، أما الخاطب من بعيد فلا يعلم غالبًا إلا بالسؤال؛ لأن في إِقْدَامِ الخاطب الثاني إذا علم ذلك إفسادًا على الخاطب الأول وإيقاعًا للعداوة بين الناس وإيغارًا للصدور وإثارة للفتن، وقد نهى الرسول عن ذلك في أحاديث صحيحة، منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يَخْطُبَ الرجلُ على خِطْبَة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له. رواه البخاري ومسلم. وقوله : ((المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يَذَرَ)) ، وقال : ((ولا يخطب الرجل على خِطْبَةِ أخيه حتى ينكح أو يترك)) رواه البخاري ومسلم. فَعُلِمَ من ذلك تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه، فكيف بمن يتكلم في الخاطب الأول بما ليس فيه ويلصق به من العيوب ما الله به عليم ليفسد هذا الزواج ويظفر هو بتلك الزوجة ويمدح نفسه ويظهر بمظاهر زائفة؟! لا شك أن التحريم أشد وأعظم.
وبهذه المناسبة فإن بعض المفسدين لأيّ أمر من الأمور بينهم وبين الخاطب يسعون لإلصاق التهم به والعيوب وسبّه والتكلم في عرضه، بل البهتان والافتراء عليه؛ لكي يفسدوا ذلك الزواج لمرض في نفوسهم، فهذا للأسف منتشر في مجتمعات المسلمين، ولا يكاد يصدّق أحد وجوده بين المسلمين، وما ذلك إلا لضعف الإيمان والنفاق نعوذ بالله من ذلك، وقد يفسد بعضهم عند العقد أو الدخول بالمرأة أو قبل أو بعد بأشياء تُبَاعِدُ بين الناس.
وأما عن سَعْيِ الرجل لاختيار الزوج الصالح لموليته فلا حرج في ذلك ولا غَضَاضَةَ، بل هو من كمال الاختيار وحسنه، فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك وفي الأحاديث الصحيحة، فورد في القرآن أن بنت شعيب عليه السلام لَمَّا وصفت له موسى عليه السلام وهي لا تعرفه من قبل، ولكنها وصفته بالقوة والأمانة، وكذلك أخبر هو عن قصته عندما سأله عن ذلك، لهذا فقد عرض عليه شُعيبٌ وخَيَّرَهُ من الزواج بإحدى ابنتيه، وعلم موسى أيضًا عليه الصلاة والسلام من صلاح أبيهما ومن صلاحهما وخاصة من تلك التي جاءت تمشي على استحياء، والحياء مطلوب من المرأة، وعرف أيضًا قبل ذلك ابتعاد البنتين بعيدًا عن الذين يسقون وعدم اختلاطهما بالرجال وانتظارهما انتهاء أولئك الرجال لِتَرِدَا الماءَ وتَسْقِيَا الماشيةَ، فعملهما ذلك كان له أثر أيضًا في نفس موسى عليه السلام إلى جانب الأسباب الدينية الأخرى، قال تعالى مخبرًا عن ذلك الزواج : فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ?لْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ي?أَبَتِ ?سْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَأجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لأمِينُ قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى? أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـ?لِحِينَ [القصص: 25-27]، وقال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32]، وقال تعالى: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة: 221]، وفي الحديث الصحيح ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تَأَيَّمَتْ حفصةُ بنت عمر من خُنَيْس بن حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ ـ وكان من أصحاب الرسول قد شهد بدرًا تُوُفِّيَ بالمدينة ـ قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقلت: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حفصةَ بِنْتَ عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثتُ ليالي ثم لقيني فقال: قد بَدَا لي أن لاَّ أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فَصَمَتَ أبو بكر فلم يَرْجِعْ إلي شيئًا وكنتُ أ َ وْجَدَ عليه مني على عثمان ـ أي: أن عمر غضب عليه أكثر من غضبه على عثمان رضي الله عنهم جميعًا ـ، فلبثتُ ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وَجَدْتَ عليَّ حين عَرَضْتَ عليَّ حفصة فلم أَرْجِعْ إليك شيئًا، قال عمر: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أنني كنت علمت أن رسول الله قد ذَكَرَهَا، فلم أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رسولِ الله ، ولو تركها رسول الله لَقَبِلْتُهَا. رواه البخاري. والروايات عن السلف الصالح في هذا الباب كثيرة، ولكن المقام لا يسمح بذكرها، وتكفي الإشارة إلى ذلك لمن أراد الاقتداء والاهتداء، فإنه لا حرج في ذلك ولا غضاضة، بل إن البحث عن الرجل الصالح للبنت سواء بالتصريح أو التلميح أو إرسال أحد بأي طريقة للدلالة على إقدام ذلك الرجل على خطبة تلك البنت من وليها فذلك أمر حسن، وكما أن الرجل يبحث لابنه عن امرأة صالحة فإن للبنت حقًا أيضًا في اختيار الزوج الصالح سواء تقدم هو بنفسه أو يبحث عنه بأي طريقة تحفظ للجميع كرامتهم وتخدم مصالحهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره، وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فإن واقع المسلمين بالنسبة لنظر الخاطب إلى مخطوبته بين الإفراط والتفريط، كما هو واقعهم في كثير من الأمور أيضًا، مع أن الخير كله في اتباع منهج الإسلام، ففي بعض البلاد يخلو الشاب بالشابة ويتنقلون من مكان إلى آخر في الجامعات وقاعات الدرس والأسواق والْمُتَنَزَّهَات والملاهي وغيرها تقليدًا منهم وتشبهًا بالكفار وابتعادًا عن روح الإسلام ومعانيه السامية، وفي بعض البلاد لا يعرف الزوج زوجته إلا ليلة الزواج، يحرِّمُون عليه النظرَ إليها حتى يتمّ العقد، وليس ذلك تَحَفُّظًا منهم وتمسكًا بالدين وحِرْصًا على الحجاب، إنما هو التمسك بالعادات والموروثات الجاهلية؛ لأنها قد تكشف على مَنْ لا يحلّ له النظر إليها من أبناء العم والخال والعشيرة، وقليل من يعمل بالإسلام وتعاليمه.
فالمشروع أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا اتفق هو وأهل الزوجة على الأمورِ الْمَبْدَئِيَّةِ ولم يَبْقَ إلا النظر وعرفوا صِدْقَهُ وإِقْدَامَهُ على الزواج فإن له النظر إليها للأحاديث الواردة المبيحة النظر للمخطوبة، وذلك بعد الاتفاق على جميع الشروط بينهم والسؤال الذي يريدونه جميعهم وبعد معرفتهم لِمَطَالِبِهِ من أوصاف المرأة إن كانت موجودة في ابنتهم أَوْ غير متوفرة؛ لئلا تكونَ البنتُ سِلْعَةً ينظر إليها كل من يتقدّم سواء كان صادقًا أو كاذبًا، ولئلا تحصل أمور أخرى لا تحمد عقباها، وخاصة في نقل الأوصاف بين مرضى النفوس وضعيفي الإيمان، قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم)) ، وقال للمغيرة وقد خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أَحْرَى أنْ يُؤْدَمَ بينكما)) ، وقال لرجل أتاه فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار: ((أَنَظَرْتَ إليها؟)) قال: لا، قال: ((فاذهب وانظر إليها فإن في أ َ عيُن الأنصار شيئًا)) ، قيل: عَمَشٌ، وقيل: صِغَرٌ، وقيل: زُرْقَةٌ.
فالمشروع أن يرى الخاطب بنفسه مخطوبته؛ لأن الْعِشْرَةَ سوف تكون بينهما مستمرة بإذن الله، فلا تُبْنَى على غرر ولا غش ولا خداع، وليس كما يفعله بعض الناس من نظر الأم أو إحدى القريبات، فَلَسْنَ هن اللائي سوف يُعَاشِرْنَ المرأة أو يَعِشْنَ معها، ولكل إنسان نظرته وإن كان ذلك أفضل في البداية لوصفها للخاطب ليقدم أو يحجم، ثم هو ينظر إليها بعد الاتفاق فيما بينهم وبعد السؤال.
والغريب في أمر الناس اليوم أنهم لا ينكرون على أحد يريد شراء سلعة مهما قلّ ثمنها وإن كانت مَعِيبَةً، لا ينكرون عليه عندما لا تعجبه ويتركها، فترى أحدهم يقلب البضاعة من أعلاها إلى أسفلها ليأخذ رغبته وما يريد، ويُقَلِّب في الأغنام والبهائم ويتجوَّل يَمْنَةً ويسْرةً في السوق ليحصل على طلبه وفي السيارات والمعارض والأراضي والعقارات، مع أنه قد يبيعها بعد ساعة، فلا أحد ينكر عليه ذلك وهو أمر مباح، ولكن عندما يريد امرأة تشاركه حياته وتكون أرضًا طيبة لأولاده يعيش معها حياة طويلة لا يُمَكَّنُ من ذلك بحكم العادات والتقاليد، أو يكون على العكس من ذلك حيث يُقَدِّمُ بعضُهم صورةَ المرأةِ ليراها الرجل، وهذا أمر محرم لما له من عواقب سيئة وخطيرة على المرأة، خاصة إذا سُلِّمَتِ الصورةُ للخاطب أو أحد أقربائه، والمرأة لا تصوّر في هذا البلد إلى الآن والحمد لله، وهذا من فضل الله علينا، ولم تُلْجِئْهَا الضرورةُ إلى ذلك ما دامت داخل البلاد إلا في حالات الضرورة المعروفة، مع أن دعاة الشر يطالبون بذلك من عشرات السنين، ولن يملّوا حتى تتحقق مآربهم مع سعيهم الدَّؤُوب وتهاون أهل الخير وتساهلهم في الأمور حتى يتسع الخرق على الراقع، وعندها تتفاقم الأمور وتكثر الشرور، فكيف يبيحون تقديم صورة البنت مع حرمة ذلك التصوير ويحرمون المباح والحلال وهو النظر مباشرة إلى المرأة.
ومن الأمور المبتدعة التي لم ينزل الله بها من سلطان وقد جاء النهي عنها بالتصريح أو التلميح في القرآن أو السنة أو هما معًا عدة أمور أكتفي بالإشارة إليها لضيق الوقت، ومنها: خاتم الخِطبة المسمى دُبْلَةُ الْخُطُوبَةِ، خاصة من الذهب، فالذهب محرم على الرجال سواء في الخِطبة أو غير ذلك من الأحوال، وكذلك التكاليف الباهظة التي قد يستأجر لها أبو الزوجة أو الزوج قصور الأفراح ليتم العقد بين الزوجين، وقد تصل التكاليف إلى عشرات الآلاف من الريالات بل مئات الآلاف، وهذه التكاليف في العقد من ضمن العقبات والمعوقات التي وقفت سدًا وحاجزًا في طريق زواج الشباب وعدم تيسير الزواج وتسهيله، مع أن العقد يتم بحضور شاهدين وولي المرأة أو الوكيل والزوج أو وكيله وينعقد بالإيجاب والقبول بعد رضا الطرفين وتسمية المهر حتى ولو لم يُوجَدْ كَأْسٌ من الماء، فضلاً عما يُفْعل في هذا الزمان من مظاهر زائفة وعاداتٍ أوجبها الناس على أنفسهم وليست من الدين في شيء، ويتم العقد بما سبق توضيحه ولو لم يُوجَدْ عَاقِدٌ للنكاح؛ لأنَّ المأذونَ الرسْمِيَّ ليس شرطًا في صِحَّةِ عقد النكاح، وإنما هو لأمور تنظيمية رسمية تثبت ذلك العقد رسميًا.
ومع أن الجهةَ المنظِّمةَ منعت ذِكْرَ الشَّرْعِيّ واستبدلتها بالرَّسْمِيِّ عند كتابة اسم المأذون فلم يفهم المقصودَ من ذلك كثيرٌ من المأذونين، ومنهم من يحمل الدكتوراه في الفقه مع أنه لا يفقه الفرق بينهما؛ لذلك أقول بأنه لا بُدَّ من المأذون في هذا الزمن نظرًا لما يترتب على عدم الإثبات الرسمي من محاذير وعواقب وآثارٍ سيئة، وقد ظهرت النتائج السيئة على عدم التوثيق والإثبات الرسمي حيث ضاعت كثير من حقوق النساء والأولاد خاصة بعد وفاة الزوج أو عند دخولهم المدارس أو حاجتهم لمراجعات حكومية أو السفر والتنقل في الداخل أو الخارج، عندها يعلمون قيمة التوثيق الرسمي الذي لا مَنَاصَ عنه ولا بُدَّ منه لحفظ حقوق جميع الأطراف.
وقد ذكرتُ صِِحَّةَ العقد بدون مأذونٍ وعاقد رسمي حتى يعلم الناس ذلك، وليس هذا دعوة مني لمخالفة التعليمات المنظمة لأمور الناس، حَاشَا وكَلاَّ، إنما هو لبيان الحكم الشرعيِّ الذي يجهله كثير من المسلمين.
أعود لأقول بأنه يوجد نماذج طيبة وقدوات حسنة لا يعملون تلك الأعمال ولا يقدمون عليها ويمقتونها، ولكن العادات الدخيلة أو المتأصلة في النفوس والمنتشرة بين الناس تجعلهم لا يقلعون عنها، مع أن الخير في الابتعاد عنها.
ومن الأمور المحرمة تصوير المرأة والرجل معًا أو مع مجموعة من النساء، ودخول العريس على النساء ونظره إليهن ونظرهن إليه من غير المحارم، وعمل ما يسمى بالنَّصَّة وغير ذلك من عادات جاهلية هذا القرن، والتي انتشرت في مجتمعات المسلمين دون وعي وتفكير في العواقب. فهل بعد هذا نستيقظ من غفلتنا ونسأل عن أمور ديننا ونتبع منهج نبينا وسلفنا الصالح، أم أننا نستمر في الغي ونوجد المبررات والتعليلات الباردة والحجج الواهية ونتشبه بأعداء ديننا ونرضى بالدنية في ديننا؟!
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5609)
النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/10/1407
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزواج نعمة إلهية. 2- نهي الإسلام عن التبتل والرهبانية. 3- فوائد النكاح. 4- بعض العقبات التي تحول دون تيسير النكاح. 5- تأخر سن الزواج. 6- عضل البنات عن الزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الزواج نعمة عظيمة منّ الله بها على عباده ذكورهم وإناثهم أحله لهم، بل أمرهم به بعد أن رغبهم فيه، قال تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]، وقال تعالى: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَو?حِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء: 3]، وقال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32] ، وقال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الْبَاءَةَ فليتزوج؛ فإنه أَغَضُّ للبصر وأَحْصَنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء)) ، وقال النبي في الرد على النفر الثلاثة الذين قال أحدهم: أنا أصلي الليل أبدًا، وقال الثاني: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر أبدًا، وقال الثالث: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فقال رسول الله : ((أما والله إني لأخشاكم وأتقاكم لله، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وكما أن النكاح سنة خاتم النبيين محمد فهي سنة المرسلين من قبله، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد: 38]. ففي النكاح فوائد دنيوية وأخروية وأجر عظيم من الله، سواء فيما يأتي المسلم أو فيما يخلّف بعده، ففيه امتثال أمر الله ورسوله، وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة، وفيه اتباع سنن المرسلين، ومن اتبع سنن المرسلين في الدنيا حشر معهم في الآخرة، وفي النكاح حصول السكن والمودة والأُلفة والرحمة بين الزوجين كما في الآية السابق ذكرها وهي قوله تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] ، وصدق الله العظيم الذي جعل في الزواج آية وعلامة واضحة من آياته الكونية، فتجد الشاب والشابة الذكر والأنثى في اضطراب وفي قلق، كل منهما يبحث عن النصف الآخر ليسكن إليه من هذا الاضطراب والتوتر، وخاصة في مرحلة المراهقة، وما إنْ يَلْتَقِي أحدُهما بالآخر بالزواج الشرعي إلا تَجِد الواحد منهما قد هَدَأَ وسَكَنَ من اضطرابه وخَفَّتْ حِدَّتُه وزال تَوَتُّرُه ووجد كل منهما الأُلفة والمودة والرحمة. فينبغي أن يتنبه لهذا الأمر الإلهي كلُّ مسلم ويَعِيَ ذلك تمامًا، ويسعى إلى تزويج أولاده ذكورهم وإناثهم بقدر الاستطاعة، ويعي الآية القرآنية السابق ذكرها، ويفكر كثيرًا في آخرها، ويتأمل جيدًا قول الله تعالى: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وفي النكاح أيضًا قضاء الوطر وفرح النفس وسرور القلب وتحصين الفرج وحماية العرض للرجل والمرأة على حدٍ سواء؛ لأنه يُعِفُّ نفسَه ويعف زوجتَه ويَغُضُّ كل منهما بصره عن الحرام ويبتعد عن الفتنة، ويحصل الأجر على قضاء الشهوة كما ورد في الحديث عن رسول الله قوله: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قال: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له في ذلك أجر؟! قال: ((نعم، أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟)) قال: نعم، قال: ((كذلك إن وضعها في الحلال كان له أجر)).
ومن فوائد النكاح المبكر للرجل والمرأة أنه ما إن يصل أحدهما إلى سن الأربعين إلا ولَدَيْهِمَا ابْنٌ بإذن الله يبلغ من العمر عشرين عامًا يقوم على خدمتهما، ومنها أيضًا تكثير الأمة، وبالكثرة تَقْوَى الأمة أمام أعدائها وتُهَاب بين الأمم، وكذلك تحقيق مباهاة النبي بأمته يوم القيامة حيث قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مُكَاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة)).
وفي النكاح تكوين الأسرة وتقريب الناس بعضهم لبعض، فإن الصهر شقيق النسب، قال تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى خَلَقَ مِنَ ?لْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان: 54]. وفيه حصول الأجر والثواب في القيام بحقوق الزوجية والأولاد والإنفاق عليهم، وكذلك حفظ وصيانة المجتمع من التدهور الأخلاقي وفساد البيوت والأعراض، فالنكاح أو ما يسمى بالزواج صلاح للفرد وصلاح للمجتمع في الدين والأخلاق في الحاضر والمستقبل.
وهو كذلك درء للمفاسد الناتجة عن تركه وعدم المبالاة به وفيما يحول دونه من عقبات، وكل شخص لديه معلومات كافية في هذا المجال ولا تخفى على أحد، وما يحصل من مفاسد وارتكاب للزنا والفواحش والموبقات هو بسبب عدم الزواج في السن المبكر، وخاصة بين الشباب الذين يعيشون في اضطراب واكتئاب نفسي حتى يحصل كل منهم على النصف الآخر لتكمل له السعادة ويجد السكن والمودة والرحمة بمعناها الرحب الواسع.
وهناك عقبات تحول دون الزواج، منها: عزوف كثير من الشباب ذكورهم وإناثهم عن الزواج، أي: أنهم لا يرغبون فيه في سن المراهقة وما بعدها إلى أن يبلغوا الثلاثين من أعمارهم، أو قد لا يرغب بعضهم فيه للأفكار الدخيلة عليهم؛ بأن الزواج قَيْدٌ وارتباط عائلي وأسري، أو أنه يريد أحدُهما إِكْمَالَ دراستِه ولا يرغب أن يُخَلِّفَ أطفالاً في سن مبكرة؛ لأنه لا يستطيع الإنفاق عليهم أو أنهم يُتْعِبُونَهُمَا في التربية والرعاية، إلى غير ذلك من الحجج الواهية، وما ذلك إلا للغزو الفكري والعقدي والتقليد الأعمى لأعداء الإسلام والمسلمين واهتزاز العقيدة وضعف الإيمان والقصور في التصور الإسلامي الواضح.
إن الزواج لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها والتحصيل العلمي والمعيشي، بل هو عَوْنٌ على ذلك خاصة مع الاستطاعة وممن وسع الله عليهم في المعيشة، الاستطاعة التي حددها رسول الله كما وردت في الحديث السابق ذكره؛ لأن الشاب أو الشابة في سنّ المراهقة وما بعدها إذا لم يكونا متزوجَيْنِ فإن كل واحد منهما مشغول بالآخر أيًّا كان، وكيف يتصل بعشيقته أو كيف تتصل بعشيقها، وسبب رسوب وفشل كثير من الشباب الذكور والإناث في المراحل الثانوية والجامعية هو ذلك التفكير الذي أشغلهم وربما خرج بهم عن الطريق السوي، مع أنه لو حصل الزواج الشرعيّ لَخَلا فِكْرُ كُلٍّ منهما ووجدا السعادة والراحة والسكن والأمن والطمأنينة واشتغلا بدراستهما وبأمورهما في جَوٍّ مريح وهادئٍ تَغْمُرُهُ السعادةُ التي يبحثان عنها، خاصة عندما يجد كُلٌّ منهما شريكَ حياتِه صالحًا، عندها يكون كل منهما عونًا للآخر على دراسته وما يَعْرِضُ له في الحياة، وما أكثر الذين تَكَلَّلَتْ زِيجَاتُهُمْ بالتوفيق ولله الحمد والمنة، ولم يجدوا العقبات والجبال الشاهقة التي صورها لهم شياطينُ الإنس والجن عن الزواج المبكر، وأما عن الغنى فسوف يغنيهم الله وينجز لهم ما وعدهم إياه، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6]، وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات: 22،23].
ثم تأتي الآية التي تُبْعِدُ عن المسلم ذلك التصور المادي الذي دخل إلى ضعيفي التوكّل على الله وهو خاص في الزواج والنكاح، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32] ، وفي الحديث عن النبي : ((ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله)) ، وقال أبو بكر رضي الله عنه: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح يُنْجِزْ لكم ما وعدكم من الغنى)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير المقطع التالي من الآية: (رغبهم الله تعالى في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال تعالى: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور: 32] ).
وهذا مَرْهُونٌ ببساطة الناس وتسهيل أمور الزواج وتكاليفه، وليس فيه مطامعٌ وَإِثْقَالُ كاهلِ الزوج بالديون ومِنْ ثَمَّ الحكمُ عليه بالسجن الذي يجب على من أصدره وقضى به عليه أن يعيد النظر فيه حيث لم يتركه يتكسب لعائلته، سواء من مرتب شهري معلوم أو من طرق أخرى لاكتساب المعيشة وتسديد الدين بعد الإنْظَارِ والْمُهْلَةِ، فمن أين لهذا المسكين أنْ يُسَدِّدَ وقد حُرِمَ الموارد المالية وَزُجَّ به بين جدران أربعة كما يُقَال ينتظر إحسان المحسنين إلى عائلته إن هم انتبهوا لذلك وتفقدوا، وينتظر أيضًا صدقات الناس إن شَمَلَتْهُ ووصلت إليه في رمضان المقبل؟! فليتق الله من يُصْدِر على الناس مثل هذه الأحكام وينظر برؤية واسعة وعادلة.
وأما عن المرأة فقد دخل أكثرَ النساء المتعلمات مَوْجَةٌ من أعداء دين الله بطريقة الاستعمار الفكري يُرِدْنَ أنْ يَخُضْنَ تجربةً قد مَجَّتْهَا وسَئِمَتْهَا نساءُ الغرب، فتجد العوانسَ اللائي بَلَغْنَ الأربعين سنة وأكثر لم يتزوجن، ومنهن من قاربها والموجة الطاغية الآن سائرة في الطريق، بحجة إكمال الدراسات العليا ثم يفوتها الركب، أو بحجة العمل والوظيفة لأن والدها يريد راتبها لتبقى تكدح وتعمل له وتعوله، أو أنها لا تريد القيود على حَدِّ زعمها وهي تقضي شهوتها كيف تشاء ولا داعي للارتباط الأسري عياذًا بالله من ذلك، وهناك إحصاءات دقيقة في العالم كله تفيد بأن ما يقارب أكثر من نصف النساء غير متزوجات.
أيها المسلمون، ينبغي التفكير وإعادة النظر وإمعانه في هذه القضية الخطيرة التي غزت مجتمعنا، وأن يعمل كل فرد منا على الحلول المناسبة كل بحسبه. وأسوق إليكم قصة ترويها أستاذةٌ جامعية نشرتها إحدى الصحف قبل أربعين سنة تقريبًا، ونحن مع ذلك لا زلنا نخوض التجارب التي قد مَرَّ بها غيرُنا ولم نستفد منها، وأورد ذلك استشهادًا ليكون الجميع على بصيرة من أمرهم:
جاء في الصحيفة: أستاذة جامعية في إنجلترا وقفت عام 1961م أمام مئات من طلبتها وطالباتها تلقي خطبة الوداع بمناسبة انتهاء خدمتها من التدريس، قالت: ها أنا قد بلغت الستين من عمري، وصلت فيها إلى أعلى المراكز، نجحت وتقدمت في كلّ سنة من سنوات عمري، وذكرتْ أشياءَ إلى أن قالت: هل أنا سعيدة الآن بعد أن حققت كل هذه الانتصارات؟ لقد نسيتُ في غمرة انشغالي في التعليم والتدريس والسفر والشهرة أن أفعل ما هو أهمّ من ذلك كله بالنسبة للمرأة، نسيتُ أن أتزوّج وأن أنجب أطفالاً وأن أستقرَّ، إنني لم أتذكر ذلك إلا عندما جئت لأقدم استقالتي، شعرتُ في هذه اللحظة أنني لم أفعل شيئًا في حياتي، وأن كل الجهد الذي بذلته طوال هذه السنوات قد ضاع هباءً... وتمضي في كلامها إلى أن تقول: لو كنتُ قد تَزَوَّجْتُ وكَوَّنْتُ أسرة كبيرة لتركت أثرًا أكبر وأحسن في الحياة، إنّ وظيفة المرأة الوحيدة هي أن تتزوج وتكوِّن أسرة، وأيّ مجهود تبذله غير ذلك لا قيمة له في حياتها هي بالذات، إنّني أنصح كل طالبة تسمعني أن تضع هذه المهامَّ أولاً في اعتبارها، وبعدها تفكر في العمل والشهرة. انتهى كلامُها.
والاستدلال بهذا الكلام للاعتبار والاتعاظ، وخاصة من تَخَمَّرَتْ في رؤوسهم فكرة تأخير الزواج أو عدمه البتة؛ لتتضح الرؤيا ولئلا يَخُضْنَ تجربةً قد خَاضَها الغربُ والشرقُ وجَنَوْا الوَيْلاتِ وانحلَّت بسببها الأخلاق وتدهورت المجتمعات، قال تعالى عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم: 7]. وإن كانت هذه الظاهرة قد غزت بلاد المسلمين بشكل مُلْفِتٍ للنظر ولم يسلم منها أي بقعة من العالم فإن واجب المسلمين أن يتأمّلوا هذا الواقع ويفكّروا تفكيرًا جادًّا ويضعوا الحلول العاجلة لمجتمعاتهم صيانةً لأعراضهم وحمايتِها وإِبْعَادِها عن كل ما يُدَنِّسُهَا من حيث الصحة والأخلاق وهدم البيوت وتشتيت الأسر؛ بسبب انحراف تلك الفئات عن منهج الإسلام ودين الفطرة السليمة والأخلاق الحميدة، ولا يظن أولئك المفسدون المنحرفون أن عامة الناس لا يعلمون ما هم عليه مُكِبُّونَ وما هم عليه مُدْمِنُون من تدمير المجتمع وهَتْكِ أعراضه، فإذا كان هذا أمر العامة من عدم علمهم ومعرفتهم فهناك من الخاصة من يعرف ذلك تمامًا، ولكنهم يريدون السَّتْرَ على العباد وعدم إشاعة الفاحشة لعلهم يتوبون ويرجعون عن غَيِّهِم وفسادهم، ولو أن لديهم قليلاً من التفكير في العواقب في الدنيا والآخرة لسلكوا الطريق القويم، والله عز وجل يمهل ولا يهمل، ولو يؤاخذنا عز وجل بذنوبنا أو بما هو منتشر من الزنا والانحرافات الخطيرة لعجل لنا العقوبة، ولكنه الرَّؤُوفُ الرحيمُ اللطيفُ بعباده العليمُ بضعفهم وغلبة شهواتهم عليهم وتَسَلُّطِ شياطين الإنس والجن عليهم، فتح بابَ التوبة للمذنبين من المسلمين وبابَ الدخول في الإسلام لغير المسلمين، وأمهلهم سبحانه وبحمده ولم يؤاخذهم بذنوبهم أو بكفرهم وإعراضهم عنه جل وعلا، قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى? ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـ?كِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وقال تعالى: وَرَبُّكَ ?لْغَفُورُ ذُو ?لرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ?لْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف: 58]
قال إبراهيم بن ميسرة رحمه الله: قال لي طاووس: لَتَنْكِحَنَّ أو لأقُولَنَّ لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عَجْزٌ أو فجور. إن هذه العبارة الجميلة تعطي معاني كثيرة، ويقف المتأمل لأحوال عدم الراغبين في الزواج وقفة تدبر وتأمل وتعجب عند هاتين الكلمتين: عجز أو فجور. نعم، إنه لا يعدل عن سنة الزواج وهو قادر على تكاليفه إلا مَنْ به عَجْزٌ من الناحية الجنسية أو العجز عن السعي والكسب لمن يعول أو العجز عن التربية والتعليم لمن تَقَدَّمَتْ به السِّنُّ إلى غير ذلك من أنواع العجز، أو الفجور والانحراف عن الطريق المستقيم؛ لأنَّ الْفَاجِرَ لَمَّا يَرَى مُسَايَرَةَ الفاجرات مثله يشكُّ ولا يَثِقُ في أنه سوف يرتبط بامرأة عفيفة أو يجدها في المجتمع، ولا يرضى مع فجوره أن تكون له امرأة بزواج شرعي وهي فاجرة مثله، فلذلك يعرض عن الزواج لفجوره وقضائه شهوته من الفاجرات وبالطرق الأخرى.
والعجز والفجور ينطبق على الجنسين الذكور والإناث، وقد انتشر في المجتمعات بسبب تأخر سن الزواج الذي له أسباب عدة، منها ما ذكرناه، ومنها ما هو نابع من كثرة التكاليف للوصول إلى الزواج الشرعي المباح، وفي المقابل سهولة الوصول إلى الحرام. فلينتبه الناس من غفلتهم ورَقْدَتِهِمْ وليُفِيقُوا من نُعَاسِهِمْ ونومهم، فالأمر في غاية الخطورة وإنْ قَلَّلَ من شأنه من لا يعلم ما الناس عليه وما يدور حوله، أما عدمُ زواجِ قَلِيلٍ من العلماء في القديم والحديث لانشغالهم بالعلم وإِفَادَةِ الناس والعبادة فعملهم هذا وإن كان مُبَرَّرًا بما سلف ولكنه مخالفٌ للقرآن والسنة ولهدي رسول الله ، وليسوا في ذلك بِقُدْوَةٍ وإنما قُدْوتنا وأسوتنا رسول الله ، ولا يدخلون في تلك العبارة التي أ ُ ثرَتْ عن عمر، بل هي لعامة الناس ممن لم تكن حالهم كحال هؤلاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]. وما أجمل السياق القرآني والتعقيب الإلهي بهذه الآية التي جاءت بعد آيات الحجاب والنكاح وقبلها آياتُ أَحْكَامٍ في الحياة الزوجية وهي قول الله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَـ?تٍ مُّبَيّنَـ?تٍ وَمَثَلاً مّنَ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ [النور: 34].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الناس من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها، والحمد لله الذي يسّر لعباده كل طريق يتمتعون به فيما أباح لهم من الطيبات في المناكح والأقوات واللباس والمساكن لتتم بذلك النعمة ويحصل الابتلاء والاختبار، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فكفره على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أَدَّخِرُهَا ليومٍ تُجْزَى فيه النفوسُ بما لها وما عليها، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن من العقبات والْمُعَوِّقَاتِ والعراقيل الكثيرة التي تحول دون الزواج ومصالحه عَضْلَ النساء أي: منع المرأة من الزواج بِكُفْئِهَا، واحتكارَ بعض الأولياء لبناتهم أو من لهم ولاية تزويجهن، أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أماناتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم من النساء، فإذا تقدم للمرأة خاطبٌ كُفْءٌ مُنِعَتْ منه سواء كانت هذه المرأة بنتًا أو أختًا أو أمًّا أو غيرها ممن هي تحت ولاية هذا الرجل، وقد يكون المنع من قبل الولي أو لِتَدَخُّلِ بعض النساء والسفهاء والحاسدين لهذا الزوج بحجج فاسدة يقتنع بها الولي أو المرأة لئلا يَتِمَّ ذلك الزواجُ كَأَنْ يقولوا: هذا كبير في السن أو فقير أو مُتَدَيِّنٌ مُتَشَدِّدٌ، إلى غير ذلك مما يقدحون به في هذا الخاطب، والسبب الحقيقي أنه لا يوافق مزاج أولئك السفهاء، وعندما يتمّ رَدُّ هذا الْكُفْءِ بعد التفكير والتقدير وتداول الآراء الفاسدة يقولون الكلمة الأخيرة له: البنت قد خُطِبت، أو هي مخطوبة، أو شاورناها فَأَبَتْ، أو البنت صغيرة، يقولون أقوالاً هي في الحقيقة كذب، فقد يأتي في اليوم الثاني أو بعد ساعات خَاطِبٌ فاسِقٌ أو كثيرُ المالِ أو الذي يدخل مزاج هؤلاء الذين تدخلوا، فتتم الموافقة وتُرْغَمُ البنتُ على الزواج منه وهي لا ترضى به، فسبحان الله! بين عشية وضحاها وخلال ساعات كبرت البنت وأصبحت مناسبة للزواج، بينما كانت مخطوبة عند الرد الكاذب على الأول إذا بالأمر ينكشف بأنها غير مخطوبة أصلاً للثاني، إنما هو للتخلص من الأول، وبينما هي لم تُسْتَشَرْ في الحقيقة على الخاطب الأول إذا هي ترغم على الثاني، انتكاس في الفطر، ويوم يتولى السفهاء زِمَامَ أُمور النساء ولا يخافون الله ولا يُحَكِّمُونَ شرعه عندها تضيع المسؤولية وتُهْدَرُ المصالِحُ ويفسد الأمر.
إنه يجب على ولي المرأة الرشيد الحازم إذا اقتنع من صلاحية الخاطب ورَضِيَتْهُ المخطوبةُ أنْ يُقْدِمَ على التزويج ولا يدع فرصة للمغرضين والعابثين والمفسدين، وليتبع قول رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
إن في منع المرأة من التزويج بكفئها في الدين والخلق لمثل هذه الأقوال الكاذبة معصيةً لله ورسوله وخيانةً للأمانة وجناية الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة حيث منعها وعضلها من كفئها وفوّت عليها فرصة الزواج الذي هو عين مصلحتها، وأيضًا هو جناية على الخاطب حيث منعه من حق أمر الشارعُ إعطاءَه إياه، فمثل هذا الولي تسقط ولايته على المرأة، وتنتقل إلى من هو أصلح منه ولاية عليها من القرابة، لدرجة أنه إذا عضلها الجميع فإن السلطان وليها والقاضي يزوجها، وهذا الولي الذي يتكرر منه العضل يَصِيرُ فاسقًا ناقصَ الإيمان والدين، لا تُقْبَلُ شهادتُه عند جَمْعٍ من العلماء.
أيها المسلمون، إن أمر الزواج والعقبات التي تحول دونه أمر يهم الجميع، وهناك عقبة كَؤُودٌ مهمة لم يستطع كثير من الشباب صعودها لصعوبة الوصول إلى الحلال عن طريقها والسير في دروبها ومسالكها وطرقها، ووقفت غُصَّةً في حلوقهم وحاجزًا وسدًا منيعًا أمام تحقيق فطرتهم حسب منهج دين الإسلام، وسوف تكون مِحْوَرَ الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
(1/5610)
النكاح ونفقاته
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
16/10/1407
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة غلاء المهور. 2- صور صحية في محاربة هذه الظاهرة. 3- دعوة لتخفيف نفقات النكاح. 4- الإسراف والتبذير في نفقات النكاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد كان الحديث في الخطبة السابقة عن النكاح والعقبات التي تحول دونه، ومنها عزوف كثير من الشباب ذكورهم وإناثهم عن الزواج، وكذلك عضل النساء وعدم تزويجهن بالأَكْفَاءِ في الدين والخلق، والحديث الآن إن شاء الله عن مُعَوِّقٍ وعَقَبَةٍ كَؤُودٍ عظيمةٍ انتشرت في المجتمع بين الغني والفقير والرفيع والوضيع على حد سواء إلا من رحم الله، وأصبح من الصَّعْبِ التَّخَلِّي عنها إلا ممن وفقه الله، وهذه العقبة هي نفقات الزواج وتكاليفه، ابتداء من المهر، ومرورًا بوليمة العرس وما يتبعها، وانتهاء بتجهيز بيت الزوجية وما يلحقه.
فهذه المعوقات والتكاليف ابتدعها الناس وتَمَادَوْا فيها حتى صار الزواج من الأمور الشاقة الثَّقِيلَةِ البالغة حدًّا لا يُطاق لدى كثير من الراغبين فيه، لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الحلال إلا بديون تشغلهم وتَأْسِرُ ذِمَمَهُمْ لدائنيهم، وعندما تكون هذه حال المجتمع فكيف نَأْمَنُ عدم وقوع الفساد وهتك الأعراض من الجنسين، حيث أصبح الطريق إلى الحلال مسدودًا أمامهم وحالت دونه العراقيل والعقبات الشاقة التي لا يستطيعها كثير من الناس، وعندما تكون الطريق إلى الحرام ودواعيه سهلة وميسورة على النقيض من الحلال فماذا نتوقع؟! وماذا ننتظر؟!
إن طرح السؤال والجواب عليه ينبغي أن يفكر كل فرد منا فيه ويتأمل عواقبه، وليس بِخَافٍ على أحد، ولكن التأمل والتفكير وإيجاد الحلول مطلوب من الجميع، ومن تأمل الواقع وسمع ورأى وعلم عما يدور حوله وتحركت غيرته وخاف على مستقبل أمته وحرص على أَمْنِ مجتمعه وصَوْنِ أعراض أفراده لا يَهْدَأُ له بَالٌ حتى يرجع المسلمون إلى الطريق السَّوِيِّ ويسلكوا نَهْجَ السلف الصالح من أمتهم في هذا المجال وغيره، ومع هذا فهم على خوف ووجل لأن الفتنة والمصيبة عامة كما قال تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25].
إن غلاء المهور أصبح ظاهرة ومرضًا اجتماعيًا لا يسلم منه إلا القليل ممن وفقهم الله وسنُّوا سنة حسنة في ذلك في هذا العصر، علموا وعرفوا أنه ليس المقصود بالنكاح المال وإنما المال وسيلة إلى الزواج، وليست المرأة سلعة تُباع وتُشترى أو تُمنع بحسب ما يُبذل فيها من المال، بل هي أكرم وأرفع من ذلك، هي أمانة عظيمة وجزء من الأهل، والمال لا قيمة له، والمغالاة في المهور ونفقات الزواج لا يُبَالِغُ فيه إلا منْ قَلَّ حَظُّهُ من الفقه ومن تطبيق تعاليم الإسلام في جميع شؤون الحياة.
والسنة الثابتة في المهور هو تخفيفها وتسهيلها حتى تحل البركة في الزواج والوئام والألفة بين الزوجين، قال رسول الله : ((أَعْظَمُ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤونَةً)). وقد تزوج رجل في عهد النبي امرأة على تعليمها بعض سور من القرآن، وعقد له النبي على ذلك بعد أن قال له: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) ، فلم يجد شيئًا فقال النبي : ((هل معك شيء من القرآن؟)) قال: نعم، سورة كذا وكذا، فقال النبي : ((زوجتكها ـ أو قال: ملكتكها ـ بما معك من القرآن)). وقال لرجل عندما قال له: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواقٍ يعني مائة وستين درهمًا، فقال له النبي : ((على أربع أواقٍ! كأنما تَنْحِتُونَ الفضة من عرض هذا الجبل)) ، يشير بذلك عليه الصلاة والسلام إلى مغالاة هذا الصحابي في المهر وسوء فعله وصنيعه ذلك. فلو كان ارتفاع المهور والمغالاة فيها مَكْرُمَةً وخيرًا في الدنيا أو تقوى عند الله تعالى لكان أولى الناس بها رسول الله كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تُغَالُوا في صُدُقِ النساء ـ يعني مهورهن ـ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها رسول الله ).
فيا أيها المسلمون، إذا كانت المغالاة في المهور مرضًا منتشرًا في المجتمع فإن من المسلمين من هم قدوة حسنة في الخير قد سنوا سنة حسنة وخرجوا عن العادات السيئة المنتشرة بين الناس وسلكوا طريق رسول الله وأصحابه وعلموا أن الخير كله في اتباع ما جاء به رسولنا محمد ، وإنه لمما يُثْلِجُ الصدر عندما يسمع المسلم أن شخصًا أو أشخاصًا خُطِبَتْ منهم بناتُهم فاشترط كل واحد على الخاطب أن لاَّ يدفع مهرًا سوى كذا من المال، أي: أنه سَمَّى مهرًا قليلاً جدًا. وهذا نوع وصنف من الناس الموجودين في المجتمع، وصنف آخر يدفع الخاطبُ المهرَ ويكون مهرًا متوسطًا فيأخذ أبو الزوجة منه ألف ريال أو أقل من ذلك ويردّ الباقي على الخاطب، ومثل هؤلاء سمعنا عنهم كثيرًا، ورجل ضرب مثلاً رائعًا، وذلك بأنه رأى رجلاً صالحًا غير متزوج وسأله عن سبب عدم زواجه، فأخبره بأنه لا يستطيع تكاليف الزواج من مهر وخلافه، فقال له: هل ترغب الزواج إذا زوَّجَكَ أحدٌ ابنتَه؟ قال الرجل: نعم ولِمَ أمتنع عن ذلك؟! فقال له هذا القدوة الحسنة: أَعِدَّ نفسَك للزواج من ابنتي، فجهز ابنته بما تحتاجه مثيلاتها وقام بجميع تكاليف الوليمة وإعداد بيت الزوجية، وتم الزواج السعيد بين الزوجين، واستغرب الناس هذا الصنيع من هذا الرجل وفي مقدمتهم الزوج الذي لم يَكَدْ يُصَدِّق أن هذا النوع من الناس موجود في المجتمع.
والحقيقة أنه لا يزال المسلمون بخير متى حُرِّكَت فيهم دوافعُ الخير وأقدم أحدهم على فعل الخير مهما كان من عقبات في طريقه، ولكن هذه الأمثلة هي قلة بالنسبة للملايين الذين هم على نقيض ذلك، وإن كنا نستبشر خيرًا بانتشار الوعي ومعرفة الواقع المؤلم الذي مَرَّ به كثير من الشباب ولا يزال يعانيه كثيرون إلى الآن، وفي إحدى البلاد المجاورة اتفق أهلها على أن يجعلوا المهر مائة ريال فقط، فأقبل الشباب على الزواج ولم يَبْقَ أحد من الشباب والشابات دون زوج، فحصل أن تزوج شابان صالحان كل منهما بمهر قدره مائة ريال وعُقِدَ لهما في المسجد وصنع كل منهما وليمة مبسطة وميسرة، وسافر أحدهما مع زوجته إلى المدينة للعمل هناك، والآخر إلى مدينة أخرى، فأرسل أحدهما إلى صاحبه رسالة يخبره عن مدى السعادة التي يعيشها مع زوجته بسبب بركة قلة المهر والتكاليف إلى غير ذلك، وقال: إنني لا أرى أحدًا أسعد مني على وجه الأرض، فعندما قرأ صاحبُه الرسالةَ رَدَّ عليه، إلى أن ذكر عن السعادة فقال: لا ترى أحدًا أسعد منك إلا أنا، أي: أنه هو الآخر يحس بسعادة غامرة بسبب قلة المهر وتكاليف الزواج، وهذا الواقع يصدقه حديث رسول الله الذي قال فيه: ((أعظم النكاح بركة أيسره مئونة)) ، فكلما قلت التكاليف والديون عن ظهر الزوج حلت البركة وظهر أثرها على الزوجين؛ لأن المغالاة في ذلك تنعكس على الحياة الزوجية، فعندما يكون الزوج مُثْقَلاً بالديون يكون أسيرًا لدائنيه ويحمل هَمَّ الدين، وعند أقل شجار مع زوجته يُعَيِّرُها ويَسُبُّها بأنَّ أهلها لم يرحموه في دفع مهرها والطلبات الأخرى، وعندما يريد أن يُوَسِّعَ عليها في النفقة لا يستطيع ذلك لأن تكاليف الزواج أثقلت كاهله حيث تمر السنوات الطوال وتتعدى عشر سنوات وهو لا يزال يسدد الديون، فهو على كل حال على حساب الزوجة سواءً قَلَّ أو كَثُرَ، وهي التي سوف تَصْلَى جحيمه وناره عند ارتفاعه أو تحيا حياة كريمة مع قلته.
هذا بالنسبة للغالبية العظمى في المجتمع، علمًا بأن المهر في الشرع هو للزوجة وليس كما يتصوره ويفعله بعض الناس من تقسيم مهر الزوجة على الأقارب من الرجال وما يسمونه بكسوة النساء وتفريقه بينهن، حتى أصبحت أي امرأة تُزَوَّجُ تؤخذ عليها ضريبة بهذا الفعل، وهذا لا يحلّ بل يجب التنبه له، وبعضهم يقوم بتأثيث بيت الزوجية من المهر المفروض للزوجة، وهذا أمر مخالف أيضًا للمشروع في الإسلام، فالمهر أصلاً هو للزوجة تتصرَّف فيه في المباح كيف تشاء.
فيا أيها المسلمون، علينا أن نقابل المغالاة في المهور وغيرها من نفقات الزواج بالقوة والعزيمة الصادقة وحب الخير والتصميم على الوصول إلى الغاية المطلوبة ونقضي عليها بالتدريج ونضرب الأمثلة في ذلك ليقتدي بنا غيرنا وليتزوج الشباب والشابات ويحيوا حياة سعيدة بعد تسهيل أسباب الزواج وعدم وضع العراقيل والعقبات في طريقهم، وعلينا أن نبحث لبناتنا عن الأكفاء من الرجال؛ لأن صاحب الدين والخلق والرجولة والشهامة يُشْتَرى بالمال ولا يُنْتَظر منه دفع المال خاصة في هذا الزمن الذي نعيشه، وما بعده أشرّ منه، ولا نشجع المائعين والمنحلين من أشباه الرجال ولا رجال، الذين ما إن يتزوج أحدهم حتى يسافر بزوجته إلى بلاد الكفر لِيَخْلَعَا هناك جلباب الحياء ويَكْفُرَ هُوَ ويجحد نعمةَ الله التي أنعم عليه بهذا الزواج، ويهتك عرض هذه المرأة المسكينة ويجردها من كل فضيلة، وغالب هؤلاء النسوة راضيات بتلك الأفعال، وعليه فَهُنَّ مُشْتَرِكَات في الإثم، فعلينا أن نجعل شراء الرجال بأموالنا نصب أعيننا لا أن يشتروا بناتنا ويرموا بهن بعد أشهر قلائل، وعلينا امتثال حديث رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور: 32-34].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمن معوقات الزواج الإسراف والتبذير في وليمة الْعُرْسِ، وهذه سيئة تضاف إلى سيئة المغالاة في المهور والنفقات الأخرى التي تثقل كاهل الزوج وتنفّر الشباب عن الزواج وطلب الحلال؛ لأن كل شيء إذا جاوز حده ينقلب إلى ضده لا محالة.
وعلينا أن نتساءل: من المستفيدون من هذه الأموال التي تذهب هدرًا وتضاع سدى وتسدّ طريق المسلمين إلى الزواج الذي هو من ضرورياتهم ومن صلاح دينهم ودنياهم وحصول الأمن والاستقرار؟ ومن الذين يخسرون هذه الأموال وتقع عليهم المشاكلُ والتَّبِعَاتُ؟ إن الذين تقع عليهم التبعات وتثقل الديونُ كَوَاهِلَهم الأزواجُ الذين يحيون ويعيشون عيشة الْبُؤْسِ والفقر والتَّعَاسَة نتيجة الإسراف والتبذير، وأما المستفيدون فإنهم أصحاب الدكاكين والمعارض والسلع الأخرى والفنادق وما أشبه ذلك، وقد تذهب كثير من هذه الأموال إلى الخارج للأماكن المستورد منها تلك البضائع والصناعات، وأما بقية الأقارب ومن حضر الولائمَ فهم الْمُتَفَرِّجُونَ عن قُرْبٍ وعن بُعْدٍ ولا يهمّهم ما وقع على صاحبهم المتورط في تلك الديون وتلك الزوجة المسكينة التي وقعت عليها المصيبة هي وزوجها.
عباد الله: لقد أُحِيطَتْ نعمةُ الزواج بالإسراف البالغ نهايته في الولائم من أهل الزوجة والزوج مشتركين أو منفردين، حيث يدعون جمعًا كبيرًا من الناس يحضر منهم من يحضر ويتخلف من يتخلف، ويحصل فيها من السمعة والرياء والمفاخرة ما الله بها عليم، ولو وقف على أحدهم فقير لما تصدّق عليه بمائة ريال، ولكنه ينفق عشرات الألوف مفاخرة وسمعة ورياء، وبِئْسَ الطعام طعام الوليمة؛ يُدْعَى إليها الأغنياءُ ويُتْرَكُ الفقراءُ أو قد يُرَدُّونَ ويُبْعَدُونَ عنها، ولا يعلمون أنهم يُعَرِّضُونَ أنفسَهم لكراهة الله لهم، وأنهم أصبحوا إخوان الشياطين، وأنهم بذلك عَدَلُوا عن طريق عباد الرحمن الذي هو الطريق الوسط في الإنفاق، قال تعالى: وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ?لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]، وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67].
إن هذا الإسراف كما أنه محظور شرعًا فهو ممقوت عادةً، فإن الناس يلومون من يسرف ويتصرف ذلك التصرف، وينظرون إليه النظرة إلى الساخر الناقص الذي يحاول تغطية وإكمال نقصه بمثل هذه الولائم التي تجاوزت الحد. إن الإسراف سفه في العقول لما فيه من إتلاف المال وإضاعة الوقت وشغل البال وإتعاب الأبدان وامتهان النعمة، حيث نرى ونسمع كثيرًا عن هذه النعم المتنوعة من الأطعمة والأشربة واللحوم التي تبقى ولا يأكلها أحد وتلقى في الزبالات والطرق، والمتورع من الناس من يحملها إلى الْبَرِّ ويرمي بها هناك في الفضاء، فهل هذا من الرشد أم هو من السَّفَه؟! وهل هذا من شكر النعمة؟! وهل تفكر أحد فيما كان عليه الآباء والأجداد؟! وهل تفكر من لم يَعِشْ ويحيا حياة الفقر هل تفكر وتدبر حال الأمم والشعوب التي يراها أو يسمع أو يقرأ عنها كل يوم في وسائل الإعلام المختلفة؟! وهل أَمِنَّا مَكْرَ الله؟! وهل لدينا ضمان بدوام هذه النعم مع كفرانها؟! لا والله، لئن لم نشكر النعمة لَيَحِلّ بنا ما حَلَّ بغيرنا من الأمم السابقة والحاضرة، سُنَّةَ ?للَّهِ فِى ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 62]، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، وقال عن سبأ وما كانوا فيه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَ?شْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ?لْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـ?هُمْ بِجَنَّـ?تِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـ?هُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ?لْكَفُورَ [سبأ: 15-17]، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53].
ومما يُثْقِلُ كاهلَ الزوجِ ويُعِيقُ الزواجَ اشتراطُ أهلِ الزوجةِ تأثيثًا معينًا لبيت الزوجة أو غرفة النوم وأحيانًا نوع السيارة أو إقامة الحفلة في فندق أو قصر معين أو إحضار المطربين والمطربات وأنواع رقاع الدعوة المسماة بالكروت التي تصل إلى آلاف الريالات وإدخال بعض السفهاء لمن يلتقط صورًا للزوجين وقد يحصل حتى للنساء الحاضرات، وتسجيل أصواتهن في الأشرطة وتداولها وسماعها وانتشارها بين قليلي المروءات، وهذا تدهور وانحدار إلى الهاوية، وهذه الأخيرة أمور منكرة يجب على كل مسلم أن يسعى لإزالتها بما يستطيع، ومتى أدرك كل منا دوره وقام بالواجب عليه صلح المجتمع بإذن الله، ومتى تهاونّا فسوف تكون العواقب السيئة التي لا تحمد عقباها.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة أعظم من ذلك وهو الإرسال المباشر من الهواتف المحمولة إلى هواتف أخرى أو شبكة المعلومات أو الفضائيات، إرسال ما يدور في قاعات وصالات الأفراح النسائية من رقص وغناء بالصوت، وقد يكون النقل مع الصورة غالبًا خاصة لِلْمُرْسِلَةِ التي قَلَّ حياؤُها وقامت بهذا الفعل الْمَشِين.
أعود لأقول بأن الذي سبق ذكره قبل هذا التذكير الأخير إنما هو موجز للعقبات والتكاليف الباهظة التي أَسَرَ بها كثير من المسلمين أنفسهم ووضعوا بها الأغلال والقيود في أعناقهم وأيديهم وأرجلهم حتى صاروا لا يستطيعون الفكاك منها، بل تزداد أحوال كثير منهم سوءًا يومًا بعد يوم، فهل يفيق المسلمون من غفلتهم؟ وهل يرجعون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ويدركون الحكمة من وراء النكاح؟ وهل يتركون المفاخرة والمظاهر الكاذبة والإسراف في الولائم ويحافظون على النعم؟ وهل يكتفون ويرضون بالاقتصاد والاختصار في التكاليف القليلة التي ترجع على الزوجين بالخير والبركة؟ وهل يكتفون بالاقتصار على أقرباء الزوجين ويختصرون في طعام الوليمة؟ هل يقتصدون في أمورهم كلها؟ إنا لنرجو أن يسلكوا طريق عباد الرحمن في الاقتصاد وعدم الإسراف عمومًا، وفي الزواج خصوصًا، ابتداءً بالْخِطْبَةِ التي هي عقبة أيضًا لدى كثير من الناس ولها خُطْبة مستقلة نظرًا لأهمية ذلك الآن، وما يلحق بالخِطبة من مهر وغيره، ومرورًا بوليمة العرس وما يتبعها، وانتهاءً ببيت الزوجية الذي أنهك قوى كثير من الأزواج من حيث الإعداد والنفقات والذي هو مقر ومكان الخصام أو الوئام، إما أنْ يُؤَسَّسَ على البر والتقوى أو على العكس، وعندها يعرف كل منهما ما كسبت يداه وما قدم في أيام خلت هي البداية للطريق الطويل أو القصير، إما أن يُدْخَلَ السجن أو يعيش سنوات طوالاً أسير الهمّ بالليل والْمَذَلَّة بالنهار لأصحاب الدَّيْنِ حتى يُوفِيَهُمْ حقوقَهم أو يماطلهم.
ويُوجَدُ بَوَادِرُ طيبةٌ في بعض الأماكن نسأل الله أن يتمها بخير ويعم بنفعها مجتمعات المسلمين، تلك البدايات المتمثلة في الحد من الإسراف والتكاليف الباهظة في الزواج، ومنها الزواج الجماعي لعشرات العرسان في ليلة واحدة، ولكنها محصورة في بعض القرى والقبائل وفي المدن أيضًا، أما الغالبية العظمى فهي على العكس من ذلك، وأما من ناحية المبادرات الخيرية المنتشرة في بعض المدن والتي تُعْنَى بتيسير الزواج فهي بداية الحلول للمشاكل والعقبات التي أشغلت وأَهَمَّتْ معظم الناس، والحلول كثيرة وميسورة في الوقت نفسه لو وَحَّدْنَا الْجُهْدَ والوقتَ والمالَ، وأما إذا بقيت الجهود مبعثرة وتعددت الاتجاهات والمؤسسات فإن خيرها ونفعها محدود ومجالها مقصور على فئات معلومة تبعًا لتصورات القائمين عليها في كل مدينة ومنطقة، وفكرة إنشائها وعملها فكرة طيبة وخَيِّرَةٌ، ولكن تلك المساعدات زهيدة جدًا سواء ما كان منها على سبيل القرض أو الهبة التي هي أساسًا من الزكاة، تلك الزكاة التي لا بد أن تُدْفَعَ لمن هو غير مستطيع للزواج من ماله لا بد أن تؤدّى في الوقت المناسب غير متأخرة لعدة سنوات، وعلى العكس من ذلك وُجِدَ من دُفِعَتْ لهم لانتظارهم أكثر من عشر سنوات ضمن قائمة الانتظار بعد أن تزوج الزوجان وأنجبا أولادًا وصل الأكبر منهم المرحلة المتوسطة، فهذا غالبًا قد أغناه الله بالوظيفة والعمل والكسب خلال السنوات، فاستحقاقه السابق في ذلك الوقت ليس معناه أن يأخذه الآن زكاة مدفوعة في هذه السنة، وهذا أمر ليس بالْهَيِّنِ، ولا يجوز السكوت عليه لأنه من الزكاة، أما لو كان قرضًا أو هبة فهذا أمر مختلف تمامًا، فليتنبه المسلمون لذلك ويقفوا عند شرع الله وأوامره ونواهيه، وكما أشرت فإن الحلول المتمثلة في صناديق الإقراض العامة البعيدة عن الربا والشبهات المبنية على مصادر التكافل الاجتماعي لعامة الشباب في جميع أنحاء المملكة هي الحل الأمثل لواقع الناس اليوم، ولعلنا نستعرضها بعد الخطب عن الربا والدَّيْن إن شاء الله تعالى.
أما الواجب على شباب المسلمين فهو امتثال أمر الله وأمر رسوله عند عدم الاستطاعة على تكاليف الزواج بالاستعفاف حتى يغنيهم الله من فضله ويجدوا الحلول الطيبة المباركة لهم ولأمثالهم من المسلمين، ففي الآية الكريمة والحديث الشريف التالي ذكرهما الحل الإلهي والدواء الشافي بإذن الله عز وجل، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور: 33]، وقال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أَغَضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاءٌ)) ، وِ جاء أي: وقاية وحصانة بإذن الله من الوقوع في الحرام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه الأطهار...
(1/5611)
المرأة بين صيانة الإسلام وعبث اللئام
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
المرأة, محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
21/6/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة المرأة في الإسلام. 2- النساء شقائق الرجال. 3- فضل المرأة الصالحة. 4- رعاية الإسلام للمرأة في جميع مراحل حياتها. 5- حقوق المرأة في الإسلام. 6- دعوات أعداء الإسلام في شؤون المرأة. 7- عمل المرأة في ظل الإسلام. 8- تحذير الإسلام من التبرج والسفور والاختلاط.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، لم تعرف البشريةُ دينًا ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، جعلها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها في الإسلام الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقاَ من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال : ((إنما النساء شقائق الرجال)) [1].
المرأةُ في تعاليم الإسلام كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وفيما يترثّب عليها من جزاءات وعقوبات، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء: 124].
هي كالرجل في حمل الأمانة في مجال الشؤون كلها إلا ما [اقتضت] الضرورةُ البشرية والطبيعة الجِبليّة التفريقَ فيه، وهذا هو مقتضى مبدأ التكريم في الإسلام لبني الإنسان، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70].
إخوةَ الإسلام، لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، ورفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها، يقول المولى جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـ?ثًا [الشورى: 49،50]، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة)) [2].
المرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، ومُرورًا بكل حال من أحوال حياتها.
رعى حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي كتاب مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضمّ أصابعه [3] ، وفي مسلم أيضًا أن النبي قال: ((من كان له ثلاث نبات وصبر عليهن وكساهن من جدته كُن له حجابا من النار)) [4].
رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء: 23]. بل جعل [حقَّ] الأمّ في البرّ آكدَ من حقِّ الوالد، جاء رجل إلى نبينا فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: ((أمّك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه [5].
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقًا عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم)) متفق عليه [6] ، وفي حديث آخر أنه قال: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خياركم لنسائه)) [7].
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا وعمَّةً وخالةً، فعند الترمذي وأبي داود: ((ولا يكون لأحد ثلاثُ بنات أو أخوات فيُحسن إليهن إلا دخل الجنة)) [8].
وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتُر، أو كالصائم الذي لا يفطِر)) [9].
معاشرَ المسلمين، المكانةُ الاجتماعية للمرأة في الإسلام محفوظةٌ مرموقة، منحها الحقوقَ والدفاعَ عنها والمطالبةَ برفع ما قد يقع عليها من حرمان أو إهمال، يقول : ((إن لصاحب الحق مقالاً)) [10].
أعطاها حقَّ الاختيار في حياتها والتصرّف في شؤونها وفقَ الضوابط الشرعية والمصالح المرعية، قال جل وعلا: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [النساء: 19]، وقال : ((لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا البكر حتى تستأذَن في نفسها)) [11].
المرأةُ في نظر الإسلام أهلٌ للثقة ومحلٌّ للاستشارة، فهذا رسول الله أكملُ الناس علما وأتمُّهم رأيًا يشاور نساءَه ويستشيرهن في مناسبات شتى ومسائل عظمى.
إخوةَ الإسلام، في الإسلام للمرأة حريةٌ تامة في مناحي الاقتصاد كالرجل سواءً بسواء، هي أهلٌ للتكسُّب بأشكاله المشروعة وطرقه المباحة، تتمتّع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصايةَ لأحدٍ عليها مهما كان وأينما كان، وَ?بْتَلُواْ ?لْيَتَـ?مَى? حَتَّى? إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْدًا فَ?دْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْو?لَهُمْ [النساء: 6].
بل إن الإسلامَ يفرض للمرأة من حيث هي ما يسمَّى بمبدأ الأمن الاقتصادي مما لم يسبق له مثيلٌ ولا يجاريه بديل حينما كفل للمرأة النفقةَ أمًّا أو بنتًا أو أختًا أو زوجةً وحتى أجنبية، لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغةُ البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسُّب.
معاشر المؤمنين، هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك [غيْضٌ من فيض] وقبضةٌ من بحر.
أيها المسلمون، إن أعداءَ الإسلام تُقلقهم تلك التوجيهاتُ السامية، وتقضّ مضاجعهم هذه التعليمات الهادفة، لذا فهُم بأنفسهم وبمن انجرّ خلفهم في حديث لا يكلّ عن المرأة وشؤونها وحقّها وحقوقها، كما يتصوّرون وكما يزعمون، مما يحمل بلاءً تختلف الفضائل في ضجَّته، وتذوب الأخلاق في أزِمّته، دعواتٌ تهدف لتحرير المسلمة من دينها والمروق من إسلامها، مبادئُ تصادم الفِطرةَ وتنابذ القيمَ الإيمانية. دعواتٌ من أولئك تنبثق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة وحضاراتٍ منتنة، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة. وللأسف تجد من أبناء المسلمين من في فكره عِوَجٌ وفي نظره خلل ينادي بأعلى صوتٍ بتلك الدعوات، ويتحمّس لتلك الأفكار المضلِّلة والتوجُّهات المنحرفة، بل ويلهج سعيًا لتحقيقها وتفعيلها. لذا تجد أقلامَهم تُفرز مقتًا للأصيل من أصولهم والمجيد من تراثهم.
إخوة الإسلام، لقد عرف أعداءُ الإسلام ما يحمله هذا الدين للمرأة من سموّ كرامةٍ وعظيم صيانة، علموا في مقرراته المأصَّلة أن الأصلَ قرارُ المرأة في مملكة منزلها، في ظل سكينة وطمأنينة، ومحيط بيوتٍ مستقرةٍ، وجوِّ أسرة حانية. رأوا حقوقَ المرأة مقرونةً بمسؤوليتها في رعاية الأسرة، وخروجها في الإسلام من منزلها يؤخَذ ويمارَس من خلال الحشمة والأدب، ويُحاط بسياج الإيمان والكرامة وصيانة العرض، كما قال تعالى: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب: 33]، وكما قال : ((وبيوتهن خير لهن)) [12]. حينذاك ضاقوا من ذلك ذرعًا، فراحوا بكلِّ وسيلة وسعوا بكل طريقة ليخرجوا المرأةَ من بيتها وقرارِها المكين وظلِّها الأمين، لتطلق لنفسها حينئذ العنانَ لكل شاردةٍ وواردة، ولهثوا لهثًا حثيثًا ليحرّروها من تعاليم دينها وقيم أخلاقها، تارةً باسم تحرير المرأة، وتارةً باسم الحرية والمساواة، وتارةً باسم الرقي والتقدم الكاذب. مصطلحاتٌ ظاهرها الرحمة والخير، وباطنُها شرٌّ يُبنى على قلبِ القيم، وعكس المفاهيم، والانعتاق من كل الضوابط والقيم والمسؤوليات الأسَرِية والحقوقِ الاجتماعية، وبالتالي تُقام امرأةٌ تؤول إلى سلعةٍ تُدار في أسواق الملذَّات والشهوات.
فالمرأةُ في نظر هؤلاء هي المتحرِّرةُ من شؤون منزلها وتربية أولادها، هي الراكضةُ اللاهثة في هموم العيش والكسب ونصب العمل ولفْت الأنظار وإعجاب الآخرين، ولو كان ذلك على حساب تدمير الفضيلة والأخلاق, وتدمير الأسرة والقيم، فلا هي حينئذ بطاعة ربٍّ ملتزمةٌ، ولا بحقوق زوجٍ وافية، ولا في إقامة مجتمع فاضلٍ مُسهِمة، ولا بتربية نشءٍ قائمةٌ.
إخوةَ الإسلام، تلك نظراتُهم تصبُّ في بواثِق الانطلاق التامِّ والتحرُّر الكامل، الذي يُغرق الإنسانَ في الضياع والرذيلة وفقدان القيمة والهدف والغاية. أما في الإسلام فالمرأة أهمُّ عناصر المجتمع، الأصلُ أن تكون مربِّيةً للأجيال، مصنعًا للأبطال، ومع هذا فالإسلام ـ وهو الذي يجعل للعمل الخيِّر منزلةً عظمى ومكانةً كبرى ـ لا تأبى تعاليمُه عملاً للمرأة في محيط ما تزكو به النفس، وتُقوَّم به الأخلاق، وتحفظ به المرأة كرامتَها وحياءها وعفَّتها، وتصون به دينها وبدنَها وعرضها وقلبَها، وذلك من خلال ما يناسب فطرتَها ورسالتَها، وطبيعتَها ومواهبَها، وميولها وقدراتِها. ومن هذا المنطلق فالإسلام حينئذ يمنع المرأة وبكلِّ حزم من كلِّ عمل ينافي الدين، ويضادُّ الخلقَ القويم، فيشرط في عملها أن تكون محتشمةً وقورة، بعيدةً عن مظانِّ الفتنة، غيرَ مختلطة بالرجال، ولا متعرّضةٍ للسفور والفجور. ولئن أردنا حقيقةَ الواقع الذي يخالف ذلك المنهج الإسلامي فاسمع ـ يا رعاك الله ـ لأحد كُتَّاب الغرب وهو يقول: "إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجتَه كانت هادمةً لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكلَ المنزل، وقوَّض أركانَ الأسرة، ومزَّق الروابط الاجتماعية"، وتقول أخرى وهي دكتورةٌ تحكي أزماتِ مجتمعها، تقول: "إن سبب الأزماتِ العائلية وسرَّ كثرةِ الجرائم في المجتمع هو أن الزوجةَ تركت بيتَها لتضاعفَ دخلَ الأسرة، فزاد الدخلُ وانخفض مستوى الأخلاق"، إلى أن قالت: "والتجاربُ أثبتت أن عودةَ المرأة إلى المنزل هو الطريقةُ الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي [هو] فيه" انتهى.
فيا أيها المسلمون، الحرصَ الحرصَ على تعاليم هذا الدين، والحذرَ الحذر من مزالق الأعداء الحاقدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/256)، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وابن الجارود في المنتقى (91) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح الترمذي (98)، وانظر السلسلة الصحيحة (2863).
[2] أخرجه أحمد (1/223)، وكذا ابن أبي شيبة في المصنف (5/221)، وأبو داود في الأدب (5146)، والبيهقي في الشعب (8699) من طريق ابن حدير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (7348)، وابن حدير لا يعرف كما في الميزان الاعتدال (7/449)، وقال الحافظ في التقريب: "مستور لا يعرف اسمه"، والحديث في ضعيف أبي داود (1104).
[3] أخرجه مسلم في البر (2631).
[4] هذا الحديث أخرجه أحمد (4/154)، والبخاري في الأدب المفرد (76)، وابن ماجه في الأدب (3669)، وأبو يعلى في مسنده (1764)، والطبراني في الكبير (17/299)، والبيهقي في الشعب (8688) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصحح إسناده البوصيري في الزوائد، والألباني في السلسلة الصحيحة (294).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5971)، ومسلم في البر (2548) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ((فإنهن عوان عندكم)) ، وإنما هي عند الترمذي في الرضاع (1163)، وابن ماجه في النكاح (1851) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قوله: ((عوان عندكم)) يعني: أسرى في أيديكم"، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (929).
[7] أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في السنة (4682) مختصرا، والترمذي في الرضاع (1162)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (2)، وهو في السلسلة الصحيحة (284).
[8] أخرجه أبو داود في الأدب (5147)، والترمذي في البر (1912) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/42)، والبخاري في الأدب المفرد (79)، وصححه ابن حبان (446)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب (59).
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6007)، ومسلم في الزهد (2982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الهبة (2609)، ومسلم في المساقاة (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في النكاح (5136)، ومسلم في النكاح (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه عندهما قوله: ((في نفسها)).
[12] أخرجه أحمد (2/76)، وأبو داود في الصلاة (567) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، وهو في صحيح أبي داود (530).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله سيّد الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقاه وقاه، وأسعده وما أشقاه.
إخوة الإسلام، من أوجُه عناية الإسلام بالمجتمع حرصُه على منع الاختلاط بين الرجال والنساء في أيِّ مجال وفي أيِّ شأن، ذلكم أنه وباءٌ خطير، ما أصيبَ به مجتمع إلا ودبَّت فيه كلُّ بليَّة وعمَّ فيه الشرُّ والفساد، فما من جريمة نُهِش فيها العرض وذُبح العفافُ وأُهدِر الشرف إلا وكانت الخيوطُ الأولى التي نُسجت فيها هذه الجريمة، وسهَّلت سبيلها هي ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة في العلاقة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة يدخل الشيطان ويقع الفساد.
ولنستمع لمقالة إحدى النساء التي عاشت في مجتمع الاختلاط، وهي تحكي تجرباتِ بنات جنسها في مقال أسمته "امنعوا الاختلاط" قالت: "إن المجتمعَ العربيَّ كاملٌ وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسَّك بتعاليمه وتقاليده التي تقيِّد الفتاةَ والشابَّ في حدود المعقول"، إلى أن قالت: "لهذا أنصح بأن تتمسَّكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيِّدوا حريةَ الفتاة، بل ارجعوا إلى أصل الحجاب، فهو خيرٌ لكم من الإباحة والانطلاق والفجور" انتهى.
ألا فليتقِ اللهَ أهلُ الإسلام في مواليهم، وليحسِبوا خطواتِ السير في حياتهم، وليحفظوا ما استرعاهم الله عليهم من رعاياهم، والحذر الحذر من التفريط والاستجابة لفتنة الاستدراج إلى مدارج الغواية والضلالة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عًا فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53].
ثم إن الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5612)
المسلمون بين التميّز والتميّع
الأسرة والمجتمع, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
8/2/1429
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قوة المسلم. 2- أهمية اتباع النبي. 3- خطورة البدع والمحدثات. 4- ضرورة مراجعة الأوضاع. 5- تأثير الإعلام الغربي على المسلمين. 6- حرمة مشاركة الكافرين في أعيادهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنّ الوَصيّة المبذولةَ لنا ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوَى الله سبحانَه وخشيتُه في الغيبِ والشهادة، ولزومُ هديِ نبيّه ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثةٍ بِدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة.
أيّها النّاس، إنَّ قوَّةَ المسلِم ورِفعتَه وعُلوَّ شأنه لتَكمُنُ بِوضوحٍ في مدَى اعتزازِه بدينِه وتمسُّكِه بعَقيدَتِه وأخلاقِه ومَبَادِئه، وبُعدِه عن لوثةِ التَّقليد الأعمَى والتَّبعيةِ المقيتَة وراءَ المجهول. وإنَّ علَى رأسِ الاعتزاز والرّفعةِ التي هِي مطلَب مَنشودٌ لكلّ فردٍ مسلمٍ ـ بَلهَ المجتمعات المسلِمة طُرًّا ـ هو الاتباعَ والاقتداءَ لهديِ النبيّ والبُعدَ عن الإحداثِ والابتِداع، اتِّباعًا مِلؤه التأسِّي المخلِص والمحبّةُ الدّاعَّةُ إليه، اتِّباعًا يُشعِر كلَّ مسلِم ومُسلمةٍ أنَّ الخضوعَ في الدِّين والخُلُق الأدبَ إنما هو لله الواحِدِ الأحَد؛ إذ كيف يحلُو دين لا خضوعَ فيه ولاَ اتباع؟! ومن هذا المنطلق جاءَت الوصيّة الكبرَى منَ الخالقِ جلّ شأنه لعبادِه المؤمنين بِقولِه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]، فكلُّ سبيلٍ غير صِراطِ الله عليه شيطانٌ يَدعو إِليه، فيحبِّب سالِكيه إلى البِدعةِ، ويُبعِدهم عن السنّة، وهي مرحلة من مراحلِ المراغَمةِ بين الشيطان وبني آدَم، وغوايةُ الشَّيطان وحبائلُه كالكلاليبِ التي تتَخطَّف السَّالكين إلى مُستَنقَعَاتِ الدُّون والعَطَب؛ ليقع فيها المرتابُ المتردّد الذي خَلِي وِفاضُه عن أسُس الاتّباع والتمسّك بالسنَّة النبوية، فإمّا أَن يكونَ ضَحيّةَ النكوصِ والاستهتارِ لأوّلِ وهلةٍ، أو أن يصبح كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 71].
أيّها المسلِمون، لقَد كانَ مِن أسُسِ محبَّة الله جلَّ وعلا مِن قِبَل عبادِه أن يجعَلوا من وسائِل هذهِ المحبّة الاتباعَ الصادقَ لنبيِّه ؛ ليَحسنَ القصدُ ويصدُق الزّعم، كما قَال تَعَالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 31، 32].
ولِذا ـ عبادَ الله ـ كانَت البِدَع والمحدثاتُ التي تقَع في المجتَمَعاتِ كالطّوفان المغرِق، بَيدَ أن السنّةَ الصّحيحة والاتِّباعَ الصادِق هما سَفينةُ نوحٍ التي من رَكِبَها فقد نجا ومَن ترَكَها غَرق، ولا عاصمَ مِن أمر الله إلا من رَحِم.
في الصحيحَين من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله قال: ((مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا مَا لَيسَ منه فهوَ ردٌّ)) ، وفي روايةٍ لمسلم: ((كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردّ)).
فهَذا الحديث ـ عبادَ الله ـ أصلٌ عظيم جامِعٌ من أصولِ الإسلام، وهو كالميزانِ للأعمال في ظاهِرِها، فكلُّ عملٍ لا يكونُ عَلَيه أمرُ الله وأمرُ رسوله فليس مِنَ الدّين في شيءٍ. قال النَّوويّ رحمه الله: "هذا الحديث مما ينبغِي حفظُه واستعمالُه في إبطالِ المنكرات وإشاعةُ الاستدلالِ به كذلك".
إنَّ الناظرَ في أَحوالِ المسلِمين ومبادِئِهم ليَحكُم حُكمًا لا رَيبَ فيه ولا فُتونَ بأنَّ أهل الإسلام لا بدَّ أن يراجِعوا أوضاعَهم ليصحّحوها، وأنّ عليهم أن يَكونوا أمّةً مَتبوعة لا تابِعَة، أمّةً لها ثِقلُها الثقافيّ والأخلاقيّ، أمّة لها مَصدَرها ووِردُها الخاصّ الذي لا يساويه وِرد ولا مصدَر في الوجودِ، أمّةً تَسبِق جميعَ الثقافات والحَضارات بما لدَيها من مقوِّمات الاعتِزاز والرّفعة والغلبة، وبالأخصِّ على المستوَى العقديّ والأخلاقيّ.
ولقَد جَرَت عادَةُ الأمم والمجتمعات أن تَأنَفَ من الخضوعِ لمن يُبايِنها في الأخلاقِ والعادات والمشارب وإن لم يكلِّفها من يمارِسُ الإِخضَاعَ بِزِيادةٍ عمّا تَدين به، بل إنها تَستَنكِره حتى تنأى عنه وتَبتَعِد، وكلّما ابتَعَدت عَنه كلّما اقتَرَبَت آدابُ ذوِيها وأخلاقُهم مِن بَعض، فلم يعُد للعوائدِ الأجنبيّة عنهم وِردٌ ولا صَدر، ولا تَلتَفِت إليها هِمم النّاس.
غيرَ أنّ الهيجَانَ الإعلاميّ العارِم المتسلِّلَ لِواذًا بين المسلِمين قَد سارَق خَواطرَ كثيرين منهم وأخذ بألبابهم وحَدّق بأبصَارِهم؛ حتى صارَ لَه من الوقعِ والتأثير في طَرقِه ما لا يمكِن أن يَكونَ من خِلال مطارِقِ البأسِ والقوّة، بل إنَّ مِن المؤسِفِ جدًّا أن تتمَكّن هذه الثورةُ الإعلاميّة والتَّصارُع الحضاريّ والثقافيّ المكشوفُ من إحداث تمازجٍ تَسبّب في أخذِ الرَّعاع واللَّهازم من أمّة الإسلامِ بأيديهم عاصِبين أعينَهم إلى ما لم يَكن من أصولِ دينهم وعوائدِهم، ولا هو من مُرتَكزَاتِه، فمَحَوا بذلك الفَوارقَ بين المسلمين وغيرِ المسلمين، وأنّ لِلمسلمين من التشريعِ والاعتِقَاد والاتّباع ما ليسَ لغَيرهم، فاختلَط الحابِلُ بالنابلِ، وعظُم التأثّر بالثقافة الإعلامية المستورَدَة، وصارَ البَعضُ مِن المسلِمين منهومِين في تلقّي كلِّ جديدٍ وغَريبٍ دونَ فرزٍ ولا إدراكٍ للكُنه وما يحمِل في طيّاته من مسخٍ وإضعافٍ للانتماء.
فيَا لله العَجَب! أيُّ صدمةٍ هَذِهِ التي تحلّ بِكُلّ غَيور على بني ملَّته، يرى في أضعافِها التراجُعَ في الاعتِزاز والامتياز أمامَ الغارَةِ الأجنبيّة الكاسِحَة، ويرَى المُسَارقة الحثيثة المثمِرةَ حِجابًا كثيفًا يُفقِد بعضَ المسلمين هويّتَهم وتميّزَهم الخلقي والعقديّ، كلُّ ذلك إبّانَ انحِسارٍ في التَّوعيةِ أورَثَ إرسالَ الحبالِ على الغوارب؛ ليحلّ ببعضِ المجتمَعات ما ذَكَرَه المصطفى بقولِه: ((لتركَبنّ سَننَ من كان قَبلَكم حَذوَ القذّة بالقذّة، حتى لَو دَخَلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه)) ، قالوا: يا رسولَ الله، اليَهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) رواه البخاريّ ومسلم، وليصدُقَ فيهِم مَا ذكَره ابنُ مسعودٍ رضي الله تعالى عنه حينَ قال: (أنتُم أَشبَه الأمَمِ ببني إسرائيل سمتًا وهَديًا، تتَّبِعون عمَلَهم حَذوَ القذّة بالقذّة، غير أني لا أدري أتعبُدُون العجلَ أم لا).
ومَع ذلك كلِّه ـ عبادَ الله ـ فإنَّ لدى الناس من الفطرةِ والنَّشأة المتينة والتَّأصيلِ ما يمكن من خِلاله يَقَظةُ الوسنانين وإِذكاءُ مبدأ تدافع العَوائِد والعقائِد، والغلبةُ للحقيقةِ التي لا تنقَطع بالمرّة، وإن خفَتَ توهُّجُها حينًا بعد آخر إلاَّ أنّنا نرى وميضَ برقها يلوحُ في أفئدةِ الغيورين من بني الإسلام وسطَ تلك الغيايَات العارِضَة كلّما لاح في الأفقِ الوَجه الناصِح والنَّذير العريان؛ حتى يتَّضِح لكل رامقٍ أنّ صِراعَ الثقافات وإن كان قَويَّ الفَتك لأوّل وهلةٍ إلاَّ أنّه سريع العطَب أمامَ المعتزِّ بدينه وهويَّته؛ إذِ الهوية المسلمة قد يعترِيها المرض أحيانًا غيرَ أنها لا تموت قَطعًا، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 18-20].
بَارَكَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم. قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسّلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتَّقوا الله معاشر المسلمين.
واعلَموا أنَّ من الأمور المحزنةِ والقَضَايا المفزِعة انسِياقَ بعضِ المسلمين وراءَ طبائع وعاداتِ ومعتقدات غير المسلِمين، من خلالِ الانخراطِ معَهم في أعيادِهم وعوائِدِهم التي حرَّمها دينُنا الحنيفُ، وحذّرنا أشدَّ التَّحذير من الوقوعِ في أتُّونها.
ومما يزيدُ الأمرَ عِلّةً والطِّينَ بلّة أن نرَى فِئامًا من البُسَطاء ينسَاقون وراءَ ذلكم، فيُحاكون مُواقعِيها زاعمين أنَّ في ذلك نوعًا من المجاراة الإيجابيّة والتَّلاقح في العَاداتِ والثقافات، فصالَ كثيرون وجَالوا في ذلِكم، حتى أصبح المرءُ يعرِف منهم ويُنكر.
وعلى رأسِ ما يُنكره المرءُ العاقل هو التأثّر والتَّأثير في أعيادِ غيرِ المسلِمين واستسهالُ مثل ذلك الأمرِ بحجّة أنَّ الانفتَاحَ العالميَّ لم يضَع بين الناسِ فوارقَ وخصائصَ، وأنَّ الاشتراكَ في الأعيادِ والمناسَباتِ العقديّة لا ينبغي أن تقفَ دونَه المِلَل، وهذا أمرٌ جِدُّ خطير.
وإِن شِئتم فانظُروا ـ يا رَعَاكم الله ـ ما وقَع من التأثير فيما يُسمّى: "عيد الحبّ" أو "عيد الأمّ" أو ما شاكَل ذلكم بين صفوفِ المسلمين دونَ أن يعلَموا حقائقها وما تتضَمّنُه في طيّاتها من مخاطرَ على عقيدةِ المسلم وخلُقه، وما يقَع فيه معاقِروها من مخالفةٍ لهَديِ النبيِّ وارتِكابٍ لما نهى عَنه مِن مخالفةِ غير المسلمين.
والمشاهدُ لأصداءِ ما يُسمّى: "عيد الحبّ" ليوقِن حقًّا درجةَ الغَفلَة والسّذاجة التي تنتَاب شبابَ المسلمين وفتياتهم في السِّباقِ المحموم وراءَ العوائدِ الأجنبيَّة عن دينهم، دونَ أن يكلّفوا أَنفسَهم معرفةَ أصولِ تلكم العوائد.
وإنّه ليَزداد الأسفُ حين يغِيب الوعيُ عن كثيرٍ مِن ضحايا ذلكم التغريب بأنَّ أصلَ عيدِ الحبّ عادَةٌ احتفاليّة يرجِع تأريخها في بعضِ الرِّوايات إلى القرنِ الثالثِ الميلاديّ؛ إحياءً لذكرى رجلٍ رُومانيّ كان يُبرِم عقودَ الزواج سِرًّا لجنودِ الحربِ الذين مُنِعوا مِن ذلك لئلاّ ينشغِلوا بالزواج عن الحروب، حتى افتضحَ أمر ذلك الرجل، وحُكم عليه بالإعدام، فجعَلوا يومَ إعدامِه عيدًا وذِكرى يتَهادَون فيه الورودَ ورسائلَ الغَرام، بل تجاوز الأمرُ أبعدَ من ذَلكم، حتى صارَ يومًا للإباحيَّة عندَ بعض غيرِ المسلمين، وهو في الوقتِ الحاضِر يُعَدُّ يومَ عيد للعشّاق والمحبّين، يعبِّرون من خلالهِ باللّون الأحمر في لِباسِهم ووُرودِهم وغير ذلكم. وكأنّهم بهذا اللون يؤصِّلون مبدأ الاستعصاء على الخطوط الحمراء في العلاقة بين الذكر والأنثى أيًّا كانت هذه الخطوط دينيّةً أو خُلُقيّة أو عقديّةً، فالوردة الحمراء إنما هي استعصاء على السياج الضابط للعلاقة بين الذكر والأنثى.
ودينُنا الحنيف دينٌ سماويٌّ ورسالة عَالميّة، لها أثرُها الإيجابيّ في المجتَمَعات، فلم يكُنِ الإسلامُ يومًا ما محلاًّ لحصرِ المحبّةِ في يومٍ واحِد، أو محلاًّ للبرِّ بالأمّ في ليلةٍ، بل إنّه دينُ المحبّة والبرِّ والمودَّة في كلّ حِين وآنٍ وفقَ ما شرعه الله وشرعه رسوله ، فلقد صَحّ عن النبيّ أنه قال: ((والَّذي نفسِي بيدِه، لا تدخُلوا الجنّة حتى تؤمِنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)).
ثم إنَّ للإسلامِ من الخصوصِيّة والامتياز ما لا يجوزُ في مُقابلِه الوقوعُ في خصائصِ غيرِه، فإنَّ النبيَّ لمّا قدِم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هَذان اليومَان؟)) ، قالوا: كنّا نلعبُ فيهما في الجاهليّة، فقال رسول الله : ((إنَّ الله قَد أبدَلَكما خيرًا منهما: يومَ الأضحَى ويومَ الفطر)) رواه أبو داودَ والنسائيّ وأحمد، وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ قال: ((إنّ لكلِّ قوم عيدًا، وهذا عيدُنا)) ، وقد صحَّ عن النبيِّ أنّه قال: ((مَن تشبَّه بقومٍ فهوَ مِنهم)) رواه أحمد وأبو داودَ.
ومِن هنا نَعلَم ـ عبادَ الله ـ أنَّ المشارِكين في مِثلِ هذه الأعياد منَ المسلمين قد وقَعوا فيما نُهوا عنه، ويَكونونَ بذلِكَ قد ارتَكبوا مفسدتين: أولاهما: مَفسدَة موافَقَة غيرِ المسلمين، والثانية: مَفسَدَة ترك مصلحةِ مخالفتهم، والله جلّ وعلا يقول: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ [الرعد: 37].
هَذا، وصَلّوا ـ رَحمَكم الله ـ علَى خَير البريّة وأزكَى البشرية محمّد بنِ عبد الله صاحب الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحةِ بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهز، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/5613)
الغلاء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
ضيف الله بن سفر الغامدي
جدة
جامع أسامة بن زيد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظهور الفساد في البر والبحر. 2- آثار غلاء الأسعار وأضراره. 3- ظاهرة الجشع والطمع. 4- التضخم بلاء. 5- أسباب الغلاء. 6- الحث على الرجوع إلى الله تعالى. 7- كلمة للتجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله، الذنوب تسبِّب هلاك الحرث والنسل، وتسبِّب انتشار الفساد في البر والبحر، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وقال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، والله تعالى يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم، وقال : ((يا معشر المهاجرين، خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) رواه البيهقي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع (7978). فهل نظر الناس لهذا الحديث العظيم الذي أوضح فيه النبي أثر هذه الذنوب العظيمة التي تعود على أمة الإسلام بغير ما ترجوه؟!
عباد الله، كان يتردّد على آذاننا زمنا طويلا من على منابر الجمعة وفي قنوت رمضان: "اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والوباء والزنا والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع الغلاء عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين"، وربما مر علينا هذا الدعاء كغيره من الأدعية لا نشعر بقشعريرة في جلودنا لأننا لم نعرف أثر غلاء الأسعار حتى وقعنا فريسة له وضحية لمرارته، عندها تعود بنا الذاكرة إلى تلك الدعوات التي خرجت مبتهلة إلى ربها بأن يكشف الغلاء عن الأمة.
إن غلاء الأسعار سبب ضيقا شديدًا على الناس، الفقراء زادهم فقرا، وأما متوسطو الحال فهم من الفقر قاب قوسين أو أدنى، خاصة مع الضربات القاسية التي مُني بها أهل البلد من جراء المساهمات في سوق الأسهم والمساهمات العقارية وغيرها.
فحبّ المال والحرص على كسبه بأي طريق ـ حتى ولو كان عن طريق الحرام ـ أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية واختلاط الحلال بالحرام، قال تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20]، وعندما يطغى على الناس ذلك يصبح الأمر خطيرًا جدا، فيتسبب في أمور كثيرة مخالفة لشريعة الله تعالى، وقد قال : ((فوالله، لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) متفق عليه.
ومن حكمة الله تعالى أن أوجد لعباده طرقًا يسلكونها من أجل تيسير معاملاتهم وإقامة وجوه الحق بينهم، وعندما خالف البشر أوامره وعملوا بما يناقض شريعته أوقعوا أنفسهم في حرج عظيم، وظهرت بينهم بوادر الظلم والطغيان، وانتشرت بينهم العداوة والبغضاء، وتكاثرت عليهم الابتلاءات والمحن.
أيها المسلمون، إن ظاهرة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة تعدّ مشكلة اقتصادية يعبَّر عنها في القاموس الاقتصادي بـ(التضخم)، وهي لا تخرج مهما كانت أسبابها الظاهرة عن مسماها الشرعي: (البلاء)، فزيادة الأسعار في الغذاء ينتج عنه بلاء الجوع ونقص الثمرات لضعف ذات اليد عن الشراء، وزيادة الأسعار في الأدوية ينتج عنه بلاء المرض لعجز المريض عن تعاطي العلاج، وزيادة الأسعار في العقارات والبناء ينتج عنه ضيق المعيشة فيحتار الإنسان كيف يدفع ما لديه من مال هل على الإيجار والسكن أم على الغذاء والطعام، وهكذا... فما نسميه: (تضخم) هو في حقيقة أمره وفي جوهره بلاء يتبعه بلاء. وهنا يجب أن نبحث عن أسباب هذا البلاء، وأن نتعامل معه بما وعظنا الله به أولاً إلى جانب البحث عن أسبابه الأخرى في المعاملات.
يا ترى، هل نحن نعطف على الفقراء والمساكين؟! الجمعيات الخيرية تعاني قلةَ التبرعات والنفقات فكيف نشبع ويجوع غيرنا ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! إخواننا المستضعفون في غزة وغيرها من بلاد المسلمين هل شعرنا بحالهم وتألمنا لآلامهم؟! هل كنا معهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟! ما حالنا مع ربنا عز وجل؟! هل نقف مع حدوده فلا نتجاوزها أم أن هناك فئامًا من المسلمين والمسلمات انتهكوا الحرمات وفعلوا ما يغضب رب الأرض والسموات؟! كم الذين يتهاونون في أداء الجمعة والجمعات؟! كم الذين يظلمون الزوجات والبنات؟! كم الذين قطعوا الأرحام وعقوا الآباء والأمهات؟! كيف معاملاتنا مع الخدم والعمال؟! أهي مبنية على الرحمه أم على الظلم وبخس الحقوق؟!
ربما يكون غلاء الأسعار سببًا لأن يعود الناس إلى ربهم، فيفتح الله لهم أبواب الخير على مصراعيه، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
فإذا آمن الناس وعادوا إلى الله زالت عنهم الكروب وتلاشت عنهم الشدائد والمحن، فهل من عودة صادقة؟! ومتى استغفر الناس ربهم عز وجل زالت عنهم المحنة وانكشفت عنهم النقمة كما قال الله تعالى فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12].
وقد يبتلي الله تعالى العباد مع استغفارهم وعودتهم إلى الله باستمرار الحال على ما هي عليه ابتلاءً وتحميصا، يقول الله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 2-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ.
عباد الله، عندما يقلّ الطعام في البلد يكثر عليه الطلب، ويزيد سعره، وتتاح لضعاف النفوس من التجار فرصة احتكاره والتحكّم في أسعاره، وَالْمُحْتَكِرُ آثم، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الاحْتِكَارِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيث: ((مَنْ اِحْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالإِفْلاسِ)) رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ وَإِسْنَاده حَسَن، وحديث: ((مَنْ اِحْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّه وَبَرِئَ مِنْهُ)) أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالْحَاكِم وَفِي إِسْنَاده مَقَالٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا: ((مَنْ اِحْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيد أَنْ يُغَالِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ)) أَخْرَجَهُ الْحَاكِم.
معاشر التجار، أذكركم بحديث نبيكم: ((من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع)) رواه مسلم.
يا عباد الله، اقتصِدوا في مصروفات الشراء، ورشِّدوا استهلاك الغذاء، وحافظوا على النّعَم التي بين أيديكم، عظموا أمرها، واقدروا قدرها، وتذكّروا أن الأطعمة التي تشترونها اليوم بسعر غال غدا قد لا تجدونها لتشتروها.
هذا، وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5614)
زيارة مسجد النبي
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
غازي بن مرشد العتيبي
الجموم
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل المسجد النبوي. 2- استحباب زيارة المسجد النبوي. 3- آداب وسنن زيارة المسجد النبوي. 4- محاذير ومنكرات. 5- المواضع التي يشرع زيارتها في المدينة المنورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أفضل الأعمال وأشرف القرب والأحوال زيارةَ مسجد النبي الذي اختاره الله له وجعله أفضل المساجد بعد المسجد الحرام، كما جاء في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة)). فما الأحكام والآداب التي تتعلق بزيارة مسجد النبي ؟
إنه تستحب زيارة مسجده باتفاق المسلمين، ويجوز أن تشدّ إليه الرحال وتقطع في سبيل الوصول إليه المسافات الطوال، كما جاء في الصحيحين أنه قال: ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) ، وتكون نية المسلم أن يحصّل الثوابَ الوارد في الصلاة فيه تصديقًا بموعود النبي حينما قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) ، ولا يجوز أن ينوي المسلم بسفره زيارة قبر النبي ؛ لأن القبور لا يجوز السفر إليها، وقد أخبر النبي أن الغلو في القبور من أسباب لعنة الله عز وجل، فقال عليه الصلاة والسلام في مرض موته: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدًا. رواه البخاري ومسلم. وروى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله قال ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا القبور مساجد)). وقد كره بعض أهل العلم كالإمام مالكٍ وغيره أن يقول الرجل: زُرت قبر النبي ، وذلك من باب المحافظة على التوحيد؛ لأن من أصول الشرك بالله اتخاذَ القبور مساجد.
ومن جاء إلى مسجد النبي فإنه يستحبّ له أن يصلّي في الروضة، فقد جاء في الصحيحين أن النبي قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)) ، بمعنى أنه محلّ لإجابة الدعاء، لكن ينبغي أن تختار ـ أيها المسلم ـ الأوقات التي يقلّ فيها الزحام، ولا يجوز إيذاء المسلمين بمزاحمتهم وإزعاجهم من أجل تحصيل أمر مسنون.
ويستحب لمن جاء إلى المسجد من الرجال أن يسلّم على النبي وصاحبيه أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، لما في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من رجل يسلّم عليّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) وهو حديث جيد. وهذا الحديث ـ يا عباد الله ـ يشمل من سلّم عليه عند قبره، ويشمل من سلم عليه ولو من مكان بعيد.
أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور، لا قبر النبي ولا قبرَ غيره؛ لأن المرأة قليلة الصبر كثيرة الجزع، بل لقد لعن النبيّ المرأة التي تزور القبور فقال: ((لعن الله زوارات القبور ـ وفي لفظ: زائرات القبور ـ والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج)).
وصفة السلام على النبي وصاحبيه عند قبره لم يرد لها كيفية معينة، وقد كان عبد الله بنُ عمر يأتي إلى قبر النبي ويقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف ولا يدعو. وأكثر أهل العلم ـ أيها المؤمنون ـ على أنه عند السلام على النبي وصاحبيه يستقبل القبر، ثم إذا أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة ولا يجوز له أن يستقبل القبر عند الدعاء.
كما أنه يكره رفع الصوت في مسجد النبي وعند قبره لقوله تعال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات: 3].
ويحرم ـ أيها المؤمنون ـ التمسح بالحجرة النبوية وتقبيلها أو دعاء النبي وطلب الحوائج منه؛ لأن النبي بشر كريم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، كما قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188].
وتكره إطالة الوقوف عند قبر النبي وقبري صاحبيه؛ لأن هذا لم يكن من هدي السلف الصالح، قال الإمام مالك رحمه الله: "هو بدعة لم يفعلها السلف الصالح، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها).
ويكره تكرار المجيء للسلام على النبيّ ، بمعنى أنه كلّما دخل المسجد ذهب إلى القبر وسلّم على النبي ، بل يسلم عليه من أي موضع كان.
ومن جاء إلى قبر النبي وسلّم عليه فيجوز له أن يقول: سلمت على النبي ، ولا يكره له ذلك باتفاق أهل العلم.
ومن صلى في مسجد النبي ما كتب له من الصلوات جاز له الرجوع إلى أهله، أو الخروج إلى أي مكان شاء، من غير أن يتقيد ذلك بخمس صلوات أو غيرها، فإن هذا التقييد لا دليل عليه.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم للفقه في الدين والعمل بكتابه وسنة نبيه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وضّح الدين وأكمله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله بكل خيرٍ وهدى وأرسله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واخشوا يومًا لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها الناس، من جاء إلى مسجد النبي أو إلى المدينة فإنه يستحب له زيارة مسجد قباء لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي يأتي مسجد قباءٍ كل سبت ماشيًا أو راكبًا، وروى النسائي عن النبي قال: ((من خرج حتى يأتي هذا المسجد ـ مسجدَ قباء ـ فيصلي فيه فإن له كعدل عمرة)) ، أما شدّ الرحل والسفر إليه فلا يجوز لقوله : ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) ولم يذكر منها مسجد قباء.
كما يستحب زيارة أهل البقيع والدعاء لهم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله كلما كان ليلتُها من رسول الله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)). ولا يجوز دعاءُ أهلها وسؤالُهم الحاجات والاستغاثة بهم كما يفعل أهل الجهل والإشراك بالله عز وجل.
كما يستحبّ للرجال زيارةُ شهداء أحد الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله وقال الله عنهم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران: 169-170].
أما المساجد السبعة التي يقصدها بعض الجاهلين ـ ولا سيما من الوافدين ـ ويحرصون على الصلاة فيها والتمسح بمحاربها والتبرك بها فليس لها فضيلة زائدة على غيرها من المساجد، بل لم يثبت وجود هذه المساجد أصلاً.
أسأل الله أن يوفق المسلمين لاتباع دينه، وأن يهدينا وإياهم سبل السلام، إنه سميع مجيب.
(1/5615)
نكاح الشغار
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/2/1413
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة نكاح الشغار. 2- تحريم نكاح الشغار. 3- الإنكار على تزويج البنات بغير رضاهن. 4- تحريم عضل النساء عن النكاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً بسابقه بما أراه مناسبًا للوقت وإن كان لا يراه آخرون، ولكن نظرًا لما نقرأ ونسمع من خلال الإذاعة والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى ولما يعيشه الناس في مثل هذا الوقت من كل سنة لبنيهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأقاربهم وعشيرتهم من حيث مناسبات الزواج، ولما لهذا الموضوع من أهمية فيكثر الكلام سنويًا في المجالس صَغُرَتْ أو كَبُرَتْ وعبر الوسائل الإعلامية على اختلافها إما لغرض الإثارة، أو لقصد المعالجة الفعلية لما يفعله كثير من الناس من مخالفات للشريعة الإسلامية، والحق أنه لا يمكن أن يُعَالَجَ هذا الموضوعُ ولا غيرُه إلا وفق كتاب الله وسنة رسوله محمد ، ولا يزال المجتمع يَصْلَى جحيمَ هذه المخالفات وغيرها حتى يستقيموا على شريعة الإسلام ويطبقوها ويَعُوا المقاصدَ الشرعيةَ ويرضوا ويُسَلِّمُوا تسليمًا لجميع أحكام الله تعالى، وفوق ذلك تَصْفُو نفوسُهم وتطهَّر قلوبُهم من أدنى رَيْبٍ وشَكٍّ في صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ولا يجدوا أدنى حرج في نفوسهم مما قضى الله ورسوله في أي أمر من الأمور، قال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، وقال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36].
ولعل من المناسب أن يكون الاستدلال بالآية الأخيرة موافقًا لما نحن بصدده من أمر الزواج حيث نزلت في زواج زينب بنت جحش رضي الله عنها بِزَيْدٍ رضي الله عنه، ومناسب أيضًا لهذه السلسلة الحالية من الخطب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في الاستشهاد بأي دليل على أي أمر من أمور الشرع.
وكما سبق القول فإن مجتمعات المسلمين لا تزال تَتَنَكَّبُ الطريقَ المستقيمَ ما لم تَسِرْ على هدي الكتاب والسنة في جميع شؤون الحياة، وإن كانت هناك بوادر خير نسمع ونقرأ عنها في بعض البلاد تعالج أمور الزواج التي كثرت المشاكل الزوجية بسببها وأُشْغِلَتِ المحاكمُ بها وامتلأت البيوت بالمطلقات والعوانس بسبب المخالفات الشرعية، بدءًا من الغش والخداع وعدم الصدق والصراحة، ومرورًا بالخِطبة وما بعدها نظرًا لما يكذب به الوسيط أو لما يُظْهِرُهُ الطرفان أو طرف دون آخر، ثم ما إن تمضي أيام قلائل حتى تشتعل نار الفتن في بيوت المسلمين لما كان من الغش والكذب ابتداءً، ثم لما كان على الزوج من تكاليف أثقلت كاهله بالديون وأصبح أسيرًا لِدَائِنِيهِ، وصار ضحيةً بين نَارَيْنِ: إما البقاء مع تلك الزوجة التي يعيش معها حياة النَّكَدِ والتَّعَاسَةِ، وإما أنْ يُطَلِّقَ، وبذلك يكون أَسِيرَ الديون ولا زوجةَ له.
والمخالفات الشرعية كثيرة، والعقبات كذلك، وسبق الكلام عنها في الخطب السابقة، ولكن من المناسب في هذه الأيام الحديث عن مخالفة شرعية كانت منحصرة في بعض مجتمعات المسلمين، ولا يكاد يعرفُ صورتَها كثيرٌ منهم، ولكنها انتشرت بسبب غلاء المهور وارتفاع التكاليف الأخرى في الزواج، وبسبب التعقيدات الأخرى الكثيرة، لذلك هَانَ أمرُها وأصبحت شيئًا عاديًا كغيرها من المحرمات التي أَلِفَهَا الناسُ واسْتَسَاغُوهَا بسبب تَبْرِيرِهِمْ حُرْمَتَهَا بأمور تظهر أمام العامة بأنها حلالٌ مَحْضٌ لا شُبْهَةَ فيه مع الحرمة الواضحة، وهذا ينطبق على أمور عدة في مجتمعات المسلمين اليوم خاصة في المعاملات، وأصبح الشَّبَهُ باليهود موجودًا في بعض المسلمين حيث ارتكبوا ما ارتكبت اليهود من المحرمات واستحلُّوا ما حرَّم الله بأدنى الحيل كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد.
والمخالفة الشرعية المنتشرة الآن هي: نِكَاحُ الشِّغَار الذي كتب فيه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة قيمة مفيدة لطالب الحق وحجة على أهل الباطل، أذكر بعض ما ورد فيها مع التصرف اليسير المناسب للْخُطْبَةِ لبيان الحق وللقيام بواجب النصيحة وإبراء الذمة وتبصير المسلمين بما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم ولقيام الحجة.
فنكاح الشغار هو أنْ يُزَوِّجَ الرجلُ ابنتَه أو أختَه أو غيرَهما ممن له الولايةُ عليها على أنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ أو يزوج ابنه أو ابن أخيه ابنته أو أخته أو بنت أخيه أو نحو ذلك ممن له الولاية عليها، وهذا العقد على هذا الوجه فاسدٌ سواء ذُكِرَ فيه مَهْرٌ أَمْ لَمْ يُذْكَرْ فيه المهرُ، وينبغي التنبه لهذا حيث دخل الشر على مجتمعات المسلمين من هذا الباب حيث اتخذوا تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ حِيلَةً أو دَفْعَ المهرِ نفسِه أو الزيادة اليسيرة للتفريق بين المهرَيْن، ولكنهم غفلوا ونسوا وتناسوا النية والقصد عند الطرفين كِلَيْهِمَا أو أحدِهما وهي الْمُبَادَلَةُ التي لولاها لما تم هذا الزواج، سواء تفاضلت المهور أو تساوت، وهذه النية الباطنة الْمُتَّخَذَةُ حيلة ظاهرة أمام الناس لا تخفى على الله، وبسببها وقعت الفتن والشرور والخصومات والمشاكل بسبب هذه الزيجات الفاسدة التي نهى رسول الله عنها وحذر منها، وقد أمرنا الله عز وجل باتباعه والانتهاء عما نهانا عنه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر: 7]. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وكما ورد في الآيتين السابقتين في أول الخطبة وفي غيرهما من كتاب الله عز وجل.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله نهى عن الشغار، والشغار أن يُزَوِّجَ الرجلُ ابنتَه على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق. وروى الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول نهى عن الشغار قال: ((والشغار أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو: زوجني أختك وأزوجك أختي)) ، وقال : ((لا شغار في الإسلام)).
فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على تحريم نكاح الشغار وفساده وأنه مخالف لشرع الله، ولم يُفَرَّقْ فيه بين ما سُمِّيَ فيه مَهْرٌ وما لَمْ يُسَمَّ فيه شيءٌ من المهر إلا ما ورد في حديث ابن عمر من تفسير الشغار بأن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق، فهذا التفسير قد ذكر أهل العلم أنه من كلام نافعٍ الراوي مولى ابن عمر، وليس هو من كلام النبي ، وقد فسره الرسول بما تقدم في حديث أبي هريرة السابق إيضاحه وبيانه، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته على أن يزوجه الآخر ابنته أو أخته، ولم يقل: وليس بينهما صداق، فدلّ هذا على أن تسمية الصداق أو عدمها لا أثر له في ذلك، وإنما مُقْتَضَى فساد هذا النكاح هو اشتراط المبادلة والاتفاق على ذلك بين الطرفَيْنِ المسؤولَيْنِ عن تزويج المرأتين، وغالبًا يكون هذا الشرط سِرِّيًّا لا يُعْلَنُ عنه، إنما الْمُعْلَنُ عنه هو رغبة كل طرف تزويج الطرف الآخر بمهر مستقلّ لكل من الزوجتين برضا الأزواج المراد تزويجهم على حدِّ زعم ولي الزوجتين، والواقع عدم الرضا منهما أو من إحداهما، وقد يُكتب في عقد كل منهما مبالغ متفاوتة للتضليل والتدليس وليست من الحقيقة في شيء، وفي ذلك فساد كبير لأنه يفضي على إجبار النساء على نكاح من لا يرغبن فيه إيثارًا لمصلحة الأولياء وتحقيقًا لمصالحهم الشخصية دون النظر في مصلحة النساء، وذلك منكر وظلم للنساء، وهو أيضًا يُفْضِي إلى حرمان النساء من مهور أمثالهن كما هو الواقع بين الناس المتعاطين لهذا العقد المنكر حيث جعلوه امرأة بامرأة وفرجًا بفرج، وكثيرًا ما يفضي هذا العمل إلى النزاع بعد الزواج، وهذا من العقوبات العاجلة لمن خالف الشرع.
والواقع الذي عاشه ويعيشه أولئك الأزواج من الرجال والنساء واقع مؤلم وحياة تعيسة ومشاكل لا نهاية لها، وقد أدت إلى سفك دماء وإلى قطيعة أرحام، وإلى بغضاء وشحناء وحقد وعداوات متناهية بسبب الإقدام على نكاح الشغار الذي لم ينتبه ويتفكر ويمعن النظر في الحكمة من تحريمه كثير من المسلمين، ولم يفكروا في العواقب المؤلمة لكثير ممن أقدم عليه، فالحياة الزوجية عقدها يستمرّ مدى الحياة يجب التفكير فيها بكل أمانة وإخلاص والإقدام على بصيرة وتغليب مصلحة الزوجين.
روى الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله تعالى بإسناد صحيح عن عبد الله بن هرمز أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وقد كانا جعلا صداقًا، فكتب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى أمير المدينة مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهم، وقال في كتابه: (هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ).
فهذه الحادثة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه توضّح معنى الشغار الذي نهى عنه رسول الله في الأحاديث المتقدمة، وأن تسمية الصداق لا تُصَحِّحُ هذا النِّكَاح ولا تخرجه عن كونه شغارًا؛ لأن العباس بن عبد الله وعبد الرحمن بن الحكم قد سَمَّيَا صَدَاقًا، ولكن لم يلتفت معاوية رضي الله عنه إلى هذه التسمية، بل أمر بالتفريق بين كلٍّ من الزوجين، وقال: (هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله )، ومعاوية رضي الله عنه أعلم باللغة العربية وبمعاني أحاديث الرسول من نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم جميعًا.
وهذا الذي ينبغي التنبه إليه في مسألة الشغار الذي قد يخفى على كثير من المسلمين وضوحُ إِشْكَالِهِ من حيث القصد والنية فيه، ومن حيث الحكمة في تحريمه أيضًا، والتي هي خافية أيضًا على الغالبية العظمى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فمن المسائل المنكرة في النكاح ما يفعله بعض الناس في إجبار ابنته أو أخته أو بنت أخيه أو من له ولاية عليها على الزواج ممن لا ترضى بنكاحه، وذلك منكر ظاهر وظلم للنساء، لا يجوز للأب ولا لغيره من الأولياء أن يفعله ويقدم عليه لما فيه من الظلم الواضح للنساء ومخالفة السنة الثابتة عن رسول الله في النهي عن تزويج النساء إلا بإذنهن، ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حتى تُسْتَأْمَرَ، ولا تُنكح البكرُ حتى تُستأذن)) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) ، وفي صحيح مسلم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((والبكر يستأذنها أبوها، وإذنها: صماتها)) ، والأحاديث في هذا المعنى متعددة.
ويُستثنى من هذا تزويجُ الأب فقط لابنته التي لم تبلغ تسع سنين بالكفء إذا رأى المصلحة لها في ذلك بغير إذنها لكونها لا تُدْرِكُ مصالحها إذا كان ذلك فعلاً في مصلحتها، وليس ذلك لأحد ممن له ولاية عليها إلا للأب، مع أن بعض الآباء ممن لا يقدرون مصالح بناتهم ليس لهم تزويج بناتهم في هذه السن ولا في غيره بغير إذنهن حيث هم داخلون في عموم الأحاديث السابقة، أما الأَبُ المقدِّرُ والمُحْتَرِمُ مصالِحَ بناته فإن له ذلك بدليل تزويج الصديق رضي الله عنه ابنته عائشة رضي الله عنها للنبي وهي بنت ست سنين ولم يدخل بها الرسول إلا في التاسعة من عمرها رضي الله عنها وعن والديها. جاء في الصحيحين مما روته بنفسها ـ أي: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ـ أن النبي تزوجها وهي بنت ستّ سنين، وأُدْخِلَتْ عليه وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعًا.
ومن الأمور والمسائل المنكرة ما يفعله بعض الناس في الحاضرة والبادية من حَجْرِ بنت العم ومنعها من الزواج بغير ابن عمها والتهديد والوعيد بفعل كذا وكذا، وكذلك إجبار بعض الأولياء للنساء على الزواج ممن لا يَرْضَيْنَ به من القرابة أو من غيرهم، وكذلك ظلم بعض الناس لبناتهم ومولياتهم حيث يمنعونهن من الزواج ممن يتقدم لهن من الأَكْفَاءِ في الدين ويرغبن هن في الزواج منهم، يمنعونهن حقّهن في ذلك بحجة الطَّبَقِيَّةِ الجاهلية الممقوتة في الإسلام، وكل ذلك ظلم واضح للنساء يأثم به من يُقْدِمُ عليه ويقوم به، وبذلك تقع الفتن والمشاكل والشحناء والخصومات وقطيعة الرحم، بل قد تصل إلى سفك الدماء وغير ذلك.
فالواجب على المسلم أنْ يخافَ الله تعالى ويَحْذَرَ بَطْشَهُ ونِقْمَتَهُ، وعليه أن يحذر من الوقوع في ذلك ويحذِّر أقاربَه وغيرهم من المسلمين من عواقب مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله محمد ، وعليهم أن يستأذنوا النساء عند تزويجهن ولا يزوجوهن إلا برضاهن، كما يجب عليهم أن ينظروا في مصالح النساء وليس في مصالحهم، وأن لاَّ يزوجوهن إلا بالأَكْفَاءِ دينًا وخُلُقًا بعد إذنهن حتى تبرأَ ذِمَمُهُمْ ويسلموا من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة.
ومما ينبغي التنبيه إليه في نكاح الشغار هو عن حال من لم يقدم عليه أو أقدم ولكن لم يتم الزواج حتى الآن أو وقع فيه، أما من لم يقدم عليه أو أقدم ولكنه في مراحله الأولى قبل الزواج فإن عليه الابتعاد عن ذلك لما سبق ذكره والكلام عنه، وأما من وقع في الشغار وخاصة مع وجود الأولاد منهما أو من أحدهما فإن عليهم أن يجدّدوا العقدين إذا رضيت كلتاهما بذلك، أو إحداهما رضيت والأخرى لَمْ تَرْضَ فإنه يُجَدَّدُ لمن رضيت، ولا حاجة للمأذون الرسميّ أو إثبات ذلك رسميًا، بل متى حصل الولي والشاهدان والإيجاب بعد القبول من الزوجين والزوجتين أو رضيت إحدى الزوجتين بزوجها ولم ترض الأخرى وكذلك دُفِعَ المهر فعلاً لكل منهما أو لمن رضيت منهما فمتى حصل ذلك واتفق الجميع على إلغاء الشروط الأولى فمن رضيت فإنها تبقى مع زوجها، والتي لم ترض وظهر أنها مُكْرَهَةٌ في العقد الأول ولا ترغب الاستمرارَ مع زوجها فلها الانْفِصَالُ عنه حيث إن العقد الأول لاَغٍ وباطل، ويُجَدَّدُ العقدُ للتي رضيت، أما الأولاد فهم أولاد رشدٍ يُنْسَبُونَ إلى آبائهم لأنهم وُلِدُوا في نكاح اعتقد صِحَّتَهُ الآباءُ والأولياءُ والشهودُ. وهذه خلاصة فتوى لأحد أعضاء الإفتاء أَيَّدَ ما ورد فيها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5616)
الإسراف والتبذير
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
25/3/1409
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمول الإسلام جميع مناحي الحياة. 2- كثرة النعم وقلة الشكر. 3- كفر النعم يستلزم منعها. 4- صور للإسراف في مجتمعات المسلمين. 5- حث الإسلام على الاقتصاد والترشيد في الاستهلاك. 6- نعمة الماء والاقتصاد فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ أمةَ الإسلامِ أمةَ محمدٍ خيرُ أمة أخرجت للناس، أمةٌ وسط، شهيدة على الناس، هذا ما أخبر به ربنا عز وجل عن هذه الأمة المسلمة في وحي يُتْلَى إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران: 110]، وكما قال سبحانه: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وكما قال سبحانه: وَجَـ?هِدُوا فِى ?للَّهِ حَقَّ جِهَـ?دِهِ هُوَ ?جْتَبَـ?كُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْر?هِيمَ هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـ?ذَا لِيَكُونَ ?لرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?عْتَصِمُواْ بِ?للَّهِ هُوَ مَوْلَـ?كُمْ فَنِعْمَ ?لْمَوْلَى? وَنِعْمَ ?لنَّصِيرُ [الحج: 78].
هذه الخيرية والوسطية في أمة مؤمنة يحمدون الله في السراء والضراء، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، قرآنهم في صدورهم، رهبان بالليل، فرسان بالنهار، يجاهدون في سبيل الله بالأموال والأنفس والنصيحة الخالصة الصادقة بالقلم واللسان، لا يخافون لَوْمَةَ لاَئِمٍ، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور وتبصير عباد الله بالإسلام على الطريقة الصحيحة الواضحة والعقيدة الصافية النقية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
تنبعُ خَيْرِيَّةُ هذه الأمة وتتأكد وَسَطِيَّتُهَا في دينها الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة، فهو يشمل جميع مناحي الحياة في العبادات والمعاملات والأخلاق وخلافها، لو استعرضنا خيرية الأمة الإسلامية ووسطيتها في بعض النواحي من خلال إشارات وأدلة من الكتاب والسنة لطال بنا المقام، فكيف لو كان لأمور متعددة من أولها جميعًا؟! إنه يحتاج إلى سنوات لما نقله الأئمة الأعلام حول الآيات والأحاديث المبينة لذلك في أقصر العبارات وأوجزها وأجملها وأوضحها وأبينها إعجازًا، وما هذا التقديم إلا لمعرفة جزء يسير من خيرية الإسلام والأمة المسلمة ووسطيتها وتوسطها واعتدالها وما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة في هذا الأمر وفي غيره في حياته كلها وتطبيقه لأحكام الإسلام ووضع النقاط على الحروف؛ ليبحث كُلٌّ بنفسه ويقف عند آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول.
إن نعم الله علينا عظيمة وكثيرة، فهي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى كما قال الله تبارك وتعالى في محكم آيات القرآن الكريم: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، وفي الآية الأخرى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18]. ولو تدبرنا وتأملنا هاتين الآيتين في سُورَتَيْ إبراهيم والنحل وقد جاءت بعد بيان تسخير الله عز وجل لنا الأشياء في هذا الكون، ولو تذكرنا غفلتنا وذهولنا عن معظم ما في هذا الكون الفسيح وعما في أنفسنا وما يحيط بنا وعن مدى تقصيرنا في هذا وفي غيره من أمور عباداتنا وتطبيقنا لإسلامنا، لو فعلنا ذلك لسجدنا لله شكرًا وذَلَّتْ رقابُنا لعظمة الله وخضعنا وتواضعنا لعباد الله وعرف كلٌّ منا قَدْرَ نفسِه وعمل بطاعة ربه وانتهى عن المعاصي والآثام وعمل بسنة خير الأنام محمد بن عبد الله ، عندها تتغير الأحوال إلى الأفضل والأحسن بإذن الله عز وجل، وعندما يكون العكس حيث الذهول والغفلة والإعراض وانتهاك المحرمات وقلة الطاعات فإن التغيير إلى الأسوأ سوف يكون بقدرة الله وإرادته ومشيئته وحسب سُنَنِهِ الكونية التي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد: 11]، وقال عز وجل: ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وقال عز وجل: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ?لضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ?لضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـ?هُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 53-55]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112]. ولو أوردت الآيات عن سبأ وقارون فقط وقرأتها عليكم لاحتجنا وقتًا يطول على السامعين، ولا أعتقد أنهم يَمَلُّونَ استماع أو تلاوة كلام رب العالمين بإذن الله تبارك وتعالى.
إن مظاهر الإسراف والتبذير والترف والبذخ مع عدم الشكر وكفران النعمة مُنْذِرَةٌ بالخطر، ليس على الواقعين فيها فقط، بل العقاب ينزل على الجميع، ولو تأملنا هذه الآيات لوجدناها كأنما أُنْزِلَتِ الآن، وهي تُصَوِّرُ واقعَنا وتنذر عاقبة أمرنا وتذكرنا بما جَنَيْنَا وما كنا عليه، قال تعالى: يا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ وَ?ذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ?لأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ?لنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 24-26].
الإسراف: مجاوزة الحد أيًّا كان، وهو يشمل أمورًا عدة في حياة البشر من مأكل ومشرب ونوم ويقظة وكلام ومحبة وكراهية وضحك وانفعال وتعامل مع الإنسان والحيوان والطير والنبات والجماد، وكذلك العبادات من وضوء وطهارة وصلاة وصدقة وصيام وغيرها. والحديث هنا عن الإسراف في الأموال وسوء التصرف فيها، وهو نوعان:
الأول: إسراف في النفقة والإنفاق وهو التبذيرُ المنهيُّ عنه ومجاوزة الحد حتى في الصدقة، قال تعالى: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وقال عز وجل: وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141]. وقال لمن أراد الصدقة عمومًا أو الوقف لينتفع به في الدار الآخرة: ((الثلث، والثلث كثير، لأَن تذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يَتَكَفَّفُونَ الناس)).
والنوع الثاني: الإسراف في الاستهلاك في الأكل والشرب وضروريات الحياة ومباحاتها، مع أن الله أباح لعباده الطيبات والحلال من المأكل والمشرب ولكنه نهاهم عن الإسراف وتجاوز الحد؛ لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم ودينهم ودنياهم.
ولنتأمل الحديثين التاليين حيث أخذ أعداء الإسلام منهما قاعدة لصحة أبدانهم وقد تركها أكثر المسلمين، فالطب مجموع في ثلاث كلمات لا غنى للمرء عن أحدها، ولو خالفها لاعْتَلَّتْ صِحَّتُهُ وقُوَاهُ وربما أَوْدَتْ بحياته، جاء ذلك في الآيات والأحاديث التالية: قال تعالى: وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وقال عز وجل عن عباد الرحمن الذين عدد صفاتهم: وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ?لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]، وقال : ((ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شرًا من بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدم لُقَيْمَات يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإن كان لا بد فاعلاً فَثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِهِ)) ، وقال : ((نحن قوم لا نأكلُ حتى نَجُوعَ، وإذا أكلنا لا نَشْبَعُ)) أي: لا يُدْخِلُونَ الطعامَ على الطعامِ مع الشبع لما فيه من إفساد الثاني لما قبله، وإذا أكلوا لا يملؤون بطونهم حتى يُتْخِمُوها بالطعام ويصلوا إلى الشّبَعِ الْمُفْرِطِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله.
أما بعد: فإن المسلم الحق معتدل متوسّط مقتصد في أموره كلها، لا إِفْرَاطَ ولا تَفْرِيطَ، لا غُلُوَّ ولا مُجَافَاةَ، لا إسرافَ ولا تَقْتِيرَ؛ لأنه ينطلق في ذلك من تعاليم الإسلام التي تأمره بالاعتدال والتوازن والاقتصاد في جميع الأمور، وتنهاه عن الإسراف والتبذير ومجاوزة الحد حتى ولو كان في الاقتصاد الذي يصل إلى حد التقتير، ولا ينتظر توجيهات البشر لأنه يفعل هذه الأمور طاعةً لله عز وجل وقُرْبَةً إليه رجاء الثواب من عند الله سبحانه وتعالى وخوفًا من عقابه ومحبةً له عز وجل، وإذا جاءت الدعوة لأمرٍ ما من ولاة الأمر فإن الأمر لديه عاديٌّ جدًا لأنه عاملٌ به مُنَفِّذٌ له ولا يستغربه ولا يستصعبه أبدًا ولا يستثقله، بعكس الجاهل بتعاليم الإسلام أو المسرف الذي لا يحسب لأمر دينه أي حساب.
والإسراف يُخْشَى على الجميع منه لأن فتنته وضرره يصل الجميع، كما قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]. وكما حذر سبحانه من أن ترك أمر الخاصة الظاهر وعدم النهي عنه سوف يصيب العامة كما في قوله تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] أي: أنها سوف تصيب العامَّة ولا تقتصر على أصحاب المعاصي والمنكرات والآثام، ولنأخذ بعض الأمثلة التي تتردد الدعوة حولها لترشيد الاستهلاك فيها:
ومنها: الماء، فالمسلم مأمور بالاقتصاد فيه حتى في أمر الطهارة التي منها الوضوء والاغتسال ولو كان أحدنا على شاطئ نَهْرٍ جَارٍ، وهَدْيُ رسولنا محمد واضحٌ في هذا وغيره، فقد كان يغتسل بالصَّاعِ ويتوضَّأُ بالْمُدِّ، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء كَفَّي الإنسان المعتدلِ الْخِلْقَةِ. فهل أحد يطبق هذه السنة النبوية أو يقترب منها في هذا الزمان إلا من وفقه الله عز وجل نظرًا لوجود المسابح الموجودة في دورات المياه المسماة بالمغاطس والدشوش المتنوعة والمغاسل التي هي أجزاء مساعدة على الإسراف وأيضًا صناديق الطرد المسماة بالسيفونات، ولو استعمل شخص عاقل الأباريق بدل تلك الصناديق أو في الوضوء عند المغسلة ووضوئه عليها والاغتسال في الحمام لئلا يسرف في الماء لَوُصِفَ بالتخلف والجنون، مع أن القائلين بذلك هم الذين يستحقون ذلك الوصف.
وقد مَرَّ رسولُ الله على أحد الصحابة وهو يتوضأ فقال له: ((لا تسرف في الماء)) ، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: ((نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ)) ، وقال : ((إن للوضوء شيطانًا يُقَالُ له: الْوَلْهَان، فاتقوا وَسْوَاسَ الماء)).
وعندما يرى المسلم إخوانه المسلمين في أماكن الوضوء في المساجد يشاهد من الأمر عَجَبًا في إهدار الماء وفتحه من مصادره ومحابسه إلى أعلى الدرجات حتى والشخص يَكُفُّ ثيابَه وملابسَه نجد الماءَ مُهْدَرًا نافذًا إلى مجاري الصرف وكأنهم لا يَعُونَ ولا يعلمون شيئًا من سنة رسولهم محمد حيث يتوضأ أحدهم بأكثر من مائة مرة عن القدر الذي عليه هدي رسول الله ، وحالهم في الاغتسال أعظم وأكثر مع وجود ما يساعدهم على الإسراف مما تحويه دورات المياه. أما الْمُتْرَفُونَ الذين تَحْوِي قصورُهم ومساكنُهم المسابحَ التي تتسع لعشرات الأطنان بل المئات فَحَدِّثْ عنهم ولا حرج، حيث التغيير والتبديل الأسبوعي للماء إن لم يكن اليومي لدى كثير منهم وإهدار الماء الصالح للشرب؛ لأن الجميع لم يتعب فيه ولم يدفع مقابله إلا قيمةً تافهةً، هذا إِنْ دُفِعَتْ، مع أن الكثير لا يعلم عنها شيئًا، ولو أن عامة الناس قاموا بدفع التكلفة الحقيقية للطن الواحد الذي يصل إليهم بمبلغ أربعة ريالات بدلاً من قرشين لشعروا بقيمة الماء مع أنهم يشترون ماء الشرب بما يعادل ألفي ريال للطن الواحد، ولا يضيق أحدهم ذرعًا بما يدفعه ولا يَتَبَرَّمُ. أما زيادة السعر عن القرشين في الطن الواحد للماء الواصل إلى المنازل عبر الأنابيب فهو أمر صعب على النفوس التي لا تقدّر هذه النعمة، ولو وُضِعَتْ شرائحُ للاستهلاك بدلاً من المعمول به لعرف الناس قيمة الماء ومقدار النعمة الكبرى التي ينعمون بها، سواء صغار المستهلكين أو المترفين، كل يوضع له السعر المناسب للحد من الإسراف ولكي يُسْتَفَادَ من عائد الدخل في عمل مشاريع لآخَرِينَ يُعَانُون من عدم وصول الماء النقي إليهم وانعدامه عنهم ونُضُوبِ الماء العادي لديهم وقِلَّتِهِ، فضلاً عن حُلْمِهِمْ بوجود مثل هذا الماء النقي الذي ينعم به أهل المدن.
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويتقي ربه، وإذا بدأت المحاسبة تأتي النتائج المثمرة بإذن الله، وهي تبدأ من هؤلاء الأشخاص ومن الرجال المسؤولين في بيوتهم والنساء ومراقبة الخادمات اللائي هن أكبر مصدر لإهدار المياه حيث تفتح إحداهن مصدر المياه (الصنبور) إلى آخر شيء ليغسل ويزيل عن الأواني والأدوات المستعملة في الطبخ والأكل والشرب ما عَلِقَ بها مع أقلّ كُلْفَةٍ عليها في مَدِّ يدها واستعمالها لها، ثم الترشيد من الأغنياء والكفّ عن العبث بالماء في المسابح وأشجار الزينة ونباتاتها والمسطحات الخضراء والأشجار غير المثمرة والتي لا فائدة من وراء إهدار المياه عليها، لا لإِنْسَانٍ ولا لحيوانٍ ولا لطائرٍ، حيث يصرف بعضهم في يومٍ واحدٍ ما تصرفه مئات العوائل في سنوات، ولا أقول هذا مجازفة بل حقيقة واقعة، ومن لديه شك فليسأل المسؤولين الأمناء عن توزيع المياه لا العكس من هذا الوصف الذين هم كُثرٌ في هذه الأيام، فإذا كان الإنسان قدوة فيما يدعو إليه ويفعله استجاب الناس له، والعكس بالعكس. وواجب طالب العلم والخطيب والواعظ والعالم أن يكونوا قدوة فيما يدعون إليه، كما هو الحال في المسؤول ممثلاً في شخص بمفرده أو هيئة أو مؤسسة اعتبارية في قمة الهرم وأعلاه كما يقال أو في أسفله، مثل الدعوة لترشيد استهلاك الماء إذا لم يوضع في الاعتبار ما ذكر سابقًا إلى جانب أمور لا يَحْسُنُ ذِكْرُهَا هنا، فإن الأمر سيظل استعطافًا قليل الجدوى والثمرة بعيدًا عن الحزم ووضع الأمور في نصابها، كما هو الحال في الكهرباء إذا لم تبدأ البلديات والمواصلات في الاقتصاد في الإضاءة المهدرة التي تستمر إلى بعد إشراق الشمس بساعة أو تضاء قبل المغرب بساعة مع زيادة الكميات المضاءة عن حاجة الطرق الداخلية والخارجية، إذا لم تكن الجهة قدوة فيما يشاهده الناس فلن تكون الاستجابة مثمرة ومتوقعة لدى كثير من الناس والحال كما ذُكِرَ.
وواجب المسلم أن يستجيب لأمر الله وأمر رسوله وهذه الدعوة التي هي من تعاليم الإسلام المأمور بها قبل أن تكون دعوة من ولاة الأمر، وكذلك على المسلم أن يقتصد في الولائم وحفلات الزواج التي تُهْدَرُ فيها كمياتٌ هائلةٌ من الأطعمة واللحوم وأنواع المأكولات والمشروبات ثم ترمى في الزبالات ومع القاذورات، وقليل من يحملها إلى البر ويرميها هناك أو يحملها إلى الجمعيات الخيرية، وكفران النعمة يكون عند من لا يحترمها ويقوم بذلك رياءً وسمعة ومفاخرة، مع أن الكثير منهم قاموا باستدانة قيمتها ويقومون بسدادها على سنوات قادمة، وقبل مدة نَشَرَتْ إحدى الصحف صورةً لِصِينِيَّةٍ كبيرةٍ ـ إناء يوضع فيه الطعام ـ عليها قعُودٌ ـ الصغيرُ من الإبل ـ وعدد من الأغنام تمثل الكرم الحاتمي في إحدى المناطق لشخص كفر نعمة الله عز وجل، مع أنه لو وقف فقير على أحد المسرفين وطلب منه عشرة ريالات لما أعطاه، ولو أن كل فرد على أقل تقدير وَفَّرَ ريالاً واحدًا من قيمة استهلاك الماء والكهرباء وأنفقها في وجوه الخير ومشاريعه المختلفة لدى الجمعيات الخيرية القائمة بهذا لقدم لنفسه خيرًا كثيرًا ووجده في يومٍ هو أحوج لحسنة واحدة، وَمَا تُقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل: 20]، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
(1/5617)
العبادة وأهميتها وشمولها
الإيمان
حقيقة الإيمان, خصال الإيمان
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
10/2/1422
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من الخلق. 2- مفهوم خاطئ للعبادة. 3- المفهوم الصحيح للعبادة. 4- شمول مفهوم العبادة. 5- تنوع سبل الخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، لقد بين الله تعالى الغاية التي من أجلها خلقنا فقال تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36]، ويأمر سبحانه وتعالى رسوله بعبادته حتى الموت فيقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، فما هي هذه العبادة التي خلقنا من أجلها وأمرنا في نصوص كثيرة بفعلها؟
قد يظنّ بعض الناس أن هذه العبادة لا تتعدّى نطاق ركعات يصلّيها الفرد وأيّام يصومها أو فريضة حج يؤديها أو زكاة مالٍ يخرجها فقط، وهذا الفهم قاصر وفاسد لمفهوم العبادة، والذي نجح الأعداء عن طريق الغزو الفكري وتغيير المفاهيم بأن يبثوه بين صفوف المسلمين، هذه الفكرة المحرفة للعبادة وأن تقتصر العبادة على المساجد وما في المساجد من ذكر أو مواعظه وإذا خرج من المسجد انتهت العبادة ورجع إلى غيه وفسوقه.
أيها الإخوة الأحبة، إن للعبادة مفهومًا آخر أعمّ وأشمل من الصلاة والصيام، إنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، لقد أفسح الإسلام مجال العبادة ووسع دائرتها بحيث شملت أعمالاً كثيرة لم يكن يخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقربه لله.
إن كلّ عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات ما دام قصد فاعلة الخير ومصلحة إخوانه المسلمين، كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون أو يخفف به كربة مكروب أو يضمد به جراح منكوب أو يتبرع له ببعضٍ من دمه أو يسدّ به رمق محروم أو يعين به مظلومًا أو يقضي به دين غارم مثقل أو يهدي حائرًا أو يعلم جاهلاً أو يدفع به شرًا عن مخلوق أو أذى عن طريق أو يسوق إحسانًا لحيوان كل ذلك يعتبر عبادة مقربة إلى الله إذا صحت النية وكان موافقًا لكتاب الله وسنة نبيه ، فبالإضافة إلى أركان الإسلام الخمسة وأهميتها فإن بر الوالدين وصلة الأرحام وتربية الأولاد والوفاء بالعهود إلى آخر مجامع الأخلاق والأعمال ومحاسنها هي كلها من العبادة لا بعضها فقط، والأحاديث والنصوص في بيان هذا كثيرة، أكثر من أن نحصيها في هذا المقام، ويروي لنا النبي مشهدًا من المشاهد البديعة يوم القيامة في صورة حوار بين الله وعباده ليوضح لنا أهمية هذا النوع من العبادة فقال: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا ربِّ، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي)) رواه مسلم. ومن الملاحظ أن زيارة المريض وإطعام الطعام وسقيا الماء من الأمور الاجتماعية التي يحثّ عليها الإسلام كثيرًا، وهي من أفضل العبادات.
إن الإسلام لا يستحب هذه الأعمال فقط، بل دائمًا يدعو إليها ويأمر بها، فعن أبي ذر الغفاري قال: سألت رسول الله : ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: ((الإيمان بالله))، قلت: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟ قال: ((أن ترضخ مما خولك الله)) ـ يعني تعطي مما ملكك الله ـ قلت: يا نبي الله، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟ قال: ((يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر)) ، قلت: فإن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال: ((فليعن الأخرق)) ـ وهو الجاهل الذي لا يحسن صنعة، يعينه على تعلم صنيعة ـ قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟ قال: ((فليعن مظلومًا)) ، قلت: يا نبي الله، أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مظلومًا؟ قال: ((ما تريد أن تترك لصاحبك خيرا، ليمسك أذاه عن الناس)) ، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟ قال: ((ما من مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة)) رواه البيهقي.
ومن هذا الحديث نعلم أن الإسلام لم يخصّ طائفة من الناس بالعبادة، بل الجميع له عبيد، فلم يجعل العبادة مالية فقط فينفرد بها الأغنياء، ولا بدنيه فيختص بها الأقوياء، ولا ثقافية علمية فيختص بها العلماء والفقهاء، ولا قتالية فيختص بها المقاتلون والمجاهدون، بل جعلها سبحانه عامة لكل إنسان يستطيع أن يؤدّيها حسب قدرته وطاقته.
فتصور ـ أخي المسلم ـ أن مسحك على رأس اليتيم عبادة تأخذ بها أجورًا كثيرة، وصلتك رحمك وبرك بوالديك عبادة، وقضاء حوائج العباد عبادة، فمعنى ذلك أن كل حركة لصالح إنسان أو حيوان مهما كان تعتبر عبادة ما دامت لله ومن أجل الله وتتمشى مع أوامر الله. فالإنسان الحريص على طاعة ربه والباحث عن الأمور والأعمال الصالحة يستطيع مثلاً بعد أن يصلي العصر أن يعود مريضًا أو يزور صديقًا أو قريبًا أو يتبع جنازة ويعود إلى منزله قبل المغرب وقد كتب له جميع وقته الذي قضاه عبادة مع أنه ما عمل من العبادات المعروفة سوى صلاة العصر.
إن هذه سعادة كبرى وتجارة عظمى غفل عنها كثير من الناس وحرموا نفعها في أيامنا هذه إلا من وفقه الله وأدرك أهمية العمل الاجتماعي، وقد قال رسول الله فيما رواه الشيخان: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). وهذا التعاطف وهذا التراحم والتوادّ بين المسلمين من أهم أنواع العبادة، ولو عمل به الناس لما وجدنا هذه المشاكل وهذا التنافر بين الأقارب والإخوان في كل مكان.
مما سبق ذكره وتوضيحه يظهر لنا شمول وعموم معنى العبادة، وأن الأعمال العادية كذلك يمكن أن تتحول إلى عبادة، ولكن بتحوير وتحويل بسيط في النية، فمثلاً الذي يأكل الطعام يقوم بأمر عاديّ يوميّ، ولكن لو حوّل النية وجعل تناول الطعام لتقوية نفسه للعبادة وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون أكله وهضمه للطعام عبادة، والذي يعمل لكسب معاشة يقوم بعبادة بشرط أن يكون العمل مشروعًا لا محرمًا ويحسن النية وأن يؤدي العمل بإتقان وإحسان، يقول الحبيب : ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذلك بشرط التزام حدود الله فلا يظلم ولا يخون ولا يغشّ، ويجمع جميع هذه الشروط كلمتان وهي إخلاص النية واتباع الكتاب والسنة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم الوهاب، الرحيم التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، يحب التوابين والمتطهرين، ويغفر للمنيبين والمستغفرين، ويقيل عثرات العاثرين، ويقبل اعتذار المعتذرين، فله الحمد كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه سبحانه وتعالى، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، إن دروب الخير كثيرة، وحوائج الناس متنوعة، يستطيع كل إنسان أن يستفيد منها بعبادة تقربه إلى الله، ولا تحتاج منه لجهد كبير كإطعام جائع وكسوة عاري وعيادة مريض وإعانة عاجز، تطرد عن أخيك همًا وتزيل عنه غمًا وتواسي أرملة وتشكر على إحسان وتغفر الإساءة، كل ذلك تكافل في المنافع وتضامن، فإن كنت لا تملك هذا ولا هذا فادفع بكلمة طيبة، وإلا فكفّ أذاك عن الناس، فتكون قد عبدت الله بما شرع وأمر.
أيها الأحبة في الله، إن الإنسان ليأتي زوجته ويقضي منها وطره ويكون له أجر بشرط استحضار النية فينوي رضا ربه وإعفاف نفسه وغض بصره وتحصيل الذرية الصالحة التي يكون منها العالم العامل والمجاهد في سبيل الله والسائر برضوان الله والأنثى التي تصبح أمًا فيما بعد تنجب العالم والمجاهد والأم كذلك ويكثر بهذا أمة النبي الخاتم الذي يقول: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) رواه مسلم.
يتضح لنا بعد هذا كله خطأ المقولة التي يتداولها بعض الناس وهي قولهم: (ساعة لربك وساعة لقلبك)، فالوقت عند هذا القائل قسمان،: قسم يصلي فيه ويصوم وقسم آخر ينسى ربه والعياذ بالله فيه وقد يعصيه مدعيًا بأن الحياة كذا، وهذه جريمة كبرى يجب الإقلاع عنها، فإن الأوقات كلها لله بشرط حسن النية والاتباع لكتاب الله وسنة نبيه ، فلقد أعطى الإسلام الأجر والثواب حتى على الجماع والاستمتاع الحلال وعلى ترويض الفرس واللعب مع الزوجة، وقد كان أبناء الصحابة يتصارعون أمام النبي ويرمون النبل أمامه وبين يديه، يفهم من ذلك أن العبادة ليست صلاة وصيام وزكاة فقط، بل كل ما يفعل من أجل إخوانك المسلمين وهو موافق لشرع الله يعتبر عبادة مأجورا فاعلها.
ثم صلوا وسلموا على صفوة خلق الله كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من الكفرة والملحدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5618)
النعم وشكرها
الإيمان
خصال الإيمان
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
18/7/1422
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى. 2- صور من نعم الله تعالى. 3- الشكر صفة الأنبياء. 4- فضل تذكر النعم. 5- حقيقة الشكر. 6- المصائب نعمة. 7- آلات الشكر. 8- التحذير من كفر النعم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بنعم كبيرة وخيرات عظمى، أنعم علينا بالإسلام نستظل بظله في الدنيا وننعم بآثاره في الآخرة، أنعم علينا بعقل نميز به الطيب من الخبيث والنافع من الضار، وبنعم لا تحصى، قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، فإن الإنسان منا لو أحسن إليه أحد من الناس فأخرجه من ضائقة أو قضى له حاجة أو عاونه في أمر فإنه لا يعرف كيف يشكره ويرد جميله، بل يقول له: إني عاجز عن الشكر، هذا مع عبد من العباد وفي أمر يحصل على قلة وقد لا يتكرر مرة أخرى، فكيف يكون موقفنا مع رب الأرباب ذي الطول والحول العزيز الوهاب والذي يقول: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، ويقول: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، ويقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 13].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه لا سبيل لعدّ وحصر نعمه، فهي كثيرة متتابعة، لكننا سنعيش مع بعض منها لنشكره جل وعلا حيث يقول: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 145]، والشكر طريق الزيادة، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 8].
ومن أعظم النعم نعمة الإسلام وإكمال الدين إذ بها صلاح الدارين، ويمتن المولى علينا فيقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]. ومن النعم الكبرى علينا أيضًا نعمتا الأمن من الخوف والإطعام من الجوع، ولا يعرف قدر هذا إلا من فقدها، فانظروا حولكم فكم من حروب دمرت ونسفت، وكم من مجاعات أكلت وأبادت، والعالم يغلي من حولكم بكل أنواع الخوف والقلق والجوع، فاحمدوا الله على ذلك. ومن النعم التي يجب أن نستشعرها دائمًا اكتمال حواسنا من سمع وبصر وأفئدة، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الملك: 23]. ومن نعمه الظاهرة سعة ذات اليد، فالنبي يقول: ((من أصبح منكم آمنا في سرية معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) ، فليس منا اليوم من عنده قوت يومه فقط، بل قد يكون قوت أسبوعه أو شهره، بل قل: سنته أو سنواته. ولا ننسى نعمة الزوج والذرية إن صلحت... إلى آخر النعم الكثيرة.
فاتقوا الله أيها الإخوة المؤمنون، واشكروا نعم الله إجمالاً وتفصيلاً، فإنه لا زوال لها أبدًا إذا شكرت، بل ولا بقاء لها إذا جحدت، اشكروها فكلما شكرت نعمه تجدد بشكرها أعظم منها، اشكروها فخير ما تحلى به أنبياء الله شكرهم لنعم الله عليهم، يقول سبحانه وتعالى عن نبيه نوح عليه السلام: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء: 3]، وعن نبيه سليمان عليه السلام: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل: 19]، ويقول نبينا محمد حينما قيل له بعد أن تفطرت قدماه من قيام الليل: لماذا تجهد نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال : ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)).
وإن من شكر النعم ـ أيها الإخوة ـ التحدث بها على وجه الاعتراف بها لله، لا تطاولاً وفخرًا على من حُرِمَها، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]. إن من شكرها أن يرى أثرها على الإنسان في إنفاقه وصلته وبره. وإن من شكرها تذكرها، فليتذكر كل منا ـ أيها الأحبة ـ ما به من نعمه قد حرمها غيره، ليتذكر من كان معافى من يتقلب على ظهره وبطنه من شدة الألم، ليتذكر صاحب السمع مثلاً من فقد سمعه وصاحب البصر من فقد بصره وصاحب المال والغنى من لا مال عنده لينفقه، يقول أحد الصحابة: أتيت رسول الله وأنا قشف الهيئة ـ أي: رث ـ قال: ((هل لك من مال؟)) قلت: نعم، قال: ((من أي المال؟)) قلت: من كل من الإبل والخيل والرقيق والغنم، قال: ((فإذا آتاك الله مالاً فلير عليك؛ فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده دون عجب ولا غرور أو كِبْر)).
وليحذر كل صاحب نعمة كل الحذر أن يغترَّ بها وأن ينسبها إلى غير المنعم بها، فإنها وإن كانت في حد ذاتها نعمة إلا أنها ابتلاء واختبار يختبر بها مدى تقبل هذا الإنسان لهذه النعمة وشكره عليها، وإلا تصبح هذه النعمة نقمة وبلية، فشكر النعمة الحقيقي لا بد أن تتوفر فيه ثلاثة شروط لينمو ويزداد: أولاً: الإقرار بالنعمة للمنعم سبحانه وتعالى، ثانيًا: نسبتها إليه وحده، ثالثًا: بذلها وإنفاقها فيما يحب.
أما من ينسب النعمة التي حصل عليها إلى نفسه وإلى ذكائه وحسن تدبيره وتصرفه سواء كانت مالاً أو غيره فقد كفر هذه النعمة، قال تعالى: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الزمر: 49-52].
وقد يعجب البعض إنْ عَلِمَ أن نعم الله لا تنفك عنا حتى في المصائب والنكبات إذا صبرنا واحتسبنا، فإن النعمة في المصيبة تكون في رفع الأجر ووضع الوزر وكونها ليست في الدين وكونها يدفع بها بلاء أعظم منها وكونها مقدرة ومكتوبة عليك وقد وقعت وانتهت.
إنها نعم كثيرة عظيمة، فكيف السبيل إلى حفظها؟ إنه ـ يا عباد الله ـ الشكر، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، والشكر يكون بالجنان واللسان وبالجوارح، بالجنان بإسناد النعمة إلى منعمها وبقصد الخير وإضماره لكافة الخلق، عن عائشة قالت: (ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها، وما أذنب عبدًا ذنبًا فندم عليه إلا كتب الله له مغفرة قبل أن يستغفره، وما اشترى عبدًا ثوبًا بدينار أو نصف دينار فلبسه فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى غفر له) أخرجه الحاكم، وشكرٌ باللسان بقوله: الحمد لله في مبدأ أمرنا، فكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع أي: ناقص، وفي آخر أمرنا إذ يقول المصطفى : ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليه)) رواه مسلم، ونشكره في سائر أحوالنا، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ: 13]، ويكون شكر الله بجوارحنا بعبادته كما أمر ابتعادا عن المنهيات وفعلاً للأوامر.
إنه لا يمكن أن نؤدي شكر الله، ولكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهذه نعمة أخرى لنا، فهو سبحانه أنعم علينا بما هو من قدْرته، ويقبل شكرنا على قدر طاقتنا وقدرتنا، فلنرِ الله من أنفسنا خيرًا.
لك اللهم الحمد أولاً وآخرًا، ونشكرك اللهم ولا نكفرك.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرد بالربوبية على الدوام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله قام بشكر ربه حقّ القيام، صلوات ربي عليه وأزكى تحية وسلام.
أما بعد: فإننا لما عرفنا مقام الحمد والشكر وأهميته نتعرض لمقام ـ أعيذ نفسي وإياكم منه ـ وهو مقام كفران النعم، فبقدر عظم فضل الشكر يكون عظم جرم الكفر، وأعني بالكفر هنا كفران النعم.
إن من كفر النعم ازدراء نعمة الله علينا وانتقاصها، وهذا من خصال النفس الدنيئة الطماعة التي لا تشبع ولا تقتنع، بل تحب أن تجمع وتجمع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا أحب أحدكم أن يعلم قدر نعمة الله عليه فلينظر إلى من هو تحته، ولا ينظر إلى من فوقه)) أخرجه ابن المبارك، وعنه كذلك قال: قال رسول الله : ((انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله)) أخرجه مسلم.
فينبغي أن ننظر إلى من هو أسفل منا وذلك في أمور الدنيا، أما في أمور الدين فننظر إلى من هو أعلى منا؛ لأن الدنيا ضيقة والآخرة فسيحة وتحتاج إلى تنافس كما قال الله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26].
ومن مظاهر كفران النعم من يعطيه الله مالاً فلا يخرج حقه وزكاته، والذي يعطيه الله جاهًا ومنصبًا فيستغله في أغراضه الخاصة وفي إذلال الناس، والذي يسرف في مأكله ومشربه فيلقي بفضولها في الطرقات والشوارع، كل واحد من هؤلاء يمارس نوعًا من كفران النّعم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي البيت فرأى كسرة ملقاة، فمسحها فأخذها ثم أكلها وقال: ((يا عائشة، أكرمي كريمًا، فإنها ما نفرت عن قوم قط فعادت إليهم)) ، بمعنى أن هذه النعم تحتاج للإكرام وعدم رميها في المزابل أو الطرقات، وإلا نحرم منها ونفقدها.
وقد يظن الجاهل أن تقلبه في نعم ربه دليل رضاه عليه وإن أسرف وعصاه، وهذا غير صحيح، يقول سبحانه وتعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182]، قال بعض المفسرين في معنى هذه الآية: "أي: نُسبغ عليهم النعم ونمنع عنهم الشكر"، وقال مفسر آخر: "كلما أحدثوا ذنبًا أحدثت لهم نعمة فينسون الشكر"، وعن عقبة بن عامر : ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ، ثم تلا رسول الله فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44].
فنسأل الله بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم شاكرين لنعمه، مثنين بها عليه، إنه حسبنا ونعم الوكيل.
ثم صلوا وسلموا على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، وألف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين...
(1/5619)
المقاطعة سبيل المدافعة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
8/2/1429
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إعادة نشر الرسوم المسيئة بالنبي. 2- ثمار المقاطعة. 3- الأدلة على شرعية المقاطعة. 4- فتاوى العلماء في المقاطعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فموضوع هذه الجمعة المباركة: المقاطعة سبيل منافحة وطريق مدافعة. ما سبب ذلك؟ ومن نقاطع؟ وما المقاطعة؟ وهل لها من ثمار؟ وما الأدلة على مشروعيتها؟
عباد الله، في يوم الأربعاء الماضي أعادت سبع عشرة صحيفة دنماركية نشر الرسوم الكريكاتورية المسيئة للنبي ، ما سبب ذلك؟ تقول الصحف الدانمركية: إنها أعادت نشر هذه الرسوم لتحتج على مزاعم ما زالت قيد الإثبات، تحدثت عن مؤامرة لاغتيال أحد رسامي الكاريكاتير، وكان رئيس الوزراء الدانماركي "أندرياس فوغ راسموسن" قد عبَّر عن قلقه مما يحدث، وأعرب قادة الجالية الإسلامية عن اندهاشهم وعدم تفهمهم لقرار الصحف الدانمركية بإعادة نشر ذلك. أي غباء هذا الذي حلَّ بالدنمرك؟!
هذه القضية المزعومة ما زالت على طاولة التحقيقات، ولو صدقوا في ذلك فمن أعلمهم أنّ مسلمًا قام بهذه المحاولة؟! ألا يمكن أن يكون أحد أعدائه؟! ولو ثبت أنه مسلم فهل الخطأ من كل مسلم يسوِّغ الإساءة للرسول ؟! هل يقبل هؤلاء أن نرد على خطأ رجل نصراني بالإساءة إلى عيسى عليه السلام؟! لا يقبلون ولا نقبل؛ فنحن أولى بعيسى منهم.
عباد الله، إن من سنن الله تعالى الصراع بين الحق والباطل والنيل من المرسلين ومن سار على دربهم، أما قال الله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ [الحجر: 10، 11]؟!
إني لا أريد أن أتحدث عن حكم الإساءة للنبي ، لا أريد الحديث عن مغبة هذا الفعل وأنّه قد علم بالاستقراء أنه ما من أحد نال من النبي إلا وقد جعله الله عبرةً لمن خلفه، فهذا موضوع سأرجع إليه بعد أن يحلَّ بأس الله في القوم الفاسقين بإذنه تعالى، ولكني أريد الحديث عن واجب أملكه أنا وأنتَ وأنتِ: سلاح الشعوب سلاح المقاطعة. فما المقاطعة؟
جاء في وثيقة المؤتمر العالمي لنصرة النبي ما نصه: "عملية توقف وقطع جمهور الشعب صلة التعامل مع سلعة أو خدمة لدولة أو شركة تُسيء أو تُلْحق الضَّرَرَ بالدين أو الأمَّة أو الوطن".
وهل للمقاطعة من ثمار؟ الإجابة: وهل يشك عاقل في ذلك؟! يكفي أن تعلم أنّ خسائر شركة منتجات مشتقات الحليب (آرلا) أكبر مصدر للشرق الأوسط كانت تبلغ أكثر من مليون دولار يوميًا بعد إعلان المقاطعة الأولى، مما جعل هذه الشركة تضطر مؤقتًا للاستغناء عن 125 موظفًا.
إنّ هذا السلاح قد عرف من قديم، وكلنا يعلم عن مقاطعة قريش لبني هاشم، ولقد استمرت المقاطعة ثلاث سنوات. والمقاطعة كانت من أسلحة الهند الفتاكة، فبريطانيا لم تصمد كثيرًا بعد المقاطعة التي أعلنها غاندي. ولما حرم الملك فيصل رحمه الله أمريكا وبريطانيا من نفط بلاده تأثروا كثيرًا بذلك كما لا يخفى على أحد.
فما الأدلة على شرعية المقاطعة؟ الأدلة أكثر من أن يتسع لها مقام خطبة، وسأجتزئ منها ستةً:
الدليل الأول: قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف: 59، 60].
إن يوسف عليه السلام جعل منع الطعام عن إخوته وسيلة لجلب أخيه، وهو تلويح واضح بسلاح المقاطعة الاقتصادية، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا جاء في شرعنا ما يثبته بلا خلاف بين العلماء، وهذه جاء في شرعنا ما يدل لها كما سيأتي بيانه.
الدليل الثاني: قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73].
فقد أوجب على المؤمنين مجاهدة الكفار والمنافقين، ومن المعلوم أن في جهادهم استباحة لدمائهم وأموالهم، فإلحاق الضرر بهم عن طريق المقاطعة الاقتصادية مشروع من باب أولى.
الدليل الثالث: قال تعالى عن المؤمنين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغيظ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120].
فدلت الآية على أنّ إغاظة الكفار مشروعة؛ ولذا فإن النبي جعل جمل أبي جهل ـ وكان قد غنمه يوم بدر وفي أنفه بُرَة (حلقة فضة) ـ في هديه يوم الحديبية؛ إغاظةً للمشركين [1].
الدليل الرابع: قوله تعالى: والذين إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى: 39].
قال الطبري رحمه الله: "والذين إذا بغى عليهم باغ واعتدى عليهم هم ينتصرون" [2]. والمقاطعة سبيل انتصار لنبينا.
الدليل الخامس: عن أنس قال: قال رسول الله : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) رواه الإمام أحمد.
والمقاطعة الاقتصادية تدخل في مفهوم الجهاد بمعناه العام، نظرًا لما تتضمنه من إتعاب النفس بحرمانها من بعض المكاسب والملذات، وذلك من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين من المسلمين. وأرشد إلى دلالة الحديث على ذلك العلامة الجبرين حفظه الله.
ومن أقوى الأدلة أنّ النبي بعث خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) فَقَالَ: عِنْدِي ـ يَا مُحَمَّدُ ـ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فجاءه وكرر سؤاله وكرر ثمامة كلامه، حَتَّى كَانَ مِنْ الْغَدِ فكرر رسول الله سؤاله وأجاب ثمامة بما أجاب به من قبل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ)) ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لا وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلا وَاللَّهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ. رواه البخاري ومسلم. فأقره النبي ولم ينكر عليه.
وما أريد أن أخلص إليه هنا ليس وجوب مقاطعة كلّ كافر؛ فإن النبي عامل الكفار، وإنما أريد أن أدلل على أن من قاطع الدنمرك التي أساءت لنبينا غَيرةً ونصرة له فهو مأجور إن شاء الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] انظر: زاد المعاد (3/301).
[2] جامع البيان (21/547).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فهذه فتاوى لبعض أهل العلم تنصّ على ما سبق ذكره.
فقد سئل الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله بعد الإساءة الأولى من الدنمرك: هل يؤجر من قاطع بنية نصرة النبي ؟ فقال: نعم [1]. وهذا ما قرره الشيخ الجبرين حفظه الله.
وجاء في موقع الشيخ الفاضل محمد صالح المنجد حفظه الله ووفقه: من قاطع بضائع الكفار المحاربين وقصد بذلك إظهار عدم موالاتهم وإضعاف اقتصادهم فهو مثاب مأجور إن شاء الله تعالى على هذا القصد الحسن، ومن تعامل معهم متمسكًا بالأصل وهو جواز التعامل مع الكفار ـ لا سيما بشراء ما يحتاج إليه ـ فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى، ولا يكون ذلك قدحًا في أصل الولاء والبراء في الإسلام.
وقد سئلت اللجنة الدائمة: ما حكم ترك المسلمين التعاون بينهم بأن لا يرضى ولا يحب أن يشتري من المسلمين، ويرغب في الشراء من الكفار، هل هذا حلال أم حرام؟ فأجابت: الأصل جواز شراء المسلم ما يحتاجه مما أحل الله له من المسلم أو من الكافر، وقد اشترى النبي من اليهود، لكن إذا كان عدول المسلم عن الشراء من أخيه المسلم من غير سبب من غش ورفع أسعار ورداءة سلعة إلى محبة الشراء من كافر والرغبة في ذلك وإيثاره على المسلم دون مبرر فهذا حرام لما فيه من موالاة الكفار ورضاء عنهم ومحبة لهم، ولما فيه من النقص على تجار المسلمين وكساد سلعهم وعدم رواجها إذا اتخذ المسلم ذلك عادة له، وأما إن كانت هناك دواع للعدول من نحو ما تقدم فعليه أن ينصح لأخيه المسلم بترك ما يصرفه عنه من العيوب، فإن انتصح فالحمد لله، وإلا عدل إلى غيره، ولو إلى كافر يحسن تبادل المنافع ويصدق في معاملته" اهـ.
وسئل الشيخ عن دورنا حيال الاستهزاء بنينا فقال: "وأما دورنا في هذا:
1- فالواجب علينا الإنكار بشدة، كلٌّ حسب ما يستطيع، بإرسال رسالة أو مقالة أو اتصال هاتفي بحكومتهم وخارجيتهم وصحافتهم.
2- مطالبة هؤلاء بالاعتذار الجاد الواضح، لا الخداع وتبرير الجريمة الذي يسمونه اعتذارًا، فلا نريد اعتذارًا لإهانة المسلمين، وإنما نريد إقرارًا بالخطأ واعتذارًا عن ذلك الخطأ.
3- مطالبتهم بمعاقبة المجرمين على جرمهم.
4- ومطالبتهم أيضًا بأن تكفّ حكوماتهم عن العداء للإسلام والمسلمين.
5- ترجمة الكتب التي تدعو إلى الإسلام بلغة هؤلاء، والكتب الذي تعرّف بالإسلام ونبيّ الإسلام، وبيان سيرته الحسنة العطرة.
6- استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية تدافع عن النبي وتذب عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.
7- كتابة المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف ومواقع الإنترنت باللغات المتنوعة.
8- وأما مقاطعة منتجاتهم فإذا كانت المقاطعة لها تأثير عليهم ـ وهذا هو الواقع ـ فلماذا لا نقاطعهم ونبحث عن شركات بديلة يمتلكها مسلمون؟!
9- التصدي لهذه الحملة الشرسة التي تنال من الإسلام ونبيّه ببيان حسن الإسلام وموافقته للعقول الصريحة والرد على شبهات المجرمين.
10- التمسك بالسنة والتزام هدي النبي في كل شيء والصبر على ذلك، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.
11- الحرص على دعوة هؤلاء، فإننا وإن كنا ننظر إليهم بعين الغضب والسخط والغيظ، إلا أننا أيضًا ننظر إليهم بعين الشفقة عليهم، فهم عما قريب سيموتون ويكونون من أهل النار إن ماتوا على ذلك، فندعوهم إلى الإسلام والنجاة رحمة بهم وشفقة عليهم. ونسأل الله تعالى أن يعلي دينه وينصر أولياءه ويذل أعداءه.
أسأل الله أن يرينا عجائب قدرته فيمن آذى نبينا...
[1] نقله عنه الشيخ إبراهيم الرحيلي حفظه الله المحاضر بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
(1/5620)
المنح من محنة الدنمارك
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الفتن والمحن. 2- بعض فوائد هذه الهجمة الشرسة. 3- عداء الدانمارك للإسلام والمسلمين. 4- موقف المنافقين من هذه الحادثة. 5- سوء عاقبة المستهزئين بالنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، مع مرور السنون والأعوام وتعاقب الليالي والأيام تكثر على المسلمين الفتن وتعظم المحن، فيرفق بعضها بعضًا، ولا تقوم الساعة حتى يتعاقب على المسلمين فتن ممحصة وابتلاءات ماحقة، يمحق الله بها الكافرين ويثبت بها المؤمنين.
وهذه الفتن والمحن ـ عباد الله ـ وإن كان ظاهرها الشر والأذى إلا أنها تحمل في طياتها من المنح والعطايا ما تعجز عنه الأفهام حينا، وتقف مشدوهة أمامه حينًا آخر.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض الْخلق بالنعم
وأصدق من ذلك قول الله سبحانه: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]، وقال : ((عجبًا لأمر المؤمن أن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن)) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله.
عباد الله، إن ما وقع من الاستهزاء بنبينا محمد من دولة الدنمارك الحاقدة أثار حمية المسلمين لله تعالى ولرسوله، وأيقظهم من سباتهم، وبصرهم بأعدائهم، فهي طعنة آلمتنا لكنها أيقظتنا، وقد قال الله تعالى في حادثة الإفك التي هي صورة من صور أذيته : لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور: 11].
فهذي أمة الإسلام ضجت وقد تجبى المنى بالنائبات
وقد تشفى الجسوم على الرزايا ويعلو الدين من كيد الوشاة
وقد تصحو القلوب إذا استفزت ولفح الثأر يوقظ من سبات
عباد الله، بعض المنح في طيات محنة استهزاء دولة الدنمارك بنبينا محمد :
من أولى هذه المنح في طيات هذه المحنة هي تغير نظرة الغرب للمسلمين، لقد كان الغربيون ينظرون إلى الأمة الإسلامية وكأنها الرجل المريض الذي أصيب بالشلل، فمهما ضربته فلن يتأوه ولن يكون له رد فعل، لكن الموازين انقلبت وأثبتت هذه الحادثة الدنيئة أن أمتنا أمة عظيمة وأنها إذا مرضت فإنها لا تموت، وفيها رجال يذودون بكل ما أوتوا من قوة دون نبيهم الكريم ، وأن أمتنا فيها خير كثير ولكنها تعيش فترة من التخدير والخمول، لكنها إذا استيقظت تحركت كالبركان، وهذا ما رأيناه من التسابق في المساهمة والبذل وما نسمعه من استنفار الأمة كلها والتحرك في جميع المجالات.
لقد وحدت هذه الأزمة ـ عباد الله ـ صفوف المسلمين، فرأينا ولله الحمد تكاتف المسلمين وتبنيهم لنفس المواقف وإن اختلفت البلدان وتعددت اللغات وتنوعت الجنسيات. ولقد أثارت وقفة المسلمين جميعًا نصرة لنبيهم ودفاعًا عن حبيبهم، أثارت تلك الوقفة شجون الباحثين الغربيين لدراسة ظاهرة حب المسلمين لرسولهم.
الوقفة الثانية عباد الله: لقد كنا ولا زلنا إذا رأينا ما يتمتع به الغرب الكافر من عابرات للقارات وأنواع الدبابات وصنوف الصواريخ والمدمرات تملك بعضنا اليأس، وأصابه القنوط، يتساءل ونحن معه عن ذلكم السلاح الذي يمكن للعرب والمسلمين أن يؤذوا به عدوهم من غير أن يعلنوا الحرب والمعاداة، وجاءت هذه المحنة، وأبى الله إلا أن يظهر للمسلمين ما يغيظون به عدوهم ألا وهو المقاطعة.
إن المقاطعة هي السلاح الذي جعل الغرب يستنفر عن بكرة أبيه، فراحوا يعقدون المؤتمرات ويجرون المحادثات رغبة في إيقاف هذه المقاطعة، لقد خسروا بسببها ما بنوه في سنوات طويلة. لقد أراد الغرب دومًا أن لا ينتج المسلمون سلعهم الأساسية، وأن يكونوا على الدوام منجذبين إلى البلدان المنتجة التي تتحكم بهم وبقوتهم، وهم قد نجحوا إلى حد كبير في ذلك، غير أنهم لم يفطنوا إلى هذا الانجذاب وهذه الأسواق المفتوحة قد يصبح إغلاقها لعارض كهذا كارثة تحل بالدول المنتجة.
ألا فاحمدوا الله ـ عباد الله ـ على أن رزقكم ما تنهكون به عدوكم، وتزعزعون اقتصاده إن أنتم صبركم على هذا الطريق وتمسكتم به جميعًا، وقد جعل الله سبحانه فيما ينتجه أبناء بلاد المسلمين فرجًا ومخرجًا، ففي مقاطعتنا دعم لإخواننا التجار، وفيها أيضًا إنهاك لعدونا وإشعار له بأن لنا حرية الاختيار إذا كان لهم حرية التعبير.
فلنتجمع يا حماة الدين قاطبة لنصرة الدين فِي جد من العمل
وأيسر الأمر أن تلقى بضائعهم ردت إليهم جزاء الْمارق الثمل
الوقفة الثالثة عباد الله: لقد ساهمت هذه المحنة في إقبال الغرب عمومًا والدنماركيين خصوصًا على تعلم الإسلام واكتشاف ثقافة المسلمين ومحاولة التعرف على هذا الرجل الذي ملأ الدنيا بأكملها وشغل الناس. لقد ذكرت التقارير الصحفية في الدنمارك أن كل نسخ القرآن الكريم التي كانت متوفرة في المكتبات الدنماركية قد نفدت الآن بسبب الإقبال الكبير من الدنماركيين على اقتنائه وقراءته، بينما أكد تقرير آخر أن الإسلام بعلومه المتنوعة ونبيه الكريم في طريقه لأخذ مكانة خاصة به حسب ما أفاد به أحد المتخصصين في القانون. وفي السياق ذاته أعلن قسم علوم اللاهوت في جامعة كوبنهاجن عن نيته توسيع دائرة اهتماماته ليضم قسم الدراسات الإسلامية ليزود الأشخاص الراغبين في الإسلام بما يكفيهم من معلومات. ولقد صرح أحد الدعاة وأئمة المساجد هناك أن هذه المحنة قدمت الدعوة هناك سنوات للأمام، ولو ظل 100 داعية يتحدثون عن الإسلام في الدنمارك 10 أعوام ما تركوا مثل ما تركته هذه المحنة من الأثر.
أما في خارج الدنمارك فقد أعلن مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) ـ وهو أكبر المنظمات المعنية بالدفاع عن صورة الإسلام والمسلمين لدى وسائل الإعلام الأمريكية ـ عن تلقيه أكثر من 1600 طلب من أمريكيين وكنديين يطلبون الحصول على مواد تعريفية عن الرسول ، وذلك خلال 48 ساعة فقط من إطلاق المجلس حملة تعريفية بالرسول.
عباد الله، إن من المنح التي ضمنها المولى سبحانه هذه المحنة والفتنة أن اطلعنا جميعًا على حقيقة بلد الدنمارك وعنصريته وعدوانه للإسلام والمسلمين، حتى على الذين يعيشون على أرضه بل ويحملون جنسيته. لقد أظهرت دراسة أجراها المركز الأوربي لمراقبة العنصرية والعداء للأجانب التابع للاتحاد الأوربي أن الدنمارك تقع في المرتبة الثانية في أوربا الموحدة بعد بلجيكا في عدم التسامح إزاء المهاجرين والأقليات، ولا غرابة في ذلك يا عباد الله، فها هي بعض ممارستهم تجاه إخوانكم المسلمين هناك:
أولاً: لم تعترف دولة الدنمارك حتى الآن بالدين الإسلامي، رغم أنه الديانة الثانية من حيث عدد السكان، حيث بلغ تعداد المسلمين ربع مليون مسلم، في حين تعترف تلك الدولة البغيضة بديانة السيخ التي يبلغ عدد المنتسبين لها 170 فردا فقط. والاعتراف بالديانة رسميًا يحقق لهم أحقية إقامة دور العبادة وبناء المساجد التي يمنعون من بنائها في بعض الأقاليم.
إن دولة الدنمارك تفتقر إلى المساجد، ويرجع ذلك الموقف المتحفظ للسلطات الدنماركية إزاء السماح بإنشاء دور العبادة للمسلمين، فمعظم الأماكن المخصصة للصلاة مستأجرة وليست مملوكة للمسلمين، وهي لا تعدو أن تكون مجرد مستودعات قديمة وشقق سكنية يجري إعدادها للصلاة ويتم تسجيلها بوصفها مقارًا لجمعيات ثقافية إسلامية لا أكثر.
عباد الله، يتم مضايقات إخوانكم المسلمين على مستويات عديدة ومنها:
مستوى الأحوال الشخصية: يتم تحديد سن الزواج بـ24 سنة بهدف وضع المسلمين في حرج، والتضييق عليهم ليدفعوهم لممارسة الرذيلة، كما أن القانون هناك لا يسمح بتعدد الزوجات.
أخواتنا هناك يضيَّق عليهن في مسألة ارتداء الحجاب، ولا يمكن أن يتسلم المسلم عملاً قياديًا في ذلك البلد.
أما مناهجهم ـ عباد الله ـ فقد صرحت الدراسة التي أعدها المركز الأوربي في عام 2001م أنها تقدم صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين مما يعزز الانطباعات السلبية المستقرة في الوعي الجمعي للمواطنين الدنماركيين.
عباد الله، حين بدأت المحنة تنادى بعض الكتاب والإعلاميين والصحفيين بالرفق بهم فهم مسالمون ولم يظهر لنا منهم العداوة في السابق، لكن إخواننا هناك أثبتوا لنا أن عداوتهم للإسلام ليست جديدة، بل متأصلة لدى ساستهم وحكومتهم، فها هو أحد الساسة السياسيين لديهم يدعو في عام 2000م إلى طرد المسلمين من الدنمارك وتجميعهم في معسكرات، ويدعو كذلك إلى بيع 600 ألف فتاة من فتياتهن في سوق النخاسة مقابل مبالغ مالية تذهب إلى خزينة الدولة، وفي تصريح آخر لنفس الرجل ينعت المسلمين بأنهم مجرمو العالم. وهذا سياسي آخر يرأس الاتحاد الدنماركي يصف الدين الإسلامي بأنه إيديولوجية شمولية بشكل مزعج للغاية. وهذا ثالث يقول: "هناك جوانب معيّنة من الدين الإسلامي لا يمكنني أن أقبلها، إنه من غير المناسب أن يتم قطع العمل أربع مرات يوميًا من أجل الصلاة". هذه بعض عداواتهم وما خفي كان أعظم، فأين أدعياء التسامح عن ذلك؟!
عباد الله، في حال الرخاء والأمن والاستقرار يظهر أدعياء الوطنية وحماة الدين والفضيلة، ولكن حين تحمل ساعة الشدة وتتوالى الفتن يتضح من بكى ممن تباكى. وهكذا في هذه المحنة تبين للناس أجمع من هم إخوان محمد وأتباعه حقًا، ومن هم أعداؤه وأتباع أعدائه صدقًا.
لقد ميزت هذه الفتنة الصفوف وأبرزت أعداءنا الذين من بني جلدتنا يتسمّون بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا، اعتدنا أن لا نفقدهم في كل حادثة تلمّ بالأمة الإسلامية، يثبطون العزائم ويضعضعون القوى، يتحدثون بخنوع وخضوع للغرب، يتلمسون له العذر وينافحون عنه بما لا ينافح هو عن نفسه، ذليلة أعناقهم للغرب، مرفوعة أنوفهم في وجه بني جلدتهم، سهامهم إلى قلوبنا مسوّمة، ورماحهم إلى صدورنا مصوّبة، وينعقون بما لا يسمعون إلا صدى لما يتردد في أروقة الدنمارك وأوروبا، في هذه الأزمة انزعجوا لما لمسوا من أحباء محمد انتصارًا وغيرة لم يألفوها، حصرت صدورهم أن يروا المجتمع بأكمله يهبّ لنصرة النبي والدفاع عنه ومقاطعة منتجات تلك الدولة البادئة.
لقد فشلت بعض مخططاتهم في إثناء المسلمين عن موقفهم، وصغرت صورهم أمام أسيادهم من الغرب حين تنكر الناس لهم ولجؤوا إلى أهل الإصلاح والمحبة الحقة.
أكرارًا على قوم كماة وفي وجه الأعادي كالبنات
وإن مس العدو مسيس قرح رفعتم بيننا صوت النعاة
و من يرجو بنِي علمان عونًا كراج الروح في الجسد الرفات
عباد الله، إن الإصلاح لا يأتي إلا من الأوفياء النصحاء، أما أتباع الدولار والدرهم ومن يأتون على أظهر الدبابات وتستقبلهم المأدبات في السفارات فهم الخونة لبلادهم والأعداء لشعبهم، وإن صورهم الإعلام بعكس ذلك.
ولعلك ـ أخي الكريم ـ أن ترفع رأسك قليلاً لتقلب ناظريك فيمن حولك من البلدان المضطهدة لتدرك من هم السبب في بلائها واحتلال أرضها، إنهم عملاء الغرب وحلفاؤهم في تلك البلاد الإسلامية.
عمي بصائرهم طمس مشاعرهم كأنهم فِي مراعي وهمهم غنم
فالشر منطقهم والغدر شيمتهم والخبث دينهم إن العدو هم
هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني بما فيهما من الآيات والحكمة...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما فريدا.
أما بعد: عباد الله، أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي ، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه؛ لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فاعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه؛ نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه، فحفروا له أعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه.
هذا نموذج لانتصار الجمادات للنبي ، وإليكم نموذجًا آخر في انتصار الحيوانات لنبي الأمة محمد : ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ما مختصره: أن جماعة من النصارى توجهت لحضور حفل تنصر أحد أمراء المغول، وفي الحفل تكلم أحد القساوسة، وأخذ ينال من الإسلام ويشتم النبي ، وكان هناك كلب مربوط في شجرة، فلما بدأ هذا الصليبي في سب النبي زمجر الكلب وهاج ثم وثب على الصليبي فخلصوه منه بسرعة، فتعجب الحاضرون وقال أحدهم: لعل هذا الكلب هاج لأنك شتمت هذا الرجل، فقال القسيس مستخفًا: بل لعله هاج لما رآني أحرك يدي ظنًا منه أني سأضربه، ثم قال لهم: أحكموا وثاقه ففعلوا، ثم عاود كلامه عن الرسول ، وهنا وثب الكلب من وثاقه وأطلق يعدو حتى أكب على عنق ذلك النصراني فنهشه نهشة شديدة، فما استطاعوا أن يخلصوه إلا بعد أن فارقت روح ذلك الصليبي جسده، فعندها أسلم من المغول نحو أربعين ألفًا لما رأوا غيرة الحيوانات على مقام رسول الله.
أخي، ها هي الحيوانات غارت، والجمادات انتصرت، ولم يبق إلا أنت، فأخبرني متى تغضب؟! إذا انتهكت محارمنا، إذا نسفت معالمنا، إذا ديست كرامتنا، إذا افترست شهامتنا، إذا سخرت أراذلنا ولم تغضب فأخبرني متى تغضب؟! إذا لله وللإسلام وللقرآن وللحرمات لم تغضب فأخبرني متى تغضب؟! متى التوحيد في جنبيك ينتصر؟! متى يستل هذا الجبن من جنبيك والخور؟! متى بركانك الغضبي للحرمات ينفجر؟! فلا يبقي ولا يذر.
عباد الله، هذه أزمة أمة تحتاج منا لمثابرة وصير وغيرة منظمة وحسن إدارة حتى تؤتي أكلها على أكمل وجه بإذن الله، وقد اجتمعت بالأمس بعض الجمعيات والشخصيات الإسلامية لمعالجة تداعيات هذه الأزمة، وحري بنا أن نسير وفق آراء علمائنا وأولي الحل والعقد فينا في المعلومة والفعل حتى نحقق بعضًا من حق نبينا.
عباد الله، صلوا على خير البرية ورسول البشرية نبينا محمد كما أمركم الله بذلك.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5621)
غلاء الأسعار من منظور شرعي
الأسرة والمجتمع, فقه
البيوع, قضايا المجتمع
ناصر بن سعود القثامي
الحوية
24/1/1429
جامع السناح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل شيء بقدر. 2- مفاسد الغلاء. 3- سدّ الشريعة الإسلامية لأبواب وأسباب الغلاء. 4- آداب البيع والشراء. 5- سبب الغلاء. 6- التحذير من الإسراف والتبذير والحث على الاقتصاد والقناعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى، فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واحذروا الدنيا فالعمر فيها قصير والطائع فيها قرير، سرورها إلى حزن، واجتماعها إلى فرقة، وصحتها إلى سقم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5].
عباد الله، إن ربكم سبحانه قدر المقادير، وقسم الأرزاق، وكتب الآجال، وجعل عباده متفاوتين في ذلك، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام: 165]، وما في الكون من حركة ولا سكون إلا بمشيئته وإرادته، وما في الكون من كائن إلا بتقديره وإيجاده، والدنيا دار الابتلاء والامتحان، العوارض فيها كالحر والبرد والشتاء والصيف، لا بد لعبد من الابتلاء، والله يبتلي عباده بالسراء كما يبتليهم بالضراء، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
وإن من الابتلاء ظهور الغلاء وارتفاع الأسعار؛ لما له من آثار سيئة تلحق الفرد والمجتمع، فبسبب الغلاء يعجز الفقراء، ويقصر ذوو البذل والعطاء، ويتضرّر المساكين والضعفاء، بسبب الغلاء تظهر المشاكل الاجتماعية والضغوط النفسية والأزمات الاقتصادية، بسبب الغلاء ينشأ الشح والطمع والأثرة والأنانية وحب الذات.
وإن الشريعة الإسلامية أوصدت كل الطرق الموصلة لهذه الظاهرة المشينة والبارقة المخيفة والمتسببة في رفع الأسعار، فأولى الأبواب الموصدة تحريم التلاعب بالأسعار على أساس الجشع والطمع والإضرار بالناس، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم فإن حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار)) أخرجه أحمد.
عباد الله، إن التلاعب بالأسعار الذي يؤدي إلى الجور والظلم وعدم تحقيق العدل والمساواة لهو أمر منكر تأباه النفوس الأبية والضمائر الإنسانية، وفي الشريعة المحمدية لا ضرر ولا ضرار.
مما حذرت منه الشريعة الإسلامية الكسب المحرم؛ كالذي يقوم على الغبن والغرر والإضرار بالناس والمغالاة واستغلال حاجة المساكين وضرورة المضطرين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به)).
مما أوصدته الشريعة مما قد يكون سببًا لغلاء الأسعار النجش، وهو رفع سعر السلعة أكثر مما تستحق ممن لا يريد شراءها ليخادع الناس بالمغالاة؛ ولذا جاء النهي عن رسولنا : ((ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يحقره)). وجاء وعيد الناجش شديدًا على لسان رسول الله بقوله: ((الناجش آكل ربا خائن)).
ومن الصور التي حرمتها الشريعة الإسلامية والتي قد تكون سببًا في رفع الأسعار بيع الحاضر على الباد، لقوله : ((لا يبع حاضر على باد)) ، كما نهت الشريعة عن تلقي الركبان خارج الأسواق، فقد جاء في الحديث: ((لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق)) متفق عليه. ومن الحكم في ذلك عدم الإضرار بالمستهلك لكثرة الوساطة بينه وبين السلعة، ولكي لا يُؤتى بالسلعة إلى الأسواق فتباع بأكثر من ثمنها المستحَقّ.
ومما حرمته الشريعة الإسلامية أشدّ التحريم وتوعدت عليه بالعقوبة العظيمة إنفاق السلعة بالحلف الكاذب؛ لأن الحلف الكاذب قد يكون سببًا في بيع السلعة بأكثر من ثمنها تغريرًا وتدليسًا وكتمًا وكذبًا على المشتري، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ، ومن الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة منفق سلعته بالحلف الكاذب.
ومما حرمته الشريعة الإسلامية مما قد يكون سببًا في رفع الأسعار الاحتكار، وهو حبس السلع عند حاجة الناس إليها لتشحّ من الأسواق فيغلو ثمنها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) أخرجه مسلم.
عباد الله، إن الشريعة الإسلامية أولت التجارة والتجار عناية كبيرة، بينت لهم حدود التعامل وقوانين البيع والشراء، وأباحت لهم الربح الحلال، وجعلت طلب الربح الحلال والسعي في الأرض قرين الجهاد في سبيل الله، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل: 20].
وفي المقابل حذرت التجار من التعسف والجور والظلم والشطط واستغلال حاجات الناس، حذرت التجار أصحاب الجشع والطمع والأثرة والأنانية والكذب والغش والخداع ورفع الأسعار على الناس بدواعي وهمية وصنائع مفتعلة وأعذار جوفاء وأقوال خرقاء بلا وازع ولا رادع منسلخين من الأخوة الإسلامية ومبادئ الرحمة الإنسانية، فجاء في الحديث عن رسولنا : ((يا معشر التجار، إنكم تبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق)). وهذا استثناء من الرحيم عليه الصلاة والسلام لأولئك التجار الذي يخافون الله، أهل الصدق والبر والإحسان، الرحماء بإخوانهم المسلمين الذين يأخذون كفايتهم دون شجع أو طمع؛ ولذا جاء في الحديث قوله : ((التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي.
عباد الله، إن قضية البيع والشراء قائمة على أساس العدل والصدق والوضوح التام، بعيدًا عن الغبن والغرر والاستغلال، تأملوا قوله : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) أخرجه مسلم.
وأمرت الشريعة بالتيسير والتسهيل وطلب الربح اليسير دون العنت والمشقة على الناس، بل جعلت هذا بابًا عظيمًا من أبواب الرحمة والإحسان، يأتي في ذلك قوله : ((رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)) أخرجه البخاري.
عباد الله، إن الشريعة الإسلامية لم تحدد الأسعار إذا كان ارتفاعها بسبب تقلبات العرض والطلب وقلة السلعة وشحها؛ ولذلك لما غلت الأسعار على عهد رسول الله قالوا: يا رسول الله سعر لنا، قال: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم أو مال)) أخرجه أبو داود.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه سبحانه فيما تأتون وتذرون، وتراحموا فيما بينكم؛ يتحقق لكم الخير والفضل والزيادة، فالرحماء يرحمهم من في السماء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
عباد الله، يتحدث الناس عن ظاهرة غلاء الأسعار، ويتخوّضون بإلقاء التهم يمنةً ويسرة، ويضعون الحلول والآراء، ويناقشون الأسباب والمسببات، وثمة سبب يتغافل عنه الناس، ألا وهو كسب الأيدي من الآثام والمعاصي وفشوّ الذنوب والسيئات والتهاون في الفرائض والمكتوبات، أما علم الناس أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة؟! أما علم الناس قول الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]؟! أنسي الناس أو تناسوا قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]؟! أما علم الناس أن الذنوب والمعاصي ومخالفة أوامر الله والتعدي على حدوده سبب في ضيق المعايش ونقص الأرزاق؟! ((إن الرجل ليحرم الرزق بسبب الذنب يصيبه)) يقوله.
عباد الله، يجب على الناس الاقتصاد في المعايش وعدم الإسراف والتبذير في نعم الله عز وجل، فالإسراف سبب في حلول النقم وزوال النعم، قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31].
ماذا يحدث في موائدنا من الإسراف والتبذير؟! ماذا يحدث في أسواقنا ومن نسائنا من شراء الكماليات والتهالك على المصنوعات والتوافه والحقيرات؟! أهلكوا دنانيرهم ودراهمهم فيما يمكن الاستغناء عنه، فتبذير الأموال محرم، والعبد مسؤول عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
وعليكم ـ عباد الله ـ بالقناعة، اسألوا الله القناعة في الأرزاق والأقوات كما كان يفعل نبيكم في دعائه بقوله: ((اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه)).
ومن أسباب القناعة أن ينظر العبد لمن هو أسفل منه ولا ينظر إلى من هو فوقه، ((فهو أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه)) يقوله رسولكم.
عباد الله، اشكروا نعمة الله عليكم، فشكر النعم سبب في بقائها ودوامها، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]. ومن باب الشكر شكر الناس، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فشكرًا لبلاد الحرمين، وشكرًا لولي أمرها من مبادرات وقرارات تساهم في الحد من غلاء المعيشة ورفع مستوى دخل الفرد.
ادعوا الله ـ عباد الله ـ برفع الكرب والشدائد ودفع الغلاء والوباء والزلازل والمحن.
وصلوا وسلموا على الهادي البشير...
(1/5622)
كن إيجابيا فاعلا
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, قضايا المجتمع
أحمد بن سيف الشعيلي
بهلى
جامع العمور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الإيجابية. 2- حقيقة الإيجابية. 3- أهمية القوة والعزيمة واتخاذ الأسباب. 4- شريعة الإسلام طريق للإيجابية. 5- مواجهة المتاعب والصعوبات. 6- نماذج مشرقة لأصحاب الإيجابية. 7- الحث على حسن التدبير والإنفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن المسلم يعيش وتقوى الله ضابطة لسلوكه، وهي دليله في جميع شؤونه، فاتقوا الله حق التقوى، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الإيجابيةَ عمارةٌ للحياة الإنسانية، وهي قبل ذلك سمة إيمانية وميزة لهذه الأمة الإسلامية؛ لأنها أمة إصلاح وإرشاد وعمل وجد واجتهاد، بل إن ذلك في منهجها شرط أساسي للفلاح، ومطلب لا بد منه لمن أراد النجاة، قال تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، إنه منهج لا مكان فيه للجامد من الكلمات، ولا موضع يسع العقيم من العبارات، منهج يتّسم بالحركة والتفاعل، وينبذ الجمود والتثاقل، فالقول لا يكون صادقا حتى يتبع بالعمل، والجدّ وحده سبيل تحقيق الأمل، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30].
إن الإيجابية دافع نفسي واقتناع فكري وعقلي وجهد بدني، لا يكتفي بتنفيذ التكليف، بل يتجاوزه إلى المبادرة في طلبه والبحث عنه، ويزيد على مجرد الأداء الإتقانَ فيه، بل يضيف إلى العمل المتقَن روحًا وحيوية تعطي للعمل تأثيره وفعاليته، دون أن يخالطه جفاف أو جفاء أو تبرم أو استثقال، وهي حلة يعيشها من وقر الإيمان في قلبه وسيطرت العزيمة على ظاهره ومشاعره ولبه، أما أولئك الذين يحلو لهم الوصف والتهويل ويطيب لهم ندب الحظوظ والعويل فلا مكان لهم ولا كرامة؛ لأنهم فقدوا معاني العزة والشهامة، فالعزة هي العمل الصادق الجاد على تغيير سيئ الحال بالاجتهاد والمثابرة وشحذ الهمم بالإرشاد والمصابرة، أما الخضوع للأوضاع القاهرة والاستكانة للأحوال القاصرة ومواجهتها بالخمول والانزواء وانتظار الفرج بتقوقع وانطواء فكله من شأن الضعفاء والأقزام وسمة لدعاة الدعة والانهزام، ولقد فرّق القرآن الكريم بين الفريقين، وباين بوضوح بين المنهجين، قال تعالى: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76]، لا وربي لا يستويان، فشتان ما بينهما شتان.
إن الأمة لا ترتقي إلا بجيل يتسلّح بالعملية الجادة في مواجهة المصاعب والخطوات المتّزنة المدروسة لتخفيف وقع المتاعب، فشأن الدنيا راحة وعناء ورخص وغلاء ومرض وشفاء وسعة وابتلاء، والقويّ من يقابل أفراحها بالحمد والشكر، ويقف في وجه أتراحها بالتدبير والحلول والصبر، فمهما صعب في وجه المرء الخطوب وتكالبت عليه من حوله الكروب فإن البكاء والجمود والاستكانة أمور لا يبررها له الدين، ولا يجد لها مكانا في منهج المسلمين، ألم تر ما أوحاه الله تعالى لمريم وهي في لحظات التعب والشدة وبين وقع آلام المخاض والوحدة فقال سبحانه: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم: 25]؟! أمرَها بالحركة والاجتهاد رغم آلامها وتعبها، وحثها على الكسب رغم شدتها ونصبها. وليس بعيدا عنها حال أم موسى عليها السلام، فلم يبرر لها قوة الظالمين من حولها أن تستكين، ولا سوَّغ لها الخمولَ سيطرةُ فرعون اللعين، بل أوحى الله تعالى لها بأن تتحرك لإنقاذ رضيعها، وتسعى بكل الحيل للنجاة بوليدها، قال سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]، وفي المقابل أنكر جل شأنه على قوم موسى حين طلبوا السعادة دون اجتهاد، ونشدوا الرقي بلا عناء وجهاد، وحسبوا أن الخير سيأتيهم به موسى عليه السلام دون مثابرة، وأن الله سيكتبه لهم بلا حركة ومناصرة، قال جل في علاه: قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24]، فماذا كانت النتيجة؟ إنها المنع والحرمان، قال تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26].
أيها المسلمون، لما كانت الإيجابية بهذا القدر من الأهميّة وفي هذه المنزلة السامية العليّة شرع الله تعالى من الشرائع ما يجعل الفرد إيجابيا في مواقفه، متفاعلا منتجا في مجتمعه وبين معارفه، فحمله على لزوم الجماعة ومشاركتها في العبادة؛ لما في ذلك من دوافع العمل المحقّق للسعادة، ففرض الصلاة خمس مرات في جماعة يلتقي خلالها أهل المحيط المكاني الصغير، ويتلاحم خلالها الغني بالفقير، قال تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: 43]، ثم بعد الجماعة شرع الجمعة ليتسع محيط أفراد اللقاء، وتتخللها خطبة تلهم الجميع مراشد الرقي والنماء، وتكسبهم صفات الصلاح والبناء، فتشحذ لذلك العزائم والهمم، وترقى بالطموح ليعانق أعالي القمم، ثم الأعياد ويوم الحج الأكبر، حيث يفاخر الله ملائكة السماء بذلك المظهر.
إن المشاركة والتداخل تكسب المرء مزيدا من النشاط والتفاعل، يرى من هو أعلى منه فيطمح للوصول إلى مثل مكانه، ويعايش الضعيف فيسعى لإصلاح أمره وشأنه، فما أروعه من تشريع، وما أحكمه من منهج بديع.
وفي المقابل حذر رسول الله من الوحدة والعزلة السلبيَّة، وبين أنها تجرّ على صاحبها كل عناء وبليَّة، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) ، وصدق الله القائل: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
ومراعاة لخصوصية بعض الظروف والحاجات وتقديرا لحالة بعض الفئات شرع الله عيادة المريض، وأوجب رعاية المقعد المهيض، وفرض زيارة الأرحام، وحفز على كفالة الأيتام، كل ذلك لتحريك المشاعر الجياشة، فيسعى أصحابها لهذه الفئات بكل ما من شأنه إدخال البشر والبشاشة. إنه بناء للإيجابية في النفوس بأقوى الدعائم، وشحذ أصيل للهمم والعزائم. وحرص الإسلام إلى جانب ذلك على تشجيع كل قول يجعل المسلم إيجابيا، بحيث يكون مؤثرا لا متأثرا، مغيّرا لا متغيِّرا، فأعلى من شأن الكلمة التي تثمر خيرا أو تدعو إليه، ورفع مكانة العبارة التي تحفز الإنتاج وتشجع عليه، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 24، 25]، وبين أن للمرشد إلى الخير أجرا يماثل أجر فاعله، فعن أبي مسعود البدري أن رسول الله قال: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) أو قال: ((عامله)) ، وفي رواية: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)) ، بل يذهب الخطاب الإسلامي إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن الكلام لا فائدة منه إن لم يدل على خير أو يرشد إلى إصلاح أو يمنهج لمشروع خيري أو يكون فيه طرح لحل عمليّ، قال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114].
أيها المسلمون، إن المرء قد يواجه في دنياه شيئا من المتاعب، وقد تعترض طريقه ضروب من المصاعب، فربما فقد عزيزا على قلبه أو صديقه ورفيق دربه، ولعل ضائقة مالية تلم به، وهذه سنة الله في خلقه، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]. وأمام عصف الخطوب وعند تكالب المحن والكروب تنكشف معادن الأشخاص، فالمؤمن الحقّ ينظر إلى الجانب المشرق من الأزمات، وإلى ما يمكن أن يجنيه من بين أضراس النكبات، وأول ما يفكّر فيه الأجر والثواب الذي يدّخره ذخرا لآخرته، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157]، وفي الحديث عنه أنه قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذًى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه)) ، والمؤمن مع يقينه بالأجر والثواب إلا أنه يواجه مصابه بما يقوى عليه من الحلول والعلاجات وما يستطيعه من التدبير والترتيبات، من غير يأس ولا ملل، وبلا عجز ولا كسل، يبذل جهده وعلى الله عز وجل إحسان العواقب، فعن رسول الله أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
ولقد ضرب لنا القرآن الكريم أروع الأمثلة التي تحكي حال المؤمن مع الشدائد؛ لنستلهم منها أنجح الحلول لما نعانيه في حياتنا وما يصيبنا في أمور معاشنا، فحينما فجع يعقوب عليه السلام بفقد ولديه قالها بثبات قلب ورسوخ إيمان، قال تعالى: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 83]، ثم وجه بقية أولاده توجيها إيجابيا للتعامل مع هذه المشكلة، وأرشدهم إرشادا إيمانيا لحل هذه المعضلة، فقال كما حكى الله عز وجل عنه: يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87].
ونبقى مع هذه السورة الكريمة لتكتمل لنا صورة الإيجابية المثالية والحلول الجادة العمليّة التي يواجه بها المؤمن مصاب الزمان، حين يستشرف يوسف الصديق عليه السلام أن مصر مقبلة على قحط وسنين عجاف، فهل استعد لذلك بندب الحظوظ وانتظار الآخرين ليقدموا له الحلول أم أنه واجهها بتدبير حكيم وإجراء متقن قويم؟ جعل من وقع المشكلة يسيرا، وسهل الله على يديه ما كان عسيرا، قال تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف: 47-49].
وساح في الأرض ذو القرنين، حتى إذا بلغ بين السدين وجد أناسا عاث فيهم قوم يأجوج ومأجوج، نغصوا عليهم حياتهم، وأفسدوا عليهم شؤون معاشهم، ولكنهم وقفوا منهم موقف المستسلم لواقعه، لم يعملوا ما يحول بينهم وبين حالهم البائس هذا، فشكوا إليهم معاناتهم، فلم يشاركهم البكاء والعويل، ولا وصف مشكلتهم بكلمات التضخيم والتهويل، بل بادر إلى إيجاد حل عمليّ، معتمدا في ذلك على قدرة القادر العليّ، قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف: 93-97].
ويحكي لنا الرسول موقفا إيجابيا عن رجل رأى معضلة تواجه الناس في طريقهم، فبادر إلى حل عملي قضى على المشكلة والمعاناة، فكتب الله له جنته ورضاه، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)) ، وفي رواية: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله، لأنحين هذا عن المسلمين؛ لا يؤذيهم، فأدخل الجنة)) ، إن هذا الرجل لم يقابل هذه المشكلة بكثرة الكلام وإلقاء العتب واللوم على الأنام، لم يقل: من ألقى هذا الأذى؟ أو يردد: لماذا لم تزيلوا هذا القذى؟! ولكنه كان إيجابيا رائعا في موقفه، فبادر إلى حل عملي أراح به نفسه وإخوانه، فاستحق مغفرة الله ورضوانه.
فاتقوا الله عباد الله، وواجهوا الحياة بصبر وعزيمة وحلول ناجعة قويمة، ففي ذلك صلاح حالكم وسعادة مآلكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: فإن المتتبع لنصوص القرآن العظيم وأحاديث رسولنا الكريم يجد خطابا واضحا شافيا وبيانا ساطعا وافيا أن الإنسان مسؤول عن الرقي بمستواه والسعي لما فيه سعادته في دنياه وأخراه، وأنه سيحاسب على ذلك حسابا لا يظلم فيه، قال تعالى: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء [النجم: 39-41]. ولتحقيق هذه السعادة وهبه الله تعالى من القدرات والملكات ما يجعله قادرا على منافسة غيره والظفر بمثل مستواه وخيره، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 8-10].
فالمسلم الحق إذا واجهته صعوبة في حياته واجهها بما وهبه الله من طاقاته وقدراته، لا ينتظر معونة من مخلوق مثله، قد رباه الإسلام على التشمير عن ساعد الجد، متعففا عما في أيدي الآخرين، بل يسعى ويطلب التوفيق من رب العالمين، قال تعالى: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 273]. فإذا كان هذا الشأن فيمن لا يستطيعون ضربا في الأرض فكيف بمن أجسادهم تفور قوة وشبابا؟! على أن القوة وحدها لا تكفي لتحقيق الهدف، بل لا بد لها من حسن تدبير، يضع في الحسبان ظروف الزمان والمكان، وهو ما كان سلف هذه الأمة يواجه به الأزمات ويتغلب به على الصعوبات، فهم يحسبون للأمور حسابها المناسب، ويستغلون الظروف لتحقيق أعلى المكاسب، بعيدا عن الشكاية العقيمة والضيق والانفعالات السقيمة، لا يبطرهم الغنى، ولا يجزعهم الفقر، قال تعالى في وصفهم: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: ((قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه)).
إن من واجب المسلم أن يحسن تدبير حياته ليكون مستعدا لمواجهة الأزمات ثابتا أمام التقلبات، وأن يحمل على ذلك أسرته، فبصلاح الأسر تصلح المجتمعات، عن أنس مرفوعا: ((التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم)). وقد أرشد الإسلام الأسرة المسلمة إلى حسن إدارة شؤونها لتحقيق هذه الغاية، ووعد من امتثل ذلك أن يضاعف أجرهم، وأن يشرك فيه أفرادها، إمعانا في الحث على ذلك، ففي الحديث عنه أنه قال: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعضٍ شيئًا)).
وإن من أهم أسس التدبير الاقتصاد في الإنفاق، فإنه يقي شر الفاقة والعيلة، وتضاعف هذه الأهمية في الظروف الاستثنائية والحالات غير العادية التي تشهد تقلبات في السوق وحين ترتفع الأسعار، فإن الإنفاق في حال الغلاء والرخص ليسا سيّان، فلكل وقت ما يناسبه من السلوك وإن كان التوسط مطلوبا من المسلم في حياته كلها فإن الاقتصاد في النفقة يقي المرء شر العيلة والفاقة، ففي الأثر: (ما عال من اقتصد)، والاقتصاد يعين المرء على الادخار في حالات الرخاء والسعة في الرزق لحالات الشدة الذي هو كنز الأزمات والمرجع المادي في الصعوبات، وقد حث عليه الإسلام أيما حث وأمر به في شؤون الإنسان كلها، فالمرء لا يعلم ماذا يكسب غدا، يقول تبارك وتعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَّمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
وإن من دواعي العجب أن تسمع من يشتكي صعوبة المعيشة وارتفاع أسعار السلع في وقت لا يحرك فيه ساكنا لتغيير وضعه، سواء بالبحث عن سبل لزيادة دخله أو بترتيب أولوياته وترشيد مصروفاته ونفقاته.
إن مما يجب على أفراد الأسرة التعاون في تنمية موارد المنزل بأن تحوله إلى وحدة إنتاج حيث تستطيع أن تصنع الكثير من الأشياء وتستغني عن شرائها مصنَّعَة، وفي ذلك توفير للمال، ويدخل في مجال التنمية الاقتصادية, قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]. وتقع على الزوجة بوجه خاص مسؤولية التعاون مع الزوج في إعداد ميزانية البيت في إطار خطة للنفقات والإيرادات، وأن تستشعر مسؤوليتها في الادخار للأجيال القادمة؛ لأن لهم حقًا في أموال الأجيال الحاضرة، ويكون ذلك عن طريق تنمية الكسب والاقتصاد في النفقات، فالكسب الحلال الطيب، والإنفاق المقتصد يمكن من الادخار، ولقد ورد في الأثر: (رحم الله امرأً اكتسب طيّبًا وأنفق قصدًا وقدّم فضلاً ليوم فقره وحاجته)، وعن أبي بكر الصديق أنه قال: (إني أبغض أهل البيت الذين ينفقون رزق أيام في يوم واحد)، ويقول الرسول لأحد أصحابه رضي الله عنهم: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس أعطوهم أو منعوهم)). لقد وضع الإسلام حلولا إيجابية للتعامل مع الأزمات الاقتصادية والتكيف مع الصعوبات الشرائية، حلول تقوم على مبدأ الوقاية والاستعداد المسبق.
فاتقوا الله عباد الله، وليقف كل منا وقفة تأمل أمام هذه الإرشادات، ويختبر نفسه وأسرته أين يقعان من هذه التوجيهات، فبهذا وحده نحقق الإيجابية الفعالة التي تصلح الشأن ويسعد بها بنو الإنسان.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين وقائد الغر المحجلين...
(1/5623)
شكر النعمة وكفرها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
24/4/1423
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العظة والعبرة من قصة قارون. 2- قصة سد مأرب. 3- التحذير من بعض مظاهر كفر النعمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الأشر والبطر مظهر لجحود النعمة وبادرة لسوء المصير، ولقد كان فيما قصّ الله في كتابه عن قارون وقد آتاه الله من كنوز المال ما قابله بالأشر والبطر كان له سوء العاقبة والمصير، قال تعالى: إِنَّ قَـ?رُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ?لْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِ?لْعُصْبَةِ أُوْلِى ?لْقُوَّةِ أي: أعطيناه من كنوز المال العظيمة التي مفاتيحها تُثْقِلُ في حَمْلِهَا الجماعةَ والعُصْبَةَ من الناس وذلك لكثرتها، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ أي: إن الله لا يحبّ الأَشِرِينَ الذين أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ، وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ أي: اطلب بما أعطاك الله من الأموال الجنة وبذل الأموال في رضا الله، وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا أي: خُذْ من مُتَعِ الدنيا ما أباحه الله لك بِقَدَرٍ، وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ أي: أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك، وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ أي: لا تَكُنْ هِمَّتُكَ بما أنت فيه أنْ تُفْسِدَ في الأرض بالمعاصي، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص: 76، 77]، وكل ذلك توجيه من صالحي قومه لِيَرْعَوِيَ وينتهيَ عن غَيِّهِ، ويسلك سبيل السداد والرشاد، وهو أيضًا توجيه للناس جميعًا إلى الأبد، ولا يعني قارون وحده، فكم في أعقاب الزمن من أمثال قارون من تُبْطِرُهُ النعمةُ ويستعملها في المعصية والإفساد في الأرض والتعالي على الخلق، فيكون خطرًا على نفسه وعُرْضَةً لأن يناله من غضب الله ما يُعَكِّر عَيْشَهُ، بل قد تُطْوَى صفحتُه إن لم يكن بالخسف الذي حلّ بقارون فَبِقَارِعَةٍ تأتي عليه وإذا به صِفْر اليدين، وهذه نتيجة لظلمه وأَشَرِهِ وبَطَرِهِ، وكم من هذه الأَنْمَاِط والألوان موجودة الآن.
وكانت خاتمة قصة قارون ما ذكره الله في قوله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 81-83].
وقصة أخرى وردت في القرآن الكريم تتحدث عن بطر سبأ وكفرهم بالنعمة، وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق، وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نَبَؤُهَا في سورة النمل مع سليمان عليه السلام حيث كانت في ملك عظيم وخير عميم، وقد قص الهدهد خبرها على سليمان كما ورد في القرآن الكريم: إِنّى وَجَدتُّ ?مْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ?للَّهِ [النحل: 23، 24]. وقد أعقب ذلك إسلامُ الملكة مع سليمان لله رب العالمين.
فقصة سبأ في الآيات التالية تقع أحداثُها بعد إسلام الملكة لله رب العالمين، وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم، وما طُلِبَ إليهم من شكر المنعم عز وجل بقدر ما يُطِيقُون، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَ?شْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15]. وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوب اليمن، وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منهم بقية إلى اليوم، وقد ارتقوا في سُلَّمِ الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة، فأقاموا خَزَّانًا يتألف جانباه من جبلين، وجعلوا على فَمِ الوادي بين الجبلين سدًا به عيون تُفتح وتُغلق، وخزّنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد، وتحكَّمُوا فيها وَفْقَ حاجتهم، فكان لهم من هذا سُورٌ مائيٌّ عظيمٌ عُرِفَ باسم: سد مأرب، عملوا ذلك مع صعوبة الإمكانات وقلة الموارد والآلات قياسًا مع هذا الزمن الذي تَوَفَّرَ فيه ما لم يكن في العصور الأولى، وما يُعمل الآن من سدود ما هو إلا نِتَاجُ تفكير الأقدمين وحدّ علمهم الذي علمهم الله إياه، فأهل هذا العصر مسبوقون في السدود وتخزين المياه خلفها وطريقة تصريفها واستخدامها من آلاف السنين، فلم يأتوا بجديد مع أن الآلات الحديثة والإمكانات الهائلة المتوفرة الآن كان من المفترض استغلالها لتخزين المياه بدلاً من هَدْرِهَا خاصة مياه الأمطار التي تذهب في الصحراء والبحر ولا يستفاد منها كما ينبغي، فما أعجز بني البشر الموجودين الآن! وما أقوى وأصبر الأقدمين! مع الفارق في الإمكانات والموارد واختلافها بين القديم والحديث، وتلك الْجِنَانُ عن اليمين وعن الشمال دلالةٌ على الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل، وفي تلك النعم آية تذكّر بالمنعم الوهاب سبحانه، وقد أُمِرُوا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين له نعمه سبحانه وبحمده: كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَ?شْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15]. وذُكِّرُوا بالنعمة ـ نعمة البلد ـ وفوقها نعمة الغفران والتجاوز عن السيئات بالرغم من التقصير الواضح في شكر المنعم جل جلاله، وإنها لَمِنَّةٌ عُظْمَى لو استجابوا لذلك تتمثل في حياتهم الدنيا بالنعمة والرخاء، وفي الآخرة بالعفو والغفران، ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا الله، فماذا كانت نهاية كفران النعمة؟ قال تعالى: فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ?لْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـ?هُمْ بِجَنَّـ?تِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ: 16]. لما أعرضوا عن شكر الله وعن العمل الصالح والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم سلبهم ذلك الرخاء الجميل الذي عاشوا فيه وأرسل السيلَ الجارفَ الْعَرِمَ الذي يحمل الحجارة لشدة تَدَفُّقِهِ، فحطَّم السد وانْسَاحَت المياه وانْسَابَت فَطَغَتْ وأغرقت، ثم لم يَعُدِ الماءُ يُخَزَّن بعد ذلك، فجفّت واحترقت وتبدلت تلك الجنان الْفِيحُ صحراءَ تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة. قال تعالى بعد أن ذكر إعراضهم وإرسال السيل العرم في آخر الآية نفسها: وَبَدَّلْنَـ?هُمْ بِجَنَّـ?تِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ، والخمط: هو شجر الأراك أو هو كل شجر ذي شوك، والأثل: شجر يشبه الطرفاء، والسدر: شجر النبق المعروف، وهو أجود ما صار لهم ولم يَعُدْ لهم منه إلا القليل.
قال تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَـ?هُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ?لْكَفُورَ [سبأ: 17]، لقد كفروا بنعم الله ولم يشكروها، ولكنهم إلى ذلك الوقت لا زالوا في قراهم وبيوتهم حيث ضيق الله عليهم الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة، ولكنه لم يمزقهم ولم يغرقهم، وكان العمران ما يزال متصلاً بينهم وبين القرى المباركة: مكة في الجزيرة العربية وبيت المقدس في الشام، وكانت اليمن عامرة في شمال بلاد سبأ ومتصلة بالقرى المباركة، والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك ومأمون، قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ?لسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا ءامِنِينَ [سبأ: 18]. وغلبت عليهم الشِّقْوَةُ فلم ينفعهم النذير الأول فدعوا الله على أنفسهم فاسْتُجِيبَت الدعوة دعوة الأشر والبطر، قال تعالى مخبرًا عنهم: فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـ?عِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـ?هُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـ?هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19].
أيها المسلمون، إن القرآن مليء بالعبر والعظات لمن يريد الاعتبار والرجوع إلى الله، والآيات كثيرة في هذا المعنى، فعلينا أن نرجع إلى الله ونفيق من غفلتنا ونتذكر نعم الله علينا ونشكره سبحانه وتعالى على نعمه، فبالشكر تدوم النعم، ويجب عند قراءتنا لهذه الآيات وغيرها أن نعتبرَ ونقرَّ ونعترفَ بنعم المنعم سبحانه علينا وعلى الخلق أجمعين، لا نعترف بها لأحد غير الله، سواء بقول الإنسان: إنها بقدرته ومعرفته وعمله وتصرفه الحكيم أو بإرجاعها لأحد من الخلق، فالبشر كلهم جميعًا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وإنما هم أسباب ومظهر من مظاهر المنع أو العطاء، ضعفاء فقراء إلى الله، ونسمع ونقرأ عن بعض الأشخاص الذين تصدر منهم العباراتُ الشِّرْكِيَّةُ أو الجحُودِيَّةُ لنعم الله عز وجل ويرجعون عبارات الثناء والمدح والشكر إلى المخلوقين وينسبون ويسندون ذلك إلى البشر ويَتَفَوَّهُونَ بالعبارات والألفاظ التي يندى لها الجبين وتصدر من متعلمين مثقفين على حد زعمهم هُمْ، حتى في بلد التوحيد حيث يرجعون ذلك إلى فضل فُلان وحكمة علاَّن ولولاه لما حصل ما نحن فيه، ولا يرجعونها إلى الواحد الديان رب السماوات والأرض، ولا يُنَزِّهُونَ ألسنتَهم عما يقدح في عقيدتهم، فهم يعظمون المخلوقين وينسبون الأسباب والنعم إليهم مع أنهم عباد فقراء إلى الله مهما أُوتُوا ومهما رزقهم الله.
فعلى المسلمين أن ينسبوا النعم إلى الله عز وجل لأنه هو المنعم المتفضل بها سبحانه على عباده، وعليهم أن يقدروا الله حق قدره ويعلموا أن البشر إنما هم أسباب ومظهر من مظاهر المنع أو العطاء فقراء إلى الله كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر: 15]، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67]. وعليهم أن ينسبوا النعم إليه سبحانه كما قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [النحل: 53-56]، وقال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]. وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، وقال سبحانه وبحمده: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات: 22، 23]، وقال تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى: 12]، وقال عز وجل: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]، والآيات في هذا كثيرة.
فيجب علينا أن نشكر الله على نعمه بالاعتقاد بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح، وليس ذكرًا وشكرًا باللسان فقط، ولكن لا بد من التطبيق العملي لهذا الشكر الذي يجْرِي على اللسان، ولا يكون ذلك إلا إذا كان نابعًا من القلب، فعند ذلك نُجَازى من الله بالزيادة في النعم، وإن لم نفعل فعقاب الله شديد، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن من كفران النعم الذي هو حاصل بيننا في هذه الأيام ما يفعله بعض الناس في حفلات الزواج من ولائم وغيرها وفي المناسبات الأخرى أيضًا، وذلك شيء يندى له الجبين، وهو كفران للنعمة وتعريضها للزوال حين تُرْمَى بقايا الموائد كما هي في النفايات بالسيارات أو في العربات مع وجود المحتاجين الذين يبيتون جياعًا لا أحد يعلم عنهم، تلك الولائم التي يُدعى إليها الأغنياء ولا يحضرها الفقراء، بل قد يُطْرَدُون لو حضروا أو قاربوا الأبواب، تلك الولائم التي يصدق عليها الحديث: ((شر الوليمة التي يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء)) كما ورد في الخبر عن سيد البشر محمد ، وإنها لأعمال لا ترضي الله، وتصرفات مؤلمة ومحزنة لكل مؤمن غيور على دينه، تلك الولائم التي يحصل فيها الإسراف والتبذير والمظاهر الزائفة والمفاخرة الكاذبة التي يتحمل معها كثير ممن عملها الديون التي يسدِّدونها على مَرِّ السنين حبًا في الرياء والسمعة والمفاخرة والأشر والبطر، وإِنَّ وَعْدَ اللهِ وَوَعِيدَهُ لَحَاصِلٌ، فمن شكر فسوف يجزيه بالزيادة، ومن كفر النعمة فسوف يجد العذاب إنْ عاجلاً أو آجلاً.
ومن مظاهر الأشر والبطر وكفران النعمة أيضًا ما يقوم به بعض الآباء من إعطاء أبنائهم سيارات فخمة ومراكب فارهة بعشرات الآلاف من الريالات، يعطونهم ذلك ليستعملوها في معصية الله، وأول معصية هي تركهم للصلوات، وإلا فأين الشباب طوال أيام الأسبوع والمساجد منهم خالية، وقد لا ترى بعضًا منهم إلا أيام الاختبارات حيث يأتون إلى المساجد، فأين هم بعدها؟! يعقب تَرْكَ الصلوات إِهْدَارُ الأموال المُنْفَقة في هذه السيارات وإتلافها في الحوادث وإزهاق أرواح الأبرياء بالدَّعْسِ أو التكسير وما يحصل في الحوادث المؤلمة، وكذلك تضييع الأوقات والساعات الطويلة في اللهو والعبث.
أيها الآباء، إن أولادنا ذكورًا وإناثًا أمانة في أعناقنا وخاصة الأبناء، سوف نسأل عنهم يوم القيامة وعن الأموال التي دفعناها لهم وفِيمَ استعملوها، ولا يعتقد أو يظن أحد أنه ناجٍ من هذه الأسئلة وهذه الأمانة، فَلْيُعِدَّ الجوابَ من الآن، وليحاسب نفسه ويرجع إلى ربه، قال تعالى: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، وقال جل وعلا: وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?مًا [النساء: 5]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)) وذكر منها: ((عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)).
فلنتق الله، ولنتناصح فيما بيننا، ونحمد الله ونشكره على نعمه، ولنتذكر قول الله تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال: 25]. ولنعتبر بالدول المجاورة وغيرها من دول العالم والتي كانت تعيش في رغد من العيش وما هي عليه الآن، ولنتذكر دائمًا أننا نتقلب في نعم الله العظيمة والتي لم تتوفر في أي قطر من أقطار هذه الأرض بهذه الكميات الرهيبة والانفتاح العجيب حيث تَفْرِضُ كثيرٌ من الدول قيودًا على منتجات بعض الدول الأخرى حفاظًا على اقتصادها وتأتينا نحن من جميع الأقطار والدول بهذه الكميات الهائلة والجودة التي قد لا تكون في البلد المنتج ولا يأكله أهلها بل نتمتع به نحن ومن يعيش في هذه البلاد المباركة، وهذه نعمة عظيمة ومِنَّةٌ كُبرى على ساكني الحرمين الشريفين وما جاورهما في هذه البلاد الطيبة حيث تحققت دعوة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما ورد في القرآن الكريم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37].
ولنشكر الله في كل حين ونقابل النعم بالشكر للمنعم سبحانه، الشكر الحقيقي المتمثل في القول والفعل والاعتقاد، والابتعاد عن الجحود وكفران النعم، والعمل بالطاعات وكل ما يقرب إلى رب الأرض والسماوات لئلا تتبدل الأحوال الطيبة بما يُضَادُّها، وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين، قال تعالى: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5624)
الحث على الصدق والنهي عن الكذب (1)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, خصال الإيمان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
21/12/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصدق في الإسلام. 2- التحذير من الكذب. 3- أهمية تنشئة الأولاد على الصدق. 4- تفشي الكذب بين التجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ حَيْرَةَ البشرِ وشِقْوَتَهُمْ ترجع إلى ذهولهم عن أصل واضح في دينهم وحياتهم، ألا وهو الصدق، ويرجع أيضًا إلى تسلّط أكاذيب وأوهام على أنفسهم وأفكارهم أبعدتهم عن الصراط المستقيم والنهج القويم وشَرَدَتْ بهم عن الحقائق التي لا بدّ من التزامها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، ومن هنا كان الاستمساك بالصدق في كل شأن وتَحَرِّيه في كل قضية دعامةً ركينةً في خُلُقِ المؤمن وصبغةً ثابتةً في سلوكه، وكذلك كان بناء المجتمع في الإسلام قائمًا على محاربة الظنون ونَبْذِ الإشاعات واطِّرَاحِ الرِّيَبِ.
والحقائق الراسخة وحدها هي التي يجب أن تظهر وتغلب، وأن تعتمد في إقرار العلاقات المختلفة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12]، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)) متفق عليه، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ؛ فإن الصدقَ طُمَأْنِينَةٌ والكذبَ رِيبَةٌ)) رواه الترمذي والنسائي.
وقد ورد في القرآن عن جَرْيِ أقْوَامٍ وراء الظنون التي ملأت عقولهم وأفسدت حاضرهم ومستقبلهم بالأكاذيب.، قال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: 23]، وقال عز وجل: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28]؛ لذا نجد الإسلام يحترم الحق والصدق أشد الاحترام ويبغض الكذابين ويشدِّدُ النَّكِيرَ عليهم، عن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: ما كان من خلقٍ أبغض إلى رسول الله من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكِذْبَةَ فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبة. رواه أحمد رحمه الله.
ولا غَرْوَ فلقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتلاقون على الفضائل ويتعارفون بها، وكان صدق الحديث ودقة الأداء وضبط الكلام من معالمهم وصفاتهم، فأين نحن منهم في هذا الزمان الذي كثر فيه الكذب وأصبح سِمَةً بارزةً لكثير من المسلمين، بل أصبح دعوةً يتَّصِفُون بها ويدعون إليها علنًا، وبذلك يقول لسانُ حالهم: إنّ الإسلام غير صالح للعمل به في هذا الزمان وفي هذه المجتمعات، لأن الصدق في نظرهم غير مستساغٍ، والكذبَ هو الذي يُصْلِح أعمال الناس. ودعوتهم هذه حَرْبٌ على الإسلام وأهله ومُحَادَّةٌ لله ورسوله، حيث يدعو الله ورسوله إلى الصدق، وهم يدعون إلى الكذب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
إن الكذب وإخلاف الوعد والتدليس والافتراء والبهتان خاصة مع الخصم والخيانة وعدم تأدية الأمانة كل ذلك من علامات النفاق، وما اجتمعت في مسلم إلا كان منافقًا خالصًا، كما قال رسول الله : ((أربعٌ منْ كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائْتُمِنَ خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) رواه البخاري ومسلم، وفي الرواية الأخرى التي رواها أيضًا الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ)).
إن الكذب رذيلة مَحْضَةٌ تُنْبِئُ عن تَغَلْغُلِ الفساد في نفس صاحبها وعن سلوك يُنَشِّئُ الشَّرَّ تنشئَةً ويدفع إلى الإثم دفعًا. إن الطباع التي تتأثر بالجبن أو البخل غير الطبائع التي تُقبل على الموت في نَزَقٍ وتبعثر المال بغير حساب، وقد تكون هناك أعذار لمن يشعرون بوساوس المرض أو الخوف عندما يقفون في ميادين التضحية والفداء في سبيل الله والإنفاق من الأموال المُكْتَنَزَةِ، ولكنه لا عذر أبدًا لمن يتَّخِذُون الكذبَ خُلُقًا ويعيشون به على خديعة الناس والتحايل عليهم بشتى الطرق الشيطانية معتقدين بأن في ذلك الخير مع أنه يحمل الشر والهلكة لو كانوا يعقلون.
فيجب على المسلم أن يلتزم الصدق وإن رأى فيه الهلكة، فإن في مضمونه النجاة بإذن الله عز وجل، قال رسول الله : ((يُطْبَعُ المؤمنُ على الخلال كلِّها إلا الخيانةَ والكذبَ)) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله. وسئل رسول الله : أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم)) ، قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: ((نعم)) ، قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: ((لا)) رواه الإمام مالك رحمه الله. وكُلَّمَا اتَّسَعَ نِطَاقُ الضرر إِثْرَ كذبة يشيعها أَفَّاكٌ جَرِيءٌ كان الوِزْرُ عند الله أعظمَ.
فالأشخاص الذين ينشرون في المجتمع خبرًا باطلاً ويعطون الناس صورًا مقلوبة وبعيدة عن الحقيقة وأهل الحقد الدفين الذين يتعمّدون سَوْقَ التُّهَمِ إلى الْكُبَرَاءِ من الرجال والنساء لِيُشَوِّهُوا سُمْعَتَهُمْ ويضعوا من مكانتهم حتى يَسْتَصْغِرَهُمْ الناسُ ولكي يأخذوا عنهم صورة قبيحة غير التي يعلمون عنهم، إن أولئك الذين يُقْدِمُونَ على هذه الأفعال يرتكبون جرائمَ أَشَقَّ على أصحابها وأَسْوَأَ عاقبة، وسوف يجدون عاقبة ذلك وجزاءَه ولهم الْوَيْلُ والعذاب الأليم. قال رسول الله : ((رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يُشَقّ شِدْقُهُ فكذَّابٌ، يكذب الكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيُصْنَع به هكذا إلى يوم القيامة)) أخرجه البخاري رحمه الله. هذا عذابه في القبر في الحياة البرزخية إلى أن تقوم الساعة، فكان الجزاء من جنس العمل. وفي الحديث الآخر وعيد شديد لأصناف ثلاثة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) أخرجه مسلم رحمه الله.
والكذب في دين الله من أقبح المنكرات، وأَوَّلُ ذلك نِسْبَةُ شيء إلى الله أو إلى رسوله يقول الشخص: قال الله قال رسوله، وهو في ذلك كاذب. وهذا الضرب من الافتراء فاحش في حقيقته وخيم في عاقبته، ومع ذلك نجد بعض المسلمين لا يتورع من الوقوع فيه، يقول: قال الله مع أن ذلك ليس في القرآن الكريم، ويقول: قال رسول الله وليس ذلك بحديث عن رسول الله ، وما أشبه ذلك من الفتوى والقول على الله وعلى رسوله بغير علم، قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل: 116]، قال رسول الله : ((إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) أخرجه البخاري ومسلم، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((يكون في آخر الزمان دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)) أخرجه الترمذي والحاكم، وفي رواية الإمام مسلم رحمه الله قال رسول الله : ((يكون في آخر أمتي أُنَاسٌ دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)).
والإسلام يُوصِي أن تُغْرَسَ فضيلةُ الصدقِ في نفوس الأطفال حتى يشبُّوا عليها وقد أَلِفُوها في أقوالهم وأحوالهم كلِّها، ولننظر إلى حال بعض المسلمين اليوم كيف يُرْغِمُ الشخصُ أولادَهُ بنين وبنات على الكذب وتَعَلُّمِهِ منذ الصغر، فمثلاً لو طَرَقَ أحدٌ عليه البابَ أو دَقَّ جرس الهاتف قال للابن أو البنت: قل: أبي غير موجود، مع أنه موجود وهو الذي لقَّنه الكذب، ثم يطلب من أولاده أنْ يَصْدُقُوا ولا يكذبوا! فإذا هو عوَّدَهم الكذبَ من حيث يشعر أو لا يشعر فهل يستجيبون لطلبه أنْ يَصْدُقُوا مع التعامل بالكذب؟! الجواب: لا، لن يستجيبوا لندائه وطلبه بأن يكون الصدقُ سَجِيَّةً لهم وعلامةً واضحةً في حياتهم، وإنِ استجابوا وصدقوا مرة فسوف يقولون الكذب مرات ومرات نظرًا لما طُبِعُوا عليه وتعوَّدوا.
وكذلك الحال يُرغم أولادُنا جميعًا على الكذب سواء من عوَّدهم الصدق أو ممن لم يعوِّدهم، وذلك من خلال الاستماع إلى المسلسلات أو قراءة القصص الكاذبة أو الخيالية البعيدة عن الواقع أو سَرْد القصص الواهية باسم التخيلات التي تثري فكر الطفل على حدّ زعمهم والتي لا تَمُتُّ إلى الإسلام بصلة بل هي مفسدة ودعوة للكذب، نسأل الله العافية والسلامة كما نسأله سبحانه أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله قاعد في بيتنا، فقالت: تَعَالَ أُعْطِك، فقال لها رسول الله : ((ما أردتِ أن تُعْطِيَهُ ؟)) قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال لها: ((أما إنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة)) رواه أبو داود رحمه الله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال لصبي: تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة)) رواه أحمد رحمه الله.
فلننظر كيف يعلّم الرسولُ الأمهاتِ والآباءَ أن ينشِّئُوا أولادهم تنشئة يحترمون فيها الصدق ويتنزهون عن الكذب، ولو أنه تجاوز عن هذه الأمور وعدّها من التوافه الهيّنة كما يظنها بعض المسلمين، لو تجاوز عنها لخشي أن يكبر الأطفال وهم يعتبرون الكذب ذنبًا صغيرًا وهو عند الله عظيم.
وقد وصلت العناية والصرامة في الإسلام في تحرّي الحق وقول الصدق حتى تناولت الشؤون المنزلية الصغيرة، فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إنْ قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يُعدّ ذلك كذبًا؟ قال: ((إن الكذب يكتب كذبًا حتى تُكتبَ الكُذَيْبَةُ كُذيبة)) رواه مسلم رحمه الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أمر بالصدق ووعد الصادقين بالخير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمن الذين يعرِّضُون أنفسهم للكذب وهم أكثر الناس اليوم كذبًا التُّجَّارُ، الصغير منهم والكبير، إلا من رحمه الله، فقد يكذب أحدهم في بيان سلعته وعرض ثمنها ويغش في عرضها بأن يجعل الجزء الظاهر للمشتري أحسن وأفضل بكثير مما عليه بقية السلعة، وقد يكون القدر الكبير منها غير صالح ويوهم المشتري وقد يُلْحِقُ ذلك ويُتْبِعُهُ بالأيمان الكاذبة في صلاح تلك السلعة. ومن المشترين أناس يُقبلون على الباعة وهم قَلِيلُو الخبرة سَرِيعُو التصديق لما يُقال لهم، يعتقدون بأن الناس سواسية في الصدق، فمن الإيمان أن لا تُسْتَغَلَّ سَذَاجَتَهُمْ في كسبٍ مضاعف أو تغطية عيب في البضاعة المعروضة. قال رسول الله : ((الْبَيِّعَانِ بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورِكَ لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحِقَتْ بركة بيعهما)) رواه البخاري ومسلم، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثًا هو لك مصدّق وأنت له كاذب)) رواه البخاري. ومن الملعونين في الحديث الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المنفق سلعته بالحلف الكاذب، عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه عن النبي قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرات، فقال أبو ذَرٍّ: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل إزاره، والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم، وعن رفاعة رضي الله عنه أنه خرج مع النبي إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: ((يا معشر التجار)) ، فاستجابوا لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: ((إن التجار يُبْعَثُونَ يوم القيامة فُجَّارًا إلا منِ اتقى وبَرَّ وصدق)) رواه الترمذي واللفظ له والحاكم والطبراني وغيرهم.
والحيف في الشهادة من أشنع الكذب، فيجب على المسلم أن يقول الحقّ ويقوم بالشهادة الصادقة التي تُقِرُّ الحقَّ ولو على أقرب الناس وأحبّهم إليه، لا تميل به قرابة ولا عصبية، ولا تزيغه رغبة أو رهبة من أحد، ويجب عليه أن يؤديها ولا يكتمها، فإن كتمها فهو آثم قلبه.
وعمومًا فإن على جميع المسلمين من أرباب الحرف والصناعات والوظائف في شتى صورها الكتابية منها أو التعليمية والتربوية أو القضائية وغيرها وعلى كل من وَلِيَ من أمر المجتمع شيئًا أو كان في بيته راعيًا، إنَّ على الجميع أنْ يلتزموا الصدق في حياتهم ويجتنبوا الكذب؛ لأنَّ سعادة الفرد والمجتمع بأسره في التزام الصدق واجتناب الكذب، وقد يندفع الشخص إلى الكذب حين يعتذر عن خطأٍ وقع منه ويحاول التَّمَلُّصَ من عواقبه متخلصًا من الموقف ظَانًّا أن في ذلك مَنْجَاةً له، وهذا غباءٌ وهَوَانٌ وفرَارٌ من الشر إلى مثله أو أشدّ، والواجب أن يعترف بِغَلَطِهِ ويقول الصدق، فلعلّ صدقه في ذكر الواقع وأَلَمَهُ عما بَدَرَ منه يمسحان هَفْوَتَهُ وزَلَّتَهُ، وعليه أنْ يَتَشَجَّعَ في قَوْلِ الحق ويَتَحَرَّجَ من لَوْثَاتِ الكذب. قال رسول الله : ((تحرّوا الصدق وإن رأيتم أن الهلكة فيه، فإن فيه النجاة)) رواه ابن أبي الدنيا.
وإنَّ الصدق في الأقوال يصل بصاحبه إلى الصدق في الأعمال والصلاح في الأحوال، وإنَّ حِرْصَ المسلم على التزام الصدق فيما يتكلم به يجعل ضياء الحق يسطع على قلبه وعلى فكره، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب70، 71]، وقال رسول الله : ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
(1/5625)
الحث على الصدق والنهي عن الكذب (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
القصص, خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
28/12/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرد قصة الثلاثة الذين خلفوا. 2- فوائد وعظات من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاستكمالاً للخطبة السابقة حول وجوب التزام الصدق وعواقبه الحميدة وتحريم الكذب ووجوب الابتعاد عنه لأنه من الصفات الذميمة للمنافقين أورد حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الذي أُنْزِلَ فيه وفي صَاحِبَيْهِ قرآنٌ يُتلى إلى يوم القيامة.
عن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبيد الله بن كعب بن مالك ـ وكان قائد كعب رضي الله عنه من بنيه حين عَمِيَ ـ قال: سمعت كعب بن مالك رضي الله عنه يحدث بحديثه حين تَخَلَّفَ عن رسول الله في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها قطّ إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يُعَاتِبْ أحدًا تخلف عنه، إنما خرج رسول الله والمسلمون يريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بَدْر أَذْكَرَ في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة، فغزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد بذلك الديوان ـ. قال كعب: فَقَلَّ رجل يريد أن يتغيّب يظنّ أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل، وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أَصْعَر. فتجهز رسول الله والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقْضِ شيئًا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرّ بالناس الجدُّ، فأصبح رسول الله غاديًا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدرِكهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يُقَدَّر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مَغْمُوصًا عليه في النفاق أو رجلاً ممن عَذَرَ الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوكًا فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ((ما فعل كعب بن مالك؟)) قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، واللهِ ـ يا رسولَ اللهِ ـ ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله ، فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيّضًا يزول به السراب، فقال رسول الله : ((كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ)) ، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بِمَ أخرج من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله قد أظلّ قادمًا زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لَنْ أَنْجُوَ منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه، وصبَّح رسول الله قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المُخَلَّفُون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووَكَلَ سرائرَهم إلى الله، حتى جئت، فلما سلّمتُ تبسَّم تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثم قال: ((تعال)) ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ((ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟!)) قال: قلت: يا رسول الله، إني ـ والله ـ لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني ـ والله ـ لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عُقْبَى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك، قال رسول الله : ((أما هذا فقد صدق، فَقُمْ حتى يقضي الله فيك)) ، فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله، ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا، لقد عجزت في أن لاَّ تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك، قال: فَوَاللهِ، ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله فأُكَذِّبَ نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحدٍ؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا ـ أيها الثلاثة ـ من بين من تخلف عنه، قال: فاجْتَنَبَنَا الناسُ وقال: تغيّروا لنا حتى تَنَكَّرَتْ لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه وأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيتُ حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدتُ فناشدته فسكت، فَعُدْتُ فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من نَبَطِ أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: مَنْ يَدُلُّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاءني فدفع إليّ كتابًا من ملك غسان وكنت كاتبًا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنا نُوَاسِكَ، قال: فقلت حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء، فتيمَّمْتُ بها التنور فسجّرته بها. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسولُ رسولِ الله يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنّها، قال: فأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ((لا، ولكن لا يقربنك)) ، فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنتَ رسول الله في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله ، وما يدريني ماذا يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. قال: فلبثت بذلك عشر ليال، فكَمُل لنا خمسون ليلة من حين نُهِي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدًا وعرفت أنه قد جاء فرج، قال: فآذن رسول الله الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وركض رجل إليّ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم قِبَلِي وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله يتلقاني الناس فوجًا فوجًا، يهنئونني بالتوبة ويقولون: لِتَهْنِكَ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله وهو يبرق وجهه من السرور قال: ((أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك)) ، قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: ((لا، بل من عند الله)) ، وكان رسول الله إذا سُرَّ استنار وجهه كأن وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك، قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال رسول الله : ((أمسك بعض مالك فهو خير لك)) ، قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، قال: وقلت: يا رسول الله، إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، قال: فو الله، ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي، قال: فأنزل الله عز وجل: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة117، 118]، حتى بلغ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
قال كعب: والله، ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله أن لاَّ أكُونَ كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شَرَّ ما قال لأحد، قال الله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 95، 96]، قال كعب: كنا خُلِّفْنَا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا تَخَلُّفَنَا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.وقد وردت بعض الكلمات بألفاظ أخرى حسب الرواية فليتنبه المسلم لهذا كما هي الحال في الروايات الصحيحة الأخرى في الأحاديث الكثيرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلقد سمعنا هذا الحديث العظيم الذي يحمل في ثناياه الكثير من الدروس والعبر والعظات وتوبة الله على أولئك النفر الثلاثة بعد أن صدقوا وعندما صدقوا في عدم وجود عذر لهم عن تخلفهم عن رسول الله وأصحابه في غزوة تبوك وتوبة الله عز وجل عليهم بعد عقابهم بالهجر وعدم الكلام معهم خمسين ليلة من قبل الرسول وأصحابه مع صدقهم وندمهم على فعلهم وعلى ما نزل عليهم من العقاب وامتثالهم لأمر رسول الله وصدقهم في ذلك، وخاصة في العشر الأخيرة بعد مضي أربعين ليلة عندما أُمروا باعتزال نسائهم لاختبار صدقهم وعزمهم على التوبة الصادقة، وبعدها جاء الفرج من رب العزة والجلال، وأَنْزَلَ فيهم قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، كما أمر المؤمنين بتقواه عز وجل وأن يكونوا مع الصادقين بعد موقف الصدق لأولئك النفر الثلاثة من صحابة رسول الله والذين اعترفوا أيضًا بذنوبهم وخلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا وتاب الله عليهم، مع البيان الواضح لموقف المنافقين الكاذبين المخادعين وفضحهم في سورة التوبة المسماة بالفاضحة، والتي كشفت أكثر صفات المنافقين وفضحت مواقفهم المخزية؛ ليبتعد المؤمنون الصادقون عن تلك الخصال الذميمة الملازمة للمنافقين ولمن سار على نهجهم في كل زمان ومكان؛ لأن الصفات واحدة وإن اختلف الأشخاص وتعاقب الزمان واختلف المكان، قال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 117-119].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وآله، وارْضَ عن الصحابة أجمعين...
(1/5626)
الغيبة (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
6/7/1412
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الغيبة. 2- تعريف الغيبة. 3- تعظيم أمر الغيبة. 4- المغتاب يخسر حسناته. 5- جزاء الغيبة في الآخرة. 6- أسباب الغيبة. 7- حالات تجوز فيها الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيرًا مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 12].
إن الغيبة آفة خطيرة من آفات اللسان، وإن أشد ما يشمئز وينفر منه طبع الإنسان أن يأكل لحم إنسان ميت، وأشد من ذلك نُفْرَةً وأكثر منه فَظَاعَةً أن يكون ذلك الإنسان الميت أخاه. فالله تعالى مثَّل الغيبة وما يتناوله المغتاب من أخيه المسلم بهذا المثل الْمُسْتَقْذَرِ الذي تنفر منه الطباع البشرية لينفر الناس منها، وتستقر في نفوسهم بشاعتُها، فيحفظوا ألسنتَهم عن الوقوع في أعراض المسلمين؛ لأن للمسلم حقوقًا وواجبات.
والغيبة ذِكْرُ المسلم أخاه بما يكره صفة أو خصلة موجودة فيه، سواء كان في حضوره أم في غَيْبَتِهِ عن ذلك المجلس، وسواء كان ذلك القول في خَلْقِهِ أمْ في خُلُقِهِ، وإن لم يكن ذلك القول والوصف فيه فإنه يُعَدُّ بُهْتَانًا؛ ولذلك هو أعظم من الغيبة، والبهتان هو من صفات اليهود لأنهم قوم بُهْت.
ولقد بين النبي الغيبة لأصحابه بقوله: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
إن في هذا الحديث بيانًا شافيًا لمعنى الآية الكريمة وتفسير الغيبة بما يشفي ويكفي لمن أراد حفظ لسانه عن أعراض المسلمين، ومتى حفظ المسلم يَدَهُ ولِسَانَهُ وفَرْجَهُ فقد ضمن له رسول الله الجنة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وفي الحديث الصحيح الآخر قال رسول الله : ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) رواه البخاري والترمذي.
والغيبة قد تكون في جسم الإنسان، وقد تكون في نسبه أو مهنته أو في خُلُقه أو في مظهره وثيابه أو في أموره الدنيوية أو الدينية، وأمثلة ذلك عمومًا بأن يقال في الشخص ما يكره أن يوصف به كأعمى أو أعور أو أعرج أو أحول أو طويل أو قصير، عبد، أو أصله عبد، جَزَّار، بخيل، جبان، سريع الغضب، مُتَهَوِّر، كثير الكلام، واسع البطن، دمه ثقيل، سَيِّئُ الْخُلُقِ، قذر المنظر، فهذه وغيرها من الأوصاف التي تعتبر من باب الغيبة إن كانت موافقة للحقيقة والواقع، فالقول بها حرام، والقائل بها مغتاب آكِلٌ لَحْم أخيه المسلم عَاصٍٍ لربه. وإذا لم يكن هذا الكلام وما شابهه مطابقًا للواقع فإنه يعتبر كذبًا وبهتانًا وافتراء، وهو أعظم من الغيبة.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي : حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كذا وكذا ـ تعني أنها قصيرة ـ فقال: ((لقد قُلْتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لَمَزَجَتْهُ)) رواه أبو داود واللفظ له والترمذي وقال: "حديث صحيح", ومعنى ((مزجته)) أي: خالطته مخالطة يتغير بها طعمُه أو ريحه لشدة نَتَنِهَا وقُبْحِهَا. وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة التي يجب على المسلم تجنبها وتَطْهِير لسانه منها ومن النميمة والبهتان والافتراء والكذب؛ لأنه سوف يحاسب على ما يتكلم به ويجده مكتوبًا في صحيفته يوم الجزاء والحساب، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وفي نهاية الحديث الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما كان يسير مع رسول الله وسأله عن أشياء وأخبره الرسول عنها إلى أن قال رسول الله : ((ألا أخبرك بِمِلاَكِ ذلك كُلِّهِ؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((كُفَّ عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائدُ ألسنتِهم)) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
فطوبى لمن اشتغل بعيوب نفسه وقام بإصلاحها، فما من إنسان بعد الرسل إلا وفيه عيوب، قد تكون أكبر من عيوب غيره وأكثر خطورة، فعلى المغتاب أن يحاسب نفسه ويسألها: هل أصلحها ونَزَّهَهَا عن كل عيب وإثم ونقص في الدين حتى لم يبق عليه إلا عيوب الناس وأحوالهم وتتبع عوراتهم؟! إن المغتاب يرى العيب في غيره وإن صَغُرَ ولا يراه في نفسه وإن كان كبيرًا، قال رسول الله : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المؤمنين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم هتك الله ستره، ومن يتبع عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) رواه أبو داود والطبراني وقال: "رجاله ثقات".
والمغتاب يخسر حسناته من حيث لا يشعر، ويعطيها رغمًا عن أنفه إلى من يغتابه، وهي تعتبر في الوقت نفسه للطرف الآخر ربحًا حيث يَجِدُ جَزَاءَهَا يوم القيامة حسناتٍ تُثَقِّلُ ميزانَه، أو سيئاتٍ تُطْرَحُ عنه جاءته من حيث لا يدري، وهذه عاقبة من يغتاب المسلمين ويتطاول في أعراضهم وينهشها أو يظلمهم أو يأكل حقوقهم, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهمَ له ولا متاع، فقال: ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه، ثم طرح في النار)) رواه مسلم والترمذي وغيرهما، وأيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله)) رواه مسلم والترمذي، ومما قاله في خطبته في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي الحديث الآخر: ((الربا سبعون حوبًا، وأيسرها كنكاح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)) رواه ابن أبي الدنيا, وقال : ((إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)) رواه أبو داود، ولما جاء الأسلميُّ إلى رسول الله يريد تطهيره من جريمة الزنا، ثُمَّ رُجِمَ حتى مات، فسمع رسول الله رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي سَتَرَ الله عليه فلم يدع نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب، قال: فسكت رسول الله ، ثم سار ساعة فَمَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ، فقال: ((أين فلان وفلان؟)) فقالا: نحن ذا يا رسول الله، فقال لهما: ((كُلا من جيفة هذا الحمار)) ، فقالا: غفر الله لك يا رسول الله، من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله : ((ما نِلْتُمَا من عِرْضِ هذا الرجل آنفًا أشد من أَكْلِ هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها)) رواه ابن حبان في صحيحه، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) رواه أحمد وأبو داود.
وعلى المغتاب أن يتوب إلى الله ويستغفره ويطلب من أخيه المسلم أن يعفو عنه إن كان قد بلغته الغيبة، وإن لم تبلغه فليستغفر له وليَدعُ الله له وليُثنِ عليه بقدر ما أساء له لدى الأشخاص الذين كانوا يسمعون لغيبته وتكلم عندهم، ولا يخبر صاحبه حتى لا يُوغِرَ صَدْرَ أخيه عليه.
وأما واجب السامع للمغتاب فأنْ يَذُبَّ ويَرُدَّ عن عرض أخيه بالغيب ولا يسترسل مع المغتاب، قال رسول الله : ((من ذبّ عن عرض أخيه بالْغَيْبَةِ كان حقًا على الله أن يعتقه من النار)) رواه أحمد بإسند حسن وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم، وقال : ((من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" وابن أبي الدنيا، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة)) وهو صحيح الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن الغيبة أصبحت من الأمراض المنتشرة بين المسلمين، ولا يسلم منها إلا من رحمه الله تعالى، فالرجل والمرأة والجاهل وطالب العلم والصغير والكبير والرفيع والوضيع في ذلك سواء، وهناك دوافع تدفع الشخص حتى يغتاب أخاه المسلم فمنها:
1- الْغَيْرَةُ في أمر من الأمور الدنيوية أو الدينية، وهي منتشرة بين الرجال والنساء، وبين النساء أكثر، وخاصة الجارات أو ما يسمّى بالضرائر.
2- الْحَسَدُ الذي يأكل قلب المغتاب، فيريد أن يُحَطِّمَ مكانةَ أخيه عند الناس، أو يريد أن يحتلّ مكانه في أيّ عمل ديني أو دنيوي من تجارة أو صناعة أو وظيفة أو أي حرفة أخرى.
3- التَّنْقِيصُ والتَّهْوِينُ من شأن الشخصيّات المحترمة في أعين الناس؛ من أجل أن يبرِّر المغتاب معائبَه وقبائحَه.
4- وقد تكون موافقة الجلساء ومجاملة الأصدقاء ومساعدتهم في الكلام وحبّ التملق والنفاق هي الدافع للغيبة، أو الكراهية الخفية في نفس المغتاب، فكل ما كان من هذا القبيل فهو حرام وهو من باب الغيبة المحرمة.
وقد ذكر العلماء أسبابًا تبيح الغيبة ومنها:
1- التَّظَلُّمُ؛ بأن يذكر للوالي أو القاضي أو من يستطيع رفع الظلم عنه مثلاً يذكر ظلم أخيه له أو خيانته أو أكله للرشوة، قال تعالى: لاَّ يُحِبُّ ?للَّهُ ?لْجَهْرَ بِ?لسُّوء مِنَ ?لْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [النساء: 148].
2- الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يغيره بقصد ردّ العاصي إلى الصواب، فإن لم يكن قصده التوصل إلى إزالة المنكر كان ذلك حرامًا.
3- الاستفتاء وذكر الحال للمفتي طلبًا للفتوى ويذكر الحال الحاصل، والأحوط والأفضل في ذلك أن لاَّ يذكر اسم الشخص، بل يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا وكذا؟ يُعَرِّضُ بِاسْمِهِ ولا يُصَرِّحُ به.
4- تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، ومن ذلك جرح المجروحين من الرواة للأحاديث النبوية وكذلك الشهود، ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو إسناد عمل له أو غير ذلك، ويجب على الْمُشَاوَرِ أن لاَّ يُخْفِي الحال بل يذكر ذلك بِنِيَّةِ النصيحة.
5- المجاهر بفسقه، مثل المجاهر بشرب الخمر أو أخذ الرشوة أو المجاهر بالبدعة وغير ذلك من الأمور الدينية.
6- التعريف بالشخص باللقب إذا كان لا يُعْرَفُ إلا به، ولا يكون ذلك على سبيل التنقص والاحتقار، مثل: الأعمش أو الأعرج أو الأصم أو الأعمى أو الطويل أو القصير... الخ. فإن عُرف بغير هذه الأوصاف والألقاب كان ذلك هو الأولى والأحسن والأقرب إلى الألفة والمودة بين المسلمين عندما ينادي أحدهم أخاه المسلم بأحب الأسماء إليه.
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5627)
الغيبة (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
13/7/1412
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساهل المسلمين بكبيرة الغيبة. 2- التحذير من آفات اللسان. 3- مصيبة الوقوع في أعراض العلماء والدعاة والمصلين. 4- استحضار المسلم رقابة الله على سائر كلامه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً بسابقه حيث كانت الخطبة السابقة عن الغيبة والكلام في أعراض المسلمين عمومًا، وتبين لنا حرمة أكل لحوم المسلمين ودليل ذلك من الكتاب والسنة، واتضح التحريم إلا في حالات مستثناة ومنها: التَّظَلُّمُ عند من يُعْتَقَدُ أنَّ عنده الإنصافَ والحكمَ بالعدلِ، أوالاستعانةُ على تغيير المنكر، أو تحذيرُ المسلمين من شر مبتدع أو غيره، أو النصيحةُ لمن يُسْتَشَارُ من أجل المصاهرة أو المشاركة في أي عمل، أو الاستفتاءُ، أو عن المجاهرِ بفسقه وفجوره، أو التعريفُ بشخص باللّقب الذي لا يعرف إلا به وما شابه ذلك من الكلام في أيّ مسلم أو مسلمة بما هو واقع حقيقة، وما عدا ذلك فإنه حرام لا يجوز لمسلم أن يغتاب ويذكر أخاه المسلم بما يكره. أما على سبيل المدح والثناء عليه فليس بغيبة إذا كان الذي ذكره عنه حقًا، فإنما يُثَاب عليه الشخص ولا يأثم به.
وقد يفهم بعض المسلمين من كلمة الْعِرْضِ واستطالة الشخص فيه بالكلام إنما هو على محارم الرجل من النساء، أي: أنه يتكلم في شرف زوجته أو ابنته أو أخته أو أمه أو غَيْرِهِنَّ، وكلمة العرض الواردة في الحديث تشمل ذلك كله، وأهمها: الكلام في الشخص نفسه بما يكرهه ولا يرضاه، سواء كان حاضرًا أو غائبًا عن ذلك المجلس، فالكلام عن الشخص بأي شكل من الأشكال هو انتهاك لعرضه، وذلك محرم بنصوص كثيرة من الكتاب والسنة، سواء كان ذلك عن طريق الغيبة أو النميمة أو البهتان أو الكذب أو الوقيعة به بأي طريق من طرق الظلم والتعدي عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله)) رواه مسلم والترمذي.
والغيبة آفة خطيرة ومرض منتشر بين جميع المسلمين، لا يكاد يسلم منه أحد إلا من رحمه الله وتداركه برحمته وعفوه وتوفيقه وهدايته، وقليل جدًا من يسلم من الغيبة، وقليل من يتكلم بالحق في أعراض المسلمين، ناهيك عن البهتان والظلم وقول الزور المنتشر بكثرة.
والحقيقة أن التساهل بأمر هذه الكبيرة من الكبائر وعدم إنكارها بين الخاصة والعامة جعلتها أمرًا مستساغًا لا غبار عليه حسب العرف إلا بين قلة من المسلمين رجالاً ونساءً، وكثير من المسلمين والمسلمات يحجزون نفوسهم ويملكون زمامها عن الوقوع في كثير من الأمور المحرمة، فتجدهم يبتعدون عن الشرك وعن الزنا والربا والسحر وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والنميمة والبهتان وشهادة الزور وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك مما هو معلوم تحريمه، ولكنهم مع ذلك لا يستطيعون الابتعاد عن الغيبة التي هي كبيرة من كبائر الذنوب، قد تكون كلمةٌ واحدةٌ منها مَازِجَةً ومُغَيِّرَةً لماءِ البحرِ لو مُزِجَتْ معه وبه كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد حينما قالت عائشة عن صفية رضي الله عنهما كلمةَ ذَمٍّ تريد بها القصر في القامة: حَسْبُكَ من صفية كذا وكذا، فقال لها رسول الله : ((لقد قُلْتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لَمَزَجَتْهُ)) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي.
ولو تأملنا الآية القرآنية الكريمة التي وردت في سورة الحجرات لكفت وكانت من أبلغ ما يزجرنا ويردعنا عن انتهاك أعراض بعضنا والكلام بما نَكْرَهُ، فهل يستسيغ إنسان مسلم أن يأكل لحم إنسان أيًا كان؟! فكيف يستسيغه لو كان ذلك اللحم لحم أخيه؟! وكيف لو كان الأخ ميتًا؟! إن ذلك كله لا يستسيغه مسلم مهما كانت جَسَارَتُهُ وقُوَّتُهُ على أكل الحرام وإِشْرَافِهِ على الموت المحقق الذي يَسُدُّ به جُوعَهُ وَرَمَقَهُ لئلا يُلْقِيَ بنفسه في التهلكة، إذًا كيف يرتكب مثل ذلك وأكثر بالغيبة الرجلُ المتورّع عن الفواحش والظلم والمنكرات؟! تسمع لسانه يَفْرِي فَرْيًا في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، بل قد يقذفه لسانه ويكُبُّه على وجهه في نار جهنم جَرَّاء البهتان والكذب والقذف للناس.
إن نعمة الكلام مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وأَعْظَمِهَا مِنَّةً على البشر، يجب على كل مسلم أن يسخرها في الخير وفيما يقربه إلى الله تعالى وإلى جنات النعيم، ويبعدها عما يسخط الله عز وجل وعما يبعده عن النار، وذلك بحفظ اللسان تلك الجارحة التي قد ترفعه إلى الدرجات العلا من الجنة أو تهوي به في النار أبعد مما بين السماء والأرض.
وقد حدث رسول الله معاذ بن جبل حديثًا هو للأمة الإسلامية جميعها يجب عليهم العمل به عندما أخذ رسول الله بلسان نفسه وقال: ((كُفَّ عليك هذا)) ، قال معاذ: قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: ((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم؟!)) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
إذا كان الكلام حقيقة في أي شخص مسلم ولكنه يكره ذلك الكلام والقول فإنه يعتبر غيبة، سواء كان حاضرًا أو غائبًا عن ذلك المجلس وتلك المجموعة التي تكلمت فيه بما يكره، وعليه يكون ذلك الكلام حرامًا لا مِرْيَةَ فيه.
فإذا كان الأمركذلك في جميع المسلمين؛ الذكر والأنثى، الحر والعبد، الأبيض والأسود على حد سواء، فإذا كانت الغيبة بهذا الشكل حرامًا فإنها تشتد حرمتها وقد يزداد الإثم فيها في طبقات معينة في مجتمع المسلمين، وخاصة إذا رافق وصاحب تلك الغيبةَ مقاصدُ سيئةٌ من حسد أو نميمة أو بهتان أو قذف أو كذب أو إيقاع فتنة أو تحريش بين اثنين أو فئات في المجتمع أو تخطيط أو تدبير لإفساد أمور المجتمع المسلم بما هو أَسْوَأُ مما هم عليه أو وِشَايَة لولاة الأمر أو غيرهم لحسد أو حقد أو غِلٍّ أو وُصُولٍ لأغراض شخصية وهَوى في النفس، إذا صاحب الغيبة أي أمر مما ذكر أو غيرها من الأمور المحرمة كان الإثم أشد والحرمة أكثر والعقوبة من الله أعظم، هذا في حق العام والخاص، ولكن في حَقِّ أُنَاسٍ تكون أشد مثل الوقوع في أعراض العلماء وأكل لحومهم، الذين هم ورثة الأنبياء، فإذا استباح كُلُّ شخصٍ صَغُرَ أو كَبُرَ، طالبُ علمٍ أو جاهلٌ، رجلٌ أو امرأةٌ، إذا استباحوا أعراضَ علمائهم من المسلمين فإنهم بذلك يشككون أنفسهم وغيرهم فيما يحملونه من علم ورثوه من رسولهم محمد ، فَأَيُّ عَالِمٍ خَالَفَتْ فتواه الكتاب والسنة لسنا بملزمين بالأخذ والعمل بها متى كُنَّا أَهْلاً للاجتهاد، ولكن يجب علينا أن لاَّ نستبيح أعراضهم وننهش لحومهم من أجل فتوى مخالفة للحق قد يرى أحدهم أن الحق معه، مع أنه يثاب على ذلك وله أجر في اجتهاده إذا أخطأ، أما إن كان الاجتهاد موافقًا للحق فله أجران. فيجب على طلبة العلم أن يعرفوا قدر أنفسهم أولاً ويحاسبوها على الصغيرة والكبيرة قبل أن يُحَاسَبُوا، ويتقوا الله في أنفسهم ولا يوردوها موارد الهلاك سواء في حق الخاص أو العام من المسلمين.
كما أن على عامة الناس أن يتقوا الله تعالى ويلزموا حدودهم بعدم التعدي والظلم لعباد الله من المسلمين على اختلاف طبقاتهم، وخاصة العلماء وطلبة العلم في المحاكم والهيئات والمساجد والمدارس وغيرها، وعليهم أن يحترموا أولئك، وكذلك ولاة الأمر من القمة إلى القاعدة، على الجميع أن يحترموهم ويتكاتفوا معهم على الخير وعلى ما فيه صلاح البلاد والعباد الذي يكون به صلاح المسلمين وصالح الإسلام، وبه يسعد المجتمع بإذن الله تعالى، وعلى الجميع بذل النصيحة بقدر الاستطاعة وبالطرق الحكيمة مع مصاحبة الإخلاص البعيد عن كل شائبة تشوبه ويحبط معه العمل.
إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ الإسراء: 36].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، والقائل عز وجل وقوله الحق: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَـ?ئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13،14] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك رسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فالمجالس التي يجتمع فيها الناس لا تخلو من الغيبة التي هي مدار الحديث، سواء كانت المجالس خاصة بالرجال أو النساء وفي أي مكان، ويكثر فيها اللغو، وقد لا تخلو كثير منها من قول الزور والبهتان والإفك.
فمعنى الغيبة: أن تذكر الشخص بما فيه حقيقة ولكنه يكره ذلك. أما البُهْتَانُ: فأن تقول وتذكر عنه ما ليس فيه، فبهذا قد جمع المغتاب بين الكذب والغيبة. وأما الإفك: فأن تنقل ما بلغك عن الشخص، وهذا أشد إثمًا خاصةً عندما يكون الخبر غير صحيح أو يكون قذفًا بالفواحش أو الاتهام بكبائر الذنوب، وقد تمتد وتسري الغيبة في مجالس الذِكْر بين الذين يجتمعون لطلب العلم، وقد تكون في بعض مجالس الناس الذين يريدون التسلية والضحك والترفيه على حَدِّ زعمهم، حيث يتعمدون الإتيان بشخص معروف بالْهَذَرِ والكلام في أعراض الناس من أجل أن يُضْحِكَ الجالسين ويُضْفِي عليهم السعادة والسرور كما يَدَّعُون، ويهزأ ويسخر بالعلماء وطلبة العلم والقضاة، وخاصة الأئمة والمؤذنين، وأيضًا من يستطيع أن يصل إليه لسانه في ذلك المجلس، وما علموا أنهم مشاركون له برضاهم وسكوتهم وإقرارهم له في الغيبة ونهش أعراض المسلمين والبهتان والكذب والفحش الذي يتلفظ به، فهم مشاركون له في الحقيقة لعدم إنكارهم عليه. وأخص بالذكر المجالس سواء كبرت أو صغرت والتي يتكلم فيها الناس في العلماء وطلبة العلم تجد النهش في أعراضهم وإلصاق التهم بهم بأن فيهم وفيهم إلى آخر ما يقولون، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس متى تطرق إليه أي ضعيف نفس. وفي الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله عن ربنا عز وجل أنه قال: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) ، فمن يستطيع محاربة الله عز وجل؟! وقد ورد لفظ الحرب من الله ورسوله فيمن يأكل الربا وفيمن يعادي وليًا من أولياء الله جل وعلا الذين وصفهم سبحانه وتعالى بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62،63].
إنَّ على المسلم أنْ يَرُدَّ عن عرض أخيه المسلم، خاصة عندما يذكره المغتاب يريد أنْ يَعِيبَهُ ويَحُطَّ من قدره ويهِينَهُ أمام الناس، قال رسول الله : ((من رَدَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من ذَبَّ عن عِرْضِ أخيه بالغيبة كان حقًا على الله أن يعتقه من النار)) رواه أحمد والطبراني وابن أبي الدنيا، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال : ((من ذكر امرأً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بِنَفَادِ ما قال فيه)) رواه الطبراني بإسناد جيد.
فعلينا جميعًا أن نجتنب هذه الكبيرة وغيرها من كبائر الذنوب التي تفقدنا كثيرًا من حسناتنا، بل قد نخسر حسناتنا كلها بانتهاكنا لأعراض المسلمين، فالسعيد من حاسب نفسه وعرف قدرها وأمسك لسانه عن الوقوع في أعراض الناس والوقيعة بهم، والشقي من أورد نفسه المهالك وترك للسانه العنان للاستطالة في أعراض الناس، وقد يخسر حسنات مثل الجبال يأتي بها يوم القيامة لما قام به في الحياة الدنيا من الفرائض والسنن والمستحبات، مثل الصلاة والصيام والحج والصدقة والذكر، ولكنها تذهب أدراج الرياح لا يستفيد منها، بل قد يكون أكثر خسارة حيث توضع عليه سيئات أُخَرُ إذا لم يَقْضِ ما عليه للناس من شتم وسبّ وغيبة وبهتان وسفك وظلم وتَعَدٍّ بأي نوع من الأنواع.
فعلى كل مسلم أن يستقلّ أو يستكثر من انتهاك أعراض المسلمين، فسوف يحاسب على ذلك ويجده في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا كانت أمام عينيه. وعلى المسلم أن يتذكر الآيات والأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الشأن ليقف عند حدود الله ولا يتعداها، ومنها قوله تعالى: وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، وقوله عز وجل: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَـ?ئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14]، وقوله عز وجل: بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى? مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 14، 15]، وقوله تبارك وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16-18]، وقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران: 30]، وقوله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]، إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36].
والآيات والأحاديث كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن السعيد من انتفع بالذكرى، قال تعالى: وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، وقال عز وجل: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ?لذّكْرَى? سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى? وَيَتَجَنَّبُهَا ?لأشْقَى ?لَّذِى يَصْلَى ?لنَّارَ ?لْكُبْرَى? ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا [الأعلى: 9-13]، وقال تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ?لألْبَـ?بِ [الرعد: 19].
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5628)
قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
15/2/1429
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة النبي. 2- سنة الاستهزاء بأنبياء الله ورسله. 3- الاستهزاء بأتباع الرسل. 4- فوائد هذه الحادثة النكراء. 5- سبل لنصرة المصطفى مهمة. 6- ليس من النصرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا عَرَفَتِ البَشَرِيَّةُ وَلَن تَعرِفَ مُنذُ أَن أَهبَطَ اللهُ آدَمَ عَلَى الأَرضِ أَعظَمَ وَلا أَشرَفَ وَلا أَجَلَّ مِن محمدِ بنِ عبد الله، محمدُ بنُ عبد الله نَبيُّ الرَّحمَةِ وَالمَلحَمَةِ، محمدُ بنُ عبد الله خَاتَمُ أَنبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، محمدُ بنُ عبد الله سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، محمدُ بنُ عبد الله صَاحِبُ الحَوضِ المَورُودِ وَالمَقَامِ المَحمُودِ، وَحَامِلُ لِوَاءِ الحَمدِ وَالمَخصُوصُ بِالشَّفَاعَةِ العُظمَى، محمدُ بنُ عبد الله المَشرُوحُ صَدرُهُ المَوضُوعُ وِزرُهُ المَرفُوعُ ذِكرُهُ، المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، الشَّاهِدُ البَشِيرُ النَّذِيرُ، وَالدَّاعِي إِلى اللهِ بِإِذنِهِ وَالسِّرَاجُ المُنِيرُ، الصَّادِقُ المَصدُوقُ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ، الهَادِي إِلى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، محمدُ بنُ عبد الله أُسرِيَ بِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسجِدِ الأَقصَى، ثم عُرِجَ بِهِ إِلى السَّمَاوَاتِ العُلَى، حتى وَصَلَ إِلى سِدرَةِ المُنتَهَى، وَبَلَغَ مَكَانًا سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الأَقلامِ.
أَغَرُّ عَلَيهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشهُودٌ يَلُوحُ وَيَشهَدُ
وَضَمَّ الإِلَهُ اسمَ النَّبيِّ إِلى اسْمِهِ إِذَا قَالَ في الخَمسِ المُؤَذِّنُ: أَشهَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِن اسمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُو العَرشِ مَحمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
نَبيٌّ أَتَانَا بَعدَ يَأسٍ وَفَترَةٍ مِنَ الرُّسْلِ وَالأَوثَانُ في الأَرضِ تُعبَدُ
فَأَمسَى سِرَاجًا مُستَنِيرًا وَهَادِيًا يَلُوحُ كَمَا لاحَ الصَّقِيلُ الْمهَنَّدُ
وَأَنذَرَنَا نَارًا وَبَشَّرَ جَنَّةً وَعَلَّمَنَا الإِسلامَ فَاللَّهَ نَحمَدُ
وَمَهمَا أَطَالَ مُتَكَلِّمٌ أَو فَصَّلَ خَطِيبٌ أَو مَدَحَ شَاعِرٌ أَو وَصَفَ أَدِيبٌ فَلَن يُوَفِّيَ نَبيَّ اللهِ حَقَّهُ، وَلَن يَبلُغَ بِرَسُولِ اللهِ قَدرَهُ. وَحِينَمَا تَأتي سَبعَ عَشرَةَ صَحِيَفَةً غَربِيَّةً فَتَهزَأُ بِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَحِينَمَا يَسخَرُ كُفَّارٌ أَنجَاسٌ أَرجَاسٌ بِهَذَا الطَّاهِرِ المُطَهَّرِ المُبَرَّأِ وَيَجعَلُونَهُ مَادَّةً لِرُسُومٍ سَخِيفَةٍ وَعُرُوضٍ مُسِيئَةٍ فَمَا ذَلِكَ مِنهُم ـ وَرَبِّ العِزَّةِ ـ بِمُستَنكَرٍ وَلا مُستَغرَبٍ، كَيفَ وَتِلكَ شِنشِنَةٌ مَعرُوفَةٌ مِنهُم وَلهم فِيهَا أَسلافٌ مِنَ المَاضِينَ، قَدْ بَدَتِ البَغضَاءُ مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ. وَإِنَّهُ مَا بُعِثَ نَبيٌّ وَلا أُرسِلَ رَسُولٌ مِن لَدُنْ نُوحٍ إِلى محمدٍ عَلَيهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلاَّ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِن إِيذَاءِ الجَاهِلِينَ وَعِنَادِ المُتَكَبِّرِينَ وَاستِهزَاءِ المُستَهزِئِينَ، قَالَ سُبحَانَهُ: وَلَقَدِ استُهزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنهُم مَا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: وَمَا يَأتِيهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ ، وَقَالَ تَعَالى: وَمَا يَأتِيهِم مِن نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبلِهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجنُونٌ ، وَفي البُخَارِيِّ عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الوَحيُ عَلَى رَسُولِ اللهِ أَوَّلَ مَا نَزَلَ انطَلَقَت بِهِ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا إِلى ابنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بنِ نَوفَلٍ، وَكَانَ امرَأً تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكتُبُ الكِتَابَ العِبرَانِيَّ، فَيَكتُبُ مِنَ الإِنجِيلِ بِالعِبرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَن يَكتُبَ، وَكَانَ شَيخًا كَبِيرًا قَد عَمِيَ، فَقَالَت لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بنَ عَمِّ، اسمَعْ مِن ابنِ أَخِيكَ، فقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخبَرَهُ رَسُولُ اللهِ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَهُ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيتَني فِيهَا جَذَعٌ، لَيتَني أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخرِجُكَ قَومُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((أَوَمُخرِجِيَّ هُم؟!)) قَالَ: نَعَمْ، لم يَأتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثلِ مَا جِئتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ. الحَدِيثَ.
وَهَكَذَا عُودِيَ الحُبِيبُ مِن أَوَّلِ مَا بُعِثَ بِالنُّورِ المُبِينِ وَجَاءَ بِالهُدَى المُستَقِيمِ، وَاستُهزِئَ بِهِ وَسُخِرَ مِنهُ، قَالَ الكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ، وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ، وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسحُورًا ، بَل قَالُوا أَضغَاثُ أَحلاَمٍ بَلِ افتَرَاهُ بَل هُوَ شَاعِرٌ فَليَأتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرسِلَ الأَوَّلُونَ ، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجنُونٍ ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنُونٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ ، وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزلِقُونَكَ بِأَبصَارِهِم لَمَّا سَمِعُوا الذِّكرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجنُونٌ ، أَم يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيبَ المَنُونِ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذكُرُ آلِهَتَكُم وَهُم بِذِكرِ الرَّحمَنِ هُم كَافِرُونَ ، وَقَالَ تَعَالى: وَإِذَا رَأَوكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ، وَقَال تَعَالى عَنهُم: بَلْ عَجِبتَ وَيَسخَرُونَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَإِذَا رَأَوا آيَةً يَستَسخِرُونَ ، وَقَالَ مُوَبِّخًا لهم: أَفَمِن هَذَا الحَدِيثِ تَعجَبُونَ وَتَضحَكُونَ وَلا تَبكُونَ وَأَنتُم سَامِدُونَ.
وَهَكَذَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ كَانَ دَيدَنُ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ المُعَانِدِينَ لِرُسُلِهِم، سُخرِيَةٌ وَاستِهزَاءٌ وَضَحِكٌ، وَاتِّهَامَاتٌ بَاطِلَةٌ وَادِّعَاءَاتٌ زَائِفَةٌ، قَالَ تَعَالى عَن نُوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ: وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخَرُونَ ، وَقَالَ تَعَالى: كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبدَنَا وَقَالُوا مَجنُونٌ وَازدُجِرَ ، وَقَالَ أُولَئِكَ القَومُ عَنهُ: إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ، وَقَالَ تَعَالى عَن فِرعَونَ لَمَّا جَاءَهُ مُوسَى: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرسِلَ إِلَيكُم لَمَجنُونٌ ، وَقَالَ تَعَالى عَنهُ: وَفي مُوسَى إِذ أَرسَلنَاهُ إِلى فِرعَونَ بِسُلطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَو مَجنُونٌ ، وَقَالَ قَومُ هُودٍ عَلَيهِ السَّلامُ كَمَا حَكَى اللهُ عَنهُم: إِن نَقُولُ إِلاَّ اعتَرَاكَ بَعضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشهِدُ اللهِ وَاشهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشرِكُونَ. وَأَمَّا قَومُ شُعَيبٍ عَلَيهِ السَّلامُ فَقَد قَالُوا لَهُ استِهزَاءً بِهِ وَسُخرِيَةً مِنهُ: يَا شُعَيبُ أَصَلاَتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ مَا يَعبُدُ آبَاؤُنَا أَو أَن نَفعَلَ في أَموَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ.
نَعَمْ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنها سُنَّةُ اللهِ في رُسُلِهِ وَأَنبِيَائِهِ؛ ابتِلاءً لهم لِرِفعَةِ دَرَجَاتِهِم وَإِعلاءِ مَنَازِلِهِم، بَلْ إِنَّ تِلكَ السُّنَّةَ لَتَشمَلُ مَعَ الأَنبِيَاءِ أَتبَاعَهُمُ المُؤمِنِينَ؛ اختِبَارًا لهم وَامتِحَانًا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ، وَفي مَوقِفِ القِيَامَةِ يَقُولُ الجَبَّارُ لِمَن خَفَّت مَوَازِينُهُم: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِن عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذتُمُوهُم سِخرِيًّا حَتَّى أَنسَوكُم ذِكرِي وَكُنتُم مِنهُم تَضحَكُونَ إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاصبِرُوا فَإِنَّ الأَمرَ بِيَدِ اللهِ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُم وَمَا يَفتَرُونَ وَلِتَصغَى إِلَيهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرضَوهُ وَلِيَقتَرِفُوا مَا هُم مُقتَرِفُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَكُلَّمَا استَهزَأَ الكَفَرَةُ بِالحَبِيبِ كَانَ في ذَلِكَ ارتِفَاعٌ لِصِيتِهِ وَذِكرِهِ عَلَيهِ السَّلامُ، وَمِن ثَمَّ انتِشَارٌ أَكبرُ لِدِينِ الإِسلامِ، وَكُلَّمَا استَهزَأَ الجَاهِلُونَ بِالحَبِيبِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلمُسلِمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِهَديِهِ وَسُنَّتِهِ وَالعَضِّ عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ.
وَإِنَّهُ لَمَّا نُشِرَتِ الرُّسُومُ السَّاخِرَةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبلَ سَنَتَينِ تَقرِيبًا حَصَلَ مِنَ المُسلِمِينَ حِيَالَهَا مَا يُثلِجُ الصَّدرَ وَيُبهِجُ النَّفسَ، وَبَدَا مِن رُدُودِ أَفعَالِهِم تِجَاهَهَا مَا أَثبَتُوا فِيهِ مَحَبَّتَهُم لِنَبِيِّهِم، وَكَانَ ممَّا دَعَا إِلَيهِ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَتَبَنَّاهُ عَدَدٌ مِنَ الغَيُورِينَ فِكرَةُ المُقَاطَعَةِ الاقتِصَادِيَّةِ، مُقَاطَعَةُ الدُّوَلِ التي استُهزِئَ فِيهَا بِرَسُولِ اللهِ، فَلا تُشتَرَى بَضَائِعُهُم وَلا يُلتَفَتُ إِلى سِلَعِهِم،؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ ضَغطًا اقتِصَادِيًّا عَلَيهِم لِيُحِسُّوا بِشَنَاعَةِ فَعلَتِهِم وَفَدَاحَةِ جَرِيمَتِهِم في حَقِّ نَبيِّ الإِسلامِ فَيَرجِعُوا، وَهَذَا الأَمرُ وَإِن كَانَ صَحِيحًا في الجُملَةِ نُصرَةً لِلحَبِيبِ وَغَيرَةً عَلَيهِ أَن يُنَالَ مِنهُ في خَلقِهِ أَو خُلُقِهِ أَو فِيمَا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَنَّهُ لَيسَ المَوقِفَ الوَحِيدَ الَّذِي يَجِبُ أَن نَفعَلَهُ، بَل إِنَّ ثَمَّةَ مَوَاقِفَ أُخرَى لِنُصرَتِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ هِيَ أَهَمُّ مِنَ المُقَاطَعَةِ الاقتِصَادِيَّةِ وَأَولى بِأَن يَقِفَهَا كُلُّ مُسلِمٍ، وَمَعَ هَذَا لا تَجِدُ مِنَ النَّاسِ فِيهَا إِلاَّ الفُتُورَ وَالبُرُودَةَ:
أَوُّلُهَا: المُقَاطَعَةُ الفِكرِيَّةُ وَالقَلبِيَّةُ لِلمُشرِكِينَ وَالكُفَّارِ، يَهُودًا كَانُوا أَو نَصَارَى، أَو شُيُوعِيِّينَ أَو بُوذِيِّينَ أَو غَيرَهُم، فَإِنَّ المُسلِمَ الَّذِي رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسلامِ دِينًا المُسلِم الذِي أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لا يُمكِنُ بِحَالٍ أَن يُوَالِيَ مَن عَادَاهُمَا أَو يُحِبَّهُ أَو يَتَشَبَّهَ بِهِ، فَضلاً عَن أَن يَمدَحَهُ أَو يُعجَبَ بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَولِيَاءِ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجعَلُوا للهِ عَلَيكُم سُلطَانًا مُبِينًا ، وَقَالَ تَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لاَ يهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَالكُفَّارَ أَولِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاء تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ.
وَمِن أَهَمِّ الأُمُورِ في نُصرَةِ الحَبِيبِ بَل هُوَ مَعنى شَهَادَةِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَاجتِنَابُ مَا نهى عَنهُ وَأَن لاَّ يُعبَدَ اللهُ إِلاَّ بِمَا شَرَعَ، مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرسَلنَاكَ عَلَيهِم حَفِيظًا ، وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا ، وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
إِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَدرُسُوا حَيَاتَهُ وَسِيرَتَهُ، وَأَن يَنشُرُوا عِلمَهُ وَيُحيُوا سُنَّتَهُ، وَأَن يَدعُوا إِلى هَديِهِ وَطَرِيقَتِهِ، وَأَن يَتَخَلَّقُوا بِأَخلاقِهِ وَيَتَّصِفُوا بما كَانَ عَلَيهِ، فَقَد قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِني)). وَإِنَّكَ لَتَرَى في المُسلِمِينَ اليَومَ تَهَاوُنًا بِالسُّنَنِ وَتَقصِيرًا في الطَّاعَاتِ، بَل وَتَركًا لِلفُرُوضِ وَإِخلالاً بِالوَاجِبَاتِ وَإِضَاعَةً لِلصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعًا لِلشَّهَوَاتِ وَوُقُوعًا في الحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، فَأَيُّ نُصرَةٍ لِلنَّبيِّ تُرجَى مِن مِثلِ هَؤُلاءِ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَترُكُ صَلاةَ الفَجرِ وَيُؤثِرُ النَّومَ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَتَهَاوَنُ بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ وَيَهجُرُ المَسجِدَ؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن يَأكُلُ الرِّبَا وَلا يَسأَلُ عَن حِلِّ المُسَاهَمَاتِ وَالمُعَامَلاتِ مِن حُرمَتِهَا؟! أَيُّ نُصرَةٍ تُرجَى ممَّن لا يَتَوَرَّعُ عَن النَّظَرِ إِلى الحَرَامِ وَاستِمَاعِ الحَرَامِ في قَنَاةٍ أَو جَوَّالٍ أَو مِذيَاعٍ أَو صَحِيفَةٍ؟! وَهَبْ أَنَّكَ قَاطَعتَ سِلَعَ مَنِ استَهزَؤُوا بِالنَّبيِّ فَهَل قَاطَعتَ مَعَ ذَلِكَ فِكرَهَم وَعَمَلَهُم؟! هَلِ اجتَنَبتَ مَسَالِكَهُم وَطُرُقَهُم؟! هَلِ استَقَمتَ عَلَى الطَّرِيقَةِ في عَامَّةِ أَمرِكَ وَخَاصَّتِهِ أَم أَنَّ بَيتَكَ يَعُجُّ بِالمَعَاصِي وَالمُنكَرَاتِ وَإِضَاعَةِ الصَّلاةِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ؟!
فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، عُودُوا إِلى رَبِّكُم، وَتُوبُوا إِلَيهِ مِن تَقصِيرِكُم، وَانصُرُوا نَبِيَّكُم وَحَبِيبَكُم بِالتَّمَسُّكِ بِدِينِكُم وَالعَمَلِ بِهِ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ، لِتُؤمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً. اُنصُرُوا نَبِيَّكُم بِالدَّعوَةِ إِلى اللهِ عَلَى طَرِيقَتِهِ، اُدعُوا إِلى اللهِ بِأَلسِنَتِكُم وَأَموَالِكُم، اُدعُوا إِلى اللهِ بِتَمَسُّكِكُم وَثَبَاتِكُم، اُدعُوا إِلى اللهِ في بُيُوتِكُم وَمَنَازِلِكُم، اُدعُوا إِلى اللهِ في حِلِّكُم وَترحَالِكُم، اُنشُرُوا السُّنَّةُ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَحَارِبُوا البِدعَةَ وَالرَّذِيلَةَ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم سَتَلقَونَ نَبِيَّكُم عَلَى الحَوضِ يَنتَظِرُكُم، فَيُذَادُ أَقوَامٌ ذَاتَ الشِّمَالِ وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، فَيَقُولُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ شَفَقَةً مِنهُ وَرَحمَةً: ((يَا رَبِّ أُمَّتي)) ، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدرِي مَا أَحدَثُوا بَعدَكَ، إِنهم كَانُوا يَمشُونَ القَهقَرَى بَعدَكَ. فَاحذَرُوا أَن تَكُونُوا مِن هَؤُلاءِ، فَإِنَّهُ ـ وَاللهِ ـ لَو كَانَ أَحَدٌ تَمَسَّكَ بِعَهدِ أَحَدٍ ثم تَرَكَهُ وَتَفَلَّتَ مِنهُ لَكَانَ ذَلِكُم عَيبًا عَلَيهِ وَنَقصًا في حَقِّهِ، فَكَيفَ بِمَن ذَاقَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَرَفَعَهُ اللهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَعَاهَدَ اللهَ وَاستَقَامَ زَمَنًا، ثم هُوَ يَتَرَاجَعُ بَعدَ ذَلِكَ وَيَتَقَهقَرُ وَيَفتُرُ وَيَضعُفُ وَيَتَرَاخَى وَيَسقُطُ وَيَترُكُ بَعضَ مَا كَانَ عَلَيهِ مِن خَيرٍ وَبِرٍّ وَمُحَافَظَةٍ عَلَى الصَّلاةِ وَحِرصٍ عَلَى تَطبِيقِ السُّنَنِ وَحُضُورٍ لِمَجَالِسِ العِلمِ وَالذِّكرِ وَيَتَحَوَّلُ إِلى أَعمَالٍ وَتَصَرُّفَاتٍ لا تُرضِي اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسمَحُ لأَهلِهِ وَفي بَيتِهِ بِمُخَالَفَةِ الدِّينِ وَنَبذِ السِّترِ وَتَركِ التَّحَشُّمِ، وَيَستَبدِلُ بِمُصَاحَبَةِ أَهلِ الخَيرِ وَالسَّائِرِينَ إِلى الآخِرَةِ مَجَالِسَ الفُسَّاقِ وَأَهلِ الشَّرِّ وَالرَّاكِنِينَ إِلى الدُّنيَا؟!
فَالحَذَرَ الحَذَرَ، قَد يَعلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُم لِوَاذًا فَلْيَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أَلا وَإِنَّ ممَّا يُعتَقَدُ أَنَّهُ مِنَ النُّصرَةِ لِلنَّبيِّ وَلَيسَ كَذَلِكَ مَا تُملِيهِ الحَمَاسَةُ غَيرُ المَضبُوطَةِ عَلَى بَعضِ الغَيُورِينَ الجَاهِلِينَ، فَيَعتَدُونَ عَلَى رَعَايَا تِلكَ البِلادِ التي سُخِرَ فِيهَا مِنَ النَّبيِّ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَو يُفَجِّرُونَ فِيهَا أَو يُشعِلُونَ الحَرَائِقَ فَيُفسِدُونَ مَا لا يَجُوزُ لهم إِفسَادُهُ، وَقَد يَقتُلُونَ أَنفُسًا لا حَقَّ لهم في قَتلِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ ممَّا يُرِيدُهُ أُولِئَكَ الكَفَرَةُ حِينَ نَشَرُوا تِلكَ الرُّسُومَ المُسِيئَةَ لِنَبِيِّنَا، مُرِيدِينَ بها استِفزَازَ المُسلِمِينَ وَإِخرَاجَهُم عَن حَدِّ الاعتِدَالِ وَإِبرَازَهُم بِمَظهَرِ الهَمَجِ أَوِ الإِرهَابِيِّينَ، الذِينَ لا يُفَرِّقُونَ بَينَ مَا يُصلِحُ وَبَينَ مَا فِيهِ الفَسَادُ. أَلا فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ لا يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدِينَ، وَلاَ تَعتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ المُعتَدِينَ. وَأَبشِرُوا وَأَمِّلُوا خَيرًا؛ فَإِنَّ الدِّينَ ظَاهِرٌ وَالحَبِيبَ مَكفِيٌّ وَمَنصُورٌ هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ ، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ ، إِنَّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ.
(1/5629)
ظاهرة الغلاء وسنة التغيير
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
ظافر بن ثابت الحكمي
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية فهم سنن الله في الكون. 2- ظاهرة الغلاء. 3- سنة التغيير. 4- قصة سبأ. 5- طرق معالجة هذه الظاهرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن القارئ لكتاب الله جل وعلا ليجد فيه من قصص الأمم السابقة ما يبيّن له سنن الله جل وعلا التي لا تتبدل، والتي تكون نبراسا ومنهاجا يستبصر به المؤمنون في حياتهم على المستوى الدولي والمجتمعي والفردي, وسنن الله كثيرة متعددة لا يمكن فقهها دون النظر بتدبر في كتاب الله، فإن حصل الفقه الحقيقي لهذه السنن انجلت الضبابية والغموض عن كثير من الأحداث والمتغيرات التي قد يعجز الناس عن التفسير المادي لها، وقد يمعن الناس في تفسيرها وفقا لما لديهم من المعرفة الدنيوية التي ربما تفسر جزءا من المسببات والأسباب، وقد تختلف القناعات بين الناس ويكثر الجدل هل هذا هو السبب الصحيح أو ذاك؟ ومع ذلك فالواقع يشهد بلا منازع أن اجتهادات البشر لا يمكن أن تكشف الحقيقة وتجليها إلا إذا اقترنت بمعرفةٍ لسنن الله في الحياة.
مثال ذلك: ما يصيب المرء من أمراض الشيخوخة والهرم إذا طال عمره في الدنيا، لم يستطع أحد حتى الآن من الأطباء والعلماء الماديين أن يمنع هذه الأمراض أو أن يدفع أسبابها، ويبقى الأمر مبهما عند أولئك إلى اليوم، وتتجلى الحقيقة عند المؤمن المتدبر لكتاب الله: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس: 68]. إذًا هذه سنة من سنن الله التي لا تتغير، فهل تجد لسنة الله تبديلا؟!
عباد الله، إن المؤمن المستبصر بهدي كتاب الله يستطيع أن يتأمل السنن الربانية التي قد يكون بعض منها واقعًا نعيشه اليوم.
أيها المسلمون، لا يخفى على كل أحد ما يعيشه الناس من الغلاء في المعيشة على كافة المستويات من مأكل ومشرب ومسكن وانتشار للأوبة والكوارث التي لم يكن للناس عهد بها، فآلت إلى واقع تعيشه المجتمعات، وتفش للبطالة وضيق في مصادر الكسب وشح للمياه وقلة للأمطار، الأمر الذي حدا بالكثير إلى بحث أسباب الأزمة والعمل على إيجاد الحلول لها. والمتأمل في الواقع يجد أن تلك الحلول لا تعدو أن تكون حلولا مادية تصدر من نظرة مادية بحتة، وهذا قد يخفف المشكلة حينا لكنه لا يمكن أن يقضي عليها أو يعيد الحال إلى ما كانت عليه، والحال أصدق من المقال.
عباد الله، إن لله سبحانه وتعالى سننا في هذه الدنيا وقواعدَ لا يمكن أن تتغير، ومن سنن الله أن الطاعة والشكر سبب للنعمة ودوامها، وأن معصية المنعم وكفر النعمة سبب لزوالها. ومما يعجب له العاقل أن الناس تغفل عن حقيقة الأزمة فينسبونها إلى الأسباب المادية المحسوسة دون التأمل في الحقيقة المؤيدة بسنن الله، الأمر الذي قد يكون سببا في زيادة سوء الحال؛ لأن من سنن الله أيضا أن يجعل علامات ودلائل للعباد، قد تكون بنقص شيء من النعمة، فإن عادوا إلى الله وأنابوا إليه أعاد لهم ما أخذ منهم، وإن هم لم ينيبوا ويتوبوا غيَّر عليهم الحال كلها عقوبة منه سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال: 53] أي: أن الله لا يغير النعمة إلا ببطر العباد ونسيانهم لشكر المنعم.
عباد الله، لنقف مع قصة تبين سنة الله في هذا الشأن وكيف أن الله سلب النعمة من قوم لما غفلوا عن السبب الحقيقي لدوام النعمة: لقد قص الله سبحانه وتعالى علينا كثيرا من القصص في كتابه الكريم لنأخذ منها العبرة والعظة، قصّ علينا أخبار من أنعم الله عليهم بأنواع النعم والخيرات، فكفروا أنعم الله، فماذا كانت نتائج المعصية والبطر وعدم شكر النعمة إلا الزوال، ومن ثم الندم والحسرة.
ومن هذه القصص ما ورد عن قوم سبأ حيث يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ: 15-17]. لقد كانت سبأ من الحضارات والقوى العظمى التي ليس لها مثيل في زمانها، فقد كانت حضارة عمرانية واقتصادية، ويعتبر سد مأرب الذي كان أحد أهم معالم هذه الحضارة دليلاً واضحًا على المستوى الفني المتقدّم الذي وصل إليه هؤلاء القوم، وكانوا يملكون قوة سياسية وعسكرية كانت من أهم العوامل التي ضمنت استمرار هذه الحضارة صامدة لفترة طويلة. وقد ورد في القرآن ذكر جيش سبأ القوي، وتظهر ثقة هذا الجيش بنفسه من خلال كلام قواد الجيش السبئيّ مع ملكتهم كما ورد في سورة النمل: قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل: 33]، فقد كانوا يعيشون من الرغد أطيبه، ومن الرزق أوسعه، ومن القوة أشدها، ومن الأمن أهنأه، قال ابن كثير رحمه الله: "وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سدّا عظيما محكما، حتى ارتفع الماء وحكم على حافات الجبلين، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تغترف فيه الثمار فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السد بمأرب بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسدّ مأرب، وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ولا شيء من الهوام، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه" انتهى.
فانظروا ـ يا عباد الله ـ كيف أنعم الله عليهم ولم يطلب منهم غير شكر هذه النعمة وشكر منعمها: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ، ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا، بل أعرضوا عن شكر الله وعن العمل الصالح والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه، فضيق الله عليهم في الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة، حين أرسل عليهم السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت، فجفت أرضهم وأجدبت، وتبدلت تلك الجنان الخضراء صحراء قاحلة تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ، والكفور هنا الأرجح ـ كما ذكر بعض المفسرين ـ أنه كفران النعمة.
ثم يذكر الله تعالى نعمة أخرى عليهم لم تشملها العقوبة الأولى، لعلهم أن يتذكروا وينيبوا، فقال سبحانه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ: 18]، قال ابن كثير رحمه الله: "يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنيء الرغيد والبلاد المرضية والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم" انتهى. وقيل: كان المسافر يخرج من قرية فيدخل في الأخرى قبل دخول الظلام، فكان السفر فيها محدود المسافات كما كانت الراحة موفورة، فغلبت الشقوة على سبأ فلم ينفعهم النذير الأول ولم يوجّههم إلى التضرع إلى الله، لعله يرد عليهم ما ذهب من الرخاء، بل دعوا بدعوة الحمق والجهل: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ، قال القرطبي: لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة، واستجيب لهم، لكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر فشردوا ومزقوا وتفرقوا في أنحاء الجزيرة والشام، وعادوا أحاديث يرويها الرواة وقصة على الألسنة والأفواه، بعد أن كانوا أمة ذات وجود في الحياة، يقول الله تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ أي: بعدم شكر النعمة، فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19].
عباد الله، إن ما نحن فيه من غلاء في المعيشة بعد أن كنا مضرب المثل بين الناس برخص الأسعار وهناء العيش يحتاج منا إلى وقفة جادة لتشخيص الأسباب الرئيسة فيما نواجهه ونعانيه، وأول هذه الأسباب هو كفر النعمة بالمعصية وعدم شكر النعمة بالطاعة، يقول عز وجل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن ما نعيشه اليوم يستوجب منا مع العمل بالأسباب المادية الأخرى أن نغير من أنفسنا إلى الأفضل، وأن نتزود بالأعمال الصالحة من عبادات قلبية وعملية، فالواقع يشهد بُعدَ الناس عن العمل الصالح وانغماسهم في الدنيا والإسراف والتبذير بنعم الله وعدم اللجوء إلى الله عز وجل والإنابة إليه، وهذا نذير شؤم والعياذ بالله، فكيف نرجو الخير من الله ورغد العيش والرخاء والحال هذه؟!
عباد الله، إن من أعظم الأسباب لإصلاح ما نحن فيه:
أولا: الالتفاف حول علماء هذا البلد المبارك والأخذ بنصحهم وتوجيههم في القضايا الاجتماعية والاقتصادية، والأخذ بما يصدر عنهم من الفتاوى الشرعية المبنية على الكتاب والسنة، والبعد كل البعد عن دعاة السوء والفحشاء والرذيلة.
عباد الله، ما الذي جنيناه من دعاة الباطل والفساد إلا فشو المنكرات وظهور المخالفات الشرعية في سلوك وأخلاق فئات من المجتمع، لقد كان المجتمع بخير عميم ورغد عيش حتى ظهر بين أظهرنا أولئك الذين ليس هم إلا الفساد والإفساد عبر وسائل متعددة ومتنوعة، التي تريد في نهاية المطاف أن تهدم القيم والأخلاق وأن تغرس في ظهر المجتمع خنجر التبرج والسفور عبر الدعاوى المتكررة لنشل المرأة من حشمتها وعفتها وأخلاقها وجعل الشباب والفتيات بهائم تلهث خلف المنكرات والشهوات، فظهرت صور متعددة من الجرائم والفواحش لم يكن للمجتمع بها عهد، فقل مستوى الأمن، فكم نسمع بين الفينة والأخرى عن جرائم الخطف والاغتصاب وهتك الأعراض والسرقات والاعتداءات على الآمنين في عقر بيوتهم، إنها حقائق لا يمكن تجاهلها، فهي معروضة أمام الناس في أخبار الصحف اليومية ومواقع الإنترنت ووسائل الإعلام الأخرى المختلفة، كل ذلك بسبب التطرف الفكري والأخلاقي لدعاة الباطل والرذيلة، والذي قد يترتب عليه والعياذ بالله معاناة للمجتمع بأسره.
ثانيا: إن شكر النعمة سبب لدوامها، ونحن لا زلنا بحمد الله نرفل في نعم وخيرات ومستوى من الأمن لا يوجد في كثير من البلدان، فيجب أن نشكر الله على ما نحن فيه، وأن نلجأ إلى الله أيضًا بأن يرفع عنا ما أصابنا بسبب ذنوبنا.
ثالثا: علينا أن نعمل على تطبيق المنهج الشرعي في الاقتصاد وعدم الإسراف والتبذير في حياتنا اليومية، فالتبذير نوع من أنواع كفر النعمة، قال تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27].
رابعا: التوبة الصادقة لله وكثرة الاستغفار والعمل الصالح، فمن سنن الله أن الاستغفار المقرون بالتوبة والإنابة سبب من أسباب الرزق، قال الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، وقال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررننا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير. اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، اللهم وفقنا لتقواك ويسر التقوى لنا، وفقنا لطاعتك ويسر الطاعة لنا...
(1/5630)
الإصلاح بين الناس
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
3/6/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المفهوم الصحيح للإصلاح. 2- فضل الإصلاح وأهله. 3- فضل إصلاح ذات البين. 4- التحذير من صفات المنافقين وأعمالهم. 5- أهمية الإصلاح بين الزوجين. 6- عظم شأن الإصلاح بين المتقاتلين. 7- إصلاح لجان الإصلاح. 8- وجوب معرفة المصلحين طرق الإصلاح وشروطه وآدابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أعمال المسلم وأقواله ومعتقده الصحيح من العبادة الحقّة المأمور بها في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله ، ومن العبادة الإصلاح بمعناه الواسع الذي له سبل وطرق كثيرة، وليس محصورًا فيما تعارف عليه الناس بأنه الإصلاح بين مُتَخَاصِمَيْنِ أو مُتَخَاصِمِينَ قَلُّوا أو كَثُرُوا، فالإصلاح له سبل كثيرة، ومطلوب من المسلم أو المسلمة المساهمة بما يستطيع ويقدر عليه من ذلك، فالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإماطة الأذى عن الطريق والكلمة الطيبة والعمل الصالح أيًا كان نوعه فيما يعود بالنفع على أفراد المجتمع أو الحيوانات أو الطيور أو غيرها وتعليم العلم النافع والإصلاح بين الناس كل ذلك وغيره من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله وينال عليها الأجر من المولى عز وجل إذا صاحبها الإخلاص والصواب، وهي من الإصلاح حقيقة ومن عمل المصلحين المخلصين الذين يهمّهم شأنُ أمّتهم ومجتمعهم ومن يعيشون معهم على هذه الأرض، سواء كانوا في عصرهم أو يأتون ويلحقون بهم فيما بعد، ذلك شأن المصلحين الساعين بالخير الذين يسعد بهم مجتمعهم مع سعادتهم هم أنفسهم بإذن الله عز وجل.
إن الهلاك لا ينزل بقوم فيهم المصلحون، المصلح غير الصالح، فشتّان بين الصالح في نفسه الذي لا يتعدى نفعه إلى غيره وبين المصلح الذي هو صالح في نفسه ساعٍ للإصلاح في المجتمع، فهو مصلح كما ذكر الله عز وجل عن المجرمين المفسدين في الأرض وعن المصلحين أيضًا، فالله لا يهلك قرية كان أهلها مصلحين، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 116، 117]، فلنتنبه لقول الله تعالى: مُصْلِحُونَ ، فلم يقل: (وأهلها صالحون)، فالمصلح أَعَمُّ وأشمل وأنفع من الصالح في نفسه؛ لأن المصلح يسعى ويعمل جاهدًا لإصلاح الناس وصلاحهم حتى تستقيم الأمور كما أمر الله عز وجل بأن يدعو إلى الله جل جلاله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويهمّه أمر المسلمين بعامة.
وقد ذكر الله عز وجل من أوصاف المنافقين وأهل الزيغ والفساد بأنهم مفسدون في الأرض مع ادعائهم الإصلاح وهم على النقيض من ذلك، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12]، وقال عَزَّ شأنُه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 24-206].
وعلى العكس من هذا الصنف ذكر الله عز وجل بعد هذه الآيات المتعددة عن هذا النوع بعدها مباشرة ذكر في آية واحدة المصلحين الذين يبيعون أنفسهم يبتغون ما عند الله جل وعلا، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 207]، فمن الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، ومنهم من يكون مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير، وشتّان بين الفريقين، وسيجازي الله كلاً بعمله ويوفيه حسابه، وهو يعلم سبحانه المفسدين من المصلحين، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220].
والذي يتمسك بالكتاب والسنة ويؤدي ما أوجب الله عليه ويقوم بها قولاً وعملاً واعتقادًا يُسَمَّى مصلحًا، ولن يَضِيعَ أجرُه عند الله، وسوف يجزيه الله أحسن الجزاء، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170].
وموضوع الخطبة جزء من الإصلاح بمفهومه الشامل لمعنى الإصلاح الذي سبق الإيجاز عنه، فالموضوع هو الإصلاح بين الناس عمومًا وأخصّ المسلمين المتعادين المتقاطعين سواء كانوا أفرادًا أو أسرًا أو جماعات أو قبائل أو دولاً وحكومات صغرت أم كبرت، وذلك هو المأمور به في الكتاب والسنة في آيات وأحاديث كثيرة، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((كل سُلامَى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، ودَلُّ الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، ويكفي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) ، فالشاهد من الحديث قوله : ((تعدل بين الاثنين صدقة)) ، حين قال بأن على كل مفصل في جسم كل إنسان صدقة في كل يوم تطلع فيه الشمس وذلك شكرًا لله عز وجل على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، فجعل الله طرق الخير متعددة وكثيرة من أجل كسب الحسنات بالأعمال الصالحة التي تُنال بها الدرجات الرفيعة. فتلك من الأشياء التي ذكرها الرسول من الصدقات التي يزكي بها الإنسان عن مفاصله وعظامه وجسمه كله، ويحمد بها ربّه لأداء كل عضو من أعضائه وظيفته، ذلك هو الإصلاح بين الاثنين والحكم بالعدل لا بالجور والظلم، وكان البدء به في أول الصدقات والحسنات وعمل الخيرات لأهميته. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة)) ، وفي رواية: ((إن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)).
نعم، إنها تحلق الدين وتذهب به؛ لأن العناد والخصومة قد تؤدي إلى الكفر، وهذا أمر مشاهد وواقع في مجتمعات المسلمين عندما يذهب لُبُّ الخصمِ ولا يردعه إيمانُه فهو يُجَانِبُ الحق والعدل والإنصاف ولا يقول كلمة الحق في الغضب والرضا، بل يتكلم في خصمه بما يسوغ له من إلحاق التُّهم به والكذب عليه والبهتان وقول الزور والفحش والبذاءة وسَلاَطَة اللسان ونَشْر قَالَة السُّوء بين الناس كذبًا وزورًا وتحريض العامة عليه والتحرّش بالمسلم واستفزازه لتدعيم باطله، ليخرج ذلك الباطلُ أمام الناس لابسًا ثوب الحق، ومن جَهْل أو تجاهل الظالم لنفسه وغيره استطالته في عرض أخيه المسلم وتدبير المكائد ونَصْب شِبَاك الباطل في الخفاء وما يُبَيِّتُهُ ويُضْمِرُهُ هو وأهل الباطل الذين يدفعونه إلى الشر دفعًا ليكون هو المنتصر وليظهر أمام الناس بأنه صاحب الحق ولو أدى ذلك إلى ارتكاب ما حرم الله، كل ذلك الذي جعله يقدم على هذه الأفعال الْمَشِينَةِ لَمَّا غاب عنه الخوفُ من الله ومن أليم عقابه، وما علم أنه وأعوانه الخاسرون في الدنيا والآخرة وأن الله لهم بالمرصاد، هذا شأن من يبيِّت سوءًا ويضمر عداوة ويحمل بين جنبيه قلبًا أسودَ مِرْبَادًّا لاختلال إيمانه وضعف عقيدته وقلة حظه من الفقه في دينه، وهذه العلامة والصفة عَدَّها رسولُ الله من علامات النفاق حين عدّد صفات المنافق وقال: ((وإذا خاصم فجر)) ، مع أنه ارتكب كل صفات النفاق التي عدها رسول الله في الحديث وهي: ((إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر)).
أما المؤمن الحق فهو على العكس من ذلك؛ لا يحمل الْغِلَّ والْحِقْدَ والبغضاء لسلامة صدره من ذلك، قلبه أبيض ناصع لا يَبِيتُ وفي قلبه على مسلم شيءٌ مما يجده الأعداء محترقًا متغلغلاً في سويداء قلوبهم، لا يَطِيشُ به عَقْلُهُ ولا يخرج عن العدل وقول الحق قَدْرَ أَنْمُلَةٍ، مُنْصِفٌ فيما يقول ويُدْلِي به سواء كان الخصم غائبًا أو حاضرًا، يخشى الله في سره وعلنه، لا يهمه أمر البشر؛ لأن إيمانه وخوفه من الله يردعه عن الوقوع فيما حرم الله، فهو ينتصب للدفاع عن نفسه ودفع الظلم عنه بالكلمة الصادقة والقول الحق العدل السديد، وقد يرتكب الطرفان الباطلَ حيث يصف كل منهم الطرف الآخر بما ليس فيه، وذلك هو واقع كثير من المسلمين اليوم عندما ابتعدوا عن الكتاب والسنة وتحكيمهما في حياتهم في كل صغيرة وكبيرة، فلعدم الإنصاف بين المتخاصمين وظلمهم لبعضهم ولعدم تَدَخُّلِ المصلحين بينهم امتلأت المحاكم والإدارات ذات العلاقة بالخصومات والدعاوى الكيدية، وفَشَا الظلم وانتشر، وساعدهم على ذلك المماطلةُ وعدمُ معرفة الحق ودراسته ومعرفة الحق من الباطل، أو الوقوف بجانب الباطل من قبل ضعاف النفوس، وتَدَخُّل جهات للفصل في الخصومات ليس لها علاقة شرعية حيث تعددت الاختصاصات وتباينت، والمعروف في الإسلام والواجب الذي يجب أن يكون التحاكم إليه هو الكتاب والسنة.
ولنتدبر هذه الآية الكريمة التي تُنَالُ بها الدرجات الرفيعة بالحصول على الأجر العظيم الذي وعد الله به في نهاية الآية، ولنتأمل فيها وفي غيرها ونعمل بالإصلاح بين الناس متى بلغتنا الخصومة والاختلاف، ومن لم يكن كذلك فالواجب عليه أن لا يوسّع الخرق على الراقع ولا يسعى بالوشاية والإفساد بين الناس، بل يقول خيرًا أو يصمت ويكفي الناسَ شرَّه وإفسادَه، وهذا أقل الواجب في حقه في هذه الحالات، مع أن بعض المفسدين يسعون بالوشاية والوقيعة بين الناس والتحريش بينهم ولا يستريحون ولا يهدأ لهم بال إلا على هذا الحال وأمثاله، فهم مثل الطفيليات والميكروبات والجراثيم والصراصير التي لا تعيش ولا تتكاثر إلا في محلات وأماكن العفن والقذارة والأوساخ والفساد، فكيف حالهم إذا وقعت الخصومة؟! إنها حَالٌ مُخْزِيَةٌ يندى لها جبين كل مسلم غيور على دينه وأمته من الاشتغال بالفتن والإِحَنِ بعضهم مع بعض، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114]، أي: لا خير في كثير مما يُسِرُّهُ القومُ ويتناجون به في الخفاء إلا إذا تناجوا في صدقة يعطونها سِرًّا أو أَمْرٍ بطاعة الله عمومًا أو إصلاحٍ بين المتخاصمين في الدماء والأموال والأعراض وكل ما يقع فيه التداعي بين الناس، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أي: من فعل هذه الخصال الطيبة بعدما أمر بها الناس فجمع بين الأمر بالخير وفعله مخلصًا لله في ذلك فله الأجر العظيم عند الله تعالى.
وفي هذه الآية ترغيب عظيم في الإصلاح بين الناس، وكذلك في حديث رسول الله المتفق عليه حين ذم الكذب والكذابين وَعَدَّ ذلك من صفات المنافقين، ولكنه رَخَّصَ فيه إذا كان لا يمكن التوصل إلى الإصلاح بين المتخاصمين إلا عن طريقه أو أنه سوف تفسد العلاقة الزوجية إذا لم يكن إلا الكذب وسيلة لذلك لأنه ينمي به الخير بين المتخاصمين، قال رسول الله : ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا)) متفق عليه. ((ينمي خيرًا)) أي: يبلِّغ وينقل خبرًا فيه خير وإصلاح بين الناس.
ومن أنواع الإصلاح الإصلاح بين الزوجين المختلفين؛ لأن الإصلاح بين الزوجين تُبْنَى عليه البيوت وتترابط به الأسر التي هي أسس المجتمعات البشرية، وفساد ما بين الزوجين يترتب عليه فساد البيوت وتفكُّك الأسر وتشتُّتها، قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128]، وقال تعالى في نهاية الآية التي تلي هذه الآية: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 129]، ففي أي خصومة بين الزوجين ينبغي أن لا تخرج المرأة من بيت زوجها لئلا يدخل شياطين الإنس والجن ويفسدون العلاقة بين الزوجين بإلقاء العداوة بينهما بما يزينونه من الباطل من القول لكل منهما لكي يفرقوا بينهما. والإفساد بين الزوجين أو المتخاصمين هو شأن شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان، وذلك بالإيحاء بزخرف القول غرورًا.
وقد أمر الله جل جلاله بالإصلاح بين الزوجين إذا اتسعت الشقة والخلاف بينهما سواء قام بذلك أقرباؤهما أو الحاكم ومن يقوم مقامه من القضاة وغيرهم من اللجان الإصلاحية الرسمية أو الخيرية، قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: 35]. ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية ولا أن يُخرجها زوجها عندما يطلقها الطلقة الأولى أو الثانية لئلا تتسع الشقة والخلاف بينهما، ولئلا يجد المغرضون والمفسدون مدخلاً لإفساد العلاقة الزوجية بينهما، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا يحبانه ويرتاحان له بدخولهما وخروجهما ولقائهما ببعض خلال العدة فيرجع إليها ويراجعها، قال تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1].
هذا الخلاف والشقاق إذا كان في الطلاق فما بالنا في غيره من الأمور الأخرى التي لا يخلو منها بيت من البيوت؟! وهذا أمر يغفل عنه كثير من المسلمين، فيقع الشقاق والخلافات والخصومات، وهذا ما يسعى إليه الشيطان وجنوده كل ليلة وهو على عرشه في البحر حيث ينتشرون للفتنة بين الناس، ويكون أقربهم وأحبهم إليه من سعى بالتحريش بين المرء وزوجه حتى يقع الطلاق والفراق بين الزوجين، والشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المسلمون في جزيرة العرب التي تبقى على التوحيد بإذن الله إلى قيام الساعة، ولكنه رضي بالتحريش فيما بينهم وبما يَحْقِرُونَ من الأمور المنكرة، قال رسول الله : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وفيها أيضًا برواية أخرى صحيحة: ((إن الشيطان قد أيس أن يُعبد بأرضكم هذه ولكن رضي بما تحقرون)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يؤتي المصلحين أجرًا عظيمًا نعمة منه وفضلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فمن أنواع الإصلاح بين الناس الإصلاح بين الطوائف المقتتلة من المسلمين صغرت أم كبرت في داخل الدولة الواحدة أو على مستوى الدول، واجب المسلمين السعي للإصلاح بين المتقاتلين من أجل القضاء على أسباب الفتنة بالعدل الذي يعطي كل ذي حق حقه؛ لكي يَسْتَتِبَّ الأمنُ وتُحْقَنَ الدماءُ ويؤخذ على يد المعتدي ويكفّ عن الظلم والتعدي على غيره فيما بعد ويتم إنصاف المُعْتَدى عليه، ولئلا تضعف شوكة المسلمين أمام أعدائهم وعندها يتربّصون بهم الدوائر، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9، 10]، ووردت أحاديث عدة حول الأخذ على يد الظالم ونصرة المظلوم والإصلاح بين المتخاصمين، ومنها قوله في آخر الحديث المعروف: ((ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
إن مجتمعات المسلمين اليوم بحاجة ماسة إلى رجال مصلحين في شتى المجالات وللإصلاح في الخصومات خاصة يحتسبون أجرهم على الله، رغم أنهم مأمورون بذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة حين تبلغهم الخصومات والمنازعات والمشاجرات والخلافات التي مُلِئَتْ بها المحاكم الداخلية والدولية، سواءٌ كانت تلك المحاكم شرعية أو غير شرعية، يدخلون في ذلك لاحتوائها منذ البداية والقضاء عليها، وليعيش أفراد المجتمع الواحد أو المجتمعات المتعددة في حالة من السعادة والطمأنينة التي يُغْبَطُون عليها بين الأمم، وكان هذا فعل السلف الصالح إلى عهد قريب ونحن جميعًا نعرفه، وبوادر العودة إلى ذلك وتَبَنِّي فكرة الإصلاح وإنشاء اللجان الخاصة بذلك بدأت ولله الحمد والمنة؛ عسى أن تَعُمَّ وتنتشر في مجتمعات المسلمين ويجني ثمارَها القريبُ والبعيدُ بإذن الله تعالى.
ومع سرورنا بوجود لجان الإصلاح ولكن واقعها إلى الآن في بعض المدن والمحافظات لا يتعدى المظاهر وحبّ البروز والظهور في الصحف ووسائل الإعلام، ولذلك كانت الدعاية للمظهر أكثر من المخبر، ففي صحيفة ظَهَرَ اسْمُ ذلك المسؤول عن مكتب إصلاح ذات البين في مدينة من المدن بأنه أحد الأعضاء في تلك اللجنة، ثم جاء الاعتذار له بعد أيام بأنه هو الرئيس، علمًا بأنه يعلم عن مشاكل في حَيِّه الذي يسكن فيه ولا يحرِّك ساكنًا ولا يعرف أصلاً طرق الإصلاح ووسائله؛ لأن اختياره لم يكن مبنيًا على الشرع المطهر، بل على العلاقات الشخصية لإظهار المسؤولين في الصحافة المحلية لأنه مسؤول عن مكتبٍ لصحيفةٍ معينةٍ، وإذا كان هذا يُعذر لعدم علمه وفقهه فإن الأسوأ منه ذلك الذي يلقي محاضرة يجتمع لها الناس بعنوان: (الإصلاح وأثره في المجتمع) ثم يبلغه خلاف ومشاكل بين متخاصمين من جيرانه ولا يأبه بذلك ولا يكترث بما حصل مع علمه بوصولها للجهات المختصة وإشغال الإدارات ذات العلاقة بالدعاوى والشكاوى الكيدية، فذلك ينطبق عليه قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2،3 ].
وهناك صنف آخر يظهر على أحدهم الصلاح ويظنّ المسلم بأنه يحب الإصلاح، ولكنه يبقى في دائرة الصالحين وليس في دائرة المصلحين بمعناها الشمولي، فعندما يعرض عليهم شخصٌ الإصلاحَ بين متخاصمين لا يزيد أحدهم على قوله: الله يصلح الشأن، الله يهديهم، ليش ما يصطلحون؟ ـ باللهجة العامية ـ، أي: لماذا لا يصطلحون؟ مع علمه بأنهم لو كانوا سيصطلحون من عند أنفسهم لما وصلت مشكلتهم إلى ذلك الحدّ الذي أشغل الإدارات الحكومية، وقد يُخفي هذا الصنف في قرارة أنفسهم وسويداء قلوبهم تَشَفِّيهم للطرفين أو لأحدهما وحبِّهم لاسْتِعَارِ النار واشتعالها بينهما، هذا إذا وقفوا عند هذا الحد، بل قد يسعون لإيقاد نار الفتنة ولو من بعيد بكلمات قليلة جدًا، ولكنها تعمل عملاً مفسدًا عظيمًا، فهذه الأصناف محرومة من الأجر الموعود به، بل تتحمل الإثم حيث لم تسلك سبيل المصلحين، بل تزيد عليه أيضًا إثم ما يتغلغل في قلوبها مما تَمَّتِ الإشارةُ إليه.
وواقع المسلمين إلى الآن مُحْزِنٌ ومُخْجِلٌ ويؤسف له، ولو عرف من يريد الدخولَ في الإسلام واقعَ التعامل بين المسلمين في هذا الزمان في كثير من البلاد لما دخل في الإسلام ولابْتَعَدَ عنه نتيجة العداوة والبغضاء والمكر والخداع والمراوغة والنفاق والإفساد المنتشر بين المسلمين.
إن واجب المسلمين عدم التخاذل والتكاسل والتخلي عن الإصلاح مع قدرتهم على ذلك، وقد ضُمِنَتْ حقوقُهم حتى لو بلغ الأمر بالمصلحين أن تحملوا مبالغ من المال قلّت أو كثرت في سبيل الإصلاح بين المتخاصمين ولو أنهم أغنياء، فأموالهم وحقوقهم محفوظة ولا يَغْرَمُونَ فلسًا واحدًا منها، بل جعل الله عز وجل الغارمين المتحمّلين لتلك الحمالات من ضمن الأصناف الثمانية الذين تحلُّ لهم الزكاة ويجب دفعها لهم ولو كانوا أغنياء، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]، فمكان الشاهد قوله تعالى: وَالْغَارِمِينَ. وتحل المسألة المنهيّ عنها إذا غرم الشخص وتحمّل مالاً من أجل الإصلاح بين الناس، وبذلك ورد الخبر عن سيد البشر محمد حينما قال للصحابي الجليل حكيم بن حزام وهو توجيه له وللأمة المسلمة عامة، ومكان الشاهد في قوله هو: ((لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة نفر)) وذكر منهم: ((ورجل تحمل حمالة)) ، فإنه يحل له ذلك حتى يصل إليه المبلغُ الذي تحمله وكان غارمًا له، ثم يكفّ عن المسألة ولا يحلّ له فيما فوق ذلك من المال.
فما على المصلحين بين الناس على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول إلا أن يُحْسِنُوا النيةَ والقصدَ للإصلاح واحتساب الثواب والأجر عند الله جل جلاله، ويحكموا بالعدل ولا يَحِيفُوا كما قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58]، وكما ورد في نهاية الآية المرغبة في الإصلاح قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114].
وعلى المصلحين أن يحتسبوا أجرهم على الله لا يريدون بذلك رياءً ولا سمعةً ولا ثناءً ومدحًا من الناس، ويَسْعَوْا بين المتخاصمين قَلُّوا أو كَثُرُوا بالأخبار السَّارَّةِ ينقلونها ويحملونها إليها للجمع بين الأطراف المتخاصمة حتى لو استدعى الأمرُ الكذبَ الذي ورد السماح والترخيص فيه في الحديث عن رسول الله لجمع الشمل والتفاف المسلمين حول بعضهم البعض.
وقبل ذلك كله يعرف المصلحون أسباب أي مشكلة أو فتنة أو قطيعة ليقتلعوها من جذورها، ويتعرفون أيضًا على الأسباب والدواعي والدوافع من كل طرف على حدة، ويناقشون فيما أشكل عليهم فهمُه أو تَنَاقُضُهُ وكأنَّهم مُحَقِّقُون رسميون ويَدْرُسُون نفسياتِ الطرفين ومُرَادَهم، ويجتهدون في ذلك ويفرّغون أنفسهم ساعات وأيامًا وليالي، بل قد تصل إلى الشهور، ويصلحون بينهم صُلْحَ العقلاء وكبار السن، وليس كالصلح بين الأطفال وصغار السن والمراهقين.
إن أي مصلح كائنًا من كان ينبغي له أن يعرف طرق الإصلاح، ويسعى بكل رَوِيَّةٍ وإخلاصٍ، يقول الحق ويصدع به، ويحذِّر من العواقب الوخيمة عند الاستمرار على الباطل وما ينتج عنها، لا يحابي ولا يجامل ولا يداهن، إخلاصُ النيةِ والقصدِ دَيْدَنُهُ، وهدفه ابتغاء مرضاة الله، ولن يحوز على الأجر العظيم الموعود به من رب العالمين إلا بالإتيان بالشروط السابقة مع التفرغ الصادق في الوقت، وليس كما يفعله بعض المصلحين من وقوفه في أي قضية خمس دقائق ويقول: "أنا ورائي أعمال وأشغال إن اصطلحوا وإن رفضوا فما خسرت شيئًا"، بل عليه أن يفرّغ عقله وقلبه وفكره للاستماع والإنصات والمناقشة والتعرف على القضية بكاملها ومعرفة الحق من الباطل وعدم التشاغل بما يصرف ذهن المصلح خاصة عند سماع كلام أحد الطرفين أو كليهما، ثم الحكم الموافق للكتاب والسنة، وليس الموافق للهوى والعصبيات والعادات الجاهلية؛ لأن حكم المصلح قد يكون مُلْزِمًا خاصة فيما بين الزوجين إذا نَدَبَهُ القاضي للإصلاح بينهما.
ورد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين ولم يصطلحا أنه يَعْلُو الْحَكَمَيْنِ بالدّرَّةِ؛ لفهمه رضي الله عنه من إرجاع الضمير في إرادة الإصلاح إلى المصلحيْن والحكميْن وليس للزوجيْن، وهذا مفهوم واضح للفرق بين (إِصْلاحًا) و(اصْطِلاحًا) و(تَصَالُحًا) مع احتمال الْمَعْنَيَيْنِ، ولكنه الحرص منه رضي الله عنه في الإصلاح بين الناس، كما قال عز وجل: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: 35].
ومما يندى له الجبين حال بعض المصلحين أمام الناس المفسدين في الخفاء، وهو الفرح بتلك الخصومات والمنازعات حيث يوقد أحدُهم نارَ الفتنة ويسعى للتحريش بين المتنازعين ويُحَرِّضُ على النزاع والشقاق ويُلَقِّنُ كل طرف ما يتَّخِذُهُ من الباطل والحيل الشيطانية ضد الطرف الآخر زاعمًا الإشفاق والمحبة والإخلاص، فذلك من حزب الشيطان وجنده الخاسرين، وقد يكون ذلك طبعه وخلقه عند عدم وجود النية الصالحة، وقد يكون قصده حسنًا وقلبه صافيًا ولكنه لا يعرف ما يُقَرِّبُ، فهو يسعى بما يُبَاعِدُ، فلا يَصْلُحُ للإصلاح كُلُّ أحد، ولا يُوَفَّقُ له كل من سعى وتظاهر بالإصلاح، فقد يسيء ويباعد من يريد الإحسان والتوفيق بين المتخاصمين بأسلوبه البعيد عن الطرق الشرعية والحكمة المرعية والحالة النفسية.
والأسوأ من ذلك الذين يسعون للتحريش والإفساد لإيجاد المشاكل بين الناس أو التحريض وإيقاد نار الفتنة وصَبِّ الزيت على النار كما يُقال قديمًا، وحديثًا صَبّ البنزين على النار، والتمتع بمناظر الصراع والفتن في المجتمع، وقد يفعل أحدهم فعلته الخبيثة بقول أو فعل ويلصقها بفلان من الناس أي: أنه يقتل القتيل ويمشي في جنازته، وهذا أمر ملموس وواقع في المجتمعات المعاصرة، ولكن الواجب التَّنَبُّهُ لأولئك المفسدين، ثم على من نُقل إليه عن أخيه المسلم أو أُلْصِقَ به تُهْمَةٌ للإيقاع بينهما أن يتثبت ويصل إلى حقيقة الأمر بدلاً من الظنون والشكوك التي سعى بها، بل عملها المفسدُ بنفسه للإيقاع بين الجارَيْن أو المتحابَّيْنِ المتوادَّيْنِ وإن كانا بعيديْنِ في السكن، فهذه الأعمال الشنيعة الشيطانية منتشرة في المجتمعات، فيجب أَخْذُ الحَيْطة والحذر من هذه الجراثيم القاتلة في المجتمع، ويكون الخلاص منها صعبًا إذا تُرِكَتْ فسوف يَسْتَفْحِلُ أمرُها ويَعْظُمُ شَرُّها، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]، وقال عز وجل: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: 53]. ولو أن كل قرية أو مَحَلَّةٍ أو حَيٍّ من الأحياء في مجتمعات المسلمين عَيَّنُوا مجموعة من أهل الصلاح والخير يقومون بحل الخلافات والنزاعات في بدايتها وأول مراحلها وعندما تظهر أيضًا على الساحة وفي أي مرحلة من مراحلها الأولى أو الأخيرة، لو يقومون بذلك لانتهت كثير من القضايا والمشاكل التي ملأت كل إدارة ذات علاقة أو بقيت في صدور أصحابها تغلي بها نفوسهم وقلوبهم. وذلك بعد توفيق الله عز وجل للمجتمع مع أن هذه الدعوة التي دعا إليها أهل الخير منذ عشرات السنين بَدَتْ بَوَادِرُهَا في بعض المدن والأحياء ولله الحمد وعسى أن تعم مجتمعات المسلمين بإذن الله عز وجل وتوفيقه.
وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد، وآله ورضي الله عن الصحابة أجمعين...
(1/5631)
الأصناف السبعة (1)
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
24/1/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأصناف السبعة الذين يكونون في ظل عرش الله يوم القيامة. 2- الإمام العادل. 3- الشاب العابد لله. 4- من تعلق قلبه بالمساجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله : ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يوم القيامة في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في ِالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَن تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقِةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ففي هذا الحديث النبوي الشريف توضيح وبيان من رسول الله عن كرم الله الواسع وفضله العظيم وشمول عنايته لعباده ورحمته الواسعة التي وسعت كل شيء. ولقد أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم: 4]، فلقد أوضح في أجمل عرض وأقوى بيان وبَشَّرَ أَصْنَافًا سَبْعَةً من المؤمنين بالاستظلال يوم القيامة في ظل عرش الله جلَّ جلالُه وتعالى سلطانُه، والشمسُ تَلْفَحُ جُلُودَ الآخرين والْعَرَقُ يُلْجِمُهُمْ ولا يَدْرُونَ ما اللهُ صانعٌ بهم عند الحساب وأين يُسَاقُون: إلى الجنة أم إلى النار؟ ويوضح ذلك ويبينه ويبشر به ليلهب نفوس المؤمنين ويحرك فيهم روح الجد والإخلاص والعمل الصالح، ولتتطلع أرواح المؤمنين إلى أن تكون من السعداء في الآخرة ولتفوز بخصلة من هذه الخصال أو أكثر. وأولئك السبعة هم أصنافٌ سبعةٌ وليسوا أشخاصًا معدودين، بل قد يكونون بالملايين وأكثر، وقد يكون الشخص جامعًا خصلتين أو ثلاثًا أو أكثر كما هو واضح من نص الحديث الشريف، فقد تجتمع معظم الخصال في بعض المسلمين لإمكان ذلك، وقد تجتمع لبعض الولاة تلك الخصال كلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أولاً: الإمام العادل: وهو كل من تولى شأنًا من شؤون المسلمين أو ولي أمرًا من أمورهم سواء كانت الولاية خاصة ببلد معين أو عامة لبلدان متعددة، وهو الذي يحكم بالحق ولا يظلم أحدًا لأحد ولو كان من أعز الخلق عليه وأحبهم إليه، يرى القوي ضعيفًا حتى يأخذ منه الحق لغيره، والضعيف قويًا حتى يأخذ حقه من ظالمه كائنًا من كان، لا يفرق بين قريب وبعيد وسيد ومَسُود في معاملتهم بالحسنى والرفق بهم والإحسان إليهم. ورعية الإمام العادل كأولاده فيما لهم من العطف والحنان والتربية الصالحة، فيعلّم جاهلَهم، ويواسي فقيرَهم، ويربي صغيرَهم، ويعالج مريضَهم، ويكرم حاضرَهم، ويحفظ غائبَهم في أهله وماله. قال الإمام علي رضي عنه: "حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دُعُوا".
ومن ولي أمر عشرة فما فوقهم جاء يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه حتى يطلقَهُ عدلُه أو يوبقَه جَوْرُهُ، هكذا ورد الخبر عن سيد البشر محمد بن عبد الله ، قال رسول الله : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حُكْمِهِمْ وأهليهم وما ولوا)) رواه مسلم، وقال : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتُصَلُّونَ عليهم ويُصَلُّونَ عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)) ، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) رواه مسلم. ((تُصَلُّون عليهم)) أي: تدعون عليهم.
ومن عدل الإمام عدم اتخاذه للحجّاب الأشرار الذين لا يُمَكِّنُونَ الناسَ من الدخول على ولاة أمرهم ولا يرفعون حاجاتهم إليهم، ورد في الحديث عن النبي قوله: ((من ولاه الله عز وجل شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، وقال : ((ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته)) رواه الترمذي.
واتخاذ الحاجب الذي يدل اتخاذه على التعاظم وقلّة العناية بقضاء حاجات الناس هو الذي يَحْرُمُ، أما إذا كثر الخصوم وازدحموا على الحاكم أو دخلوا عليه بغير إذنه فلا بأس بِرَدِّهِم وإغلاق الباب لترتيب الدخول مع اتخاذ الحصانة التي تكفل أمن المجتمع بإذن الله.
وأورد حديثًا صحيحًا يشمل الإمام وغيره ممن ولي من أمر المسلمين شيئًا في إدارة أو مؤسسة أو عمل صغير أو كبير فَشَقَّ عليهم أو رَفَقَ بهم؛ ليعلم كل مسلم خطورة أمورٍ تهاون بها الناس اليوم ولم يعلموا عظم الأمانة التي حملوها، وهو قوله : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فَشَقَّ عليهم فَاشْقُقْ عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فَرَفَقَ بهم فَارْفُقْ به)) رواه مسلم. وحول الولاية وما يتعلق بها من حقوق الوالي المسلم وحقوق الرعية تأتي خطبة مستقلة إن شاء الله تعالى.
ثانيًا: الشاب المسلم القوي الماسك لأمر نفسه إذا نشأ في عبادة ربه، العبادة بمعناها الصحيح المعروف في الإسلام، إذا استعمل جوارحه وحواسَّه وروحه ووقته وماله وما أنعم الله به عليه في مرضاة ربه وخالقه فقد استحق من الله خير الجزاء، وكان محبوبًا في أهله وقومه وموطنه لأنه يريد الخير ويفعله ويدعو إليه ويرغّب فيه ويثني على فاعله.
وإنْ عَرَضَتْ له المعصيةُ وزَيَّنَهَا له الشيطانُ تجده الشابَّ القويَّ المؤمنَ الذي يَكْبَحُ جِمَاحَ نفسه ويخاف من الله ويمنعه دينه من ارتكاب أي معصية، ويُؤْثِرُ ما عند الله من حياة أبدية لا تَفْنَى على المتاع الزائل، وهو الشاب الذي يرى أقرانه في السهر واللهو والفساد وسائر الْمُتَعِ البهيمِيَّةِ، ورد أن رسول الله قال: ((إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليست له صَبْوَةٌ)) رواه أحمد، ومع ذلك تجده المشتغل بعبادة ربه وطاعته ويسعى في الأرض لكسب المال الحلال وإنفاقه في الحلال، وهو البار لوالديه، وهو الذي يسعى لتربية أبنائه وصغار إخوانه ونفع أمته، فالشباب يكون في المراحل العمرية من سن المراهقة والتكليف إلى الأربعين سنة في الغالب، وتشمل المتزوج وغير المتزوج من الجنسين، فالجميع يشملهم الحديث إذا كانوا في رَيْعَانِ الشباب، وإن كان مفهوم الشباب يقيده بعض الناس بمرحلة البلوغ وما بعدها، فهذا التَّقْيِيدُ تَضْيِيقٌ لواسع. فالشاب المسلم ذلك الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والفلاح في المزرعة، والطبيب في المستشفى، والعامل في المصنع، والعضو الصحيح الصالح المصلح في المجتمع، وهو الذي إذا دعي إلى الخير أجاب ولَبَّى، وإذا سمع الشر أو رآه سعى لِنُصْحِ مرتكبيه باللسان والكتابة بالقلم، وإن كان ممن يقع عليه الإنكار باليد ويستطيع ذلك فإنه يقوم به خير قيام، ويبتعد عنه إن فقد النصير من البشر، وكان منكرًا له بقلبه إن لم يستطع بلسانه أو القلم، وهو وما يعني الإنكار بالكتابة.
إن عبادة الله على الشيخ الكبير الذي تنتابه الأمراض سهلة ميسرة في الغالب، لكنها على الشاب الصحيح صعبة ثقيلة لطول أمله واستبعاده الموت، ولكثرة المغريات وخاصة في هذا العصر، وللصحة في بدنه، وقد يكون المال متوفرًا وميسورًا إضافة إلى ما سبق، ومع وجود هذه المغريات نجد الكثير من شبابنا متمسكين بإسلامهم عاملين به داعين إليه مقبلين على طاعة ربهم، وهذا مما يبشر بالخير ويدعو إلى الطمأنينة والحمد لله.
فهنيئًا لشابٍ تَقِيٍّ تعلق قلبه بعبادة ربه واعتاد المساجد لتأدية الصلوات المكتوبة وللجلوس في مجالس الخير وعمل الصالحات وقراءة القرآن وذكر الله، وهنيئًا له إذا اغتنم شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وغناه قبل فقره، وفراغه قبل شغله، وحياته قبل موته، إذا اغتنم ذلك وسار في الطريق الصحيح السليم، ومن علم أن الشباب ضيف لا يعود وفرصة إذا مرت لا رجوع لها شغل شبابه بطاعة الله، واستعان به على الصالح لدينه ودنياه وآخرته، ومن تعوّد الطاعة في صغره يفعلها قادرًا عليها في كبره، ومن أتبع نفسه هواها وقاده الشيطان بزمام الشباب إلى الذنوب والمهالك ندم حين يشيخ وَلاَتَ ساعةَ مَنْدَمِ إن بقي على ما هو عليه، وإن تاب فباب التوبة مفتوح، ويتوب الله على من تاب.
وأكرم الناس نفسًا وأَنْدَاهُمْ كَفًّا وأطيبهم قلبًا وأرقهم عاطفة وأصدقهم عزمًا هو الشاب المؤمن التقي الذي يُجِلُّ الكبير ويحترمه، ويَحِنُّ على الصغير ويرحمه، فلا تسمعه إلا مهنئًا أو معزيًا أو مشجعًا أو مسلِّمًا، ولا تراه إلا هَاشًّا باشًّا طَلْقَ الوجهِ مُبْتَسِمًا، يُحَلِّيهِ إيمانه بمكارم الأخلاق، ويبعده دينه عن طَيْشِ الصغر وإصرار الكبر، وجدير بشاب هذا شأنه أن يكون آمنًا إذا فزع الناس أجمعون، وأن يظله الله سبحانه وتعالى تحت ظل عرشه يوم القيامة، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَـ?هُمْ هُدًى [الكهف: 13].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يهدي من يشاء بمنّه وفضله، ويضل من يشاء بحكمته وعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنَّ الصِّنْفَ الثالثَ من الأصناف السبعة الذين بَشَّرَهُمْ رسولُ الهدى محمد والذين يظلُّهم الله تبارك وتعالى سلطانه تحت ظل عرشه يوم القيامة هو الْمُعَلَّقُ قَلْبُهُ من الرجال بالمساجد بكثرة التردد إليها لتأدية الصلاة المفروضة فيها، فما إن تنتهي صلاة فرض وإلا قلبه معلق بتأدية الصلاة التي تليها؛ لأنه يجد السعادة والأُنْسَ والراحة والاطمئنان والاستمتاع بأداء الصلاة في جماعة في بيوت الله حيث يُنَادَى بها، ويجد المتعة في الجلوس بالمساجد لانتظار الصلوات ولذكر الله والاعتكاف وتلاوة القرآن الكريم، وهذا هو دأبه في كل وقت من الأوقات في رمضان الكريم وفي غيره، ليس كالذي استهواه الشيطان يحافظ على الصلوات في رمضان وعلى تلاوة القرآن فما إن ينتهي شهر الخير والبركة إلا وقد انتكس ورجع إلى حالته الأولى، أو كالمنافق الذي لا يجد المتعة والراحة والأنس بجلوسه في المسجد لانتظار الصلاة أو لطلب العلم أو لذكر الله بقراءة القرآن أو الذكر عمومًا.
وشتّان ما بين رجل مؤمن قلبه معلق بالمساجد وما بين منافق هَمُّهُ الدنيا وحُطَامُها، فالمؤمن في المسجد كالسمكة في الماء، والمنافق في المسجد كالطير في القفص. ويستطيع كل شخص أن يعرف نفسه ويعرضها ويقيسها على هذا المثل ليعلم من أي صنف هو. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين قلوبهم معلقة بالمساجد المتلذذين بعبادة ربهم المسبحين لله تعالى الخائفين الوجلين منه المتقين له عز وجل.
وشتان بين ما كانت عليه المساجد في صدر الإسلام وفي القرون الأولى وما نحن عليه الآن، لقد كانت المساجد في ذلك العصر هي المعاهد والمدارس والأندية ولوقوف المؤمنين بالله واليوم الآخر بين يدي ربهم مُذْعِنِينَ له بالعبودية كلَّ يوم خمس مرات، وقد ألصق الشريف منهم كتفه بالضعيف، واحْتَكَّ جسمُه بجسمه قيامًا وركوعًا وسجودًا، لا يُقَدَّمُ مسلمٌ على مسلم آخر بمكان أو نظام يخصه إلا العلماء وأولو النُّهَى، فَيُقَدَّمُونَ لمراقبة الإمام وملاحظته والفتح عليه لما قد ينتابه في الصلاة لقوله : ((لِيَلِنِي أولو الأحلام منكم والنُّهَى)).
ولقد نسينا أو تناسينا الاهتمام بشؤون المساجد بالفرش والإنارة والْمَطَاهِرِ ـ أي: محلات الوضوء ـ وما يتبعها والمياه المبردة والمكاتب والغرف والمنازل المعدة للمعلمين والمتعلّمين والأئمة والمؤذّنين والفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ولقد كان سلفنا الصالح يبايعون الأئمة في المساجد ويُخْرِجُون الجيوش والفاتحين منها ويطلبون العلم بين جدرانها، وكانوا إذا حَزَبَهُمُ الأَمْرُ اجتمعوا في المسجد وتشاوروا فيه، وكانت البركة والخير كل الخير فيما يكون ويتصل عمله بالمساجد بيوت الله التي عرفوا مكانتها حق المعرفة، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم وكذلك التابعون ومن بعدهم، ولا يظن أحد أنَّ تَعَلُّقَ القلب بالمساجد لإقامة الصلاة فحسب، ولكنه لكل ما ذُكِرَ من الصلاة والاعتكاف والتعلم والتعليم وذكر الله عز وجل إلى غير ذلك من أنواع الطاعات والقربات، قال الله تعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأبْصَـ?رُ لِيَجْزِيَهُمُ ?للَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 36-38]، إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18].
وفي الخطبة القادمة إن شاء الله أكمل بقية الأصناف السبعة الواردِ ذِكْرُهُمْ في الحديث المتفق على صحته والْمَرْوِيِّ عن حبيبنا وسيدنا رسول الله.
(1/5632)
الأصناف السبعة (2)
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
2/2/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ممن يظله الله يوم القيامة المتحابان في الله. 2- ممن يظله الله يوم القيامة المتعفّف عن الحرام. 3- ممن يظله الله يوم القيامة صاحب صدقة السر. 4- ممن يظله الله يوم القيامة البكّاؤون من خشية الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زلنا مع الأصناف السبعة الذين ذكرهم رسول الله والذين يظلّهم الله تحت ظلّ عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله، ومع الصنف الرابع وهما ((رجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)).
إن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وبه تقع الألفة ويحصل الاجتماع المأمور به في كتاب الله وسنة رسوله ، ويشعر العاصي بكراهة الناس له وبغضهم لما هو عليه من معصية الله، فيقلع ويتوب إن كان من ذوي العقول السليمة وممن أراد الله له الخير والهداية. وحبّ المؤمن للخير وأهله دليل صادق على طِيبِ نفسِه وطُهْرِ قلبِه وأنه عند الله بمنزلة عالية، والمؤمن يحب أخاه المؤمن القريب والبعيد، لا فرق بين أخيه المؤمن الذي من صُلْبِ أبيه ولا بين أخيه المؤمن من أنحاء الأرض الذي لا تربطه به إلا أَوَاصِرُ الدين وأُخُوَّةُ الإيمان، فَيُسَرُّ له في النَّعْمَاءِ ويَحْزَنُ عليه في الْبَأْسَاءِ، ويتولاه لإيمانه من دون آبائه وإخوانه وسائر أقربائه، ويُؤْثِرُهُ على نفسه، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، وما ذلك إلا للمحبة الصادقة في ذات الله تبارك وتعالى، قال رسول الله : ((إن من عباد الله ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله))، قالوا: يا رسول الله، فخبرنا من هم؟ قال: ((هم قوم تَحَابُّوا بِرُوحِ الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فَوَاللهِ إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، ولا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) ، وقرأ هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] رواه أبو داود. وقال رسول الله : ((من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني رحمهم الله جميعًا.
والمؤمن يبغض العاصي ويصارحه سبب بغضه له وأنه من أجل الله، ويبغضه لفعله وارتكابه المعصية لا لشخصه وذاته، وهذه نقطة مهمة يجدر بكل مسلم معرفتها، فمتى أقلع العاصي عن معاصيه فينبغي أن تتوثق معه أواصر المحبة والأخوة الإيمانية. ومما يجب على المؤمن نحو العاصي والمحادِّ لله ورسوله الإنكار عليه باللسان أو القلب ومناوأته ولو كان من أقرب الناس وألصقهم به، أما تغيير المنكر باليد فهو للشخص في بيته ومع من هو تحت يده وسُلْطَتِهِ وفي حدود مسؤوليته مع من ولاه الله أمره بحيث يكون مسؤولاً عنه يوم القيامة فيما لو تركه ولم يأخذ على يده، ويكون هذا في البيوت والأماكن التي للإنسان فيها رعايةٌ وسُلْطَةٌ، أما في الأماكن العامة فليس لأي شخص من عامة الناس أنْ يُغَيِّرَ المنكرَ بيده مهما كان؛ لئلا تحصل الفوضى في المجتمع، ولذلك فإن تغيير المنكر لولي الأمر ومن يقوم مقامه ومن يكلّفه بهذا العمل مُحْتَسِبًا أو موظفًا رسميًا, ذكرت هذا التوضيح هنا حيث لا بُدَّ منه وإلا فهو في سلسلة خطب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهداية والمنكرات وتغييرها، قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةُ وَ?لْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى? تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لإيمَـ?نَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا رَضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ ?للَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].
والمتحابون في الله على منابر من نور؛ لأنهم يجتمعون في الدنيا على أمر يحبه الله ويرضاه، فتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
المرء يُحْشَرُ ويكون مع من أحب يوم القيامة، فلينظر من يُخَالِل ومن يُحِبّ، ولْيَخْتَرْ من يقربه إلى الله ويعينه على طاعة الله حتى يكون من الفائزين السعداء في الآخرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي عن الساعة فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ((وماذا أَعْدَدْتَ لها؟)) قال: لا شيء، وفي رواية: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال: ((أنت مع من أحببت)) ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فما فَرِحْنَا بشيء فَرَحَنَا بقول النبي : ((أنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إِيَّاهُم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
ولننظر إلى تعاملنا اليوم ومحبتنا لبعضنا البعض، فأكثر الحب ليس لله وإنما هو لغرض دنيوي يريد الحصول عليه مُدَّعِي المحبة له، وما إن تنتهي أيامٌ قَلائِلُ من المحبة التي ليست مَبْنِيَّةً على التقوى والإيمان حتى تصبح وَبَالاً على صَاحِبَيْهَا؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل، قال الله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? تَقْوَى? مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى? شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَ?نْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 109].
والمتحابون في الله تدوم صحبتهم وتبقى مودتهم بعضهم لبعض أحياءً وأمواتًا لخلوصها من الإثم والأغراض السيئة والدنيوية الدنيئة، قال تعالى: ?لأخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67].
ويستحب للمؤمن إذا رأى من أخيه ما يسره في دينه أن يمدحه ويثني عليه ويُشَجِّعَهُ على الخير مع الاستمرار عليه حتى يكون هذا الثناءُ حافزًا ومُرَغِّبًا في الازدياد والمداومة على الطاعات، لا أن يمدحه وهو غير صادق في مدحه له ويوصله إلى درجة الغرور والاحتقار للآخرين أو يدعوه ذلك المدح إلى التثبيط والتأخر عن فعل الخيرات.
ومن أَحَبَّ أحدًا فليقل له: إني أحبك في الله، ويُبَرْهِنُ على صدق ما يقول بحسن المعاملة والإحسان إليه حتى يصدقه ويعامله بالمثل، وفي الأثر: "أَبْدِ المودةَ لمن وَادَّكَ فإنها أَثْبَتُ"، وقال رسول الله : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله أخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك)) ، فقال: ((أوصيك يا معاذ: لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) رواه أبو داود وصححه الألباني رحمهما الله تعالى. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي فَمَرَّ به رجلٌ فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي : ((أَعْلَمْتَهُ؟)) قال: لا، قال: ((أَعْلِمْهُ)) ، فَلَحِقَهُ فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبَّك الله الذي أحببتني له. رواه أبو داود وحسنه الألباني. اللّهمّ اجعلنا من المتحابّين فيك، واجعل محبّتنا جميعها لك وفيك برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إليك.
الصنف الخامس: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين)). هذا الصنف من المؤمنين يظهر أسمى ما تتصوّره البشرية من طهارة وسُمُوٍّ، طهارة الوجدان وصفاء الإيمان الذي يَعْصِمُ صاحبَه من الانزلاق في مزالق الرذيلة بإذن الله وتوفيقه. ولا يكون المؤمن صادقًا في إيمانه ثابت العقيدة عالمًا بأن الله معه حيث كان حتى يكون خائفًا وَجِلاً منه سِرًّا وعَلَنًا ظاهرًا وباطنًا، وحتى يعبده في نفسه وما يُضْمِرُهُ في سِرِّهِ وخَلْوَتِهِ كما يعبده أمام الملأ وحيث يراه الناس، فيترك الحرام وهو قادر عليه ومشتاق إليه وقد تهيأت له أسباب المعصية ونفسُه تَوَّاقَةٌ وجسمه صحيح معافى وجيبه مملوء بالنقود، ولا أحد يراه ويرقبه إلا اللهُ تبارك وتعالى الذي لا تخفى عليه خافية، فإذا به وحالته هذه تتعرض له المرأة ذات المنصب الرفيع والبيت الواسع والوجه الجميل والثوب الأنيق تدعوه إلى نفسها وتهمّ به ويهمّ بها، ثم تُحَلِّقُ نفسُه ويتذكر ربه ويخشاه ويخاف من أليم عقابه، ترتفع نفسه عن الشهوة التي تُرْدِيهِ في أسفل سافلين، يرتفع عن ذلك كله خوفًا من الله رب العالمين، إنه السُّمُوُّ الإيمانِيُّ الصادقُ والوصولُ إلى درجة الإحسان في الخوف من الله، يترك ذلك ويقول كما قال يوسف عليه السلام: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ ?لْجَـ?هِلِينَ [يوسف: 33].
هذا الرجل المؤمن تحفظه الملائكة من عبث الشياطين وهوى النفس الأمارة بالسوء فيقول: إني أخاف الله رب العالمين، وبذلك يكون قد انتصر على النفس والهوى والشيطان الرجيم، ويكسب هذه المعركة ويخرج منها منتصرًا. ولا شيء يصعب من الشر اتقاؤه مثل شر الفرج واللسان، وبهما يقع المرء في الامتحان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. جاء في الحديث عن الرسول قوله: ((من يضمن لي ما بين لِحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أضمن له الجنة)) رواه البخاري والترمذي. قال تعالى في وصف عباده المفلحين: وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ [المعارج: 29-31].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أمد المؤمنين بعونه وتوفيقه، ويسّر لهم سبيل السعادة بمنّه وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله جمع القلوب بقدرته، وفتح لها أبواب السعادة بمشيئته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فالصنف السادس من الأصناف السبعة الذي يتصدق بالصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. لقد جعل الله في المال حقًا معلومًا للسائل والمحروم، ورغب في الصدقة عمومًا وحَثَّ عليها وأمر بها، وإن إنفاق المال في سبيل الله والتصدّق به لهو من أفضل ما يتقرّب به العبد المؤمن إلى ربّه تبارك وتعالى سرًا كان ذلك أو جهرًا، قال الله تعالى: إِن تُبْدُواْ ?لصَّدَقَـ?تِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ?لْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة: 271]. ومعلوم أن إبْدَاءَ الصدقة أمام الآخرين لا بأس به متى حَسُنَتْ نِيَّةُ المتصدق إن أراد بفعله ذلك فتح أبواب الخير لإقدام الغير على الإنفاق من أجل تشجيع المشاريع العظيمة التي تكون في وجوه الخير، فمتى كان هذا هدفه وهذه نيته فعليه أن يعلن صدقته ويبديها ليقتدي به الناس ويعملوا مثله، وإن أراد إخفاء عمله والابتعاد عن الرياء والسمعة وعدم الْمَنِّ على الفقراء والمساكين فعليه أنْ يُسِرَّ بصدقته حتى لا تعلم شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، فإن الإسْرَارَ والإخْفَاءَ خيرٌ له.
والرجل المحسن الذي يتصدق بالصدقة خُفية عن أعين الناس ابتغاء مرضاة الله ومن شدة حرصه وخوفه من الرياء والسمعة فهو يخفيها ليس عن أعين الناس فحسب وإنما عن أقرب ما يتصل به ألا وهي شماله لئلا تعلم ما تنفق يمينه، لو تصورنا أن هذا الرجل تصدقت يمينه بشيء لما شعرت يده اليسرى بما أنفق في سبيل الله بحيث لا تشارك في الإخراج من الجيب ومن المكان المخزون حتى تصل الصدقة إلى موضعها الذي يضعها فيه، بهذا العمل المبني على الإسرار والإخفاء وعدم الإعلان يكون هذا النوع من المؤمنين على درجة عالية من الإيمان الحقيقي في إخفاء الصدقة عن البشر وعن أقرب الناس وعن أقرب عضو مماثل لعضوه الآخر في جسمه ألا وهي شماله! قال تعالى: وَمَثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمُ ?بْتِغَاء مَرْضَاتِ ?للَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 265].
وينبغي لكل مسلم الإنفاق في سبيل الله، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت رسول الله على أعواد منبره يقول: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإنها تقيم العوج، وتدفع ميتة السوء، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان)) رواه أبو يعلى والبزار، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خُفْيَةً تُطْفِئُ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأوّل من يدخل الجنة أهل المعروف)) رواه الطبراني
الصنف السابع: الذي يذكر الله وليس عنده أحد من البشر فيبكي خوفًا وخشيةً وطمعًا ورجاءً فيما عند الله ومحبةً له جل جلاله وتعالى سلطانه. إن البكاء من خشية الله والخوف من الله عز وجل لهو من صفات عباد الله المتقين الْوَجِلِينَ الذين رَقَّتْ قلوبُهم واتصلت بخالقها ذي العزة والجبروت، وكل عين باكية يوم القيامة إلا العين التي بكت من خشية الله في الدنيا والعين التي باتت تحرس في سبيل الله. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) رواه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي وابن ماجة.
وأصدق البكاء ما كان خفية كما ورد في الحديث: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) أي: بالدموع حينما ذكر تقصيره في طاعة الله وعفو الله ومغفرته عن زلاته وارتكابه لشيء مما يغضب الله عليه، فإذا عيناه تَذْرِفَانِ بالدموع الحارة. جاء في الحديث أن النبي قال: ((من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة)) أخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، وقال : ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) رواه الترمذي. وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يبكي في المسجد فقال: (ما أحسن هذا لو كان في البيت).
وليس معنى هذا أن يمتنع المؤمن عن البكاء أمام الناس حتى يكون خاليًا، فربما لو استمر على منع نفسه متى مَرَّتْ به حادثة أو موعظة أو آية توجب البكاء ولم يَبْكِ فلربما قَسَا قلبه مع الاستمرار ولم يَعُدْ ينفع فيه شيء في السر ولا في العلانية. ولنا في رسول الله أسوة حسنة وفي صحابته الكرام الذين يبكون في خلوتهم وأمام الناس متى حصلت المناسبة لذلك، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله : ((اقْرَأْ عَلَيَّ القرآنَ)) ، فقلت: يا رسول الله، أَقْرَأُ عليك وعليك أُنْزِلَ؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، فقرأتُ عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيدًا [النساء: 41] قال: ((حَسْبُكَ الآن)) ، فَالْتََفَتُّ إليه فإذا عيناه تَذْرِفَانِ، وفي رواية: فرأيتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
فهذا موقف، وموقف آخر بكاؤه ودمعه على ابنه إبراهيم معلوم ومعروف حينما ذرفت عيناه بالدموع وقال عليه : ((إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون)) أخرجه البخاري ومسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما اشتدّ برسول الله وَجَعُهُ قيل له في الصلاة، قال: ((مُرُوا أبا بكرٍ فَلْيُصَلِّ بالناس)) ، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن غلبه البكاء، فقال: ((مُرُوهُ فليصلِّ)) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت أَفَمِنْ هَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ [النجم: 59، 60] بكى أصحابُ الصُّفَّةِ حتى جَرَتْ دموعُهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله حِسَّهُمْ بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال رسول الله : ((لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مُصِرٌّ على معصية الله، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يُذْنِبُونَ فيستغفرون فيغفر الله لهم)) أورده البيهقي في شعب الإيمان والقرطبي في أحكام القرآن والسيوطي في الدر المنثور. والنماذج في البكاء كثيرة في صحابة رسول الله ومن بعدهم من السلف الصالح، وقد ذكر الله ذلك عنهم في القرآن الكريم، وخاصة الذين لا يجدون ما ينفقونه في سبيل الله عندما يرون الأغنياء قد سبقوهم بالإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92].
وعلى العكس مِنْ هؤلاء فَمِنَ الناس مَنْ لا يلين قلبه ولا تبكي عينه ولا يتأثر بشيء ولو وَعَظَهُ مَنْ وَعَظَهُ، يَطْرَبُ لأصوات المظلومين وَأَنَّاتِ المنكوبين وسماع المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات والعابثين والعابثات، قد نُزِعَتْ من قلبه الرحمةُ وجُرِّدَ من الخوف والرجاء، فنعوذ بالله من هذا النوع، ونعوذ بالله من قسوة القلب التي قال الله عن أصحابها: فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ [الزمر: 22]. وقد جاء التعبير والبيان عن هذين الصنفين في القرآن الكريم، قال تعالى: أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?بًا مُّتَشَـ?بِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 22-23]، وقال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَحْدَهُ ?شْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45].
وأخيرًا، أعود للتذكير بحديث الأصناف السبعة الذي كان الكلام حوله في هذه الجمعة والسابقة، والنص الآتي هو كما ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله في بعض رواياته المتعددة عنده وعند غيره، وإن اختلفت بعض الألفاظ زيادةً أو نقصًا تقديمًا أو تأخيرًا فالمضمونُ والْمُؤَدَّى واحدٌ، ومن الألفاظ: إمام عادل والإمام العادل، افترقا وتفرقا، عبادة الله وطاعة الله، دعته وطلبته إلى نفسها، في المساجد وفي المسجد وبالمساجد، خاليًا في خلاء. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
(1/5633)
التحول من الكفر إلى الإيمان
الإيمان
فضائل الإيمان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
10/1/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التغيير وصعوبته. 2- أثر الإيمان عندما يحل في القلوب. 3- نظرة في بعض القصص لرؤية أثر الإيمان في النفس الإنسانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن إصلاح الفرد أو الجماعة أو الشعوب لا يجيء جُزَافًا ولا يتحقق عَفْوًا، وإن الأمم لا تنهض من كَبْوَةٍ ولا تقوى من ضعف ولا ترتقي من هبوط إلا بعد تربية أصيلة حقّة وتغيير نفسي عميق الجذور، يحوِّل الْهُمُودَ فيها إلى حركة والْغَفْوَةَ إلى صحوة والرُّكُودَ إلى يقظة والْفُتُورَ إلى عزيمة، تغيير يحوّل الوجهة والأخلاق والميول والعادات.
سنة قائمة من سنن الله تعالى في الكون وردت في القرآن الكريم في عبارة وجيزة بليغة: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، ولكن هذا التغيير أمر ليس بالْهَيِّنِ اليسير، إنه عبءٌ ثقيل تَنُوءُ به الكواهل؛ لأن الإنسان مخلوق مركب معقد، لهذا فإنه من أصعب الصعب تغيير نفسه أو قلبه أو فكره، ولذلك نجد أن التحكم في مياه نهر كبير أو تحويل مجراه أو حفر الأرض أو نسف الصخور أسهل بكثير من تغيير النفوس وتقليب القلوب والأفكار. إن بناء المنشآت من مصانع ومدارس وسدود أمر سهل ومقدور عليه، ولكن الأمر الشاق حقًا هو بناء الإنسان وتغيير فكره وقلبه، الإنسان المتحكم في شهواته الذي يعطي الحياة كما يأخذ منها ويؤدي واجبه كما يطلب حقه، الإنسان الذي يعرف الحق ويؤمن به ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه للناس كما يحبه لنفسه ويتحمل تبعته في إصلاح الفساد والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله.
إن التغيير في هذا الإنسان أمر عسير غير يسير، ولكننا نجد الإيمان حينما يتغلغل ويصل إلى سويداء القلوب نجده يفعل الأعاجيب بصاحبه، فالإيمان هو الذي يُهَيِّئُ النفوسَ لتقبل المبادئ مهما يَكْمُنُ وراءها من تكاليف وواجبات وتضحيات ومشقات وسبّ وشتم من الآخرين، وهو العنصر الوحيد الذي يغير النفوس تمامًا بتوفيق الله وهدايته لأيّ شخص كان، ويصبُّه في قالب جديد ويغير أهدافه وطرقه ووجهته وسلوكه وذوقه ومقاييسه التي كان عليها، فلو عرفنا شخصًا واحدًا في عهدين من حياته ـ حياته الأولى الجاهلية وحياته الإيمانية ـ لرأينا الثاني شخصًا غير الأول تمامًا لا يصل بينهم إلا الاسم أو النسب أو الشكل، وفي حديث سحرة فرعون الذين قَصَّ الله قصتهم في القرآن الكريم عبرة وذكرى لمن أراد التدبر والاتعاظ، قال الله تعالى: فَأَلْقَى? عَصَـ?هُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّـ?ظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـ?ذَا لَسَـ?حِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَ?بْعَثْ فِى ?لْمَدَائِنِ حَـ?شِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ ?لسَّحَرَةُ لِمِيقَـ?تِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ?لسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ?لْغَـ?لِبِينَ فَلَمَّا جَاء ?لسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ?لْغَـ?لِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ ?لْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى? أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَـ?لَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ?لْغَـ?لِبُونَ فَأَلْقَى? مُوسَى? عَصَـ?هُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ ?لسَّحَرَةُ سَـ?جِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ رَبّ مُوسَى? وَهَـ?رُونَ قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ?لَّذِى عَلَّمَكُمُ ?لسّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى? رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـ?يَـ?نَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 32-51]. وفي سورة طه قول الله تعالى عن تهديد فرعون للسحرة: فَلأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ?لنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى? قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى? مَا جَاءنَا مِنَ ?لْبَيّنَـ?تِ وَ?لَّذِى فَطَرَنَا فَ?قْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـ?يَـ?نَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ?لسّحْرِ وَ?للَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه: 71-73].
نرى كيف تغيرت شخصياتهم، وكيف انقلبت موازينهم، كيف تحولت أفكارهم وقلوبهم، كانت هممهم مشدودة إلى المال: أَإِنَّ لَنَا لأ جْر ًا ، وكانت آمالهم منوطة بفرعون حين أقسموا بعزته وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ?لْغَـ?لِبُونَ. كان هذا مَنْطِقهُمْ قبل أن يؤمنوا، فلما ذاقوا حلاوة الإيمان كان جوابهم بالرغم من التهديد والوعيد في بساطة ويقين قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى? مَا جَاءنَا مِنَ ?لْبَيّنَـ?تِ ، بعد أن كان هَمُّهُمْ الدنيا صار همهم الآخرة لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـ?يَـ?نَا ، وبعد أن كانوا يحلفون بعزة فرعون صاروا يحلفون بالله رب العالمين الذي فطرهم: وَ?لَّذِى فَطَرَنَا ، تَغَيَّرَ الاتجاه، تغير المنطق، تغير السلوك، تغيرت الألفاظ، في لحظات أصبح القوم غير القوم، فَمِنْ أَيِّ شيء كان هذا التحول السريع والتغير الفظيع؟ إنه الإيمان الذي وصل إلى الأعماق.
وفي القصة القصيرة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه برهان مبين على مبلغ أثر الإيمان، ذلك أن رجلاً كان ضيفًا على النبي فأمر له بشاة فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلابَهَا، ثم أمر له بثانية فشرب حلابها، ثم بثالثة فرابعة... حتى شرب حِلاَبَ سبع شِيَاهٍ، وبَاتَ الرجل وتفتّح قلبه للإسلام فأصبح مسلِمًا معلنًا إيمانه بالله ورسوله، وأمر الرسول له في الصباح بشاة فشرب حلابها ثم أخرى لم يَسْتَتِمَّهُ، وهنا قال الرسول كلمته المأثورة: ((إن المؤمن ليشرب في مِعًى واحد، والكافر ليشرب في سبعة أمعاء)). فيما بين يوم وليلة استحال الرجل من شَرِهٍ مُمْعِنٍ في الشّبَعِ حريصٍ على مَلْءِ بطنه إلى رجل قانع عفيف، ماذا تغير فيه؟ إن الذي تغير فيه قلبه ليس اللحم والعظم، ولكنه ما بداخله، التحول من الكفر إلى الإيمان، كان كافرًا فأصبح مؤمنًا، وهل هناك أسرع أثرًا في النفوس من الإيمان؟! إن السر معروف والسبب معلوم، ومَرَدّه هو إِكْسِيرُ الإيمان الذي ينقل النفوس والأشخاص من حال إلى حال ومن وثنية إلى توحيد ومن جاهلية إلى إسلام.
اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا ويقينًا خالصًا وحلاوةَ إيمانٍ تباشرُ قلوبَنَا،.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وَ?عْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ?للَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ ?لأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لإيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لراشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَنِعْمَةً وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: 7، 8].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدى عباده المؤمنين ووفقهم لطاعته وحبب إليهم الإيمان وزينهم بزينة التقوى، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فحسبنا مثلاً على الإيمان الصادق والتحول الإيماني الفريد رجل وامرأة عُرِفَ أمرُهما في الجاهلية وفي الإسلام، الرجل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي نعرف عنه ونقرأ ما بلغ في الجاهلية قبل إسلامه، وحين انتقل من الجاهلية إلى الإسلام وتحرر عقله حتى بلغت به الحكمة وسداد الرأي إلى أن قطع شجرة الرضوان خشية أن يطول الزمن بالناس ثم يقدسونها ويقع عندها أمور شركية تناقض توحيد الله جل جلاله، قطع تلك الشجرة التي بايع الرسول أصحابه يوم الحديبية حماية وصيانة لجناب التوحيد. ووقف أيضًا أمام الحجر الأسود بالكعبة فقال: (أيها الحجر، إني أقبلك وأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ). عمر رضي الله عنه يبلغ من سُمُوِّ عاطفته ورِقَّةِ قلبه وخشيته لله ما ملأ صفحات التاريخ بآيات الرحمة الشاملة للمسلم وغير المسلم، وليست رحمته وعظم مسؤوليته وأمانته مقتصرة على المسلمين، بل على البشر كلهم، بل حتى الحيوانات والدواب، ونعلم قوله المشهور عنه رضي الله عنه: (والله، لو عثرت بغلة بشط الفرات لرأيتني مسؤولاً عنها أمام الله: لِمَ لمْ أسوِّ لها الطريق؟). هذا هو الرجل رضي الله عنه.
أما المرأة فهي الخنساء التي فقدت في الجاهلية أخاها لأبيها صخرًا، فملأت الآفاق عليه بكاءً وعويلاً وشعرًا حزينًا، ومن شعرها قولها:
يذكرنِي طلوعُ الشمسِ صَخْرًا وأَذْكُرُه بكلِّ غروب شَمْسِ
ولولا كَثْرَة البَاكِينَ حَوْلِي على إِخْوَانِهِمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
ولكن بعد إسلامها نراها امرأة أخرى، نراها أُمًّا تُقَدِّمُ فلذات كبدها إلى الميدان، أي: ميدان الموت، راضية مطمئنة، بل مُحَرِّضَة دافعة لهم. روى المؤرخون أنها شهدت حرب القادسية بين المسلمين والفرس تحت راية القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان معها بنوها الأربعة، فجلست إليهم في ليلة من الليالي الحاسمة، تَعِظُهُمْ وتَحُثُّهُمْ على القتال والثبات، وكان من قولها لهم: (أَيْ بَنِيَّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو إنكم لَبَنُو رجلٍ واحدٍ كما أنكم بَنُو امرأة واحدة، مَا خُنْتُ أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هَجَّنْتُ حَسَبَكُمُ، ولا غَيَّرْتُ نَسَبَكُمْ، وقد تعلمون ما أَعَدَّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]. فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مُسْتَبْصِرِينَ، وبالله على أعدائكم مُسْتَنْصِرِينَ، فإذا رأيتم الحرب قد شَمَّرَتْ عن ساقها فَتَيَمَّمُوا وَطِيسَهَا، وجَالِدُوا رئيسَها، تَظْفَرُوا بِالْغُنْمِ في دار الخلد)، فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فَتِيَّةٍ وأُنُوفٍ حَمِيَّةٍ، إذا فَتَرَ أحدُهم ذَكَّرَهُ إِخْوَتُهُ وَصِيَّةَ أُمِّهِمُ الْعَجُوزِ، فَزَأَرَ كَاللَّيْثِ وانطلق كَالسَّهْمِ، وظَلُّوا كذلك حتى اسْتُشْهِدُوا واحدًا بعد واحد. وبلغ الأمَّ نَعْيُ الأربعة الأبطال في يوم واحد، فلم تَلْطِمْ خَدًّا ولم تَشُقَّ جَيْبًا، ولكنها استقبلت الخبرَ بإيمان الصابرين وصبر المؤمنين، وقالت: (الحمد لله الذي شَرَّفَنِي بِقَتْلِهِمْ، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُسْتَقَرِّ رحمته).
ما الذي تَغَيَّر في عمرَ القديم وعمَرَ الجديد؟ وما الذي تغير في الخنساء الحزينة الباكية النائحة إلى خنساء الصبر والفداء والتضحية؟ إنه الإيمان الصادق بالله عز وجل حيث تَغَيَّرَا من حال إلى حال، وفي كل زمان ومكان نجد رجالاً ونساءً كانوا يعيشون في الشر والفساد، فأراد الله لهم الهداية والتوفيق، وعاشوا بقية حياتهم حياة إسلامية إيمانية غيرت تلك الحياة الأولى، وفي زمننا هذا نجد من التائبين العائدين إلى الله رجالاً ونساءً، والفرق واضح لدى الجميع بين حياتهم الأولى وما هم عليه الآن، وذلك من فضل الله عليهم وهدايته للأخيار.
فيا عباد الله، علينا بالتوبة الصادقة النصوح لنتذوّق حلاوة الإيمان وتتغير حالُ كلّ واحد منا إلى حال أفضل مما هو عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وآله...
(1/5634)
الحسنات والسيئات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أعمال القلوب
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
29/10/1412
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مضاعفة الحسنات وتفاوت ذلك. 2- السيئة لا تضاعف وقد تعظم في الأماكن أو الأزمنة الفاضلة. 3- الهم بالحسنة والهم بالسيئة. 4- دور النية في العمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن مما ينبغي للعبد إدراكه ومعرفته هو عظيم لطف الله بعباده وواسع رحمته عز وجل وعظيم مغفرته وتكثير الحسنات ومضاعفتها إلى أضعاف كثيرة، حتى مجرد الهمّ والتفكير في العمل الصالح يكتب بأمر الله عز وجل حسنات، وفوق ذلك كلِّه مِنَّةٌ عظيمة وفضل واسع، قليل من يتدبره ويفقهه، لو هَمَّ هذا العبدُ بسيئة ولكنه لم يعملها خوفًا من الله فإنها تُكْتَبُ عند الله حسنة كاملة، فالحمد والمنَّة لله لا نحصي ثناء عليه سبحانه وتعالى، فهل يهلك بعد ذلك على الله إلا هالك؟! وما الذي جعل المسلمين ينشغلون عن آخرتهم بدنياهم وبما لا فائدة فيه؟! إنه الشيطان الرجيم العدوُّ المبين الذي حذرنا منه ربنا تبارك وتعالى، ولكننا ننسى أو نتناسى الإكثار من عمل الصالحات التي سوف نكون في أشد الحاجة إلى حسنة واحدة منها في يوم تشخص فيه الأبصار، يوم لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات، يوم لا تنفع ساعات الندم والحسرة، فهل أحد منا جعل هذا الحديث الشريف التالي ذكره وغيره نصب عينيه في جميع أقواله وأعماله للازدياد من عمل الخيرات ومضاعفة الحسنات؟! وهل أدركنا اللطف الإلهي بنا؟! وهل تأملنا في واسع مغفرة الله ورحمته بنا؟!
قال تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]. فهذه الآية الكريمة جاءت مفصلة لما أجمل في قوله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ?لَّذِينَ عَمِلُواْ ?لسَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [القصص: 84]، وفي قوله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ?لنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 89، 90].
روى الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله فيما يرويه عن رب العزة تبارك وتعالى قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فَمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإنْ هَمَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإنْ هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) ، وفي رواية للإمام مسلم زيادة في آخر الحديث بعد قوله: ((وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك)) ، وروى الإمام البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((يقول الله للملائكة: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها مِنْ أَجْلِي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف)) ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((كل عمل ابن آدم يُضَاعَفُ له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)) ، وفي رواية مسلم بعد قوله: ((إلى سبعمائة ضعف)) : ((إلى ما يشاء الله)). وقد وردت أحاديث متعددة في هذا المعنى، وتضمنت نصوصها كتابة الحسنات والسيئات والهم بالحسنة والسيئة، فهذه أربعة أنواع وهي كما يلي:
النوع الأول:
عمل الحسنات، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها ملازم لكل الحسنات أَيًّا كانت من صلاة أو ذكر أو دعاء أو قراءة للقرآن أو برٍّ أو إحسان مهما كان قليلاً أو كثيرًا، ودليله قوله تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160]. وأما الأحاديث فكثيرة، منها ما سبق ذكره، ومنها ما لا يتسع المقام لإيراده. وأما الزيادة والمضاعفة على عشر حسنات لمن شاء الله أن يضاعف له إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة فَدَلَّ عليه قوله تعالى: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]. فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والشاهد قوله تعالى: وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء ، وكذلك أحاديث منها ما تقدم ومنها ما ورد في صحيح مسلم رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال رسول الله : ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة)).
والنوع الثاني:
هو عمل السيئات، فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة في العدد، بل تكتب سيئة واحدة مثل التي عملت، قال تعالى: وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]، وكما ورد في عدة أحاديث بألفاظ مختلفة منها: ((وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) ، وفي الحديث الآخر: ((فإن عملها فاكتبوها بمثلها)) ، وفي رواية أخرى: ((فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة)). وفي هذه الأحاديث والآية إشارة واضحة إلى أنها غير مضاعفة العدد، وإنما تكتب سيئة واحدة مثل التي عملت.
وقد تكون السيئة عظيمة لشرف الزمان والمكان مثل رمضان والأشهر الحرم، ومثل السيئة في مكة المكرمة لقول الله عز وجل: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25]. فالسيئة عظيمة في مكة والحرم وليست مضاعفة العدد، أما الصلاة والحسنات عمومًا في المسجد الحرام فهي مضاعفة العدد كما ورد بذلك عدة أحاديث، ومنها قوله : ((صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) ، وفي رواية صحيحة أخرى: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة)). وهذا إثبات للمائة ألف صلاة المذكورة في الأحاديث الأخرى من حيث مضاعفة العدد، أما السيئات في مكة والحرم فلا تُضَاعَفُ، وإنما تكون عظيمةً كَالَّتِي عُمِلَتْ، صغيرةً كانت أو كبيرةً كما ورد في الآية السابقة لشرف المكان.
وقد يضاعف العدد في الحسنات والسيئات نظرًا لشرف فاعلها وعظيم معرفته بالله وقربه منه، مثل رسول الله ، وكذلك أزواجه رضي الله عنهن،كما ورد ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـ?كَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَـ?كَ ضِعْفَ ?لْحَيَو?ةِ وَضِعْفَ ?لْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء: 74، 75]، وقال تعالى: ي?نِسَاء ?لنَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ?لْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـ?لِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 30، 31].
النوع الثالث:
هو الْهَمُّ بالحسنات، فتكتب حسنة كاملة وإن لم يعملها، ولننظر إلى التأكيد في الحديث بكلمة: ((كاملة)) ؛ لإثبات أن النِّية الصالحة والهمَّ بفعل الحسنة وإن لم يعملها فسوف تكتب له حسنة كاملة بإذن الله، فالأجدر بنا أن نتسابق إلى الهمّ والحرص على الحسنات إذا لم نعملها أو لم نستطع القيام بها، فإن أجرها ثابت إن شاء الله. والهمّ معناه: العزم الصادق والتصميم والحرص على العمل الصالح لا مجرّد الْخَطْرَة التي تخطر على البال ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم ولا صدق بحيث لو تَمَكَّنَ من ذلك لم يعمله والله أعلم، كما ورد في حديث أبي كبشة عن النبي أنه قال: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم أن لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية فيقول: لو أن لي مالاً لعملتُ بعمل فلان، فهو بِنِيَّتِهِ فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم فيه لله حقًا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا وهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ)) ، وكذلك الحديث: ((من سأل الله الشهادة بصدق نية بلّغَه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه)).
ولا ننسى الدلالة على عمل الخيرات وطرق كسب الحسنات لأي عمل من أعمال الخير والبر والإحسان التي يُبْتَغَى بها وَجْهُ الله وما عنده سبحانه وتعالى من الثواب ورِفْعَةِ الدرجات، فالدال على الخير كفاعله، كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد ، وفضل الله واسع وخزائنه مَلأَى، فلله الحمد والمنة، قال رسول الله : ((الدال على الخير كفاعله)) ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)) ، وفي حديث آخر: ((من فطر صائمًا كان له من الأجر مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله صحبه.
أما بعد: فإن النوع الرابع الوارد في الحديث هو الهمّ بالسيئات من غير عمل لها، وإن كان هذا الترتيب في توضيح هذه الأنواع غير مرتب على ألفاظ الحديث، ولكن المهمّ هو الإيضاح، وأوجز ما سبق فيما يلي:
أولاً: الهمّ بالحسنات مع العمل.
ثانيًا: الهم بالسيئات مع العمل.
ثالثًا: الهمّ بالحسنات مع عدم العمل.
رابعًا: الهمّ بالسيئات مع عدم العمل بها.
وهذا النوع من الهم يكتبه الله عز وجل عنده حسنة كاملة، ولكن تارك السيئة ليس على كلّ حال تكتب له حسنة كاملة، وإنما ذلك على تفصيل وأقسام، منها:
إما أن يكون تَرْكُهُ لها لله خوفًا منه، فهذا تكتب له حسنة كاملة لارْتِدَاعِهِ وكَفِّهِ عنها خوفًا من الله تعالى، فهذا عمل ونية، ولذلك ورد في بعض ألفاظ الحديث ومنها رواية أبي هريرة رضي الله عنه: ((إنما تركها من جَرَّائِي)) ، يعني: من أجلي كما ورد في الرواية الأخرى، وهذا يدل على أن المراد مَنْ قَدِرَ على ما هَمَّ به من المعصية فتركه لله تعالى، وهذا لا رَيْبَ في أنه يُكتب له بذلك حسنةٌ كاملةٌ؛ لأنَّ تَرْكَهُ للمعصية بهذا القصد عملٌ صالِحٌ، وهذا قد يبلغ به خوفه من الله تعالى وتركه لعمل السيئة بعد مقدرته على العمل بها مرتبةَ الإحسان، ويدخل في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ومعلوم حديث السبعة الأصناف في ذلك، ومنهم: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين)) ، وحديث الثلاثة الذين تَوَسَّلُوا إلى الله بصالح أعمالهم عندما سَدَّتْ عليهم الصخرةُ فَتْحَةَ الغار، وفيهم الرجل الذي تَمَكَّنَ وقدر على فعل الزنا بابنة عمه، وعندما ذَكَّرَتْهُ بالله تعالى تَرَكَ ذلك خوفًا من الله، فعمله ذلك كان سببًا ووسيلة وعملاً صالحًا أنقذه مع زميليه في الغار الذي سُدّت عليهم فتحتُه بالصخرة.
والقسم الثاني: تارك السيئة نسيانًا وذهولاً عنها، فهذا لا له ولا عليه؛ لأنه لم يعمل شرًا ولم يتكلم به، لما ورد في الحديث عنه : ((إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا ما لم تتكلم به أو تعمل)).
أما القسم الثالث لتارك السيئة: فهو الذي يتركها عجزًا وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتَّلَبُّسِ بما يقرّب منها، ولكنه لم يتمكن من فعلها، فهذا بمنزلة فاعلها؛ لأنّه كان حريصًا على فعلها وإن لم يفعلها، وحرصه إما أن يكون بنيته في قلبه على عملها أو تكلم بها، ودليل ذلك كما ورد في عدة أحاديث، منها قوله : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)) ، وكذلك الحديث الذي تقدم ذكره والذي تمنى فيه منزلة الذي رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فتخبط في ماله بغير علم ولم يَتَّقِ فيه ربه ولم يصل فيه رحمه ولم يعلم أن لله فيه حقًا فهو بأخبث المنازل، فذكر رسول الله الذي تمنى ذلك بقوله: ((وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا وهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)).
فعلى كل مسلم أن يحرص على عمل الحسنات وإن لم يعملها ليكتب له الأجر مثل فاعلها، ويدل على الخير، فالدال على الخير له من الأجر كفاعله، وَلْيَسْعَ في أبواب الخير المتعددة وإن لم يتمكن منها، فحسبه نيته الصالحة وحرصه الحسن، ففضل الله واسع، وما عند الله خير وأبقى. وإن همّ بسيئة فليرتدع عنها ولا يتكلم بها وليتركها مخافة الله عز وجل حتى تكتب له حسنة كاملة، فما أكثر أبواب الخير، وما أعظم أبواب كسب الحسنات، حيث يستطيع المسلم أن يأتي بالملايين من الحسنات في يوم واحد نظرًا لمضاعفة الأجر. نَعَمْ، إنها الملايين وليس الألوف ومضاعفاتها، فما أعظم لطف الله بعباده وسعة رحمته بهم حيث ضاعف لهم الأجر إلى عشر حسنات إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، حتى عندما يرتدع العبد عن عمل السيئة يكتبها الله له حسنة كاملة.
فلنتدارك أنفسنا ونحاسبها وَنَنْوِ فعل الحسنات والمسابقة إلى الخيرات أيًا كانت، وَنَنْتَهِ عن السيئات والمنكرات، ونعلم أن عمل الحسنات سبب في دخول الجنة، ولن يدخل الجنة أحد بعمله إلا أن يتداركه الله برحمته، وإنما هي الأسباب المأمور بها والتي قال الله عنها في عدة آيات: وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ?لْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]، وَتِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] أي: بسبب ما كنتم تعملون من الحسنات، وذلك كله برحمته عز وجل، حيث قال رسول الله : ((لنْ يدخلَ أحدٌ الجنةَ بعمله)) ، وفي رواية: ((لن يُدْخِل أحدًا عملُهُ الجنةَ)) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ((ولا أنا، إلا أنْ يَتَدَارَكَنِيَ اللهُ برحمته)).
إن الخسارة العظيمة يوم القيامة لمن غلبت سيئاتُه حسناتِه وثَقُلَ ميزانُ سيئاتِه حتى رجح على ميزان حسناته، فذلك الخسران المبين مع خسران الأهل والبنين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قال تعالى: فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 6-11]. فالثقل المراد في الآيات الكريمة هو ثقل كفة الميزان بالحسنات حتى ترجح على السيئات، والخِفَّةُ في الميزان هو العكس بحيث تقلّ الحسنات في الكفة المقابلة للسيئات الكثيرة، وتلك هي الخسارة نعوذ بالله من الخسران ونسأل الله من فضله، قال تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فأُوْلَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ?لنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـ?لِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءايَـ?تِى تُتْلَى? عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون: 102-108]، وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيِّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ وَ?صْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [هود: 114، 115].
(1/5635)
وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
26/1/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله كثيرة ومن بينها الأمن والأمان الذي نعيشه. 2- أدلة وجوب طاعة ولاة الأمر ما لم يأمروا بمعصية. 3- تحريم الخروج على الأمراء وإن جاروا وظلموا. 4- مفاسد الخروج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الناس في أي زمان ومكان لا تستقيم أمورهم وشؤونهم وهم فوضى لا سراة لهم، وجميع البشر على وجه الأرض جعلهم الله درجات، فمنهم الحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس، وهذه سنة كونية من الله عز وجل في عباده.
والمسلمون إذا طَبَّقُوا إسلامَهم كاملاً وَرَضُوا به حكمًا في جميع شؤونهم فسوف يعيشون في غاية العزة والسعادة والرفعة بإذن الله في الدنيا، ولهم في الآخرة من الله الأجر العظيم.
الإسلام خَيْرٌ كُلُّهُ على أهله العاملين به والمقصرين، وهو خيركله أيضًا على البشرية جميعها، لم يُتْرَكْ فيه شَيْءٌ إلا طُرِقَ، ولا مسألة أو مشكلة إلا وجد لها فيه الحلُّ الأمْثَلُ.
وإن من أهم الأمور التي يَشْطَحُ فيها أبناءُ الإسلام وتَزِلَّ بهم الأقدام وتتباين بهم حولها الآراء والاتجاهات والاختلافات والأهواء خاصةً في هذا الزمان الذي تعددت فيه المشارب والثقافات واختلط فيه الْغَثُّ بالسَّمِين ودُسَّ السُّمُّ في العسل وكثرت فيه الشبهات والشهوات واختلفت النيات والمقاصد، واختلط على كثير من الناس فَهْمُ ومعرفةُ طرقِ أهل الباطل وأساليبهم في كثير من دروب الغواية والضلالة الواضحة الجلية لأهل العلم والبصيرة، فضلاً عن أن يعرفوا أساليب وطرق بني جلدتهم الذين يتكلمون بألسنتهم ولغتهم وإسلامهم أحيانًا، فمن تلك الأمور التي شطحوا فيها طاعةُ أولي الأمر من المسلمين وبَيْعَتُهُمْ، ولو أنصفوا من أنفسهم واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله محمد قراءةً وتدبرًا واستنباطًا بعد الفهم الصحيح الذي لن يكون إلا على أيدي العلماء المخلصين الخائفين من الله عز وجل والذين لا تطيش بهم الأهواء والآراء والاعتبارات أيًا كانت، لو فعلوا ذلك لما تفرقوا شيعًا وأحزابًا كل بما لديهم فرحون، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ مِنَ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32].
وإننا في هذا البلد الطيب المبارك محسودون بين الأمم المعاصرة لنا، وَيُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى علينا تلك الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، محسودون حَسَدَ غِبْطَةٍ بين المؤمنين في بقاع الأرض حيث يَتَمَنَّوْنَ الحياةَ الكريمةَ الآمنةَ التي يُحَكَّمُ فيها شَرْعُ الله بيننا، ويريدون أن يكون حالهم كحالنا أو أفضل مع تقصيرنا الذي يعلمه الله، ومحسودون أيضًا حسد تَمَنِّي زوال هذه النعم المتعددة التي نعيشها، محسودون من قبل أعداء ديننا الإسلامي الحنيف ابتداء من بني جلدتنا أصحاب الشهوات والشبهات والمعاصي والمنكرات والمنافقين والرافضة واليهود والنصارى والشيوعيين وجميع مِلَلِ الكفرِ ونِحَلِهِ، ولن يرضوا عما نحن فيه وعليه، ولنْ يَقِرَّ لهم قَرَارٌ أو يَهْدَأَ لهم بَالٌ في ليل أو نهار إلا بالسعي الحثيث لِتَقْوِيضِ مَعَالِمِ دين الإسلام بأي طريقة كانت، سواء منهم وبأيديهم أو بأيدي بني جلدتنا السِّلاحِ الْفَتَّاكِ الذي عن طريقهم تدخل الشرورُ وتُرْتكب المعاصي والآثام دون انتباه عامة الناس لخطط الأعداء الأَلِدَّاءِ للإسلام والمسلمين، وقد وصلوا لكثير مما أرادوه وخططوا له على غفلة من أهل الإسلام الغيورين، وكان نَفَسُهُمْ طويلاً خلال عشرات السنين، ولكنهم مهما مَكَرُوا وفكَّروا ودبَّروا وقدَّروا فالله لهم بالمرصاد، فهو سبحانه حافظٌ دينَهُ وناصرٌ لأهل طاعته، وهو يدافع عنهم وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال: 30].
والذي أريده بعد هذه التوطئة هي الذكرى التي ينتفع بها المؤمنون وشكر الله عز وجل على جميع النعم التي أنعم الله بها وأسبغها علينا نعمًا ظاهرة وباطنة والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق والاختلاف والتعاون على البر والتقوى، ونعم الله علينا كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ومن تلك النعم المفقودة في العالم والتي نَتَفَيَّأُ ظِلالَهَا ونعيش تحت مظَلَّتِهَا ونجني ثمارها ونعيش أَمْنَهَا وَرَخَاءَهَا هي نعمةُ تطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ وإقامة حدودها والترابط والتآلف بين ولاة الأمر من الحكام والعلماء وبين المؤمنين الصادقين وعامة الناس، هذا الترابط والتَّلاحُمُ والاعتزاز بالإسلام وأحكامه يزيدهم عزة ورفعة بين الأمم ويشيع الأمن والطمأنينة بين أفراد المجتمع، يفرح بهذا المؤمنون وتنشرح صدورهم ويزداد المنافقون والفاسقون والكافرون غيظًا وحقدًا وحسدًا وكفرًا ونفاقًا.
لقد جاءت الأدلة في القرآن الكريم والسنة النبوية تدل على وجوب طاعة ولاة الأمر من المسلمين ولزوم جماعة المسلمين والنهي عن الفرقة والاختلاف ومعصية ولاة الأمر، قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، وقال تعالى: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَـ?ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ?لَّذِينَ ?سْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ فَذُوقُواْ ?لْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا ?لَّذِينَ ?بْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ ?للَّهِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [آل عمران: 105-107].
فالآية الأولى نص صريح في وجوب طاعة أولي الأمر من الحكام والأمراء والعلماء من المسلمين، وجاءت السنة الصحيحة عن رسول الله تبين أَنَّ هذه الطاعةَ لازمةٌ وفريضةٌ في المعروف، فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمر في المعروف وليس في المعاصي، فإذا أَمَرُوا بمعصية فلا يُطَاعُون فيها، ولكن لا يجوز الخروج عليهم بأسباب تلك المعاصي أو الأمر بها، بل على المسلم السمع والطاعة في المعروف واعتزال المعصية وعدم الخروج على ولي الأمر لقول رسول الله : ((من رأى من أميره شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية)) ، وقال : ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، في المنشط والمكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) ، وقال : ((إنما الطاعة في المعروف)) ، وقال رسول الله : ((إنه يكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون)) ، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم جميعًا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: ((أدُّوا إليهم حَقَّهُمْ، وأسالوا الله الذي لكم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فلا يجوز للمسلمين منازعة ولاة أمورهم المسلمين ولا الخروج عليهم إلا إذا رأوا كُفْرًا بَوَاحًا قائمَ البرهان؛ لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فسادًا كبيرًا وشرًا عظيمًا؛ يختل به الأمن وتضيع معه الحقوق ويصعب رَدْعُ الظالم ونصرة المظلوم، وبعد ذلك يُرَوَّعُ الآمِنُ وتُنتهك الحرماتُ والأعراضُ وتُقطع السبلُ والطرقُ ولا يأتيها الأمان، وخير شاهد على هذا ما تعيشه دول العالم اليوم، ومنها الدول الإسلامية، وإن كانت الشواهد قائمة منذ الصدر الأول في الإسلام عندما سَنَّ الخوارجُ تلك المآسي في تاريخ الإسلام في عهد الخليفتَيْن الراشدَيْن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وما بعدهما إلى هذا الزمان، قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أَثَرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تَرَوْا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله. وقال رسول الله : ((اسمعوا وأطيعوا وإنِ اسْتُعْمِلَ عليكم عبدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رأسَه زبيبةٌ)) رواه البخاري، وقال : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومَنْ يُطِعِ الأمير فقد أطاعني، ومَنْ يَعْصِ الأمير فقد عصاني)) متفق عليه، وقال : ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) رواه مسلم.
ومن مقتضى البيعة النُّصْحُ لولي الأمر، ومن النصحِ الدعاءُ له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل والبطانة، ومن أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له أن يكون له وزيرُ صِدْقٍ يُعِينُهُ على الخير ويُذَكِّرُهُ إذا نَسِيَ ويعينه إذا ذَكَرَ، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صِدْقِ؛ إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وإنْ ذَكَرَ أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يُذَكِّرْهُ، وإن ذَكَرَ لم يُعِنْهُ)) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، وقال : ((ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ـ وفي رواية: وتنهاه عن المنكر ـ وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله )) وفي رواية: ((وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وُقِيَ شرها فقد وقي، وهو إلى من يغلب عليه منهما)) رواه البخاري والنسائي.
ومن مستلزمات الدين النصيحةُ والمناصحةُ والوفاءُ بالبيعة الواردة في عدة أحاديث، ومنها: عن أبي رقية تميم بن أَوْسٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أن النبي قال: ((الدين النصيحة)) ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ، وقال : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وَفَّى، وإِنْ لم يُعْطِهِ منها لم يَفِ)).
فعلينا أن نتقي الله تعالى ونشكره على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، ومنها نعمة الأمن والاستقرار والطمأنينة ورغد العيش والاعتصام بالكتاب والسنة والبعد عن الشقاق والخلاف بين الراعي والرعية، ومن كان في شك من هذه النعم التي يعيشها ولا يعلم عنها فلينظر إلى دول العالم القريبة منه والبعيدة ويتأمل وينظر في واقعها وواقع شعوبها وحياتهم المليئة بالحروب الدامية التي أكلت الأخضر واليابس منذ عشرات السنين وأمواج الفتن التي تعصف بهم والفقر والجوع والخوف وانتهاك الأعراض والحرمات وسفك الدماء، ومن لم يَكْفِهِ التَّدَبُّرُ والتأملُ وقَصُرَ نَظَرُهُ عن ذلك وعَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ قَبْلَ بَصَرِهِ وفِكْرِهِ فليذهب إلى بعض تلك الدول ليعيش الواقع ويرى فضل الله ونعمته عليه وعلى جميع من يعيش على هذه الأرض الطيبة، وعندها يعرف الفرق ويعيش الضِّدَّ؛ لأن من لا يَعِي ويُثَمِّن مقدار النعمة التي يعيشها ولم يعرف ضدّها لا يقدرها حق قدرها إلا إذا عاش ضدّها، وأمثلة الواقع كثيرة، قال تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل: 53]، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـ?هِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20].
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5636)
وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
28/1/1425
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طاعة الأمراء ضرورة بشرية وفريضة شرعية. 2- قبسات من كتاب للشيخ ابن باز عن هذه المسألة. 3- أدلة وجوب طاعة ولاة الأمر في طاعة الله. 4- الدعاء لولاة الأمر. 5- الواجب على ولاة الأمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الناس في أي زمان أو مكان لا يصلحون ولا تستقيم أمورهم وشؤونهم وهم فوضى لا سراة لهم، وجميع البشر على وجه الأرض جعلهم الله درجات فمنهم الحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس، وهذه سنة كونية من الله عز وجل في عباده، والمسلمون إذا طبقوا إسلامهم كاملاً ورضوا به حكمًا في جميع شؤونهم فإنهم يعيشون في غاية العزة والسعادة والرفعة بإذن الله في الدنيا، ولهم في الآخرة من الله الأجر العظيم.
الإسلام خير كله على أهله العاملين به وغير العاملين، خير كله على البشرية جميعها، لم يُتْرَكْ فيه شَيْءٌ إلا طُرِقَ، ولا مسألة أو مشكلة إلا وُجِدَ لها فيه الحلُّ الأمْثَلُ.
وإنّ من أَهَمِّ الأمور التي يَشْطَحُ فيها أبناءُ الإسلام خاصة في هذا الزمان وتَزِلَّ بهم الأقدام وتتباين حولها الآراء والاتجاهات والأهواء طاعةَ أولي الأمر وبيعتَهم في جميع المجتمعات الإسلامية، ولو أنهم أنصفوا من أنفسهم واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله محمد قراءةً وتدبرًا واستنباطًا بعد الْفَهْمِ الصحيح الذي لن يكون إلا على أيدي العلماء المخلصين الخائفين من الله عز وجل والذين لا تطيش بهم الأهواء والاعتبارات أيًا كانت، لو فعلوا ذلك لما تفرقوا شيعًا وأحزابًا كُلٌّ بما لديهم فرحون، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]، وقال عز وجل: وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32].
وإننا في هذا البلد الطيب المبارك محسودون بين الأمم ويُوشكُ أَنْ تَدَاعَى علينا تلك الأمم كما تداعى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، محسودون حسد غبطة بين المؤمنين في بقاع الأرض حيث يتمنَّوْنَ الحياةَ الكريمةَ الآمنةَ التي يُحَكَّمُ فيها شَرْعُ الله بيننا ويريدون أن يكون حالهم كحالنا أو أفضل، ومحسودون حَسَدَ تَمَنِّي زوال هذه النعم المتعددة التي نعيشها من قبل أعداء ديننا ابتداء من بني جلدتنا أصحاب الشهوات والشبهات والمنكرات والمعاصي ثم اليهود والنصارى والشيوعيين وجميع مِلَلِ الكفر ونِحَلِهِ، ولن يرضوا عما نحن فيه وعليه ولَنْ يَقِرَّ لهم قَرَارٌ أو يَهْدَأَ لهم بَالٌ في ليل أو نهار حتى يَسْعَوْا لِتَقْوِيضِ معالمِ ديننا الإسلامي الحنيف سواء منهم وبأيديهم أو بأيدي بني جلدتنا. ولكنَّ اللهَ حافظٌ دينَه وناصرٌ لأهل طاعته، وهو يدافع عنهم عز وجل وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهو معهم بتسديده وتوفيقه وهدايته وعلمه الذي يحيط بكل شيء، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38]، وقال عز وجل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 40، 41]، وقال عز وجل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر: 51]، وقال سبحانه وبحمده: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]، وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]، وقال جل جلاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
والمقصود من هذه التوطئة هو الذكرى التي ينتفع بها المؤمنون وشكر الله عز وجل على جميع النعم التي أنعم الله بها وأسبغها علينا نعمًا ظاهرة وباطنة، ومن تلك النعم نعمة تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا الترابط والتآلف بين ولاة الأمر من الحكام والعلماء وبين المؤمنين الصادقين، ومنها بشائر الخير والبركة في كل يوم تطلع شَمْسُهُ إذا بالأخبار السَّارَّةِ التي يفرح بها المؤمنون وتنشرح صدورهم ويزداد المنافقون والكافرون بها غيظًا وحقدًا وكفرًا ونفاقًا، هذا التلاحم والاعتزاز بالإسلام وأحكامه الذي يزيدهم عزة ورفعة ويشيع الأمن والطمأنينة بين أفراد المجتمع. إن الشورى والاعتصام بحبل الله والتعاون على البر والتقوى من دعائم الأمن التي نَنْعَمُ بها ونَتَفَيَّأُ ظِلالَهَا، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]، وقال عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103].
وأَوَدُّ الإشارةَ إلى كلمة لذلكم العالم الورع الزاهد الذي ألقى اللهُ محبَّتَهُ في قلوب العباد وجعله الله سببًا من أسباب الخير في جميع بقاع العالم لما فيه صالح الإسلام وصلاح المسلمين وقدوة يُقْتَدَى به في العلم والورع والدعوة الصادقة المخلصة والحكمة التي حُرِمَهَا كثيرٌ من الناس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال تعالى: يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لألْبَـ?بِ [البقرة: 269]. ذلكم هو سماحة العالم الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله وجعل الجنة مثواه ونفع الله المسلمين بعلمه وفتواه، إن الله سميع قريب مجيب من دعاه. اللهم آمين.
أما الكلمة فقد تناقلتها الإذاعات والصحف والمجلات حول الواجب على المسلمين نحو طاعة ولاة الأمر بالمعروف، وفيها الكلام الشافي الْمُسْتَنْبَطُ من كتاب الله ومن سنة رسول الله محمد بن عبد الله ، والذي ينبغي لكل مسلم أنْ يَطَّلِعَ عليه ليعرف الحق والصواب لما قد يَرِدُ عليه من غيره أو من داخل نفسه من استفسارات وتساؤلات، وخلاصة قوله رحمه الله بعد أنْ حَمِدَ اللهَ وأثنى عليه وصلى على النبي محمد رسول الله أنه أورد الآية القرآنية التالية، وهي قول الله عز وجل: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، ثم قال رحمه الله: هذه الآية نَصٌّ في وجوب طاعة أولي الأمر، وهم الأمراء والعلماء، وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله تُبَيِّنُ أنَّ هذه الطاعةَ لازمةٌ، وهي فريضة في المعروف، والنصوص من السنة تبين المعنى، وتفيد الآية بأن المراد طاعتهم بالمعروف، فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف لا في المعاصي، فإذا أُمِرُوا بالمعصية فلا يُطَاعُونَ فيها، لكن لا يأتي الخروج عليهم بأسبابها ـ أي: بأسباب المعصية ـ لقول رسول الله : ((من رأى من أميره شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا يَنْزَِعَنَّ يدًا من طاعةٍ، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية)) ، وقال عليه الصلاة السلام: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، في المنشط والمكره، إلا أن يؤمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة)) ، وسأله الصحابة لما قال رسول الله : ((إنه يكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون)) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((أَدُّوا إليهم حقهم واسألوا الله الذي لكم)) ، وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بَايَعْنَا رسولَ الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أَثَرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لَوْمَةَ لائِمٍ. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله رحمة واسعة.
وهذا يدلّ على أنه لا يجوز للمسلمين منازعة ولاة أمرهم ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة أمرهم يسبّب فسادًا كبيرًا وشرًّا عظيمًا، فيختلّ به الأمن وتضيع الحقوق ولا يتيسّر ردع الظالم ولا نصر المظلوم وتختلّ السبل ولا تأمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر عظيم، إلا إذا رأى المسلمون كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أمّا إذا لم يكن لديهم قدرة فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبّب شرًا أكثر فليس لهم الخروجُ رعايةً للمصالح العامة، والقاعدةُ الشرعيةُ الْمُجْمَعُ عليها أنه لا يجوز إزالة الشرّ بما هو أشرّ منه، بل يجب درء الشرّ بما يزيله أو يخفّفه، أما درء الشرّ بشرِّ أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، والقاعدة الأصولية في هذا: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفرًا بواحًا ويكون عندها قدرة تزيله وتضع إمامًا صالحًا طيبًا من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين وشرّ أعظم من شرّ هذا السلطان فلا بأس، أما إذا كان الخروج يترتّب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال من لا يستحقّ الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمر والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير، هذا هو الطريق السوي الذي يجب أنْ يُسْلَكَ؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقْليلَ الشرّ وتَكْثيرَ الخير، ولأن في ذلك حفظَ الأمن وسلامةَ المسلمين من شر أكثر.
وقال رحمه الله عن الدعاء لولي الأمر: من مقتضى البيعة النُّصْحُ لوليِّ الأمر، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة؛ لأن من أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير ويذكّره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله له، فالواجب على الرعية وعلى أعيان الرعية التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح وإماتة الشر والقضاء عليه، وإقامة الخير بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتوجيهات السديدة التي يرجى من ورائها الخير دون الشر، وكل عمل يترتب عليه شر أكثر من المصلحة لا يجوز؛ لأن المقصود من الولايات كلّها تحقيق المصالح الشرعية ودرء المفاسد، فأي عمل يعمله الإنسان يريد به الخير ويترتب عليه ما هو أَشَرّ مما أراد وما هو أعظم وما هو أنكر لا يجوز له.
وقال في الامتناع عن الدعاء لولي الأمر: هذا من الجهل، الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات ومن أفضل الطاعات ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي لما قيل له: إن دوسًا عَصَتْ قال: ((اللهمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بهم، اللهم اهد دوسًا وأت بهم)) ، يدعو للناس بالخير، والسلطان أَوْلَى مَنْ يُدْعَى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النصح أنْ يُوَفَّقَ للحق، وأنْ يُعَانَ عليه، وأنْ يُصْلِحَ اللهُ له البطانة، وأن يَكْفِيَهُ اللهُ شرَّ نفسِه وشرَّ جلساءِ السوءِ، فالدعاء له بأسباب التوفيق وبصلاح القلب والعمل من أهم المهمات ومن أفضل القربات. اهـ.
نعم، إن الدعاء لولاة الأمر بالهداية والصلاح والسداد والتوفيق وصلاح البطانة التي تدلّ على الخير وتعين عليه وإبعاد بطانة السوء والشر والفساد لهو أمر مُهمّ سواء دعاه المسلم لوحده وفي خلوته، أو في المجتمعات والتأمين على ذلك، وخاصة في زمن الْمِحَنِ والفتن لأنّ تسديدهم وتوفيقهم وهدايتهم وصلاحهم وصلاح بطانتهم خير للمجتمع بأكمله وليس لأشخاصهم وذواتهم فقط، والعكس بالعكس، إذا فسدوا وفسدت بطانتهم عَمَّ الشَّرُّ والفوضى والظلم والطغيان وعدم الأمان، بل قد يذهب الإيمان عن كثير من الخلق، وهذا هو المشاهد الآن في عالم اليوم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وله الأمر كله وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله.
أما بعد: فإن واجب الجميع التعاون على البر والتقوى والنصيحة المخلصة الخالية من كل شائبة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، النصيحة التي يعرف الجميع طرقها، وذلك من صميم ديننا الإسلامي الحنيف، وقد رَدَّدَ ذلك رسول الله مرارًا وقال : ((الدين النصيحة)) ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
فالواجب هو التعاون والتكاتف والتآلف حول من ولاه الله أمرنا من الحكام والعلماء والأمراء والوزراء وغيرهم ممن له ولاية علينا في غير معصية الله عز وجل. وإن الكلام حول هذا الأمر يحتاج إلى خطب عدة لإيفاء الموضوع حقه في الواجب على الجميع في ذلك رُعَاةً وَرَعِيَّةً حكامًا ومحكومين، وأسأل الله أن يتحقق ذلك قريبًا.
أورد أحاديث متعددة شاملة من قول رسول الله الذي قال الله عنه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم3، 4]، قال رسول الله : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه، وفي رواية: ((فلم يُحِطْهَا بنصحه لم يجد رائحة الجنة)) ، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) رواه مسلم، وقال : ((من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)) رواه أبو داود والترمذي، وقال رسول الله : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولُوا)) رواه مسلم، وقال : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)) ، قال الراوي: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) رواه مسلم. تصلون عليهم أي: تدعون لهم. وقال : ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) متفق عليه، وقال رسول الله : ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) رواه مسلم، وفي رواية أخرى له: ((ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية)) ، وقال رسول الله : ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)) متفق عليه، وقال : ((من كره من أميره شيئًا فليصبر؛ فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية)) متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزْيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأَدَّى الذي عليه فيها)) رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق؛ إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يذكّره، وإن ذكر لم يُعِنْهُ)) رواه أبو داود، وقال رسول الله : ((ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ـ وفي رواية: وتنهاه عن المنكر ـ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله)) وفي رواية: ((وبطانة لا تألوه خبالاً, فمن وُقِيَ شرها فقد وقي، وهو إلى من يغلب عليه منهما)) رواه البخاري والنسائي.
فعلى كل مسلم في زمن الفتنة وغيرها أَنْ يُوَطِّنَ نفسَه، وأن لاَّ يكون كالريشة في مَهَبِّ الريح تذهب بها معها أو تعصفها وتقذفها في أي مكان، عليه أن لا يسير خلف أي مفسد أو ينعق مع كل ناعق، عليه أن يكون مثل الجبال الرواسخ في تفكيره وتعامله وَرَوِيَّتِهِ وثباته، وعليه أن يبتعد عن الشائعات وترويجها، وأن لا يكون جِسْرًا يُسَارُ عليه أو سُلَّمًا يُصْعَدُ عليه أو مَمْسَحَةً يُمْسَحُ بها ومنشفةً يُتَنَشَّفُ فيها، عليه أن يكون أَعْلَى وأَسْمَى من أن يُنَالَ منه بأي صورة من الصور وشكل من الأشكال، عليه أن يكون دِرْعًا واقيًا وصَخْرَةَ صلبةً ومُرتَفَعًا صعبًا لا يمكن الصعود إليه، ولا يُتَّخَذ مَطِيَّةً لأي شخص كائنًا من كان، في زمن الفتنة على المسلم أن يقف بالمرصاد لكل من يريد النَّيْلَ من أمن بلده الإسلامي، وعليه أن يحفظ لسانه وسمعه وبصره ويده ورجله بكل ما أوتي من الْوُلُوغِ في أعراض ولاة الأمر من العلماء والقادة على اختلاف مراتبهم؛ لأنهم يُحَكِّمُونَ شَرْعَ الله وهم أعلم وأعرف بالمصالح العامة والخاصة وأحرص منا جميعًا على كل ما يدفع الشر عن ديننا وبلادنا وأمنها، علينا أن نثق بهم وبجهودهم التي ليس من الحكمة أنْ تُنْشَرَ وتُعْلَنَ بين الناس، وليس لنا أن نعرف ونطلع على كل صغيرة وكبيرة في أمورٍ ليست من مسؤوليتنا، علينا أن نقف عند حدود مسؤولية كل واحد منا ونقوم بها خير قيام، علينا أن نسعى في البناء النافع بأفكارنا وعقولنا وأجسامنا وأموالنا، وأن لا نكون معاول هدم وتدمير على أنفسنا وعلى غيرنا، علينا أن نبتعد عن مظاهر الشقاق والنفاق والإثارة وتفريق الصفوف واختلاف الكلمة بأي شكل من الأشكال في الخفاء أو العلن كما هو حاصل الآن في أكثر الدول الكافرة أو المتسمية بالإسلام؛ لأنهم ليس لهم إلا الظاهر في مثل هذه الأمور ولا يعلمون أو يطلعون على الحقائق والدوافع وراء كل هذه الحروب والشرور، وبعد أن تنتهي العاصفة قد يعلم بعضٌ منهم ذلك، وقد يموتون وهم لا يعرفون شيئًا.
علينا أن نحمد الله ونشكره على جميع النعم التي لا تعد ولا تحصى، ومن أعظمها بعد نعمة الإسلام نعمة الأمن والرخاء التي نتفيأ ظلالها بينما تعيش المجتمعات في الدول المجاورة والبعيدة ما نراه ونسمعه من الفوضى والحروب والخوف والجوع، علينا أن نشكر الله حق الشكر ونقوم بما أوجب علينا حتى تدوم النعم وتتم الزيادة كما وعد عز وجل وتوعد من خالف ذلك في قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]. علينا أن نبتعد عن كل ما يُهَدِّدُ ويُخِلُّ بالأمن في هذه البلاد المباركة في أرض الحرمين الشريفين، حتى لو ذهبنا إلى بلد من البلاد سواء بلاد المسلمين أو الكفار علينا أن نحافظ على الأمن والاستقرار ونعطي صورة ناصعة عن الإسلام والمسلمين، علينا في هذه البلاد أن نقف ضد كل من يحاول إثارة الفوضى والشغب والفتن وتقويض الأمن وزعزعته، علينا أن نحافظ على سفينة المجتمع وأن لا نخرقها أو نسمح لأحدٍ بخرقها ونحن نعلم؛ لأن في خرقها غَرَقَ الجميعِ ثم الهلكة.
علينا أن نتقي الله تعالى وأن نضعَ أيديَنَا في أيدي ولاة أمرنا من القادة والعلماء، وأن لا ننازع الأمر أهله، وعلينا أن لا نَغْتَرَّ بدعاة الحرية والديمقراطية الذين يستغلُّون الفرص عبر الوسائل الإعلامية المختلفة بدعوى الإصلاح حيث يدّعون أنهم سيقدِّمون الخيرات للشعوب؛ لأنهم يريدون المشاركة في الحكم من الجنسين، يريدون أن تعيش بلاد المسلمين تلك الفوضى التي تعيشها دول الكفر، فوضى الشوارع والانتخابات المزعومة التي أشغلتهم طوال السنين فلا يَنْتَهُونَ منْ تَسَلُّمِ قائد ورئيس دولة إلا وتراهم قد بَدَؤُوا حملة انتخابية جديدة، وكُلٌّ يدعو لتنصيب نفسه في الأعمال القيادية بتلك المهازل المستمرة طوال الحياة، وعلى كل عاقل أن ينظر في حقيقة تلك الادعاءات وما جَلَبَتْهُ لتلك المجتمعات وما يعيشونه فعلاً من حياةِ بُؤْسٍ وشَقَاءٍ، علينا أن نحمد الله عز وجل ونشكره على هذا الأمن الذي نعيشه حيث ينام عَامَّةُ الشعب ومن يعيش على أرض هذا الوطن المبارك ينام الجميع الليل الطويل في غاية الهدوء والأمن والطمأنينة، آمنين على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم متنقلين في الليل أو النهار من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب أو العكس ولا يخاف الواحد على نفسه وأهله إن كانوا معه، ولا يعرف قدر هذه النعمة التي نعيشها ـ نعمة الأمن ـ لا يعرفها حق المعرفة إلا من ذهب إلى خارج هذه البلاد أو عاش في غيرها أو عاش قديمًا في هذه البلاد قبل توحيدها وإقامة شرع الله فيها، هذا الأمن الذي نعيشه لو فقدناه يومًا من الأيام فضلاً عن شهر أو سنة لعرف أحدُنا أنَّ بَطْنَ الأرض خيرٌ له من ظهرها، هذا الأمن الذي لم يأت من فراغ وإنما هو بفضل الله عز وجل الذي وفق قادة هذه البلاد لتحكيم كتاب الله وسنة رسوله محمد ، تحكيم هذا الشرع المطهر إلى جانب وَازِعِ السلطان وهيبته وقيام الرجال المخلصين على حماية هذه البلاد من عبث أي عابث بأمنه، أولئك المخلصون لا ينام أكثرُهم في الليل ولا يعرف كثير منهم نوم الليل الذي فيه تهدأ أعصاب البشر ويستمتعون بالنوم فعلاً، يسهرون لينام الناس، وإذا استمر الشخص على عدم النوم في الليل فإن ذلك سيؤثر على صحته مستقبلاً، وهذا ثابت علميًا وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك في عبارات وكلمات دقيقة حيث جاءت الإشارة إلى النوم والسكن فيه ولا يُغْنِي النومُ في النهار عن نوم الليل ولا النوم في الضوء عن النوم في الظلام، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الروم: 23]، والآيات من سورة القصص وكذلك سورة النبأ وغيرها. وكلما كَبُرَتْ مرتبةُ الشخص منهم عَظُمَتْ مسؤوليتُه أمام غيره ممن يعلوه مرتبة، ابتداء من أصغر جندي في الميدان إلى مشرفه ومراقبه، إلى العاملين في تلك الغرف القيادية، إلى المدير الأمني في أي جهة؛ لأن الجهات متعددة وليست واحدة، إلى ذلك الوزير، إلى ولي العهد، إلى الملك، معظم تلك القيادات لا يعرفون نوم الليل طوال حياتهم، بل هي سُوَيْعَات في النهار لحرصهم الشديد على توفير الراحة والأمن والطمأنينة لعامة من يعيش على أرض هذه البلاد.
وعلينا أن نتذكر أمثلة بسيطة عن طريق السؤال والجواب لنكون على معرفة في معنى طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله، هل يريد أحد منا أنْ تَعْصِيَهُ زوجتُه وتخالف أوامرَهُ وكلَّ ما يقوله لها بصفة مستمرة، وكذلك أولاده الذكور والإناث ويبقى على هذه الحال طوال حياته؟ يخالفونه ويعصونه مهما كان مُحِقًّا؟! هل أحد يرضى بهذه الحياة؟! وهل يمكن أن يعيش بسلام وأمان في أسرته ومجتمعه الصغير الْمُتَوَحِّشِ؟! هل يرضى مدير مدرسة أو إدارة أيًا كانت أو مؤسسة أو شركة أنْ يُوجَدَ مُعْظَمُ من يعمل لديه من المخالفين له والسَّاعِين في السِّرِّ والْعَلَنِ بالعصيان وعدم السماع له في أي أمر من الأمور التي تُسَيِّرُ وتُدِيرُ عَمَلَهُ في إدارته؟! هل يريد أي مدير ومسؤول في تلك المؤسسات والإدارات الصغيرة أنْ يُوجَدَ عُنْصُرٌ واحدٌ يَخْرُجُ عن نظام تلك المؤسسة والإدارة فضلاً عن الغالبية والأكثرية أو الجميع؟! إذا كان لا أَحَدَ يُقِرُّ ذلك ولا يرضاه وكلُّ العقول ترفض هذه التصرفات والخروج عن النظام المقرر في تلك الإدارة والمؤسسة، ويقول العاقل بأنه إذا كان هناك اختلاف في وجهات النظر فعلى الجميع أن يضعوا ما لديهم على طاولة المفاوضات القابلة للأخذ والرد والتعديل وقبول الآراء الصائبة التي ترجع على الجميع بالفائدة، أقول: إذا كان ذلك التصرف وتلك المخالفات لا يرضى بها أحد على مستوى الأسرة أو القبيلة أو الإدارة والمؤسسة أو الشركة فما بالنا بذلك على مستوى القيادة في المجتمع المسلم؟! لا شك أن العصيان والتمرد وإحداث البلبلة بأي أسلوب ومظاهر وتصرفات لا تجوز في الشريعة الإسلامية، وقد سبقت الأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة المطهرة، فهل أدرك كثير من الناس هذه الحقائق الغائبة عن تفكيرهم وما يدور حولهم؟! هل علمنا عظم المسؤولية الملقاة على عواتقهم وقيامهم بها دون أن نشعر بذلك؟! هل علمنا أنه كلما ازداد الشخص مرتبة أمنية أو غيرها ازدادت مسؤوليته وقلقه وتفكيره وكان من أقل الناس راحة وطمأنينة نظرًا لمركزه الذي هو فيه ويحسبه الناس أنه في غاية الهناء والراحة؟! هل أدرك الشخص منا كيف ينام قرير العين في ليل أو نهار وخاصة في الليل متى شاء وكيف شاء ويذهب لصلاة الفجر وإلى أعماله ليلاً أو نهارًا في غاية الهدوء والطمأنينة والأمن والرخاء؟! هل علمنا أن نعمة الأمن بهذا الشكل إذا انضمت إلى نعمة الإيمان لو علمها الملوك وأبناء الملوك وما يعيشه الفقراء وعامة الشعب لَجَالَدُوهُمْ عليها بالسيوف فعلاً؟!
إن كثيرًا من الناس لا يعلمون ولا يدركون ما يقوم به القائمون على أمن هذه البلاد وعلى قيادتها والسير بها نَحْوَ بَرِّ الأمان، فعلينا أن نستشعر مسؤولياتنا كل فيما يخصه ويستطيعه ويقدر عليه ويكون عامل بناء لا وسيلةَ هَدْمٍ وتدميرٍ، علينا أن نقوم بما أوجب الله علينا نحو ولاة أمرنا ونقف ضد كل ما يخل بالأمن وزعزعته ونكون نحن رجال أمن في الإبلاغ عن أي شيء نعتقد أنه إخلال فعلاً بالأمن صادر من أي شخص حتى ينعم الجميع بالأمن، وما لم نَكُنْ كذلك فإنَّ العواقبَ الضِّدِّيَّةَ تَلْحَقُ بالجميع؛ لأنه لا يُوجَدُ رجلُ أمنٍ مع كل شخص وعند كل محل تجاري أو مسكن أو أجهزة مراقبة في كل مكان، وما أَمْرُ الدولِ المجاورةِ لنا والبعيدة عنا والتي تعيش أحوالاً مأساوية في جميع المجالات ما أمرها بغائب عنا بل هو معلوم للجميع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 69، 70].
(1/5637)
وجوب تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما ونبذ ما خالفهما
التوحيد
الألوهية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
10/7/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمول العبادة لجميع مناحي الحياة. 2- حكم ترك التحاكم إلى الشريعة. 3- العلاقة بين الظلم والفسق والكفر. 4- موقف المنافقين من قضية تحكيم الشريعة. 5- أدلة وجوب تحكيم الشريعة. 6- واجب المسلمين تجاه هذه المسألة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمما يعلمه المسلمون جميعًا أن الله خلق الجن والإنس لعبادته سبحانه وتعالى، ويعلم كثير منهم تعريف العبادة بأنها: اِسْمٌ جَامِعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ولكن الغالبية العظمى من المسلمين قد يجهلون أو يتجاهلون أن العبادة الْحَقَّةَ تشمل جميع مناحي الحياة؛ دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وتقتضي الانقياد التَّامَّ لله تعالى أمرًا ونهيًا، اعتقادًا وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله بحيث يحلّ ما أحل الله ورسوله ويحرم ما حرم الله ورسوله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردًا من حظوظ نفسه ونوازع هواه، وذلك الانقياد والخضوع والسلوك والالتزام يستوي فيه الرجل والمرأة، الفرد والجماعة، فلا يكون عابدًا لله من يخضع لربه في بعض جوانب الحياة ويخضع للمخلوقين في جوانب أخرى، ولا يتمّ إيمان المسلم إلا إذا آمن بالله ورضي بحكمه في القليل والكثير وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شؤون حياته؛ في الأنفس والأموال والأعراض، وإلا كان عابدًا لغير الله تعالى، قال سبحانه: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، وقال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)).
فمن خضع لله تعالى وأطاعه وتحاكم إلى شرعه فهو العابد له، ومن خضع لغير الله وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له، والعبودية لله وحده والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والقوانين الوضعية التي يتحاكم إليها الناس اليوم حتى الدول التي تتحاكم فيما بينها إلى غير القرآن والسنة فالتحاكم إليها ينافي الإيمان بالله عز وجل وهو كفر وظلم وفسق، وهذه الصفات الثلاث التي وردت في كتاب الله في آيات متتاليات يفسرها القرآن الكريم في آيات أخرى؛ لأن القرآن الكريم يُفَسِّرُ بعضُه بعضًا، ويُعْتَبَرُ ذلك أقوى دليل، ونحمد الله عز وجل على نعمه وآلائه المتعدّدة، ومن أهمّها: تطبيق شرع الله في هذا البلد والحكم بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما، والثناء لله وحده الذي وفق ولاة أمرنا لذلك، فهذه مِنَّةٌ عُظْمَى ونعمة كُبْرَى أنعم الله بها علينا في هذه البلاد الطاهرة، قال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة: 44]، وقال عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [المائدة: 45]، وقال سبحانه: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [المائدة: 47].
ولقد حرم الله عز وجل الْحُكْمَ بغير ما أنزل كما حرم الكفر والظلم والفسوق والنفاق والعصيان، وجعل مَنْ لا يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا، والظلم والفسق بمعنى الكفر كما ورد ذلك في آيات عديدة، فيكون فِسْقُ من لم يحكم بما أنزل الله وظلمه هو الكفر، ويكون من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا بِنَصِّ القرآن على تفصيلٍ في ذلك لبعض العلماء والمفسرين من جهة الاعتقاد والرضا بالقوانين الوضعية وغيرها من الأعراف والأحكام القبلية والعشائرية مما يخالف تعاليم الإسلام، ولكن علينا أولاً أن نتدبّر الأدلة من الكتاب والسنة ونعلم أن الأمر خطير وليس بالأمر الْهَيِّنِ، فالدليل على أن الظلم كفر قول الله عز وجل: إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، وقوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]، وقوله تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَـ?تِنَا إِلاَّ ?لْكَـ?فِرونَ [العنكبوت: 49]، وغير ذلك من الآيات، أما الدليل في التعبير عن الكفر والظلم بالفسق فقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايَـ?تٍ بَيِّنَـ?تٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ ?لْفَـ?سِقُونَ [البقرة: 99]، وقوله تعالى عن المنافقين: إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة: 84]، وقوله سبحانه وتعالى: وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور: 55]، وقوله جل جلاله: فَأَنزَلْنَا عَلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ ?لسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة: 59]، وقوله تعالى: وَأَخَذْنَا ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165]، وقال تعالى عن المنافقين: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة: 67]، وعَقَّبَ على ذلك في الآية التي تليها من سورة التوبة بقوله عز وجل: وَعَدَ الله الْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتِ وَ?لْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ?للَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة: 68]، وقال عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]، وقال سبحانه: يـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة: 73]، وقال عز وجل: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لأسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ [النساء: 145].
ويتبين من هذه الأدلة وغيرها مما سيأتي أن الحكم بغير ما أنزل الله ظلم وفسق، وأن ذلك كفر بالله عز وجل وعدم إيمان به تعالى، ولكنه يختلف كلّ بحسب حاله، فظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكفر دون كفر، كما ورد ذلك في آيات أخرى من القرآن الكريم، ولكن التعبير بالظلم والكفر لمن لم يحكم بما أنزل الله وأنهما بمعنى واحد تفسرها آيات أخرى كذلك، ولنتدبر ولنتأمل الآيات التالية من كلام الله عز وجل، قال الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءوكَ يَحْلِفُونَ بِ?للَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ يَعْلَمُ ?للَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَ?سْتَغْفَرُواْ ?للَّهَ وَ?سْتَغْفَرَ لَهُمُ ?لرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ?للَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 59-65].
وذكر الله عز وجل في سورة المائدة في آيات متتاليات وجوب تَحْكِيمِ ما أنزل الله عز وجل وَتَرْك ما سواه، ورد ذلك في أكثر من عشرين آية وفي نهاية كل آية من الآيات الثلاث قول الله عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة: 44]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [المائدة: 45]. وقال سبحانه: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [المائدة: 47]، وفي الآية التي تلي هذه الأخيرة قول الله عز وجل: فَ?حْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ ?لْحَقّ [المائدة: 48]، وفي الآيتين التي بعدها قال عز وجل: وَأَنِ ?حْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ لَفَـ?سِقُونَ أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 49، 50].
ولنتأمل الآيات التاليات التي تصف حال المنافقين في كل زمان ومكان كأنها نزلت علينا في هذه الأيام تصف حال الذين في قلوبهم مرض ويخجلون ويتخوفون من الكفار من يهود ونصارى وغيرهم ويَدُسُّونَ رؤوسَهم في التراب ويَتَوَارَوْنَ منهم مُوَالاةً لهم وخوفًا منهم ولا يستطيعون تطبيق شرع الله ويقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة فنحتاج إلى الكفار، مع أنه لا يتعارض تطبيق شرع الله مع التعامل معهم حسب ما ورد في القرآن الكريم وفي سنة النبي محمد ، قال تعالى بعد تلك الآيات مباشرة: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ [المائدة: 51، 52]. ثم عقّب سبحانه بعد آية من هذه بوصفٍ للقوم الذين يأتي بهم الله سبحانه إِنِ ارْتَدَّ المؤمنون عن إسلامهم وخجلوا وتخوفوا من الكفار فقال سبحانه وتعالى: يـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54]. ثم عقب عز وجل على ذلك بالآية التي تحصر وتقصر ولاء المؤمنين لله ورسوله والمؤمنين الذين وردت صفاتهم في الآية هذه وفي آيات أخرى فقال سبحانه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة: 55، 56]. ثم نَهَى الله المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى الموصوفين بأهل الكتاب وعن الكفار عمومًا عن اتخاذهم أولياء وهو ما يسمّى بِالْبَرَاءِ، والآية الأولى تَدُلُّ على الْوَلاءِ. ولنتدبّر هذه الآية التي ختمت الآيات السابقة وهي متعلقة ومرتبطة بها، فعلى المسلمين أن يتّقوا الله عز وجل في ذلك إن كانوا مؤمنين حقًا، قال الله جل جلاله: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَ?لْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 57].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد والأمر كله وهو اللطيف الخبير، وهو على كل شيء قدير، القائل سبحانه: أَلاَ لَهُ ?لْخَلْقُ وَ?لأمْرُ [الأعراف: 54]، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فقد قال الله عز وجل فيما أنزله على رسوله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ?للَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105]، وقال عز وجل: وَكَذ?لِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِىّ وَلاَ وَاقٍ [الرعد: 37].
فممّا تقدّم من الأدلة في الآيات التي ذكرت ومما لم يتسع المقام لذكره يتبين لكلّ مسلم أنّ تحكيم شرع الله والتحاكم إليه مما أوجبه الله ورسوله، وأنه من مقتضى العبودية لله والشهادة للرسول محمد ، وأن الإعراض عن ذلك أو شيء منه موجب لعذاب الله وعقابه، وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تُعامِل به أي دولة رعيتها أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل زمان ومكان، وفي حال الاختلاف والتنازع العام والخاص سواء كان بين دولة وأخرى أو بين جماعة وجماعة أو بين مسلم وآخر، فالحكم في ذلك كله سواء، فالله سبحانه له الخلق والأمر وهو أحكم الحاكمين، وهو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم، فالحكم لله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: وَهُوَ ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ?لْحَمْدُ فِى ?لأولَى? وَ?لآخِرَةِ وَلَهُ ?لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70].
ولا إيمان لمن يعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله، أو أنها تماثلهما وتشابههما، أو من تركها وأحلّ محلها الأحكام والقوانين الوضعية والأنظمة البشرية وإن كان معتقدًا أن أحكام الله خير وأكمل وأعدل لما تقدّم من الأدلة، كما أنه لا يجوز الإيمان والعمل بما يهوى الإنسان ويترك ما لا يهواه، فهو بذلك يكفر ببعض الكتاب ويؤمن ببعضه ويناله الخزي في الدنيا والآخرة والعذاب الشديد كما قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 85]، وقال تعالى: قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ?للَّهِ فَمَا لِهَـ?ؤُلاء ?لْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78]، وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، وقال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36].
فالواجب على عامة المسلمين وأمرائهم وحكامهم وأهل الحل والعقد فيهم أن يتقوا الله عز وجل ويحكّموا شريعته في بلدانهم ويقوا أنفسهم ومن تحت ولايتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وعلى عامة المسلمين في كل بلادِ العالم وطالبِ العلمِ والجاهل أن يطالبوا حكامهم بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وعليهم أن يعتبروا بما حلّ في بلادهم وغيرها من بلاد المسلمين التي أعرضت عن حكم الله وينظروا ما حصل فيها من الاختلاف والتفرق والفساد وضروب الفتن وقلة الخيرات وكون بعضهم يقتل بعضًا وينتهك حرمة وعرض غيره ولا يطبق بحقه شرع الله، ولا يزال الأمر في البلاد المعرضة عن تطبيق شرع الله في شدة، ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلط الأعداء عنهم سياسيًا وفكريًا واقتصاديًا إلا إذا عادوا إلى الله سبحانه وسلكوا سبيله المستقيم الذي رضيه الله لعباده وأمرهم به ووعدهم عليه جنات النعيم، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ آيَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? وَكَذ?لِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَـ?تِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى? [طه: 124-127].
ونحن هنا في بلاد الحرمين الشريفين نحمد الله عز وجل على جميع آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومنها نعمة الأمن الذي نتفيأ ظلاله بسبب تطبيق شرع الله وإقامة الحدود على المجرمين والساعين في الأرض فسادًا، نحمد الله عز وجل الذي هيأ لنا قضاة يحكمون بالكتاب والسنة وولاة أمر ينفِّذون الأحكام الشرعية، فاجتمع بذلك عدل القضاة والحكام وسيف السلطان وسوطه، فارتدع كثير من أهل الشر والفساد والإجرام عن الإقدام على جرائمهم بسبب خوفهم من إقامة الحدود عليهم، وهذه نعمة عظيمة في هذه البلاد الواسعة المترامية الأطراف، والتي نحن محسودون عليها من أمم وشعوب كثيرة في هذا العالم المعاصر لولا الله الذي وفق قادة هذه الأرض المباركة إلى ذلك لرأينا وعشنا وذقنا ما يذوقه غيرنا في هذا العالم الذي يموج بالفتن والصراعات حتى لا تكاد تَمُرُّ ساعة إلا ونسمع الأخبار المؤلمة التي تعيشها البشرية في ذلك العالم الذي يزعم ويدعي القيام بحقوق الإنسان وهو إلى عقوق الإنسان وظلمه أقرب، نعم العقوق بالعين وليس بالحاء، حيث سعوا إلى عُقُوقِ الْمُعْتَدَى عليهم وظلموهم، وادَّعَوْا حُقُوقَ الْمُجْرِمِينَ لأنهم يريدون السَّيْرَ في رِكَابِهِمْ بِاسْمِ الْبَرِيقِ الزَّائِفِ من حقوق الإنسان.
فعلينا أن نشكر الله عز وجل قولاً وعملاً واعتقادًا على ما أولانا من النعم ونتعاون على البر والتقوى وكل ما فيه صلاح ديننا ودنيانا وآخرتنا، ونحكم بشرع الله ونحب ذلك من سويداء قلوبنا وندعو الله لمن ولاه الله أمرنا بالثبات على ذلك والسداد والتوفيق، وإن كانوا قد أعلنوا ذلك ولا زالوا بين كل حين وآخر بأن هذه الدولة قامت على كتاب الله وسنة رسوله محمد وستظل بإذن الله عز وجل، ولم يمنعها تطبيق تعاليم الإسلام من الأخْذِ بأسبابِ الرُّقِيِّ والتقدم في جميع المجالات المعيشية التي تحتاج إليها حيث أَكْسَبَهَا ذلك عِزَّةً ورفعةً ومهابةً بين الدول وفي نفوس جميع الحاقدين والمفسدين أفرادًا وجماعات، وليس في ذلك أَيُّ تَأَخُّرٍ بل هو التقدم بعينه، أي: الحكم بما أنزل الله، والعكس هو الصحيح، أي: أن من لم يحكم بدين الإسلام فهو في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء وإن كانوا يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري الموافق للقرن الواحد والعشرين الميلادي، كما قال تعالى: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]، وقال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى [طه: 124]، فلله الحمدُ والْمِنَّةُ، وله الثناءُ كُلُّهُ، قال تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل: 53]، وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـ?هِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20].
إن الواجب على علماء المسلمين اليوم كبير، ومن بعدهم طلبة العلم حول بيان وشرح أحكام الإسلام ونشرها بين المسلمين، إنَّ واجبَهم أنْ يرفعوا رؤوسَهم ولا يَدُسُّوها في التراب. إن واجبهم أن يقولوا كلمة الحق ولا يخافوا في الله لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وما تكاد تمر بالأمة الإسلامية حادثة أو سحابة صيف إلا وتنكشف أمور نخشى عواقبها وما وراءها على كثير من المسلمين، والسبب الأول والأساسي في ذلك هو التخاذل وعدم الصراحة والأنانية وحب النجاة كل بمفرده أو السكوت وتَكْمِيمُ الأفواه وإِخْرَاسُ الأَلْسُنِ وتَحْطِيمُ الأقلام التي تقول الحق وتُنِيرُ الطريقَ للعباد في دَيَاجِيرِ الظُّلَمِ والفساد، وليس أَدَلَّ على ذلك من واقع المسلمين اليوم وفي شتى بقاع الأرض وخلال السنوات الماضية وما مَرَّ بهم وما يعيشونه اليوم من الحروب الحقيقية القتالية والكلامية الساقطة، وعندها تتجلى الحقائق وينكشف المخبوء ويظهر الْغُثَاءُ والزَّبَدُ على الساحة، وعندها يعرف المسلمون عامة ومنهم العلماء وطلبة العلم ماذا تم تقديمه لهذه الأمة اللاهثة التي لا تفقه كثيرًا من أحكام دين الإسلام ومن أوجب الواجبات عليهم ويعلمون مدى تقصيرهم في إبلاغ رسالة ربهم، حتى آلَ أَمْرُ المسلمين إلى جَهْلِ أبناءِ الإسلام بإسلامهم وتَخَاذُلِ علمائهم وظُلْمِ حكامهم.
إن سبب جهل المسلمين بإسلامهم هو كتمان العلم وعدم البيان من قبل العلماء والرضا بالحياة الدنيا ومتعها الزائلة وطلب رضا الناس بسخط الله عز وجل حتى اتخذ الناسُ رُؤُوسًا ورُؤَسَاءَ جُهَّالاً بدين الله فضلوا وأضلوا وأحلوا كثيرًا مما حرم الله مثل الربا والغناء والحكم بغير ما أنزل الله وإيجاد المبررات لذلك في مجتمعات المسلمين، وغير ذلك كثير، حتى استساغ المسلمون تلك الأوضاع وعاشوا في الأوحال، وعندما يُطَبَّقُ شَرْعُ الله أو يُطَالِبُ أَحَدٌ بتطبيق شرع الله أو حَدٍّ من الحدود عندها يَتَّضِحُ انتساب المسلمين إلى الإسلام فقط، ولا ينفعهم الانتساب، خاصة الذين يستنكرون تطبيق أي حد من حدود الله، أو يُنَدِّدُونَ بمن يفعل ذلك أو يستهزئون بالإسلام وتعاليمه أو ينطقون بعبارات الشرك والكفر من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وعلى المسلمين جميعًا أن يتأملوا ويتدبروا وأن يعملوا بهذه الآية التالية المحكمة وبغيرها لكونها كافية شافية لمن أراد النجاة لنفسه في الدنيا والآخرة حيث أقسم رب العزة والجلال بربوبيته تبارك وتعالى بِنَفْيِ الإيمان عن أَيِّ مُدَّعٍ لذلك حتى يستوفي ثلاثة شروط متضمنة لتحكيم الكتاب والسنة في أي خلاف واختلاف ومشاجرة، وعدم وجود الحرج، والرضا بذلك بعد الحكم والتسليم والاستسلام لأحكام الله عز وجل، قال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65].
اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5638)
قتل النفس التي حرم الله بغير حق (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, القصص, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
18/10/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار القتل من علامات الساعة. 2- وجوب الإيمان التام بما في القرآن من الأخبار. 3- قصة قابيل وهابيل. 4- بيان الترابط الحكيم في قصة ابني آدم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن قتلَ النفس التي حرم الله بغير حق كبيرةٌ من كبائر الذنوب معلومة لدى كل مسلم، والاستهانة بالدماء وإزهاق الأرواح بلغت ذروتها في العالم كله بين المسلمين والكفار على حد سواء، واختلطت المفاهيم وكثر الهرج الذي هو القتل كما ورد في الخبر عن سيد البشر رسولنا محمد حيث أخبر بأن ذلك من علامات الساعة ويكون ذلك بين المسلمين أنفسهم وفي مجتمعاتهم حتى لا يدري القاتل لماذا قتل صاحبَه ولا المقتول أيضًا فِيمَ قُتِلَ. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر الْهَرْجُ)) ، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: ((القتل القتل)) رواه الإمام مسلم رحمه الله، وفي رواية للإمام البخاري رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((بين يدي الساعة أيام الهرج؛ يزول العلم ويظهر فيها الجهل)) ، قال أبو موسى: والهرجُ القتلُ بلسان الحبشة. وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن بين يدي الساعة الهرج)) ، قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل)) ، قالوا: أكثر مما نقتل؟ إنا نقتل في العام الواحد أكثر من سبعين ألفًا، قال: ((إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضًا)) ، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟! قال: ((إنه لينزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس يحسب أكثرهم أنه على شيء وليسوا على شيء)) رواه أحمد وابن ماجة وهو في صحيح الجامع الصغير. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قَتَل، ولا المقتول فيم قُتل)) ، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: ((الهرج، القاتل والمقتول في النار)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
فأمام هذه الفتن والأحداث الراهنة التي تعصف بالعالم أجمع وأمام الاستهانة والاستخفاف بالدماء البريئة بين بني البشر وبين المسلمين خاصة كان لا بُدَّ من الإشارة إلى أول جريمة قتل في هذه الحياة الدنيا، وقد ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم في آيات تتلى إلى قيام الساعة، وبعد ذكر ما يتعلق بهذه الآيات البينات تأتي الخطب التي أريد الوصول منها إلى النتائج ومعرفة الأسباب والدوافع ومعالجة ذلك بإذن الله عز وجل.
إن الواجب على المسلم أن يؤمن إيمانًا مطلقًا بما ورد في القرآن الكريم سواء عرف وعلم سبب نزول أي آية أو لم يعلمها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم، ولأننا غير مُتَعَبَّدِينَ ومُلْزَمِينَ بأن نَطَّلِعَ على أسباب النزول لكل آية ونُحَقِّقَ فيها ونُطِيلَ الكلام عنها مع أنها غير ثابتة بحديثٍ صحيحٍ عن رسول الله ، وما لم يكن واردًا وثابتًا بسنةٍ صحيحة فليس من المفيد إطالة الوقوف عنده وأمامه لأنه لا يؤثر على إيمان المسلم وعقيدته أبدًا، ومن ذلك قصةُ ابْنَيْ آدم التي ذُكِرَتْ في القرآن الكريم سواء كان سبب قتل أحد ابني آدم لأخيه لعدم رغبته في تزويج أخته لأخيه لِلْوَضَاءَةِ والدَّمَامَةِ في البنتين أو لغير ذلك من الأسباب، وإنما المقصود هو معرفة الدوافع والأسباب المشتركة بين الناس والنتائج والأحكام المترتبة من وراء هذه القصة الواردة في كتاب الله عز وجل، فالقصة تبيِّن وَخِيمَ عاقبة الحسد والظلم والبغي والعدوان في خبر ابنَي آدم سواء كان اسماهما صَحِيحَيْنِ أو لا، كما ورد في الروايات المتداولة بأنهما قابيل وهابيل. فالمقصود أن أحدهما عدا على أخيه وقتله بَغْيًا وحسدًا له فيما وَهَبَهُ الله من النعمة وتَقَبّل الْقُرْبَان الذي أخلص فيه النية لله عزّ وجلّ، وأوضح الله تبارك وتعالى ذلك الإخلاص والتقوى في الآية نفسها وفي الآية الأخرى التي حَجَزَ فيها نفسَه وتَوَرَّعَ عن الإقْدَامِ على قتل أخيه، ففاز المقتول بوضع الآثام عنه والدخول للجنة، وفي المقابل خاب القاتل وخسر الدنيا والآخرة وتحمّل الآثام ودخول النار نتيجة الحسد والظلم والطغيان، قال الأخ الصالح الذي تقبل الله قربانه لإخلاصه وتقواه حين توعده أخوه وهدّده بالقتل بغير حق إنما هو الظلم والعدوان نتيجة الحسد الناتج عن عدم قبول قربانه وفي المقابل قبول قربان الأخ الصالح، قال معبّرًا عن ذلك بأنه لن يقابله على عدوانه وظلمه بمثله في الخطيئة والإثم، وإنما سوف يصبر ويحتسب ورعًا وخوفًا من الله عز وجل ومن أليم عقابه، فجاء ذلك الموقف في القرآن الكريم في قول الله تبارك وتعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة: 27-29].
قال رسول الله : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله واللفظ للبخاري. وذكر الإمام أحمد رحمه الله عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله قال: ((إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي)) ، قال: أفرأيت إنْ دخل عليَّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ فقال: ((كُنْ كابن آدم)) ، قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَعُثْمَان بن عفان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم.
قال تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 30]، أيْ: سَوَّلَتْ له نفسُه وحَسَّنَتْ ذلك وشجعته على قتل أخيه، فقتله رغم أن أخاه قد وعظه وذكّره بعاقبة ذلك، ولكنه لم يرتدع عن الإقدام على قتله، فأصبح من الخاسرين في الدنيا والآخرة. ولأنه أول من سنّ القتل فهو يتحمل جزءًا من كل نفس تقتل بغير حق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تُقْتَلُ نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفْلٌ من دمها؛ لأنه كان أَوَّلَ مَنْ سَنَّ القتل)) رواه الجماعة سوى أبي داود.
وهذا الحديث الذي ورد بعدّة روايات هو الذي جاء حول هذه الآيات عن رسول الله ، ولم يرد سوى ذلك حول القصة. ولأن هذا كان أول قتل وأول نفس تموت فلم يعرف ابن آدم الأول كيف يدفن أخاه بعث الله عز وجل غُرَابَيْنِ فاقتتلا فقتل أحدُهما صاحبَه ثم حفر له في الأرض وحَثَا عليه التراب، فلما رأى وشاهد التطبيق العملي أمامه قام بحفر الأرض ثم دفن أخاه فيها، قال الله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمد ربي وأشكره وأثني عليه الخير كله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فإن المسلم عندما يعيش مع القرآن لفهم معانيه ومقاصده يزداد إيمانه يومًا بعد يوم، خاصة عندما يدرك جمال الربط الإلهي بين تلك الآيات القرآنية وذلك التناسق الجميل بين الآيات جميعها وفي الآية نفسها في أولها وآخرها وبين ثناياها، وعندما يستطيع الربط بين الآيات القرآنية في مواضع مختلفة وبين صحيح سنة رسول الله فإنه يصل مرتبة عالية من الإيمان والفهم والإدراك لهذا الهدى والرحمة الواردة في دين الإسلام، علمًا بأنَّ الْجَمْعَ بين الآيات والأحاديث يغيب عن كثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم سواء طلاب العلم أو غيرهم، حتى وصل ذلك الغياب إلى من يُشَارُ إليه بالْبَنَانِ ويوصف بأنه من العلماء حيث أخذ بعض النصوص للاستشهاد بها وترك بعضها أو كثيرًا منها مع كل أسف، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9، 10].
فأقول بأن الآية التالية مرتبطة بالآيات الخمس التي سبقتها، وهي كذلك مرتبطة بالآيات السابقة لها أيضًا وبما بعد هذه الآيات في تناسق عجيب وبيان أحكام ثابتة في هذا الدين الإسلامي العظيم، فلما كان السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين همّوا بقتل الرسول عندما ذهب إليهم وكانت منهم تلك المكيدة التي نجّاه الله منها لبيان عاقبة جريمة القتل وإظهارًا لموقفه الشريف ولم يقتلهم وكان كخير ابنَي آدم فقال الله لرسوله محمد : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ إلى آخر تلك الآيات التي لم يكن يعلمها رسول الله ولا بما كتب الله على بني إسرائيل ولا بما هو موجود في التوراة المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام والإنجيل المنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، ولم يكن يعلم رسول الله بما فيهما إلا بما علمه رب العزة والجلال وأنزله عليه وحيًا يتلى إلى يوم القيامة إثباتًا لرسالته عليه الصلاة والسلام وأنه كان أمّيًّا لا يعرف القراءة والكتابة وليس مطّلعًا على ما في كتب السابقين كما جاء ذلك في عدة آيات قرآنية، ومنها قول الله عز وجل: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 48، 49].
جاء بعد تلك الآيات التي أخبر الله فيها عن قتل ابن آدم أخاه ظلمًا وعدوانًا بأنه عز وجل شرع وأوجب على بني إسرائيل بعد أن أعلمهم أنّ من قتل نفسًا بغير سببِ قصاصٍ أو فسادٍ في الأرض واستحلّ قتلها بدون سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها بمعرفة حرمتها ولم يقدم على قتلها أو أحياها لمّا استوجبت القتلَ فَعَفَا عنها وتركها وذلك للتنفير لهم من القتل والإصرار عليه وارتكابهم له، وقد أقدم بنو إسرائيل على قتل الرسولين الكريمين زكريا ويحيى عليهما السلام وهَمُّوا بقتل الرسوليْن العظيميْن من أولي العزم وهما عيسى عليه الصلاة والسلام ورسولنا محمد ، قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة: 32].
وبعد هذه الآية التي جاء فيها شدة العقوبة على اليهود حول جريمة القتل والفساد في الأرض لكسر حِدَّةِ جُرْأَتِهِمْ على القتل والإفساد في الأرض جاء الحكم الإلهي القطعي الصارم في الآية التي تليها لمن يحارب الله ورسوله بالكفر بعد الإيمان والقتل والسلب بعد الأمان وترويع الآمنين وقطع الطرق وأخذ الأموال والاعتداء على الحرمات والأعراض بأن جزاءه ما ورد في الآية القرآنية التالي ذكرُها والتي أعقبها بالترغيب في التوبة وعدم إيقاع العقاب لمن تاب وأناب قبل أن يُقْدَرَ عليه من قِبَلِ البشر، والترغيب في التوبة والإنابة من كل ذنب مهما عظم فعله وكان من كبائر الذنوب جاء في آيات كثيرة منها هذه الآية، قال تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 33، 34]، ومنها الآيات التي جاءت بعد آيتين عن السارق والسارقة وعن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار وعن الشرك ودعوة غير الله وقتل النفس التي حرم الله والزنا الوارد في سورة الفرقان ثم مجيء تلك الآيات المحكمة، قال الله جل جلاله: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70]، وتلك الآيات العظيمة في سورة الزمر وغيرها: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر: 53، 54].
وهناك وقفات في خطب قادمة بإذن الله عز وجل حول هذه الآيات وما يتعلق بقتل الإنسان لنفسه ولغيره وحول الأحداث الراهنة والأسباب والدوافع والعلاج إن شاء الله تعالى ولو أنه حصل الكلام بعموميات في خطب سابقة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5639)
قتل النفس التي حرم الله بغير حق (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
25/10/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدلة على حرمة قتل النفس بغير حق. 2- إقامة الحدود لولي الأمر. 3- دوافع القتل العمد. 4- ليس كل مقتول في النار. 5- التحذير من قتل الإنسان نفسه. 6- تحريم قتل المعاهد والمستأمن. 7- وجوب التوبة من كل الذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد خلق الله العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، وحَدَّ لهم حدودًا ليقفوا عندها ولا ينتهكوها، ومنها إِزْهَاقُ الروح لأي نفس بشرية بغير حق، ومعنى بغير حق: أن قتل أيّ نفس قد يكون بحق وقد يكون بغير حق كما ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم وذكر ذلك رسول الله في الحديث الشريف، إذًا قتل النفس التي حرم الله بغير حقّ كبيرة من كبائر الذنوب التي تُوبِقُ صاحبَها وتوجب له العذاب في نار جهنم، سواء أقدم الشخص على قتل غيره من بني آدم أو قتل نفسه. أما قتل النفس بحق فمنها قَتْلُ الكفار المحاربين في ساحات الجهاد دفعًا أو طلبًا، وقتل الصائل دفاعًا عن الأنفس والأعراض والأموال، وقتل النفس المسلمة حدًا أو قصاصًا أو تعزيرًا، وتنفيذ أنواع هذا القتل ليس فوضى ولكل أحدٍ من الناس، بل هو مرتبط بالقضاء وولاة أمر المسلمين، ويأتي تفصيل لهذا في خطبة مستقلة إن شاء الله تعالى.
أما الذي يعنينا هنا فهو قتل النفس التي حرم الله بغير حق، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)) أو قال: ((شهادة الزور)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله واللفظ للبخاري. وفي الحديث التالي جاء القتل للنفس مُقَيَّدًا بالتي حرم الله، وجاء في آيات وأحاديث أخرى التَّقْيِيدُ بِالْحَقِّ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: إني لَمِنَ النُّقَبَاءِ الذين بايعوا رسول الله ، بايعناه على أن لاَّ نشركَ بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل النفس التي حرم الله ولا ننتهب ولا نعصي، فالجنة إن فعلنا ذلك. رواه البخاري ومسلم.
وهذا الإطلاق لأحاديث متعددة في قتل النفس وَرَدَ تَخْصِيصُهُ وتَقْيِيدُهُ في أحاديث أخرى وفي آيات محكمة من كتاب الله العزيز، قال الله تعالى في المحرمات التي حرمها الله على المسلمين: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151]. إذًا مكان الشاهد في هذه الآية قوله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وهذا يشمل أيَّ نفسٍ حرَّم اللهُ قتلَها بغير حق، وإن كان قد ورد في نفس الآية مما حرم الله قَتْلُ الأولاد لوجود الفقر كما هو منصوص عليه في هذه الآية أو خشية الفقر وخوفًا منه كما هو في سورة الإسراء التي جاء الضمير فيهما مناسبًا للسياق القرآني، فقال تعالى في سورة الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام: 151]، وفي سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء: 31]، وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: 8، 9].عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله ندًا وهو خلقك)) ، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تقتل ولدك خشيةَ أَنْ يَطْعَمَ معك)) الحديث. رواه البخاري ومسلم.
لذا أعود للقول بأن الإطلاق في الحديث السابق جاء مُقَيَّدًا ومُخَصَّصًا في الآية السابقة وفي قول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الإسراء: 33]، وفي قوله عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68]، وفي حديث رسول الله الذي جاء من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بأن رسول الله قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي رحمهم الله جميعًا.
لقد جاء تحريم قتل النفس التي حرم الله بغير حق في آيات مختصرة، وكما جاء الوعيد الشديد أيضًا في آية عند سماعها أو قراءتها تقشعر الجلود من مصير قاتل المؤمن عمدًا كما هو الحال فيما ورد من إيضاحٍ وبيانٍ لهذا الأمر الخطير والكبيرة العظيمة، وسوف يأتي ذكر بعض هذه الآيات.
إذًا نبدأ بنفس المسلم التي لا يجوز إزهاقها والتعدي عليها بغير حق، قال رسول الله : ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) أخرجه مسلم والترمذي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((أَبْغَضُ الناس إلى الله ثلاثة: مُلْحِدٌ في الحرم، ومُبْتَغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومُطَّلِب دم امرئٍ بغير حق ليهريق دمه)) رواه البخاري رحمه الله، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) أخرجه البخاري، فلو وقع من أي مسلم شيء من هذه الثلاث فليس لأي أحد من الناس أن يقتل ويقوم بتنفيذ وإقامة الحد في الدولة المسلمة على من ثبتت في حقه الجريمة التي توجب الحد الشرعي، وإنما ذلك إلى ولي أمر المسلمين بعد إقامة البينة والبراهين والدلائل الواضحة لدى القضاء، حتى لَوْ وَجَدَ رَجُلٌ رَجُلاً مع زوجته أو إحدى محارمه فإنه لا يجوز له الإقدام على إزهاق روح أيّ مسلم سواء الرجل أو المرأة مهما كانت الْغَيْرَةُ، هذا من الناحية الشرعية بعيدًا عن العصبيات والعادات القبلية والعشائرية الموجودة في بعض الدول المنتسبة للإسلام التي تُعْطِي حَقَّ القتل مطلقًا عند إقدام الرجال من المحارم على قتل المرأة فورًا دُونَ تَثَبُّتٍ وَرَوِيَّةٍ، وقد يكون الأمرُ وشاية وتخطيطًا ومكرًا للإيقاع بالطرفين وإزهاق الأرواح البريئة، وقد يكون الطرفان غير مُتَزَوِّجَيْنِ وليس هذا عقابهما، وليس هو عقابهما بعد الإحصان بل هو الرجم بعد الاعتراف وإقامة البينة التي يعجز عنها الطرف المتهم بالإتيان بالشهود الأربعة.
أرجع لأقول بأنه ليس من حق آحَادِ الناس الإقدام على القتل وإقامة الحدود، بل هي للدولة المسلمة ولِوُلاتِهَا الذين لهم صلاحية تنفيذ وإقامة الحدود بعد حكم قضاتها الذين يحكمون بالشريعة الإسلامية المبنية على البيّنات والدلائل الواضحات؛ لأنهم لا يحكمون بالشبهات، بل يَدْرَؤُونَ الحدودَ ولا يُقْدِمُون على الحكم بإقامتها مع وجود أيّ شُبْهَةٍ وما لم تكن الشواهد واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. وفي بلاد الحرمين لا يتم الحكم في الحدود إلا من قبل ثلاثة من القضاة، ثم يكون تمييز الحكم من قبل خمسة من القضاة أرفع مرتبة ممن سبقهم ولهم خدمات طويلة في مجال القضاء، ثم إصدار الحكم الأخير من قبل خمسة قضاة في مجلس القضاء الأعلى إما بالتصديق على الحكم أو عدمه أو إبداء الملاحظات في أي إجراء لم يتم حسب المطلوب من النواحي الشرعية أو النظامية التي ليست أصلاً مخالفة للشرع، وفي كل مجموعة من المشائخ من البداية حتى النهاية لا يدرس أحدهم القضية بمفرده ويوقّع عليه الجميع إنما هو الاجتماع والإجماع على أي أمر من أمور الحدود، فالحكم في إقامة الحدِّ الشرعي على المحكوم عليه لا بُدَّ فيه من تصديق ثلاثة عشر قاضيًا ومرور وقت طويل.
فليس الحكم بالقتل أو الحدود جميعها فوضى في الإسلام، وليس الأمر متروكًا لعامة الناس في الحكم أو التنفيذ، بل هناك سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية، فليس الأمر متروكًا للفوضى التي تعصف بالأمة مهما بلغت الغيرة على المحارم أو على ارتكاب المنكرات وإرادة تخليص الناس منها، وهذا يأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى عندما يتمّ التطرق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وارتكاب تلك الفئة الضالة المنحرفة عن منهج الكتاب والسنة وإقدامهم على تغيير المنكرات في كثير من الدول والنتائج المؤلمة التي أثرت على المسلمين عامة في جميع بقاع الأرض.
إذًا ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنًا بأي وجه من الوجوه، ولا يقتل أي نفس بشرية بغير حق، حتى نفسه وذاته لا يجوز له أن يقتلها، فيجب أن لا يقع منه ذلك البتة إلا عن طريق الخطأ، وقد ورد في الآية القرآنية والأحاديث النبوية كفارة ذلك، ولو قتل مؤمنٌ مؤمنًا متعمدًا وقاصدًا قتله بأي طريقة وأسلوب فإن العقوبة تقع عليه في الدنيا والآخرة. وأيضًا لا يجوز قتل المستأمن والمعاهد والذِّمِّيِّ، وتفصيل هذا موجود في كتب أهل العلم.
وللقتل العمد أسباب ودوافع كثيرة تدفع الشخص للتخلص من الطرف الآخر سواء كان شخصًا واحدًا أو عشرات أو مئات أو الألوف وعشراتها ومئاتها أو أكثر من ذلك أو أقل كما يحصل من قادة الظلم والطغيان في أزمنة كثيرة، ومنها هذا الزمان الذي نعيش فيه نشاهد ونسمع كثيرًا من مآسي المجرمين الذين لا يبالون بما أقدموا عليه من إزهاقٍ للبشرية وتدميرٍ لمصالحها، ولكن بداية النهاية المؤلمة لهم في الدنيا يشاهدها العالم ليروا نتيجة الظلم والطغيان والتي انتهت بالمهانة وسكنى الجحور في الدنيا بعد الأبَّهَةِ والعظمة والتعالي والتفاخر والتنقل بين ردهات عشرات القصور، فعلى كلّ ذي لُبٍّ وبصيرة أن يدرك ويأخذ الْعِبَرَ والعظاتِ بمن أزهق مئات الآلاف بل الملايين من الأنفس البشرية بغير حق وما ينتظره من العقاب الأليم يوم الوقوف بين يدي رب العالمين، وقبل ذلك في الحياة البرزخية التي نؤمن بما ورد عنها في القرآن والسنة، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً [النساء: 92]. وبعد تفصيل الكفارة في هذه الآية جاء قول الله عز وجل في الآية التي تليها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]. قال رسول الله : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)) متفق عليه.
وهنا إشارة لا بد من إيضاحها في الحديث مع أنها واضحة من نفس الحديث في أوله وحيث أخطأ بعض الكتاب في فهمه، وفشا بين المسلمين بأن المقتول في النار بكل حال، وهذا خطأ فادح وتحميل النص النبوي ما لم يرد فيه وليس الأمر كذلك، ففي بداية الحديث قال رسول الله : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما)) أي: أن الاثنين يحمل كل منهما سيفًا ليقتل صاحبه، إذًا الالتقاء والمواجهة من قبل الاثنين كل منهما يحمل السيف وفي التقاء ومواجهة واضحة وإرادةٍ لدى كل منهما ليظفر بصاحبه ليقتله، القاتل والمقتول لديهما الحرص على الانتصار على الطرف الثاني، بعكس المقتول في كثير من الأحيان الذي ليس لديه أيّ نية وقصد لقتل الطرف الثاني، فليس كل مقتول يدخل تحت هذا الوعيد الوارد في الحديث، وهذا الفرق الموضَّح سابقًا يجب أن يعلمه كل من يستدل بهذا الحديث ليعرف من دقة الألفاظ المراد والمقصود لئلا يَخْلِطَ ويُدْخِل كُلَّ مقتولٍ في النار حسب فهمه العابر دون تدقيق في العبارة الأولى الواردة في بداية الحديث: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما)). وبهذا يزول الالتباس والفهم الخاطئ والتفسير والتأويل البعيد للمقصود من الحديث النبوي الشريف.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)) رواه الإمام مسلم رحمه الله والنسائي والترمذي رحمهما الله، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه ابن ماجة والبيهقي رحمهما الله، وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا ـ أو قال: مشركًا ـ أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا)) رواه النسائي وأبو داود والحاكم وابن حبان، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري والنسائي، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا))، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) رواه البخاري والحاكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله.
أما بعد: فإن من أهم الأسباب والدوافع التي بسببها يقدم الشخص على القتل الغضبَ والاستعجالَ بعد استفزاز الشيطان للشخص انتقامًا من الطرف الآخر، وقد يكون ظلمًا وعدوانًا وطغيانًا وحسدًا وعداوة وبغضاء وغير ذلك من الأسباب، أما الطرق والوسائل فكثيرة جدًا، والشديد القوي حقيقة هو الذي يملك نفسه عند الغضب كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد حيث قال: ((ليس الشديد بالصُّرَعَة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) رواه البخاري وأحمد رحمهما الله تعالى.
وقد ورد النهي عن الإشارة إلى أي مسلم بأي حديدة فضلاً عن السلاح المعدِّ للقتل، فالملائكة تلعنه حتى يضع حديدته أو سلاحه وعدم إشهاره في وجه أخيه المسلم، قال رسول الله : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه مسلم، وقال : ((لا يُشِرْ أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((لا يحل لمسلم أن يُرَوِّعَ مسلمًا)) رواه أحمد وأبو داود، وفي الحديث الذي تقدم ذكره قال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري والحاكم وأحمد.
فالدم الحرام ليس لقتل المسلم لمسلم آخر بعيدٍ عنه، بل يشمل المسلمين عمومًا ويدخل في ذلك نفس الشخص، فليس من حقه التخلّص من نفسه والإقدام على إزهاقها بأي طريقة من طرق الانتحار المعروفة الآن. ولا يجوز أن يقدم المسلم أيضًا على قتل أولاده للفقر أو خشيته والخوف منه ولا قتل أي معاهد ومستأمن ولا أي كافر غير محارب، والمحارب أيضًا له شروط وضوابط تأتي عند الكلام عن الجهاد، والنهي عن قتل الأولاد من أجل الفقر أو الخوف منه قد ورد في بداية الخطبة.
أما عن قتل الشخص لنفسه فقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 29، 30]، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم والترمذي رحمهم الله بتقديم وتأخير في الألفاظ، وروى الإمام البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار)) ، وعن جندب رضي الله عنه أن النبي قال: ((كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله: بدرني عبدي بنفسه، فحرّمت عليه الجنة)) رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله واللفظ لمسلم. وذلك الذي كان في ساحة القتال مع رسول الله ولم يترك شاذّة ولا فاذّة إلا اتبعها يضربها بسيفه وجُرِح جرحًا شديدًا فاستعجل الموت ووضع سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه وتحامل على سيفه وقتل نفسه وأخبر رسولُ الله بأنه من أهل النار، جاء بهذا المعنى من حديث مطول رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. ومن ضمن الحديث المروي عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه من قول رسول الله الذي جاء فيه: ((ومن قتل نفسه بشيء عُذّب به يوم القيامة)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي رحمهم الله جميعًا.
وعن قتل المعاهد والمستأمن والذميِّ ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري واللفظ له والنسائي إلا أنه قال: ((من قتل قتيلاً من أهل الذمة)) ، وقال رسول الله : ((أَيُّمَا رجلٍ أََمَّنَ رجلاً على دمه ثم قتله فأنا من القاتل بريءٌ وإن كان المقتول كافرًا)) رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له وابن ماجة إلا أنه قال: ((فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة)) وفي الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ألا من قتل نفسًا مُعَاهَدَةً له ذِمَّةُ الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا)) رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له وقال: "حديث حسن صحيح".
فليحذر كل مسلم من الإقدام على قتل غيره أو الإسهام في ذلك ولو بشطر كلمة فضلاً عن المساعدة الفعلية والاشتراك في الجريمة أو تسهيل المهام أو الفتوى ونشرها وترويجها وتوزيعها بأي أسلوب كان، وإذا كان ابن آدم الأوّل يتحمّل جزءًا من كل نفس تُقتل ظلمًا لأنه أول من سنّ القتل فإن الأدلة من الكتاب والسنة واضحة جلية فيمن يشترك في قتل الأنفس المعصومة بأي مساهمة ولو بشطر كلمة، ولا يتسع المقام لذكرها.
والتوبة من كل الذنوب واجبة على كل مؤمن وإن كان قاتلاً لغيره عمدًا أو خطأ، وتُقْبل التوبة بإذن الله عز وجل بشروطها، ولأن الحقوق في القتل ثلاثة: حق متعلّق بالله عز وجل فتجب التوبة منه، وحق لأولياء المقتول ففيه القصاص أو العفو، وقتل الخطأ فيه الكفارة والدية على تفصيل في ذلك. وأما حق المقتول فلا يسقط بتوبة القاتل، بل هو حق للمقتول يُحَاكَمُ به القاتلُ ويُقْتَصُّ منه يوم القيامة بين يدي رب العالمين، وهناك حق عام للمجتمع يتعلق بولي الأمر.
وأول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة هو الدماء، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة رحمهم الله، وللنسائي رواية توضح بجلاء واضح اللبس في أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله وأول ما يحاسب عليه مما يتعلق بحقوق الخلق، قال رسول الله : ((وأول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء)) رواه النسائي.
وفي خطب قادمة إن شاء الله تعالى يكون الكلام عن القصاص وإقامة الحدود التي هي من عدالة الإسلام والتفصيل عن التوبة التي التبس أمرها على كثير من المسلمين في القتل والجرائم المتعددة وغيرها وما يتعلق بالأحداث الراهنة من مواضيع أخرى.
وصلى الله وسلم على عبد ورسوله محمد وآله...
(1/5640)
قتل النفس التي حرم الله بغير حق (3)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
3/11/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يجوز قتل الزاني ولو كان من المحارم. 2- إزالة الشبهات عن حديث غيرة سعد بن عبادة. 3- جواز قتل الصائل. 4- لا يقيم الحدود إلا ولي الأمر. 5- ليس كل مقتول في النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً بالخطبة السابقة حول قتل النفس التي حرم الله بغير حق، وذلك لإزالة بعض الشُّبَهِ الواردةِ على بعض الأذهان، ولمزيدٍ من الإيضاحِ والبيانِ وَجَبَ القيامُ بها إبراءً للذمة وخروجًا من الإثم وأداءً لواجب الأمانة في النصيحة.
وحيث قد ورد ضمن الخطبة بأنه لا يجوز أن يُقْدِمَ أَيُّ مسلمٍ على قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وليس هذا الحق فوضى في مجتمعات المسلمين وقد تم توضيح بعض ذلك في الخطبة السابقة وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، ولكنَّ وُرُودَ التعبيرِ بأنه لا يجوز للرجل المسلم أن يقتل زوجته أو إحدى محارمه أو الرجل الذي وجده مهما كانت الْغَيْرَةُ، ومع أَنَّ الْغَيْرَةَ على المحارم واجبةٌ لكنه لا يجوز للمسلم أن يرتكب تلك الكبيرة العظيمة التي يَبُوء بإثمها في الدنيا والآخرة مقابل ارتكاب غيره لكبيرة من كبائر الذنوب هي أقل من تلك التي يقدِم عليها مع أنه ليس هو الذي قام بها أو رضي عن فاعلها أو بها، فَإِقْدَامُ المسلم على قتل مرتكب الزنا من المحارم أو الفاعل أو لمجرد الخلوة أو الشبهة الإقدام على القتل جريمة عظمى وكبيرة من كبائر الذنوب ارتكبها القاتل، مع أنَّ الحلولَ الشرعيةَ أمامه متيسرةٌ ولله الحمدُ والمِنَّةُ، وهذه الشبهة الواردة في حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه لا تُعْطِي حَقَّ القتل لا من قريب ولا من بعيد، فالحديث واضح وضوح الشمس في رابعة النهار بأنها الغيرة الواجبة التي يجب على المسلم أن يلتزم بها تجاه محارمه لتلك الغيرة المحمودة على المحارم والتي أثبتها وأقرها الرسول حينما بَلَغَهُ قَوْلُ سعد بن عبادة رضي الله عنه وأخبر بأن الرسول محمدًا أَغْيَرُ منه، والله عز وجل أغير من الرسول محمد ومن كل البشر، ولا أحد أغير من الله، وَغَيْرَتُهُ سبحانه وبحمده أن يأتيَ الإنسانُ المحرماتِ التي حرمها تبارك وتعالى.
فغيرة المسلم على محارمه واجبة، والجنة حرام على الدّيّوث الذي يرضى الخبث في أهله ومحارمه، وليس في الحديث أدنى إشارة لإقرار قتل المسلم والإقدام على تلك الكبيرة العظيمة، لا مِنَ الرسول ولا مِنْ سعد بن عبادة رضي الله عنه الذي قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصَفَّحٍ، وإلا كيف يضربُ الرجلُ ويقرُّ الفاحشةَ في امرأته حسب ظاهر الكلام؟! حاشاه رضي الله عنه من إقرار ذلك، إنما هي الغيرة عندما بلغه أنه لا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِ الرجل بأربعة شهداء على ارتكاب المرأة لتلك الفاحشة، فقال بأنه لن ينتظر حتى يأتي بالشهود وإنما سوف يَقْتَصُّ ويقيمُ الْحَدَّ فَوْرًا، وهذا غير صحيح لما ورد في القرآن الكريم في آيات محكمة تتلى إلى يوم القيامة أذكرها بعد هذه الأحاديث التالية لمعرفة الْحَلِّ الأمْثَلِ.
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله فقال: ((تعجبون من غَيْرَةِ سعد؟ واللهِ، لأنا أَغْيَرُ منه، واللهُ أَغْيَرُ مني، ومن أجل غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله واللفظ للبخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((المؤمن يَغَارُ، واللهُ أَشَدُّ غَيْرًا)) رواه مسلم رحمه الله، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من أحد أَغْيَر من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش، وما أحد أحبّ إليه المدح من الله)) أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله.
وفَرْقٌ بين هذا القتل الذي يقدم عليه الشخص بِمَحْضِ إرادته انتقامًا من الفاعل وغَيْرَةً على المفعول بها وبين الدفاع الذي يجب على المسلم أن يقف سَدًّا مَنِيعًا ضد المعتدي والصائل، فعلى المسلم أن يدافع عن محارمه وماله ونفسه فلو قُتِلَ فهو شهيدٌ، وإنْ قَتَلَ الصَّائِلَ فَالصَّائِلُ المعتدي الظالمُ في النار، فالفرق بين الحالتين واضح وضوح الشمس، عن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((مَنْ قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد)) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة رحمهم الله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أَخْذَ مالي؟ قال: ((لا تُعْطِهِ مَالَكَ)) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قَاتِلْهُ)) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) ، قال: أرأيت إن قتلتُهُ؟ قال: ((هو في النار)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
إذًا الفرق واضح بين الدفاع عن النفس والمال والعرض والدين في حال اعتداءِ أَيِّ صائل على الْمُدَافِعِ عنها وبين الإقدام على قتل نفس ابتداءً سواء بدافع الانتقام أو الحسد أو العداوة أو الْغَيْرَةِ التي اسْتُغِلَّتْ في الآونة الأخيرة في عدد من الدول المنتسبة للإسلام حتى وَصَلَتِ الإحصاءاتُ قبل شهر من الآن بأنَّ النساءَ اللائي قُتِلْنَ لصيانة الشَّرَفِ حسب زعمهم أكثر من تسعة آلاف امرأة أقدم على قتلهن مَحَارِمُهُنَّ من الأزواج أو الآباء أو الإخوان حَيْثُ أُعْطِيَ لهم الْحَقُّ في تلك الدولة وغيرها في الْقَتْلِ الْفَوْرِيِّ دُونَ تَحَقُّقٍ ومعرفةِ حكم الإسلام وحكمته الواضحة لِلزَّجْرِ عن الإقدام على جريمة الزنا التي اشْتَرَطَ فيها رَبُّ العزة والجلال أن يأتيَ الْقَاذِفُ بها بأربعة شهداء على مرتكب تلك الفاحشة لِعِظَمِ الأمرِ ولئلا تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم ولئلا يتهاون الناس بأمر القذف بتلك الجريمة، ولن يستطيع الإتيان بأربعة شهود عليها، ولو أنه أتى بثلاثة فقط وشهدوا أو الأربعة وتراجع أحدُهم أو اختلفتْ شهادتُهم لأُقِيمَ حَدُّ الْقَذْفِ على الجميع، وذلك لكي تُحْفَظَ أَعْرَاضُ المسلمين ولا تُنْتَهك بتلك السهولة، ولئلا يَسْتَمْرِئَهَا ضِعَافُ النفوس، ولو أن مسلمًا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بذلك فإذا لم يَأْتِ بالشهداء الأربعة فإن أمامه الملاعنة أو ما يُسَمَّى باللِّعَانِ بينه وبين زوجته حتى لا يُقَام عليه الحدُّ، والمُلاعَنَةُ هي شهادةُ الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أنَّ لعنةَ الله عليه إن كان من الكاذبين، وكذلك الحال بالنسبة للزوجة تشهد أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين، والخامسة أنَّ غضبَ الله عليها إن كان من الصادقين.
إذًا قَتْلُ النِّسَاءِ المحارمِ من قبل الرجال أو قتلهم للفاعلين أو الْمُشْتَبَهِ فيهم بهذه الطريقة الْفَوْضَوِيَّةِ أَمْرٌ مَرْفُوضٌ في الإسلام، والإسلام بريء من هذه الطرق العشوائية التي يكون فيها الْمُتَّهَمُ غالبًا إِمَّا غَيْر مُقِرٍّ بالجريمة أو ليس عليه بَيِّنَةٌ أو مُحَرَّضٌ عليه للانتقام منه بتلك الصورة البشعة وغير ذلك من الأسباب التي يعجز الأفراد عن الوصول إلى حقيقتها، وسوف يعجز أغلب البشر عن إثباتها على الغير لوجود شرْطِ الشهود الأربعة حال ارتكاب الجريمة يشاهدون ذلك حقيقة، وهذا شرط يَصْعُبُ تَحْقِيقُهُ، وهذا الشرطُ التَّعْجِيزِيُّ إنما هو لصيانة الأعراض وحقوق الآخرين لئلا تُنْتَهَكَ الأعراضُ بهذه السهولة التي يَقْذِفُ بها الشخصُ غَيْرَهُ، مع أنه لا يُشْتَرَطُ وُجُودُ أربعةِ شُهُودٍ إلا في هذه الجريمة، أما في غيرها فَتَثْبُتْ بِشَاهِدَيْن فقط. وأرجو أنْ يُفْهَمَ ما أريده وهو ما فهمته من كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وعلى أي مسلم أن يتذكر هذه الآية القرآنية من سورة النساء ويضعها نصب عينيه قبل كل شيء مع الآيات التالي ذكرها من سورة النور التي فيها الحلول الناجعة والناجحة التي حارت عنها وابتعدت كثير من العقول، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
وعلى المسلم أن يعلم ويعمل بالحلول الواضحة الواردة في الكتاب والسنة في هذا الأمر وغيره، وليست الحدود لآحاد الناس وأفرادهم في المجتمع المسلم يقيمونها على من يشاؤُون وبأي طريقة وفي أي وقت، بل يعود ذلك لولاة الأمر وسلطاتهم القضائية والتنفيذية كما هو الحال في بلاد الحرمين، ولا يجوز لأي مسلم أن يقدم على الفوضى التي ظهرت على الساحة في البلاد المجاورة وغيرها، والحلّ ابتداء للحدّ من هذه الجريمة هو تسهيل أمور الزواج الشرعي للجنسين وعدم وضع العقبات في طريقهم بأي أسلوب كان، وإذا وقع شيء مما يغضب الله من وقوع الفاحشة فإن الحلّ هو كما ورد في أول سورة النور وفي سنة رسول الله مما ذكرتُ سابقًا من الشروط. وأَتْرُكُ تفاصيلَ الحلولِ لخطبة أخرى.
قال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور: 1-9].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه وصفيُّه من خلقه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله، وارْضَ عن الصحابة أجمعين.
أما بعد: فقد تَبَيَّنَ فيما سبق من الكلام بأنه ليس كل مقتول في النار كما يفهمه بعض الناس من الوعيد الوارد في الحديث، علمًا بأن الذي ورد في الحديث هو الذي يلتقي وجهًا لوجهٍ ومُنَاظَرَةً وَنِدًّا لصاحبه ومُمَاثِلاً في الآلَةِ الْمُسْتَخْدَمَةِ للقتل أو مُقَارِبًا له ومُسْتَصْحِبًا النية بالحرص على قتل صاحبه، وهذا هو المفهوم العام للحديث الوارد عن رسول الله والذي قال فيه: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)) متفق عليه من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه.
أما الآلةُ المستخدمةُ لقتلِ المسلمِ الواردةُ في الحديث فليست مقصورةً على السيف، بل كل شيء أَدَّى إلى القتل من حجر أو حديد أو أيّ مثقل أو عصًا أو بندقية أو مسدسٍ أو صاروخٍ أو سيارة أو مدفعٍ أو طائرة كل هذا وغيره يدخل تحت هذا الوعيد في استخدام القتل الْمُصَاحَبِ بالحرص على القتل للآخر، وهذا العموم في الآلات أيضًا يدخل فيه ذلك الذي يقتل نفسه بأي آلة أو وسيلة حتى ذلك الْمُفَحِّط الذي يُلقي بنفسه إلى التهلكة ويعرِّض نفسَه للموت متعمدًا ويقتل آخرين أيضًا، وأتمنى أن أرى فتوى من أصحاب الاختصاص بالْمُفَحِّطِينَ وبأولئك الذين يُعَرِّضُونَ أنفسَهم للموت ويبتلون عباد الله من سائقي السيارات بأنفسهم، أولئك الذين خُصِّصَتْ لهم جُسُورٌ لِلْمُشَاةِ وَوُضِعَتْ حَوَاجِزُ في طرق السيارات داخل المدن وخارجها ثم يتركونها ويقتحمون الحواجز ويأتون إلى الطرق المخصّصة لسير السيارات ويَعْبُرُونَهَا معرِّضين أنفسهم للهلاك ومُبْتَلِينَ قائدي السيارات بأنفسهم إما كسلاً منهم لصعود السلالم المخصّصة لعبورهم عليها وإما ابتلاءً وابتزازًا لأصحاب السيارات لكي تقع عليهم الإصابات والحوادث ولو البسيطة دون الموت والمتمثلة في الْجِرَاحِ والكسور لكسب الأموال وخاصة بعض الجنسيات الذين يُهْدِرُونَ دماءَهم ويُهلكون أنفسَهم ويُوقِعُون غيرهم في مقاصدهم الشيطانية لِيَحْصُلَ أحدُهم على المالِ إِنْ بَقِيَ حَيًّا أو لإعطائه ورثته في بلاده بتلك الطرق اللئيمة التي أتمنى أن تصدر فيها فتوى شافية لإعطاء كل ذي حق حقه، وحيث تَعَدَّوْا على الآخرين وحقوقِهم واقتحموا طُرُقَهم ومساراتِهم وتركوا الأماكنَ الْمُعَدَّةَ لِسَيْرِهِمْ ومَشْيِهِمْ وكسروا الحواجزَ المانعةَ لهم ولأمثالهم من العبث والسير في غير الأماكن المخصصة لهم، قال تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]، وقال عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 29، 30].
أعود للقول بأنه ليس كل مقتول مشمولاً بالوعيد الوارد في ذلك الحديث بدخول النار، بل قد يكون شهيدًا ومن أهل الجنة كما جاء ذلك في الأحاديث الأخرى التي ورد بعضها في الخطبة السابقة، وكذلك الحال في القاتل ليس كل قاتل على الإطلاق يدخل النار، إنما هو ذلك الذي يقتل مؤمنًا متعمدًا أو نفسًا معصومة من المعاهدين والمستأمنين وأهل الذمة أو يقتل نفسه بأي وسيلة وطريقة، فليس كل قاتل لنفسه أو لغيره يدخل النار، فقد يدخل الجنة مثل الذي يدفع الصائلَ المعتديَ على نفسه أو عرضه أو ماله أو دينه، أو ذلك الذي يُمَكِّنُهُ الوالي المسلم من القصاص من قاتل مُوَرِّثِهِ المقتولِ، أو ذلك الذي يقتل الكفار في ساحات الجهاد.
وَأَوَدُّ الإشارةَ والتنبيه إلى شيء في دفع الصائل بأنه لا يجوز أن يُدْفَعَ من أول مرة بقتله، إنما يكون الدفع باستعمال ما يُعِيقُهُ عن الحركة في اليدين والرجلين ويمنعه من الاستمرار في جريمته التي يريد الإقدام عليها من انتهاك حرمات الآخرين في الأنفس أو الأموال أو الأعراض أو الدين، فإذا لم يندفع إلا بالقتل بعد فشل كل المحاولات التي تحول بينه وبين جريمته فعندها يُلْجَأُ إلى القتل بعد تماديه في باطله وعدم إمكانية دفعه بما هو دون ذلك؛ لأن القتل لا يجوز من الْوَهْلَةِ الأولى، وإعاقتُه وإصابتُه في أطرافه مُهِمٌّ جدًا ليس للأشخاص العاديين بل لرجال الأمن مع أيّ مجرم سواء كَبُرَ جُرْمُهُ أو صَغُرَ؛ وذلك لمصلحة التحقيقات والمعلومات التي يُدْلِي بها فيما بعد، سواء كان هو في الجريمة لوحده أو ضمن شبكة إجرامية صغيرة أو كبيرة، ويجب على رجال الأمن الانتباه لهذا واستخدامه من قبل الجميع وإن كان لديهم تعليماتٌ في ذلك بهذا الخصوص ولكنه يغيب عن بعضهم الهدف من وراء هذه التعليمات والتوجيهات والأوامر التي تَصُبُّ في مصلحة التحقيقات والكشف عن الجريمة ودوافعها وأسبابها، وقد يصل إلى علاجها إذا صلحت النيات وتَطَلَّعَ الجميعُ إلى الأمامِ وقَابِلِ الأيام وكان النظرُ الثاقبُ والفكرُ الصائبُ والقلبُ الواعي والحكمةُ القائدةُ الرائدةُ وراء كل تصرف، إذا كان ذلك وغيره مما هو مفيد في موضعه وحينه فإن العواقب سوف تكون محمودة بإذن الله عز وجل. وقد أدرك من له علاقة بالتحقيقات كم هي الفوائدُ الْجَمَّةُ والكثيرةُ من وراء الإبْقَاءِ على المجرمين على قيد الحياة لكشف كثير من الْغُمُوضِ الحاصلِ خلف كثير من الجرائم المتعددة التي تُقْدِمُ عليها عصاباتٌ وشبكاتٌ وإن كان الذي ينفذها شخص واحد أو مجموعة صغيرة ثم تنكشف المؤامراتُ والدسائسُ ومكرُ الليل والنهار والمخططاتُ الشيطانيةُ، سواء تلك التي يقوم بها الْمُرَوِّجُونَ للمخدرات أو السرقات أو التدمير والتفجير وغير ذلك من الجرائم الخاصة أو العامة.
وهذه الإيضاحاتُ والملحوظاتُ المستقلةُ في حينها عند كل مناسبة هي الطريقةُ الملائمةُ التي أراها وقد سَلَكْتُهَا واتَّخَذْتُهَا أسلوبًا بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ للوصول إلى ما يُثْرِي الموضوعَ المطروحَ لِيُسْتَوْفَى من معظم الجوانب إن لم تكن جميعها، وما وعدتُ بالحديث عنه يأتي في خطب قادمة إن شاء الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5641)
القصاص حياة للنفوس
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
10/11/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الإسلام للضرورات الخمس. 2- إباحة قتل الصائل. 3- من حكم مشروعية القصاص. 4- الترغيب في العفو عن القاتل. 5- أثر تطبيق الحدود على الأمن في بلاد الحرمين. 6- الحقوق المتعلقة بالقاتل. 7- وجوب التوبة من جميع الذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن حياة المجتمع المسلم ترتكز على قواعد أساسية لا بدّ من المحافظة عليها حتى ينعم الجميع بالحياة الآمنة المستقرة، وقد جاء الإسلام بضرورة الحفاظ على ضَرُورَاتٍ خَمْسٍ ألا وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، لذلك كانت الإباحة بقتل الصائل المعتدي الظالم الذي يريد الاعتداء عليها كما ورد في حديث رسول الله ، وذلك بعد أنْ يَدْفَعَهُ الْمُعْتَدَى عليه بما هو دون ذلك بإعاقته عن الإقدام على أَيٍّ من تلك الضرورات التي يجب المحافظة عليها من قبل كل مسلم ومسلمة، دفع ذلك الصائل على أيّ منها بضربه بأي وسيلة في الْيَدَيْنِ أو الرِّجْلَيْنِ في أَيٍّ منها لئلا يتمكن مما يريد، ولا يُلْجَأُ إلى قتل الصائل إلا إذا تَمَادَى وأَصَرَّ على الظلم والعدوان ولم يرتدع فعند ذلك أُبِيحَ قَتْلُهُ، وأعيد الحديثيْن الوارديْن في الخطبة السابقة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخْذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك)) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) رواه مسلم رحمه الله.
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة رحمهم الله.
وقد ورد في الخطب السابقة بمجموعها ومضمونها بأنه لا يجوز الاعتداء على النفس البشرية بغير حق، وقد جاء الإيجاز في معنى قتل النفس بالحق والذي يعتبر من عدالة الإسلام التي ينعم ويَأْمَنُ أيُّ مجتمع مسلم يطبق تلك العدالة والشريعة السمحة، ومنها القصاص الذي وردت تفصيلاته في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله وخلفائه الأربعة الراشدين رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين، القصاص الذي أوجب الله على حُكَّامِ المسلمين تنفيذَه من أجل صيانة دماء الناس والمحافظة على أرواح الأبرياء والقضاء على الفتن في مهدها والضغائن والأحقاد التي تثيرها العصبية الجاهلية للانتقام من القاتل وأهله أيضًا؛ لأنه في كثير من الأحيان وفي الأماكن التي لا تطبق شرع الله لا يُكْتَفَى بقتل القاتل، بل تذهب مئاتُ الأرواحِ والأنفسِ من الجهتين والطرفين مع أن البداية كانت بقتل شخص واحد، لذلك جاءت العدالة الإلهية التي تحفظ حياة النفوس البشرية في أي مجتمع يطبق الإسلام في كلماتٍ موجزةٍ وفي اثني عشر حرفًا من كلام رب العزة والجلال: فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] التي أعجزت مشاهير البلغاء العرب بعد أن قالوا أقوالاً عدة وعبارات متقاربة وظنوا بأنهم بلغوا نهاية ما يمكن أن يصله البيان العربي، فقالوا: "قَتْلُ البعضِ إحياءٌ للجميع"، وقالوا: "أكْثِرُوا القتلَ لِيَقِلَّ القتلُ"، إلى أن وصلوا إلى هذه العبارة التي اعتبروها أبلغ ما قالوه من العبارات وهو قولهم: "القتلُ أَنْفَى للقتلِ". وعَدَدُ حروفها أربعة عشر حرفًا، ولكن كلام رب العزة والجلال جاء بأقل منها في عدد الحروف والذي يتضمن كلمة لطيفة جميلة معبرة عن القصاص في الحال الثاني وليس للقتل الذي يعتبر ابتداءً جريمة وكبيرة من كبائر الذنوب، وإنما القصاص عدالة واضحة ومخالف للقتل السابق، وكذلك فيه الحياة للمجتمع أيضًا وليس للأفراد فقط كما ورد في بداية العبارة في قوله عز وجل: وَلَكُمْ وفي نهايتها حَيَاةٌ ، تلك الحياة الحقيقية للمجتمع؛ عندما يُؤْخَذُ الجاني بجنايته يرتدعُ كلُّ مَنْ يهمُّ بقتل أخيه المسلم أو يعتدي على أي نفس معصومة بغرض الإفساد في الأرض وإشاعة الفوضى وتقويض أمن المجتمع، لذلك يَكُفُّ الظالمُ لنفسِه ولغيرِه عن الإقدام على القتل، وفي كَفِّهِ وارتداعه عن الإقدام على القتل حياة حقيقية له ولمن أراد قتله ولأفراد المجتمع أيضًا.
وبعد أن فرض الله عقوبة القصاص رَغَّبَ في العفو عن القاتل والعدول إلى أخذ المال، وهو ما يسمى بِالدِّيَةِ، أو إلى العفو عن القاتل والتنازل مطلقًا من قبل أولياء المقتول وورثته، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة المسلمة التي شرع لهم قبول الدية في القصاص، والتي لم تكن مشروعة ومباحة لبني إسرائيل، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، إلى قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، فالعفو أن تقبل الدية في الْعَمْدِ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ، يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ مما كتب على من كان قبلكم، فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلَ بعد قبول الدية ، فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) رواه البخاري رحمه الله.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 178، 179].
نعم، إنها الحياة الحقيقية للجميع في القصاص، يعرفها ويفهمها أهل العقول السليمة كما أشار إلى ذلك ربنا تبارك اسمه وتعالى سلطانه؛ لأنه إذا اقْتُصَّ من القاتل تَطِيبُ نفوسُ أولياء القتيل ويذهب الْبُغْضُ والْغَيْظُ من قلوبهم ونفوسهم، ولكن الواجب على ولي الدم الذي يُمَكِّنُهُ ولي الأمر من القصاص من القاتل أن لا يعتدي ويظلم ويتجاوز الحدَّ في قتل القاتل، بل يلتزم العدل والإنصاف وعدم التعدي، هذا إذا مُكِّنَ من ذلك مع أنه لا ينبغي أن يتولى ذلك أيُّ وليٍّ لأيِّ مقتولٍ، بل كما هو حاصل في بلاد الحرمين الشريفين من تنفيذ القتل والقصاص مِنْ قِبَلِ أُنَاسٍ متخصصين في هذا العمل الذي لا يحتمله عامة الناس ولا يقدرون على مشاهدة الدماء وتلك المناظر التي تَقْشَعِرُّ منها الأبدانُ التي في حضورها من قبل الناس ما يثير في النفوس مشاعرَ الابتعاد والخوف من تلك المناظر التي لا يرغبها البشرُ كُلُّهُمْ إذا علموا آثارَها المترتبةَ على أرواحهم في الدنيا، وزيادةً على ذلك ما يشعر به المؤمنون من العواقب الوخيمة في الآخرة كما ورد في القرآن الكريم فيمن يقتل مؤمنًا متعمدًا.
أعود لأقول بأنَّ فَهْمَ القرآنِ مرتبطٌ مع جميع الآيات في أي باب أو مسألة مع بعضها، وكذلك أحاديث رسول الله ، ووفق ما ورد في كتب التفسير المعتبرة والأصول الفقهية التي تَجْمَعُ أطرافَ المسائلِ وتبيِّنُ الغامضَ الذي يعجز عنه عامة المسلمين غير المتخصصين والذين لا يفهمون إلا الظاهر من الآيات، وبذلك يقعون في الخلط بين المفاهيم والاستنتاجات التي يصلون إليها، وفرق بين ما يفهمه هؤلاء وبين ما فهمه العلماء والفقهاء في القديم والحديث.
فعلى كل مسلم أنْ يَعِيَ ذلك جيدًا، وأن يعبد الله على علم وبصيرة، وإلا وقع فيما يستعيذ به عدة مرات في كل صلاة في آخر سورة الفاتحة ولم يتبع الصراط المستقيم، بل اتبع طريق من يستعيذ بالله من أن يسلك طريقه، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء: 33].
هذا الذي ورد ذكره سابقًا هو حق أولياء المقتول وورثته، فلهم أن يختاروا من الخيارات الثلاثة أيها شاؤوا مجتمعين ومجمعين على ذلك باختيارهم ودون إِكْرَاهٍ من أحد، إما القصاص بقتل القاتل أو الدية أو العفو عن القاتل، وهذا الحقُّ يُسْقِطُ حَقَّ أولياء المقتول وورثته فقط، ولا يُسْقِطُ حق المقتول ولا العذاب في النار ودخولها؛ لأنَّ حقَّ المقتولِ لا يملك أحدٌ من البشر غير المقتول حق التنازلِ عنه حيث قد فارق الحياة ولا أحد يعلم ما في نفسه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أول ما يُقْضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة رحمهم الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأَوْدَاجُهُ تَشْخبُ دَمًا، يقول: يا ربّ، قتلني هذا حتى يدنيه من العرش)). إذًا، حق المقتول يكون التحاكم فيه بين يدي رب العزة والجلال يوم القيامة، وهو الذي يحكم فيه سبحانه وينصفه من القاتل الظالم المعتدي.
وجزاء وعاقبة قاتل المؤمن متعمدًا في الآخرة كما ورد في سورة النساء في قول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
إن تطبيق عدالة القصاص والحدود الأخرى في بلاد الحرمين سبب الأمن الوارف الذي يعيشه الجميع في هذه البلاد، وقد فَقَدَتْهُ مُعْظَمُ دولِ العالمِ، ومَنَّ اللهُ به عليها ووفق ولاة الأمر لتطبيق شرع الله على عباده وفي أرضه سبحانه وبحمده، ونحمد الله عز وجل ونسأله المزيد من فضله، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فإنَّ من أعظم الحقوق المتعلقة بالقاتل حَقَّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ الذي خلق القاتل والمقتول وأولياءه وورثته، وخلق الخلق أجمعين من الجن والإنس ليعبدوه سبحانه وبحمده، فحقُّ الله على القاتل هو الذي غَلِطَ في فهمه كثيرٌ من المسلمين حيث لم يفرِّقوا بين الحقوق الثلاثة، وأخذوا الآية على ظاهرها، ولم يَجْمَعُوا بينها وبين الآيات الأخرى عن التوبة والأحاديث الواردة في هذا الباب وبين الآيات والأحاديث الواردة أيضًا في القتل، لذلك فإن باب التوبة مفتوح أمام أي قاتل لأي نفس وخاصة قاتل المؤمن متعمدًا، والتوبة ليست مشروعة فحسب في حقه وفي حق غيره، بل هي واجبة على جميع المسلمين من أي ذنب من الذنوب صغر أو كبر، وهذا لا يعني أن توبة الشخص من الذنوب والمعاصي أنها تُسْقِطُ حقوقَ الآخرين دون استباحتها وطلب العفو منهم، فالسرقة مثلاً يتوب منها الشخص وقد يستطيع استباحة الشخص في الدنيا وقد لا يستطيع، واختلاس الأموال العامة أو الخاصة يستطيع التخلص منها في الدنيا ويستطيع استباحة أصحابها وقد لا يستطيع، ولكن أقل ما يجب عليه هو التخلص منها بإرجاعها لأصحابها بأي وسيلة والتوبة من ذلك، والغيبة والنميمة وغيرها مما يتعلق بحقوق الآخرين من المظالم والتعدي عليهم بإمكان الشخص واستطاعته الوصول إلى إرضاء صاحب الحق وإرجاع الحق إليه واستباحته أيضًا، الاستباحة أي: طلب الشخص من صاحب الحق أنْ يُبِيحَهُ ويُسَامِحَهُ فيما قام به تجاهه من أنواع الظلم والتعدي المعروف باليد أو اللسان أو أخذ الأموال أيًا كانت وغير ذلك من المظالم المعلومة للجميع، أما الدماء وقتل المسلم ظلمًا وعدوانًا فالحقوق ثلاثة: ما كان لورثة المقتول فلهم خيارات ثلاثة كما سبق توضيحها، وحق للمقتول: لا يستطيع القاتلُ الوفاءَ به وقضاءَ صاحبه إلا يوم القيامة يوم لا يكون هناك إلا الحسنات والسيئات والاقتضاء منها بالأخذ من حسنات الظالم للمظلوم أيًا كان فإذا انتهت حسناتُه أُخذ من سيئات صاحبه فطُرِحَتْ عليه وطُرِحَ في النار، وحق الله عز وجل: فهذا واجب على الفور من بعد الجريمة وذلك بالتوبة الصادقة والإنابة إلى الله عز وجل والندم على ما ارتكبه الشخص وعدم الإصرار على ذلك فيما لو أُطْلِقَ سَرَاحُهُ وعُفِيَ عنه أو تَمَّ القصاصُ منه مع الرضا والتسليم بحكم الله فيه وعدم وجود الْحَرَجِ عند إقامة الْحَدِّ عليه، قال الله جل جلاله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65].
التوبة واجبة على الجميع من كل الذنوب والخطايا لعموم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8]، وقال سبحانه وبحمده مُرَغِّبًا العباد في مغفرة الذنوب مهما عظمت وكثرت: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 68-71].
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في باب التوبة والتي لا يتسع مقام الخطبة هنا إلى ذكرها، وقد جاء الكلام عنها في خطبة مستقلة من أجل توضيح وبيان ذلك، خاصة عندما أغلق بعضُ الْجُهَّالِ حسب زعمهم وعلى حَدِّ علمهم المقرون بالجهل أغلقوا أبواب التوبة عبر الوسائل الإعلامية المختلفة أمام الساعين في الأرض بالفساد سواءً من أقدم على القتل والتدمير أو تعاون مع الْمُنَفِّذِينَ أو خَطَّطَ أو أَفْتَى، ولم يفرقوا بين التوبة الواجبة على الجميع وبين تنفيذ حكم الله فيهم في الدنيا والآخرة وبين الحقوق المتعلقة بجرائمهم والمتمثلة في حق الله عز وجل وحق أولياء المقتولين أنفسهم وغيرهم ممن وقعت عليهم الاعتداءات والظلم والعدوان وحق المجتمع وولي الأمر المتمثل في المحافظة على الأمن وتحقيقه للجميع في الدولة المسلمة، كل هذا يأتي بيانه بإذن الله عز وجل لأنَّ اللَّغَطَ قد كَثُرَ وتَدَخَّلَتِ الأهواءُ والآراءُ المبنيةُ على الجهل والبعد عن كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وما تَمَّ ذِكْرُهُ سابقًا هو حول قتل المسلم لمسلمٍ مثله في الحالات العادية والمتعارف عليها، أما ما يتعلق بالأحداث الأخيرة فالكلام عنه في خطبة أخرى وإن كان هناك عوامل مشتركة في الأحكام والحقوق في الحالين فإنه يجب البيان والتوضيح حتى تتضح الرؤية الشرعية للجميع خاصة عندما دخلوا في مسائل شائكة يتداولونها في مجالسهم ومنتدياتهم وجميع لقاءاتهم وكتاباتهم وحواراتهم العلنية والسرية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5642)
الغلو في الدين والتطرف
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث, فرق منتسبة, محاسن الشريعة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
29/3/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الوسطية والاعتدال. 2- النهي عن الغلو في الدين. 3- تاريخ الغلاة في الإسلام. 4- مفاسد الغلو. 5- تعظيم قتل الأنفس المعصومة. 6- استغلال العلمانيين والمنافقين للأحداث في الإفساد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ الْغُلُوَّ والتَّطَرُّفَ والشُّذُوذَ موجود في المنتسبين لجميع الأديان، وليس ذلك منحصرًا ولا محصورًا في أهل الإسلام والمنتسبين له، ولا غرابةَ أن يُوجَدَ هذا الغلوُّ فيمن يتمسك بالإسلام على مَرِّ العصور إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، ولكن هل هذا من منهج الإسلام وتعاليمه في شيء؟!
لقد جاء الأمر بالتزام الوسطية والاعتدال في الأمور كلها في الدين الإسلامي الحنيف، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وجاء في آخر آيتين من سورة الحج معظم تعاليم الإسلام في صيغة الأمر للمسلمين في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 77، 78]. روى الإمام البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إنَّ هذا الدينَ يُسْرٌ، ولنْ يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه ـ وفي رواية: إلا هَزَمَهُ ـ، فَسَدِّدُوا، وقَارِبُوا، وأبشروا، واستعينوا بالْغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)) رواه البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان.
ومعلوم حديث النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله وكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فقال أحدهم بأنه سوف يصوم الدهر ولا يفطر أبدًا، وقال الآخر: سوف يقوم كل ليلة ولا ينام أبدًا، وقال الثالث بأنه لن يتزوج أبدًا، فأرشدهم رسول الله إلى المسلك القويم والمنهج الرشيد والذي هو من سنته وهديه السديد، ومن رغب عن ذلك فليس منه ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
ولذلك نهانا الله جل جلاله ورسوله محمد عن الغلو في الدين؛ لئلا نهلك كما هلك أهل الغلوّ ممن كان قبلنا، قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ)) رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي رحمهم الله، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)) رواه الإمام مسلم رحمه الله. قال الإمام النووي رحمه الله في بيان معنى الحديث: "أي: الْمُتَعَمِّقُونَ الْمُغَالُونَ الْمُتَجَاوِزُونَ الحدودَ في أقوالهم وأفعالهم".
لذلك يجب أن يتنبه من هو واقع في ذم المتمسكين بتعاليم الإسلام قولاً وعملاً واعتقادًا ويفرِّقوا بين هذه الفئة المتمسكة بالكتاب والسنة وبين المغالين المتعدين الحدود، فالفرق شاسع، ولستُ هنا بصدد التوسُّعِ في هذا الجانب ولكنه التنبيه لبني جلدتنا وخاصة أولئك الذين وجدوا في هذه الأحداث وفي غيرها على مَرِّ السنين مَرْتَعًا خصْبًا للطعن في المتمسكين بالكتاب والسنة.
أعود للقول بأن الخارجين عن منهج الإسلام موجودون من عهد رسول الله إلى قيام الساعة، فأشكالهم وأشباههم وأمثالهم موجودون عبر العصور، فأوَّلُهم ذو الْخُوَيْصِرَةِ الذي قال لرسول الله عند قَسْمِ غنائم حُنَيْن: اعْدِلْ يا محمد، فقال رسول الله : ((وَيْحَكَ! مَنْ يَعْدِل إذا لم يعدل رسولُ اللهِ؟!)) ثم قال قولته الشهيرة التي تصف تلك الطائفة التي يتكرر خروجُها في كل عَصْرٍ ومِصْرٍ، قال : ((يخرجُ مِنْ ضِئْضِئِ هذا أقوامٌ يَحْقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أَجْرًا لمن قتلهم يوم القيامة)) رواه البخاري، وورد في وصفهم أيضًا: ((يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُونَ أهلَ الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة)).
لذلك فإن الغلوَّ والتنطعَ والتشدّدَ في الدين الذي يورد المهالك ويوقع في الرَّدَى ويُلْحِقُ بالمسلمين أضرارًا عظيمة ومفاسد كبيرة ناتجٌ عن قلة العلم واتباع الهوى وعدم التلقي للعلم الشرعي من أهله العلماء الربانيين الذين يستنبطون ما أشكل على أولئك الجهال ومن لم يعلم ابتداءً كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83]، وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7].
فعندما رَكِبَ أولئك رُؤُوسَهُمْ واتبعوا أهواءَهم واتخذوا رؤوسًا جهالاً واقتنعوا بما يقولون وبما يفتونهم به ضلَّ السائلُ والمسؤولُ؛ لأنهم اتخذوا ظلامَ الليل وغفلةَ الناس ونَوْمَ الأعين وسيلةً لهم مع البعد عن العلماء والطعن فيهم وفي قيادات الأمة وطلبة العلم والقضاة وغيرهم، بل وصل الأمر إلى التكفير لمن ذُكر ولغيرهم من أهل القبلة، وعندها حملوا السلاح على المسلمين والكفار سواء المحاربين أو المسالمين أو المعاهدين وأهل الذمة لا يفرقون بين أحد، بل أَرْدَوْا أنفسَهم وأهلكوها وأَوْبَقُوها، ولم يعلموا لماذا ضَحِكَ عليهم المجرمون الآثِمُون الذين أوقعوهم في هذه المآزق التي أَلْبَسَتِ الإسلامَ وأهلَه لباسًا لا يليق به وطعنوا أهله طعنة لن يفيقوا منها ومن آثارها إلا بعد حين، لقد أساؤوا من حيث أرادوا الإحسان على حسب تأويلات شياطين الإنس والجن لهم، فلو أن لأحد المفجّرين لأنفسهم أدنى علم وعقل وبصيرة لمصيره وشناعة جريمته في الدنيا والآخرة لما أقدم على ذلك، ولكنَّ الْمُنَظِّرِينَ لهم وَعَدُوهُمْ بالجنة وسَاقُوا لهم الأحاديث في باب الجهاد في سبيل الله ولم يخبروهم عن الآيات والأحاديث في قتل الأنفسِ الْمُحَرَّمِ قَتْلُهَا وحتى حُرْمة قتل الإنسان لنفسه، وغَرَّرُوا بهم من أجل التخلص منهم بالموت لئلا تُمْسِكَ بأحدهم السلطاتُ الأمنيةُ فيدلُّوا على أولئك المجرمين المنحرفين عن تعاليم الإسلام وسماحته، وهذه نقطة مهمة يجب أن يعرفها الشباب المتهورون الذين يريدون الزَّجَّ بأنفسهم في مثل هذه العمليات الانتحارية الجهنّمية التي توردهم نار جهنم.
وإليهم وإلى المتعاطفين مع كل فكر منحرف، وإلى الذين يوردون الأمة المهالك، إليهم وإلى جميع المسلمين أسوق هذه الآيات والأحاديث؛ لعلها تجد آذانًا صاغية وقلوبًا واعيةً سليمةً مُتَحَرِّرَةً مُتَخَلِّصَةً من أسباب الدَّخَنِ والفساد أيًا كان في هذا الأمر والفعل الشنيع لأنفسهم أولاً قبل غيرهم، علمًا بأنني سوف أتعرض لها إن شاء الله بمزيد إيضاح وبيان عند ذكر الأسباب والدوافع والعلاج لظاهرة هذا الفكر التكفيري الذي أساء للإسلام والمسلمين في كل مكان:
قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 29-31]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَجَأُ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسمّ فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو متردٍّ في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة، وقال رسول الله : ((من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة)) رواه الجماعة.
ولنتأمل هذا الحديث لمن كان مع الرسول ومع المجاهدين في سبيل الله وبه يتّضحُ ويزولُ الرَّانُ والشكوكُ التي تساور بعض النفوس:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رجلاً من أعظم المسلمين غَنَاءً عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي ، فَنَظَرَ رسولُ الله فقال: ((من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا)) ، فاتّبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدّ الناس على المشركين حتى جُرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة ـ ذؤابة ـ سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه... وذكر الحديث إلى أن قال: قال رسول الله : ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)) ، وورد بعدة روايات، وفي آخر رواية أبي هريرة: ((إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر)) هذا اللفظ للبخاري، وروى الحديثين البخاريُّ ومسلمٌ رحمهما الله تعالى.
هذا لمن قتلوا أنفسَهم وفَجَّرُوها، أما عن قتلهم لأي شخص من المسلمين أو المعاهدين فقد قال الله عز شأنه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151]، وفي سورة الإسراء آية 33 قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ، وفي صفات عباد الرحمن التي وردت في سورة الفرقان قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: 68، 69]، وقال عن قتل المعاهد: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري واللفظ له والنسائي إلا أنه قال: ((من قتل قتيلاً من أهل الذمة)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ألا من قتل نفسًا مُعَاهَدَةً له ذِمَّةُ الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا)) رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له وقال: "حديث حسن صحيح"، وقال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري والحاكم رحمهما الله تعالى.
وإن كان للمنحرفين في أفعالهم وعقائدهم كلامٌ باطلٌ حولَ الدمِ الحرامِ والقتل بحقّ وبغير حق وهو الذي أوردهم المهالكَ والرَّدَى، ذلك جزاءٌ عامٌّ لِمَنْ فَجَّرَ نفسَه وانْتَحَرَ في هذه العمليات وأمثالها وقد قَدَّمَ نفسَه إلى ما أقدمها عليه، أما مَنْ عُثِرَ عليه حَيًّا وأَمْكَنَ الْقَبْضُ عليه فَجَزَاؤُهُ قولُ الله عز وجل: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 33، 34].
وليتنبه المسلمون عمومًا والمنحرفون والمجرمون خصوصًا إلى عظيمِ عَفْوِ اللهِ وقَبُولِهِ توبةَ التائب مهما كان الذنب في التعقيب الإلهي بقبول التوبة بشروطها بعد هذه الآية والآيات السابق ذكرها لأي جريمة كانت، فليغتنمِ التوبةَ مَنْ تُسَوِّلُ له نفسُه أَيَّ جريمةٍ كهذه، والتوبة واجبة على عموم المسلمين من كل الذنوب، وباب التوبة مفتوح، ويتوب الله على من تاب، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: ففي إحدى الليالي التي كان فيها رسول الله معتكفًا في مسجده في رمضان جاءته زوجته أم المؤمنين صفية رضي الله عنها لتجلس معه وتؤانسه وتحدثه ساعة في ليلتها، ثم خرج معها رسول الله ليعيدها إلى بيتها، فرآه رجلان من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فأسرعا في المشي، فقال رسول الله : ((على رِسْلكما؛ إنها صَفِيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ)) ، قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال رسول الله : ((إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئًا)) أو قال: ((شَرًّا)).
فيُستفاد من هذا التوجيه والتشريع النبوي أنه ينبغي للمسلم إذا كان في موضع تُهْمَةٍ أو شك أو مكان مرِيبٍ أن يدفع عن نفسه ذلك الظن الخاطئ إن كان صحيحًا ما يقوله أو موقفه الذي يسير فيه؛ لئلا تُثار حوله الشكوك ويُظن به الظنون، علمًا بأنه يجب على الطرف الآخر وجوبًا لا استحبابًا أن يجتنب كثيرًا من الظنون والأوهام، كما يجب عليه التَّبَيُّنُ والتَّثبُّتُ في جميع الأمور، خاصة إذا نُقلت عن طريق الفاسقين.
هذا في حال الظن الآثم بالفرد، فما بالنا بالجماعة أو بالأمة المسلمة عمومًا؟! فلا شَكَّ أَنَّ الأمْرَ أَهَمُّ وأعظمُ، خاصة إذا تَمَّ التعرضُ لما يمسُّ الإسلامَ وثوابتَه وقواعدَه من قريب أو بعيد، وهذا الهجومُ الشَّرِسُ موجودٌ عبر العصور على الإسلام وأهله، ويجب التَّصَدِّي له خاصة إذا تكالب عليهم الأعداء من الداخل والخارج، ولا غرابة في شَنِّ الحرب على الإسلام وأهله من قِبَلِ الكفار وخاصة اليهود والنصارى، فلن يهدأ لهم بال ولن يَقرَّ لهم قرار إلا بسعيهم لإبعاد المسلمين عن دينهم وتعاليمه السمحة إذا لم يستطيعوا إدخالهم في اليهودية والنصرانية كما قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120].
لذلك فَغَيْرُ مُسْتَغْرَبٍ من الكفار الحرب التي لا هَوَادَةَ فيها على الإسلام والمسلمين، ولكن الغريب في الأمر هو العدو الداخلي الذي يَنْخُرُ في جسم الأمة المسلمة طوال القرون عن طريق المنافقين والفاسقين الذين يَتَحَيَّنُونَ الْفُرصَ ويستغلُّون الأزمات لإشعال الفتن وتَأْلِيبِ الناس مؤمنهم وكافرهم على الإسلام وأهله كما هو الحال عند حصول أي حدث وفتنة وكما حصل في التفجيرات المتكررة حيث أظهروا مَكْنُونَ أنفسِهم وقليلاً مما يجول بخواطرهم وصَبُّوا جَامَ غضبِهم عبر الوسائل الإعلامية المختلفة المسموعة والمرئية والمقروءة وفَرَّغُوا بعضَ ما في صدورهم على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأئمة والخطباء وجماعات تحفيظ القرآن الكريم والهيئات الإغاثية والمناهج والمعلمين والوهابية وعلى الدولة السعودية التي يتفيؤون تحت ظلال الأمن فيها. فوجدت هذه الفئة مرتعًا خصبًا للأحداث الراهنة وفرصة سانحة للوصول إلى أهداف يخططون لها كما تخطط تلك الفئات الآثمة، وأوصافهم كثيرة في القرآن والسنة ويكفي فيهم قول الله عز وجل: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30].
إن هذه الدولة السعودية قامت على كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وستظل بإذن الله عز وجل، وسينصرها الله ما دامت متمسكة ومطبقة لتعاليم الإسلام رغم اتساع رقعتها وترامي أطرافها وتكالب الأمم عليها؛ لأنه لا عزة لها ولا بقاء إلا بتطبيق وتحكيم القرآن الكريم والسنة المطهرة، وحيث قد سبق العهد والاتفاق على هذا بين الإماميْن الجليليْن من آل الشيخ وآل سعود، وقد جاء ذلك عدة مرات على لسان عدد من أصحاب السمو الأمراء، ولقد سمعنا الردَّ الشافيَ الذي كَبَتَ أهل الزيغ والفساد وأثلج صدور المؤمنين، لذلك أقول بأن تلك الشبكة الإرهابية ليست ممن قال فيها الأفَّاكُونَ ما قالوا من أذناب اليهود والنصارى، ليسوا ممن أفرغوا سمومهم فيهم وصبروا على شرورهم سنين طويلة، ليسوا ممن ألصقوا بهم التُّهَمَ وألبسوهم زورًا وبهتانًا لباسًا ليس لهم، لقد تخبطوا خبط عشواء وأصبحوا كحاطب ليل وغمزوا ولمزوا وقالوا ما سوف يحاسبون عليه يوم القيامة، وسوف يندمون عليه في الدنيا قبل الآخرة إن كان لديهم أدنى عقل وبصيرة.
لذلك أقول: أَرْبِعُوا على أنفسكم، فتلك الشبكة التي وصل شَرُّهَا إلى عدد من الدول وليس السعودية فقط هي من جماعة التكفير والهجرة ومن ينسبون أنفسهم للجهاد، وليسوا مِمَّنْ عَنَيْتُمُوهُمْ واتخذتموهم سُلَّمًا للوصول لانحرافكم ومخططاتكم الشريرة.
فكلتا الفئتين غايةٌ في التطرف والانحراف الفكري البعيد عن وسطية الإسلام وتعاليمه السمحة ومنهجه القويم المعتدل، وطريقُ ومسلكُ الفريقين مذمومٌ غيرُ محمودٍ، بل يحمل الشرَّ لهم ولغيرهم وللمجتمع بأكمله وللناس جميعًا.
وفي خطبة أخرى إن شاء الله يكون الكلام حول نشأة تلك الجماعة والأسباب والدوافع والأهداف والعلاج لهذه الأفكار المنحرفة والضالة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5643)
التفجيرات وارتباطها بجماعة التكفير
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث, فرق منتسبة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
6/4/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تباين الآراء حول دوافع التفجيرات. 2- التحذير من الخوض في الأحداث بجهل وسوء نية. 3- نشأة الخوارج وجذورها في الماضي والحاضر. 4- أصول الجماعات التكفيرية ومذاهبها. 5- وجوب التثبت في إصدار الأحكام. 6- خطورة منافقي العصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ففي الخطبة السابقة تمّ الكلام بإيجاز عن الغلوّ والتّطرّف والوسطية والاعتدال في الإسلام، ولقد خاض الناس فيما حصل أخيرًا من تفجيرات وأعمال إجرامية في الرياض، وكلٌّ يَحْكُمُ بناءً على تصوراته ومعلوماته التي أُشْرِبها قلبه وعقله في أي اتجاه كان، وقليل من الناس من قارب التشخيص، ولكنه قد التبست عليهم واختلطت بعض الأمور، وهذه القِلَّةُ وبعد شَتَّى المحاولات لم تستطع الوصول إلى الحقيقة، لذلك فإن وصفها للعلاج كوصف الطبيب الذي لم يُوَفَّقْ لتشخيص المرض ووصفه للدواء الذي لا يستفيد منه المريض الاستفادة المطلوبة إلا في جوانب قليلة وعبارة عن مُهَدِّئَاتٍ فقط حيثُ تنشطُ الجراثيمُ والفيروساتُ مرة ثانية حتى يَسْتَفْحِلَ المرضُ أكثر مما كان عليه ويَسْرِيَ ويَسْتَشْرِيَ في جسم المريض بقوة وشَرَاسَةٍ بعد أنْ أَنْهَكَ مناعة الجسم طوال فترة ليست بالقصيرة رغم الصراع والمقاومة الجسمية التي لم تجد مساعدة من الوصفات الطبية التي لم تُصِبْ أهدافها؛ لأنها لم تكن مبنية على التشخيص السليم؛ لذلك فالعلاج والدواء الموصوف لهذا المريض بهذه الطريقة المتخبطة والتَّخَرُّصَاتِ في معرفة حقيقة المرض ابتداءً تكون غير مفيدة، بل تزيد الأمر سوءًا وتعقيدًا.
هذا في المرض الجسمي الواضح أمام كثير من الأطباء الدارسين للطب والذين بين أيديهم الأجهزة التي تكشف كثيرًا من التخمينات والاشتباهات التي يَرْكَنُونَ إليها في كثير من تشخيصهم للأمراض، إذًا فما بالنا في هذا الفكر التكفيري الذي لم يفهم حقيقةَ المنتمين إليه كثيرٌ من الجماعات الإسلامية المتخصصة في سِرِّيَتِهَا والتي قد يفهمُ فِئَامٌ من أفرادها بعضَ حقائقِ تلك الجماعة؟! إذا كان هؤلاء لم يستطيعوا إلى هذا اليوم الذي أُلْقِي فيه هذه الخطبةَ أن يأتوا على جميع الأمور المتشابكة لتلك الجماعة وإلى العلاج الحقيقي المبني على الطرح السليم والصدق والصراحة التي تحل الإشكالات والأفكار الهدامة من جميع الجوانب وبشموليةٍ متناهيةٍ ونظرٍ بعيدٍ متأملٍ للحلول المستقبلية وليس من زوايا ضيقة، إذا كان هذا إلى هذه اللحظة لم يحصل لأهل التخصص القريبين لفهم أولئك فكيف بمن يخوض في أمر أولئك وهم من عامة الناس ولم يعرفوا شيئًا أصلاً عن تلك الجماعة؟! إنهم بلا شك سوف يَضُرُّونَ أنفسَهم أولاً ويضرون البلاد ومن ثم العباد على حد سواءٍ؛ لأنهم لا يعرفون أصلاً حقيقة المرض ولم يدرسوا شيئًا عن الأمراض وليس لديهم أي معلومات في الطب؛ لذلك فإن وصفهم للعلاج إنما هو سعي وإسراع للقضاء على المريض وليس لإنقاذ حياته.
لذلك فالواجب على عامة الناس عدم الخوض فيما لا يعلمون حقيقته، وواجب أيضًا على الذين يصطادون في الماء الْعَكِرِ ويستغلون الفرص لِنَفْثِ سمومهم وهم أشدّ خطرًا من هذه الجماعة التكفيرية، ومعلوم مواقفهم في سنوات قد خَلَتْ لأفعالهم الشنيعة التي أحبطها الله عزّ وجل وحيث إنهم خفافيشُ ظلامٍ وكالنَّعَامِ يَدُسُّونَ رؤوسَهم في الرمال؛ لذلك لَجَؤُوا إلى طريقةٍ أَخْبَثَ من طريقة أولئك المتهورين، وتلك السياسة التي استخدموها مبنية على النَفَس الطويل للوصول إلى أهدافهم الخبيثة ومكرهم السَّيِّئِ، فالواجب عليهم أن يتقوا الله عزَّ وجلَّ، ويراجعوا أنفسهم، ويتمسكوا بتعاليم الإسلام، فهو خير لهم في عاجل أمرهم وآجله، وواجب أيضًا على المنتمين لجماعات أخرى أن يتّقوا الله سبحانه وتعالى، ويقولوا الحق، ولا يَرْمُوا غيرَهم جُزَافًا بناءً على تَصْفِيَةِ حساباتٍ سابقةٍ عندما حَانَتِ الفُرْصَةُ لإلقاء التُّهم على غيرهم ومن ثمّ التنّصل من المسؤوليات والعواقب الوخيمة من جراء هذه التصرفات التي لم تكن مبنية على العدل والأمانة الحقّة، وعليهم أن لا تحملهم الكراهية والبغضاء لغيرهم على عدم قول كلمة الحق، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أعود للقول بأن الخروج عن تعاليم الإسلام والابتعاد عن سماحته وعدله وإنصافه موجود من صدر الإسلام ومن عهد رسول الله وصحابته الكرام وإلى أن تقوم الساعة، وقد سبق الحديث عن ذي الخويصرة الذي قال ما قال لرسول الله ، ثم قال رسول الله قوله الذي يجب أن لاّ يَغِيبَ عَنَّا، وهو قوله : ((يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة)) رواه البخاري.
إذًا فالخوارج موجودون على مر الزمان، ولكن بهذه الصفة وهذا التنظيم وهذه الأفكار التي جُمِعَتْ من أحزاب وجماعات أخرى وتَبَلْوَرَتْ بهذه الكيفية المعاصرة حيث لم يعرف حقيقتَهم من البشر إلا من كان في صفوفهم ثم هداه الله إلى الطريق القويم وسلك سبيل المؤمنين الموحدين، وقد كتب بعضهم عن ذلك ولكن لم يصل ما كتبه إلى كثير من المهتمين بهذه الأمور؛ لذلك فقد جهلوا كثيرًا من مخططاتهم الشيطانية الجهنمية، فمن باب أولى أن لاّ يعرف عنهم عَامَّةُ الناسِ شيئًا يُذْكَر، وتلك الجماعة نشأت في إحدى الدول العربية قبل أكثر من خمسين سنة من الآن بعد أن ذاق مجموعاتٌ منهم أصنافَ التعذيبِ في تلك الدولة على أيدي الجهات الأمنية، ومِنْ ثَمَّ خرجوا بتصورات عن الحكام والمجتمع وعن الفساد الأخلاقي والمالي والإداري والبعد عن تعاليم الإسلام وعن الظلم في جميع الاتجاهات، وكذلك بُعْد علماء تلك الدولة عنهم واقترابهم من السلطة ومداهنتهم في دين الله والإفتاء بما يريده الطغاة؛ مما أصاب تلك الجماعةَ الناشئةَ التي تغار على الإسلام وأهله أصابهم بالإحباط، ثم كان دليل أحدهم كتابه الذي بين يديه، وأصبح كل منهم يُفْتِي صاحبَه ويفسّر ويتكلم في النصوص الشرعية من القرآن والسنة حسب فهمه السقيم؛ لأنهم ابتعدوا عن العلماء واعتزلوهم واعتزلوا المجتمع الواقع في المعاصي الظاهرة من الخمور والسفور والبغاء، فَسَمَّوْا أنفسَهم بجماعة الْهِجْرَةِ لِهَجْرِهِمْ للمعاصي وأهلها، ومن ثمّ أُطْلِقَ عليهم إلى جانب ذلك جماعةُ التكفير؛ لأنهم يُكَفِّرُونَ المسلمين بسبب المعاصي، ثم أَتَوْا للحج وسَرَتْ أفكارُهم فيمن يلتقي بهم في موسم الحج من كثير من البلاد الإسلامية، ويمكثون عدة أشهر في مكة والمدينة وما جاورهما، وقد يجلس بعضهم لما نعلمه في السنين الماضية لعدم التطبيق للأنظمة الحالية في السنوات السابقة، وانتشرت هذه الأفكار بطريقة سِرِّيَةٍ ومُحكمةٍ في الدول التي لا تُقِرُّ الأحزابَ والطوائفَ، أما في البلاد التي تَدَّعِي الحريةَ وتَعَدُّد الأحزاب فقد برزت ولكن بطرق مختلفة حسب طبيعة كل بلد، حيث أخذوا من الجماعات والأحزاب التي قد سبقتهم كُلَّ ما يوافق أهواءَهم وتخطيطهم، فأخذوا السِّرِّيَّةَ من تلك الجماعة، والاهتمامَ بالسنة والأحاديث من الجماعة الأخرى، وحُبَّ القتال من ذلك الحزب الذي أخذه من عموم الآيات والأحاديث دون تدقيق ومعرفة للأحكام المتعلقة به.
وباعتزالهم المجتمع والعلماء وجهلهم بقواعد الشريعة الإسلامية أضل بعضهم بعضًا وسَرَى شَرُّهُمْ بين الشباب المبتدئين في جميع أنحاء العالم، حيث يسارعون إلى الشباب المبتدئ المتديّن لأنه لا يعرف شيئًا كثيرًا عن حقيقة الإسلام وتعاليمه السمحة، لذلك فهم سَرِيعُو الاقتناع بما يُقَالُ لهم، وهذا من أهم ما يعملونه مع الشباب الْمُغَرَّرِ بهم سواء كانوا متمسكين قبل وقوعهم بين أيديهم أو كانوا خلاف ذلك والتزموا بمنهجهم لأنهم لا يَتْعَبُونَ مع هذه الأصناف التي لا تفقه شيئًا من دين الإسلام، أما من تعدّى عمره الخامسة والعشرين أو الثلاثين ولو كان متدينًا ومتمسكًا بتعاليم الإسلام فلا يقتربون منه ولا يناقشونه في شيء بل يحذِّرُون أتباعَهم منه لئلا يُضِلَّهُمْ على حَدِّ زعمهم ويضعون فيه من العيوب والأقوال والاتهامات ما الله به عليم، وذلك من أجل إقناع أتباعهم للابتعاد عن أي شخص لا ينتمي إلى حزبهم التكفيري، حتى أوهموا أولئك الشباب بأنهم هم المعصومون وغيرهم كفار، وكأن الجنة والنار بأيديهم يُدْخِلُونَ فيها من يشاؤون، عياذًا بالله من ذلك الفكر السيئ والاعتقاد الباطل والأوهام الشيطانية، فهم يُكَفِّرُون حُكَّامَ المسلمين على الإطلاق دون تفصيل في ذلك، ويكفِّرُون العلماءَ لأنهم لم يكفّروا الحكام، ويكفّرون كل من ارتكب من المسلمين معصية وكبيرة، إذًا مذهبُهم مذهبُ الخوارجِ الذين يكفّرون بالمعاصي، وعندهم يُخَلَّدُ العاصي في النار إذا أَصَرَّ على المعصية ولم يَسْتَحِلَّهَا، وبذلك يِسْتَبِيحُونَ دَمَهُ وسَبْيَ ذُرِّيَتِهِ وأزواجه وسَلْبَ ماله، ويطلقون الكفر بكل بساطة على العلماء والحكام وعامة المسلمين ولا يجدون في ذلك أدنى حرج مع علم كثير منهم بخطورة ذلك والوعيد الشديد الوارد في هذا، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((أيما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)) رواه البخاري، وعنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((أيما رجل كفّر رجلاً فأحدهما كافر)) رواه أحمد، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 94].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وآله وصحبه.
أما بعد: فمنذ خمس وعشرين سنة تقريبًا وجماعة التكفير مُكَوَّنَةٌ من شبكة عالمية وليس من أبناء هذه البلاد فقط، تقوم بالاغتيالات والتفجيرات في الدول الإسلامية وغيرها وليس في السعودية فقط، فإذا كانوا قد قاموا بالتفجير في الرياض والخبر أو مصر أو غيرها من الدول سواء بطريقة تنفيذية جماعية أو فردية انتحارية أو هُرُوبِيَّةٍ، فإذا علمنا أن الذين يقومون بهذه الجرائم هم من تلك الجماعة التكفيرية التي تتسمى بالجهاد الإسلامي أو الهجرة أو الجهاد أو القاعدة أو غير ذلك من الأسماء التي لا تخرجهم ولا تبعدهم عن مسمى الخوارج أو جماعة التكفير، فهل يجوز لمسلم بعد أن علم حقيقة من قام بذلك أنْ يَتَّهِمَ الوهابيين عمومًا بما فيهم الدولة الإسلامية السعودية أو السلفيين أو الإخوان المسلمين أو غيرهم من الجماعات السرية أو العلنية؟! وإن كان هناك التقاء فيما هو من ثوابت هذا الدين الإسلامي وفق الضوابط الشرعية مثل وجوب تحكيم الكتاب والسنة أو الجهاد في سبيل الله بضوابطه وشروطه وليس على الفوضى التي يرتكبها أولئك المحسوبون على الإسلام، إذا كان لا يجوز لمسلم أن ينساق ويسير في إصدار الأحكام في مثل هذه الأحداث خلف النَّاعِقِينَ الذين أخطؤوا في تصوراتهم وبَنَوْا على ذلك أحكامًا واتهموا مجتمعهم وقيادتهم وعلماءهم في هذه البلاد الطاهرة حتى فتحوا أبواب الشرّ للأعداء ليحملوا حملتهم العدائية على بلاد الحرمين وحكامها وعلمائها وطلبة العلم فيها، ولذلك فهم لا يَقِلُّونَ خطرًا عن جماعة التكفير في هَدْمِ كَيَانِ هذه الأمة المسلمة عمومًا وفي معقل الإسلام خصوصًا، فهم قد قاموا قبل جماعة التكفير منذ عشرات السنين بالمحاولة الانقلابية الفاشلة، وبعدها وطوال هذه السنين ولن يزالوا مستمرين على استعمال النَفَس الطويل لتنفيذ مخططاتهم، ولا أَدَلَّ على ذلك من استخدامهم الأساليب الخبيثة والماكرة عندما تحين الفرص، وقد حصل لهم ذلك في بداية هذه الأحداث الأخيرة، ووقت اعتداء العراق على الكويت، وبعد التفجيرات في أمريكا، عندما قاموا من خلال الوسائل الإعلامية المختلفة بالتركيز على هذه البلاد التي ينتمون إليها ويدّعون كذبًا وزورًا وبهتانًا بأنهم يموتون حبًّا لها ووطنيةً مُزَيَّفَةً من أجل الوصول لأغراضهم وأهدافهم الخبيثة التي يريدون من خلالها الحرية البهيمية، وما نُشِرَ في الصحف التي يقومون عليها ويديرونها أَوْ لهم تأثير فيها يشير إلى الأفكار التي يحملونها؛ لذلك يجب على الجميع الانتباه لهذا العدو الداخلي الذي ينخر في عظام وجسم هذه الدولة وعقيدتها السليمة كما هو الحال بالنسبة للعدو الخارجي من الكفار ولتلك الجماعة الضالة والمنحرفة عن تعاليم الإسلام، فكل هؤلاء أعداء يجب التنبه لهم ولما يقومون به وأَخْذ الحيطة والحذر، وليس في حال الحدث فقط، وإنما طوال ساعات الليل والنهار وعلى مرّ السنين والأعوام المقبلة.
فبعد هذا التوضيح والبيان حول نشأتهم وتاريخهم المعاصر ومعرفة أنهم من جنسيات متعددة وليسوا من السعودية فقط وقد قاموا بأعمال مماثلة في كثير من دولهم ودول العالم أيضًا هل يجوز لمسلم بعد هذا أن يتّهم بهذه الأعمال الإجرامية أيَّ جماعة أو حزب معين غير أولئك؟! هل يجوز أن يتهم بها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو جماعات ومدارس تحفيظ القرآن الكريم أو المناهج في السعودية التي خرّجت الملايين طوال السنين الماضية ولم تخرّج هذه الفئات الضالة؟! أو هل يجوز أن يتّهموا علماء السعودية أو الوهابيين عمومًا؟! هل يجوز لمسلم وبهذه السهولة والبساطة أن يرمي الأبرياء أو يعمل هذه الأعمال الإجرامية أو غيرها ثم يَرْمي بذلك البرآء ويتهم بذلك غيره؟! هل يجوز أن يُحَمَّلَ إنسانٌ أوزارَ غيرِهِ أو ما اقترفته يَدَا غيره مهما كان قريبًا منه أو بعيدًا عنه؟! هل يجوز ذلك في الإسلام؟! كلاّ، فهذا قول الله عز وجل: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]، وقوله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وقوله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء: 111، 112]، وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وقوله جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10].
فعلينا أن نتقي الله عز وجل في جميع أمورنا ونَكُونَ عَوَامِلَ بناءٍ للإسلام ولهذه البلاد الطاهرة وغيرها من بلاد الإسلام، وأن لاَّ نكونَ مَعَاوِلَ هَدْمٍ وتدميرٍ لنا وللإسلام والمسلمين.
وفي خطب قادمة إن شاء الله تعالى يكون الكلام عن الأسباب والدوافع لتلك الأعمال الإجرامية والعلاج لهذه الأوضاع، والله يتولى الصالحين المؤمنين والمتقين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله...
(1/5644)
جماعة التكفير: الأسباب والدوافع والعلاج
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي, فرق منتسبة, مذاهب فكرية معاصرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
13/4/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصدر التفجيرات في البلاد الإسلامية. 2- منهج أهل السنة في التكفير. 3- دوافع العمليات التخريبية وأسبابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن أجل إِزَالَةِ ما عَلِقَ بكثير من العقول حول مصدر الأحداث الأخيرة في السعودية والمغرب وغيرها فقد تمّ بيان ذلك وأنه من شبكة عالمية متعارف على مسماها الاصطلاحي بالتكفيرية وإن أطلقوا على أنفسهم أو أطلق ذلك غيرهم اسْمَ: الجهاد أو الجهاد الإسلامي أو الهجرة أو القاعدة أو أي اسم آخر، فهم من هذه المنظومة، وتَبَيَّنَ أيضًا بأنه لا علاقة للأحزاب السريّة الأخرى مثل الإخوان المسلمين أو السلفية أو تلك الجماعة غير السريّة وهي علنية ويلصقون بها التّهم ويجعلونها شمَّاعة يُعَلِّقُون عليها كل أخطاء الجماعات التي تنتمي للإسلام، تلك الجماعة المظلومة التي ينتمي إليها أكثر المسلمين اليوم ولله الحمد والمنة هم من أهل السنة والجماعة والتي يَصِفُهَا الأعداءُ من الكفار أو المنتسبين للإسلام يُسَمُّونَهَا بالوهَّابِيَّةِ أو السلفية الوهّابيّة، وَلْيُسَمُّونَهَا ما شَاؤُوا، ولها الْفَخْرُ والاعتزازُ بأنها تقوم على كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وتنتمي لدولةٍ فريدةٍ وقيادةٍ حكيمةٍ طَبَّقَتْ أَحْكَامَ الإسلام حتى أصبحت مع اتساع رقعتها وتَرَامِي أطرافها مَضْرِبَ المثل في الأمن والأمان ورغد العيش والطمأنينة وراحة البال وتأدية شعائر الإسلام في جَوٍّ رُوحِيٍّ مُتَمَيِّزٍ بعيدٍ عن المذاهب والطوائف والأحزاب العلنية وفوضى الشوارع والمظاهرات التي لم تَجْلبْ إلا كلَّ شرٍّ لتلك البلاد وأهلها. ولا يعرف قَدْرَ هذه النعم التي ننعم بها في هذه البلاد المباركة إلا من عاش ضدّها، أو تتبّع أخبار تلك البلاد ونظر في حال أهلها بنظرٍ ثاقبٍ وبصيرةٍ مُتَأَلِّقَةٍ ، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].
ويتّضح أيضًا بأن تلك الجرائم وذلك العدوان الآثم لا علاقة للمؤسسات الدينية في السعودية والمناهج والجمعيات الخيرية به، لا علاقة لها بتلك الأعمال من قريب أو بعيد، بل إن تلك الجماعة التكفيرية تُكَفِّر حكَّام هذا البلد وقادتَهُ وعلماءَهُ والأئمةَ والخطباءَ وطلبةَ العلمِ وكلَّ مسلمٍ ليس على منهجهم وطريقتهم وفهمهم السقيم للجهاد والتعامل مع الكفار وأمور أخرى، فإذا كانت هذه المنظومة من المسلمين من القادة والعلماء وعامة المسلمين كفارًا في نظر جماعة التكفير على حَدِّ زعمهم واعتقادهم الباطل وضلالهم المبين، إذا كان الجميع كذلك فهل لأَحَدٍ عَلاقَةٌ بتلك الفئة الضالة الْمُتَخَبِّطَةِ في أفعالها الْمَشِينَةِ التي أساءت للإسلام والمسلمين؟!
إن جميع المسلمين باختلاف أحزابهم وطوائفهم لا يقومون بتكفير أحد من المسلمين مثل الذي قام به ويقوم المنتسبون لجماعة التكفير على اختلاف مسمياتهم أو الخوارج في القديم والحديث الذين يكفِّرون المسلمين بالمعاصي، ولا يُقْدِمُ أَيُّ مسلم على تكفير هذه الفئة الضالة الآثمة لأنها تنتسب للإسلام ولا تَخْرُجُ إلا بدليلٍ واضحٍ بَيِّنٍ، أما ما قاموا به أو يقوم به أحدهم فهو إِجْرَامٌ وعُدْوَانٌ وظلم ومحاربة لله ورسوله وسَعْيٌ في الأرض بالفساد والإفساد، يُطَبَّقُ على مَنْ يُعْثَرُ عليه حَيًّا ويُقْبَضُ عليه قبل أن يتوبَ يُطَبَّقُ عليه حُكْمُ اللهِ عز وجل في محكم القرآن الكريم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33]، وأمّا مَنْ سَلَّمَ نفسه أو تاب قبل أنْ تَتَمَكَّنَ الجهاتُ المسؤولةُ منه فإنَّ الحكمَ واضحٌ في كتاب الله جل جلاله في الآية التي تلي هذه الآية السابقة مباشرة وهي قول الله عز وجل: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34]. أما من انتحر وقضى على نفسه وغيره في تلك الجرائم وأمثالها أو قتل معاهدًا فقد سمعتم في خطبة سابقة الدليل من القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة على حرمة أعمالهم هذه وسوء عاقبتهم في الآخرة.
إذا اتضح هذا جليًّا إلى جانب معرفة بلاد المنشأ لتلك الجماعة وإلى من يحتضنها أو يحميها فيما سبق وحاليًا في بلاد الكفر حيث يتمتع المحامون لهم والمنتمون إليهم يتمتعون بكل حرية وحماية وهم شوكة في حلوق أهل هذه البلاد وحكامها وعلمائها منذ سنين طويلة وإلى الآن وما بعد الآن، إذا عُلم ذلك فهل يبقى أدنى شك لدى أي إنسان له ذرة عقل وإنصاف بأن علماء السعودية ومناهجها وهيئاتها ومؤسساتها الدينية والخيرية ليس لها أي علاقة من قريب أو بعيد بتلك المنظمات الإرهابية التي شَوَّهَتْ سُمْعَةَ الإسلامِ والمسلمين؟! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور: 16].
أعود للقول بأن الأسباب والدوافع لتلك الأعمال وقبلها قيام تلك الجماعة وغيرها والانحرافات عن وسطية الإسلام هي أسباب ودوافع داخلية في بلد النشأة، ومشتركة داخلية أيضًا في البلاد العربية والإسلامية، وخارجية من قبل الكفار في جميع أنحاء العالم، وهذه الخارجية حديثة النشأة حيث كثرت بسبب ممارسات الكفار والْكَيْلِ بِمِكْيَالَيْنِ والظلم الواضح للتعامل مع المسلمين دولاً وشعوبًا وأقليات مُضْطَهَدَة في بلاد الكفر. إن الأسباب والدوافع لهذه الممارسات تَبْدُو مُبَرَّرَةً لأي مسلم، ولكنها غيرُ مُوَفَّقَةٍ وغيرُ مُسَدَّدَةٍ لأنها خرجت عن الضوابط الشرعية مهما كان دافع الإخلاص وراءها، ولكنها لم تُوَفَّقْ للشرط الثاني وهو الصواب على منهج رسول الله ، فالسبب الأول منذ عشرات السنين يرجع إلى ما تعرّض له بعض الدعاة والمصلحين من المسلمين في ذلك البلد العربي الإفريقيّ الأكثر سكانًا من ألوان التعذيب والتنكيل في السجون العسكرية والأمنية على اختلافها والمضايقات ومحاربة الإسلام علنًا والهجوم عليه وعلى المسلمين بكل شراسة بل الدعوة العلنية للإباحية والدعارة والسفور والخمور وشتى أنواع الفساد والتحلل الأخلاقي، إلى جانب الظلم بأنواعه والفساد الإداري والمالي وغير ذلك من المنكرات التي أثّرت في تلك الفئة في ذلك الحين وقامت غَيْرَةً لله على ما انْتُهِكَ من جرائمَ وآثامٍ وبُعْدٍ عن تطبيق أحكام الله عز وجل في ذلك البلد العربي وفي غيره، وَرَدَّةُ الفعل هذه والغيرة الإسلامية خصلة حميدة لو أنها لقيت الرعاية من قبل العلماء في ذلك البلد وغيره من بلاد المسلمين.
وهذا هو السبب الثاني، وهو بُعْدُ العلماء عن تلك الفئة وبُعْدُهُمْ واعتزالُهم للعلماء ولذلك المجتمع حتى هجروهم وهجروا المعاصي وسمّوا أنفسهم بجماعة الهجرة وأضاف الناس لهم التكفير فأصبحوا يُعرفون هناك بجماعة التكفير والهجرة، فعدم احتواء العلماء لهم لشعورهم بالْفَوْقِيَّةِ وعدم إدراك العواقب وقُرْبِهِمْ من السلطات الحاكمة وتَخَوُّفِهِمْ منهم ومن بَطْشِهِمْ مع رِضا بعضهم بالدَّنِيَّةِ في الدين، وهذا أَمْرٌ مُهِمٌّ جدًا حيث ذاق العالمُ بأسره وَيْلاتِ عدم الاكتراث والاعتناء بتلك الفئة الناشئة التي تحمل كثيرًا من المفاهيم الخاطئة لبعض تعاليم الإسلام، حيث اعتمدوا في عزلتهم على ما يقع بين أيديهم من كتبٍ يقتنعون بها وبقراءتها وما فيها، وقديمًا قيل: من كان دليله كتابه كان خَطَؤه أكثر من صوابه.
وهذا السبب الثاني الذي وقعت فيه تلك الجماعة وغيرها من الجماعات السريّة في كل بقاع الأرض بدون استثناء بسبب التنافر بين الطرفين: العلماء وتلك الجماعات أَوْجَدَ فَجْوَةً وهُوَّةً سحيقة أفرزت هذه الآثار السيئة التي نشاهدها وما خفي كان أعظم، والأيام القادمة حُبَالَى بِنِتَاجِ هذه الأفكار والتنافر بين الطرفين الذي كان للعلماء فيه السَّهْمُ الأكبرُ من حيث يشعرون أو لا يشعرون، رضي من رضي وغضب من غضب؛ لأن كثيرًا من العلماء في كل البلاد الإسلامية لا يؤدون دورهم والواجب عليهم نحو المسلمين عمومًا وهذه الفئة وأمثالها خصوصًا لشعور كثير منهم بالفوقية فعلاً وقولاً، فعلاً حيث لا يستطيع أحدٌ الوصولَ إليهم إلا عن طريق الواسطات لأمرٍ من الأمور أو مسألة من المسائل فضلاً عن معالجة قضايا الشباب وهذه الفئات المتعطشة لمعرفة سماحة الإسلام وحقائقه الناصعة، وقولاً حيث لا تسمع من كثير منهم في الوسائل الإعلامية إلا كلمات: حلال، حرام، يجوز، لا يجوز، لا يصحّ، لا ينبغي، وقليل منهم من يأتي بالدليل من الكتاب والسنة والإقناع والمناقشة، هذا لمن يظهر أمام الملايين في إذاعة أو تلفاز، وبعض الذين يظهرون فيهما ويدور بينهم وبين الشباب المتحمِّسِين نقاشٌ حول مسألة من المسائل تَجِدُ ضِيقَ الأُفُقِ وعدم اتساع الصدر للنقاش وفرض الرأي وإن لم يكن صحيحًا وإقناع الآخرين به مع عدم إعطاء الفرصة للطرف الآخر لبيان ما عنده سواء من حقائق أو إشكالات، وهذه نقطة مهمة في الحوار انصرف عنها الطرفان حتى أصبح الشباب عمومًا من تلك الجماعة وغيرها أصبحوا لا يَثِقُونَ بما يقوله العلماء حتى وصفوهم بأوصاف ونعتوهم بنعوت لا يجوز قولها مع أنها من فَوَاكِهِهِمْ الشَّهِيَّةِ التي يَمْضَغُونَها ويتخلّلون بها في مجالسهم ولقاءاتهم المتكررة هاتفية أو شبكة عنكبوتيه وفي أي مكان حتى في المساجد تجد الغمز واللمز والاشتغال بالآخرين عيوبًا حقيقية أو بهتانًا وزورًا.
فعلى الشباب وهذه الفئات والجماعات وعلى المسلمين عمومًا أن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم وما لا يعلمون حقيقته وفقهه لقول الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7]، وقوله سبحانه: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]، وقول رسول الله : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء ـ أو قال: بقبض العلماء ـ حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا ـ وفي رواية: لم يَبْقَ عَالِمٌ ـ اتخذ الناسُ رُؤُوسًا ـ أو قال: رُؤَسَاءَ ـ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فأفتوا بغير علم، فَضَلَّ السائلُ والمسؤُولُ)) ، وقول رسول الله : ((العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
وعلى العلماء أيضًا أن يتقوا الله عز وجل ويؤدوا الواجبَ الذي عليهم والأمانةَ والمسؤوليةَ التي حُمِّلُوهَا والميثاقَ المأخوذَ عليهم بالبيانِ وعدمِ الكتمان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160]، وقال عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران: 187].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمد ربي وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فإن السبب الرابع الذي دفع تلك الفئة إلى تكفير علماء المسلمين وحكامهم وعامتهم ومِنْ ثَمَّ إقدامهم على أعمالهم العدوانية الإجرامية الآثمة هو عدم تحكيم القرآن والسنة في الدول الإسلامية، ولو فرضنا أن دولة من الدول لم تحكم بالإسلام رفضًا للقرآن والسنة وكراهية لهما واعتقادًا بعدم صلاحيتهما لهذا العصر وأن القوانين الوضعية أفضل منهما إلى غير ذلك من البراهين الواضحة التي تُؤَكِّدُ كُفْرَ من اعتقد ذلك ورضي به، لو فرضنا أن هذا موجود فعلاً فهل يَحِقُّ لأحد من المسلمين يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكفِّر كل علماء وحكام الدول الإسلامية وجميع المسلمين فيها؟! ومن هذا الذي لا يُعَدُّ في الْعِيرِ ولا في النَّفِيرِ حتى يُصْدِرَ أحكامًا بهذه الخطورة على المسلمين في جميع بقاع الأرض؟! وأين هو علمه وموقفه من القرآن والسنة والتي لو لم يكن فيهما إلا حديث الرسول الآتي ذكره لكفى لَوْ لَدَيْهِ أدنى ذرةٍ من عقلٍ وخوفٍ من الله عز وجل؟! الحديث عندما قال : ((سوف يكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون)) ، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: ((لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)). فأين هو البرهان والدليل الواضح من الكتاب والسنة على الكفر البواح على الحكام والعلماء وعامة المسلمين؟! قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل: 64]، ومن الذي يحكم بذلك ويفتي؟ هل هم العلماء باجتماعهم على ذلك وإصدار البيانات الواضحة الأدلة على ذلك علنًا وليس سِرًّا كما تفعله الخلايا السريّة للجهال وأصحاب الضلال؟! هل هم العلماء أم هم الرَّعَاعُ الْمُتَخَفُّونَ في الظلام الذين يَسْعَوْنَ من حيث لا يشعرون إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين وتأليب الكفار بهذه الشراسة على الدول الإسلامية ومساعدة الأعداء بتأجيج نيران الفتن واختلاق الأعذار لِشَنِّ الحروب الطاحنة ضد المسلمين في جميع بقاع الأرض؟! فإذا فرضنا أن ذلك الحكم قد انطبق على دولة بعينها فما هو الْمُبَرِّرُ لِسَحْبِ ذلك على جميع الدول الإسلامية؟! وما هو المبرر بصفة خاصة على حكام الدولة السعودية وعلمائها والمسلمين فيها؟! فما هو دليلهم؟! وما هي مبررات عملهم الإجرامي؟! وما هي أهدافهم من وراء ذلك؟!
إنها شبهات وأباطيل ألقى بها شياطين الإنس والجن في قلوبهم، وعشعشت في عقولهم، وتغلغلت في صدورهم، وجنى العالمُ بأسره آثارَها السلبيةَ كما جنوا هم آثارها سواء من أقدم على الانتحار أو أولئك المتخفون والْمُخْتَبِئُونَ في السرادب والأنفاق والكهوف.
إن الأحوال سوف تزداد سوءًا إذا لم تتضافر الجهود للقضاء على هذه الأفكار السيئة وإذا لم يحصل العلاج الناجِعُ والناجحُ للأسبابِ جميعِها في جميع الدول الإسلامية والكافرة أيضًا؛ لأن معظم الشرور الحاصلة الآن بسبب أولئك الظالمين من الكفار.
وفي خطبة قادمة إن شاء الله نواصل الكلام حول بقية الأسباب والدوافع والعلاج الذي يكون بعد اكتمال التشخيص بإذن الله عز وجل.
وعلى من كانت لديه الأفكار المشينة أن يتوب إلى الله عز وجل ويسارع إلى ذلك فهو خير له، وباب التوبة مفتوح أمامه، وليتذكر قول الله عز وجل: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].
وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وآله...
(1/5645)
المحافظة على الأمن واجبنا جميعًا
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث, فرق منتسبة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
12/9/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن في الحياة. 2- تأمين الله لبيته المطهر. 3- إنكار الأعمال التخريبية في الحرم المكي. 4- نقض شبهات الفئة الضالة. 5- الواجب تجاه هذه الأحداث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ تَوَفُّرَ الأمنِ ضَرُورَةٌ من ضرورات الحياة تفوق ضرورة الغذاء والكساء، بل لا يُسْتَسَاغُ طعامٌ أو شرابٌ ولا يَهْنَأُ الإنسانُ بنوم أو راحة إذا فُقِدَ الأمانُ، ومتى طغى الناس وبَغَوْا وفسدوا وأفسدوا في الأرض وكفروا نعم الله فإن الجزاء العادل الذي هو من جنس عملهم سوف يصيبهم، قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، وهذا من السنن الكونية التي قال الله عنها: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 62]، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43]، فالأمان والأمن في جوهره ومبناه ومعناه لا يكون إلا مع الإسلام والإيمان الذي لا يشوبه ولا يخالطه ظلم المسلم لنفسه أو لغيره، كما قال الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
إذا كان الأمنُ مَطْلَبًا مُلِحًّا في هذا الزمان أكثر مما سبق، بل هو ضرورة من ضرورات الحياة في كل زمان ومكان، إذا كان الأمن في أي بقعة من بقاع الأرض وفي البر والبحر والهواء ضرورة يسعى الناسُ مؤمنُهم وكافرُهم من أجل تحقيقه بكل ما أوتي والعيش في ظله، وقد يحصل لهم ذلك متى قاموا بما أوجب الله عز وجل وبالابتعاد عن الظلم بأنواعه فإن الله عز وجل تَكَفَّلَ بحفظ بيته الحرام في مكة المكرمة وحمايته وتَوَعَّدَ مَنْ يريدُ فيه الفسادَ والإفسادَ بالعذاب الأليم، كما طَمْأَنَ المسلمين إلى تلك الحماية والرعاية والأمن والأمان والطمأنينة التي هي ضد الخوف بآيات محكمات تتلى إلى يوم القيامة، ومنها قول الله عز وجل: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، وقال سبحانه وبحمده: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67]، وقال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة: 125]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة: 126]، وقال تبارك وتقدس: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، وقال سبحانه: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين: 1-3]، وقال عز وجل في سورة قريش: لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
وكما وعد الله في الآيات السابقة قريشًا والمؤمنين عامة بالأمن والأمان وتأمين العيش الكريم فقد ذكر سبحانه مصيرَ أَبْرَهَةَ وجَيْشِهِ في آيات موجزة سُمِّيَتْ بسورة الفيل وآية أخرى لمن يهمُّ أو يريد الإفساد في البلد الحرام مكة المكرمة، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ، وقال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25].
فهل فَكَّرَ أولئك المنحرفون ومن خلفهم في هذه الآية الأخيرة؟! هل تأمّلوا معناها؟! هل قرؤوها أو مرّوا عليها وعلى الآيات السابقة أيضًا، أم أنهم بعيدون عنها وانشغلوا بمكرهم وتدبيرهم وانحرافاتهم طوال سنوات وليس ذلك الفعل نِتَاجَ أشهرٍ أو أيامٍ؟!
إن انشغالهم بالتخطيط والتدبير والتفكير للوصول إلى الحياة الْهُلامِيَّةِ من خلال الأحلام والأوهام الشيطانية هي التي أبعدتهم عن فهم ما سبق من الآيات وعن حرمة مكة المكرمة والمدينة النبوية والزمان الذي هو رمضان المبارك وحرمة قتل الأنفس عمومًا بغير حق والمسلمين خاصة، وعن قتل أنفسهم وتفجيرها على وجه الخصوص، فإذا كان أولئك المفسدون في الأرض الذين يدّعون الإصلاح ويتوصلون إليه بهذه الطرق الإجرامية التي لا تَمُتُّ إلى الإسلام بصلة لمن كان لديه أدنى ذرة من عقل أو علم وبصيرة إذا كانوا لا يفقهون ولا يفهمون الآيات والأحاديث الواردة في قتل النفس التي حرم الله وفيما ذُكِرَ سابقًا فهل يُتَصَوَّرُ منهم ويُتَوَقَّعُ أن يستطيعوا إدارة شؤون دولة؟! إذا كانوا عاجزين عن فهم المحرمات والجمع بين نصوص الآيات والأحاديث التي تظهر أمامهم بالمختلفات المتباينات مع وضوح معانيها فكيف بمعرفة المشتبهات من الأمور؟! إذا غَرَّرَ بهم مَنْ وَرَاءَهُمْ في الخارج والداخل ووعدوهم بأعلى المناصب في الدنيا أو صَكِّ الْغُفْرَان على منهاج أهل الضلال ووسام الشهادة إنْ هُمْ فَجَّرُوا أنفسَهم فإذا لم يفهموا خداع مُنَظِّرِيهِمْ في هذه العمليات الانتحارية فهل يُتَوَقَّعُ لمن عاش منهم أن يُفَكِّرَ ويَعِيَ ويتعامل مع ملايين البشر إن هو وصل إلى تلك الأحلام التي هي خزي وندامة يوم القيامة إنْ لم يُؤَدِّ ما أوجب الله عليه فيها وفي غيرها؟! هل لدى أولئك الذين قاموا بتلك الأعمال الإجرامية التي هي بداية لأعمال أحبطها الله عز وجل وأَمْكَنَ منهم وفضحهم قبل تنفيذها هل لدى أولئك ومن خلفهم ذرة إيمان أو خوف من الله عز وجل ومن أليم عقابه خلال تلك الفترة الطويلة للتخطيط لترويع الآمنين في بيت الله الحرام وقَتْلِهِمُ الرُّكَّع السُّجُود والطائفين بالبيت العتيق في أيام الشهر العظيم وفي العشر الأخيرة ليصلوا إلى أهدافهم ومخططاتهم الشيطانية بوسائل مخزية لهم في الدنيا والآخرة ومشوهة للإسلام والمسلمين؟! ولم يكتفوا بما جرّوه على الإسلام والمسلمين من عارٍ وويلات وأضرار ومصائب طوال سنين عديدة وخاصة في السنوات الأخيرة التي ذاق المسلمون من ورائها أقسى المضايقات والمعاملات المشينة من الكفار وغيرهم في جميع بقاع الأرض بسبب تلك التصرفات الرَّعْنَاء لمن ضَلُّوا الطريق وعميت بصائرهم وأساؤوا من حيث أرادوا الإحسان، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
إذا كانوا حقًا يريدون اللهَ والدارَ الآخرةَ والفوزَ بالجنةِ والنجاةَ من النارِ فلماذا لم يتوجهوا لبيوت الله وخاصة أولئك الذين في مكة المكرمة للصلاة في المسجد الحرام ليحوزوا على الأجر العظيم حيث الصلاة فيه بمائة ألف صلاة في الأيام العادية غير رمضان فما بالنا برمضان؟! لماذا لم يكونوا مع الركع السجود؟! لماذا الابتعاد عن قراءة القرآن؟! ولماذا الْهُجْرَانُ لتعاليم الإسلام وسماحته واللجوء إلى الإجرام مِمَّنْ يَدَّعِي الإصلاح الذي اتخذوه شمّاعة للتمويه من أجل الوصول إلى ما وراء ذلك مما يعلمه أو سوفَ يعلمه كثير من الناس في مستقبل الأيام التي سوف تُكْشَفُ فيها المقاصدُ والمآربُ السيئةُ وتُفضح كما فضحهم الله وأخزاهم وأوقعهم في الشِّبَاكِ التي نصبوها والحفر التي حفروها؟!
ونحمد الله عز وجل إذ أمكن منهم وأحبط وأفشل خططهم على رؤوس الأشهاد؛ ليعرفوا جرائمهم وارتكابهم الموبقات والكبائر من الذنوب في أرض الحرمين وخاصة مكة والمدينة؛ حتى لا تبقى أدنى شبهة لدى أحد في العالم عندما تُطَبَّقُ عليهم أحكامُ القرآن الكريم والسنة المطهرة. إنها عناية الله ورعايته لهذه البلاد المباركة لإفْشَالِ مَكْرِ الماكرين وحِقْدِ الحاقدين بعد أن وصلوا إلى مراحلهم الأخيرة، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53]، وقال عز وجل: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، قال سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل: 18].
اللهم أَدِمْ علينا نِعَمَكَ واحفظها من الزوال.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تبارك وتقدس وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فإنَّ الفقرَ والبطالةَ والفسادَ الإداريَّ والماليَّ وغيرَها شماعةٌ اتخذها المفسدون وسيلةً لإقناعِ عَامَّةِ الناسِ بسلامةِ أهدافِهم، وهي حقائقُ ظاهرةٌ لِلْعَيَانِ لا يستطيعُ أَحَدٌ إِنْكَارَهَا، ولكنْ هلِ الوصولُ إلى إيجاد الحلول السليمة لهذه الأمور يُبَرِّرُ صَنِيعَهُمْ وإجْرَامَهم الْمَاثِلَ للعيان أمام الناس أجمعين؟! هَلِ الإصلاحُ الذي يدّعونه يكون بهذه الطرق اللئيمة التي سلكوها طوال سنين عديدة للوصول إلى ما يزعمون ويُظْهِرُونَ للناس خِلافَ ما يُبْطِنُونَ ويَكْتُمُونَ وما هو معلوم لكل ذي لُبٍّ وبصيرة ظهرت دلائلُه لعامة الناس في هذه الأيام؟! فهل يُعْقَلُ أن الذي يريد الإصلاح لتلك الأمور يذهب إلى بيت الله الحرام لسفك دماء الركع السجود والمسلمين عمومًا وفي الأماكن المجاورة لأماكن إفسادهم والتي يَتَخَفَّوْنَ فيها؟! إن اختيار الزمان والمكان لتنفيذ الإجرام في ساعات غفلة المسلمين واسترخائهم واطمئنانهم يُوَضِّحُ بجلاء لا شبهة فيه نواياهم وأهدافهم ومقاصدهم وما تنطوي عليه ضمائرهم.
إن الإصلاح ليس ادِّعَاءً أو شعاراتٍ تُرْفَعُ، إن الإصلاح لا يكون بالمظاهرات وفوضى الشوارع المنتشرة في بقاع الأرض، ولا يكون بالانقلابات التي اعتاد الناس عليها في هذا الزمان، ولا يكون الإصلاح في دولة قامت على كتاب الله وسنة رسوله محمد وبَايَعَ مُوَاطِنُوهَا قَادَتَهَا على الكتاب والسنة، لا يكون الإصلاح فيها بالتفجيرات وانتهاك الحرمات وارتكاب المحرمات والموبقات باسم الإصلاح المزعوم وهو الإفساد في حقيقته، والله هو الذي يعلم حقيقة ذلك الادِّعَاء وَإِنْ خَفِيَ على كثير من الناس، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220]، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف: 56]، وقال سبحانه: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 13، 14]، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل: 19]، وقال تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات: 16]. أما يخشى مدّعو الإصلاح من انطباق هذه الآيات عليهم ووقوعهم في عواقبها في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 204-206]؟!
إذا كان المفسدون يريدون الإصلاح فعلاً فعليهم أن يسلكوا طُرُقَهُ الشرعيةَ ويُدَلِّلُوا على صدق نواياهم وإخلاصهم بالبراهين وليس بالشعارات والكذب والتزوير والتمويه، قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل: 64]، وقال عز وجل: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك: 22].
إن واجبنا جميعًا أن نكونَ يَدًا واحدةً ضِدَّ مُزَعْزِعِي الأمن ومُثِيرِي الفوضى والشَّغَب والفتن، إن نعمة الأمن الذي نعيشه ونتفيَّأُ ظلاله في هذه البلاد المباركة تحت ظل الشريعة الإسلامية وتطبيق حدودها نعمة عظمى لا يدركها كثير من أبناء هذه البلاد، ولكنّ الوافدين المقيمين على أرضها وتحت سمائها يدركون ذلك أكثر من غيرهم ويشهدون بهذه النعمة العظيمة سواء من كان منهم مقيمًا أو قد غادر إلى بلاده بعد أن عاش على ثَرَى هذه البلاد الطاهرة، يعرفون قدر نعمة الأمن الذي ينعمون به هنا ويفقدونه في كثير من بقاع العالم، إذًا فالواجب على الجميع المحافظة على هذه النعمة العظيمة وإبطال أيّ مخطط يريد منه صاحبه زعزعة الأمن والتعدي على الناس وحرماتهم وأموالهم الخاصة والعامة، ويكون إبطال تلك المخططات عبر القنوات الرسمية التي تُحْبِطُ تَخْرِيبَ المفسدين ومخططاتهم بإذن الله عز وجل، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2].
وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وآله...
(1/5646)
بين يدي الاستسقاء
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
حمد بن سليمان الحقيل
الرياض
جامع الفردوس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- عقوبة الحرمان من خيرات السماء. 3- ظاهرة الغفلة والتمادي في العصيان. 4- مشروعية صلاة الاستسقاء. 5- الاستسقاء في الزمن الماضي. 6- الاستسقاء في هذا الزمان. 7- انتشار الفساد في هذا الزمان. 8- المستهترون بصلاة الاستسقاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، فهي وصيته جل وعلا للأولين والآخرين كما قال رب العالمين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ. فاتقوا الله في السر والعلن، فبالتقوى تُستنزل البركات وتجلب الرحمات وتفرج الكربات وتُستجلى العقبات وتستدفع العقوبات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
عباد الله، لقد مضى من سنة الله جل في علاه مع عباده وأوليائه أن يبتليهم بنزول بعض ما يكرهون في حياتهم؛ في أمنهم وفي عيشهم ومطعمهم ومشربهم وأموالهم وصحّتهم واجتماعهم بأحبتهم، كما مضى من سنته سبحانه أن يزيد في بلائه لهم كلما زاد إيمانهم وارتفعت عنده منزلتهم، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: ((الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
وأيضا مضى من سنته سبحانه وعدله أن يعاقب من عباده من غفل عنه وصدّ عنه، وتزداد العقوبة مع زيادة البعد، وتشتد في حال الجهر بالمعصية وإظهار عدم الخوف منه جل وعلا، وفي هذا قال عمر بن عبد العزيز: "كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم". نسأل الله العافية من سخطه وغضبه.
وإن من أكثر ما يبتلى به المؤمنون ويعاقب به العصاة في كلّ العصور هو حرمانهم من خيرات السماء وبركاتها، وفي هذا الأمر يبين جل وعلا حقيقةً مفادُها أن الغفلة والإعراض عن الله سبب في الحرمان من بركات السماء، يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. وقد ذكر المفسرون في تفسير قول الله جل وعلا: وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ أن البهائم تلعن عصاة بني آدم؛ تقول: منعنا القطر من السماء بسبب ذنوبكم.
والغفلة والمعصية كما تحدث من العصاة والفسقة فهي قد تحدث من المؤمنين الطائعين وإن اختلفت درجة الخطيئة ودرجة العقوبة المترتبة عليها، ولكن الفرق بين الطائفتين أن المؤمنين الطائعين كما وصفهم ربهم جل وعلا بقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وإنما هذا خبر من الله عن فريقَي الإيمان والكفر، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه، فكفتهم رهبته عن معاصيه وردتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم من زلة، وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله، ولا يحجزهم تقوى الله ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها".
ولعل ما يوحي بتمادي الناس في المعاصي هذا الابتلاء الحالّ بهذه البلاد الآن من تأخر نزول الأمطار وانحباسها، وهم الذين لا قوام لحياتهم بدونها، وقد يصابون بجهد وبلاء لا يدرك حجمه إلا من عانى بسببه وشعر بفقده، فانحباس المطر علامة على بعد وإعراض الخلق عن ربهم جل وعلا، ولأجل هذا شرع المولى جل وعلا لعباده عبادة مناسبة لمثل هذا الحدث، عبادة يرجعون بها إلى ربهم، يرفعون فيها شكواهم ويطلبون بها رضا مولاهم؛ ألا وهي عبادة الاستسقاء، إما بالصلاة المعروفة أو بالدعاء، سواء في خطب الجمع أو سرًا بين العبد وربه.
وهي صلاة تشرع لسببها الخاص بها، فليست كالسنن الرواتب ونوافل العبادات مفتوح وقتها، بل هي مقيدة بحدوث سببها وهو انحباس الأمطار واحتياج الناس إليه، كما في صلاة الكسوف التي لا تشرع إلا عند ورود سببها، وهو كسوف الشمس أو خسوف القمر.
والسر في مشروعيتها أن يظهر المسلمون المذنبون اعترافهم لربهم بخطيئتهم، وأن يعلنوا البراءة من كل ذنب وخطيئة اقترفته أياديهم علموه أو جهلوه، فما إن يعلن عن إقامة صلاة الاستسقاء إلا وتجد المؤمنين الأوابين يتسابقون لأدائها، ليس رغبة في نزول المطر فقط، وليس رغبة في أداء سنة من السنن فقط، بل برغبة رئيسة في إعلان التوبة إعلانًا عامًا يظهرونه أمام الخلق جميعا بطريقة خاصة شرعها جل وعلا ورضيها وبينها رسوله الكريم، وهي معلومة بتفاصيلها لدى عامة المسلمين وخاصتهم. كما تجد أنهم مع هذا التسابق لإعلان التوبة وأداء تلك العبادة تجد أن قلوبهم قد ملئت يقينا باستجابة دعائهم، وملئت يقينا بتفريج ما حل بهم قبل استسقائهم.
ولما كان رسول الله وصحبه الكرام وسلف الأمة المتقدّمون منهم والمتأخرون، لما كانت قلوبهم تمتلئ بهذا اليقين وهذه الثقة بالرب الكريم ما كان الغيث ليتأخر حتى وقت انصرافهم من المصلى، فهم يدركون أن الله جل وعلا ما كان ليخذل عبدا تلبس بلباس الذل لمولاه واعترف بخطئه وأقر بذنبه فيرده خائبا لم يستجب له، لقد كان الصالحون من آبائنا وأجدادنا يخرُجون للاستسقاء تائبين منيبين راجين، فكان لا يخلُفهم المطرُ غالبًا، ولربّما نزل عليهم وهم في مصلاَّهم، ولقد كانوا مع فقرِهم وقلَّةِ ذات اليد عندهم أكثرَ بركةً منَّا وأوسعَ عافية، وذلك بسبب قربهم من الله وقلّة معاصيهم وشيوع العدلِ بينهم والفرار من الظُّلم فرارَ الصحيح من الأجرب، فلذلك حصل لهم ما حصَل من سَعَةٍ في الدين وبركةٍ في الرزق، ولقد قال أبو داود صاحب السنن في سننه عن نفسه: "شبرتُ قثّاءَةً بمصر ثلاثةَ عشر شبرًا، ورأيتُ أترجَّةً على بعير بقطعتين، قُطعت وصُيِّرت على مِثل عِدلين"، وذكر المحدِّث الحافظ معمر بن راشد أنّه رأى باليمن عنقودَ عنب ملءَ بغلٍ تامّ، وقد جاء في مسند أحمد أنه وُجد في خزائن بني أميّة حِنطةٌ الحبَّةُ بقدر نواةِ التَّمر، وهي في صُرَّة مكتوب عليها: "هذا كان ينبُت في زمنِ العدل".
فالخيْر والبركة والوفرة أمورٌ مرهونة بالعدل والحكمِ بشريعة الله ورفع المظالم عن الناس وإقامة الحدود كما أوجب الله جلّ وعلا، ولذلك جاء في صحيح مسلم حكايةُ ما يكون في آخر الزمان عند خروج المهديّ حينما يملأ الأرضَ قِسطًا وعدلا كما مُلئت ظلمًا وجَورًا، فتحصلُ البركات وتكثر الخيرات، حتى إنَّ قشرةَ الرمانَةِ يستظلّ بها الجماعة من الناس.
وتأمل ـ يا عبد الله ـ فيما ذكره بعض المفسرين والمؤرخين عن حال بعض أرباب الديانات الكافرة التي كانت تعيش مع المسلمين آنذاك، في أنهم كانوا حين خروج المسلمين لصلاة الاستسقاء كانوا يخرجون معهم فيجلسون قريبا من مصلاهم؛ لعل ما ينزل من السماء للمسلمين من خير يصيبهم أيضا، فهم إن لم يكسبوا شيئا لم يخسروا بخروجهم، هذا مع كفرهم يوقنون بأن هناك استجابة من السماء لمن دعا من أهل الأرض.
إذا تأملت ما مضى فإنه ينزل بك عجب شديد لمن يستثقل الخروج لأداء الصلاة أو يستخف بها، أو بمن يؤديها ويشكك في استجابة الله لهم، عياذا بالله تعالى. ولو أن كل من خرج لصلاة الاستسقاء كان على ما كان عليه سلفنا الذين يخرجون إليها وهم يعلمون أنهم يتجهون لباب من الأبواب الربانية، يرفعون عن طريقه الشكوى ويستنزلون من خلاله الرحمة، فيتذللون ويخشعون ويذكرون ويسألون ويتوبون ويستغفرون، لو كان لهم حال مثل تلك الحال لكان الله مستجيبا لهم لِما أظهروه من حال، ولما أبطنوه من يقين واعتقاد. ولكن لما كان في مثل هذا الزمان أناس يصلون صلاة الاستسقاء وهم فاقدون لتلك الصفات أو بعضها فيستسقون وهم متلبسون بلباس الظلم لأنفسهم أو لغيرهم، فأموال مستحقة لله جل وعلا منعت، وأجسام بالحرام غذيت، وملابس بالحرام حيكت ولبست، ونوايا بحب الذات والتنكر لحقوق الآخرين غلفت، وكذلك قلوب قد ملئت شرًا فأساءت الظن بربها وشاب فكرَها شكٌّ في موعود مولاها باستجابة دعاها، لما كان هذا حال بعض ممن يخرج لصلاة الاستسقاء كان لله جل وعلا جزاء مناسبٌ لحالهم، إذ قد يرد سبحانه كثيرا منهم بسبب خلل في توبة واستسقاء بعضهم.
ولنا أن نقف مع مثل هذه الأحوال، فأما ظلم النفس بالحرام ومنع الحقوق الواجبة فلا يخفى على مسلم ما أبيح له وما حرم عليه، إذ الحلال بين والحرام بين، وليس المقام مقام ذكر هذه الأمور، ولكن للنبي حديثان يوضحان هذين الأمرين: منع الحقوق الواجبة وظلم النفس بالأموال المحرمة، ويبينان دورهما في منع خيرات السماء، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ)) ، وذكر منها: ((وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)) الحديث. ولك أن تتخيّل حجم الزكوات والنفقات الواجبة الممنوعة من أهلها لتدركَ معها حجم الخطر والعقوبة التي عرضوا الناس لها. وأيضا روى مسلم وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) ، قَالَ: ثم ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ: ((فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!)).
عباد الله، يقول جل في علاه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الملك المالك صاحب الفضل والمن، يصرف الرياح ويسخر السحاب تبصرة وذكرى لكل بصير من إنس أو جن، أمره للشيء إذا أراده أن يقول له: (كن)، رحمته وسعت كل شيء أخبر أنه يكتبها لكل تائب مؤمن، وأشهد أن لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وحشرنا ووالدينا وأحبابنا في زمرته، وأسعدنا في الجنة بصحبته.
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ بها الملتزَم، وعليها المعوَّل والمعتَصم، فبتقوى الله سبحانه تصلُح الأحوال وتحسُن العاقبة ويحلو المآل.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّكم وما تأمَلون من هذه الدنيا ضعفاء مؤجَّلون ومدينون مطالبون، ومِن المعلوم شرعًا أنّ مطلَ الغنيّ ظلم، فإنّ الأجلَ منقوص والعملَ محفوظ، فلِلَّه كم من دائب مضيِّع، وكم من كادِح خاسر.
وإنّكم ـ أيّها المسلمون ـ قد أصبحتم في زمنٍ لا يزداد الخير فيه إلا قلَّة، ولا الشرّ فيه إلا كثرة، ولا الحقّ فيه إلا خفاءً، ولا الباطل إلا شيوعًا. لقد كثر الطَّمَع، واشتدَّ الجشع، وظهر الربا، وكثُر الغشّ، وشاعتِ الرِّشوة، وعمَّ الغُلول.
ألا إنَّ الواحدَ منّا يرى في غير ما سبيلٍ طغيانَ النفاق وانتشارَ الكذب والرياء والسمعة واعتلاءَ صيحاتِ المتمرِّدين عن دينهم والمستهترين بشريعتهم، ومَن قلَّب طرفَ الرامِق بعين بصيرته فإنّه لا يبصر إلا فقيرًا يكابد فقرًا، أو غنيًّا بدّل نعمة الله كفرًا، أو بخيلاً اتَّخذ البخلَ بحقِّ الله وفرًا، أو متمرِّدًا عن حدود الله كأنَّ من أذنيه من سمع المواعظ والزواجر وقرًا، إلاَّ من رحم ربّي وقليلٌ ما هم.
عباد الله، إن أعظم سبب في رد قبول استسقاء العباد سوء الظن بربهم، ولك أن تتأمل حال بعض من الناس لا كثَّرهم الله، وحالهم حال يتكرّر في كل عام عافانا الله وإياكم من ذلك؛ يقول قائل: "كانت هناك سحب وخيرات فما أن صلّى هؤلاء حتى زالت تلك السحب وتحولّت عنا"، وقد يقول البعض: "لو تركونا من صلاتهم تلك لنزلت الأمطار"، ونحو تلك العبارات. قد يقولها يمزح أو يقصد بها أن صلاتهم غير سليمة ولا تامة، أو يبرر بحدوث عيب في ذات المصلين السائلين الذين هم خير منه؛ إذ مع عيوبهم قد سعوا فصلّوا وسألوا، وليس مثلَه فضَّل النوم والكسل على القدوم على ربه. وعموما فمهما برّر واعتذر فعذره مردود عليه، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.
ثم تجد لدى بعض ممن أنعم الله عليهم بأداء الصلاة أنهم يخرجون للمصلى وفي أنفسهم شكّ في استجابة الدعاء أو قبول التوبة أو نزول المطر بعد الصلاة، وهنا مكمن الخطر؛ إذ قد ورد في الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)) ، وفي رواية: ((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)). وهنا ينكشف سرّ وتتجلى حقيقة، هي أن كثيرًا من الناس قد ظن أن ربه لن يستجيب له، فكان ربه جل وعلا كما ظن به.
وقد يُلبّس إبليس على البعض فيقول: بأن هذا الظن ـ أي: ظن عدم استجابة الدعاء ـ هو من باب احتقار النفس والعلم بعدم أهليتها لاستجابة الله لها، وهذا هو باب الشيطان الذي يلج منه لإخراج الناس من دينهم، فيشككهم في موعود الله لهم بحجج لا يقبلها جل وعلا، وحذّر منها رسوله، كما روى الأئمة الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ)) ، ويقول: ((لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ لا مُكْرِهَ لَهُ)).
فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم وبلادكم، واستقبلوا الاثنين القادم صلاة الاستسقاء التي ندبكم إليها ولي أمركم مقدّمين بين يديكم الذكر والصدقة والصيام؛ فإن الله جل وعلا حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ، فإننا نرفع أيدينا سائلينه جل وعلا ومنتظرين إجابته لنا، فهو الغني الكريم والرب الرحيم.
اللهم أنت المدعوُّ بكل لسان، المقصود في كل آن، لا إله إلا أنت غافر الخطيئات، لا إله إلا أنت كاشف الكربات، لا إله إلا أنت مجيب الدعوات، لا إله إلا أنت مغيث اللهفات، أنت إلهنا، وأنت ملاذنا، وأنت عياذنا وعليك اتكالنا، وأنت رازقنا، وأنت على كل شيء قدير، يا أرحم الراحمين، يا خير الغافرين، يا أجود الأجودين، ويا أكرم الأكرمين، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، نسألك مسألة المساكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضعين الذليلين، وندعوك دعاء الخائفين الوجلين، سؤال من خضعت لك رقابهم، ورغمت لك أنوفهم، وفاضت لك عيونهم، وذلّت لك قلوبهم، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، غدقًا مغدِقا مونقًا، هنيئًا مريئًا، مريعًا مُرتعا مُربعا، ربيعًا طبقا مجلِّلا، نافعًا غير ضار، عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورًا، لتحيي به بلدة ميتا وتسقيه مما خلقت أنعامًا وأناسي كثيرًا، اللهمّ انشر علينا غيثك، اللهم انشر علينا غيثَك وبركتك ورزقَك ورحمتك، وأسقنا سُقيا نافعة مُرويةً مُعْشِبةً، تنبتُ بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافِعةَ الحيا، كثيرةَ المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البُطنان، وتستورق الأشجار، وترخِص الأسعار، إنّك على كلّ شيء قدير. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ إنّك تشاهدنا في سرّائنا، وتطّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلغَ بصائرنا، أسرارُنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، إن أوحشَتنا الغربةُ آنسَنا ذكرُك، وإن صُبَّت علينا المصائب لجأنا إلى الاستجارة بك، إنّنا عبيدُك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمُك، عدلٌ فينا قضاؤنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والبلاء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم أنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم أنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء والعبيد، لا إله إلا أنت أنت الغني الحميد، اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، اللهم ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تسلب نعمتك عنا، وكن معنا يا ربنا حيث كنا، إن هي لا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، يا من عمَّ برزقه الطائعين والعاصين، وعمّ بجوده وكرمه جميع المخلوقين، جد علينا برحمتك وإحسانك، وتفضل علينا بغيثك ورزقك وامتنانك، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم وسِّع أرزاقنا، ويسّر أقواتنا، رحماك رحماك بالشيوخ الركع، والمسبِّحات الخشّع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، اللهم اسقنا واسق المجدبين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرّج عنا وعن أمة محمد أجمعين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرج عنا وعن أمة محمد أجمعين، اللهم هذا الدعاء، ومنك الإجابة، وهذا الجهد، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، فلا تردنا خائبين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. نستغفرك ربنا ونتوب إليك. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. اللهم صل على نبينا محمد النبي المصطفى المختار، اللهم صل عليه ما تعاقب الليل والنهار، اللهم صل عليه ما أزهرت الأشجار، اللهم صل عليه ما هطلت الأمطار، وسالت الأودية والأنهار، وفاضت العيون والآبار.
(1/5647)
إنسانية الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
يحيى بن سليمان العقيلي
اليرموك
مسجد موضي الصباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسانية الحقة والإنسانية الزائفة. 2- من مواقف النبي الإنسانية. 3- ظاهرة انتشار الإسلام في العالم الغربي.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فأوصيكم ونفسي ـ عباد الله ـ بتقوى الله تعالى، فالمتقون هم أولياؤه وأحباؤه، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63].
معاشر المؤمنين، الإسلام دين الإنسانية الحقة، الإنسانية التي تنطلق من العقيدة الإسلامية، وتتعامل وفق الخلق الإسلاميّ القويم، إنسانية هذا الدين ـ عباد الله ـ تعمّ كلَّ البشر، لا تفرق بين أسود وأبيض، ولا تتغير وفق المصالح والأهواء، ولا تتبدل حسب القوة والسلطان كما نراه في واقعنا اليوم من أدعياء الإنسانية المزيفة التي يتشدقون بها أمام العالمين، وهم يحتكرونها لبني جنسهم ولأهل ملتهم.
وإليكم ذلك الموقف النبوي الذي تتجلى فيه إنسانية هذا الدين العظيم في شخص المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، حيث كان فتى يهوديّ يخدم النبي فيضع له وضوءه، ويناوله نعله، ويقضي حوائجه، ويتفقده النبي يوما فيُخبرُ بمرضه، فيأتيه ويزوره ويدنو منه ويجلس عند رأسه، وأبو الغلام جالس قبالة وجهه، والنبي الكريم ينظر نظرة المشفق الرحيم للفتى وهو يودع الدنيا ويستقبل الآخرة، فيقبل عليه بكل شفقة ورحمة وأمل، ويهتف به لما هو أحوج إليه في هذه اللحظة، فيدعوه للإسلام ويقول: ((أسلم، قل: لا إله إلا الله وأني رسول الله)) ، ويتلقى الفتى ذلك النداء الرحيم وهو الذي خدم النبي وعرف من حاله ما تيقن أنها حال الأنبياء، ولكنه لا يزال مأمورا لسلطة أبيه، فجعل يقلب ناظريه لأبيه تارة وللنبي تارة، وإذا بالنبي يعيد عليه مقالته ويكرّر له نداءه وكأنه يسابق اللحظات الأخيرة في حياة الفتى، ويكرر الفتى نظره لأبيه، وإذا بالأب يقول له: أطع أبا القاسم قل: ما يقول لك محمد، وما إن أتمّ الأب عبارته وإذا بالفتى يردّد الشهادة وهو يجود بنفسه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، استكمل الشهادة واستكمل بها أجله ولفظ أنفاسه، ويخرج النبي من عنده مستبشرا بهداية الغلام وبخاتمته الحسنة ويقول لأصحابه: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)) ، ثم أمرهم وقال: ((صلوا على أخيكم)).
معاشر المؤمنين، إن هذا الموقف النبيل الجميل ليكشف جوانب الإنسانية الحقة في شخص رسول الله ، فهو يكشف عن حقيقة نفس المؤمن تجاه البشر، بل الكفار منهم واليهود، فقد قبل أن يخص هذا الفتى اليهودي بخدمته، ذلك الشرف الذي كانت ترنو إليه قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، ثم هو يتفقدهم ويزورهم ويقبل زياراتهم؛ ليبين أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي علاقة صلة وتعارف ودعوة كما قال جلا وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]، وإن ذلك التعارف وتلك الصلة هي أقصر وأفضل طريق للدعوة إلى هذا الدين، كم من شعوب وأمم دخلت هذا الدين بحسن المعاملة وطيب المعاشرة. ثم إن هذا الموقف ـ عباد الله ـ ليكشف جانبا إنسانيا هاما في التعامل مع غير المسلمين، وهو أن تلك الزيارة الرحيمة الكريمة لفتى يهودي في بيت يهودي وهو خادم صغير وليس بسيد ولا بأمير، ومع ذلك فقد تجلت مشاهد العظمة الإنسانية والكرم والأخلاق والنبل المحمدي بين سيد الأنبياء والمرسلين وهذا الفتى.
معاشر المؤمنين، يتساءل المرء منا عن سر ذلك الفرح الغامر والبشر الذي يملأ محيا رسول الله وهو يردد فرحا: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)) ، ثم هو يعقد له عقد الأخوة الإيمانية مع أصحابه ويحملهم مسؤولية العناية بجنازته ويقول: ((صلوا على أخيكم)) ، فهذا الفتى لم يعط مالا ولم يحمل سلاحا ولم يؤدّ أي عمل لهذا الدين، ولم يكد يسلم حتى مات من فوره، وما هذا الفرح الرحيم إلا دلالة واضحة على حقيقة حرص رسول الإنسانية على هداية البشر، لا لشيء إلا لينجو من النار، فقد كان قلبه يحترق ألما لمن يعرض عن دعوته حتى قال له ربه: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8]، كما كان يطير قلبه فرحا حين يستجيب أحد لدعوته، تلك الرحمة والشفقة وذلك الحرص والاهتمام على هداية البشر هي حقيقة الدعوة الإسلامية وحقيقة الداعية المسلم، هداية البشر غايتهم، والرحمة والشفقة سبيلهم، ودعوة البشر ديدنهم، كما هو حال نبيهم حين زار الفتى وظهر منه سمو التواضع وحسن العهد ولين الجانب ولطف الترفق والحرص على هدايته وإيمانه، فصلوات ربي وسلامه عليه، رزقنا الله وإياكم صدق محبته واتباعه وحشرنا في زمرته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وهدانا لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ناصر المؤمنين وولي المتقين ومذل الجبابرة والمتكبرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله المبعوث رحمة للعالمين، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
وبعد: معاشر المؤمنين، تلك هي حقيقة الإسلام؛ دين إنسانية حقة ورسالة سماوية سمحة وخلق إيماني رفيع، وليس كما يصوره أعداؤه ويرتكبه جهلاؤه، إرهاب وعنف ودماء كما نرى في كثير من الدول، ومن تمثل بهذه الإنسانية الحقة وذلك الخلق الرفيع واقترب من هدي المصطفى فهو المسلم الحق الذي يفتح الله له القلوب ويهدي به البشر.
ونبشركم ـ أيها المسلمون ـ أنه وعلى الرغم من تلك المكائد والاتهامات المضلّة لا سيما بعد أحداث سبتمبر، إلا أن الغريب والعجيب أن يتضاعف عدد المهتدين للإسلام في دول الغرب أضعافا مضاعفة، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، قام أحد الدعاة الأفاضل ممن حمل همَّ الدعوة الإسلامية في ديار الغرب بزيارة للمركز الإسلامي في فرنسا وسأل رئيس المركز عن أثر أحداث سبتمبر على الدعوة الإسلامية، فرد عليه مباشرة: "والله لقد كانت فتحا ونصرًا للإسلام، صحيح أن الجالية المسلمة تأثرت في أجواء التقييد والمحاصرة إلا أن أعداد المهتدين تضاعفت أضعافا مضاعفة"، ومن أمثلتها رجل فرنسي في السبعين من عمره التقاه هذا الأخ الفاضل وسأله عن سبب هدايته فقال: "كنت عاملا مع إحدى المنظمات الإنسانية التنصيرية حتى ضاقت بي السبل وأحاطت بي بعض المشاكل، فأحاط بي أصدقاء مسلمون ورأيت من كرمهم وطيب أخلاقهم ما جعلني أسأل عن الإسلام، فلما صحبتهم يوما للمسجد ورأيت ذلك الإخاء والترابط شهدت شهادة الحق ودخلت في الإسلام دون تردد"، فسأله الأخ: هل تشعر بالسعادة؟ فأجاب مبتسما: "سعادة عظيمة لم أشعر بها في حياتي أبدا، وأعتبر يوم إسلامي هو يوم ولادتي، وأنا أقوم بخدمة المسلمين في هذا المركز الإسلامي تطوعا لأردّ شيئا لهذا الدين العظيم".
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5648)
هدي النبي مع أزواجه
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا الأسرة
أحمد بن عبد الرحمن الزومان
بريدة
15/2/1429
جامع عبد الله بن مظعون
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإحسان إلى النساء هدي نبوي. 2- حفظ الود والاعتراف بالجميل. 3- تغليب النظر إلى الجانب الإيجابي. 4- حسن الاستماع والمشاورة. 5- الإحسان إلى أهل الزوجة وأصدقائها. 6- التحذير من الضغط على النساء وإكراههن. 7- الطريق الشرعي الحكيم في معالجة الأخطاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، فخير الهدي هدي محمد، فمن اتَّبع هديه فأتمر بأمره وتجنب نهيه سعد في الدنيا والآخرة وأسعد من حوله، ومن خالف أمره واتبع السبل خاب وخسر، وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54].
ومن هدي النبي حسن معاشرة النساء والإحسان إليهن، فهذا هديه قولا وعملاً، فمن حسن معاشرة النبي لأزواجه مدحهن والثناء عليهن وبيان فضلهن وما لهن من مزايا، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) رواه البخاري (3411) ومسلم (2413).
وقد كان النبي يحفظ لأزواجه ودّهن، ويعترف بجميلهن حتى بعد وفاتهن، فحينما عاتبته عائشة رضي الله عنها قائلة له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! أجابها بقوله: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد)) رواه البخاري (3818)، فذكر النبي أنه يحفظ لها جميلها حيث ساندته في بداية دعوته ووقفت معه وخففت عنه آلام الدعوة وواسته بمالها.
ولا تخلو المرأة من جوانب مضيئة متعدّدة، سواء ما يتعلق بجمالها الحسّي أو المعنوي من ديانة وأدب وحسن تصرف أو حسن عمل في البيت طبخا وترتيبا وإصلاحا أو غير ذلك، فيثني الزوج على الزوجة في هذا الجانب، ويدعو لها، فهذا مظنة الازدياد من هذا الجانب الحسن أو على الأقل المحافظة عليه، أما كثرة الوقوف على الملاحظات التي لا يخلو منها أحد والمعاتبة عليها فهذا مظنة الشقاق والنزاع، ومع ذلك تبقى هذه العيوب وتتكدّر الخواطر؛ فلذا أرشد النبي إلى النظر إلى الجوانب الحسنة في المرأة وهي كثيرة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر)) رواه مسلم (1469).
ومن حسن معاشرة النبي لأزواجه أنه كان يستمع لوجهة نظرهن ويقبل منهن المراجعة له والاعتراض على بعض تصرفاته، فيعاتبنه ويردّدن القول عليه، بل ربما هجرته الواحدة منهن، وهو في ذلك لا يقابل الإساءة بالإساءة، بل بالصبر والإحسان، فعن عمر بن الخطاب قال: كنا ـ معشر قريش ـ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصحتُ على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك؟! فوالله، إن أزواج النبي ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. رواه البخاري (2468) ومسلم (1479).
هذا هو هديه في نزاع أهله له، فما بال البعض منا لا يحتمل أن يسمع الكلمة من زوجته وإن كانت محقة؟! لا يريد النقاش فيما يتخذه من قرارات حتى ما يخصّ الزوجة والأولاد، بل ربما صبّ جم غضبه على زوجته وسبّها، ثم لا يحتمل منها أن ترد عليه خطأه وتبين له وجهة نظرها. سبحان الله! من الذي أباح لك أن تقول لها ما شئت من الكلام وحرم عليها أن ترد عليك فيما ظلمتها به؟!
ومن حسن معاشرة النبي لأزواجه حسن معاشرة أهل الزوجة وأصدقائها، فعن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبيّ إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله إذا ذبح الشاة فيقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة)) ، قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة؟ فقال رسول الله : ((إني قد رزقت حبها)) رواه البخاري (3816) ومسلم (2435) واللفظ له.
فكان النبي يحسن معاشرة أهل المرأة ويكرمهم، وحسن معاشرته مع آل أبي بكر وآل الخطاب أمر مشهور، فمن أسباب دوام الألفة والمحبة بين الزوجين الدنو من أهل المرأة وصلتهم وحضور مناسباتهم، وهذا مفقود عند البعض من الأزواج، فتجده تمرّ الأشهر بل السنون ولم يحضر لهم مناسبة ولم يلج لهم بيتا، يقف عند الباب لإيصال زوجته وأخذها من بيت أهلها أو بيوت أقاربها، وهذا مما تنقم منه النساء، قد يعتذر البعض باختلاف وجهات النظر معهم أو وجود منكرات عندهم أو غير ذلك من المعاذير، وهذا ليس بعذر، فتتمّ الزيارة ويتلطّف الصهر في إنكار المنكر، فهم أولى من غيرهم بالتوجيه والنصح، فالقريب له من الحق العام والخاصّ ما ليس للبعيد.
معاشر الإخوة، أوصى النبيّ بالنساء، وأمر بتقوى الله فيهن، فحينما خطب النبي في عرفة في حجة الوداع في أكبر تجمع إسلامي في عهد النبي قال: ((فاتقوا الله في النساء)). فعلينا ـ معاشر الأزواج ـ أن نتقي الله في النساء، فلا نهضمهن حقهن فنمنعهن من حقوقهن أو نتطاول عليهن باليد أو اللسان، ويجب علينا الوفاء بالشروط التي قطعناها على أنفسنا، سواء كان الشرط مسجّلا في عقد الزواج أو غير مسجل، فعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) رواه البخاري (2721) ومسلم (1418).
ويحرم الضغط على المرأة للتنازل عن الشروط التي اشترطتها على الزوج ولا يصح تنازل المكره، والراشدة من النساء زوجة كانت أو بنتا أو أختا أو أمّا ليس لوليها ولاية على مالها، فلها أن تتصرف بمالها من غير إذن الولي أو إعلامه، والزوجة كسائر الناس؛ يحرم على زوجها أن يأخذ من مالها القليل أو الكثير إلا برضاها إلا إذا كان مشروطا، فالأصل في أموال المسلمين الحرمة إلا على الوالدين، فلهما الأخذ من مال أولادهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على من أثنى عليه ربه بحسن خلقه.
وبعد: من نافلة القول أن نذكر أنّ النبي لا يلجأ إلى إصلاح الخطأ بالضرب، فلم ينقل عنه أنه ضرب امرأة من نسائه، وأكثر ما حصل منه هو الهجر حيث حلف أن لا يدخل عليهنّ شهرا، فعن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله شيئا قطّ بيده ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل. رواه مسلم (2328).
وقد عدّ النبي ضربَ الرجل المرأة عيبًا في الرجل، وأرشد المرأة إلى عدم القبول بمن يضرب النساء حينما يتقدّم لخطبتها، فعن فاطمة بنت قيس قالت: أتيت النبي ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله : ((أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد)) ، فكرهته ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت. رواه مسلم.
فما بال البعض منا لا يحسن في الحوار وحلّ المشاكل إلا لغة الضرب؟! هل يرضى من هذه حاله أن يعامل بمثل هذا الأمر؟! ألا يتذكر ضرّابُ النساء قدرة الله عليه؟! فعن أبي مسعود الأنصاري قال: كنت أضرب غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا: ((اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه)) ، فالتفت فإذا هو رسول الله ، فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فقال: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار)) أو: ((لمستك النار)) رواه مسلم (1659). هل يرضى من هو ضرّاب للزوجة أن تعامل ابنته أو أخته بالضرب؟! كيف يرضى للناس ما لا يرضاه لأهله؟!
وإنك لتعجب أشدّ العجب من شخص متعلّم يلجأ لضرب زوجته! فهل طرُق إصلاح الخطأ إن كان هناك خطأ أعيته فلم يبق إلا الضرب؟! نعم، أباح الشرع ضرب المرأة في حال النشوز وهو ترفعها عن الزوج وعدم طاعته فيما افترض الله عليها طاعته فيه، لكن هذه حالة استثنائية، ولم يبح الضرب ابتداء، إنما أبيح بعد النصح والتوجيه الحسن، ثم إذا لم ينفع ذلك واستمرت المرأة على الخطأ وعصيان الزوج يلجأ الزوج لحلّ آخر وهو الهجر في المنزل، فلا يجامعها ولا يبيت معها في فراش واحد، ولا زال العلاج داخل أسوار بيت الزوجية ولم تدخل أطراف أخرى في المشكلة، هنا يلجأ للضرب للتأديب لا لتشفي وإرواء الغليل، هذا إذا كان الخطأ متحقّقا من الزوجة، أما إذا كان الزوج مخطئا والمرأة تطالب بحقّ أخلّ به الزوج كالنفقة والمعاشرة بالمعروف وغير ذلك من حقوقها فيحرم عليه الهجر فضلا عن الضرب، وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء: 34].
وليس ضرب المرأة في نشوزها إهانة لكرامتها أو إذلالا لها، بل هو نوع من أنواع التربية وتعديل السلوك، وليس الأمر خاصا بها، فمثلا من له ولاية كالأب والمعلم والمعلمة لهم التأديب بالضرب للحاجة، بل الزوج الذي أبيح له ضرب المرأة في حال النشوز قد يمارس معه الضرب، مثلا لو ارتكب الزوج ما يوجب الحد أو التعزير كشرب الخمر أو التطاول على الناس فيحكم عليه بالجلد تأديبا له وزجرا عن المعصية التي ارتكبها، كما أن المرأة العاصية بنشوزها حكم عليها الشارع بالضرب، والفرق بينها وبين الرجل أن الرجل الذي يحكم بتأديبه بالضرب هو القاضي والذي يحكم بتأديب الزوجة زوجها.
(1/5649)
حقيقة التوكل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
3/8/1422
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوكل حصن حصين. 2- حقيقة التوكل وفضله. 3- مصادر التوكل على الله تعالى. 4- توكل الأنبياء والرسل على الله تعالى. 5- التحذير من مفاهيم خاطئة للتوكل. 6- وجوب الأخذ بالأسباب. 7- مفاسد ضعف التوكل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، حصن حصين وركن ركين من اعتصم به عصم، ومن ركن إليه رشد، ذلك هو التوكل على رب العالمين، التوكل الصادق الذي تظهر إشعاعاته على القلب وتنعكس آثاره واضحة على المؤمن في تصرفاته وأعماله وفي استسلامه لأقدار الله ورضائه بقضائه وتفويض الأمور إليه والاعتماد عليه وحده دون سواه في جلب النفع ودفع الكرب والاستعانة به في كشف الشدائد والمحن.
إن التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وهيمنته على الحياة والوجود، فكل هذه الأفلاك والأكوان تحت حكمته وقوته سبحانه. إن التوكل صرف القلب عن التعلق بالخلائق وتوجيهه إلى التعلق بالخالق وإظهار الافتقار إليه أنه صدق اعتماد القلب على الله في جلب المصالح ودفع المضار.
إن التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله في الله، وأمل يصاحبه عمل، وعزيمة لا ينطفئ إشعاعها وضوؤها مهما تكاثرت المتاعب وتنوعت الابتلاءات. بالتوكل على الله يرفع البؤس ويسود الرضا للنفس، يقول سعيد بن جبير رحمه الله: "التوكل على الله جماع الإيمان". المتوكل على الله دائمُ اليقظة وعالي الهمة وذو نفس مؤمنة موقنة مطمئنة، يقول بعض الصالحين: "متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً"، أي: تفتح لك طرق الخير. التوكل إيمان بالغيب بعد القيام بالأعمال المشروعة، دون كسل ولا إهمال، وتسليم بعد ذلك لله وانقياد له.
أيها الإخوة، أول مصادر التوكل توحيد الله وإفراده بالعبادة، فالرب المعبود سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان: 58]، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء: 217-220].
في التوكل تجتمع معظم العبادات، ففيه توحيد لله ورضا بقضاء الله ويقين بما قدره الله من نتائج، ولقد جاءت الأوامر به في كتاب الله حيث يقول المولى سبحانه وتعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84]، فهنا جعل الله التوكل شرطًا للإسلام، وقال سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23]؛ لذا فقد قال أهل العلم: "من لا توكل لديه لا إسلام ولا إيمان عنده"، فليعلم ذلك، ويجب الانتباه إلى هذا الأمر جيدًا.
ولقد ذكر الله في القرآن أمثله عن توكل أنبيائه ورسله صلى الله عليهم أجمعين: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم: 12]، وقال لنبيه وخليله محمد : فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79]، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب: 3]، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51]، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل: 9]، وقال تعالى عن أصحاب نبيه : الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173، 174].
ثم يبين الله سبحانه وتعالى سبب عدم التوكل وقلة اليقين بقوله: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]، وهنا أيضًا اشترط الإيمان إن كنتم تخافونهم فسوف تحرمون تمام الإيمان، وقال تعالى في صفات المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، أي: يعتمدون بقلوبهم عليه ويفوضون أمرهم إليه لاعتقادهم أنه المتصرف في الكون لوحده، وقال في جزاء المتوكلين وما لهم من خير: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3]، وقال أيضًا: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى: 36].
أيها الإخوة الكرام، هذا هو التوكل في حقيقته وأثره وصفات أهله وجزاء من يحقق التوكل في نفسه وتصرفاته، والتوكل لا يعني النوم والكسل وعدم الأخذ بالأسباب والسعي في طلب الرزق بطرقه المشروعة حيث يقول الله تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15]، امشوا في الأرض وابحثوا عن الرزق، فهذا المشي والبحث يعتبر طاعة لله وامتثالا لأوامره، والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله.
إن المتوكلين في كتاب الله هم العاملون، نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت: 58-59]، فلننظر في سيرة إمام المتوكلين نبينا محمد ونبحث عن التوكل في هذه السيرة العطرة، فلقد اختفى في غار ثور مع أبي بكر حين هجرته إلى المدينة، ولبس درعين فوق بعضها زيادة في الوقاية والتحصين، واستخدم الدواء، وقال لأصحابه في إحدى الغزوات: ((من يحرسنا الليلة؟)) ، وأمر بأن يغلق الباب وتطفأ النار قبل النوم، وقال لصحابي حينما سأله عن ناقته: هل أعقلها أو أتركها وأتوكل؟ فقال له : ((اعقلها وتوكل)) ، وقال تعالى لنبيه لوط عليه السلام: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ [هود: 81]، وأوحى إلى نبيه موسى عليه السلام: أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء: 52]، ونادى أهل الإيمان ووجههم بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71].
مما سبق نعرف وندرك بأن التوكل ليس إهمالاً للعواقب وعدم التحفظ وأخذ الاحتياطات، بل ترك العمل بهذه الأمور يعتبر تفريطا وعجزا يستحق صاحبه التوبيخ والذم، ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد الأخذ بالأسباب: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 157]. إن المؤمن يستطيع أن يجمع بين فعل الأسباب والأخذ بها وبين التوكل، فلا يجعل عجزه توكلاً ولا توكله عجزًا، إن تعسر عليه شيء فبتقدير الله، وإن تيسر له شيء فبتيسير الله.
والمسلم المتوكل يخرج من بيته متوجهًا إلى عمله، فبمجرد خروجه من عتبة داره يقول: (باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزِلَّ أو أُزَلّ أو أَضِلَّ أو أُضَلَّ أو أظلِم أو أُظْلَم أو أجهلَ أو يُجهَل عليَّ)، ومن قال :(باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله) يقال له حينئذ: كفيت ووقيت وهديت، وتنحّى عنه الشيطان وهو يقول لشيطان آخر: ما تريد من عبد قد هدي وكفي وحُفِظَ؟! وفي القرآن العظيم: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 99].
إذًا الذي يريد أن يكون متوكلاً وأن يجد أثر هذا التوكل عليه دائمًا اتباع سنة النبي في الأذكار وفي العبادات، وهناك حالة من الحالات لا تتمّ إلا حينما يكون التوكل أساسها ولبها وهي الصبر، الصبر الذي يحمل عبأه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والإيمان والتقوى، إن كل أولئك يتعرضون لمخاوف تنوء بحملها الجبال، ولا يستطيعون تحمّل هذه المخاوف، ولا يثبتون إلا بالتوكل على الواحد الأحد.
فنسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله لا شريك له في ملكه ولا مانع له في أمره، هو المتفرد بالأمر كله سبحانه وبحمده جل ثناؤه، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، صلى وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، فمن كان عارفًا بالله وصفاته وأسمائه الحسنى فإن توكله على الله يكون أصحَّ وأقوى، ومن لم يكن كذلك فإنه يسند ما يصاب به إلى الحظوظ العاثرة والشؤم الذي يطبق عليه بسبب قلة توكله ويقينه على الله، وإن من ضعف الإيمان ومن الجهل بالله وصفاته أن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه ومعتمد عليه، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر: 36، 37].
ومن مظاهر هذا الضعف والخذلان من يفقد الثقة بالله ويصاب بالاضطراب النفسي عند مواجهة الشدائد، وقد يبلغ به الاضطراب النفسي درجة تجعله يفقد توازنه ويصاب بالخوف والذعر، بينما المولى يقول في الأثر الذي رواه الإمام أحمد: (بعزتي، إنه من اعتصم بي فكادته السماوات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يده من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، ثم أكله إلى نفسه).
فاعتصموا ـ يا عباد الله ـ برب السماوات والأرض؛ ليجعل لكم من كل ما يهمكم فرجًا ومخرجًا، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3].
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديما، فقال تعالى ولم يزل قائلاً عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...
(1/5650)
الجهاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
22/1/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عزة هذه الأمة بالإسلام. 2- هوان الأمة وضعفها. 3- آفة حب الدنيا وكراهية الموت. 4- عداء اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين. 5- مشروعية الجهاد في سبيل الله وفضله.
_________
الخطبة الأولى
_________
تحدثنا ـ أيها الإخوة ـ في الجمعة السابقة عن أثر الهجرة النبوية وكيف أن الحفاظ على الدين مقدّم على الحفاظ على الأنفس والأرواح، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]. نعم، إن هذه الأمة المحمدية عزيزة بدينها منتصرة على أعدائها ما تمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها ، وما هذه الذلة وهذا الجبن إلا بسبب بعدها عن منهج الله، وإذا أردنا أن يغير الله أحوالنا إلى الأفضل فعلينا أن نغير ما بأنفسنا ونقتدي بنينا محمد. لا حياة لأمة الإسلام إلا بالإسلام، بقاؤها واستمرارها مرهون بالمحافظة عليه، وفناؤها واندثارها بالتفريط فيه. إنه نظامها وعزها وحياتها، دين كامل لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا، دين نسبه الله إلى نفسه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران: 19]، ورضيه لخلقه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 13].
هذا هو الدين الحق الذي نسبه الله لنفسه ورضيه للبشرية جمعاء، أيفرط فيه وتدمّر أركانه ويعتدى فيه على إخواننا ونحن ننظر من بعيد ونترقب ونحوقل ونقول: لا حول ولا قوة إلا بالله والله يقول: وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال: 72]؟! فهل بيننا وبين اليهود ميثاق؟! لا والله، ولكنه الضعف والخور الذي تعيشه هذه الأمة إلا من رحم الله، والسبب حبها للدنيا وكراهية الموت. والموت قادم لا مفرّ منه ولا مهرب، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة: 8]، أنت تفر منه إلى الأمام وهو يلاقيك من قِبَل وجهك، وليس من خلفك، لا فِكاكَ، ويقول تعالى مؤكدًا بأن هذا الموت قد كتبه الله عليك وحدد وقته وزمانه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً [آل عمران: 145].
إن دخولك لمواقع القتال لا يعني أنك ستموت، وهروبك لا يعني نجاتك من الموت، يقول تعالى مبينًا ذلك: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]، لو كنت على فراشك لأخرجك الله إلى الموت إن كان قد كتبه عليك. إذًا، لماذا الخوف من الموت وهو حق لا بد أن يلاقيه كل إنسان على وجه الأرض؟!
إن اليهود والنصارى هم أعداء المسلمين، وهذه طبيعتهم منذ أن خلق الله البشر وإلى أن تقوم الساعة، مع اختلاف فقط في درجة العداوة، وهي طبيعيه لأنها عداوة بين حزب الشيطان وحزب الرحمن، والتلاقي بينهما مستحيل، ولو نظرنا في تاريخ البشرية من خلال كتاب ربنا لوجدنا ذلك واضحًا جليًا، قال تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 4-8]. هكذا يشعل الكفار النار ويقعدون قريبين من هذه النار ليتلذذوا ويستمتعوا بالضحية المسلم وهو يلقى في النار، وليس له ذنب ولا جريمة سوى أنه يؤمن بالله العزيز الحميد. وسبحان الله! تتكرر الأحداث ويعيد التاريخ نفسه، فانظروا إلى ما يحدث لإخواننا الفلسطينيين اليوم، يقتلون وتدمّر منازلهم ودورهم وزعماء اليهود والنصارى ينظرون إليهم مستمتعين، ويطالبونهم بإيقاف الإرهاب، وما يفعلونه هم ليس إرهابًا ولا تقتيلاً للأنفس البريئة، بل يدعون أنه دفاع عن النفس، والأمة المسلمة تتفرّج خائفة ذليلة إلا من رحم الله، وقد صدق النبي حين قال: ((ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا)). نعم، إنها الذلة والخوف من الموت، وقال في حديث آخر: ((تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، قد أذهب الله المهابة من قلوب أعدائكم، وقذف في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) ، وفي رواية أخرى صريحة: ((حب الدنيا وكراهة القتال)). نعم، إننا أمة كثيرة، فقد أذهب الله المهابة التي كانت بالمسلمين سابقًا، حيث كان يقول : ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) ، كانت الأمم السابقة تشعر بالرعب من وجود مسلمين بجوارها، أما اليوم فكثير من المسلمين يشعرون بالرعب وأصابهم الوهن والخوف وهم بعيدون عن مواقع القتال والنزال.
فلا بد للمسلمين من معرفة واقع الكفار وعدائهم المتأصل لهم ومحاولاتهم الدائمة للقضاء عليهم وكتم أنفاسهم واستعمال أشد أنواع التضييق ضدّهم، ولديهم قناعة تامة باستباحة دم المسلم وماله وعرضه، وأن مهادنتهم للمسلمين أمر عرضيّ استثنائي يتغير بحسب الظروف، ومتى كانت الظروف لصالحهم نقضوا العهود والمواثيق، فانظروا ماذا فعلوا ويفعلون بإخواننا في فلسطين، عملوا معهم معاهدات كمعاهدة (أوسلو) وغيرها، وخدّروا الشعوب فترة زمنية، وفرحوهم بقيام دولة فلسطينية، وأملوا بذلك، وتركوا حمل السلاح، وفاجؤوهم بنقض كل العهود السابقة، وطعنوا فيمن فعلها من أقوامهم، وبدؤوا في تدمير كل شيء، ولكن بشكل مدروس وخطوة خطوة.
فيا أيها المسلمون، إن الله فرض الجهاد والقتال على كل مسلم ليدافع المسلمون عن دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، فالقتال في الإسلام فرض من فرائض الإسلام الكثيرة، فلا بقاء لهذه الأمة ولا سلام ولا احترام لها ولا تأمين لوجودها وانتشارها إلا بالجهاد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد نزل به الأمر من عند الله وحث عليه رسول الله قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]، وسئل النبي عما يعدل الجهاد في سبيل الله قال: ((لا تستطيعونه)) ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: ((لا تستطيعونه)) ، ثم قال: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة طوال الليل، ولا من صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل)) رواه البخاري ومسلم.
رب قائل يقول: كيف نجاهد؟! وأين الجهاد؟! ومتى؟! إلى آخر تلك التعابير التي نجح الاستعمار في بثها وزرعتها في عقول كثير من الناس، أما كيف نجاهد؟ فالجهاد أبوابه كثيرة منوعة، وكل يستطيع أن يقوم بشيء منه، وأقله الإعداد، قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]، الإعداد يرهب الأعداء، ويجعل المسلم جاهرا، ولا يخشى المباغتة، ومتى دعا الحاكم المسلم للاستنفار فهو جاهز، قال : ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية)) ، وفي رواية أخرى: ((مات على شعبة من نفاق)) ، وقال يوم الفتح: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)) رواه مسلم، وقال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190].
إذًا، الجهاد الذي ننادي به هو الدفاع عن الدين والنفس والعرض والمظلوم والضعيف قتالاً مشروعًا في سبيل الله، قد أمر الله به وأذن، وليس اعتداء على الآخرين، ومن لم يفعله فهو آثم، جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((لا تعطه مالك)) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) رواه مسلم. هذا الحديث يبين عزة المسلم وأنه عزيز، ولا يمكن أن يكون مستباحًا لكل غاصب أو طامع، بل يجب عليه المقاومة وعدم الاستسلام بشتى الطرق والوسائل؛ لأن نخوته وعزته توجب عليه الدفاع عن دينه ونفسه وعرضه وماله، ومكان هذه العزة هي قوة إيمانية بربه وصبره وثباته ومعرفته لدينه، والأمة تكون عزيزة حين تربي أبناءها على خلق الشجاعة وعلو الهمة والترفع عن سفاسف الأمور، وإلا ضاع الأبناء وانسلخوا عن دينهم وأصبح همهم الأول الحصول على وظيفة وزوجة بعد التخرج وسكن مناسب، وهذا حق لا جدال فيه، ولكن يجب أن لا يكون هو الهم الأكبر والمطلب الوحيد، فالجهاد هو السبيل الوحيد لاستعادة المقدسات والأراضي المغتصبة من الأعداء، سواء كانوا يهودًا أو نصارى، ولا سبيل غيره أبدًا أبدًا.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القاهر فوق عباده عزًا وسلطانًا، تعالى مجده وتعاظم ملكه وقسم الخلق بعدله ورحمته فمنهم كافر ومنهم مؤمن، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله المزيد من فضله وكرمه والإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، فطوبى لمن ذكروا بآيات ربهم فزادتهم إيمانًا، وويل ثم ويل لمن ذكروا بآيات ربهم فخروا عليها صمًا وعميانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، دعا إلى الحق سرًا وإعلانا، وكسر للشرك أصنامًا وهدم أوثانًا، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، إن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وكان نبيكم محمد يتمنى الشهادة في سبيل الله وهو النبي الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ففي الحديث الذي رواه مسلم يقول النبي : ((لولا رجال من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)) أو كما قال. فهذا صفوة خلق الله يتمنى أن يغزو في سبيل الله لنشر الدين وإرهاب الأعداء، وليس للدفاع عن بيضة الدين وعن الأنفس والأموال كما هو حالنا اليوم. وقال فيما رواه مسلم: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)). فنسأل الله أن يحيينا سعداء ويميتنا شهداء ويحشرنا في زمرة المصطفى.
ثم صلوا وسلموا على من أرسله الله رحمة للعالمين حيث قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلّ على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين والمستضعفين في كل مكان...
(1/5651)
الواسطة والشفاعة
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
27/2/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زكاة الجاه. 2- تعريف الواسطة. 3- انتشار ظاهرة الواسطة في المجتمع. 4- الشفاعة المحمودة والشفاعة المذمومة. 5- شروط الشفاعة المحمودة. 6- مفاسد الشفاعة المذمومة. 7- فضل الأمانة والتحذير من الخيانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا أن للجاه زكاة، واعلموا أن للمكانة الاجتماعية زكاة، فاستعملوا ما خوّلكم الله من نعمة الجاه في خدمة عباد الله المستحقين لذلك، فأن أنتم فعلتم فقد امتثلتم أمر نبيكم الذي يقول في الحديث المتفق عليه: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)).
حديثنا اليوم عما يسمى في هذه الأيام بالواسطة أو كما يحلو للبعض بتسميتها بـ(فيتامين واو)، قال ((من نفّس عن مؤمنٍ كُربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معْسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة)) رواه مسلم. فالبخيل ـ يا عباد الله ـ هو الذي يستطيع أن ينفع المسلمين بجاهه ونفوذه دون منةٍ ولا مشقه ثم لا يفعل، والمُفرّط هو الذي يتوسط للناس في كل الأمور دون التحقّق مما يفعل.
إن الواسطة هي الوقوف في صفّ من تربطه بك رابطة قرابة أو صداقه أو معروف، وتدافع عنه أو تشفع له أو تخاصم دونه، فإن كان في خير فلك نصيب من ذلك الخير، وإن كان غير ذلك فلك نصيب من ذلك الوزر، قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء: 85]. ومما عمت به البلوى اليوم انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حقّ من حقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، وإن كان في ذلك تجنٍّ على الغير أو ظلم لهم، والسبب في كل ذلك ضعف الوازع الديني والانقياد الأعمى للعاطفة والمجاملة والمحاباة للآخرين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء: 135]، فأمرهم الله أن يحتكموا إلى العدل لا إلى العاطفة في أداء الشهادة على وجهها دون مجاملة ولو كان في ذلك ضرر على الوالدين أو الأقربين، يقول رسول الله منفرا عن ذلك: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضار الله عز وجل، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) أي: حتى يرجع عن مخاصمته، وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُّ رسول الله ؟! فكلمه فيها أسامة، فقال رسول الله : ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟!)) ثم قام فاختطب فقال: ((أيها الناس، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) متفق عليه، وفي رواية: فتلون وجه رسول الله فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، قال: ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
ولكي تكون الواسطة أو الشفاعة شرعية يجب أن يتوفر فيها ثلاث شروط:
1- أن تكون الواسطة في أمر خير واضح بيّن ومتحقّق، كمن يتوسط بين متخاصمين للصلح بينهما أو زوجين متنافرين ليجمع بينهما، أو التوسط بين دائن ومدين للرفق به وحط شيء من دينه... إلخ.
2- أن لا تكون الواسطة أو الشفاعة في سوء يغلب على ظنه، كمن يتوسط في تزويج فاسق أو توظيف سارق أو رجل غير كفء ظنًا أنه قد يستقيم بعد الزواج أو يتحسن بعد حصوله على الوظيفة.
3- أن لا يكون في الواسطة مِنَّةٌ ولا مذلةٌ لطالب الواسطة، فإن المنَّة أذى، وإن الذل لا ينبغي لأحد إلا بين يدي الله سبحانه وتعالى.
4- أن لا تكون الشفاعة أو الواسطة في حد من حدود الله، كمن يشفع في عدم إقامة حد قذفٍ مثلاً أو سرقة أو قصاص على من يستحقه، فيفشو في المجتمع الخبث وتكثر الجرائم وتتعطل حدود الله ولا تقام إلا على الفقراء والضعاف في المجتمع، فيأمن المجرم العقاب الشرعي.
ولو نظرنا لمجتمعنا اليوم لوجدنا الواسطة تلعب دورًا مهمًا في حياة الناس، فيحصل على الوظيفة أحيانًا أناس لا يستحقونها، ويقبل في الكلية أو الجامعة طلبة دون المعدّلات المطلوبة، وقس على ذلك في كثير من القطاعات التي لها مساس كبير بحياة الناس ومستقبلهم، وإذا استمر الحال كذلك فإنّ الناس سوف يتكلون على الواسطة ويتركون التنافس الشريف فيما بينهم، فلماذا يتعلم الإنسان ويحاول الحصول على الدرجات العليا ويكدّ نهارًا ويسهر ليله إذا كان يستطيع الحصول على وظيفة أو تعيين في مكانٍ ما بشفاعة أو بخطاب تزكية من شيخ معروف أو من أمير مسؤول؟! وكذلك متى يتأدب ويُردع الفاسق والمجرم ويكفّ شره عن الآخرين إذا علم أنه ينجو من العقاب لأن قريبه فلان أو صديقه علان في الإدارة الحكومية الفلانية ويستطيع أن يغير الأمور لصالحه؟! وسيمتنع أهل الخير من فعل الخير إذا اكتشفوا أن من زكّي عندهم لا يستحقّ ذلك الخير لأن التزكية كانت غير صحيحة أو مبالغا فيها، وهذا الشيء انتشر كثيرًا وصار طالب التزكية يغضب إذا لم يكتب له في التزكية ما يريده هو لا ما يعرفه عنه المزكي.
ولو ذهبنا لتقصي العمائر ـ كمثال ـ التي يوقفها أصحابها جزاهم الله خيرًا، وهو ما يسمى بالأربطة؛ لوجدنا بعضًا ممن يسكنها ممن هم ميسورو الحال ولهم سكن آخر ومؤجّر، وما أتى بهم هنا إلا الواسطة الظالمة، أما المالك فقد لا يعلم من هذا شيئا. وهذه الواسطة الظالمة تظن أنها فعلت خيرًا ولا تعلم أنها خانت الأمانة وحرمت مستحقًا للسكن وأعطته للآخر.
ألا فلنتق الله يا عباد الله، ولنعلم أن الواسطة والشفاعة أمانة، وأن خطابات التزكية والتوصية أمانة، ولا يجوز فيها المجاملة، وأنها والله يوم القيامة خزي وندامة، فكم من صاحب حق منع حقه بشفاعة أو واسطة ظالمة وغير شرعية، وأعطي هذا الحق لمن لا يستحقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يحب المبادرين إلى فعل الخيرات، ويوفق من يمشي في حاجات الناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب من الناس أنفعهم للناس، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، ما دعي إلى خير فقال: لا، أيمن الناس نقيبة، وأعظمهم فضلاً، وأبذلهم للتضحية، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة المؤمنون، كما ذكرنا أن الواسطة والشفاعة تعتبر أمانة ولا يجوز التفريط فيها، فإن الأمانة شيء عظيم، تصان بها حقوق الله وحقوق الناس، إنها ميزةٌ فريدةٌ يتميز بها الإنسان الفاضل والمرء النبيل، وتشمل كلّ ما يُوكلُ للمرء من عملٍ ويكلّف به من أمر، إنها داخلة في علاقة المرء بربه وعلاقته بالناس أجمعين، وحقوق الجلساء والأصدقاء أمانة، ومن الخيانة أن تفشَى أسرارُها وتعلنَ أخبارها، وهي من أمانة المجلس، والودائع التي يودعها الناس بعضهم بعضًا ليحفظوها ويردوها عند طلبها أمانات من أعظم الأمانات، وقد رد نبيكم محمد ودائع المشركين عندما أراد الهجرة مع أن أصحابها كفار ألحقوا به الأذى وطردوه من داره وأهله، ولكنه الشريف الأمين لا ينحدر إلى هذه المنحدرات ، وإذا فَقَدت أمة من الأمم الأمانة فلن تجد إلا آفات جائحة ومصائب مهلكة وفقرًا مُعْوِزًا، وكما قال : ((إذا ضيعت الأمانة ووسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) أو كما قال. وبعد ضياع الأمانة يسقط البناء ويُسلب الأمن وتضيع حقوق الناس وتفتح أبواب الفقر والفاقة وتغلق على الأمة طرق الخير، وعند ذلك تنقرض هذه الأمة بانتشار الفساد وتسلط أهل الجبروت من حكام وغيرهم. وما أُغلقت بيوت عامرة وتفرقت أسرٌ كانت كريمة إلا نتيجة الخيانة في المعاملات السرية المكتوبة والشفاعات غير المشروعة التي تتلاعب بأقدار الرجال وتحطم كفاءات الأكفاء، فيتحكم السفيه في حق الشريف، ويستبد القويّ بحقّ الضعيف.
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا الأمانات إلى أهلها في كل جانب من جوانب الحياة، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم، وقد أخبر نبينا محمد بقوله: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) ، وقال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب: 72]، ظلومًا لنفسه عندما عصى ربه، وجهولاً بعاقبة تفريطه وما يلحقه من العقاب؛ لإخلاله بما التزمه دينًا وائتمن عليه. فنسأل الله أن يوفقنا جميعًا لأداء الأمانات على الوجه الذي يرضي ربنا.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمةً للعالمين، كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
لبيك اللهم صل وسلم عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5652)
حق الطريق
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
19/3/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمول الإسلام لكل شيء. 2- من آداب الطريق. 3- فضل إماطة الأذى عن الطرقات. 4- التحذير من أذية الناس في طرقاتهم. 5- من صور الأذية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة في الله، إن شرائع الإسلام لم تترك شيئا من شؤون الحياة إلا بينته من المهد إلى اللحد، ومن هنا نجد أن توجيهات الإسلام وأحكام الشريعة تدخل في تنظيم المجتمع وشؤون الإنسان، ونرى ذلك جليًا فيما أوضحه الكتاب والسنة وآثار الأئمة من آداب الطريق ومجالس الأسواق وحقوق المارة. جاء في محكم التنزيل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان: 63]، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 36-38]. أما في السنة المطهرة ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) ، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله : ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)) ، قالوا: وما حقه؟ قال: ((غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) متفق علية.
إذًا نرى أن الإسلام لم يتركنا هملاً، فلقد وضح كل شيء؛ كيف تمشي بين الناس، وكيف ترد على سفهائهم إذا خاطبوك، وفي حديث أخرجه الترمذي عدّ النبي من أبواب الخير: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)).
وهكذا، فعباد الرحمن والذين هم خلاصة البشر يمشون في طريق هونا، لا تصنع، ولا تكلف، ولا كبر، ولا غرور، مشية تعبر عن شخصية متزنة ومطمئنة، يظهر كل ذلك في مشي صاحبها، متبعًا ومتأسيا بالقدوة الأولى محمد ، فهو غير صخَّاب بالأسواق، حين يمشي يتكفّأ تكفيًا، أسرع الناس مشية وأحسنهم، هكذا وصفه الواصفون، ولا يمشي في الأرض مرحا، لا خفق بالنعال، ولا ضرب بالأقدام.
يُضَم إلى ذلك ـ أيها الإخوة ـ غض البصر، وهذا حق لأهل الطريق من المارة والجالسين؛ بأن تحفظ حرماتهم وعوراتهم، ففي ذلك صيانة للمرء في دينه ونفسه، ورد السلام فيه استجلاب للمحبة وإشعار بالأمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها إقامة الدين، وكل ذلك واجب شرعي مفروض على المسلمين جميعًا العمل به، وهو أكثر وجوبًا لمن يتخذ الطريق مجلسًا، سواء كان المجلس عابرا مؤقتا أو مقهى وغير ذلك.
وحينما طلب أبو برزة رضي الله عنه من رسول الله أن يعلمه شيئًا ينتفع به قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين)) ، وفي خبر آخر: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على طريق فأخَّرَه فشكر الله له فغفر له)) ، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عرضت عليّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم.
وكل هذا الثواب العظيم لمن يكفّ الأذى عن المسلمين، فكيف تكون العقوبة لمن يتعمد إيذاء الناس في طرقاتهم ومجالسهم؟! أخرج الطبراني من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي قال: ((من آذى المسلمين في طريقهم وجبت عليه لعنتهم)) ، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: ((اتقوا اللعانين)) ، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)). ومعنى ذلك: النهي عن قضاء الحاجة في الطريق الذي يسلكه الناس أو في الظل الذي يستظلون تحته من حرارة الشمس، وأن من فعل ذلك فهو مستحقّ للعنة والعقوبة؛ لأنه يؤذي الناس بذلك وينجسهم أو يحرمهم المرور في الطريق، فيدعون عليه باللعنة.
ومما هو جدير بالملاحظة ويجب الانتباه إليه هو أن قضاء الحاجة في الطرقات في أيامنا هذه قد قلّ أو انتهى ولله الحمد، ولا تجد من يتبرّز في الطرقات أو الشوارع والممرات، ولكن يوجد ما هو أدهى من ذلك وأمر وأشدّ أذية منه وتنفيرًا، وأظنكم قد عرفتموه أيها الإخوة، إنها المجاري أكرمكم الله، إنها البيارات التي ملأت الشوارع وأصبح ضررها أكبر من ضرر من يقضي حاجته في جزء يسير من الطريق. إنها تعمّ الشوارع وتتفرع، ولا يتوقف ضررها في مكانها، بل يتعدى ويشمل عدة أماكن وعدة شوارع، مما يعني كثرة المتأذين منها وكثرة من يدعون على صاحبها، لاسيما إذا كانت بجوار المساجد وتمنع المسلمين من الوصول إلى بيوت الله إلا بمشقة.
فاتقوا الله يا من تؤذون الناس في طرقاتهم وفي الشوارع، كفوا أذاكم واحترموا حق إخوانكم من المشاة والمارين، واتقوا اللعنات التي قد تصيبكم لأن النبي قال: ((من آذى المسلمين في طرقاتهم وجبت عليه لعنتهم)) ، لا تتهاونوا في هذا اللعن فإنه جدّ خطير عليكم وعلى أهاليكم وذرياتكم.
نفعني الله وإياكم والقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، أمر بالإحسان والتعاون على البرِّ والتقوى، ونهى عن الإساءة والأذى، وأشهد أن لا الله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق والهدى، وأمر ببذل المعروف وكفّ الأذى، صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين أنزل الله سكينته عليهم وألزمهم كلمة التقوى، وسلم تسليمًا كثيرا.
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واحذروا أذية المسلمين في طرقاتهم وجميع مرافقهم، فقد أخبر النبي أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان وأسباب دخول الجنة، وأنها من أنواع الصدقة والإحسان، وأن وضع الأذى في الطريق أو التسبّب فيه من أعظم الإساءة والعصيان، ومن أسباب اللعنة والخذلان.
والأذى كلمة شامله لكل ما يؤذي المارة كالحجر والعظم والنجاسة والزجاج وحفر الحفر في الطرقات أو إيقاف السيارات على مداخل المساجد أو العمارات. وكذلك من أذية المسلمين في طرقاتهم ما يفعله بعض السفهاء من وقوفهم بالسيارات وسط الشوارع بعضهم إلى جانب بعض، يتحدثون ويتمازحون ويحجزون الطريق على من خلفهم ويعرضون الناس لخطر المشاكل والمخاصمات، وقد تساهل كثير من الناس اليوم في هذا الأمر، فصاروا لا يبالون بأذية الناس في أماكن جلوسهم واستراحتهم، فتراهم يرمون بالقمائم في كلّ مكان، ويتركون الماء النقي يجري في الشوارع بدون اهتمام، ويلقون الأحجار والزجاج، ونسوا أو تناسوا ما في ذلك من الوعيد والإثم، وقل أن تجد من يحتسب الأجر فيزيل هذا الأذى أو يتسبب في إزالته بكلمة طيبة مع من يقوم بهذه الأذية؛ لأن الناس لا يحبون التحدث في مواضيع لا تخصّهم مباشرة، وهذا ليس من الإسلام في شيء.
فالواجب ـ أيها الأحبة ـ التعاون فيما فيه مصلحة عامة، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]. ولقد لعن الله بني إسرائيل لأنهم لا يتناهون عن المنكرات ولا يتناصحون فيما بينهم، قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].
ومن أذية المسلمين تحويل الشوارع إلى ملا عب للكرة؛ مما يتسبب بكثرة الصخب والتجمعات حولها مما يؤذي المارة وأصحاب البيوت المجاورة، وربما يتسبب عنه أضرار كثيرة وتجمعات مشبوهة.
ومن أذية المسلمين أيضًا مخالفة بعض سائقي السيارات لأنظمة المرور وأصول القيادة؛ كالسرعة في الشوارع الداخلية بين الإحياء؛ مما يؤدي إلى حوادث تذهب فيها أرواح بريئة أو تتعطل فيها أعضاء أو حواس، وكل ذلك مردّه وسببه السرعة وعدم إعطاء الطريق حقه.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في أنفسكم وفي إخوانكم، واحترموا حقوق المسلمين، واجتنبوا أذيتهم والإضرار بهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]. والتزموا بآداب دينكم، واحفظوا حقوق إخوانكم، وكف الأذى عن الطريق من أبرز الحقوق وأهمها.
ثم صلوا وسلموا على صفوة خلق الله كما أمركم بذلك رب العالمين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5653)
تغيير المنكرات
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا دعوية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
17/11/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصفات المطلوبة في الدعاة. 2- المفهوم الصحيح للإنكار باليد. 3- وجوب ضبط الغيرة بالشرع. 4- لا يكون الإصلاح بالتخريب والإفساد في الأرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد سبق الكلام في خطبة سابقة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلمنا وجوب ذلك على كل مسلم ومسلمة بقدر الاستطاعة وفي حدود الطاقة والعلم؛ لأنه لا بد من العلم والحكمة والبصيرة إلى جانب الأمر المهم والقاعدة الأساسية في كل قول وعمل حتى يقبل الله العمل، وهذا هو الشرط المهم في قبول الأعمال، ألا وهو الإخلاص لله رب العالمين والصواب على سنة رسول الله.
وعليه فإن على كل من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو يدعو إلى الله عز وجل ـ لأنَّ الدعوةَ أَعَمُّ وأشملُ من ذلك ـ على كل من يقوم بذلك أن يبدأ بالعلم أولاً لقول الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 19]، ثم البصيرة والحكمة في آنٍ واحد، قال الله جل جلاله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125]، وقال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنَ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]، وقال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة: 269].
وأما الإخلاصُ فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللهِ عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، وقال رسول الله : ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
وأما الصواب ففي قول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، وقوله سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وقوله : ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تَمَسَّكُوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان بألفاظ متقاربة، وقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)). رَدٌّ أي: مردود على صاحبه لعدم موافقته هدي رسول الله.
النهي عن المنكر باليد فَهِمَهُ بعضُ المسلمين بأنه الاعتداءُ على مرتكبي المنكرات بأي وسيلة حتى لو وصل إلى إزهاق الأنفس، سواء نفوس أصحاب المنكرات، أو من يحيط بهم أو يجلس معهم، وسواء كانوا مسلمين أو كفارًا، وهذا الفهم الخاطئ الذي يحمله ويَتَعَلَّقُ به ويُرَوِّجُ له مِنْ صَدْرِ الإسلام وحتى آخر الزمان هُمُ الْخَوَارِجُ الذين يكفِّرُون المسلمين الذين يرتكبون بعض الذنوب والمعاصي، ولذلك فهم يستبيحون دماءهم بهذه السهولة. وهذا الفكر التكفيري للمسلمين الذي يحمله تلك الفئة الضالة هو أحد الأسباب التي انطلق منها أولئك الْمُخَرِّبُونَ والمفسدون في الأرض والذين لم يفهموا الإسلام على حقيقته وشَوَّهُوا وَضَاءَتَهُ وبَهَاءَهُ بتصرفاتهم الرَّعْنَاء وغَيَّرُوا المنكرات بِأَنْكَرَ منها وأبشع، ومنها: الهجماتُ الشرسةُ التي شنَّها أعداءُ الإسلام من داخل ديار المسلمين ومن بلاد الكفر على المسلمين في أنحاء العالم، فلو أنّ تلك الفئة الضالة لديهم العلم والبصيرة والحكمة والصواب لما أقدموا على تغيير المنكرات التي أَفْضَتْ إلى ارتكاب منكرات عظيمة في حق الإسلام والمسلمين في جميع بقاع الأرض، قال الله جل جلاله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 108].
وَذَكَرْتُ العلمَ والبصيرةَ والحكمةَ والصوابَ ولم أَذْكُرِ الإخلاصَ الذي قد يكون لديهم ولدى كثير منهم والغيرة أيضًا على انتهاك المحرمات؛ لأنهما هما اللذان دَفَعَا إلى تغيير المنكرات، ولكن على غير علم وبصيرة وحكمة وصواب. فكان الذي شهده العالم منذ سنوات في أقطار مختلفة من قِبَل أولئك الذين ضَلَّلَهُمْ قادتُهم بأنهم مجاهدون في سبيل الله عند قيامهم بتلك التفجيرات لتغيير المنكرات، ولم يستطيعوا التفريق بين الجهاد في سبيل الله وبين تلك الأعمال التي لا يجدون لها دليلاً في القرآن الكريم أو في سنة رسول الله. والأدلة التي ذكرتها في خطبة سابقة حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فيها أي إشارة إلى قتل أي إنسان من المسلمين أو الكفار، بل هي الغيرة عند انتهاك الحرمات وارتكاب المحرمات والموبقات والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والنصيحة الواجبة التي تفرض على المسلم القيام بها أداءً لها وقيامًا بواجب الأمانة وخروجًا من الإثم الذي قد يلحق الشخص عند التقصير في عدم القيام بما أوجب الله عليه، فهل يفهم أيُّ عاقلٍ من المسلمين لديه علم وبصيرة بأن الرسول أمر في الأحاديث التالية بقتل صاحب المنكر، أم أنه تَحْرِيكُ الْغَيْرَةِ في نفوس المسلمين لتغيير المنكرات وعدم السكوت عليها متى ظهرت أمام الناس وفي المجتمع وذلك بالطرق الحكيمة والبعيدة عن الفوضى والْغَوْغَائِيَّةِ التي يرتكبها وارتكبها مَنْ شَوَّهَ صورة الإسلام الناصعة وسمعة المسلمين؟!
إن جميع الآيات والأحاديث الواردة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تدل على أهمية هذه الشعيرة العظيمة في الإسلام؛ ليقوم كلٌّ بدوره ابتداءً من نفسه وأسرته ومن تحت رعايته إلى إخوانه المسلمين وإلى المجتمع، ولكن ضمن الحدود والأُطُرِ التي وضعت القيود لهذا الأمر وغيره في الإسلام، وليس تبعًا للرغبات والأهواء ونزوات النفوس واتباع خطوات الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: 21].
قال رسول الله : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه الإمام مسلم رحمه الله، وقال رسول الله : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُمْ فقالوا: لو أنا خَرَقْنَا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا)) رواه البخاري والترمذي وغيرهما. معنى ((القائم على حدود الله)) : المُنكِر لها القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه، ومعنى ((استهموا)) : اقترعوا، ومعنى ((أخذوا على أيديهم)) أي: منعوهم من الخرق.
وفي نهاية الحديث الآخر بعد أن تلا رسول الله هذه الآية وهي قول الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ، إلى قوله تعالى: فَاسِقُونَ [المائدة: 78-81]، ثم قال : ((كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
فهل يفهم أحد من هذه الأحاديث بأن تغيير المنكر هو بالسلاح وقتل مرتكبي المنكرات، أو هو المنع لهم من ارتكاب المعاصي والوقوف ضد ارتكابها والْحَيْلُولَة دون الاستمرار فيها؟! هل هو القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سفينة الحياة التي يركبها الْبَرُّ والفاجِرُ والمسلمُ والكافرُ وفق سنة المدافعة بين الإسلام والكفر والحق والباطل، أم هو قتل الآخرين والتخلّص منهم بأسرع وقت ممكن حتى تبقى الحياة على هذه الأرض دون ذنوب وآثام؟! هل يريدون تطهير المجتمعات بأسرها من المنكرات الظاهرة والباطنة والقضاء على الشر والفساد حتى لا يبقى شرٌّ في الأرض ولا يبقى إلا الخير وأهل الخير وبذلك يكونون مخالفين ومُحَادِّينَ لله فيما أَقَرَّهُ سبحانه وبحمده من أن هذه الحياة الدنيا لا بدّ فيها من الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين الفريقين حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟! وأدلة ذلك كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وتأتي في حينها إن شاء الله تعالى. هل في هذه الآيات التالية أو الآية التي سبق ذكرها عن بني إسرائيل بأنهم: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة: 79]، أو قول الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، وقول الله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، أو قول الله سبحانه وبحمده: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]، هل في هذه الآيات أدنى إشارة إلى حمل السلاح وقتل الناس المرتكبين للمعاصي؟! هل ورد فيها (تقتلون الذين لا ينتهون عن المنكرات) أو على أقل تقدير (تضربونهم أو توسعونهم ضربًا وحرمانًا) أم أنها العبارات التالية: ((وينهون عن المنكر)) ((وتنهون عن المنكر)) ؟! هل ورد استعمال اليد في تغيير المنكر في آية أو حديث غير هذا الحديث الذي رَتَّبَ تَغْيِيرَ المنكر وحَدَّدَهُ بثلاث مراتب: باليد أولاً، وإن لم يستطع فباللسان ثانيًا، وإن لم يستطع فبالقلب ثالثًا وأخيرًا، فاللسان يستطيعه أُنَاسٌ ولا يستطيعه آخَرُونَ كما ورد في حديث رسول الله ، وهناك مواقف لا يستطيعها بعض المسلمين حتى في بيوتهم فضلاً عن الأماكن العامة، بل إنه لا يجوز أن يتعدى أحد على صلاحية غيره حتى في البيوت؛ لأن المسؤوليات مَنُوطَةٌ بأشخاص حتى في البيوت، ليست فوضى، أما القلب فباستطاعة أي مسلم أن تتحرك فيه الغيرة على انتهاك محارم الله في أي مكان وموقع في هذه الأرض، ولا يُعْذَرُ أحدٌ في ذلك لأن الرسول لم يعذر أحدًا، بل نفى عنه الإيمان كما جاء في الحديث الآخر قوله : ((وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان)) أي: إذا لم يُنْكِرِ الْمُنْكَرَ بقلبه فليس لديه إيمان في قلبه؛ لأنه فَقَدَ الإحساسَ وتَبَلَّدَتْ مَشَاعِرُهُ فاستحقَّ هذا الوصف، ولكن تغيير المنكر باليد ليس لكل أحد وفي كل مكان وبأي وسيلة، بل إن اليد يستعملها المسلم في بيته لتغيير المنكر بإزالته والوقوف ضدّ ارتكابه ومع أهله وأولاده ومن تحت يده وفي إدارته ومصنعه ومتجره وعمله الذي يقوم هو على شؤونه وإدارته، وليس معنى التغيير هنا باليد أنه على إطلاقه أي: بالضرب على كل منكر، بل هو بإزالة المنكر باليد دون إلحاق الضرر بِمُرْتَكِبِ المنكر، وهذا يكون في مواقف كثيرة يعرفها الجميع، أما استعمال اليد في الأماكن العامة والأسواق والمتنزهات وغيرها فلا يُقْدِمُ عليه مسلم لئلا يُغَيَّرَ المنكرُ بِأَنْكَرَ منه، وحتى لا تشيع الفوضى في المجتمع، وإنما هناك جهات مسؤولة عن ذلك خاصة في بلاد الحرمين حيث وجود جهة مسؤولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجود أجهزة متعددة لعدد من المنكرات أيضًا مثل مكافحة المخدرات والرشوة وغيرها من المنكرات التي تُحارب من الجميع.
قال عز وجل: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8]، وقال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14]، وقال عز وجل: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: 25].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده، سيدنا وحبيبنا ورسولنا رسول الثقلين الإنس والجن محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فالمؤمن يغار عند انتهاك حرمات الله من قِبَلِ أيِّ مخلوقٍ آخرَ مسلمٍ أو كافرٍ، والواجب أن تكون هذه الْغَيْرَةُ مُنْضَبِطَةً ومُقَيَّدِةً في حدود الشرع، وليست تبعًا للهوى وما تشتهيه الأنفس، ولا بدّ أن يغضب المسلم لله عز وجل ويَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ عندما يرى المنكرات وتتحرّك فيه الغيرة الإيمانية المقيدة بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله محمد ، الغيرة التي تُصْلِحُ ولا تُفْسِدُ ولا تُؤَدِّي إلى مفسدة أكبر ولا إلى ارتكاب محرمات وموبقات أخرى من قبل مرتكب المعصية ولا من قِبَل المسلم نفسه كما حصل لأولئك الذين أساؤوا لأنفسهم أولاً قبل أن يسيئوا للإسلام والمسلمين والمنتشرين في كثير من أقطار الأرض وليسوا في هذه البلاد لوحدها ولهم تنظيماتهم السّريّة وقياداتهم الشيطانية التي كفّرت المسلمين وولاة أمرهم من العلماء والحكام على حد سواء، واعتقدوا بأنهم سائرون على النهج الصحيح والطريق المستقيم وأنهم مجاهدون في سبيل الله، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم مع أنهم مُخْتَبِئُونَ، ومن قام منهم بتلك العمليات التخريبية التدميرية إما أن يكون قد فَجَّرَ نفسه وقتلها وأوردها المهالك وارتكب الكبائر والذنوب الموبقة قبل موته، أو أنه فَارٌّ وهَارِبٌ ومُخْتَبِئٌ ومرتكبٌ لكبائرَ أخرى من الذنوب.
ومن كبائر الذنوب التي ارتكبها المفسدون قبل انتحارهم التَّزْوِيرُ في الوثائق الرسمية وغيرها وسرقةُ أموال الناس أو اختلاسُها وإنفاقُها في غير الطرق التي أرادها الْمُودِعُون لها في تلك الصناديق، والكذبُ والبهتانُ وسوءُ الظن بالمسلمين إلى غير ذلك من الموبقات، هذا قبل ارتكاب الجريمة، أما عند الإقدام على الجريمة فَقَتْلُ الشخص منهم لنفسه، وسبق أنْ عَلِمْنَا الدليلَ من الكتاب والسنة على حُرْمَةِ هذا العمل والعقوبة المترتبة على ذلك، وقَتْلُ المسلمين والأنفس المعصومة من غير المسلمين، وإفسادُ الأموال العامة وتدميرُها في الفنادق والمجمعات السكنية والطائرات والسفن وغيرها، ويعتقدون بأن عملهم ذلك هو غَيْرَةٌ لله وتَغْيِيرٌ للمنكرات في بلاد المسلمين وبلاد الكفار على حَدٍّ سواء، وقد جهل أولئك أنَّ اللهَ أَغْيَرُ منهم ومِنَّا ومن كل البشر عمومًا عندما يرتكب العاصي أي معصية تغضب الله وخاصة تلك المحرمات والمنكرات المعلنة، ولكنه سبحانه وبحمده يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ وإذا أَخَذَ فإنَّ أَخْذَهُ أليمٌ شديدٌ، وها نحن نشاهد الظلم والطغيان والفساد على مستوى الحكومات والدول، ولكنها أخذت تتهاوى وتتساقط تلك القوى الظالمة التي عَاثَتْ في الأرض فسادًا ابتداءً من الشيوعيين ومرورًا بالبعثيين وانتهاء بالدولة الغاشمة المستبدة التي أخذت تتصرف في العالم كَالثَّوْرِ الْهَائِجِ مُعْتَزَّةً بتقنياتها الحديثة وإمكاناتها المادية والاقتصادية، ولكنها إن شاء الله وبإذنه عز وجل قد قَرُبَ سُقُوطُهَا؛ لأنه ما من شيء يبلغ نهايته في الظلم والطغيان إلا ويسقط سقوطًا ذليلاً مهينًا بإذن الله تبارك وتعالى، ومعها بإذن الله دولة اليهود في أرض فلسطين التي تستمد طغيانها من تلك الدولة الماردة الشريرة، وهم أولياء بعض كما ذكر الله ذلك في محكم التنزيل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. وليس أدّل مما علمناه من أمر الزعماء الطغاة المعاصرين وآخرهم من سكن الجحور عدة شهور بعد التقلب بين ردهات عشرات القصور. أعود للقول بأن الله أغير من المؤمنين عندما يرتكب العباد المحرمات والآثام والموبقات، وهو أعلم وأحكم سبحانه يمهل ولا يهمل، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله : ((إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) رواه مسلم، وقال رسول الله : ((المؤمن يغار، والله أشد غيرًا)) رواه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش)) رواه البخاري واللفظ له ومسلم، وفي الحديث الذي ذكرناه سابقًا عن غَيْرَةِ سعد بن عبادة رضي الله عنه وعندما بلغ ذلك رسول الله فقال: ((تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين)) رواه الإمامان البخاري مسلم رحمهما الله واللفظ للبخاري، معنى العذر أي: الأعذار والإنذار قبل الأخذ بالعقوبة، ولهذا بعث الله المرسلين، قال الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]، وقال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61]، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف: 57-59]، وقال رسول الله : ((إن الله لَيُمْلِي للظالم، فإذا أَخَذَهُ لم يُفْلِتْهُ)) ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] متفق عليه.
إذًا المسلم ليس مأمورًا بِإِرْغَامِ الْبَشَرِ على الهداية أو أنه يرتكب الموبقات من أجل ارتكابهم للمحرمات، ولا يجوز له أن يقدم على ما أقدمت عليه تلك الْفِئَةُ من أعمال تخريبية باسم الإصلاح وتغيير المنكرات، ولكنها سُنَّةُ الْمُدَافَعَةِ بين الحق والباطل والخير والشر والمؤمنين والكافرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا في حدود كتاب الله وسنة رسوله محمد.
وحول الهداية وما أُمِرْنَا به نَحْوَ غَيْرِنَا يكون الحديثُ إن شاء الله تعالى في خطبة قادمة، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272]، وقال سبحانه وبحمده: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 99-101]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118، 119].
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ورسولنا محمد وآله، ورضي الله عن صحابته الأطهار، وأولهم الخلفاء المهديون الأربعة...
(1/5654)
الهداية والمنكرات
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا دعوية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
24/11/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النتائج المترتبة على الأساليب الدعوية الخاطئة. 2- استغلال العلمانيين للأخطاء الدعوية. 3- المنكر لا يغيّر بأنكر منه. 4- لا إكراه في الدين. 5- تأملات في آيات الدعوة والإرشاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زال الحديث موصولاً بسابقه حول تغيير المنكرات ودعوة الناس عمومًا إلى الله تعالى وموقف المسلم من ذلك وبعض المفاهيم الخاطئة والأفكار المنحرفة عن منهج الكتاب والسنة والتي حملها بعض المسلمين وطبّقوا نتائج أفكارهم التي أوقعت المسلمين في أمورٍ وأوضاعٍ ومَآزِقَ بين الأمم لا يُحْسَدُونَ عليها، حتى تَجَرَّأَ على الإسلام والمسلمين ليس الكفار وحدهم من جميع الملل والنحل فقط وإنما أعطوا الفرصة لمن هم مُتَلَبِّسُونَ بلباس الإسلام ويحملون في سُوَيْدَاءِ قلوبهم الشرورَ والْغَوَائِلَ وينتظرون مثل هذه الفرص السَّوَانِح لِيَثِبُوا على المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله محمد ، ولا أَدَلَّ على ذلك من هذه الهجمة الشرسة على قادة بلاد الحرمين وعلمائها ومناهجها ودعاة الخير فيها على جميع المستويات، وأقول للمتحمسين من شباب الصحوة الإسلامية: خُذُوا الدروسَ والعبرَ والعظاتِ وطُولَ النَّفَسِ من العلمانيين والحداثيين والفرق الضالة المنتسبة للإسلام، والتي تعمل عشرات السنين وتُخَطِّطُ وتُنَظِّرُ وتَنْتَظِرُ حتى تحينَ الفرصُ وتستغلَّ المناسباتِ والأوقات الملائمةَ للانقضاض على الفريسة في الوقت المناسب لِتَخْتُلَهَا وتَضْرِبَهَا في مَقْتَلٍ ومَطْعَنٍ بسبب تمسكها بكتاب الله وسنة رسوله محمد ؛ لأنَّ نَصَاعَةَ الإسلامِ تَضُرُّ بهم وبمصالحهم ومآربهم الفاسدة؛ مستغلّين الشعارات والجمل والعبارات التي ظاهرها الخير والإصلاح وباطنها الشر والإفساد والقضاء على العقيدة الصحيحة التي قامت عليها الدولة السعودية. إن استغلالهم هذه الأوقات العصيبة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية وهذه الدولة الفتية لهو أمر يدعو كل ناصحٍ ومُؤْتَمَنٍ أن يقوم بدوره ويتحمل مسؤوليته قبل أن يَعضَّ أصابعَ الندم هو وغيرُه في الدنيا ويلقى جزاء تقصيره في الآخرة. أعود للقول بأن على المسلمين من أهل السنة والجماعة أن يفيقوا من غفلتهم وينتبهوا من رقادهم ويعلموا ما يدور حولهم وما يتربص بهم أعداؤهم في الداخل والخارج، عليهم أن يحملوا راية توحيد الله رب العالمين نابذين كل مظاهر الشرك ملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله محمد ، لا يخافون في الله لومة لائم، معتصمين بحبل الله داعين إليه على هُدى وبصيرةٍ وعلمٍ وحكمةٍ، صابرين ومُصَابِرِينَ ومحتسبين للأجر والثواب من الله جل جلاله، قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101]، وقال جل جلاله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108]، وقال عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، وقال جل جلاله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة: 269]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]. ولا أستطرد كثيرًا في المقدمة التي أحسب أنها قد عُلِمَتْ للجميع من خلال القنوات الإعلامية الكثيرة والمجتمعات والحوارات الفردية والجماعية في اللقاءات السرية والعلنية وعلى جميع المستويات العلمية والعامية، وتكفي الإشارة هنا حتى يأتي الوقت المناسب إن شاء الله تعالى.
ولكن أعيد القاعدة الشرعية بأن المنكر لا يُغيّر بأنكر منه، ولو تأملنا دليل ذلك من كتاب الله عزّ وجلّ وربطنا بينه وبين الآيات التي سبقت ذلك الدليل والتي بعدها لحصل خير كثير بإذن الله عز وجل حول هداية الله للبشر؛ لأن قلوبهم بيد الله العليم الحكيم، إن شاء هداهم وإن شاء أضلّهم، ولهم في ذلك مَشِيئَةٌ وإِرَادَةٌ ولكنها لا تخرج عن إرادة الله ومشيئته، وما على المسلم إلا أن يسلك الهداية المأمور بها، وهي هداية الدلالة والإرشاد والتوجيه، أما هداية القلوب فهي بيد الله سبحانه وبحمده، فالدليل على نهي المؤمنين عن سَبِّ آلهة المشركين وما يعبده الكفار أيًا كانوا حتى لا يسبّوا الله عز وجل وتعالى وتَنَزَّهَ عما يقوله الظالمون والمفترون هو في الآية التالي ذكرها، وفي نهايتها التوجيه والإرشاد الرباني لأهل العقول السليمة، وفي آيات أخرى أيضًا بأن شياطين الإنس والجن يُزَيِّنُونَ الضلال للكفار ومن سار على نهجهم، قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 108].
أعود لذكر الآيات السابقة واللاحقة لهذا الجزء من الآية وآيات أخرى من سورة الأنعام التي شيّعها من الملائكة ما سدّ الأفق عندما نزلت على رسول الله ولهم زجل بالتسبيح والتحميد لله عز وجل كما جاء في بعض الروايات والتي تم التركيز فيها على توحيد الله وتعظيمه جلّ جلاله، قال الله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 100-112]، وبعد آيتين جاء قول الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 115-117]، وبعد آيتين أخرى قال عز وجل: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام: 120]، وبعد آيتين كذلك قال الله جل جلاله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123]، وبعد آية قال الله سبحانه وبحمده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 125-127]، وبعد عشرين آية قال الله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 147-149].
ولنستمع إلى هذه الآيات التي وردت في بداية السورة نفسها والتي جاءت تسليةً لرسول الله وهي لاتباعه كذلك، وعلينا أنْ نَعِيَهَا جيّدًا هي وغيرها ونقرأ تفسير هذه السورة كاملة وتفسير القرآن كله إن استطعنا، فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة. أورد الآيات التالية من السورة نفسها وأريد التأمل جيدًا على وجه الخصوص لنهاية الآية الرابعة بعد الوقوف والتأمل لما قبلها وما بعدها وهي قول الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ [الأنعام: 35]، وأما الآيات التي قبلها وبعدها فهي قول الله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام: 32-36].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فليس على المسلم أن يُكرِهَ أو يُرغِمَ أحدًا على الإسلام ولو كان أقرب قريب له وأحبهم إلى نفسه، ولا أن يقتل أحدًا من المسلمين أو غيرهم من أجل ارتكاب المعاصي والآثام، فليس ذلك من الإسلام في شيء، وإنما عليه أن يتبع منهج القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الصحيحة في جميع تعاليم الإسلام ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، وأذكر آيات فقط للاستدلال بها على ممارسة الدعوة إلى الله والتي هي هداية الدلالة والإرشاد، والتي أقرها الله سبحانه وتعالى وأثبت في الوقت نفسه للرسول بأن هداية القلوب بيده سبحانه وذلك عندما قال لعمه أبي طالب: ((قل كلمة أحاجّ لك بها عند الله)) ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يدعوه ويهديه إلى الطريق المستقيم وتلك هي الهداية الظاهرة المطلوبة منه ومن أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولكن هداية القلوب بيد الله جل جلاله، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56]. وأثبت سبحانه ما يستطيعه البشر من هداية دلالة وإرشاد، فقال جل شأنه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى: 52، 53].
ولنتأمل هذه الآيات كما يجب أن يتأملها من يحمل الفكر التكفيري التأمّل كلمة كلمة في النهي عن الفساد وانتقام الله سبحانه وغيرته على انتهاك المحرمات وأخذه للظالمين المعتدين في كل زمان ومكان بالزلازل والبراكين والفيضانات أو غرق السفن أو تحطّم الطائرات وغير ذلك من أنواع العذاب العاجل في الدنيا، والتأمل في مشيئته سبحانه وقضائه وقدره العادل على جعل الناس فريقين عامين في هذه الحياة الدنيا ومصيريْن اثنين في الآخرة، والآيات التي أوردها أريد من الجميع قراءة ما قبلها وما بعدها والبحث في معانيها، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 116-120]، وقال جل شأنه: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82، 83]، إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل: 37]، وقال جل جلاله: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود: 66-68]، وقال جل شأنه: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 94، 95]، وقال جل جلاله: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ [هود: 100-109]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد: 31]، وقال تعالى: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40]. واقْرَؤُوا سورة النحل، ومنها: الآية التالية وما بعدها: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل: 25]، والآية هذه وما بعدها: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [النحل: 34]، وقوله جل شأنه في الآيات التالية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 43-47]، وقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272]. وفي آخر سورة يونس التي هي من أعظم السور التي تقرّر عقيدة التوحيد وتذكّر بأحوال الأمم من قبل كما هو الحال في الآيات السابقة من سورة هود قال جل شأنه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، إلى أن قال سبحانه في آخر آيتين: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس: 108، 109]، وقال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 256، 257]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون]، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45].
حول مجمل هذه الآيات السابق ذكرها والمفاهيم الخاطئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا والولاء للمؤمنين والبراءة من الشرك والمشركين والجهاد في سبيل الله ومواضيع أخرى يكون الحديث عنها إن شاء الله تعالى في خطب لاحقة، وقبلها أو بعدها عن التوبة بإذن الله عز وجل، قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 40-44]، وقال جل شأنه وتعالى سلطانه: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران: 196-198]، وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 33-37]، وقال سبحانه وبحمده: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً [الإسراء: 15-22]، وقال سبحانه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 132]، وقال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود: 110-113]، وقال جل شأنه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 73-81]، وقال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 45، 46].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5655)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
11/5/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خيرية الأمة الإسلامية. 2- أسباب تفشي المنكرات. 3- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- التحذير من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- من يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- مراتب تغيير المنكر. 7- الضوابط الشرعية لتغيير المنكر باليد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد فَخُرَتْ هذه الأمة وحُقَّ لها أنْ تَفْخَرَ بما شهد الله لها به وفضّلها على غيرها حيث قال جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]، فمن حَقَّقَ هذه الأمور الثلاثة: الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من هذه الأمة التي فُضِّلت على الناس، ومَنْ لَمْ يُحَقِّقْهَا خرج من هذا الوصف الجليل بقدر ما فاته من التحقيق. ولن يفوز المسلمون بخيرية هذه الأمة المسلمة التي أُخرجت للناس حتى يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، والمعروف: كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر: كل ما نهى الله عنه ورسوله.
أيها المسلمون، لقد مرضت قلوب كثير من المسلمين وكاد المرض أن يقضي على بعضها بالموت حتى نُزِعَتْ الغيرة الدينية من كثير منها؛ فأصْبَحَتْ لا ترى المعروف معروفًا ولا المنكر منكرًا، أصبح الشخص من أولئك لا يَتَمَعَّرُ وجهُه ولا يتغيّر من انتهاك حرمات الله، وكأَنَّه إذا حُدِّثَ عن انتهاكها يُحَدَّثُ عن أمرٍ عاديٍّ لا يُؤْبَهُ له، وهذا دَاءٌ عُضَالٌ أعظم من فقد النفوس والأولاد والأموال.
فواجب على المسلمين أن يتقوا الله ربهم ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتعاونوا على الحق والبر والتقوى، وأن لاَّ تأخذَهم في الله لَوْمَةُ لائِمٍ، وأن لاّ يخوِّفَهم شياطينُ الإنس والجن ويُوهِنُوا عَزَائِمَهُمْ، فمتى صدق المسلمون العزيمة وأخلصوا النية وأحسنوا العمل واتّبعوا الحكمة في تقويم عباد الله وإصلاحهم على منهج الكتاب والسنة فكلّ شيء يقوم ضدّ الحق سيضمحلّ ويزول، فالباطل لن تثبت قدماه أمام الحق، قال الله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18].
إن الذي ينقص المسلمين كثيرًا في هذا الزمان وفي كل مكان هو عدم التعاون بين أهل الخير لكثرة الخلاف والاختلاف واتباع الأهواء والْحِزْبِيَّاتِ، فنجدهم متفرّقين متباعدين لا ينصر بعضهم بعضًا ولا يقوم بعضهم مع بعض لنصرة الحق إذا جاء عن طريق غيرهم، وغاية الواحد منهم في كثير من الأحيان أنْ يَتَأَلَّمَ في نفسه أو يَمْلأَ المجالس قولاً بلا فائدة، ولو نظر المسلمون في كل مكان إلى ما هم فيه من أمراض وفسادٍ ومنكرات وبحثوا في منشأ تلك الأمراض وذلك الفساد وبدأ كل شخص بإصلاح نفسه وأولاده وأهل بيته ومن تحت يده ورعايته، لو فعل كل شخص منّا ذلك لصلحت الأسر جميعها وصلح المجتمع الذي هو مُكَوَّنٌ من تلك الأسر بإذن الله عز وجل.
أما إن كان منشأ ذلك من بعض ضعاف الإيمان والذين استحوذ عليهم الشيطان وتمّت دعوتهم ومناصحتهم بالتي هي أحسن وتذكيرهم بالله وتخويفهم به وبأليم عقابه إذا لم يقلعوا عن المنكرات فإن الواجب نهيهم عن تلك المنكرات، فإن هم تابوا وأنابوا فلهم من الله الأجر والمثوبة وقبول التوبة إن هم صدقوا في توبتهم، وفوق ذلك تُبَدَّلُ سيئاتِهم إلى حسنات، ولمن نهاهم عن الشرّ والفساد والمنكرات أيًّا كانت لهم مثل أجورهم بإذن الله إن تاب أولئك، وإن لم يتوبوا فلهم أجر هداية الدلالة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
فعلى المسلمين والمؤمنين حقًا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وعليهم مناصرة بعضهم بعضًا على الحق؛ لكي يرحمهم الله عز وجل ويتحقق لهم وعد الله تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 71، 72]. وإذا لم يقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكونوا أولياء لبعضهم كانوا على العكس من ذلك خاصة إذا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانطبقت عليهم صفات المنافقين، عندها يستحقون الوعيد الوارد في القرآن الكريم، قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة: 67، 68].
فعلينا أن نحذر عقاب الله ونتذكر عظمته وقهره ونقوم بما أوجب علينا؛ لئلا تُسْلَبَ منا النِّعَمُ وتَحلَّ بنا النِّقَمُ، قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]، وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]، وقال عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، ولنتأمل آخر كلمة في الآية عندما قال الله عز وجل: وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ولم يَقُلْ: (وأهلها صالحون)؛ لأن الصلاح يختص بالشخص نفسه، أما المصلح فهو غالبًا صالح في نفسه مصلح لغيره حريص على صلاح الناس واستقامتهم على دين الله خائف من حلول عقاب الله عليه وعلى غيره الوارد في عدد من آيات القرآن الكريم كما في الآية السابق ذكرها وفي غيرها، مثل قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقوله عز وجل: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83]، وقوله عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، وقوله عز وجل: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 164، 165]، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كَلَّمَ أحدًا، فَلَصِقْتُ بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مُرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. رواه ابن ماجة وابن حبان رحمهما الله، وقال : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤْذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) رواه البخاري والترمذي وغيرهما. ومعنى ((القائم على حدود الله)) أي: المنكر لها القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه، ومعنى ((استهموا)) أي: اقترعوا.
إذًا، إذا أردنا أن ننجو في الدنيا قبل الآخرة فعلينا القيام بهذه الشعيرة العظيمة حتى تنجو سفينة المجتمع من الغرق، وإذا لَمْ يَقُمِ المسلمون في أي مجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يغرق الجميع في عواقب المعاصي والمنكرات ويتحقق التشبيه البليغ الوارد في الحديث السابق ذكره وفي أحاديث أخرى وآيات قرآنية تتلى إلى يوم القيامة، عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحَلَّقَ بأصْبعَيْهِ الإبْهَامِ والتي تليها، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) متفق عليه. والخبث: الفسوق والفجور. يدلّ الحديث على أنه إذا كثر الخبث فقد يحصل الهلاك العام وإن كثر الصالحون، وهذا يؤكد الفرق بين الصالح والمصلح، فالحديث يؤكّد ما ورد في الآية القرآنية السابق ذكرها أيضًا في قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم تلا قول الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ إلى قوله تعالى: فَاسِقُونَ [المائدة: 78-81]، ثم قال: ((كلا والله، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) أبو داود والترمذي وهذا لفظ أبي داود.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ العليمِ الحكيمِ، الرؤوفِ الرحيمِ، قدّر لعباده من الأسباب المعنوية والحسية ما يمنعهم من ارتكاب المعاصي والآثام وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بعينه حسب استطاعته وكما ورد في مراتب ودرجات الناس في تغيير المنكر بحسب المسؤولية والمكانة والصلاحية، أما الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله عمومًا بالتي هي أحسن فهي أيضًا حسب القواعد الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ومجال الدعوة إلى الله أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجب أن يقوم بها جميعًا جهةٌ معينة في مجتمعات المسلمين، ولا تسقط بذلك التَّبِعَةُ عن عموم المسلمين فيما هو في مقدرتهم واستطاعتهم وتحت رعايتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
هذه الآية ورد فيها وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على فئة من الأمة الإسلامية لتقوم بهذه الشعيرة العظيمة التي عَدَّهَا بعضُ العلماء ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، والآية الأخرى التي جاءت بعد عدة آيات تُرَغِّبُ في هذا العمل الجليل وتَشْحَذُ الْهِمَمَ للحصول على هذه الخيرية، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]، وقال عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]، وقال رسول الله : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
إذًا فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يختص به أحد في كل صغيرة وكبيرة في داخل البيوت وخارجها، إنما هو واجب على الجميع كل فيما يَخَصُّهُ، وهناك فرق بين التخصص والاختصاص في هذا الأمر وفي غيره، ففي هذا الجانب مثلاً يوجد جهة تجمع بين التخصّص والاختصاص، فتلك جهة مختصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخرى مختصة في شؤون الدعوة إلى الله عمومًا، وهذا في الأمور المتعلقة بأمور العامة من المسلمين كما هو موجود في بلاد الحرمين حيث وجود جهازين حكوميين في هذا المجال والذي يُنظَّم فيه العملُ حسب توجيه ولي الأمر، وليس لكل أحد من عامة الناس حتى ولو كان موظّفًا في إدارة حكومية أخرى أن يقوم بتغيير المنكر باليد في المجتمعات العامة وما ليس تحت إدارته حتى لا تحصل الفوضى كما حصلتْ مِمَّنْ قَلَّ عِلْمُهُمْ وفِقْهُهُمْ وخرجوا عن نصوص الكتاب والسنة وأساؤوا للإسلام والمسلمين، ها هم يقومون بالتفجيرات والتخريب والتدمير وقتل الناس بحجة تغيير المنكر في المطاعم والمقاهي والملاهي، ولم يؤمروا بذلك في قرآنٍ أو سُنَّةٍ، وإنما هو اتباع للهوى وتفسيرات وتأويلات باطلة لا تَمُتُّ إلى لإسلام بصلة، وقِلَّةُ العلم وكثرة الجهل بأمور الإسلام وعدم أخذ العلم عن العلماء والاكتفاء بالقراءة في الكتب واتخاذ الرؤوس الجهال أوردهم تلك الموارد المشينة، وليس تغيير المنكر باليد لكل أحد في أي مكان، ولا يُغَيَّرُ المنكرُ بأَنْكَرَ منه ولو كان في استطاعة أي شخص القيام به، فتغيير المنكر باليد في المجتمعات العامة والأسواق والمتنزهات وغيرها هذا عائد للجهة المختصة للقيام بذلك، أما الشخص في منزله ومع أولاده وأهل بيته ومن تحت يده ورعايته وفي مؤسسته وإدارته حكومية أو أهلية أو مصنعًا أو مزرعة أو محلاً تجاريًا فله التغيير باليد، وليس لكل المشتركين معه التغيير باليد في المنكر إلا على قدر مسؤوليتهم، وإلا أصبحت الفوضى هي الشغل الشاغل في مجتمعات المسلمين، وهذا هو الذي حصل الآن في المجتمعات عامة نتيجة ذلك الفكر التكفيري الذي خرجت به تلك الجماعة التخريبية التي انطلقت في جميع بقاع الأرض لتغيير المنكرات بتدمير الأرواح والممتلكات، ولم يَسْتَمِدُّوا منهجهم ممن خلق الأرض والسماوات العليم الخبير بما يصلح عباده والقائل سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: 99، 100].
ولنتأمل هذه الآيات التي لو تأمّلها وعقلها المجرمون الآثمون لوجدوا فيها الأجوبة الشافية لما يدور في نفوسهم، لو عرفوها وعرفوا غيرها من الآيات والأحاديث وتفسير ذلك وربطوا بينها لما أقدموا على هذا الإجرام في جميع بقاع الأرض باسم الإصلاح وتغيير المنكرات، والمجال لا يسمح باستعراض سبب نزول الآية الأولى فقط والذي لو لم يكن فيه من الفوائد إلا أن المنكر لا يغير بأنكر منه لكفى بها فائدة عظيمة، قال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، إلى أن قال سبحانه في هذا الترابط العجيب والكلام البليغ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 114-123]. لو تأملوا آخر هذه الآية: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ وفي آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأخرى التي تنتهي بقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران: 109]، وقوله عز وجل: وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]، فعلى المسلم الصبر والمصابرة في هذا الأمر وفي غيره، وليتأمل قول الله عز وجل الوارد في وصية لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17]، لو تأملوا ذلك وتأملوا قول الله عز وجل: وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وقول الرسول : ((فليغيره بيده)) لعلموا أنَّ هذه النصوصَ وغيرَها لم يرد فيها الإقدام على القتل والتخريب والتدمير لمرتكبي المنكرات من المسلمين أو الكفار، وأنَّ هذه الأعمال المشينة مُعَارِضَةٌ لآيات الدعوة إلى الله عمومًا والتي سوف يكون لها خطبة مستقلة إن شاء الله تعالى، ومنها قول الله عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125].
إذًا على الذين يصطادون في الماء العكر أنْ يفهموا أنَّ الإسلامَ بريءٌ من أفعال تلك العصابات الإجرامية وأن هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية والوهابية التي يَعِيبونَ أهلها بهذا الوصف الذي وصفها به الأعداء والمناهج التعليمية ومدارس وجماعات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية ومراكز الدعوة والتوجيه والإرشاد في جميع أجهزتها ومساجدها ومنابرها الدعوية بَرِيئَةٌ مما قاله الأعداء وما تَفَوَّهَ به أهلُ المعاصي والآثام والذين يَتَمَنَّوْنَ أنْ تُتْرَكَ لهم الحرية البهيمية لِيَعِيثُوا في الأرض فسادًا كما ورد على ألسنتهم وبأقلامهم عند أول حدث حصل في المملكة وكما حصل من قبل، فعليهم أن يرجعوا إلى إسلامهم وتعاليمه السمحة ويتمسكوا بالإسلام قولاً وعملاً واعتقادًا بدلاً من اللعب على الْحَبْلَيْنِ، فالله مُتِمُّ نُورِهِ عز وجل، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32]، وقال عز وجل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8]، فهذه الدولة القائمة في بلاد الحرمين قامت بما أوجب الله عليها بعد أنْ مَكَّنَهَا الله في الأرض مع عدمِ ادِّعَاءِ الكمالِ والوصولِ إلى الْمِثَالِيَّةِ، وهذا من العجز البشري الذي يعترف به الجميع، وهذا من فضل الله عليها وعلى جميع من يعيش على هذه الأرض المباركة من المؤمنين والمنافقين والكافرين على حد سواء؛ لأن هذه الخيرية وهذه النعم التي ينعم بها الجميع بسبب تطبيق الشريعة الإسلامية فَعَمَّ خَيْرُهَا الجميعَ، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]، فهل يجوز أنْ تُنْسَبَ تلك الأعمالُ الإجراميةُ الإفساديةُ التي يقتل فيها الانتحاريون أنفسَهم ويُفَجِّرُونها ويُفَجِّرُون غيرهم ويُدَمِّرُونَهم هل يجوز أن تنسب تلك الأعمال للمملكة وهيئاتها ودعاتها والمصلحين فيها؟! مع أنَّ كلَّ يوم تَبْزُغُ شمسُه ينكشف شيء جديد حول تعدد جنسياتهم وارتباطهم بشبكة عالمية إجرامية، وعندما تأتي حادثة جديدة في أي بقعة من العالم يأتي الجواب الذي حَارَ فيه كثيرون من عدم تصوره وفهمه له وارتباطه بشبكة عالمية وليس خاصًا ببلاد الحرمين، وهذا شيءٌ مُهِمٌ في جميع الاتجاهات ولجميع القطاعات والإدارات المختصة والمتخصصة وللأفراد أيضًا حتى يعرفوا الأسباب والدوافع لأي قضية تقع خاصة عندما تُشَكِّلُ ظاهرةً اجتماعيةً لِلتَّمَكُّنِ من توفير العلاج الناجع لقادم الأيام، حيث لا يكفي أنْ تُقَامَ الحدودُ مثلاً على السارقين فقط أو أولئك المخربين؛ لأنه لن يتم القضاء على هذه الظواهر إلا بمعرفة الأسباب والدوافع ومن ثم العلاج الصحيح في جميع الاتجاهات وليس من زاوية قاصرة أو زوايا ضَيِّقَةٍ، وإنما بمفهوم واسع واعٍ مستوعبٍ للمشاكل المحيطة بتلك الدوافع وأصحابها. والله عز وجل المسؤول أن يصلح حال أمة الإسلام وشؤونهم وجميع أمورهم ويوفقهم لما يحب ويرضى ويصرف عنهم الشرور والفواحش ما ظهر منها وما بطن ويصلح منهم الظاهر والباطن ويجعل عواقب أمورهم وأحوالهم إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد ودنياهم وآخرتهم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5656)
أصحاب الفيل وحماية الله للبيت الحرام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
29/2/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأمن في مكة. 2- قصة أصحاب الفيل. 3- آيات في تأمين الله بيته الحرام. 4- وجوب تعظيم مكة. 5- التحذير من الإلحاد في الحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد امْتَنَّ الله بنعم كثيرة على المؤمنين عامة وعلى قريش وأهل مكة خاصة، ومن أهمها نعمةُ الأمن لبيت الله الحرام ومَنْ جَاوَرَهُ، هذا البلد الأمين الذي أقسم الله به في آيات من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد: 1، 2]، وقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين: 1-3]. فالبلد هو مكة المكرمة، وفيها بيت الله الحرام أول بيت وضع للناس في الأرض ليكون مثابة لهم وأمنًا، يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم، ويلتقون فيه مسالمين، حرامًا بعضهم على بعض، كما أنَّ البيتَ وشجرَه وطيرَه وكلَّ حَيٍّ فيه حرامٌ إِيذَاؤُهُمْ، ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب وقدوة المسلمين أجمعين، كما قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة: 4]، وقال سبحانه وبحمده: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78]، وقال عز وجل: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ [البقرة: 130].
والآن مع استعراضٍ سريعٍ لسورة الفيل، ومن أراد التوضيح والاستزادة فعليه بكتب السيرة وكتب التفسير عن هذه الآيات وغيرها، ففي سورة الفيل إشارة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة عظيم الدلالة على رعاية الله وحمايته لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور ومَحْضِنَ العقيدة الجديد.
وخلاصة قصة أصحاب الفيل أن الحاكم الحبشي لليمن ـ في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها ـ الحاكم المسمى: أَبْرَهَة كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة والفخر والخيلاء؛ من أجل أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة. وكانت في العرب نَخْوَةٌ وشَهَامَةٌ ولا زالت في بعضهم، فلما سمع العرب ومنهم قريش ببناء الكنيسة في اليمن غضبوا غضبًا شديدًا، فذهب رجل قرشي إليها فدخلها وتَغَوَّطَ فيها غضبًا منه لفعل أبرهة من إرادته صرف العرب عن الكعبة في مكة إلى الكنيسة في اليمن، فلما رأى السَّدَنَةُ ذلك الْحَدَثَ من هذا القرشي رفعوا أمره إلى أبرهة فعزم عندها أبرهة على هدم الكعبة، وقاد جيشًا جرّارًا من الأحباش تصاحبه الفِيَلَة، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم، فتسامع العرب به وبقصده، وعَزَّ عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم، فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يُقَالُ له: ذُو نَفْر، فدعا قومه إلى حرب أبرهة وجهاده وصَدِّهِ عن البيت الحرام، فأجابه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، ولكنه هُزِمَ وأخذه أبرهة أسيرًا. ثم وقف له في الطريق كذلك نُفَيْلُ بن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهم عرب كثير أيضًا، فهزمهم أبرهة، وأَسَرَ نفيلَ بن حبيب وأخذه معه، حتى إذا مَرَّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتّب في رجال من ثقيف فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد ـ يعنون اللات الذي كان في الطائف يعبدونه ويعظمونه تعظيم الكعبة ـ إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك مَنْ يَدُلُّكَ عليه، فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أَبَا رِغَالٍ حتى أنزله الْمُغَمَّس قرب مكة، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فَرَجَمَتِ العربُ قبرَه بعد ذلك بسبب ما أقدم عليه من الدلالة لأبرهة على الكعبة، وأغار جيش أبرهة على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها فأصابوا فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها، ثم حضر إلى أبرهة فَأَجَلَّهُ وأعظمه وأكرمه من أن يجلس تحته كما ورد في الروايات، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير مُلْكِهِ فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أنْ يَرُدَّ عليَّ مائتي بعير أصابها لي، فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه، قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني، قال عبد المطلب: أنت وذاك، فردّ عليه إبله، ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في رؤوس الجبال، ثم قام عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده وخرجوا إلى رؤوس الجبال.
أما أبرهة فَوَجَّهَ جيشَه وأَفْيَالَهُ لما جاء له، وفيهم الفيل المسمى: محمود قائدها، فَبَرَكَ دون مكة لا يدخلها وتَعِبُوا في ضَرْبِهِ على أن يتّجه لمكة ولم يفلحوا في ذلك حتى روي أنهم إذا وجهوه إلى أي جهة ينصرف ويقوم إلا جهة مكة فإنه يبرك ولا يتحرك مهما قهروه وعملوا فيه، وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة، فقالوا: خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، أي: حَرَنَتْ، فقال رسول الله : ((ما خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، وما ذاك لها بِخُلُقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل)) ، وقال رسول الله يوم فتح مكة: ((إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فَلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ)).
ثم كان ما أراد الله من إهلاك الجيش وقائده، فأرسل الله عليهم جماعات من الطير الأبابيل ترميهم بحجارة صغيرة فيما بين العدس والحمص حتى أهلكتهم وتركتهم كورق الزرع المأكول وتساقطت لحومهم أنملة أنملة وجعلهم الله عبرة للمعتبرين.
وليتذكر المؤمنون نعمة الله عليهم وحمايته لبيته الحرام مهما كاد الأعداء له ودبروا وخططوا على مر السنين والأعوام، وأنزل الله في ذلك قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة وسورة سميت بسورة الفيل وغيرها من الآيات التي تذكّر بنعمة الأمن في هذا البلد الحرام وأن الله سيمنعه بمنّه وقدرته سبحانه وتعالى، فهو يعطي المهلة والإمهال لمن تسوّل له نفسه بإلحاد في بيته الحرام حتى يعتقدَ كلُّ مُخَرِّبٍ بأنه بلغ مقصوده أو قارب، ولكن الله له بالمرصاد يأخذه سبحانه أَخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ لِيُنَكِّلَ به ويجعله آية تبلغ العالم أجمع ليرتدعَ كلُّ مفسد يريد الإخلال بأمن هذا البلد الحرام أو إلحاق الضرر به وبأهله، وليعلمَ البشرُ بأن الله سيحمي بيته ويمنعه مهما تعالت قوة البشر أو تخاذلت وتقاعست الدول الإسلامية عن حماية البيت الحرام، فهو سبحانه الذي تكفل بأمنه وحمايته، وجعل من عباده المؤمنين على مَرِّ السنين من يقوم بحمايته في الظاهر ولكن عناية الله فوق ذلك.
وهذه بعض آيات القرآن الكريم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ:
قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67]، وقال تعالى عن دعاء إبراهيم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة: 126]، وقال عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، وقال سبحانه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، وقال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد: 1، 2]، وقال سبحانه: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين: 1-3]، وقال عز وجل: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [ قريش: 3، 4]. وينبغي لكل مسلم التدبر والتأمل في معاني وتفسير آيات سورة قريش وسورة الفيل خاصة وغيرها بصفة عامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [سورة الفيل].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فمعلوم لدى كل مؤمن بالله أنّ أقدس بقعة على وجه الأرض هي مكة المكرمة البيت الحرام وما جاوره من الحرم، ويجب على كل مسلم ومسلمة تقديسه واحترام حرمته ومعرفة مكانته وعدم انتهاك المحرمات فيه وفي غيره، والسيئات فيه أعظم من غيره، وأقول: أعظم وليس أكثر في العدد، كما أن الحسنات تضاعف فيه بفضل الله ورحمته. ويجب على كل مسلم حمايته، ومن حمايته أن يكون هو رجل أمن يخبر عن أي مَكْرٍ وفساد يريد أهل الشر والفساد أن يفعلوه حول بيت الله الحرام وغيره، وليعلم بأن الله سيحمي بيته سواءٌ قام المسلم بواجبه نحو ذلك أَمْ لم يقم بذلك فهو تحصيل حاصل.
وهذا ما نجده في آيات القرآن الكريم من حماية الله لبيته الحرام وسَوْق الرزق له من أرجاء المعمورة، وهذه مِنَّةٌ عظيمةٌ يَمْتَنُّ اللهُ تعالى بها على أهل بيته حتى الكفار منهم، فهو يمتعهم في هذه الحياة الدنيا وهو المتاع القليل بالنسبة لمتاع الآخرة ولكنه يضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير.
وخطبة الجمعة عادة لا تكفي لإعطاء الموضوع حقه من البيان والتوضيح لِنُفْرَةِ الناس من ذلك ومَلَلِهِمْ من عشرين دقيقة في الخطبتين، مع أنهم يقضون الساعات الطويلة في اللهو واللعب والسهر ولا يَمَلُّونَ، نعوذ بالله من زيغ القلوب وفسادها، ولو لم يكن في القرآن الكريم إلا هذه الآية عن هذا البلد الآمن بإذن الله لكفت كل مسلمٍ وَاثِقٍ بنصر الله وعدله وحكمته وقضائه وقدره, ولكن الآيات المؤكدة بالقسم وغيره وردت بهذا، قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57].
نعم، إن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إن أكثر الناس لا يعلم ذلك التمكين للحرم الآمن ولا لجلب الرزق لهذا الوادي الذي ليس فيه زرع، وعدم العلم لأغلب الناس من عهد النبي محمد إلى أن تقوم الساعة، فالناس من حول هذه البقعة الطاهرة في خوف وقلق وهو يعيش هذا الأمن المحسود عليه من جميع الأمم على مر السنين، يقول الله تعالى عن ذلك: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67]، فنعمة الأمن من أكبر النعم وأعظمها بعد نعمة الإسلام التي يجب الإيمان والتصديق بها وعدم جحودها وكفرانها. وقد مَرَّ بنا ذكر آيات من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة: 126].
وعلى المسلم أن يستفيد دروسًا وعظات وعبرًا مما يَمُرُّ من الأحداث سواء حول الحرم أو غيره، وعليه أن يثق ويعتقد بأن الله سيحمي بيته ويفضح من يريد به سوءًا على مرأى ومسمع من العالم ليكون عبرة لغيره، وسواءٌ كان هذا الحاقد ممن يتسمّى بالإسلام والإسلام منه بريء، أو من غيره من الأعداء، فالله له بالمرصاد ويمهله حتى آخر لحظة يفرح فيها بأنه بلغ هدفه ثم يفضحه سبحانه ويُمَكِّنَ منه للقصاص والجزاء العادل الذي هو من جنس العمل. وعلى كل شابٍ مسلم في أي بقعة من الأرض أن يستفيد درسًا من أولئك الشباب المتهورين الذين لم يمروا بتجارب الحياة ولم تكن لديهم الخلفية والتفكير في عواقب الأمور وعن مقاصد وأهداف أولئك الشرذمة ومَنْ وراءَهم حيث أغروهم بالأموال والمناصب الزائلة التي اندفعوا لطلبها، وخسروها وخسروا دينهم، مع أن عقيدتهم الفاسدة عقيدة الرافضة والخوارج من أخطر ما يكون على الإسلام والمسلمين. وهكذا على مر السنين يستخدم أصحابُ الأهداف والتنظيمات السياسية والانتقامية والانقلابية والفوضوية يستخدمون الشبابَ لأغراض ينبغي أن لا تخفى على كل مسلمٍ فطنٍ يخاف من الله ومن أليم عقابه ويرجو من الله حسن الثواب.
قال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5657)
حقيقة انتساب اليهود لإبراهيم عليه السلام
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
21/6/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداء اليهود لأمة الإسلام. 2- تفنيد مزاعم اليهود بأحقيتهم في فلسطين. 3- المسلمون أولى الناس بإبراهيم وبفلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، يتساءل البعض: لِمَ لا يتصالح المسلمون مع اليهود وينتهي العداء بينهم وتستقر أحوال المسلمين في فلسطين ما دام اليهود أصبح وجودهم أمرًا واقعًا لا مفرّ منه ولهم الحق في فلسطين؟! ونسي أمثال هؤلاء أو غفلوا أنّ هذا العداء أبديّ سرمديّ لا يمكن أن ينتهيَ إلا بالقضاء على اليهود والنصارى وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما ادِّعاء اليهود بحقّهم في فلسطين مستندين على خرافات تلموذيّة كتبها لهم أحبارهم ورهبانهم الضالون وأصبحت لهم دينًا يتَّبع فإنه ادعاء باطل لا دليل عليه ولا أصل له. ومن ادعاءاتهم هذه أن الله منح إبراهيم على رسولنا وعليه الصلاة والسلام منحه أرض فلسطين له ولنسله من بعده، بمعنى أن لهم الحق في أرض فلسطين ولهم الحق في إخراج أهلها منها، ونسوا أن العرب أيضًا من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهم أحق منهم بفلسطين، ولو حاولنا أن نصدق تلك المقولة الكاذبة أو تأملنا الأدلة القطعية لوجدنا أن أدلتنا أصدق وأقوى وأصح؛ لأن مصدرها القرآن الكريم الكتاب الذي لا يتبدّل ولا يتغير بتقادم الزمان.
إن الحقيقة التي بينها القرآن هو أن أبانا إبراهيم حينما أنجاه الله من النار ومن أهلها الكفره هاجر من بابل في العراق إلى الأرض المباركة في فلسطين هو وأهله وآمن معه لوط، قال تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء: 71، 72]، وبعد أن نجاه الله ولوطًا قدم إلى الأرض المباركة فلسطين بأمر الله حيث استمر يدعو إلى الله ويقيم بيوتًا لله وينشر دين الله فيها ورزقه الله ابنين هما إسحاق ويعقوب، وكافأه الله بأن جعله للناس إمامًا، فطلب إبراهيم من ربه أن يجعل هذه الإمامة الدينية في ذريته من بعده، فرد الله عليه بقوله تعالى: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وتتمة الآية: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]، فالظالمون هم المشركون الكافرون من ذريته.
وبما أن إبراهيم على رسولنا وعليه الصلاة والسلام إمام للناس فإن أبناءه المؤمنين الموحدين هم أئمة للناس وذريته الصالحة قائدة وهادية للبشرية، وهذا عهد من الله لهم ووعد منه سبحانه وتعالى، وأما الظالمون الكافرون من ذريته فهم محرومون من هذه المكانة الدينية بسبب كفرهم وظلمهم وعدوانهم، لا يستحقون وعد الله ولا يشملهم عهد الله كاليهود والنصارى اليوم مهما حاولوا أن يدلّسوا ويغيروا الحقائق بأنهم ورثة إبراهيم وموسى؛ لأن الله حكم بذلك بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ، ومعنى لا يَنَالُ عَهْدِي أي: لا يصل عهدي الذي أعطيته لإبراهيم لا يصل إلى الظالمين من ذريته؛ لأن عهد الله ووعده لا ينتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء كما تنتقل الأموال والممتلكات، وبالتالي فإن المستحقين لهذا العهد والوعد هم المسلمون المؤمنون الصالحون من ذريته عليه السلام.
وكتاب الله يبين هذا واضحًا جليًا وذلك حينما بدأ إبراهيم وابنه إسماعيل على رسولنا وعليهما الصلاة والسلام حينما بدءا بناء الكعبة المشرفة طلبا من الله أن يجعلهما مسلمين وأن يجعل من ذريتهما أمه مسلمة، قال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 127، 128]. إذًا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام مسلمان بنص الكتاب، وإسماعيل هو أبو العرب، ودينه الإسلام، ونحن أمة مسلمة من ذريته، ويعقوب هو أبو اليهود، ويسمى إسرائيل، وهو أيضًا مسلم، قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133]. هذه شهادة من يعقوب وذريته بأنهم يتبعون دين آبائهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وليسوا على الدين اليهودي كما يزعم اليهود من ذريته الذين بدلوا وغيروا دينهم من بعده، فهؤلاء هم الضالون المكذبون، والذين حرموا نعمة الإسلام بكفرهم وبظلمهم وأصبحوا أعداء ليعقوب وإسماعيل وكذلك أعداء لإبراهيم أيضًا ولا يستحقون أن ينتسبوا إليه، وأن المسلمين هم أولى الأمم بالانتساب الديني إلى إبراهيم كما قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68] أي: أن أولى الناس بإبراهيم من اتبعه وأسلم معه من قومه، ثم هذا النبي أي: نبينا محمد ومن آمن معه من أمته.
كل هذه الحقائق والأدلة من كتاب الله تبين وتظهر الحقيقة وتبطل الدعايات اليهودية الكاذبة والمضللة والتي تدّعي بأنها هي الوريث الوحيد لإبراهيم وللأرض المباركة فلسطين، والتي جعلها الله لإبراهيم وللمؤمنين من ذريته، فالمسلمون هم الوارثون الذين ورثوه في الدين والإيمان والدعوة إلى الإسلام، وليس الوارثون ممن تناسلوا منه وخالفوه في دينه. يقول تعالى ممتنًا على عباده المسلمين المؤمنين من أمة محمد : هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختاركم ـ يا أمة محمد ـ لدينه وعبادته ونصرته، وجعل الرسول عليكم شهيدًا لكي تتبعوا أباكم إبراهيم، وجعلكم أنتم شهداء على البشرية لاتباع هذه الملة الصحيحة، ثم يختم الله سبحانه وتعالى بالدليل القطعي والنهائي والذي رد كيد اليهود في نحورهم حينما ادعوا بأن إبراهيم كان يهوديًا، وبين بأن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا ولم يكن من المشركين، ورفض جدال اليهود والنصارى بالانتساب إليه، وقرر أن إبراهيم كان موجودًا قبل وجود اليهود والنصارى، فكيف يكون يهوديًا أو نصرانيًا وقد جاءت اليهودية والنصرانية من بعده؟! فيقول سبحانه وتعالى مبينًا كذب اليهود والنصارى وإجرامهم في حق إبراهيم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران: 65]، هل تعقلون ما تقولون أم أنكم لا عقول لكم؟! ثم يضيف قائلاً: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 67]؛ لأن موسى وأتباعه وعيسى وأتباعه جاؤوا بعد بعثة إبراهيم بسنين عديدة، فكيف يكون إبراهيم يهوديًا أو نصرانيًا وهم أتوا من بعده؟! لا إله إلا أنت سبحانك هذا بهتان عظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الولي الكريم، الغني الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات على النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن آمن به واهتدى بهداه.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، لقد علمنا علم اليقين واتضح لنا من كتاب ربنا بأننا نحن المسلمين أولى الناس بإبراهيم وبأرض فلسطين وبيت المقدس، وهي أمانة في أعناقنا لا بد من تخليصها من اليهود الغاصبين مهما كلّف الأمر ومهما كانت التضحيات، وتبين لنا بأن اليهود كاذبون في إدعاءاتهم، وأنه لا حق لهم في الانتساب إلى إبراهيم، ولا حق لهم في فلسطين ولا بيت المقدس، مع أنهم تمكنوا بسبب هيمنتهم وتسلطهم على وسائل الإعلام من تغيير الحقائق والتلبيس على كثير من الناس لدرجة أن بعض المسلمين لا يزال يتساءل ويقول: لماذا لا نتصالح مع اليهود ونعيش معهم في أمن وأمان؟! وربنا سبحانه وتعالى خالقنا وخالقهم من العدم يقول في كتابه الكريم: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، ويقول: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217]، فكيف بربكم نصدق أمثال هؤلاء الذين جبلوا على الكذب والخداع ونقض العهود والمواثيق من بداية عهدهم مع نبي الله موسى إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة؟!
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعرفوا عدوكم من كتاب ربكم لا مما يبثه عليكم الإعلام المضلل الذي يديره عدوكم من يهود ونصارى، وأعدوا أنفسكم لملاقاته يومًا ما وربما يكون قريبًا.
ثم صلوا وسلموا على رسول ربكم محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...
(1/5658)
وسوسة الشيطان
الإيمان
الجن والشياطين
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
12/8/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله تعالى خالق الداء والدواء. 2- أصناف الناس تجاه الأمراض الروحية. 3- عدم الالتزام بالمنهج الصحيح في أمور الغيب. 4- عداء الشيطان للإنسان ووساوسه. 5- أهمية التعلق بالله تعالى للتّحصن من كيد الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المسلمون، تحدثنا في جمعةٍ ماضيةٍ عن السحر وأثره، واليوم سوف يكون حديثنا عن أن صلاح الأجساد من الأمراض العضوية أو النفسية مرتبط بصحة العقيدة وقوة الإيمان.
إن الله ربنا لا إله إلا هو من اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم، ومن استعان به واستعاذ أوى إلى ركن شديد، نزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، خلق الأجساد وأمراضها والأرواح وأسقامها والقلوب وأدواءها والصدور ووساوسها، فإن صلاح الأجسام من الأمراض مرتبط بصحة العقيدة، فمن فسدت عقيدته لا يصلح جسده وإن بدا صحيحًا، فحينما يضعف الإيمان ويختلّ ميزان الاعتقاد تختلط الحقائق بالخرافة، وتنتشر الأوهام والشعوذة، وتجد في قلب ضعيف الإيمان مكانًا للتفكّر والتأمل، ومن هنا يبدأ الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم ويضيع الحق بين فريقين:
ماديون ينكرون الغيب وعالمه ويكفرون بما جاءت به رسل الله من الحق، والمادة عندهم هي كل شيء وما عدا ذلك فهو خرافات وأوهام المجتمعات البدائية، والإيمان بالغيب عندهم يعتبر انتكاسة حضارية إلى العصور المظلمة، هذا فريق.
والفريق الآخر ملأ الشيطان رؤوسهم وقلوبهم بالخرافات والرؤى ومحاولة تأويلها والبحث عند الكهان والمنجمين عن الحلول النافعة.
وكلا الفريقين على ضلالة، والأول المنكرون للغيب وما جاءت به الرسل يعتبرون زنادقة وملاحدة، والآخرون اعتمدوا على الأوهام الفاسدة، وبنوا حياتهم على الظنون والتوقعات، وتعلقوا بأهل الكهانة والتنجيم، فهم في جاهلية جهلاء، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40].
وإن مما يلاحظ على كثير من الناس في أيامنا هذه عدم الالتزام بالمنهج الصحيح فيما يتعلق بعلم الغيب؛ ناسين أو متناسين أن علم الغيب لا مصدر له سوى كتاب الله وسنة نبيه ، أما أخبار البشر فليست مصدر علم غيبي، بل إنها عبارة عن أساطير وأوهام وخليط كلام يأتي به مسترقو السمع من السماء، فالإسلام ـ أيها الإخوة ـ دين يزيل الخرافة من الفكر والرذيلة من القلب، فالإنسان جسد وروح، فكما يتأثر من المواد من طعام وشراب وحرّ وبرد وغذاء ودواء فإنه أيضًا يتأثر بالمؤثرات الروحية بإذن الله تعالى، فلقد جعل الله للشيطان وجنوده تسلطًا على بني آدم وابتلاء لهم، يزداد هذا التسلط كلما بعد الإنسان عن ربه، ويضعف ويتلاشى كلما تقوّى بالإيمان واليقين قلبه، إذًا الأمر بيدك أيها المؤمن، تستطيع أن تقوّي إيمانك بالله وتهزم الشيطان، وإن ضعف إيمانك انهزمت أمامه وخذلك، قال تعالى عن الشيطان: وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء: 64]، وقال أيضًا: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17]، وقد أخبر نبيكم محمد فقال: ((ما من أحد من بني آدم إلا وقد وكل إليه قرين من الجن)) ، قالوا: وإياك يا رسول؟ قال: ((وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)) رواه مسلم، وفي حديث آخر: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)). إذًا ما دام هذا حال الشيطان مع كل إنسان فلا بد من الاستعداد لمقارعته ومراغمته للتقليل من تأثيره أو محاولة هزيمته، ولقد قال النبي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مدللاً على قوة إيمانه ويقينه على الله: ((يا عمر، لو سلكت فجًا لسلك الشيطان فجًا غيره)) أو كما قال.
هذا التأثير ـ أيها الإخوة ـ من الشيطان لا بد من المعاناة منه، وهو عام لجميع البشر، وينقسم إلى عدة أقسام، منه ما هو وسوسة، ومنه ما هو إيماء، ومنه ما هو محسوس وملموس. وتظهر هذه الوساوس والأحاسيس حسب انفعالات الإنسان وتفاعله مع هذه الأحاسيس، فمثلاً من فكر في موضوع كالفقر والحاجة وحب المال والبحث عن المتاع الحرام تدخل الشيطان فورًا وسحب الإنسان بعيدًا عن الهدى ولبس عليه ومناه وفرحه وجعله في جو آخر ممتعًا ولكنه خيالي، قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 286]، وإن تفكر الإنسان أيضًا في حب الأولاد والعواطف واسترسل وأطلق لخياله العنان تدخل إبليس اللعين وصرفه عن الحق، قال تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء: 64]. وتأملوا في النظر المحرم والنظرة سهم من سهام إبليس، وهو الذي يحرف الإنسان عن مسلك الرشاد ويطور هذه النظرة إلى أحاسيس وأفعال ومصائب، وكذلك في انفعالات الغضب يتدخل الشيطان ويتغلغل ليخرج المرء عن طوره فيسب ويشتم ويقطع الرحم ويطلق من أجل ذلك، قال النبي : ((ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب)) ويسيطر على أعصابه وانفعالاته، كذلك فلا يفعل عملاً يأسف عليه فيما بعد.
إن الشيطان قد يبث المخاوف في النفس والرعب في القلب ويملؤه بالقلق والحزن، قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]، وقال: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة: 10]، وكل هذه التأثيرات التي ذكرناها تتم بالوسوسة والإيحاءات، أما التأثير الشيطاني المحسوس الملموس فقد أخبر عليه الصلاة والسلام: ((إن كل بني آدم يطعن في جنبه بإصبعه حين يولد)) أي: كل إنسان حين ولادته يطعنه الشيطان بإصبعه، وقال أيضًا في حديث آخر: ((إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي)) رواه مسلم. وهذه الآثار سواءً كانت وسوسة أو محسوسة لها علاجها ووقايتها، وهي سهلة ميسرة إذا رزق العبد إرادة قوية متعلقة بربها واثقة به، يقول تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99، 100] أي: ليس له سلطة وتأثير على المؤمنين المتوكلين، إنما تأثيره وسلطته على الذين يتولونه ويشركون به ويفتحون له الأبواب والطرق لكي يوسوس عليهم بمحاولتهم تحليل ومحاولة فهم بعض الأمور الغيبية التي أمرنا أن نؤمن بها دون نقاش، فمثلاً حديث النبي : ((إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه؛ فإن الشيطان يدخل)) متفق عليه، يجب أن لا نحاول معرفة كيفية دخول الشيطان وبأي صورة ونبدأ نتساءل ونسأل أنفسنا: كيف ومتى ولماذا؟! ونستمر في محاولة معرفة كيفية دخول الشيطان، وكذلك الحديث الآخر: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه)) متفق عليه، فالواجب عدم السؤال أو الاستفسار: كيف يبيت الشيطان على الخيشوم من الداخل أو من الخارج؟! وهل يبقى منه أثر لكي نستنثر؟! والمقصود بالاستنثار هو إدخال الماء إلى داخل الأنف ثم إخراجه، كل هذه الاستفسارات لا تفيد، وهي أولى خطوات الشيطان لإبعاد المؤمن عن منهج الله وسنة رسوله ، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: 21]، لا تفتح للشيطان مجالا للمساءلة والاستفسار، بل اتبع أوامر الله ورسوله بكل ثقة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عالم السر والخفيات، أحمده سبحانه قسم العباد بعدله بين الناس إلى سعيد وشقي، سعيد اتقى الشبهات، وشقي تعدى حدود الله وارتكب المحرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب المعجزات، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أيها الإخوة المؤمنون، من المعلوم أن الناس يتفاوتون في قوة إيمانهم وقوة إرادتهم وصدق تعلقهم بربهم، فكلما تقوّى الإيمان واليقين بالله ضعف الوسواس، والعكس بالعكس؛ كلما ضعف الإيمان واليقين بالله ازداد الوسواس وتدخل الشيطان لإبعاد الإنسان عن ربه، فأهل الإيمان والتقوى دائمًا متيقظون لخطوات الشيطان، ولا يستطيع أن يغويهم أو يبعدهم عن الصراط المستقيم كما قال الله عنهم: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]، إذا شعروا بأي شيء من تلبيس إبليس لا ينجرفون وينقادون معه، بل فورًا يتذكرون ويرجعون إلى ربهم، عند ذلك يهديهم ربهم بإيمانهم، فيبصرون ويدركون أن ذلك من الشيطان، فيعتدل حالهم ويستقيم مزاجهم، وبسبب إيمانهم وتقواهم وعودتهم إلى الله جعل الله لهم نورًا يمشون به، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. إن أمثال هؤلاء المؤمنين إيمانهم قوي وراسخ، لا تؤثر فيهم الضغوط أو الظروف الصعبة ولا تستفزهم، شيطانهم دائمًا خناس ضعيف، لا يقوى على التأثير فيهم، نفوسهم طيبة بذكر الله، مطمئنة ترضى بربها وتؤمن بما جاء من عنده، متطهرة من الغل والحسد، صادقة في التعامل مع الآخرين وباشة في وجوههم، أما النفوس الأخرى فهي نفوس ذات تردّد وتعجّل وقلة صبر وقلق، متسّرعة في مواقفها ومتقلّبة في مزاجها، تعرض نفسها للإزعاج والقلق بالجري وراء الأوهام أو الانحرافات والمعاصي، فيكثر وسواسها وتتعلّق بغير الله قلوبها ويزداد اهتماماتها فيما تسمع وفيما تعطي وفيما ترى، فيزداد حالها بؤسًا وشقاء يتتبعها لكل صغيرة وكبيرة.
فيا أيها الناس، من تعلق بشيء وكل إليه، فمن تعلق بربه ومولاه كفاه وحفظه وتولاه، فهو نعم المولى ونعم النصير، ومن تعلّق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به. والتعلق يكون بالقلب وبالفعل ويكون بهما معًا، فالمتعلقون بربهم المنزلون حوائجهم به والمفوضون أمورهم إليه يكفيهم ويحميهم ويقرب لهم البعيد وييسر لهم العسير، ومن تعلق بغير ربه وسكن إلى رأيه وعقله واعتمد على غيره وكله إلى ما تعلق به، ومن ثمّ يخذله ويذله ويهينه.
فاتقوا الله ربكم، وأحسنوا الظن به، وأحسنوا العمل، فربكم سبحانه هو رب الأرباب ومسبب الأسباب.
ثم اعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديما، فقال تعالى ولم يزل قائلاً عليمًا وآمرا حكيما تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم أذل الشرك والمشركين، واخذل الكفرة والملحدين، ودمر أعداء الدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين وبارك لهم في أرزاقهم وذرياتهم، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5659)
الإنفاق في سبيل الله
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/9/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل النفقة في سبيل الله. 2- مضاعفة النفقة في سبيل الله. 3- التحذير من الرياء والمنّ في الصدقات. 4- وقفات مع آيات الإنفاق في سورة البقرة. 5- إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. 6- إخفاء الصدقة أو إظهارها. 7- الحث على تفقد أحوال المسلمين وإعانتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الصدقات التي نبذلها على اختلاف صنوفها من زكاة أو هبة أو نفقة أيًا كانت فهي جليلة في معاش الإنسان ومعاده، وعلى أساسها تضعف أو تقوى صلة المسلم وارتباطه بدينه، ولن يحرم المسلم كبخله في الحقوق وسوء ظنه بالله رب العالمين، ولن يسبق به كجوده وإنفاقه المال في سبيل الله وثقته بفضل الله وكرمه وأنه يخلفه له سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة: 272]، وقال عز وجل: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]، وما من شيء أشقّ على الشيطان وأبطل لكيده وأقتل لوساوسه من إخراج الصدقات والإنفاق في سبيل الله؛ ولذلك فالشيطان يقذف الوهن في النفوس حتى يثبطها ويبعدها عن البذل والعطاء ويفتح لها أبوابًا ووساوس ليعلّقها بالحطام الفاني.
ولنستمع إلى هذا المثل الذي ضربه الله عز وجل لعباده المؤمنين حيث بدأهم بالْحَضِّ والتأليف واستجاشة المشاعر لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله عز وجل وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فهو يضاعف لمن يشاء وهو الواسع العليم، لا يضيق عطاؤه ولا ينضب، عليم بالنوايا ويثيب عليها ولا تخفى عليه خافية، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]، أي: ينفقون أموالهم في طاعة الله وفي الجهاد في سبيل الله وإعداد السلاح والقوة لمجاهدة أعداء الله ورسوله، فلهم بكل درهم سبعمائة درهم إلى أضعاف مضاعفة، فضرب الله المثل بالحبة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؛ ليكون أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة فقال رسول الله : ((لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة)) ، وقال : ((من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف)) رواه النسائي والترمذي وابن حبان والحاكم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ قال النبي : ((ربّ زد أمتي)) ، قال: فأنزل الله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ، قال: ((ربِّ زد أمتي)) ، قال: فأنزل الله إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] رواه ابن حبان والبيهقي.
ولكنْ أَيُّ إنفاقٍ هذا الذي ينمو ويربو؟ وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء؟ إنه الإنفاق الخالص لله رب العالمين، والذي لا يُتْبِعُهُ مُنْفِقُهُ مَنًّا ولا أذى بحيث لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعورًا ولا يمنّ به على أحدٍ لا بقولٍ ولا بفعلٍ، هو ذلك الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء مبتغيًا بذلك رضا الله جل جلاله، قال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 262]، والْمَنُّ عنصرٌ كَرِيهٌ لَئِيمٌ وشُعُورٌ خَسِيسٌ وَاطٍ، فالنفس البشرية لا تَمُنُّ بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء الكاذب أو رغبة في إذلال الآخذ أو رغبة في لفت أنظار الناس إليها، فالتوجه إذًا ليس لله بهذا العطاء بل للناس إما رياءً أو سمعة أو نفاقًا؛ لذلك يجب على المؤمن أن يبتعد عن المن والأذى والرياء والسمعة والنفاق ليحوز على الأجر العظيم من الله جل ثناؤه، ولئلا يحبط عمله بهذا الإنفاق، وليكون من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ثم عقّب سبحانه بقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة: 263]، يقرر سبحانه بأن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها، وأولى منها كلمة طيبة وشعور سَمْحٌ، كلمة معروف تضمد جراح القلوب وتعفها بالرضا والبشاشة، ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحلّ محلها الإخاء والصداقة، والله غني عن خلقه، حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، ولا يعجل لهم العقاب، ويصفح ويتجاوز عنهم.
وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المنّ في الصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يدخل الجنة عاقٌّ ولا منّان ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر)).
ثم يضرب تعالى مثليْن متقابليْن شكلاً ووصفًا وثمرة، فالمثل الأول يضربه للقلب الْمُصْلَدِ المغشي بالرياء، يمثله بالصخر الأملس الذي عليه تراب، فأصابه الوابل أي: المطر الشديد، فتركه صلدًا أي: أملس أجرد لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، فكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب، والمثل الآخر المقابل للمرائي: القلب العامر بالإيمان نَدِيٌّ ببشاشته ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله، فإذا كان القلبُ الصَّلْدُ وعليه ستار من الرياء يمثله بصفوان صلد عليه غشاء خفيف من التراب، فإن القلب المؤمن تمثله وتشبهه جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حَفْنَةِ التراب على الصفوان، جنة هنا تقوم على ربوة أي: مكان مرتفع من الأرض في مقابل الحجر الذي عليه حفنة من التراب عند ذلك المرائي. فهذا البستان عند المؤمن يؤتي ثمرته ضعفين، وإن لم يصبه وابل أي: مطر فطلّ: أي رذاذ من المطر ليعطيه كفايته سواءٌ من المطر الشديد أو الرذاذ المستمر، فكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله ويكثره وينمّيه، كل عامل بحسبه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 264، 265].
ثم يضرب الله مثلاً حسنًا ـ وكل أمثاله حسن ـ ليبين سبحانه لعباده المؤمنين لعلهم يعتبرون ويفهمون الأمثال والمعاني وينزلونها على المراد منها كما قال تعالى في آية أخرى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43]، فضرب الله المثل بالعمل للرجل الغني الذي يعمل بطاعة الله وينفق أمواله ثم جاءه الشيطان فعمل المعاصي حتى أغرق أعماله، فقال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266]، أي: صنعه في شَيْبَتِهِ وأصابه الكبر وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانُه، فلم يكن عنده قوة ليغرس مثله، ولم يكن عند نَسْلِهِ خيرٌ ومالٌ يعودون به عليه، فكذلك الذي ينفق ماله رئاء الناس وسمعة ونفاقًا والكافر أيضًا إذا رُدَّ أحدُهم إلى الله عز وجل يوم القيامة يوم الجزاء والحساب ليس له خير فيستعتب، كما أنه ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدّم لنفسه خيرًا يعود عليه كما لم يُغْنِ عن هذا وَلَدُهُ وحُرِمَ أَجْرَهُ في حال هو أحوج فيه إلى حسنة واحدة، كما حُرِمَ هذا جَنَّتَهُ عندما كان أَفْقَرَ ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته، وقد ورد في الأثر: (اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني وانقضاء عمري).
ثم يأمر الله عباده المؤمنين بالإنفاق من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ونهاهم عن تقصّد الخبيث في الإنفاق، فلو أعطيه أحدهم لما أخذه إلا عن إغماضٍ وتغاضٍ فيه، كما أوضح تعالى بأن الشيطان واقف لنا بالمرصاد وخاصة عند الإنفاق في سبيل الله، فهو يَعِدُ من ينفق ماله بالفقر ويخوّفه عواقب الإنفاق في سبيل الله، وكذلك يأمر بالفحشاء أي: بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة رب العالمين، مع أن الله جل جلاله يَعِدُنَا مغفرةً وفضلاً منه سبحانه مقابل ما يخوّفنا به الشيطان الرجيم والله واسع عليم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 267، 268].
ثم بعد آيتين يوضح سبحانه أنه إذا أظهر المؤمن الصدقة فَنِعْمَ شيءٍ هي إذا أخلص النية لله رب العالمين، وإن أخفاها فذلك خير له، وفي ذلك دلالة على أنَّ الإسْرَارَ بالصدقة أفضلُ من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحةٌ راجحةٌ من اقتداء الناس به والمسارعة إلى البذل والعطاء كما هو حاصل في الحملات الإعلامية عندما ينزل بالمسلمين نازلةٌ، فذلك أفضل من هذه الحيثية مع الإخلاص لله رب العالمين والبعد عن الرياء والسمعة والمنّ والأذى ومع الاتباع لطريق رسول الله وعدم الابتداع ولزوم المنهج الصحيح القويم، كما ورد في فضل الإسرار بها في حديث السبعة الأصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) ، قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة: 271].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يبتلي عباده بالشر والخير فتنة ويبتليهم بالنعم ويختبرهم، ومنها نعمة المال لينظر كيف يعملون، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن المسلمين الصادقين يهتمون بشؤون إخوانهم المسلمين في كل مكان وبقعة من الأرض، ويعيشون معهم بمشاعرهم، ويبذلون ما يستطيعون في جميع المجالات للتخفيف عنهم من آلامهم وما نزل بهم، وقد شبههم رسول الله بالبنان أو البنيان الذي يشد بعضه بعضًا لكي يبقى متماسكًا مترابطًا، وهم كالجسد الواحد إذا أصاب جزءًا منه مرضٌ وألمٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، قال رسول الله : ((المؤمن للمؤمن كالبنان ـ أو: كالبنيان ـ يشد بعضه بعضًا)) متفق عليه، وقال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) متفق عليه، ومنْ لمْ يَهْتَمَّ بأمر المسلمين فليس منهم، فلا بد أن تتحرك فينا مشاعر الأخوة الإسلامية وخاصة في هذه الأيام وهذا الزمان الذي تداعت فيه على المسلمين وديارهم وسائلُ الشر والعدوان من أعدائهم وأعداء دينهم الإسلامي في جميع بقاع الأرض لكي يقضوا عليه وعلى أهله بشتى الطرق، ومِنْ أخطرِهم اليهودُ والنصارى، والنصارى أكثرُ نشاطًا وسَعْيًا لإخراج المسلمين وإبعادهم عن دينهم، وبالأخص في الدول الفقيرة فهم يستغلون حاجة المسلمين للطعام والشراب والكساء والمأوى والتعليم، ويدخلون من هذه الأبواب، وقد نجحوا في أماكن عديدة من دول العالم لتقصير المسلمين وبُخْلِهِمْ بما في أيديهم وعدم اهتمامهم بشؤون إخوانهم المسلمين، والأَخْبَثُ من النصارى اليهود الذين يسعون بكل الطرق والوسائل لإبعاد المسلمين عن دينهم في جميع بقاع الأرض عن طريق المخططات الصهيونية المتعددة ووسائلها والتي يغفل عنها كثير من المسلمين، ومن أخطر وسائلهم جَرُّ المسلمين للشهوات عبر الوسائل المختلفة لإشاعة الفاحشة في مجتمعات المسلمين، وهذا هو الحاصل عبر الفضائيات وشبكة المعلومات العالمية، وكذلك جَرُّهُمْ إلى الشبهات لتشكيكهم في إسلامهم، قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120].
وأَخْطَرُ مِللِ الكفرِ اليومَ الشُّيُوعِيُّونَ الْمُلْحِدُونَ الذين لا يؤمنون بوجود الله تبارك وتعالى والذين كتموا المسلمين عشرات السنين حتى اعتقدوا بأن المسلمين هناك قدِ انْتَهَوْا هُمْ وإسلامُهم، ومعلوم ما قاموا به في بلاد المسلمين ويراه المسلمون ويسمعونه ويقرؤونه عبر الوسائل المختلفة من وحشية وهمجية وعداءٍ شَرِسٍ لا يُطَاقُ، ولا تهدأ نفس المسلم الغيور على إسلامه وأمته أن يرى تلك المجازر والتشريد والتجويع ثم يسكت بعدها أو تضعف هِمَّتُهُ لتقديم أي مساعدة وعَوْنٍ لإخوانه المسلمين في كل مكان، وأقل ما يقدمه المسلم هو المال، قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96]، وقال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]. نعم، إنه يخلفه الرزاق سبحانه في الدنيا أضعافًا مضاعفة قبل الآخرة حيث يجد المؤمنُ جزاءَ ذلك يوم الجزاء والحساب.
فعلى المسلمين أن يقدموا لإخوانهم ما يستطيعون وإن لم يكن من فضول أموالهم التي هي الباقية لهم وسوف يجدونها أمامهم يوم القيامة فليكن ذلك من الزكاة الواجبة عليهم في أموالهم، ولا يَحْقِرَنَّ أحدٌ أَيَّ مبلغٍ مهما كان، ولا تنسوا إخوانكم المسلمين في أي جهة وبقعة من العالم مع الْبَدْءِ بالمحتاجين في هذا البلد الطيب، وليسْعَ كُلُّ إنسانٍ بنفسه لتقديم ما لديه إلى المحتاج الذي يعلم حاجته، وإن لم يكن ذلك فعليه بتقديمه إلى الجمعيات الخيرية لإيصالها إلى المستحقين، هذا في الداخل، أما في الخارج فيكون تقديم ما لدى كل شخص عن طريق الهيئات الإغاثية التي أُعْلِنَ عنها والتي تقوم بإيصال التبرعات والنفقات عن طريقها، وقد كَفَتِ الجميعَ مَؤُونَةَ البحثِ وعَنَاءَهُ، فعلينا بالمسارعة والمبادرة واغتنام هذه الفرصة الطيبة والأيام المباركة حتى يبارك الله في أعمالنا وأعمارنا.
فعلى كل مسلم ومسلمة المساهمة كل بما يستطيع وبما تجود به نفسه في الإنفاق في وجوه الخير الكثيرة المتعددة والتي أتيحت لكل فردٍ منا بدون تعب في بلاد الحرمين حيث وفق الله المسؤولين مع الذين يحتسبون الأجر من الله ولديهم الإحساس الصادق بما يعانيه إخوانهم المسلمون في أنحاء المعمورة وفقهم لهذه الأعمال الخيرية المحمودة، وقد تعددت القنوات الخيرية الرسمية في هذا البلد المبارك والتي تُعْنَى بشؤون المسلمين في كل مكان ليكونوا حلقة وصل بين كل مسلم يريد الخير والإنفاق في جميع وجوه البر والإحسان وبين المسلمين في جميع بقاع الأرض، فما على المسلم إلا أن يستغل هذا الوقت المبارك في هذا الشهر الفضيل ليضاعف الله له الأجر والثواب، ويدفع إليهم ما يستطيع في مشاريعهم المتعددة إن كان في سنابل الخير والصدقات الجارية أو للمشاريع العامة الأخرى لبناء المساجد والمدارس أو حفر الآبار أو تعليم للقرآن الكريم أو للجهاد في سبيل الله أو لإطعام الصائمين أو لكفالة أيتام المسلمين وأراملهم وغير ذلك من وجوه البر والإحسان أو للزكاة لإيصالها إلى مستحقيها من الأصناف الثمانية، فهذه الجهات الرسمية أيدٍ أمينةٌ إن شاء الله تعالى، ونحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدًا، فما علينا إلا أن نبادر بالمساهمة في عمل الخير لنكسب رضا الله عز وجل ونستغل الأوقات والأزمنة الفاضلة في مثل هذا الشهر العظيم، ولنحوز على الأجر العظيم من الله الجواد الكريم، ولنجدها في ميزان حسناتنا يوم القيامة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34-37].
ولا يحقرنَّ أحدٌ من المعروف شيئًا مهما كان قليلاً، فسوف يجده يوم القيامة وقد ربا ونما بإذن الله. والهيئة تقبل أي شيء يزيد عن حاجة الإنسان وإن كان قديمًا ولا يرغب صاحبه في استعماله وقد يرميه بعض الناس في القمائم سواء كان من الملابس أو الأحذية أو الفرش والأغطية والأكسية أو الأثاث والأدوات المدرسية بالنسبة للطلبة وغير ذلك، فهم يوصلونها بإذن الله إلى المستحقين إلى من هم في حاجة إليها، قال تعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 36-38]، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]، وقال سبحانه وبحمده: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [التغابن: 16-18]، وقال عز وجل: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 10، 11]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254].
فبعد سماع هذه الآيات وهذا النداء الإلهي والنداء النبوي في الأحاديث الشريفة وبعد أن رأى المسلمون وشاهدوا شيئًا يسيرًا مما يعانيه إخوانهم في أفغانستان وفلسطين والشيشان وكشمير وغيرها من البلدان وتقديم المساعدات المختلفة من دول الكفر ابتداءً من الدول المعادية والمحاربة باسم حقوق الإنسان، فبعد هذا كله ألا يتحرك الإيمان في نفوس أصحاب رؤوس الأموال لتقديم المساعدات المختلفة لإخوانهم المسلمين في كل مكان بحيث لا ينسون الفقراء وأصحاب الحاجات في بلدهم ولا في فلسطين وكشمير والشيشان وغيرها من ديار المسلمين حيث تحولت الأنظار إلى غيرهم لمّا كان في الساحة ما هو أعظم فنسيهم إخوانهم؟! إن الأمل كبير في إخواننا المسلمين في كل مكان بأن يتحركوا ويسارعوا لنصرة إخوانهم المسلمين في كل بلد محتاج، وكُلُّ بلاد المسلمين في حال يُرْثَى لها، ولكنها تتفاوت في الفقر من بلد إلى آخر.
إن على ولاة أمر المسلمين في كل مكان أن يتفقدوا أحوال شعوبهم وما هم فيه من حاجة وفقر، ويعلموا أن المسلمين لا يُطَالِبُونَ ولا يَشْرَحُونَ لحكامهم ما هم عليه كما يقوم بذلك الكفار في بلادهم من مظاهرات وفوضوية شوارع أو حوادث وحرية كما يسمونها ليحصلوا على حقوقهم، فالمسلمون في جميع بقاع الأرض في غاية التعفف والسعي للكفاف ولم يَصِلْ أكثرُهم إلى الكفاف أو إلى ما يَسُدُّ رَمَقَهُمْ ويَكْسُو عوراتهم، ولكنهم مع ذلك صابرون محتسبون كما وصفهم رب العزة والجلال في قوله تبارك وتعالى: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة: 273]. إن على من وَلِيَ شيئًا من أمور المسلمين في أي منصب أن يقوم بما أوجب الله عليه ويشعر بمسؤوليته التي سوف يُسْأَلُ عنها يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، وليتذكر الجميع قول رسول الله : ((كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته)) إلى آخر الحديث المعلوم للجميع.
فاللهَ اللهَ ـ أيها المسلمون جميعًا ـ في إخوانكم المسلمين في جميع بقاع الأرض، عليكم بتفقد أحوالهم ومواساتهم، وعلى حكام المسلمين ومن ولاه الله أمورهم تقعُ التَّبِعَةُ العظيمةُ والمسؤوليةُ الكبرى، وقبلهم تلك الْبِطَانَاتُ التي توصل حوائج الناس إلى ولاة الأمر إِمَّا بصدقٍ وشرحٍ للواقع الصحيح وإما بِتَدْلِيسٍ وتَغْطِيَةٍ للواقع وسَتْرٍ لحاجات المسلمين وحجبها عن ولاتهم، وبذلك يتحملون تَبِعَاتِ ذلك في الدنيا والآخرة، وسوف يجدون عواقب أفعالهم الشنيعة تلك لعدم قيامهم بالأمانة، وتلك هي بطانة السوء التي تبحث عن مصالحها ومَنْ لهم بهم علاقةٌ وصلةٌ وتترك عامة الناس وتحجب حاجاتهم عن ولاة أمرهم فالله لهم بالمرصاد، وسوف يلحق الضررُ العاجلُ والآجلُ ليس أصحاب الحاجات ولا البطانة السيئة ولكن يلحق ولاة الأمر لعدم التدقيق والمحاسبة والمتابعة التي لا تعفيهم من المسؤولية كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله، لَوْ عَثَرَتْ بَغْلَةٌ بِشَطِّ الْفُرَاتِ لَرَأَيْتُنِي مسؤولاً عنها أمام الله لِمَ لَمْ أُسَوِّ لها الطريق؟) وقال رسول الله : ((إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق؛ إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يُعِنْهُ)) رواه أبو داود بإسناد جيد، وقال : ((ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضُّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله)) رواه البخاري.
اللهم ارفع عن المسلمين الذل والحاجة والفقر والمسكنة التي حلت بهم يا أرحم الراحمين، اللهم أَغْنِ المسلمين بالحلال عن الحرام، اللهم أغنهم من واسع فضلك يا أكرم الأكرمين، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفقهم لتفقد أحوال رعاياهم وشعوبهم والعدل والمساواة بينهم، اللهم وفقهم للحكم بكتابك وسنة نبيك محمد...
(1/5660)
الجهاد في سبيل الله (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, فضائل الأعمال
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/3/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الجهاد في الإسلام. 2- فضل الجهاد والمجاهدين. 3- من حكم مشروعية الجهاد. 4- حكم الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وهو ذروة أعمال الخير التي يتقرب بها المسلم إلى ربه عز وجل كما قال رسول الله : ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) رواه الطبراني والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
واقتضت حكمة الله البالغة أن يمتحن عباده المؤمنين ويختبرهم بأهل الإلحاد والكفر والنفاق طوال الحياة على هذه الأرض من حين لآخر ومن فترة لأخرى في أي مكان على وجه الأرض؛ ليظهرَ بذلك صدقُ المؤمنين في إيمانهم وتُرفَعَ درجاتُهم، وإلا فهو سبحانه قادر على أن ينتقم من الكفار فيهلكهم عن آخرهم في لحظة واحدة، ولكنه الابتلاء والامتحان والاختبار للمؤمنين كما قال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 4-8].
إذًا فالجهادُ في سبيل الله ذروةُ سنام الإسلام، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما أن لهم الرفعة في الدنيا، فلا يستوي أبدًا القاعد والمتخلف عن الجهاد من المؤمنين مع من يجاهد في سبيل الله كما قال عز وجل: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 95، 96].
وقد أمر الله بجهاد الكفار والمنافقين كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التحريم: 9]، وجهاد هؤلاء يكون على أربع مراتب: بالقلب واللسان والمال والنفس، فجهاد الكفار يكون بالمال والسلاح والنفس، وجهاد المنافقين يكون بالحجة والجدال والتوضيح والبيان.
وقد شرع الله الجهاد لإعلاء كلمته سبحانه وبحمده حتى يعبد وحده لا شريك له، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193]، وشرعه أيضًا لقمع الكفار والمشركين والملحدين وأعداء دين الإسلام من أولياء الشيطان من الطواغيت جميعًا، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76]. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أنَّ جنسَ الجهاد فَرْضُ عَيْنٍ: إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، فعلى المسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع".
وقد ورد في فضل الجهاد في سبيل الله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يحفز الهممَ العالية ويحرك كَوَامِنَ النفوس المؤمنة إلى المشاركة في هذا السبيل والصدق في جهاد أعداء رب العالمين. وقد ورد الترغيب فيه في آيات عدة من كتاب الله، ومنها قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10-13].
وورد الأمر لعباد الله المؤمنين في الكتاب الكريم بأن ينفروا إلى الجهاد خفافًا وثقالاً أي: شيبًا وشبابًا من غير أصحاب الأعذار وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 41-45].
وقال عز وجل محذرًا عباده المؤمنين من الركون إلى الحياة الدنيا وما فيها من متاع زائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 38، 39]، وقال عز وجل: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24].
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه وبيان فضل المجاهدين كثيرة، والأحاديث كثيرة أيضًا، وأذكر طرفًا منها:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله فقال: أي الناس أفضل؟ قال: ((مؤمن يجاهد بنفسه وبماله في سبيل الله تعالى)) ، قال: ثم من؟ قال: ((ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم. وقال رسول الله : ((إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال: تُسلم وتذر دينك ودين آبائك؟! فعصاه فأسلم فغُفر له، فقعد له بطريق الهجرة فقال له: تهاجر وتذر دارك وأرضك وسماءك؟! فعصاه فهاجر، فقعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد وهو جَهْدُ النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟! فعصاه فَجَاهَدَ)) ، فقال رسول الله : ((فمن فعل ذلك فمات كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، وإن وَقَصَتْهُ دابةٌ كان حقًا على الله أن يدخله الجنة)) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والبيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رجل من أصحاب رسول الله بشعب فيه عُيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال: لو اعتزلتُ الناسَ فأقمتُ في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله ، فذكر ذلك لرسول الله فقال: ((لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله تعالى أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟! اُغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم". ((فَوَاقَ الناقة)) هو ما بين رَفْعِ اليد عن ضَرْعِهَا وَقْتَ الْحَلْبِ وَوَضْعِهَا، وقيل: هو ما بين الْحَلْبَتَيْنِ. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة)) رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط البخاري".
_________
الخطبة الثانية
_________
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، أحمدك اللهم وأشكرك ولا أكفرك وأؤمن بك وأتوكل عليك وأثني عليك الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا أنت سبحانك أنت قيوم السماوات والأرض، وأشهد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله.
أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)) رواه البخاري. وروى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله، ما يعادل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه)) ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: ((لا تستطيعونه)) ، ثم قال: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)). وقال رسول الله : ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم، وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر وغنيمة)) ، وفي لفظ آخر: ((تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة)) جزء من حديث رواه مسلم وغيره. وقال : ((ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح مسك)) رواه البخاري ومسلم. وقال : ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)) رواه البخاري. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من مات ولم يَغْزُ ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من النفاق)) رواه مسلم وأبو داود. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود وغيره.
ففيما مَرَّ من الأحاديث بيان فضل الجهاد وما أعده الله للمجاهدين الصادقين من المنازل العالية والثواب الجزيل، وبيان أن الإعراض عن الجهاد وعدم تحديث النفس به من شعب النفاق، وأن التشاغل عنه بالتجارة والزراعة والمعاملات الرِّبَوِيَّةِ من أسباب ذُلِّ المسلمين وتَسَلُّطِ الأعداء عليهم كما هو الواقع، وأن الذل لن ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم بالاستقامة على أمر الله والجهاد في سبيله.
وعلينا أن نعلم أن الجهاد فرض كفاية على المسلمين، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ويكونُ فَرْضَ عَيْنٍ على كل رجل مسلم بالغ قادر ليس له عذر يمنعه من عمى أو عرج أو شلل أو أيّ مرض يعذر فيه عن التخلف أو لأمر يراه وليّ الأمر لتخلّفه أو غير ذلك من الأسباب المبيحة. فحكم الجهاد في هذه الأيام ومحاربة أعداء الله ورسوله من الملحدين والعلمانيين والقوميين العرب والكفار عمومًا هو فرض كفاية إذا قام به المكلفون رسميًا ومن قام معهم سقط عن البقية، أما إذا اسْتَنْفَرَنَا وليُّ الأمر فإنه يصبح فرضَ عينٍ على الجميع ممن ليس له عذر شرعي، ولا يجوز للمسلم التخلف إلا بعذر شرعي.
فليتنبه كل مسلم إلى فرضية الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس متى طُلب منه واستنفره ولي الأمر، وليكن هدف الجميع إعلاء كلمة الله وقمع أعداء الله ورسوله ونصرة المسلمين وإحياء فريضة الجهاد وابتغاء مرضاة الله عز وجل وطلب الثواب منه سبحانه وتعالى والإخلاص في ذلك لله عز وجل.
وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة أجمعين...
(1/5661)
الجهاد في سبيل الله (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, فضائل الأعمال
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
18/7/1406
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حكم الابتلاء. 2- منزلة الجهاد في الإسلام. 3- من مقاصد الجهاد. 4- أنواع الجهاد. 5- حكم الجهاد. 6- أحاديث في فضل الجهاد. 7- حال أدعياء الجهاد في العصر الحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتّقوا الله، واعلموا أن الله سبحانه بحكمته البالغة يمتحن عباده المؤمنين ويختبرهم ويبتليهم بأهل الإلحاد والكفر والنفاق؛ ليظهر بذلك صدق المؤمنين في إيمانهم فترفع درجاتهم، وإلا فهو قادر أن ينتقم من الكفار فيهلكهم عن آخرهم في لحظة واحدة، قال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 4-8].
أيها المؤمنون، إن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما أن لهم الرفعة في الدنيا، قال تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 95، 96].
لقد أمر الله بجهاد الكفار والمنافقين كما في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التحريم: 9]، وجهاد هؤلاء يكون بالقلب واللسان والمال والنفس، فجهاد الكفار بالمال والسلاح والنفس، وجهاد المنافقين بالحجة والجدال والتوضيح والبيان.
وقد شرع الله الجهاد لإعلاء كلمة الله حتى يُعْبَدَ اللهُ وحده لا شريك له، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39]، وشرع الجهاد لقمع الكفار والمشركين والملحدين وكفّ أذاهم عن المسلمين، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 123]، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع".
وذكر الإمام أحمد رحمه الله في حديثٍ عن رسول الله أنّ رجلا قال له: أوصني، قال: ((أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه ذخر لك في السماء وذكر لك في الأرض)) رواه أحمد، وقال : ((ذروة سنام الإسلام الجهاد)) رواه الطبراني والترمذي، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات ولم يغز ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من النفاق)). رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وقال : ((من لم يغز أو يجهّز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) رواه أبو داود وابن ماجة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود وغيره.
والجهاد في سبيل الله يكون بالمال ويكون بالنفس، وقد جاء الحث على الجهاد بالمال مُقَدَّمًا على الجهاد بالنفس في جميع الآيات القرآنية ما عدا آية [التوبة: 111]؛ لأن فيها الشراء والبيع، أما ما عداها ففيها الأمر بالجهاد بالأموال والأنفس أو الترغيب في ذلك: قال تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]، وعَلَّقَ سبحانه النجاة من النار ومغفرة الذنوب ودخول الجنة على الجهاد بالأموال والأنفس قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [ الصف: 10-13]، وأخبر سبحانه بأنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم وأن لهم الجنة، حيث قدم فيها الأنفس على الأموال لمناسبة صفقة المبايعة وإزهاق الأنفس والدماء في سبيل الله إلى جانب الأموال، فكان الجزاء الحسن والاستبشار بنتائج البيع، فيحوز المجاهد بوفاء العهد من الله الكريم حيث حاز العبد المسكين على الفوز العظيم من الله جل جلاله، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111]، وقال رسول الله : ((من أنفق نفقة في سبيل الله كُتبت له بسبعمائة ضعف)) رواه النسائي والترمذي وابن حبان والحاكم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شِبَعَهُ ورِيَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)) يعني حسنات. رواه البخاري والنسائي وغيرهما. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي بناقة مخطومة ـ أي: موضوع في رأسها الخطام الموصول بالحبل الذي يساعد صاحبها على الإمساك بها لئلا تفلت منه ـ فقال: هذه في سبيل الله، فقال له رسول الله : ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)) رواه مسلم، وقال رسول الله : ((من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم)) رواه ابن ماجة، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من أعان مجاهدًا في سبيل الله أو غارمًا في عسرته أو مكاتبًا في رقبته أظلّه الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه)) رواه أحمد والبيهقي، وقال رسول الله : ((من جهّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلّف غازيًا في أهله بخير فقد غزا)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
فالجهاد بالمال معناه أن يدفع المسلم مالاً للمجاهدين في سبيل الله من أجل النفقة عليهم وعلى عيالهم وفي شراء عدة القتال حتى يتصدّوا لأعداء الله ورسوله وأعدائهم وأعداء الإسلام، وفي ذلك فضل عظيم ومضاعفة الدرهم بسبعمائة درهم إلى أضعاف كثيرة، وفضل الله واسع ورحمته أوسع.
والله تعالى قد ذكر المال في القرآن مقدمًا على الجهاد بالنفس في كل المواضع إلا آية واحدة كما تقدم بيانه؛ مما يدلّ على أهميته ومكانته عند الله، ولأنه المرحلة الأولى في الإعداد للجهاد في سبيل الله، قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال: 60]، وقال عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]، وقال سبحانه: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 244، 245].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ الواسعِ العليمِ العليِّ العظيمِ المتصرفِ في خلقه بما تقتضيه حكمته ورحمته فهو الحكيمُ الرحيمُ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والخير العميم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالهدى والرحمة والصبر واليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد: فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) متفق عليه. قال القرطبي رحمه الله: هذا تمثيل يفيد الْحَضَّ على معاونة المؤمن للمؤمن ونصرته، وأن ذلك أمر متأكد لا بدّ منه، لأن البناء لا يتمّ ولا تحصل فائدته حتى يكون بعضه يمسك بعضًا ويقوّيه، وإن لم يكن ذلك انحلت أجزاؤه وخرب بناؤه، وكذلك المؤمن لا يستقل بأمر دنياه ودينه إلا بمعاونة أخيه ومعاضدته، فإن لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه وعن مقاومة مضاره، فحينئذ لا يتم له نظام دنياه ولا دينه ويلحق بالهالكين. قال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) متفق عليه، وقال رسول الله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه. متفق عليه. وورد أيضًا: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)).
ومن المعلوم أن الجهاد في سبيل الله فرض كفاية على عامة المسلمين الذين يجب عليهم الجهاد لوجود الجيوش النظامية الرسمية؛ لأنه إذا قام به جماعة من المسلمين سقط عن الباقين، ويصبح واجبًا على كل مسلم متى حاصر بلادَ المسلمين عَدُوٌّ أو احْتِيجَ إليه أو استنفره الإمام.
وقد ورد في فضل الجهاد والمرابطة في سبيل الله أحاديث كثيرة أذكر بعضًا منها والبقية في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله : يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه)) ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: ((لا تستطيعونه)) ، ثم قال: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له. وقال : ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمّى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر)) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وابن حبان، وقال أيضًا : ((رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)) رواه النسائي والترمذي وابن حبان والحاكم، وقال رسول الله : ((ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يَدْمى؛ اللون لون دم، والريح ريح مسك)) رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون، إن الآيات والأحاديث كثيرة عن الجهاد في سبيل الله، وفيما تقدم كفاية لطالب الحق، ومعلوم لدى كل مسلم متى تُرْفَعُ رايةُ الجهاد ضد الكفار دفعًا أو طلبًا، ومتى يكون الدفاع واجبًا حتى ولو كان دفعًا لفئة باغية معتدية من المسلمين، سواء بمناصرة الفئة المعتدى عليها أو للإصلاح بين فئتين اقتتلتا من المسلمين فَبَغَتْ إحداهما على الأخرى، ويرجع ذلك إلى تقدير ولاة الأمر من المسلمين، وليس الجهاد فوضى كما هو الحال في هذا الزمان ممن حُرِمُوا الفقهَ في الدِّينِ، الذِينَ يتخبطون في كل بلد من بلاد العالم يفجرون ويدمرون وينسفون الأموال العامة والخاصة ويقتلون الأبرياء ولم يصلوا إلى أهداف واضحة جلية من وراء عمليات التخريب والإفساد في الأرض إلا ما هم عليه من القناعة بإقامة علم الجهاد، وما علموا أن ما قاموا به من الإفساد قد رَجَعَ بِأَسْوَإِ العواقبِ على المسلمين في جميع بقاع الأرض من جرّاء تَهَوُّرِ المفتين في الكهوف والسراديب، ولو أن لديهم أدنى علم وبصيرة وحكمة لنظروا ماذا يجري اليوم وماذا يقوم به الكفار ضد الإسلام والمسلمين على وجه الأرض من أنواع المضايقات والحرب الشَّعْوَاء في جميع المجالات، فلو أن لديهم تلك البصيرة النافذة والفقه في الدين لانتهوا عن أعمالهم المشينة التدميرية التفجيرية التكفيرية للمسلمين ولعادوا إلى رشدهم، وليسوا بأحرص على الإسلام والمسلمين ممن أخرجوهم من دائرة الإسلام ظلمًا وعدوانًا وجهلا بالأدلة الشرعية الحقيقية واتباعًا للهوى كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50]، وقال تعالى: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة: 37]، وقال عز وجل: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة: 269]، وقال : ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
(1/5662)
الجهاد في سبيل الله (3)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, فضائل الأعمال
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
16/3/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الرباط في سبيل الله. 2- فضل النفقة في سبيل الله. 3- فضل احتباس الخيل في سبيل الله. 4- فضل الإكثار من العمل الصالح في الغزو. 5- فضل الغدوة والروحة والغبار في سبيل الله. 6- فضل الشهادة في سبيل الله وسؤالها. 7- فضل تعلم الرمي. 8- التذكير بوجوب إخلاص النية في الجهاد. 9- التحذير من أدعياء الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد سبق الحديث في الخطبة الماضية عن الجهاد في سبيل الله وحُكْمِهِ خاصة في هذه الأيام، وإتمامًا للفائدة وامتثالاً لأمر رسول الله بإبلاغ ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام ولأنّ مئات الأحاديث وردت عنه عليه الصلاة والسلام وعنيت بها كتب السنة لذلك وجب بيانُ بعضِ الشيءِ عن الترغيب في الرباط في سبيل الله والحراسة والنفقة وتجهيز الغزاة وخَلْفِهِمْ في أهلهم واحْتِباسِ الخيل للجهاد وفضل أعمال الخير في ذلك والصيام والصلاة في الجهاد أكثر من غيره، وفضل المشي في سبيل الله وسؤال الشهادة وتعلّم الرمي وإخلاص النية في الجهاد وغير ذلك من الأبواب المتعددة والواضحة التي ينبغي لكل مسلم أن يطّلع عليها وأن لا يبقى جاهلاً بأمر دينه، وخاصة عندما تحلُّ به مثلُ هذه النكبات والمصائب ولا يعرف أين يقف وما هو المخرج وما هو حكم الإسلام، فإذا لم يكن لديه من العلم والْحَصَانَةِ والإيمان ما يَثْبُتُ معه ويَرْبِطُ على قلبه ويَشُدُّ أَزْرَهُ ويجلي عنه الْغُمَّةَ ويبعد عنه الأوهام والوساوس فإن الريح سوف تعصف به ويقع صريعًا لشياطين الإنس والجن.
ومما ورد في الترغيب في الرباط في سبيل الله: عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه وأمِن من الفتّان)) رواه مسلم واللفظ له والترمذي والنسائي والطبراني وزاد: ((وبعث يوم القيامة شهيدًا)). وعن فضالة بن عُبَيْد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمّى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمَّن من فتنة القبر)) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وابن حبان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ـ زاد في رواية : وعبد القطيفة ـ، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنَان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يُؤذن له، وإن شَفع لم يُشفَّع)) رواه البخاري. وقال رسول الله : ((من خير معاش الناس لهم رجل يُمْسِكُ بِعِنَانِ فرسه في سبيل الله، يطير على متنه كلما سمع هَيْعَةً ـ أو: فزعة ـ طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مَظَانَّهُ، ورجل في غُنَيْمَةٍ في شعفة من هذه الشعاف وبطن وادٍ من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير)) رواه مسلم والنسائي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : ((عينان لا تمسهما النار أبدًا: عين باتت تَكْلأُ في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله)) رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: ((عينان لا تريان النار)).
وفي الترغيب في النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة قال رسول الله : ((من أنفق نفقة في سبيل الله كُتبت له بسبعمائة ضعف)) رواه النسائي والترمذي وابن حبان والحاكم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما نزلت مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] قال رسول الله : ((رَبِّ، زد أمتي)) ، فنزلت: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي قال: ((من جهز غازيًا في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلَف غازيًا في أهله بخير أو أنفق على أهله فله مثل أجره)) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. وقال رسول الله : ((من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي رحمهم الله تعالى.
وعن الترغيب في احتباس الخيل للجهاد في سبيل الله وليس للرياء والسمعة قال رسول الله : ((من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شِبَعه ورِيَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)) يعني حسنات. رواه البخاري والنسائي وغيرهما رحمهم الله جميعًا. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((الخيل في نواصيها الخير معقود أبدًا إلى يوم القيامة، فمن ارتبطها عُدَّةً في سبيل الله وأنفق عليها احتسابًا في سبيل الله فإن شِبَعها وجوعها وريَّها وظمأها وأرواثها وأبوالها فلاح في موازينه يوم القيامة، ومن ارتبطها رياء وسمعة ومرحًا وفرحًا فإن شبعها وجوعها وريَّها وظمأها وأرواثها وأبوالها خسران في موازينه يوم القيامة)) رواه أحمد بإسناد حسن.
وعن ترغيب الغازي والمرابط في الإكثار من العمل الصالح: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45].
وجاء في الترغيب في الغدوة والروحة والمشي والغبار في سبيل الله أحاديث كثيرة، منها عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قَوْسِ أحدكم من الجنة أو موضعُ قِيدٍ ـ يعني سوطه ـ خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطّلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولَمَلأَتْهُ ريحًا، ولَنَصِيفُهَا على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو ضامن أن أُدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده، ما كَلْمٌ يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِم؛ لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل)) رواه مسلم واللفظ له والبخاري ومالك والنسائي بألفاظ أخرى. وروى البخاري رحمه الله من حديث عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار))، وفي رواية للنسائي والترمذي : ((من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار)).
ورَغَّبَ رسولُ الله في سؤال الشهادة في سبيل الله تعالى والرمي وتعلمه والترهيب لمن تركه بعد تعلمه رغبة عنه في أحاديث عدة، منها قوله : ((من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة رحمهم الله. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله وهو على المنبر يقول : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)) رواه مسلم وغيره. وقال : ((إن الله يُدْخِلُ بالسهم الواحد ثلاثةَ نَفَرٍ الجنةَ: صانعَه يحتسب في صنعته الخير، والراميَ به، ومنبلَه، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها)) أو قال: ((كفرها)) رواه أبو داود واللفظ له والنسائي والحاكم، وقال : ((كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو ـ أو: سهو ـ إلا أربعَ خصالٍ: مَشْيَ الرجل بين الغرضين، وتأديبَه فرسه، وملاعبتَه أهله، وتعليمَ السباحة)) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد. والغرض ما يقصده الرماة بالإصابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله أخطأ أو أصاب كان بمثل رقبة من ولد إسماعيل)) رواه الطبراني بإسنادَيْن رواة أحدهما ثقات. وروى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه)) ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: ((لا تستطيعونه)) ، ثم قال: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بينما أنا عند رسول الله إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله، وحج مبرور)) ، فلما ولّى الرجل قال: ((وأهون عليك من ذلك إطعام الطعام ولين الكلام وحسن الخلق)) ، فلما ولى الرجل قال: ((وأهون عليك من ذلك لا تتّهِم الله على شيء قضاه عليك)) رواه أحمد والطبراني، وقال رسول الله : ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم. وعن أبي موسى رضي الله عنه: أن أعرابيّا أتى النبي فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل لِيُذْكَرَ، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال النبي : ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة رحمهم الله جميعًا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: ((يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، يا عبد الله بن عمرو، على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال)) رواه أبو داود. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجرَ والذكرَ ما له؟ فقال رسول الله : ((لا شيء له)) ، فأعادها ثلاث مرات يقول رسول الله : ((لا شيء له)) ، ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغِيَ به وجهه)) رواه أبو داود والنسائي. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأُتي به فعرَّفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكن قاتلت لأن يقال: هو جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) الحديث. رواه مسلم واللفظ له والنسائي والترمذي وابن خزيمة.
أيها المسلمون، لقد تبين للجميع حكم الجهاد والإنفاق في سبيل الله وموقف المسلم من الأحداث الحالية وذلك من خلال معرفة معتقدات أولئك القوم وموقفهم من الإسلام والمسلمين وما فعلوا من جرائمَ وسَفْكٍ للدماء وهَتْكٍ للأعراض ونَهْبٍ للأموال وسَبٍّ للإسلام وأهله وتكفيرهم لأهل السنة في هذه البلاد وادِّعَائِهِمْ بأنهم هم المسلمون مع أنهم بعيدون كل البعد عن تعاليم الإسلام السمحة الواضحة، وسبب ادعائهم وزعمهم بأنهم المسلمون الوحيدون المطبّقون للإسلام من أجل التغطية والتمويه والتستر تحت شعار الإسلام لِيَغْتَرَّ بهم المسلمون في جميع بقاع الأرض ويتعاطفوا معهم حتى يحققوا ما يريدون؛ لذلك فإن على المسلمين أن يكونوا على بصيرة من أمرهم في كل يوم تُشْرِقُ شَمْسُهُ وزيادةِ يقينٍ تظهر من أخبارهم إما بسماع ما يخبر بالحقيقة عنهم أو بالقراءة أو برؤية الأشرطة التي تفضح جرائمهم، ومعلوم أن منهم الشيوعي واليهودي والنصراني والعلماني والبعثي والشيعي الرافضي والقومي العربي وغير ذلك ممن يحمل الأفكار الهدامة المعادية لدين الإسلام.
فعلى كل مسلم أن يعتقد بأن الحرب مع أعداء الله ورسوله هي حرب بين الإسلام والكفر، بين الإسلام والإلحاد، بين الإسلام وجميع المذاهب المنحرفة عن منهج الله، بين أهل السنة والزنادقة، بين المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله وبين المنحرفين عن الكتاب والسنة، بين المسلمين وبين أعداء الله ورسوله ودين الإسلام والمسلمين؛ لذلك يجب أن يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله وحتى يكون الدين كله لله، فإذا دَعَا داعي الجهاد فعلى المسلم أن يعرف لماذا يقاتل ويحارب ويدافع، ولماذا ينفق المال قليلاً كان أو كثيرًا؛ لكي يقبل الله منه، ولا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصًا له سبحانه وصوابًا على سنة رسوله محمد.
(1/5663)
القضية الفلسطينية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
16/10/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيف أصبح اليهود أغلبية في فلسطين؟ 2- تخطيط أعطاء الإسلام وكيدهم. 3- سقوط الخلافة العثمانية. 4- وعد بلفور. 5- اتفاقية سايس بيكو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا فيما مضى وأثبتنا من الكتاب والسنة بأنه لا حق لليهود في فلسطين ولا في بيت المقدس، وهذا يقودنا للتساؤل: إذًا ما الذي أتى باليهود إلى فلسطين؟! وكيف أصبحوا أغلبية وكونوا حكومة وطردوا أهلها ولا يزالون يطردونهم حتى الآن؟! فالجواب المختصر لهذه القضية: أن هذا حدث خطوة خطوة وبمساعدة ومعاونة الدول النصرانية، وعلى رأسها بريطانيا وأمريكا وتخاذل الدول العربية والإسلامية. أما بشيء من التفاصيل فقد ذكرنا بأن اليهود يريدون أن يحققوا ما في تلموذهم المزيّف من خرافات بضرورة العودة إلى فلسطين وإقامة حكومة يهودية فيها، وكانت جميع محاولاتهم تفشل، ولقد حاولوا أثناء الخلافة العثمانية التسلل إلى بلاد الشام وخاصة فلسطين والطور "سيناء" عن طريق الهجرة وشراء الأرض، ولكن سلاطين آل عثمان كانوا يدركون خطورة مثل هذه الهجرة وآثارها المستقبلية، فأصدروا أوامر مشددة تمنع بل تُحرِّم على اليهود سكنى أرض فلسطين أو سيناء، ولكن اليهود لم يتوقفوا ولم ييأسوا من بذل المحاولات المتكررة لتحقيق هدفهم، واستمرت هذه المحاولات حتى دَبَّ الضعف والوهن في الخلافة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وحصلوا على قرار يسمح لهم بزيارة فلسطين لمدة ثلاثين يومًا فقط، ولا يسمح لهم بالاستيطان أو الاستقرار فيها، فلم يناسبهم هذا الأمر، فاستعانوا بالدول الأوربية كما هي عادتهم إذا صَعُبَ عليهم أمر، فاحتجت الدول الأوربية على تحديد المدة بثلاثين يوما بأنها قصيرة، وتقدموا بالتماس إلى السلطان العثماني بأن يزيد المدة. تصوروا الدول الأوربية تتقدّم بالتماس متذلّلة، وهذا كان حالهم بعد أن ضعفت السلطنة التركية وأوشكت على الانهيار، أما قبل ذلك فلا يستطيعون أن يرفضوا أمرًا. فاستجاب السلطان للالتماس وجعل مدة الزيارة ثلاثة شهور يغادر بعدها اليهودي فلسطين، ومن هنا بدأ اليهود يخططون تخطيطًا جديدًا بعدما يئسوا من التأثير على الإدارة العثمانية، وقاموا بتشكيل جمعيات تركية وانخرطوا فيها وتمكّنوا من السيطرة عليها باستخدام الأموال وشراء الذمم كما هو ديدنهم حتى يومنا هذا، وأصبحت هذه الجمعيات تبدو للناظر أنها تركية المنشأ وتناضل من أجل تركيا، وهي في الحقيقة ماسونية يهودية تعمل لمصلحة اليهود وتحقّق أهدافهم، وهكذا غيّر اليهود أسلوبهم وقام صحفيّ نمساوي يهودي يسمّى "تيودور هرتزل" بمقابلة السلطان عبد الحميد الثاني، وتجرأ وطلب منه أن يتنازل لهم عن فلسطين لكي يؤسّسوا فيها دولتهم، وأغراه بدفع ما يزيد عن مائه وخمسين مليون ليرة ذهب وأن تسدّد جميع الديون المتراكمة على الدولة، فأبى السلطان عبد الحميد ورفض طلبه وطرده من مكتبه مع أنه كان في أمسّ الحاجة إلى تلكم الملايين بسبب الحرب وتدهور أوضاع الحكومة التركية في ذلك الوقت.
ولم ييأس اليهود وعقدوا مؤتمرًا في مدينة بال السويسرية بعد أن تقوّى وضعهم في تركية وضعفت الحكومة العثمانية، وقرروا وضع حجر الأساس للمأوى الذي سيقيم فيه اليهود دولتهم، واختاروا فلسطين لهذا المأوى، ولكن هناك عقبات كثيرة أمامهم تحول دون تحقيق هذه الأمنية، وأهم هذه العقبات وجود الخلافة العثمانية الإسلامية التي تجمع المسلمين تحت قيادتهما ووحدة العالم الإسلامي؛ ولهذا رأى المتآمرون أنه لا سبيل لتحقيق أطماعهم إلا بإسقاط الخلافة العثمانية كخطوة أولى، ومن ثم تتبعها خطوات أخرى مُكمِّلة وهي تمزيق الوحدة الإسلامية التي تجمع العالم الإسلامي وتقسيمهم إلى دويلات وإمارات متفرقة ومتنافرة، وبالطبع هذا الأمر لا يتحقق بين يوم وليلة ولا يتم إلا بتأني وصبر وبأيدي أناسٍ متمسلمين أو ممن يتنسبون إلى الإسلام ظاهرًا وهم أعداء للإسلام، وقد استفادوا من جمعية ماسونية سيطرت على مقاليد الحكم في تركيا تسمى: "جمعية الاتحاد والترقي"، نجحت بالقيام بانقلاب عسكري أدى إلى خلع السلطان عبد الحميد الثاني آخر سلاطين آل عثمان، وبخلعه انتهت السياسة الإسلامية المناوئة لليهود ولرغباتهم في العالم، وانفتح الباب على مصراعيه للأعداء من يهود ونصارى لتهويد فلسطين وإدخال آلاف المهاجرين اليهود إليها، وتزامن هذا مع الإعداد والتخطيط لتدمير الخلافة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى وما حدث فيها من مؤامرات وعهود كاذبة لاستدراج العرب للدخول مع الحلفاء لمحاربة الأتراك المسلمين، ونجحوا في استقطاب الشريف حسين بن علي لكي يعلن الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك، وخرج العرب من الجزيرة العربية باتجاه بلاد الشام لقتال إخوانهم المسلمين الأتراك، وأخرجوهم من الشام والتي كانوا قد حموها قرونًا عديدة من الاستعمار، ليس هذا وحسب بل وأثناء هذا القتال المستمر بين العرب والأتراك كانت هناك مؤامرات أخرى تحاك واتفاقيات سرية توقَّع ويخطط لها بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم العالم العربي وتوزيع التركة التي خلفتها تركية بعد انهيار الخلافة، وقد عرفت هذه الاتفاقيات فيما بعد باتفاقية "سايكس بيكو".
وبعد أن دُمرت البنية الاقتصادية والعسكرية للعالم الإسلامي بعد انهزام الأتراك وتحوّلت الجزيرة العربية إلى خراب ودمار وانتشرت الفوضى فيها أصبح الطريق فيها مُعَبَّدًا وسهلاً للعناصر اليهودية والنصرانية المحالفة للوصول إلى فلسطين وبلاد الشام واستعمارها، فقامت بريطانيا بمكافأة أصدقائها العرب والذين استماتوا معها في طرد إخوانهم الأتراك من الشام، كافأتهم بإعلان وعد بلفور المشؤوم في عام 1336هـ الموافق 1917م، والذي ينصّ على ضرورة إنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين. هذا الوعد الذي حاول اليهود الحصول عليه أثناء الخلافة العثمانية وفشلوا فيه فشلاً ذريعًا تحقق لهم الآن بدعم ومباركة دول التحالف النصراني، هذا الوعد الذي جعل من اليهود شعبًا ومن أهل فلسطين لاجئين يصارعون الجوع والموت حتى يومنا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، خير من دعا إلى النهج القديم، اللهم صل وسلم على حبيبك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهكذا ـ أيها الإخوة ـ انتهت الحرب العالمية الأولى وانتصرت دول التحالف النصراني وانهزمت تركيا، وقسم العالم العربي بينهم كما ذكر في اتفاقية "سايكس بيكو" السرية، وغضب الشريف حسين وزمجر وهدد وتوعد وكتب إلى الإنجليز يستفسر عن صحة ما قيل عن هذه الاتفاقية، فجاء الرد المعتاد تقديمه للعرب: "هذا غير صحيح، وإن شيئًا من هذا لم يحدث، وإن مثل هذه الاتفاقية لا وجود لها في الواقع، ونحن معكم ونؤيد موقفكم، ونحن أول من نعترف بالخلافة الإسلامية إذا أعلنت تحت قيادتكم"، وصدّق الشريف حسين الأكذوبة وانطلت علية المؤامرة، وربنا سبحانه بين لنا في كتابه الكريم أن هؤلاء الكفرة لا إيمان لهم ولا عهد حيث قال: وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران: 73]، وواصل العدو النصراني تنفيذ مخططاته، وبدلا من تمكين الشريف حسين من السيطرة على بلاد الشام وفلسطين وتنصيبه خليفة للمسلمين صدرت الأوامر من الحكومة البريطانية إلى الإدارة العسكرية الإنجليزية في فلسطين أن تسمع وتطيع لأوامر اللجنة اليهودية التي وصلت فلسطين من المنفى برئاسة "وايزمان" وتمكن لهم من السيطرة على مقاليد الأمور بشكل سري. وهنا بدأ إشغال الفلسطينيين بالمؤتمرات وتشكيل اللجان لتقصّى الحقائق، وهم بلجانهم ومؤتمراتهم يخدّرون المسلمين ويثنون من عزمهم ويوجّهونهم إلى الوجهة التي تكون في صالح اليهود.
والجماهير العربية غاضبة ومتحفزة وتعدّ العدة للانقضاض على الإنجليز واليهود وقتالهم وطردهم من فلسطين، وكانت الأمة لا تزال قوية وتحت قيادة واحدة، ولم تقسم بعد إلى دويلات وعدة جيوش، وهنا يتجه الإنجليز إلى ابن الشريف حسين فيصل بعد أن يئسوا من أبيه، وطلبوا منه أن يتحدث إلى الجماهير، وقام الشريف فيصل أمام الجماهير الغاضبة المحتشدة وهدّأها وأكد لها بأن الأمور تسير لصالحها ولا داعي للجمهرة والاقتتال، ونحن نستطيع أخذ حقوقنا كاملة بدون قتال أو دماء، وهكذا هدأ الناس وانطفأ الحماس الشديد. وعرف الأعداء مصدر الخطر فعملوا على القضاء عليه، وعقد المجلس الأعلى للحلفاء وقرر وضع القوانين ضد الفلسطينيين، وتصوروا جميع الحلفاء موافقين على تركيع المسلمين الفلسطينيين، والتزمت بريطانيا بتطبيق وعد بلفور على الطبيعة فورًا دون تأخير، واتخذت عدة إجراءات سريعة منها إلغاء التجنيد في المحافظات والمدن وتخفيض الجيش العربي وتشتيته في عدة مناطق ومعاقبة الذين يقومون بمقاومة ومعارضة الاستعمار الجديد.
وللحديث بقيه في الجمعة القادمة إن شاء الله.
ثم اعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديمًا، فقال تعالى ولم يزل قائلا عليمًا وآمرًا حكيما تنبيها لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5664)
كيف أصبح اليهود أغلبية في فلسطين؟ (1)
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
جدة
23/10/1423
جامع الأنصار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإجراءات التعسفية المتخذة ضد الشعب الفلسطيني بعد وعد بلفور. 2- مخادعة الإنجليز للحكام العرب. 3- جهاد عز الدين القسام. 4- ألعوبة تشكيل لجان تقصي الحقائق. 5- الإعلان عن قيام دولة إسرائيل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، كنا قد وصلنا معكم في الجمعة الماضية إلى الحديث عن اليهود في فلسطين وكيف أصبحوا أغلبية في معظم المناطق، وصلنا عندما قام الإنجليز بتطبيق وعد بلفور على الطبيعة، واتخذوا إجراءات حاسمه مصيرية ضد الشعب الفلسطيني كتخفيض الجيش العربي وتشتيته وإلغاء التجنيد الإجباري، وتستمر الخيانات البريطانية بتمكين اليهود من السيطرة على الأوضاع في فلسطين في جميع المجالات، وتأتي موافقة ومباركة عصبة الأمم على الانتداب البريطاني لفلسطين ووعد بلفور، وعصبة الأمم هذه هي ما يسمى اليوم بهيئة الأمم تأتي الموافقة منها ليأخذ وعد بلفور صيغة رسمية دولية يصعب إلغاؤها أو تغييرها فيما بعد، وهذا ما حدث ويحدث حتى الآن؛ إذا أرادوا شيئًا استصدروا له قرارًا وعمموا ذلك القرار على الأمم، وسمعت لهم الأمم وأطاعت مع الأسف الشديد، كما يحدث اليوم في الإجماع العالمي على محاربة الإرهاب ومحاولتهم الحصول على إجماع لمحاربة العراق، ونزولاً عند رغبة اليهود فتحت بريطانيا باب الهجرة لليهود على مصراعيه، وكونت إدارات محلية لهم، وجعلت منهم المسؤولين عن إدارتها كالشرطة وإدارة الخزينة وإخضاع المدارس العربية لإشراف مفتشين يهود لتغيير المناهج والنظم الإسلامية؛ لكي يتقبل الفلسطينيون اليهود مع الزمن ويعيشوا معهم بأمان، وهذا ما يعرف اليوم بسياسة التطبيع، ولقد تمكن اليهود بدعم من الإنجليز بإحكام قبضتهم على الاقتصاد الفلسطيني وإفقار الفلسطينيين وإبعادهم عن أرضهم، وحولوا الوضع من دفاع عن المقدسات الإسلامية إلى البحث عن لقمة العيش، فقاموا بإغلاق البنك الزراعي العثماني الذي كان يقرض الفلسطينيين قروضًا ميسرة بدون فوائد ربوية لتضييق الخناق عليهم ليقترضوا من البنوك الربوية التي أنشأها اليهود والإنجليز، فإذا تراكمت الديون والفوائد وعجزوا عن سدادها أخذت منهم أراضيهم وصودرت أملاكهم منهم عنوة، وهكذا وجد الشعب الفلسطيني الذي يعيش على أرضه أنه يتعرض لعملية إبادة مقصودة ومرسومة ومنظمة بدقة متناهية، وتنفذ خطوة خطوة وعلى مراحل مختلفة، ونحن نعيش اليوم مراحلها النهائية، وكان رد الفعل على هذا المكر اليهودي الإنجليزي المظاهرات في كل مكان والمطالبة بالجهاد في جميع أنحاء فلسطين والعالم الإسلامي، لا سيما العالم العربي، لكن الحكومة البريطانية أصدرت قوانين صارمة شديدة تمنع أهالي البلاد من التصدي لمخطط الإنجليز بتهويد أرض فلسطين، ومن هذه القوانين الأحكام العرفية أو العسكرية ومنع الاجتماعات والمظاهرات، كل ذلك لكبح حركة الجهاد المسلح والتي انفجرت تلقائيًا.
ولقد أدرك المتآمرون خطورة هذه الحركة الجهادية رغم كل إجراءات القهر والتعسف التي استخدموها مع الشعب الفلسطيني، والتي لم تؤد إلى نتيجة مرجوة، وتفتق ذهن الإنجليز عن أسلوب جديد قديم ثبت نجاحه في السابق مع الشريف حسين بن علي وابنه فيصل وبعض زعماء العرب، هذا الأسلوب هو المماطلة والخداع وإعطاء وعود وعهود ومواثيق وتسويف وتخدير الأمة وتنويمها حتى يتم لهم ما خططوا له، وبعد ذلك لا يوفون بتلكم العهود والاتفاقيات، ولدينا أدلة من القرآن الكريم وأدلة أخرى في أيامنا هذه بعدم الوفاء بالوعود والعهود والمواثيق كما حدث لاتفاقية "أوسلو" وما قبلها وما بعدها، فاليهود يكسبون كل يوم شيئًا جديدًا ويتوسعون، والفلسطينيون يطالبون بتطبيق اتفاقيات خيالية على ورق، وهم في أماكنهم إن لم يكن أجبروا على تركها، فازدادت المظاهرات وأدرك الشعب الفلسطيني أن بريطانيا هي المسؤولة مسؤولية مباشرة عن تهويد فلسطين، وهي العدو الرئيسي الأول، وتنادى الخطباء في كل مكان يدعون للجهاد المسلّح ضد الإنجليز، وهاجم الجنود الإنجليز الفلسطينيين وسقط مئات الجرحى وتلفت الفلسطينيون إلى إخوانهم في العقيدة وطالبوا بعقد مؤتمر إسلامي في القدس وكان ذلك في عام 1931م، وحضر المؤتمر اثنان وعشرون دولة، وأسهم فيه عدد من كبار العلماء والمفكرين، ولكن قراراته كانت دون المستوى المطلوب، وكانت هزيلة بسبب الضغوط، ومع ذلك لم يتحقق منها شيء، واستمر الوضع السيئ يزداد سوءا يومًا بعد يوم، والشعب يعاني والسجون ملأى واليهود مطمئنون ويستولون على مزيد من الأراضي والممتلكات، ومن هنا انطلقت انتفاضة الشيخ عز الدين القسام الجهادية المنظمة من مسجده في حيفا وكان ذلك في عام 1935م، ووجه سلاحها ضد الإنجليز بشكل خاصّ، وشهدت المنطقة سيلاً من الاغتيالات للضباط الإنجليز ونسف القطارات والأماكن الاقتصادية، وكان الشيخ عز الدين القسام ينازل الأعداء بنفسه، وحاصرته قوات الاحتلال البريطاني عدة مرات ولكن الله ينجيه منهم، ومرة دارت معركة شرسة استخدم فيها الإنجليز الدبابات والطائرات واستشهد فيها الشيخ وبعض رفاقه المجاهدين.
ويزداد الجهاد ضراوة بعد استشهاد البطل عز الدين القسام، وينتشر في جميع أنحاء فلسطين، وفشلت بريطانيا بقواتها ومعداتها في سحق حركة الجهاد المسلح وإنهاء الإضراب وتكبدت خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، فاتجهت إلى الاستعانة بالحكام العرب، وكما ذكرنا إعطاء عهود ووعود كاذبة حتى يوقفوا الانتفاضة ويجهضوا على الحماس الجهادي، فأذيعت نداءات ثلاثة من الحكام العرب المجاورين لفلسطين، يناشدون ويطالبون الجماهير المقاتلة بضرورة توقف الحركة الجهادية حقنًا للدماء التي تهدر من الطرفين معتمدين على حسن نوايا صديقتهم بريطانيا ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل والمساواة بين المتقاتلين، نسوا كل ما فعله الإنجليز سابقًا، وربنا سبحانه وتعالى يقول: وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران: 73]، وتتوقف الحركة الجهادية استجابة لنداء هؤلاء الحكام العرب كما توقفت قبل استجابة لنداء الشريف فيصل بن الحسين، فلا حول ولا قوة إلا بالله، الأخطاء تتكرر، والثقة بالنصارى مستمرة، لا تتغير، ولا من معتبر، ويستغل الإنجليز واليهود فرصة توقف الجهاد المسلح على أرض فلسطين لإجهاض قوة المجاهدين ودعم قوات العدو اليهودي، وقاموا بتنفيذ حكم الإعدام في بعض الشباب الفلسطيني وتطبيق قانون الطوارئ على الشعب الفلسطيني مثل تجديد سجن أو اعتقال جماعة الشهيد عز الدين القسام أعوامًا أخرى بعد انتهاء مدة الحكم القضائي وتسلط الضباط وحكام الأقاليم على الشعب العربي الفلسطيني يسومونهم سوء العذاب من سجن ونفي وتعذيب، ومن هؤلاء حاكم لواء الجليل "أندوروز" الذي كان يشجع ويحمي اليهود على تملك الأراضي وسلبها من العرب، ولقد رد الشعب الفلسطيني على هذه الوحشية الإنجليزية باغتيال حاكم لواء الجليل "أندوروز" وحاكم جنين "موفات". ولما عجزت بريطانيا عن إخماد شعلة الجهاد لجأت إلى الأسلوب الأمثل مع العرب، ولا يزال هذا الأسلوب مستخدمًا، فبالإضافة إلى الخداع والمماطلة تشكيل اللجان المتعددة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يربي العباد بالتشريع كما يربيهم بالنعم، أحمده سبحانه يقبل التوبة من عباده ويزيل عنهم النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد الثقلين وأفضل الخلق من عرب ومن عجم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام، ذكرنا بأن الإنجليز توصّلوا إلى أساليب الخداع والكذب وعدم الوفاء بالعهود، وأضافوا عليه أسلوبا آخر وهو تشكيل اللجان لتقصّي الحقائق، وهو في الحقيقة لإطالة أمد هذه اللجان وإعطاء اليهود فرصة للتوسع والسماح لوصول مزيد من المهاجرين من أوروبا لكي ينتشروا في قرى ومدن فلسطين، ووصلت اللجنة الأولى وتسمّى "لجنة بل الملكية" للتحقيق والبحث عن حقيقة الصراع، وأعدت تقريرًا ينادي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود وفرض وصاية أو انتداب على منطقة القدس، فرفضتها الجماهير وطالبت باستقلال فلسطين، وذهبت هذه اللجنة وجاءت لجنة أخرى تسمى "لجنة جون وودهيد"، فقاطعها العرب مقاطعة تامة، فعادت من حيث أتت، فإمعانًا في الغدر والخداع تظاهرت بريطانيا بأنها تراجعت عن قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود واقترحت عقد اجتماع في لندن وأعلنت فيه أنها عازمة على إعلان استقلال فلسطين بعد عشرة سنوات أي: في عام 1948م، وهو العام التي أعلن فيه قيام دولة إسرائيل، واشترطوا على أن تستمر الهجرة اليهودية إلى فلسطين للسنوات الخمس القادمة، وهذه أيضًا لعبة إنجليزية أخرى لتمرير المخطّط الكبير وهو أن يكون اليهود أغلبية حين يعلن عن مولد الدولة اليهودية، والذي كان معلومًا لديهم تاريخه إلا أن الصهيونية العالمية شعرت بضعف بريطانيا في الإسراع بتهويد فلسطين أمام الجهاد الإسلامي العنيف، فرأت أنه من الضروري جدًا إشراك أمريكا مع بريطانيا ليتم الإسراع في تحقيق الهدف وهو الاستيلاء على فلسطين، وهكذا تقوَّى دور أمريكا في المنطقة وتقلَّص دور بريطانيا، والقضية ما هي إلا أدوار توزّع حسب ما يتم من المراحل المرسومة سلفًا. وعقد مؤتمر في يالتا عام 1945م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بين بريطانيا وأمريكا وروسيا، واتفقوا على اقتسام مناطق النفوذ في العالم كله، وتمخض اجتماعهم عن تشكيل هيئة الأمم المتحدة وتضم جميع أنظمة الحكم في العالم، إلا أن السلطة الفعلية فيه أعطيت لخمس دول تسمى الدول العظمى وهي: أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا، هذه الدول فقط هي التي لها حق الفيتو أو النقض لأي قرار لا يناسبهم ويتمشى مع أهدافهم. وأوصى اليهود لعملائهم أن تعرض قضية فلسطين على هيئة الأمم المتحدة، وكان ذلك لأول مرة في عام 1947م، واقترحت هيئة الأمم أن تقسم فلسطين بين العرب واليهود، واستصدروا قرارًا بذلك، فرفض الفلسطينيون هذا العرض وأعلنت بريطانيا بأنها سوف تنسحب من فلسطين في عام 1947م، وبمجرد البدء بالخروج من فلسطين أعلن اليهود قيام دولتهم على جزء من أرض فلسطين.
وللحديث بقية.
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديما، فقال تعالى ولم يزل قائمًا عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/5665)