شهر التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
16/9/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها. 2- أزف رحيل رمضان. 3- دعوة لاغتنام ما بقي. 4- الغافلون في هذا الشهر. 5- اليقظون في هذا الشهر. 6- التذكير بقرب الأجل والرحيل من الدنيا. 7- إلى متى تأخير التوبة؟! 8- توبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 9- ضرورة التوبة للعبد. 10- من لم يتب في رمضان. 11- توبة الأفراد والجماعات. 12- التذكير بالنار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانه، فما أَنتم في هذه الدّنيا إلاَّ غَرَضٌ تَنتَضِل فيه المنايا، مع كلِّ جرعَةٍ شَرَقٌ، وفي كلِّ أَكلَةٍ غَصَص، لا تنالون منها نِعمةً إلاّ بِفِراق أخرَى، ولا يحيا لَكم أثرٌ إلاّ ماتَ لَكم أَثَر، ولا يَتَجَدَّد لكم جَديدٌ إلاّ بَعد أن يَبلَى لَكم جَديدٌ، وقَد مَضَت أصولٌ نحنُ فُروعها، فما بَقاءُ فرعٍ بعد ذهابِ أصله؟!
أيّها الناس، إنَّ شهرَكم هذا قد بدأ إدبارُه وآذن بوداعٍ، وإنَّ ما بقِيَ منه فسيمُرّ مثلَ طرفةِ عين أو كَلمحِ بصرٍ أو هو أقرَبُ، وهو عندَ ذَوِي العقولِ كفَيءِ الظلِّ، بينا تراه سابِغًا حتى قَلَص، وزائدًا حتى نَقَصَ، ولا جَرمَ ـ عبادَ الله ـ فإنَّ الشيء يُترقّب زوالُه إذا قيل: تَمَّ، وَ?لْقَمَرَ قَدَّرْنَـ?هُ مَنَازِلَ حَتَّى? عَادَ كَ?لعُرجُونِ ?لْقَدِيمِ [يس: 39].
ألا فإنَّ ما بقِيَ منَ الشهرِ اليومَ هوَ المضمَارُ، وغَدًا السِّباقُ، والسبقَة الجنةُ، والغايةُ النار، أفلا تائبٌ من خطيئته قبل خِتام شهرِه؟! ألا عاملٌ لنفسه قبل يومِ بُؤسه؟! ألاَ إنّكم في أيام أمَل من ورائه أجَل، فيا وَيحَ طالب الجنّة إذا نام، ويا بُؤسَ الهاربِ من النار إذا غفا، ثم هوَ لا يتخوّف قارعةً حتى تحلَّ بِه، ومَن هذه حالُه فَلَيس هو من عُمَّارِ الشهر في مَراحٍ ولا مَغدَى.
عبادَ الله، إنَّ في هذا الشهرِ أناسًا شَغَلوا أنفسَهم عن ذكرِ الله وطاعَتِه، حتى قَصَروا غايَةَ بِرّهم به في جَعلِه موسمًا حوليًا للموائِد الزّاخرة، وفرصةً سانحَةً للّهو والسَّمَر الممتدَّين إلى بزوغ النهار، فصُبحُهم مثلُ ليلهم، وأجواؤُهم سود، وأجفانهم جمرٌ يُومِض، جعلوا من هذا الشّهرِ محلاًّ للألغاز الرّتيبة والدعاياتِ المضلّلة، أو المواعيد المضروبة لارتقاب ما يستجدّ من أفلام هابطة وروائيات مشبوهة، ترمي بشررٍ كالقَصرِ لإحراقِ ما بقي من أصلِ حشمةٍ وعفاف، أو تديُّنٍ يستَحِقّ التشجيع والإذكاء، وبذلِكَ تخسَر الأمة في كلِّ لحظة مواطنًا صالحًا، يضلّ ضَلالةً يغشّ بها ويخدَع ويسرِق ويحتال، تمتُّعًا بهذا التَّرَف المرئيّ والداء المستشري، ولسانُ حالِ هؤلاء يقول: لقد صُفّدت شياطين رمضان إلاّ شياطينهم، حتى صارُوا بذلك يطلُبون ولا يعطون، ويشتَهون ولا يصبِرون، ويحسنون الجمعَ ولاَ يَعرِفونَ القِسمةَ، إلى أن تحطّمت فيهم روحُ المغالبة والمقاوَمَة، فلا عَجَبَ حينئذٍ إذا لم يجِد هؤلاء بهذا الشّهر المبارك ما يجِده المؤمنون الصادقون.
وفي المقابلِ ـ عبادَ الله ـ فإنَّ لهذا الشهرِ أناسًا غَضّ أبصارَهم ذكرُ المرجِع، وأراقَ دموعَهم خوفُ المحشر، فهم بين شريدٍ هارب من الكسَل والخذلان وخائف مقهور وداعٍ مخلص وثَكلان موجَع.
ألا فاتقوا الله أيّها الصائمون القائمون، وتنفَّسوا قبلَ ضيق الخِناق، وانقادوا قبلَ عُنف السِّيَاق، فيومئذٍ تعرَضون لا تخفَى منكم خافِيَة، ألاَ فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرةِ؟! وما يصنَع بالمال مَن عمّا قليلٍ سيُسلَبُه وتبقى عليه تبعاتُه وحِسابه؟! فاللهَ اللهَ وأنتم سَالمونَ في الصّحّةِ قبلَ السّقم، وفي الفسحةِ قبل الضيق، ويَا لفوز مَن سَعَوا في فكاك رِقابهم من قبل أن تُغلَق رَهائِنُها. ألا إنَّ للهِ عتقاءَ مِنَ النار في رمضانَ، وأمّا هذه الدنيا فَهِي غَرّارةٌ ضرّارة، حائلة زائلة، لا تَعدو أن تكونَ بزخرفها كما قالَ تعالى: كَمَاء أَنْزَلْنَـ?هُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ?لرّياحُ [الكهف: 45].
إنّه ما بينَ أَحَدِنا وبين الجنّة أو النار إلاّ الموت أن ينزِل به، وإنَّ غايةً تَنقُصها اللّحظة وتهدِمُها السّاعةُ لجديرةٌ بِقِصَر المدّةِ مهمَا طالت، وإنَّ غائبًا يحدُوه الجديدان اللّيلُ والنهار لحريٌّ بِسُرعةِ الأوبة، فَرحِم الله امرَأً قدّم توبَتَه وغالبَ شهوتَه، فإنَّ أجلَه مَستورٌ عنه، وأَمَله خادعٌ له، والشّيطان موكَلٌ به، يُزيّن له المعصيةَ والتفريط ليركَبَهما، ويمنّيه التوبةَ ليسوّفَها، يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء: 120].
فالبِدارَ البِدار قبل مفاجأةِ الأجَل، فلو أنَّ أحدًا يجِد إلى البقاء نفقًا في الأرض أو سُلّمًا في السماء دون أن يُقضَى عليه بالموت لكان ذلك لِسليمانَ بنِ داودَ عليه السلام الذي سخَّر الله له مُلكَ الجنّ والإنس، و?لرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَ?لشَّيَـ?طِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ?لأَصْفَادِ [ص: 36-38]، هذا مع نبوَّته وعظيمِ زُلفَتِه، غيرَ أنّه لما استوفى طُعمتَه واستكمَلَ مُدّتَه رماه قَوسُ الفَناء بنِبالِ الموت، وأصبَحَت الديارُ منه خَاليةً، ووَرِثَها قومٌ آخرون. وإنَّ لكم في القرونِ السّالفة لعبرةً، وإلاّ فأينَ العمالقةُ وأبناء العمالقة؟! وأين الفراعِنَة وأبناء الفراعِنَة؟! أين أصحابُ مدائنِ الرّسّ؟! وأين عاد وثمود وإرمُ ذات العماد التي لم يُخلق مثلُها في البلادِ؟!
فيا مؤخِّرًا توبَتَه بمطلِ التَّسويف، لأيّ يومٍ أجّلتَ توبَتَك وأخَّرت أَوبَتَك؟! لقد كنتَ تَقول: إذا صُمتُ تبتُ، وإذا دخَل رمضان أنبتُ، فهذه أيّام رمضان عناقِد تناقصت، لقد كُنتَ في كلِّ يومٍ تَضَع قاعدةَ الإنابةِ لنفسِك، ولكن على شفا جُرُف هار. ويحَك أيّها المقصّر! فلا تقنَع في توبَتِك إلاّ بمكابدةِ حُزنِ يعقوب عن البَين، أو بِعبرةِ داود ومناداةِ أيّوب لربِّه في ظلماتٍ ثلاث: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء: 87]، أو بصبرِ يوسفَ عن الهوَى، فإن لم تُطِق ذَلكَ فَبِذُلِّ إخوتِه يومَ أن قالوا: إِنَّا كُنَّا خَـ?طِئِينَ [يوسف: 97].
نَعم أيّها المذنبُ المقصِّر، لا تخجَل منَ التوبة، ولا تستَحِ من الإنابة، فلقَد فعلها قبلَك آدم وحوّاءُ حين قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف: 23]، وفعَلَها قَبلَك إبراهيمُ حينَ قال: وَ?لَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ?لدِينِ [الشّعراء: 82]، وفَعَلَها موسَى حِينَ قَالَ: رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَ?غْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ [القصص: 16]، وقَد قالَ : ((إنَّ أيّوبَ نَبيَّ الله لَبثَ في بلائه ثماني عشرةَ سنَة، فرفَضَه القريب والبعيد إلا رَجلين من إخوتِه، كانا من أخصِّ إخوانِه، كانا يَغدوان إليه ويروحانِ، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَمُ والله، لقد أذنَبَ أيّوب ذنبًا ما أَذنَبَه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاكَ؟ قال: مُنذ ثماني عَشرةَ لم يرحمْه الله فَيكشِف ما به، فلمّا راح إليه لم يصبر الرجلُ حتى ذَكَر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أنَّ الله يعلم أني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله، فأرجِع إلى بَيتي فأكفِّر عَنهما كراهيةَ أن يُذكر الله إلاّ في حقٍّ، ـ قال: ـ وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسَكَت امرأته بيده، فلمّا كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيّوب في مكانِه: ?رْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـ?ذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42] ، فاستَبطأَته فبلغته، فأقبل عليها حتى قَد أذهبَ الله ما به منَ البلاء، فهو أحسَن ما كان، فلمّا رَأَته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيتَ نبيَّ الله هذا المبتلى، واللهِ على ذَلك ما رأيتُ أحدًا كان أشبهَ به منك إذ كان صحيحًا، قال: فإني أنَا هو، وكان له أَندران [1] : أندرُ القمح وأندَرُ الشعير، فبَعَث الله سحابتين، فلمّا كانت إحداهما على أندَرِ القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندرِ الشّعير الوَرِق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصحّحه الذهبي [2].
فلا إله إلا الله، من يمنع المذنب من التَّوبَة؟! ولا إله إلا الله، من يَقنَط من رحمة ربه إلاّ الضالون؟! يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (دعا الله إلى مغفرته من زعم أنَّ عزيرًا ابن الله، من زَعَم أن الله فقير، ومن زعَم أنَّ يدَ الله مغلولة، ومن زعَم أنَّ الله ثالِثُ ثلاثة، يقول لهؤلاء جميعًا: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى? ?للَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 74]) [3].
جاءَتِ امرأة إلى النبيِّ فقالت: يا رسولَ الله، إني قد زَنَيتُ فطهِّرني، فردَّها النبي ، فلمّا كان الغد قالت: يا رسولَ الله، لِمَ تردّني؟ فلعَلَّك أن تَرُدّني كما رَدَدتَ مَاعِزًا، فواللهِ إني لَحُبلَى، قال: ((إمّا لا فاذهَبي حتى تلدي)) ، فلمّا ولدت أتَته بالصبيّ في خِرقة قالت: هذا قد وَلدتُه، قال: ((اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه)) ، فلمّا فطمته أتَته بالصبيّ في يده كِسرةُ خبزٍ، حِرصًا منها على التّوبةِ وإقامةِ الحدّ، فقالت: هذَا ـ يا رسولَ الله ـ قد فطمتُه وقد أكَلَ الطعام، فدفع الصبيَّ إلى رجلٍ منَ المسلمين، ثمّ أمر بها فحُفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبَلَ خالد بنُ الوليد بحجرٍ فرَمَى رَأسَها، فتنضَّحَ الدّمُ على وجهِ خالدٍ فسبّها، فسمع نبي الله سبَّه إياها فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيدِه لقد تابَت توبةً لو تابها صاحِبُ مَكسٍ لغُفر له)) ، وصاحِب المكسِ هو الذي يأخذ الضريبةَ من الناس. رواه مسلم [4]. وفي رواية: ((لقد تَابَت توبةً لو قُسِمَت بين سبعين من أهل المدينة وَسِعتهم، وهل وجَدَت شيئًا أفضَل من أن جادت بنفسها لله عزّ وجلّ؟!)) [5].
إنَّ صاحبَ الذنب مهما غفل عن التوبةِ أو تناءى عنه الوصولِ إليها فسيظلّ أسيرَ النفس، قلِقًا لا قرارَ له، متلفّتًا لا يصِل إلى مُبتغاه ما لم يُفتح له بابُ التوبةِ ليطهّرَ نفسَه من كَلكَلِها ويخفّف من أحمالها.
ألا فإنَّ التوبةَ للمرءِ كالماءِ للسّمَك، فما ظنُّكم بالسّمَك إذا فَارقَ الماء؟! إلهنا، إلهَنا:
يا مَن ترَى مدَّ البعوضِ جناحَها في ظلمةِ اللّيل البهيمِ الأَليَلِ
ويرى نياطَ عروقها في نحرِها والمخّ في تلكَ العِظام النُحَّل
امنُن علينا بِتوبةٍ تمحو بِها ما كان منّا في الزّمانِ الأوَّل
قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفَارًا.
[1] الأندر هو البيدر: المكان الذي توضع فيه الحنطة.
[2] صحيح ابن حبان (2898)، مستدرك الحاكم (4115) من حديث أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو يعلى (3617)، والطبري في تفسيره (23/167)، وأبو نعيم في الحلية (3/374-375)، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع"، وصححه الضياء في المختارة (2616، 2617)، وقال الهيثمي في المجمع (8/208): "رواه أبو يعلى والبزار ورجال البزار رجال الصحيح".
[3] عزاه السيوطي في الدر المنثور (7/238) للطبري وابن المنذر، وأخرج نحوه البيهقي في الاعتقاد (ص153) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
[4] صحيح مسلم: كتاب الحدود (1695) من حديث بريدة رضي الله عنه.
[5] هذه الرواية عند مسلم أيضا في الحدود (1696) من حديث عمران ين حصين رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يحِبّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبد الله ورسوله، صلّى الله وبارَك عليه، وعلَى آلِهِ وأصحابِه.
أمّا بعدُ: فيا أيّها النّاسُ، في يومٍ منَ الأيام صَعدَ رسول الله درجاتِ المنبر، فلمّا رَقِي عتبةً قال: ((آمين)) ، ثم رَقِي عتبةً أخرى فقال: ((آمين)) ، ثم رَقي عتبة ثالثةً فقال: ((آمين)) ، ثمّ قال: ((أتاني جبريل فقال: يا محمّد، من أدرَكَ رمضانَ فلم يُغفر له فأبعده الله، قلت: آمين)) الحديث، رواه ابن حبان وغيره [1].
صدَقَ رسولُ الله ، لقَد خَسِر وفرّط ورَغِم أنفُه مَن ضَيّع فرصَةَ رمضان ونكَصَ على عَقِبَيه، أَلا أين أنتم أيّها التّائبون؟! عَقلُكم يحثُّكم على التّوبةِ، وهَوَاكم يمنعكم، والحربُ بينهما سِجالٌ، فلو جَهَّزتم جيشَ عَزمٍ لفَرَّ العدوّ، تَنوون قيامَ الليل فتتكاسَلون، وتسمعون القرآن فلا تَبكون، بل أنتم سامِدون، ثم تقولون: ما السّبَب؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165].
ألا فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، وتوبوا إلى ربِّكم توبة نصوحًا، توبوا إلى الله أفرادًا وجماعاتٍ، فما توبةُ الأمّة بأدنى شأنًا من توبةِ الأفراد إذ يقول الله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
أَلا تَرونَ ـ يا رعاكم الله ـ ما قاله البارِي جلّ شأنه في كتابه: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ?لخِزْىِ فِى ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى? حِينٍ [يونس: 98].
فيا أيّها المسلِمون، ما هِيَ إلاّ التوبة والاستغفار، وإلاّ فالمصير النار والخسار، وما لهذا الجِلد الرقيق صبرٌ عليها، فارحموا أنفسَكم، فقد جرَّبتموها في مصائبِ الدنيا، أفرأيتم جَزَع أحدِكم من الشوكة تصيبه والرمضاء تحرقهُ؟! فكَيف إذا كان بين طابِقَين من نار، ضَجيعَ حجَرٍ وقرينَ شيطان في نارٍ يحطم بعضها بعضًا، لا تسمَع فيها إلا تغيّظًا وزَفيرًا، كلّما نَضِجَت فيها الجلودُ بدَّلها الله جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب، كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 15-18].
يقول الرّسول فيما يَروِيه عن ربِّه عزّ وجلّ: ((يا ابنَ آدم، إنّك ما دعَوتَني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنانَ السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أبالي. يا ابنَ آدم، لو أنك أتَيتَني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئا لأتيتُك بقرابها مَغفرةً)) رواه الترمذي في جامعه [2].
?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55، 56].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشَريّة محمّد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدِك ورسولك محمّد صاحبِ الوجه الأنوَر والجبين الأزهَر، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح ابن حبان (907) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (646)، والبزار، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304)، وصححه ابن خزيمة (1888)، قال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/291)، وصححه ابن حبان (409)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).
[2] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار (2540) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
(1/5501)
اغتنم شهرك ولا تكن ممن طال عليهم الأمد
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
14/9/1427
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتهاد الناس في أول الشهر. 2- ظاهرة الضعف والفتور. 3- أسباب الضعف والفتور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإنه ما يَبدَأُ شَهرُ رمضانَ المُباركِ حتى تَرَى المَسَاجِدَ بِالمُصَلِّينَ قَدِ امتَلأت، لا في الفَرَائِضِ وَالمَكتُوبَاتِ فَحَسَب، وَلَكِنْ في صلاةِ التَّرَاوِيحِ وَالقِيَامِ، وفي بِدَايَةِ ذَلِكَ الشَّهرِ المُبَارَكِ تُنفَضُ مَصَاحِفُ في بَعضِ البُيُوتِ قَد هُجِرَت، وَتُغتَنَمُ أَوقَاتٌ في تِلاوَةِ آيَاتِ الكِتَابِ العَزِيزِ، وَيُنفِقُ مُسلِمُونَ في تَفطِيرِ إِخوانِهِم، وَيَتَصَدَّقُونَ على بَعضِ مَن يَعرِفُونَ مِن فُقَرَائِهِم، وَتَنشَرِحُ صُدُورٌ وَتُسَرُّ نُفُوسٌ، وَيُحِسُّ الناسُ بِنَشوَةٍ وَسَعَادَةٍ وَيجِدُونَ نَشَاطًا عَجِيبًا، وَيَطعَمُونَ لِحَيَاتِهِم لَذَّةً وَيجِدُونَ لِعَيشِهِم نَكهَةً، حتى إِنَّكَ لَتُحِسُّ مِن أَحَدِهِم إِذَا لَقِيتَهُ في أَوَّلِ يَومٍ مِن الشَّهرِ فَرَحًا وَاضِحًا، يَكَادُ يَطِيرُ لَهُ مِن عَلى وَجهِ الأَرضِ، وَحُقَّ لَهُ ـ وَرَبِّ الكعبةِ ـ أَن يُسَرَّ وَيَطِيرَ فَرَحًا، وَمَا لَهُ لا يُسَرُّ وَقَد تَعَامَلَ مَعَ الكَرِيمِ الوَدُودِ؟! وَمَا له لا يَفرَحُ وَقَدِ اتَّصَلَ بِالرَّبِّ الخَالِقِ؟! قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ.
وَتَمُرُّ أَيَّامُ الشَّهرِ الكَرِيمِ تِبَاعًا، وَتَتَتَابَعُ لِيَالِيهِ سِرَاعًا، فَتَرَى أَعدَادَ المُصَلِّينَ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ قَد تَنَاقَصَت، وَخُطَاهُم إلى المَسَاجِدِ قَد تَبَاطَأَت، وَصِلَتُهُم بِكِتَابِ رَبِّهِم قَد ضَعُفَت، وَأَيدِيهِم عَنِ الإِنفَاقِ قَد أَمسَكَت، لَقَد تَرَاجَعُوا وَضَعُفُوا، لَقَد أُصِيبُوا بِالفَترَةِ وَتَكَاسَلُوا، فَمَا أَسرَعَ مَا مَلُّوا مِنَ العَمَلِ وَكَلُّوا!
وَيَعُودُ الحَرِيصُ على إِخوَانِهِ المُهتَمُّ بِأَمرِهِم لِيَتَلَمَّسَ لِذَلِكَ سَبَبًا وَيَطلُبَ لَهُ بَاعِثًا، فَيَجِدُ لَهُ أَسبَابًا مُتَعَدِّدَةً وَيَكتَشِفُ بَوَاعِثَ كَثِيرَةً، وَقَبلَ تَعدَادِ بَعضِ تِلكَ الأَسبَابِ وَالإِشَارَةِ إلى شَيءٍ مِن أَولَئِكَ البَوَاعِثِ يَحسُنُ أَن نُذَكِّرَ بِمَا صَحَّ عنه أَنَّهُ قال: ((لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَترَةٌ، فَمَن كَانَت فَترَتُهُ إِلى سُنَّتي فَقَدِ اهتَدَى، وَمَن كَانَت فَترَتُهُ إلى غَيرِ ذَلِكَ فَقَد هَلَكَ)).
وَبَعدُ: أَيُّها الإِخوَةُ، فَإِنَّ هُنَالِكَ أُمُورًا لَو وَضَعَها كُلُّ مُسلِمٍ في ذِهنِهِ في بِدَايَةِ الشَّهرِ الكَرِيمِ ثم سَارَ عَلَيهَا بَعدَ ذَلِكَ وَاستَمَرَّ لما فَتَرَ عَنِ العَمَلِ وَلما تَرَاجَعَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَلما مَلَّ مِن عِبَادَةِ رَبِّهِ وَلما كَلَّ عَن طَاعَتِهِ، وَلَحَرِصَ عَلى الاستِكثَارِ ممَّا يُقَرِّبُهُ مِنَ المَولى تَبارَكَ وَتَعَالى.
أَولاً: الإِخلاصُ وَالاحتِسَابُ، فَلَو أَنَّ المَرءَ كُلَّمَا عَمِلَ عَمَلاً كان على احتِسَابٍ لِمَا فِيهِ مِن عَظِيمِ الأَجرِ وَكَبِيرِ الثَّوَابِ، لَو أَنَّهُ لم يَرفَع خطوةً ولم يَحُطَّ أُخرَى إِلاَّ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ، لَو أَنَّهُ عَرَفَ مَعَ مَن يَتَعَامَلُ وَإلى مَن يَقصِدُ لما ضَعُفَ وَلما وَنى، وَلما تَكَاسَلَ وَلا فَتَرَ، وَلما مَلَّ وَلا كَلَّ، وَلَكِنَّ مِنَ النَّاسِ مَن هُوَ مَعَ النَّاسِ، لا يُحَرِّكُهُ لِلعَمَلِ إِلاَّ التَّقلِيدُ، وَلا يَبعَثُهُ عَلى الاجتِهَادِ إِلاَّ مُتَابَعَةُ الآخَرِينَ وَمُجَارَاتُهُم، فَتَرَاهُ يَنشَطُ إِذَا نَشِطُوا وَيَجتَهِدُ إِذَا اجتَهَدُوا، فَإِذَا تَكَاسَلُوا كَانَ أَوَّلَ المُتَكَاسِلِينَ، وَمِن هُنَا فَإِنَّنا نُذَكِّرُ بِبَعضِ مَا جَاءَ في كِتابِ اللهِ تعالى وَصَحَّ عَن رَسُولِهِ مِنِ ارتِبَاطِ قَبُولِ العَمَلِ بِالإِخلاصِ للهِ فِيهِ، فَقَد قال جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ، وقال تعالى: أَلا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ ، وقال تبارك وتعالى: فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالحًا وَلا يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ، وقال : ((إِنما الأَعمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنما لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ)) ، ((مَن قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ)) ، ((مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ)). فَالعَمَلُ للهِ، وَالقَصدُ رِضَاهُ، وَالهَدَفُ جَنَّتُهُ، وَالغَايَةُ حُبُّهُ، فَلا تَقلِيدَ لآبَاءٍ وَلا مُجَارَاةَ لإِخوَانٍ، وَلا تَسمِيعَ لأَصحَابٍ وَلا مُرَاءَاةَ لأَقرَانٍ، وَلَكِنْ إِخلاصٌ وَنِيَّةٌ وَاحتِسَابٌ، وَتَصَوُّرٌ لِعَظِيمِ الأَجرِ واستِصحَابٌ لِكَبِيرِ الثَّوَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَسمَعُ حَادٍ وَأَقوَى دَافِعٍ للاستِمرَارِ لِمَن أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيرًا.
ثَانِيًا: لِيَعلَمْ كُلُّ مُسلِمٌ يَرجُو مَا عِندَ اللهِ أَنَّ للهِ في رَمَضَانَ نَفَحَاتٍ، وَلَهُ في كُلِّ لَيلَةٍ وَيَومٍ مِنهُ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، قال : ((إِنَّ للهِ عِندَ كُلِّ فِطرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ في كُلِّ لَيلَةٍ)) ، وَلا يَدرِي العَبدُ متى يَكُونُ عِتقُ رَقَبَتِهِ، وَلا بِأَيِّ عَمَلٍ يَكُونُ فِكَاكُ نَفسِهِ مِنَ النَّارِ، فَلِمَاذَا الفُتُورُ وَالكَسَلُ؟! لِمَ الإِعرَاضُ عَنِ النَّفَحَاتِ الإِلهِيَّةِ والأُعطِيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ؟! لماذا لا يَطلُبُ العَبدُ مَا يُعتِقُهُ وَيُخَلِّصُهُ؟! فَإِنَّهُ لا يَدرِي متى تُدرِكُهُ نَفحَةٌ مِن رَحمَةِ اللهِ، فَلَعَلَّهَا في لَيلَةٍ يَكُونُ قَد تَرَكَ فِيهَا صَلاةَ التَّرَاوِيحِ، أَو أَعرَضَ عَن كِتَابِ رَبِّهِ، أَو تَهَاوَنَ في صلاةٍ مَكتُوبَةٍ، فَلَعَلَّهُ أَن يُعرَضَ عَنهُ بِسَبَبِ إِعرَاضِهِ. وَلا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِني إِنْ كُنتُ قَد كُتِبتُ عِندَ اللهِ مِنَ المُعتَقِينَ فَلا دَاعِيَ لِلعَمَلِ وَإِجهَادِ نَفسِي، فَقَد صَحَّ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنكُم مِن أَحَدٍ إِلاَّ وَقَد كُتِبَ مَقعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعَ العَمَلَ؟! قَالَ: ((اِعمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَن كَانَ مِن أَهل السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَن كَانَ مِن أَهلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهلِ الشَّقَاوَةِ)) ، ثم قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى الآيَةَ.
ثَالِثًا: لَقَد كَانَ مِن هَديِهِ أَن يُدَاوِمَ عَلى العَمَلِ، فَكَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثبَتَهُ، وَإِذَا صَلَّى صَلاةً أَثبَتَهَا، وَكَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِليهِ مَا دُووِمَ عَلَيهِ وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ تعالى أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)). فَلْيَكُنْ لَنَا بِهِ أُسوَةٌ وَقُدوَةٌ، لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ، وقد قال : ((اِكلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ تعالى أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)).
رَابِعًا: إِنَّ المُؤمِنَ مَطلُوبٌ مِنهُ إِتقَانُ العَمَلِ وَالتَّسدِيدُ فِيهِ قَدرَ الاستِطَاعَةِ، وَهُوَ يُحِبُّ أَن يَرَى أَجرَهُ يَومَ القِيَامَةِ كَامِلاً مُوفًّى غَيرَ مَنقُوصٍ، فَكَيفَ يَطلُبُ أَجرًا وَافِيًا بِعَمَلٍ نَاقِصٍ؟! وَلَقَد ذَمَّ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ المُطَفِّفِينَ الذِينَ يَنقُصُونَ المِكيَالَ مَعَ النَّاسِ وَلا يُوفُونَ، فَكَيفَ بِتَطفِيفِ العَمَلِ لِلآخِرَةِ مَعَ اللهِ؟! أَلا فَلْيُتقِنِ العَبدُ عَمَلَهُ وَلْيُحسِنْ فيه، فَقَد قال : ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ)) ، وَقَالَ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَن يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبشِرُوا، وَاستَعِينُوا بِالغُدوَةِ وَالرَّوحَةِ وَشَيءٍ مِن الدُّلجَةِ)).
خَامِسًا: إِنَّ العَبدَ لم يُكشَفْ لَهُ طُولُ عُمُرِهِ مِن قِصَرِهِ، وَلم تُظهَرْ لَهُ نِهَايَةُ أَجَلِهِ، وَلا يَدرِي متى يَكُونُ مِن هذِهِ الدُّنيا رَحِيلُهُ، فَلِمَاذَا التَّقصِيرُ وَالإِخلالُ؟! إِنَّهُ لَو قُدِّرَ أَنَّ عَبدًا عَرَفَ متى يَكُونُ مَوتُهُ ثم تَهَاوَنَ في كُلِّ سِنيِّ عُمُرِهِ وَقَصَّرَ حتى إِذَا كَانَت آخِرُ سَنَةٍ لَهُ اجتَهَدَ فِيهَا وَبَذَلَ مَا في وَسعِهِ لَعُدَّ ذَلِكَ مِنهُ تَقصِيرًا ونَوعًا مِن سُوءِ الأدَبِ، فَكَيفَ بِمَن لا يَعلَمُ مَتى يَفجَؤُهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ وَمُفَرِّقُ الجَمَاعَاتِ؟! كَيفَ بِمَن يُصبِحُ وَلا يَدرِي هَل يُدرِكُ المَسَاءَ أَم تَغِيبُ شَمسُهُ قَبلَ مَغِيبِ شَمسِ يَومِهِ؟! كَيفَ بِمَن يَلبَسُ ثَوبَهُ وَلا يَدرِي هَل يَخلَعُهُ بِيَدِهِ أَم يَخلَعُهُ مُغَسِّلُهُ؟! أَلا فَليَتَّقِ العَبدُ رَبَّهُ، وَلْيُحسِنْ عَمَلَهُ في كُلِّ وَقتِهِ، وَلْتَكُنْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ وَسَائِرُ أَعمَالِهِ أَعمَالَ مَن لا يَعُودُ عَلَيهِ شَهرُ رَمَضَانَ مَرَّةً أُخرَى، فَقَد وَرَدَ في بَعضِ وَصَايَاهُ أَنَّهُ قال: ((إِذَا قُمتَ في صَلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ، وَلا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعتَذِرُ مِنهُ غَدًا، وَاجمَعِ الإِيَاسَ ممَّا في أَيدِي النَّاسِ)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّ الذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُم أُجُورَهُم وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ وَالَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ مِنَ الكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِير ثُمَّ أَورَثنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصطَفَينَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَالِمٌ لِنَفسِهِ وَمِنهُم مُقتَصِدٌ وَمِنهُم سَابِقٌ بِالخَيرَاتِ بِإِذنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدنٍ يَدخُلُونَهَا يُحَلَّونَ فِيهَا مِن أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤلُؤًا وَلِبَاسُهُم فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الحَمدُ للهِ الَذِي أَذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقضَى عَلَيهِم فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنهُم مِن عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُم يَصطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخرِجنَا نَعمَل صَالِحًا غَيرَ الَّذِي كُنَّا نَعمَلُ أَوَلَم نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ [فاطر: 29-37].
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم في شَهرٍ كَرِيمٍ وَمَوسِمٍ عَظِيمٍ، فَقَدِّرُوهُ وَاغتَنِمُوهُ، وَلا تَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ يُفَرِّطُونَ وَيَتَهَاوَنُونَ، حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ لَعَلِّي أَعمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرزَخٌ إِلى يَومِ يُبعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُم فِيهَا كَالِحُونَ أَلَم تَكُنْ آيَاتي تُتلَى عَلَيكُم فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَت عَلَينَا شِقوَتُنَا وَكُنَّا قَومًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخرِجْنَا مِنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُم سِخرِيًّا حَتَّى أَنسَوكُم ذِكرِي وَكُنتُم مِنهُم تَضحَكُونَ إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ.
لَقَد ذَهَبَ مِنَ الشَّهرِ شَطرُهُ أَو كَادَ، وَيُوشِكُ أَن تُمسُوا وَقَد هَلَّ هِلالُ شَوَّالٍ وَجَاءَ العِيدُ، ثم يَنظُرُ أَحدُكُم فِيمَا قَدَّمَ، وَقَد يَطُولُ على تَقصِيرِهِ نَدَمُهُ، وَيَشتَدُّ لِتَهَاوُنِهِ أَسَفُهُ، ألا فَاغتَنِمُوا أَيِّامَ شَهرِكُم، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللهِ دَهرَكُم، عَسَى رَبُّكُم أَن يَرحمَكُم وَيَغفِرَ لَكُم...
(1/5502)
الشكر
الإيمان
خصال الإيمان
فايق بن عبد الله البصري
دورتموند
16/9/1428
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان نصفان. 2- الشكر من صفات الأنبياء. 3- شكر الرسول لربه تعالى. 4- حقيقة الشكر. 5- نعم الله لا تعد ولا تحصى. 6- الحث على شكر الناس. 7- فضل الشكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوتي في الله، لقد عرفنا في خطبة ماضية أن الصبر درس من دروس الصيام، وذكرنا ما قاله العلماء بأن الصبر هو نصف الإيمان، والنصف الثاني من الإيمان هو الشكر، وقال الله تعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]. وإن ربنا عز وجل قد أمرنا بالشكر فقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152].
وإن الشكر خلق لازم لأنبياء الله صلوات الله عليهم، يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 121]. ووصف الله عز وجل نوحًا عليه السلام: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء: 3]. وقال الله تعالى عن سليمان عليه السلام: قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40]. وكان من دعاء سليمان عليه السلام المذكور في القرآن الكريم أنه كان يقول: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ?لَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى? وا?لِدَىَّ [الأحقاف: 15].
وكان رسول الله كثير الشكر لربه، فقد كان يقوم الليل، ويصلي لله ربّ العالمين حتى تتشقّق قدماه من طول الصلاة والقيام، ولما سئل: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيرد النبي قائلا: ((أفلا أكون عبدًا شَكُورًا؟!)) متفق عليه. وقد وصى معاذًا فقال له: ((يا معاذ، أني أحبُّك، فلا تدعنّ أن تقول دبرَ كلّ صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحسن عبادتك)) ؛ ولذلك يجب علينا أن نشكر الله على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34].
والشاكرون لنعم الله قِلّة في الخلق، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُور [سبأ: 12]، فلنكن من هؤلاء القليل الذين يشكرون النعمة ولا يكفرونها.
وشُكر الله ـ أيها الإخوة ـ يكون بالقلب واللسان والجوارح، فيكون بالقلب بنسبة النعم إلى بارئها، قال جل وعلا: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل: 53]، ويكون باللسان بالإكثار من الحمد لمُسديها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الحمد لله تملأ الميزان)) رواه مسلم، وقال تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]، وقال الله : ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) رواه أبو داود والترمذي. والشكرُ بالجوارح يكون بالاستعانة بها على مرضاة الله واستخدامها في طاعة الله، وقال الله : ((التحدُّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير)) رواه البيهقي، وقال رسول الله : ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأَكْلَة فيحمده عليها، أو يشرب الشَّربة فيحمده عليها)) رواه مسلم والترمذي وأحمد. وكان أحد الصالحين إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: "أصبحنا مغرَقين بالنعم، عاجزين عن الشكر".
وقد يقول الفقير أو المريض أو المصاب: علام أشكر الله وقد أفقرني أو أمرضني أو أصابني؟! فاسمع لقصة هذا الرجل:
يحكى أن أحد الناس مرّ برجل أعمى ومقعد ـ أي: مشلول ـ، فسمعه يقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلا، فتعجب الرجل من قول هذا الأعمى المقعد وسأله: على أي شيء تحمد الله وتشكره؟! فقال له: يا هذا، أَشْكُرُ الله أن وهبني لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وبدنًا على البلاء صابرًا.
وعلمنا النبي أن نسجد لله سجدة شكر إذا ما حدث لنا شيء يسُرُّ، أو إذا عافانا الله من البلاء.
ويحكى أن رجلا ذهب إلى أحد العلماء وشكا إليه فقره، فقال العالم: أَيسُرُّكَ أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أيسرك أنك أخرس ولك عشره آلاف درهم؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أيسرك أنك مقطوع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفًا؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك نعم بخمسين ألفًا؟! فعرف الرجل مدى نعمة الله عليه، وظل يشكر ربه ويرضى بحاله ولا يشتكي إلى أحد أبدًا.
ومَنْ رَزَقَهُ اللهُ الأمنَ والقوتَ والسكنَ فهو في خيرٍ وافرٍ ونعمةٍ كبيرةٍ، يقول النبي في هذا المعنى: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِى سِرْبِهِ مُعَافًى فِى جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)).
ولينظر الإنسان إلى مَن هو دونه من النعم ولا ينظر إلى من هو فوقه، قال رسول الله : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله)) أخرجه مسلم.
وقد أمر الله عز وجل أيضا بشكر الوالدين والإحسان إليهما، يقول تعالى: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14]. فالمسلم يقدّم شكره لوالديه بطاعتهما وبرهما والإحسان إليهما والحرص على مرضاتهما وعدم إغضابهما.
وكذلك يجب شكر الناس على المعروف لأن المسلم يقدِّر المعروف ويعرف للناس حقوقهم، فيشكرهم على ما قدموا له من خير، قال الله : ((لا يشْكُرُ اللهَ من لا يشْكُرُ الناسَ)) رواه أبو داود والترمذي، وقال الله : ((إن أشكر الناس لله عز وجل أشكرهم للناس)) رواه أحمد. وحثنا النبي أن نقدم كلمة الشكر لمن صنع إلينا معروفًا فنقول له: جزاك الله خيرًا، قال الله : ((من صُنِع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا فقد أَبْلَغَ في الثناء)).
أيها الإخوة، إن الشكر هو سبب بقاء النعمة والحفاظ عليها، فإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَ تعصيه فاحذره، قال سبحانه: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [القلم: 44]، وإن النعمة مع المعصية تصبح نقمة، وكلُّ نعمة لا تقرِّب من الله فهي نقمة، قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3].
وقد قص الله علينا في سورة القلم قصة أصحاب الجنة عندما قابلوا نعمةَ الله بالنكران وحرمان المساكين ولم يؤدّوا شكرها، فطاف على ثمرهم طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت زروعهم هباءً منثورا كاللّيل البهيم.
وما من الناس إلا مبتلًى بعافية ليُنظر كيف شكرُه، أو ببليةٍ ليُنظرَ كيف صبره، فعليكم ـ عباد الله ـ بالجمع بين الصبر والشكر مع التقوى تكونوا أعبدَ الناس، قال : ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم. وروي عنه أنه قال : ((ينادى يوم القيامة: ليقم الحمادون، فتقوم زمرة فينصب لهم لواء، فيدخلون الجنة )) ، قيل : ومن الحمادون؟ قال : ((الذين يشكرون الله تعالى على كل حال)) ، وفي لفظ آخر: ((الذين يشكرون الله على السراء والضراء)).
أحبتي في الله، اشكروا الله الذي رزقكم صوم رمضان، واشكروا الله على قيامكم بالأعمال الصالحة، واشكروه على أن جعل لكم دعوة لا تردّ وأنتم صيام، واشكروه على أن جعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر. روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب، كيف أشكرك وشكري لك نعمة أخرى منك توجب عليّ الشكر لك؟! فأوحى الله تعالى إليه : إذا عرفت هذا فقد شكرتني.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين, ربنا أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5503)
العشر الأواخر من رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
سامي بن خالد الحمود
الرياض
21/9/1427
جامع الصفدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دخول العشر الأواخر من رمضان. 2- ظاهرة الفتور والضعف في آخر الشهر. 3- اجتهاد النبي في آخر الشهر. 4- تحري ليلة القدر. 5- الحث على الدعاء في آخر الليل. 6- سنة الاعتكاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معاشر الصائمين، ومضت الليالي والأيام، فإذا نحن الآن في أفضل ليالي العام، العشرِ المباركة، عشرِ التجلياتِ والنفحات وإقالةِ العثرات واستجابةِ الدعوات وعتقِ الرقاب الموبقات. الله أكبر! إنها بساتين الجنان قد تزينت، إنها نفحات الرحمن قد تنزّلت، فحري بالغافل أن يعاجل، وجدير بالمقصر أن يشمر.
يتفضَّل ربُّنا على عبادِه بنفحَاتِ الخيراتِ ومواسِمِ الطاعات، فيغتنِم الصّالحون نفائِسَها، ويتدارَك الأوّابونَ أواخِرَها. وإنها ـ والله ـ لنعمة كبرى أن تفضّل الله علينا ومد في أعمارنا حتى بلغنا هذه العشر المباركة، وإن من تمام شكر هذه النعمة أن نغتنمها بالأعمال الصالحة، فهل نحن كذلك؟! نشكو إلى الله ضعفًا في نفوسنا وقسوة في قلوبنا الغارقة في بحور الغفلة.
جرت السنون وقد مضى العمر والقلب لا شكرٌ ولا ذكرُ
والغفلةُ الصماء شاهرةٌ سيفا به يتصرّم العمرُ
حتى متى يا قلب تغرق في لجج الهوى إنّ الْهوى بَحرُ
ها قد حباك اللَّه مغفرةً طرقت رحابَك هذه العشرُ
عباد الله، ظاهرة مؤسفة يتألم لها المؤمن ويحترق لها قلبه حسرة في مثل هذه الأيام المباركة، ولا يعرف لها سببا وتفسيرا إلا الغفلة التي اشتدت واستحكمت في القلوب. إنها ظاهرة ضعف الإقبال على العبادة والطاعة في العشر الأواخر من رمضان، يظهر هذا الأمر جليًا في عدد المصلين في الأيام الأولى من رمضان، وعددهم في الأيام الأخيرة منه. لا يزال عدد المصلين في صلاة التراويح يقل، وأقل منهم الذين يصلون القيام الآخِر، والمشكلة أن هذا النقص يحدث في أفضل ليالي الشهر، بل وفي ليلة القدر.
سبحان الله! تهجر المساجد وتعمر الأسواق في أعظم ليالي السنة وأفضلها، بل وفي الساعة الشريفة التي ينزل فيها ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ليعطي السائلين ويغفر للمذنبين في الثلث الأخير من الليل. فلا إله إلا الله! كيف انتصر الشيطان على كثير من أبناء أمة محمد ، فأوقعهم أولاً في كثير من المعاصي والذنوب، ثم صرفهم عن الفرصة العظيمة لطلب المغفرة والحصول على العفو الشامل للذنوب؛ بحرمانهم من قيام تلك الليلة التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه؟!
فالله الله أيها المؤمنون، لا تفوتنكم هذه الفرصة العظيمة، فوالله لا يدري أحدنا هل يدركها مرة أخرى أم يكون ساعتها تحت الأرض مرهونا بما قدم لنفسه. وهي ليالٍ معدودة تمر سريعًا، والموفق من وفقه الله لاغتنامها والإقبال على الله فيها.
إن الإقبال على طاعة الله والتقرب إليه مطلوب في كل حال، ولكنه في العشر الأخيرة من رمضان أعظم فضلاً وأكثر أجرًا حيث يقترن فيها الفضل بالفضل، فضل العبادة وفضل الزمان. ولنا في مرشد البشرية خير أسوة، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا دخل العشر شدّ المئزر وأيقظ أهله وأحيا ليله. وفي رواية لمسلم: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها.
يا أيها الراقد كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ من الليل وساعاته حظًا إذا ما هجع الرُّقَد
أيها الغافلون الراقدون، اهجروا لذيذ النوم وجحيم الكسل، وانصبوا أقدامكم، وارفعوا هممكم، وادفِنوا فتوركم، وكونوا ممن قال الله فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16]. ولا تنسَوا أن تأمروا بهذا أولادكم وزوجاتكم كما كان هدي الحبيب.
معاشر الصائمين، اطلبوا الليلةَ العظيمة التي لا يحرم خيرها إلا محروم، ليلة العتق والمباهاة، ليلة القرب والمناجاة، ليلة نزول القرآن، ليلة الرحمة والغفران، ليلة هِيَ أمّ الليالي، كثيرةُ البرَكات، عزِيزَة السّاعات، القليلُ منَ العمَلِ فيها كَثير، والكثيرُ منه مضَاعَف، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ، خَلقٌ عَظيم ينزِل من السماءِ لشُهودِ تلك اللّيلة، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ، لَيلةُ سلامٍ وبَرَكاتٍ على هذِهِ الأمّة.
قال ابنُ كثير رحمه الله: "يكثُر نزولُ الملائِكَة في هذه الليلةِ لكَثرةِ برَكَتها"، والملائكةُ يَنزلون معَ تنزُّل البَرَكةِ والرّحمة، كما ينزلون عندَ تلاوةِ القرآن ويحيطون بحِلَقِ الذّكر.
ليلةٌ من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة. فيا حسرة من فاتته هذه الليلة في سنواته الماضية! ويا أسفى على من لم يجتهد فيها في الليالي القادمة!
وليلة القدر هي إحدى ليالي العشر بلا شك، وإنما الشك في تحديدها، والصحيح أنها تتنقل بين ليالي العشر، وليالي الوتر آكد، وأرجاها ليلة سبع وعشرين، وبعض الناس يظن أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين دائمًا في كل سنة، وهذا الظن يرده ما جاء في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أنها وقعت في غير هذه الليلة، ففي السنة التي رأى فيها أبو سعيد رسول الله يسجد في الماء والطين كانت ليلة إحدى وعشرين، وفي السنة التي رآه فيها عبد الله بن أنيس كانت ليلة ثلاث وعشرين، وفي السنة التي رأى فيها أبي بن كعب علاماتها من ليلة سبع وعشرين كانت في تلك الليلة، وهكذا.
وقد أخفى الله هذه الليلة في العشر ليجتهد المسلم في العبادة، ومن اجتهد في العشر كلها فقد أدرك ليلة القدر بلا شك، فاغتنموا هذه الليلة المباركة عباد الله، وعظموها بالقيام وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار.
أخي المؤمن، في كلِّ لَيلةٍ ساعةُ إجابَةِ، الأبوابُ فيها تفتَح، والكريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شئتَ فالمعطِي عظيم، وأيقِن بالإجابةِ فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شَكواك فإنّه الرّحمنُ الرّحيم، وارفَع إليه لأواكَ فهوَ السّميع البصير، يقول عليه الصلاةُ والسلام: ((إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة)) رواه مسلم.
ونسَماتُ آخرِ الليلِ مظِنّة إِجابةِ الدّعوات، قيلَ للنبيِّ : أيّ الدعاءِ أسمَع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخِر ودُبر الصّلواتِ المكتوباتِ)) رواه الترمذيّ وصححه الألباني.
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله عما تدعو به في ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول: ((اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني)).
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، إنك على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، فتح أبواب الخيرات لمن أراد رضاه، وأغلق باب السوء عمن أقبل عليه وتولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
عباد الله، إن من آكد السنن في هذه العشر السنةَ التي كان يحافظ عليها المصطفى ولم يتركها حتى مات، سنة الاعتكاف، فقد كان يعتكف هذه العشر طلبًا لليلة القدر حتى توفاه الله، ثم اقتدى به في ذلك أزواجه وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين. فمن تيسرت له هذه السنة فلا يحرم نفسه هذه السنة المحمدية والخلوة الربانية، فإنها بلسمٌ للقلوب ودواءٌ لآفاتها، فإن لم يتيسر له اعتكاف العشر فليعتكف بعض الأيام، فإن لم يتيسر له فليعتكف ليلة، فمن دخل المسجد قبل المغرب وخرج بعد الفجر كتب له اعتكاف ليلة، فإن لم يتيسر له الاعتكاف فليتشبه بالمعتكفين، فيكثر المكث في المسجد وقراءة القرآن، ويشهد صلاة القيام، ويقطع علاقته بفضول الدنيا، ويؤجل كل ما يمكن تأجيله من الحاجات والمصالح، وليعشْ في خلوة بربه، ولو كان في بيته ومتجره وعمله.
فاتقوا الله عباد الله، وأنيبوا إليه، وأخلصوا له، ولازموا التوبة والاستغفار، واشكروا الله الذي هداكم للإيمان وبلّغكم شهر الصيام وأعانكم على صيامه وقيامه، واغتنموا هذه العشر الأواخر بالاجتهاد في العبادة متأسّين برسول الله وأصحابه من بعده، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية...
(1/5504)
العشر الأواخر من رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن مبروك لعويني
وادي سوف
21/9/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول العشر الأواخر من رمضان. 2- أصناف الناس في العشر الأواخر. 3- اجتهاد النبي والسلف الصالح في العشر الأواخر. 4- أهمية الدعاء. 5- مدرسة الاعتكاف. 6- فضل ليلة القدر. 7- التحذير من التضييع والتفريط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فها هي أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل، وها هي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى.
أيها الأحبة، العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه المتنافسون، وموسم يضيق فيه المفرّطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا، طالما تحدث الخطباء وأطنب الوعاظ وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي، ويستجيب لهذا النداء قلوب خالطها الإيمان، فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الراكعين الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، وما ربك بظلام للعبيد. أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين وهم يصلون في القيام لخالقهم وكأنه ليس لهم حاجة، بل كأنهم قد ضمنوا الجنة. فهل يتأمل الشاردون؟! وهل يعيد الحساب المفرطون؟!
أيها المسلمون، هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ، ينادي ربكم: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)). هذا هو شهركم، وهذه هي نهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله، وكم من مؤمل أن يعود إليه لم يدركه. هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.
أيها المسلمون، إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيامه بقية، بقيةٌ وأي بقية؟! إنها عَشْرُهُ الأخيرة، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر، هجر فراشه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان؟!)) ، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرًا وقائلاً: ((أيقظوا صواحب الحجر، فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)). كان النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه، ولقد كان السلف الصالح من أسرع الناس امتثالا واتباعا للنبي ، ففي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى?. وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجّد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك", وكانت بعض نساء السلف الصالح تقول لزوجها بالليل: "قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت أمامنا ونحن قد بقينا".
أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة. إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع، ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة.
أيها الأحبة، قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا، تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني)). عُجُّوا ـ رحمكم الله ـ في عشركم هذه بالدعاء، فقد قال ربكم عز شأنه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. أتعلمون من هؤلاء العباد؟ الخلائق كلهم عباد الله، ولكن هؤلاء عباد مخصوصون، إنهم العباد من أهل الدعاء، عباد ينتظرون الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون، سائلون مع عظم رجاء، ومتضرعون في رغبة وإلحاح، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ.
إن للدعاء شأنًا عجيبًا وأثرًا عظيمًا في حسن العاقبة وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق. أرأيتم هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء يلجأ إلى الله في كل حالاته ويفزع إليه في جميع حاجاته، يدعو ويدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان وأبناؤه البررة والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحَسُن منه الخلُق وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسُن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق. أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه؟! محروم سد على نفسه باب الرحمة واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة، إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان، ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟! إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو باب السماء، باب مفتوح لا يغلق أبدًا، فتحه من لا يرد داعيًا ولا يخيب راجيًا، فهو غياث المستغيثين وناصر المستنصرين ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة، العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون؟! فاجتهدوا بالدعاء رحمكم الله، سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطئوا الإجابة، فيعقوب عليه السلام فَقَدَ ولده الأول ثم فقد الثاني في أزمنة متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقًا: عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ ، ونبي الله زكريا عليه السلام كبر سنه واشتعل بالشيب رأسه ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققًا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا ، لا تستبطئ الإجابة يا عبد الله، فربك يحب تضرعك وصبرك ورضاك بأقداره، رضًا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبينا : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)).
أيها الإخوة، ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله هذه الأيام حتى توفاه الله. عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه! المعتكف ذكرُ الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته. إذا أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسَه، ويقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانه في لغو ولا يفتح عينه لفحش ولا تتصنت أذنه لبذاءٍ، سلم من الغيبة والنميمة، جانب التنابز بالألقاب والقدح في الأعراض، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.
في درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام وفضول النظر وفضول المخالطة. في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب، فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري به ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها الغيبةُ والنميمة.
أيها المسلمون، أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والصلاة وقراءة القرآن وذكر الله وغيرها من العبادات، وتستغل فيها فرص الخير، وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ ، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ليلة خير من ألف شهر، خفي تعيينها اختبارًا وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جدّ في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه. إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، ولا يهلك على الله إلا هالك. فيا ليلة القدر للعابدين اشهدي، يا أقدامَ القانتين اركعي لربك واسجدي، يا ألسنة السائلين جِدِّي في المسألة واجتهدي.
يا رجال الليل جدوا ربَّ داع لا يرَدّ
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجِدّ
فاتقوا الله رحمكم الله، واعملوا وجدّوا وأبشروا وأملوا، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْر.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظيمِ الشأن ودائمِ السلطان، أحمده سبحانه وأشكره عن جزيل الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منارُ الإسلام وارتفع البنيان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: أيها الناس، أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله خلَف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ، إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون.
أيها المسلمون، أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته! المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتته فرَص الشهر وفرط في فضل العشر وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة، ويحه ثم ويحه أدرك الشهر! ألم يُحْظَ بمغفرة؟! ألم ينل رحمة؟! يا بؤسه! ألم تُقَلْ له عثرة؟! ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحبّ الخير في قلبه مَنْزَع. طال رقاده حين قام الناس، هذا والله غاية الإفلاس، عصى رب العالمين واتبع غير سبيل المؤمنين، أُمر بالصلاة فضيعها، ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها، دعته دواعي الخير فأعرض عنها، مسؤولياته قصّر فيها، وقصّر فيمن تحت يديه من بنين وبنات، يفرط في مسؤولياته وقد علم أن من سُنَّة نبينا أنه يوقظ أهله، أما هذا فقد اشتغل بالملهيات وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن، بل قد يأتي بعضنا إلى المسجد ويرسل ابنته وزوجته وأخته تجول في الأسواق، وتتعرض للفتنة من الفساق، حتى غدا السوق في شهر العبادة وَكْرًا للفساد. فاتقوا الله رحمكم الله، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا، اللهم وفقنا لإدراك ليلة القدر، اللهم اجعل شهرنا شهر خير وبركة للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم أعتق رقابنا من النار...
(1/5505)
محاسبة وسط رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الموت والحشر
مازن بن شحاده جبالي
الطيبة المثلث
16/9/1428
مسجد أبي هريرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة محاسبة. 2- الخاسرون في سوق رمضان. 3- الحث على تحري ليلة القدر. 4- خوف السلف الصالح من الله تعالى. 5- التذكير بالموت ويوم الحساب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فهي الزاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم الآزفة، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
عباد الله، لنقف اليوم موقف محاسبة مع أنفسنا، وقد دخلنا على النصف الأخير من شهر رمضان، شهر الغفران والعتق من النيران.
إذا كان الشهر فيه 720 ساعة فقد مرت بنا حتى الآن من بداية الشهر 375 ساعة، وبقي 345 ساعة، والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا: ماذا استثمرت في ساعاتك الفائتة لأخراك؟ كم ساعة من هذه الساعات راحت وذهبت عبثًا وضياعا؟ وكم ساعة من هذه الساعات كانت في عبادة وطاعة؟ كم ساعة من هذه الساعات جلست فيها مع كتاب الله تتلوه وتتدبره؟ وكم ساعة من هذه الساعات وقفت فيها بين يدي الله تصلي وتركع وتسجد؟ وكم ساعة خلوت فيها مع الله تذكره وتسبحه وتستغفره؟ وكم تصدقت وبررت وزرت رحمك؟ وكم رفعت يديك بالدعاء وبكيت وخشعت؟ وكم غيرت من أخلاقك السيئة واستبدلتها بالأخلاق الفاضلة الحميدة؟ أم أنك ما زلت مسرفا على نفسك في العصيان وفي البعد عن صراط الرحمن، ولا زلت هاجرا للقرآن، تجلس مجالس الغيبة والبهتان مع الأصحاب والأقران، وتضيع الساعات تلو الساعات، ولو أطال الخطيب الخطبة عشر دقائق لرأيته يتململ ويتأفف.
إن هؤلاء لو قيل له: إن هناك حفلا ساهرا في المقهى الفلاني لهرع إليه مهرولا، بل لربما أحيا ليالي رمضان وهو يحتضن الأرجيلي حتى الفجر يؤخر السحور عليها. لماذا تراجع الناس في حضور صلاة العشاء والتراويح بعد أن فتحنا السدة واكتظ المسجد بالمصلين إلا أن مظاهر الاحتفاء بهم لم يطل كثيرا؟! فهل ضمنوا العتق من النار من أول ليلة أو ليلتين ونحن لا ندري، أم أن يقدح رأس الأرجيله أو يلعب دك الشده أولى عنده من قيام رمضان وتلاوة القرآن؟!
الساعات تمر يا عبد الله، فالبدار البدار، وبعد أيام قليلة ستدخل علينا العشر الأواخر من رمضان التي حث النبي على تحري ليلة القدر فيها فقال: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)) ، فهل أنت مستعدّ لاستقبال العشر الأواخر وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، أم أصبحت لا تَفرُق معك أتت أم لم تأت؟! بل لربما حسبت نفسك في غنى عن خيراتها وبركاتها! فقد ضمنت منزلتك في الجنة!
اسمع كيف كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يستقبل العشر الأواخر من رمضان: روى البخاري عن عائشة أنها قالت: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. هذا رسول الله يشد مئزره كناية عن التشمير والاجتهاد، ويحيي ليله بالقيام بين يدي الله، ويوقظ أهله، فهو حريص على الخير له ولغيره، فيوقظهم لتشملهم الرحمة والخير الإلهي. هذا رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأين أنت من هذا؟!
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال عنه النبي : ((لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح)) ، فاسمع ماذا يقول هذا الصحابي الجليل: (لو أن لي قدمًا في الجنة وقدمًا خارجها ما أمنت مكر الله). وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد والمبشر بالجنة ماذا يقول؟ (لو نادى مناد من السماء أن الناس جميعهم في الجنة إلا رجل واحد لخشيت أن أكون أنا). فاستأنفوا ـ أيها الإخوة والأخوات ـ العمل الصالح، وجددوا العزيمة على الرشد، واصبروا على الطاعة فيما بقي من أعماركم.
رحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره، فقال الرجل: عمري ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع، فقال الفضيل: يا أخي، إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومن عرف أنه مسؤول فليعدّ للسؤال جوابًا، فبكى الرجل وقال: يا فضيل، وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
ورضي الله عن هارون الرشيد الذي يوم أن نام على فراش موته قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، وحملوا هارون إلى قبره، هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة، في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إليَّ خراجك ها هنا إن شاء الله، حمل ليرى قبره، ونظر هارون إلى قبره وبكى، ثم التفت إلى أحبابه من حوله وقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 28، 29].
أين المال؟! أين الدولارات؟! أين السيارات؟! أين العمارات؟! أين الأراضي؟! أين السلطان؟! أين الجاه؟! أين الوزارة؟! أين الإمارة؟! أين الجند؟! أين الحرس؟! أين الكرسي الزائل؟! أين المنصب الفاني؟! مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 28-29]. وبكى هارون وارتفع صوته ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16]. أين الفراعنة؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الظالمون؟! أين الطواغيت؟! بل أين فرعون وهامان؟! هل ترك الموت أحدا منهم؟! من الباقي؟! إنه الحي الذي لا يموت، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26-27].
هل تذكرت الموت؟ هل أعددت ليومٍ سترحل فيه عن هذه الدنيا؟ أنسيت يومًا سترحل فيه عن دنياك لتقف بين يدي مولاك. والله، سنبعث ولنسألنّ بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، سنعرض على هذه المحكمة الكبرى التي قال الله عز وجل عنها: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]، فينادى عليك باسمك واسم أبيك: أين فلان بن فلان؟ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20]، إنه يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الآزفة، إنه يَومَ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 2]، إنه يوم الوعيد، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21]، قال الحافظ ابن كثير: قال عثمان في خطبته: (سائق يسوق العبد إلى الله، وشهيد يشهد على أعمال العبد بين يدي مولاه)، ستساق إلى الله جل وعلا، وسينادى عليك يا مسكين ليكلمك ملك الملوك بغير ترجمان.
مثّل وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشًا قلقَ الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفًا غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غدًا في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا
وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه ـ أي: عن يمينه ـ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه ـ عن شماله ـ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. اتقوا النار فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج: 19-21].
اللهم حرم جلودنا عن النار، ووجوهنا على النار، وأبصارنا على النار، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فنجنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار، برحمة منك يا عزيز يا غفار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله الله إلى العالم كله بشيرًا ونذيرًا، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي بتقوى الله تعالى.
أما بعد: فيا عباد الله، ستسأل بين يدي الله أنت بشحمك ولحمك، سيكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، فاسمع ماذا قال إمام الموحدين وسيد المرسلين محمد كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: ((يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة ـ سوف يقربك الله جل جلاله منه ـ حتى يضع رب العزة عليه كنفه ويقرره بذنوبه يقول له ربه جل وعلا: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقول المؤمن: رب أعرف رب أعرف ـ لا ينكر، يقولها مرتين ـ ، فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)). أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينادى عليهم بهذا النداء العذب الحلو: ((ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)). من الذي يقال له هذا؟ الموحد المؤمن، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الإيمان، وأن يختم لي ولكم عند الموت بالتوحيد.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ينادى عليك لتسأل بين يدي الله تعالى: أين فلان بن فلان؟ مَن أنا؟! هذا هو اسمي! أقبِل، أقبل للعرض على الله جل وعلا، فتجد نفسك واقفًا بين يدي الحقّ، فتعطى صحيفتك، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مصيبة ومعصية أسررتها، فكم من معصية قد كنتَ أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها ذكّرك الله إياها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك! إن كنت من المؤمنين أعطاك الله كتابك باليمين وأنارت أعضاؤك وأشرق وجهك وانطلق النور من بين يديك وعن يمينك كما قال الله جل وعلا: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8].
أما أهل النفاق أهل الظلمات فينادون أهلَ الأنوار، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13]، يُنَادُونَهُمْ : يا أهل الأنوار، يا أهل التوحيد، أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ؟! ألم نحضر معكم الجُمَع والجماعات؟! أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد: 14].
ينطلق المؤمن وكتابه بيمينه بعدما سعد سعادة لن يشقى من بعدها أبدًا، ينطلق في أرض المحشر إلى إخوانه وأحبابه وأقرانه ومن هم على شاكلته والنور يشرق من وجهه وأعضائه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه، يتقد مرة وينطفئ مرة)، ينطلق والنور يشرق من وجهه وأعضائه وكتابه بيمينه، والله لقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبدًا، فينطلق إلى إخوانه وأحبابه من الموحدين في أرض المحشر، ويقول لهم: شاركوني السعادة، شاركوني الفرحة، شاركوني البهجة، اقرؤوا معي كتابي، انظروا هذا كتابي بيميني، اقرؤوا، هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذا صيامي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا عملي، اقرؤوا معي، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة: 19-33].
(1/5506)
الخوارج كلاب النار
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
حمدان بن محمد الحمدان
الرياض
12/1/1428
جامع هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحاديث في ذم الخوارج وبيان أنهم كلاب النار. 2- جريمة قتل المسلم بغير حق. 3- وعيد من قتل نفسا بغير حق.
_________
الخطبة الأولى
_________
روى ابن ماجه (173) عن ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله : ((الخوارج كلاب النار)) قال الشيخ الألباني: "صحيح". وروى ابن ماجه أيضا (176) عن أبي غالب عن أبي أمامة يقول: ((شرُّ قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيلٍ مَن قَتلوا؛ كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا)) ، قلت: يا أبا أمامة، هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله. قال الشيخ الألباني: "حسن".
وروى الإمام أحمد بن حنبل (19434) عن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلمت عليه قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان، قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله أنهم كلاب النار، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى الخوارج كلها، قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم، قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال: ويحك يا ابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك وإلا فدعه؛ فإنك لست بأعلم منه. قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: "رجاله ثقات غير حشرج بن نباتة، فقد وثقه أحمد ويحيى بن معين وأبو داود والعباس بن عبد العظيم العنبري وقال أبو زرعة: لا بأس به مستقيم الحديث".
وروى الحاكم في المستدرك (2654) عن شداد بن عبد الله أبي عمار قال: شهدت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه وهو واقف على رأس الحرورية عند باب دمشق وهو يقول: ((كلاب أهل النار، كلاب أهل النار، كلاب أهل النار)) قالها ثلاثا, خير قتلى من قتلوه، ودمعت عيناه فقال له رجل: يا أبا أمامة، أرأيت قولك: هؤلاء كلاب النار، أشيء سمعته من رسول الله أو من رأيك؟ قال: إني إذا لجريء، لو لم أسمعه من رسول الله إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا وعد سبع مرات ما حدثتكموه، قال له رجل: إني رأيتك قد دمعت عيناك! قال: إنهم لما كانوا مؤمنين وكفروا بعد إيمانهم، ثم قرأ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ الآية [آل عمران: 105] فهي لهم، مرتين. قال الذهبي قي التلخيص: "صحيح على شرط مسلم".
وروى الطبراني في المعجم الكبير (8033) عن أبي غالب قال: لما أتي برؤوس الأزارقة فنصبوا على درج دمشق جاء أبو أمامة، فلما رآهم دمعت عيناه ثم قال: ((كلاب النار، كلاب النار)) ، هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء، قلت: فما شأنك دمعت عيناك؟! قال: رحمة لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام، قال: قلت: أبرأيك قلت: كلاب النار أم شيئا سمعته من رسول الله ؟ قال: إني إذا لجريء، بل شيئا سمعته من رسول الله غير مرة، لا ثنتين ولا ثلاثا، فردد مرارا ثم تلا: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ حتى بلغ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 106، 107]، وتلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ حتى بلغ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران: 7]، ثم أخذ بيدي فقال: أما إنهم بأرضك كثير، فأعاذك الله منهم.
وروى أيضا في المعجم الكبير (8035) عن أبي غالب قال: كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج فنصبوا على باب المسجد، وكنت على ظهر بيت لي فإذا أبو أمامة يريد المسجد، فلما وقف عليهم دمعت عيناه فقال: سبحان الله ما يفعل الشيطان ببني آدم! سبحان الله ما يفعل الشيطان ببني آدم! سبحان الله ما يفعل الشيطان ببني آدم! ثلاثا، قال: ((كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء)) ثلاث مرات، ثم قال: ((خير قِتلة تحت ظل السماء من قتلوه، خير قِتْلة تحت ظل السماء من قتلوه، خير قِتْلة تحت ظل السماء من قتلوه)) ثلاثا، ثم التفت إلي فقال: يا أبا غالب، إنك بأرض هؤلاء بها كثير، فأعاذك الله منهم، هل تقرأ السورة التي فيها آل عمران؟ قلت: بلى، إني رأيتك دمعت عيناك؟ قال: بكيت رحمة لهم، كانوا من أهل الإسلام، فتلا: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ إلى أن بلغ: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ، وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ فزيغ بهم، ثم تلا: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا إلى أن بلغ: أَكَفَرْتُمَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ، قلت: هؤلاء يا أبا أمامة؟! قال: نعم، قلت: يا أبا أمامة، من قبل رأيك تقول أم شيئا سمعته من رسول الله ؟ قال: إني لجريء، ثلاثا، بل شيء سمعته من رسول الله ، لا مرة ولا مرتين حتى بلغ ستة، ثم قال: إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة أو قال: اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستزيد عليهم فرقة، كلها في النار إلا السواد الأعظم، قلت: يا أبا أمامة، ألا تراهم ما يعملون؟ قال: عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا.
وروى أيضا في المعجم الكبير (8049) عن أبي غالب قال: خرجت مع أبي أمامة الباهلي إلى مسجد دمشق، فلما كان عند الباب فإذا رؤوس من رؤوس الخوارج، فلما نظر إليها بكى فقال: ماذا صنع الشيطان؟! ثلاثا، ((كلاب النار)) ثلاثا، ثم قال: ((شر قتلى تحت ظل السماء)) ثلاثا، ((من قتلوه كان خير قتيل تحت ظل السماء)) ، قلت: يا أبا أمامة، أنت تقوله أو شيء سمعته من رسول الله ؟ قال: إني إذا لجريء، هل تقرأ الآيات التي في أول آل عمران: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، في هؤلاء أنزلت حتى تقرأ الآية في وسط آل عمران: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ، في هؤلاء أنزلت، قلت: ما يبكيك يا أبا أمامة؟! قال: إنهم كانوا مؤمنين أو قال: مسلمين.
وروى أبو يعلى (1163) عن أبي سعيد قال: بعث عليّ إلى رسول الله من اليمن بذهبة في أدم مقروظ ـ أي: جلد مدبوغ ـ لم تحصل، فقسمها بين أربعة نفر: زيد الخيل والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة، فقال ناس من المهاجرين والأنصار: نحن كنا أحقّ بهذا، فبلغه ذلك فشقّ عليه فقال: ((لا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟!)) فقام إليه ناتئ العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كثّ اللحية محلوق الرأس مشمّر الإزار فقال: يا رسول الله، اتّق الله، فقال النبي : ((ويحك، أولستُ أحقّ أهل الأرض بأن أتّقي الله؟!)) ثم أدبر فقام خالد سيف الله فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: ((لا، إنه لعله أن يصلي)) ، قال: إنه إن يصلي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال: ((إني لم أومر أن أشقّ عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)) ، فنظر إليه النبيّ وهو مقفّ فقال: ((إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) ، فقال عمارة: فحسبت أنه قال: ((لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل ثمود)) قال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".
وروى البخاري (3415) عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أكذب عليه، وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم فإنّ الحرب خدعة، سمعت رسول الله يقول: ((يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
إخواني الكرام، يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا أي: يتعمد قتله من غير مسوّغ شرعي، إنما قتله لحاجه في نفسه، كان قتله له هدفا سواء طعنه أو دهسه، سواء رماه أو فجّره، المهمّ أنه صار سببا في إنهاء حياته، فما هو ـ يا ترى ـ جزاؤه؟! ما هي عقوبته؟! قال تعالى: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ، جهنم فقط؟ لا، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
فقتل المسلم من غير مسوغ شرعي ذنب عظيم وجرم كبير، لا يحل ولا يجوز أبدا، يقول النبي: ((لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل بها)) رواه أبو داود (4353) وقال الشيخ الألباني: "صحيح". فما هو ـ ترى ـ ذنب رجال أمننا حتى يقتل خمسة منهم في مواجهة واحدة مع أولئك الخوارج؟!
أيها الإخوة المؤمنون، لقد توعّد الله عز وجل من قتل نفسا بغير حقّ بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وليس بعد الشرك ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 29، 30]. قال الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ولا يقتل بعضكم بعضا وأنتم أهل ملة واحدة ودعوة واحدة ودين واحد".
وقال عز وجل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)) رواه البخاري (6298)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دنيه ما لم يصب دما حراما)) قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/318): "حسن لغيره".
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكِّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حق، فينطوي عليهم فيقذفهم في حمراء جهنم)) رواه أحمد (11372) وقال الشيخ الأرنؤوط: "بعضه صحيح لغيره". ورواه البزار ولفظه: ((تخرج عنق من النار تتكلم بلسان طلق ذلق، لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تتكلم به، فتقول: إني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبمن قتل نفسا بغير نفس، فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام)) وفي إسناديهما عطية العوفي. ورواه الطبراني بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح، وقد روي عن أبي سعيد من قوله موقوفا عليه.
أيها الإخوة المؤمنون، إن قتل الأنفس البريئة وسفك الدماء المعصومة عند الله عز وجل لأمر عظيم، ففي الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه الترمذي (1395) وقال الشيخ الألباني: "صحيح"، وقال في أكبر اجتماع للناس في عصره: ((ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد ـ ثلاثا ـ ، ويلكم انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) رواه البخاري (1652) ومسلم (1679)، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) رواه الترمذي (1398)، وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمدا أو الرجل يموت كافرا)) رواه أبو داود (4270) وقال الشيخ الألباني: "صحيح".
عباد الله، فهل بعد هذه النصوص متعلّق لأحد؟! هل بعد هذه النصوص مجال لعذر لهؤلاء الجهلة الحقدة الخونة القتلة؟! لا والله، ولكن كما قال تبارك وتعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
(1/5507)
رمضان يقرع الأبواب
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
أيمن سامي زكي
الشارقة
25/8/1428
أنس بن النضر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم رمضان المبارك. 2- فرحة استقبال شهر رمضان. 3- من خصائص رمضان وفوائد الصيام. 4- فرحتا الصائم. 5- العزم الصادق على اغتنام رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الأحبة، لا بد من التقوى، فالتقوى هي خير لباس، والتقوى هي خير زاد، وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26]، تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
أيها الأحبة، إذا كان الباب يقرع والقارع للباب أحبّ حبيب إلى قلب الإنسان فإن المحبّ يفرح بهذا القرع ويفرح بهذا اللقاء، حدّث عن أُنس اللقاء وعن طول العناق للغائب المنتظر الذي إذا أقبل ابتهجت بمقدَمه لأنك تحبه، وابتهجت وفرِحت لما يأتي محمّلا به من هدايا عظيمة.
إن القارع هو رمضان، هبت نسائم رمضان، وها هو رمضان يقرع الباب من جديد، رمضان يقرع الباب في عجالة، بالأمس كنّا نودع رمضان، وها نحن نقف قريبا لاستقبال هذا الشهر، فلا إله إلا الله، ما أسرع مرّ الأيام، وهكذا الأعمار تطوى وهنّ مراحل، فالسعيد من تزود فيها للقاء الله، فعمّا قريب للدنيا نغادر وللمقابر ننقَل وبأعمالنا نجزَى،.
ثم وقفة فرحة لاستقبال هذا الشهر، إن هذا الشهر العظيم هو شهر حبيب إلى نفوس أهل الإيمان، إلى نفوس أهل التقى والصلاح، يفرح كل مؤمن صادق في إيمانه بمقدَم هذا الشهر، كيف لا وقد خصه الله جل وعلا بنزول الذكر بنزول النور والضياء؟! تلك نعمة عظيمة كبيرة من الله جل وعلا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185]، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. نعم، أنزل القرآن في رمضان، وسبق وبينت لحضراتكم أن هذا النزول على مرحلتين: نزول كامل للقرآن بأكمله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، كان هذا في رمضان، ونزول آخر متتابع منجّم مفرق على مدار ثلاث وعشرين سنة، هي عمر الرسالة، هذا هو النزول التّالي ابتدأ أيضا في رمضان، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان: 3]، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر: 1، 2]، وسيأتي الحديث عن هذه الليلة العظيمة وما فيها في ثنايا الحديث عن مزايا هذا الشهر العظيم.
وشهر رمضان اختصه الله تبارك وتعالى بنزول القرآن فيه، القرآن هداية العالمين هداية البشر أجمعين، بل والجنّ أيضا لما سمعوه قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن: 1، 2]، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ، فهو الهداية للإنس والجن جميعا، هداية العالم، فاختص الله جل وعلا هذا الشهر بأن يكون مفتتح الهداية ومفتتح تنزّل القرآن من السماء الدنيا إلى الأرض في هذا الشهر العظيم، ومن عظيم منّة السلام، والسلام هو الله تعالى اسم من أسماء الله الحسنى:
من عظيم منّة السلام لطفه بسائر الأنام
وهي أن أرشد الْخلق إلى الوصول مبينا للحق بالرسول
نعمة عظيمة نعمة الهداية، وهي أعظم نعمة على وجه الأرض، فنعمة السمع ونعمة البصر ونعمة الصحة والعافية نِعم كلّها عظيمة، لكن نعمة الهداية هي أعظم نعمة على وجه هذه الأرض، هذه الهداية هذا النور المبين ابتدأ في رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185]، ولأجل هذه الهداية العظيمة ولأجل هذا النور المبين في رمضان تصفّد مردة الشياطين، تفتح أبواب الجنان لطلابها، تغلق أبواب النيران، فالمجال مفتوح، شهر الهداية، فيه نزل القرآن، فيه الهداية، والمجال مفتوح بإغلاق أبواب النار وبفتح أبواب الجنة وتصفيد مردة الشياطين، هذه عوامل خارجية للهداية.
إن العامل المساعد على المعصية والمساعد على الوقوع فيما لا يرضي الله مغلق، فيخلو الإنسان بينه وبين نفسه، فمن نفسه يكون الخير، ومن نفسه يكون الشر، العوامل الخارجية من مردة الشياطين التي تسعى لإغواء بني آدم في سائر العام يصفد أي: يوضع في الأصفاد والأغلال، وهي القيود، فيقيد ويسلسل ويمنع من إغواء العباد، هذه عوامل خارجية.
ثم انظر ـ رحمك الله ـ إلى العامل الداخلي العظيم: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]، فأوجب الله صيام هذا الشهر على كلّ قادر يستطيع بالغ عاقل غير حائض ولا نفساء، أوجب الله على كل مقيم قادر يستطيع الصوم مسلم أن يصوم، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ والصيام ماذا فيه؟ الصيام حرمان مشروع، حرمان للجسد، والأصل أن الحرمان أنك تمنع جسدك وهو قادر على المباح، وهذا لا يجوز أنك تحرم جسدك من المباح، فالصوم حرمان مشروع جائز، حرمان مشروع وتأديب بالجوع، نعم يتأدب الصائم بأشياء كثيرة جدًا، فمنها أن هذا الصوم يكون لله، ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)) الحديث، ((كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)) ، فالصيام لله جل وعلا، وجزاؤه من الله. ما معنى: لله؟ أليست العبادات كلها لله؟! نعم، ولكن الصائم لا يطّلع عليه إلا الله عز وجل، فلا يعلم أحد أنه صائم إلا الله عز وجل، فالصوم لله، وهو خالص لوجه الله، فهذا أثرى فيك المراقبة الداخلية، وهذا هو الموجود بالآية، وهذا سرّ الصوم الأعظم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، فسبب فرض الصيام حصول التقوى، الغاية من الصيام الفائدة من الصيام حصول التقوى؛ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، فالصائم يتقي الله عز وجل ويراقبه في عدم إدخال طعام أو شراب إلى جوفه، ويمتنع عن شهوته على مدار النهار على مدار الشهر؛ مراقبة تامة لله عز وجل؛ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، فتحصل التقوى، ويحصل مراقبة الله عز وجل بهذه العبادة الصيام، فإذا حصّل الصائم التقوى داوم المراقبة لله جل وعلا في جميع أعماله، هذه من فوائد الصيام، بل هذه الغاية من الصيام، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، تحصيل التقوى والمراقبة لله عز وجل.
ومن فوائد الصيام أنك تشعر بإخوانك الجياع في العالم في الدنيا كلّها، يوم يكون الإنسان معتادا للشبع فيمنع نفسه شهرًا كاملا طوال النهار وهو صائم لا يفطر إلا إذا غربت الشمس شهرا كاملا فإنه يشعر بألم الجوع وألم الحرمان، فيحصل من هنا دافع داخلي للإحسان بعباد الله، كنا نقول قبل قليل: الدافع الخارجي مردة الشياطين، شهر للهداية، مردة الشياطين مصفدة، فالدافع الخارجي ممنوع، والآن دافع داخلي يحصل لك التقوى، يحصّل لك الإحسان.
وأيضا في الصيام فائدة عظيمة من كلام الأطباء أنّ الطعام إذا دخل المعدة وتبدأ عملية الهضم فينقل للأمعاء لامتصاصه كيف يصل الغذاء إلى البدن؟ تبدأ الشعيرات الموجودة على جدار الأمعاء بالتقاطه، فيبدأ الدم بالتحرك بالجسد بأكمله لتوصيل هذه الفيتامينات الموجودة في الطعام، فتصبح حركة الدم دؤوبة، هذا في داخل جسد كل إنسان، والنبي يقول: ((إن الشيطان يجري مجرى الدم في العروق)) ، فلا طعام لا حركة سريعة للدم الذي ينقل، نعم الدم يتحرك في الجسد، لكن هذه الحركة السريعة تتوقف لأنه لا طعام، فلا يجري الشيطان في الدم.
مردة الشياطين مصفدون من الخارج، ومن الداخل عندك أمان وحصن داخلي، فلا يجري الشيطان العادي ليس المارد والعادي، أنت ضيقت مجرى الدم، قللت عليه وضيقت عليه بعدم الطعام، وأيضا خلوّ الجوف خلوّ جوف الإنسان يصيبه بالسكينة والهدوء، الصائم في فترة العصر بدأت قواه تضعف، أيضا الدافع للمعصية يضعف، فهذا شيء داخلي في جسد الإنسان، وانظر إلى هذا الأثر: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)).
سبحان الله! إذا صمت وأديت الواجب عليك وأفطرت في نهاية اليوم أنهيت رمضان في نهاية الشهر تفرح لأنك أديت الواجب عليك، كيف الطالب يفرح إذا انتهى من واجبات المدرسة؟! المؤمن يفرح إذا أدى ما أوجب الله عليه، ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره)) بتمام الفطر؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة: 185]. وهذا التكبير يشرع امتثالا، وفي مشروعيته حكمة أن العبادة تمّت فتفرح فتكبّر الله: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد. فلتكبر الله فرحةً بتمام النعمة. ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه)) ، وهذه في الآخرة يوم يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب، فثبت عنه أنه قال: ((الصوم نصف الصبر)) ، والله عز وجل يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]، يوم ينادى على الصائم: ادخل من باب الريان.
أيها الأحبة، هذه بعض مزايا هذا الضيف الذي يقرع الأبواب، فحقّ لنا أن نبتهج بمقدمه، وخطبنا من الجمعة القادمة إن شاء الله ستتوسّع أكثر وأكثر في الحديث عن هذا الشهر العظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله، إن هذا الضيف العزيز على قلوبنا جميعا لا يقرع بابنا إلا مرة واحدة في العام، إلا مرة واحدة في السنة، فهو ضيف يأتي على اشتياق، والنفوس مشتاقة إليه، والنفوس تتمنى لقاءه، فأكرموا ضيافته، أكرموا ضيافة هذا الشهر العظيم، سنلتقي في الجمعة القادمة ونحن صائمون، فمن قبل أن يأتي رمضان من قبل أن يأتي الصيام ونحن نقول: جهّز نية صادقة لاستقبال هذا الشهر العظيم، هذا الشهر فيه من المزايا ما لا يقدّر ولا يحصى، وكنت وعدت بالحديث عن هذه الفائدة العظيمة ليلة القدر، فهي ليلة خير من ألف شهر، أي: أن العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، فمن يفوز بهذه الجائزة؟ هل الذي يأتي في آخر رمضان لينشط للعبادة والطاعة يقول: أنا أتكاسل في أول الشهر وأجتهد في آخره؟! التكاسل لا يأتي إلا بتكاسل آخره، لكن من جد وعزم بعزم أكيد ونية صادقة على استغلال الشهر من أوله إلى آخره فإن هذا حري وجدير بأن يوفقه الله تبارك وتعالى. فجهزوا هذه النية ونحن على أبواب رمضان، لا ندري أندركه أم لا، كم ممن شهد معنا رمضان في العام الماضي ليس موجودا معنا الآن، وهذه هي الدنيا، فأنا أقول لكم بصراحة ووضوح: إن على المسلم أن يحسن نيته، والله يقول عز وجل: فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132].
فأعدّ هذه النية بصدق وإخلاص مع الله عز وجل؛ أنك تقبل على الله، وأنك ترجو لقاء الله، وتريد وجه الله، أعدَّ هذه النية، فإن وافتك منيتك في أي وقت ـ أطال الله أعمارنا جميعا على طاعته ـ إن وافتك المنية في أي وقت فإنك تلقى الله بهذا الحسن وهذا الجمال بنية صادقة أن نحسن فيما بقي من أعمارنا وأن نجتهد في طاعة ربنا، وإن ربنا جل وعلا إن تكرم علينا وأطال في أعمارنا حتى نشهد هذا الشهر ليرينّ الله منّا خيرا، فأعدّوا هذه النية الصادقة تفوزوا وتسعدوا.
فاللهم إنا ندعوك وأنت أحق من دعي، ونرجوك وأنت أحق من رجي، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلّها، تبنا إلى الله، ورجعنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، اللهم فاقبلنا عندك من التائبين.
(1/5508)
وأذن في الناس بالحج
فقه
الحج والعمرة
أيمن سامي زكي
الشارقة
أنس بن النضر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إبراهيم يؤذن بالحج والله يبلغ عنه. 2- محبة المسلمين بيت الله الحرام وإتيانهم إليه من كل حدب وصوب. 3- فضل الحج والحث على الإكثار منه. 4- الدعوة للمبادرة إلى الحج قبل أن يحال المرء عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فأمامنا يوم ثقيل، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ?لشَّيَـ?طِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [مريم: 68]، فوالذي نفسي بيده، إنه ليوم طويل، شاب من هوله الوليد، وجمع فيه القريب والبعيد، ثم عرضوا على المبدئ المعيد، فهنيئًا لأهل التقوى، ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72]. فاتقوا الله عباد الله، وتأهبوا لذلك اليوم، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18].
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأَنْعَامِ [الحج: 27، 28]. إنه الحج دعانا إليه الخليل إبراهيم عليه السلام، وجدد هذه الدعوة محمد.
أورد الإمامان ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم آثارًا عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعدد من السلف في تفسير آية الحج المتقدمة أن إبراهيم عليه السلام قال: يا رب، وكيف أبلغ وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام إبراهيم عليه السلام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على جبل أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه.
فيا لله من الجموع التي حجت بيت الله منذ ذلك النداء إلى يومنا هذا! إن إبراهيم عليه السلام قد نادى، أما كيف وصل النداء؟ فربك هو خالق الكون ومدبر أمره، إنه أمر الله: ناد وعلينا البلاغ.
ثم انظر ـ رحمك الله ـ إلى مشهدٍ آخر رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر وهو يصف حجة النبي ، قال جابر: ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء فنظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك. الله أكبر! إنها الجموع الغفيرة تحج مع المصطفى ، لقد حج معه مائة ألف، إنها مكة أم القرى، كم وكم لها من محب.
ثم أعد البصر إلى زماننا، كم يحج بيت الله في كل عام؟! لكن اسمح لي، إن هذا العدد الذي يقدر بالملايين هم جزء يسير إلى ملايين أخرى عبر بقاع العالم تمنّي نفسها بحج بيت الله الحرام. ألم تعلموا ـ أدام الله عليكم نعمه وفضله ـ أن من المسلمين عبر بقاع الأرض أناسًا من الناس يجمعون الدرهم إلى الدرهم والدينار إلى الدينار وكل مُناهم أن تكتحل أعينهم برؤية كعبة المسجد الحرام، حتى إذا جاء الموسم وأذن المؤذن بالحج ولمَّا يكتمل الجمع بعد تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما يبلّغهم بيت الله وكعبة الله مع أنهم معذورون بل مأجورون من الله على نياتهم.
كيف وصل النداء عبر الأعصار والأمصار؟! إنه أمر الله أن ناد وعلينا البلاغ، وإنهم وفد الله يتتابع أفرادًا وجماعات قد يممّت وجوهها شطر بيت الله وعلقت قلوبها بالله. يقول الإمام الصنعاني رحمه الله:
وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن يرى البيت العتيق وركناه
يطوف به الْجانِي فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله؟!
نحجّ لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعًا فِي الكتاب وعدناه
فيا من أسى يا من عصى لو رأيتنا وأوزارنا ترمى ويرحَمنا الله
نعم، إنهم وفد الله، وهم الموعودون بكرم الله، روى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) ، وعند الطبراني في الكبير والترمذي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
فبشراكم يا حجيج بيت الله وهنيئًا لكم، بشراكم إجابة الدعوة، وهنيئًا لكم سقوط الذنوب، أما الفقر فقد أوغل في الهروب. إنها الذنوب تغسل فلا يبقى على الجسد بعدها من درن، في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
أما إن فضل الله الواسع لم يقف عند حدّ الدنيا، بل تعداها إلى الآخرة، تأملوا ـ يا رعاكم الله ـ في هذا الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). فيا لكرم الله! جنة عرضها السماوات والأرض تنال بحجة مبرورة، اللهم لا تحرمنا الجنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران: 97].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مجزل النعم، ومُولِي المنن، وأصلى وأسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: عباد الله، عجبًا لقاعد بعد الذي ذكرنا لم يحركه فضل الله وكرم الله لحج بيت الله، لكن الأمر أعجل من ذلك، وملك الموت لا يطرق بابًا ولا يهاب حجابًا، فإلى متى التهاون والتأخر عن فرائض الله؟! إن كلاً سيرحل عن هذه الدار، لكن شتان بين من يخرج منها على طاعة مولاه، وآخر قد اتبع هواه.
بخ ٍ بخ ٍ يوم يموت الإنسان على طاعة لله عز وجل، جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس أن رجلاً وقصته دابته وهو محرم فمات، فقال النبي : ((اغسلوه بماء وسدر، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا)). نعم، لقد مات هذا الرجل وهو محرم، ويبعث يوم القيامة ملبيًا، فهل تراه لو قعد كما قعدت أيحصل له نفس الفضل؟! فهلا أعملت عقلك وأرضيت ربك ولبيت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؟!
اللهم إنا نسألك حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا، اللهم سلم الحجاج والمعتمرين في برك وبحرك وجوك، اللهم أعدهم إلى أهليهم سالمين غانمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/5509)
رمضان والدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنوع حاجات الناس. 2- غفلة الناس عن باب الله تعالى. 3- فضل الدعاء. 4- رمضان شهر الدعاء. 5- من مواطن إجابة الدعاء. 6- الترغيب في سؤال الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لِلنَّاسِ حَاجَاتٌ هُم لها طَالِبُونَ، وَمَطَالِبُ إِلَيهَا يَطمَحُونَ، وَأُمنِيَّاتٌ يَتَطَلَّعُونَ إِلَيهَا وَرَغَبَاتٌ يَسعَدُون بتَحقِيقِهَا، مَرِيضٌ يَرجُو الشِّفَاءَ، وَمُبتَلًى يَطلُبُ العَافِيَةَ، وَفَقِيرٌ يَأمَلُ الغِنى، وَمُضَيَّقٌ عَلَيهِ يَتَلَمَّسُ السَّعَةَ، وَثَمَّةَ مَهمُومٌ نَاءَت بِهِ المُشكِلاتُ، وَمَدِينٌ أَثقَلَت كَاهِلَهُ الحُقُوقُ، وَمَطلُوبٌ أَقَضَّ مَضجَعَهُ الدَّائِنُونَ، وَتَرَى كُلَّ هؤلاءِ يَتَلَفَّتُونَ يَمنَةً وَيَسرَةً وَيَتَفَكَّرُونَ، وَيَفزَعُونَ إِلى مَن يَظُنُّونَ فِيهِ خَيرًا، وَيُلقُونَ بِحَاجَاتِهِم إِلى مَن يَأمُلُونَ عِندَهُ قَضَاءً، وَكَثِيرًا مَا يَغفَلُونَ في هَذَا عَن بَابٍ وَاسِعٍ مِن أَبوَابِ الفَرَجِ، بَابٌ أَوسَعُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ، بَابٌ مَا طَرَقَهُ مُحتَاجٌ إِلاَّ قُضِيَت حَاجَتُهُ، وَلا وَلَجَهُ مُضطَّرٌّ إِلاَّ نُفِّسَت كُربَتُهُ، ذَكَرَهُ الكَرِيمُ في ثَنَايَا آيَاتِ الصِّيَامِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وَدَعَا إِلَيهِ الرَّحِيمُ عِبَادَهُ وَرَغَّبَهُم فِيهِ وَدَلَّهُم طَرِيقَهُ، يَقُولُ الحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ.
فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، مَا أَكرَمَ الخَالِقَ وَأَقرَبَهُ وَأَرحَمَهُ! وَمَا أَغفَلَ الخَلقَ وَأَضعَفَهُم وَأَبعَدَهُم! يَدعُوهُم مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَيَفتَحُ لَهُمُ البَابَ وَيُرشِدُهُم لِلطَّرِيقِ، ثم يُعرِضُونَ عَنهُ وَيَذهَبُونَ إِلى غَيرِهِ، وَيَسلُكُونَ سُبُلاً لا يَدرُونَ مَا نِهَايَتُهَا، يُدَبِّجُونَ خِطَابَاتِ الشَّكوَى لِمَخلُوقِينَ مِثلِهِم مُحتَاجِينَ، وَيَطلُبُونَ الشَّفَاعَاتِ مِن مَسَاكِينَ عَاجِزِينَ، وَيَنثُرُونَ مَاءَ الوُجُوهِ لَدَى مَن لا يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلا نَفعًا، وَيُذِلُّونَ النُّفُوسَ أَمَامَ مَن لا يُغنِي عَنهُم قَلِيلاً وَلا كَثِيرًا، وَمَعَ هَذَا لا يُكَلِّفُ أَحَدُهُم نَفسَهُ أَن يَجأَرَ إِلى اللهِ بِدَعوَةٍ، أَو يَرفَعَ إِلَيهِ كَفَّ ضَرَاعَةٍ، أَو يَهمِسَ إِلَيهِ في جُنحِ الظَّلامِ بِحَاجَةٍ.
قَالَ الإِمَامُ ابنُ كَثِيرٍ رحمه اللهُ: "وَفي ذِكرِهِ تعالى هَذِهِ الآيَةَ البَاعِثَةَ عَلَى الدُّعَاءِ مُتَخَلّلَةً بَينَ أَحكَامِ الصِّيَامِ إِرشَادٌ إِلى الاجتِهَادِ في الدُّعَاءِ عِندَ إِكمَالِ العِدَّةِ، بَلْ وَعِندَ كُلِّ فِطرٍ"، وَقَالَ الشَّيخُ ابنُ سَعدِيٍّ رحمه اللهُ: "وَالدُّعَاءُ نَوعَانِ: دُعَاءُ عِبَادَةٍ وَدُعَاءُ مَسأَلَةٍ، وَالقُربُ نَوعَانِ: قُربٌ بِعِلمِهِ مِن كُلِّ خَلقِهِ، وَقُربٌ مِن عَابِدِيهِ وَدَاعِيهِ بِالإِجَابَةِ وَالمَعُونَةِ وَالتَّوفِيقِ، فَمَن دَعَا رَبَّهُ بِقَلبٍ حَاضِرٍ وَدُعَاءٍ مَشرُوعٍ وَلم يَمنَعْ مَانِعٌ مِن إِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَأَكلِ الحَرَامِ وَنَحوِِهِ فَإِنَّ اللهَ قَد وَعَدَهُ بِالإِجَابَةِ، وَخُصُوصًا إِذَا أَتَى بِأَسبَابِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَهِيَ الاستِجَابَةُ للهِ تَعَالى بِالانقِيَادِ لأَوَامِرِهِ وَنَواهِيهِ القَولِيَّةِ وَالفِعلِيَّةِ، وَالإِيمانُ بِهِ المُوجِبُ لِلاستِجَابَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ وَقُربَةٌ جَلِيلَةٌ، لا يَدَعُهَا إِلاَّ عَاجِزٌ، وَلا يَغفَلُ عَنهَا إِلاَّ مَحرُومٌ، صَحَّ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) ، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَاني)) ، وقال : ((إِنَّ اللهَ تعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَستَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا خَائِبَتَينِ)).
وَإِذَا لم يَكُنْ رَمَضَانُ هُوَ شَهرَ الدُّعَاءِ وَفُرصَةَ الابتِهَالِ وَالنِّدَاءِ فَفِي أَيِّ شَهرٍ يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَإِذَا لم يَستَغِلَّ العَبدُ مَوسِمَ الرَّحمَةِ لِيَرفَعَ إِلى مَولاهُ حَاجَاتِهِ وَرَغَبَاتِهِ فَمَتى يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَإِذَا كَانَ اللهُ حَيِيًّا كَرِيمًا يَستَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا فَكَيفَ بِمَن شَفَتَاهُ مِنَ الصَّومِ ذَابِلَتَانِ وَبَطنُهُ خَالٍ طَاعَةً لِرَبِّهِ وَقَدَمَاهُ مَصفُوفَتَانِ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا؟! كَيفَ بِهِ إِذَا رَفَعَ كَفَّيهِ وَنَاجَى رَبَّهُ عَلَى تِلكَ الحَالِ؟!
فَهَلُمَّ ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِلى اللهِ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ، فَبَينَ أَيدِيكُم الثُّلُثُ الأَخِيرُ مِنَ اللَّيلِ، حَيثُ يَنزِلُ رَبُّ العَالمينَ إِلى السَّمَاءِ الدُّنيا نُزُولاً يَلِيقُ بِذَاتِهِ سُبحَانَهُ، وَيُنَادِي خَلقَهُ: هَلْ مِن سَائِلٍ فَأُعطِيَهُ، هَل مِن مُستَغفِرٍ فَأَغفِرَ لَهُ، هَل مِن تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيهِ، هَل مِن دَاعٍ فَأُجِيبَهُ، وَفي هَذَا يَقُولُ : ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبدِ في جَوفِ اللَّيلِ الآخِرِ، فَإِنِ استَطَعتَ أَن تَكُونَ مِمَّن يَذكُرُ اللهَ في تِلكَ السَّاعَةِ فَكُنْ)) ، وَيَقُولُ عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ في اللَّيلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ خَيرًا مِن أَمرِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ في كُلِّ لَيلَةٍ)). وَبَينَ أَيدِيكُم السُّجُودُ في الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ وفي قِيَامِ اللَّيلِ، وَأَقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، يَقُولُ سُبحَانَهُ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ، وَيَقُولُ : ((وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجتَهِدُوا في الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَن يُستَجَابَ لَكُم)). وَبَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَقتٌ لِلدُّعَاءِ المُستَجَابِ، يَقُولُ : ((إِذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَت أَبوَابُ السَّمَاءِ وَاستُجِيبَ الدُّعَاءُ)) ، وَيَقُولُ : ((الدُّعَاءُ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ مُستَجَابٌ، فَادعُوا)). وَفي آخِرِ سَاعَةٍ مِن يَومِ الجُمُعَةِ وَقتُ إِجَابَةٍ، قَال : ((يَومُ الجُمُعَةِ ثِنتَا عَشرَةَ سَاعَةً، مِنهَا سَاعَةٌ لا يُوجَدُ عَبدٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ فِيهَا شَيئًا إِلاَّ آتَاهُ اللهُ، فَالتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعدَ العَصرِ)).
فَيَا أَيُّهَا الصَّائِمُونَ، أَينَ أَنتُم عَن هَذِهِ الفُرَصِ الكَبِيرَةِ لِلدُّخُولِ عَلَى مَلِكِ المُلُوكِ؟! وَاللهِ، لَو فَتَحَ مَلِكٌ مِن مُلُوكِ الدُّنيَا لِلنَّاسِ بَابَهُ يَومًا لِيَرفَعُوا إِلَيهِ حَاجَاتِهِم وَيَبُثُّوهُ شَكَاوَاهُم لَوَجَدتَ الزِّحَامَ عَلَى بَابِهِ كَثِيفًا، وَلأَلفَيتَ الحَاضِرِينَ إِلى قَصرِهِ لَفِيفًا، فَكَيفَ وَمَلِكُ المُلُوكِ هُوَ الذي يَفتَحُ البَابَ؟! كَيفَ وَهُوَ سُبحَانَهُ القَرِيبُ المُجِيبُ؟!
أَلا فَأَكثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ في شَهرِ البَرَكَاتِ، وَارفَعُوا إِلى اللهِ جَمِيعَ الحَاجَاتِ، وَأَلِحُّوا بِالمَسأَلَةِ في شَهرِ النَّفَحَاتِ؛ فَإِنَّ مَن أَكثَرَ طَرقَ البَابِ فُتِحَ لَهُ، وَرَبُّ العَالمينَ يُحِبُّ مِن عَبدِهِ أَن يُلِحَّ عَلَيهِ في الدُّعَاءِ، وَيَغضَبُ ممَّن تَرَكَ سُؤَالَهُ وَأَعرَضَ عَن رَحمَتِهِ، قال : ((إِنَّهُ مَن لم يَسأَلِ اللهَ يَغضَبْ عَلَيهِ)) ، وَاحذَرُوا العَجَلَةَ وَاستِبطَاءَ الإِجَابَةِ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِقُربِ الفَرَجِ وَحُصُولِ اليُسرِ، فَقَد قال : ((يُستَجَابُ لأَحَدِكُم مَا لم يَعجَلْ، يَقُولُ: دَعَوتُ فَلَم يُستَجَبْ لي)) ، وَيَقُولُ : ((اُدعُوا اللهَ وَأَنتُم مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ لا يَستَجِيبُ دُعَاءً مِن قَلبٍ غَافِلٍ لاهٍ)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعلَمُ مَا في أَنفُسِكُم فَاحذَرُوهُ ، وَآمِنُوا بِرَبِّكُم وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَكُونُوا مِنهُ عَلَى ثِقَةٍ وَاسأَلُوهُ، فَإِنَّهُ سُبحَانَهُ لا يُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً، وَلا يُخَيِّبُ مَن أَعظَمَ فِيهِ رَجَاءً، قَال : ((مَا مِن مُسلِمٍ يَدعُو بِدَعوَةٍ لَيسَ فِيهَا إِثمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعطَاهُ اللهُ بها إِحدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَن يُعَجِّلَ لَهُ دَعوَتَهُ، وَإِمَّا أَن يَدَّخِرَهَا لَهُ في الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَن يَصرِفَ عَنهُ مِنَ السُّوءِ مِثلَهَا)) ، قَالُوا: إِذًا نُكثِرُ، قَالَ: ((اللهُ أَكثَرُ)) ، وَيَقُولُ عليه الصلاةُ وَالسلامُ: ((أَعجَزُ النَّاسِ مَن عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ)).
وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَلِمَاذَا تَركُ الدُّعَاءِ وَالانقِطَاعُ؟! لِمَاذَا الغَفلَةُ وَالإِعرَاضُ؟! لماذا رَفعُ الحَاجَاتِ لِغَيرِ اللهِ؟!
يَا مَرِيضًا عَبَثَ بِهِ الدَّاءُ وَالأَلَمُ، يَا فَقِيرًا استَبَدَّت بِهِ الدُّيُونُ، يَا مَهمُومًا، يَا مَغمُومًا، يَا مُحتَاجًا، يَا مُضطَّرًّا، أَينَ أَنتُم عَنِ الدُّعَاءِ؟! أَينَ أَنتُم عَنِ التَّضَرُّعِ؟! أَينَ أَنتُم عَن قَرعِ أَبوَابِ السَّمَاءِ في هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ؟! أَلا فَادعُوا اللهَ مُوقِنِينَ، وَالجَؤُوا إِلى الرَّحِيمِ مُستَسلِمِينَ، وَارغَبُوا إِلى الكَرِيمِ مُخلِصِينَ، اُدعُوا دُعَاءَ المُضطَّرِّينَ، وَأَلِحُّوا إِلحَاحَ المُحتَاجِينَ، فَوَاللهِ لا غِنى لَكُم عَن رَبِّكُم طَرفَةَ عَينٍ، أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ.
أَتَهزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزدَرِيهِ وَمَا تَدرِي بمَا صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيلِ لا تخطِي وَلَكِنْ لَهَا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انقِضَاءُ
(1/5510)
التخويف من النار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
16/2/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من تكرار ذكر النار في القرآن الكريم. 2- أهمية تبدر القرآن والسنة والنظر في أحوال السلف الصالح. 3- تخويف النبي أمته من النار. 4- كثرة استعاذة النبي من النار. 5- من مواقف السلف في الخوف من النار. 6- صور من عذاب جهنم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال وغير ذلك مما فيها من العظائم والأحوال، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
فعلينا أن نتأمل ونتدبر ما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وينبغي لنا أن نتعرف على سيرة السلف الصالح من أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين، ونتأمل علم أحوالهم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات، ونعلم أن ذلك هو الذي رقّاهم إلى تلك الأحوال الشريفة والمقامات الرفيعة من شدة الاجتهاد في الطاعات والانكفاف عن دقائق الأعمال المكروهة فضلاً عن المحرمات، ولهذا قال بعض السلف: "خوف الله عز وجل حجب قلوب الخائفين عن زهرة الدنيا وعوارض الشبهات". قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، وقال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131]، وقال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل: 14]، وقال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16].
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتقوا النار)) ، قال: وأشاح، ثم قال: ((اتقوا النار)) ، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يَقَعْنَ فيها، فأنا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عن النار، وأنتم تَقَحَّمُونَ فيها)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وعنه رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] دعا رسول الله قريشًا فاجتمعوا فَعَمَّ وخصَّ فقال: ((يا بني كعب بن لؤيّ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مُرَّةَ بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا)) رواه مسلم واللفظ له والبخاري والترمذي والنسائي بنحوه، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يخطب يقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) ، حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه. رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
فيجب على المسلم أن يكون خائفًا من النار مستعيذًا بالله منها، قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران: 190-192]، وقال تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء: 57]، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج: 27]، وقال سبحانه: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14]، وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور: 25- 27].
ولقد كان النبي كثيرًا ما يستعيذ من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي : ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرةِ حسنة، وقنا عذاب النار)) رواه البخاري، وعن جابر أن النبي قال لرجل: ((كيف تقول في الصلاة؟)) قال: أَتَشَهَّدُ ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي : ((حولها ندندن)).
وورد أيضًا أنه لما أنزل الله على نبيه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] تلاها رسول الله ذات يوم على أصحابه فخرّ فتى مغشيًا، فوضع النبي يده على فؤاده فإذا هو يتحرك، فقال رسول الله : ((يا فتى، قل: لا إله إلا الله)) فقالها، فبشّره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله، أَمِنْ بَيْنِنا؟! فقال: ((أوَما سمعتم قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14] ؟!)).
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كَأَنَّ النارَ لم تُخْلق إلا لهما. وورد أيضًا من حديث أبي بكر بن عيّاش قال: صليت خلف الفضيل بن عياض صلاة المغرب، وإلى جانبي ابنه عليٌّ، فقرأ الفضيل: أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1]، فلما بلغ لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ [التكاثر: 6] سقط عليّ مغشيًا عليه وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائف. قال: ثم رابطت عليًا فما أفاق إلا في منتصف الليل. وقال ابن أبي ذئب: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة أنه قرأ عنده رجل: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس.
فعلينا أن نعرف من أحوال السلف الصالح رضي الله عنهم الكثير بعد تكرار كتاب الله وسنة رسول الله ؛ لأنهم رُزِقُوا الخوفَ من الله والخشية والإنابة الصادقة، وحتى تتغير حالنا التي نشكوها إلى الله؛ حيث لا نجد من يُذَكِّرُنا بالله لنرجع ونتوب إلى الله من ذنوبنا التي حالت بيننا وبين طاعة ربنا والتقرب إليه والابتعاد عما حرمه علينا لِنَنْجُوَ من النار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله عز وجل)) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من عبد مؤمن يخرج من عينه دموع ولو كانت مثل رأس الذباب من خشية الله ثم تصيب شيئًا من حرّ وجهه إلا حرمه الله على النار)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يوفق الطائعين ويذل العاصين ويتوب عليهم إذا تابوا وأنابوا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد ورد في قصة الإسراء والمعراج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله : ((أُتي بفرس يجعل كل خطوة منه أقصى بصره، فسار وسار معه جبريل عليه السلام، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله؛ تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه. ثم أتى على قوم تُرضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رُضخت عادت كما كانت، ولا يُفَتَّرُ عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم، قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله وما الله بظلاّم للعبيد. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها، قال: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها وهو يريد أن يزيد عليها. ثم أتى على قوم تُقرض شفاهُهُم وألسنتُهُم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتّر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل، ما هؤلاء؟ قال: خطباء الفتنة. ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها، فيريد أن يردها فلا يستطيع، ثم أتى على وادٍ فوجد ريحًا طيبة ووجد ريح مسك مع صوت، فقال: ما هذا؟ قال: صوت الجنة تقول: يا رب، ائتني بأهلي وبما وعدتني، فقد كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقريي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ومائي ولبني وخمري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا ولم يشرك بي شيئًا ولم يتخذ من دوني أندادًا فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا خُلف لميعادي، قد أفلح المؤمنون، تبارك أحسن الخالقين، فقالت: قد رضيت. ثم أتى على وادٍ فسمع صوتًا منكرًا فقال: يا جبريل، ما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب، ائتني بأهلي وبما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني، وقد بعد قعري واشتد حرّي، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكلّ جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: رضيت)).
(1/5511)
نعيم الجنة وعذاب النار من القرآن الكريم
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
20/7/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن الكريم كتاب بشارة ونذارة. 2- بعض آيات الوعيد للكافرين والمنافقين والعصاة. 3- بعض آيات الوعد للمؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، مما لا شك فيه لدى كل مؤمن بأن القرآن العظيم خير واعظ يوعظ به على الإطلاق متى تمّ فهمه ووصول نوره إلى القلوب، فهو حياتها لا منازع في ذلك، ومن بعده كلام رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]. ومن هذا المنطلق فسوف يكون التذكير بالقرآن الكريم في هذه الخطبة؛ لعل موعظته تصل إلى القلوب، ولكي يعلم المسلم الفارق بين نعيم الجنة وعذاب النار؛ ليكون على بينة من أمره، وأنه لا مقارنة بين متاع الدنيا ونعيم الآخرة، ولا بين ابتلاءات الدنيا وفتنها وعذاب النار، ولن أقتصر على مكان الشاهد فقط، وإنما أذكر الآيات كاملة لبلاغتها وليصل أثرها ووقعها إلى النفوس؛ لأنها أبلغ من الخطب والمواعظ، ولأنه قَلَّ ما تخلو سورة من ذكر الجنة والنار والفريقين أيضًا.
قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45]، وقال عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9، 10]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف: 1-3]، وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29-31]، أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف: 102-108]، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [النحل: 28-34]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 103-108]، إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 7-10]، الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة: 67، 68]، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 71، 72]، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 40-52]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً [النساء: 56، 57]، وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 13، 14]، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه: 74-76]، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 59-63]، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج: 19-24]، تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً [الفرقان: 10-16]، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 32-37]، وقال تعالى: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 37-49]، إلى أن قال عز وجل: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 60-68]، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 17-21]، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 60، 61]، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32]، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 27-29]، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 81، 82].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن القصد من إيراد الآيات القرآنية السابقة واللاحقة على مسامعكم هو إيقاظ القلوب وتحريكها وتذكيرها لتختار طريق السعادة الأبدية وتسعى إليه بفعل الأسباب الموصلة إليه المتمثلة في الأعمال الصالحة، وتبتعد عن طريق الشقاء الأبدي بترك الذنوب والمعاصي.
قال تعالى: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ [ص: 49-61]، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 67-80]، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان: 40-59]، أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 14، 15]، إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور: 7-29]، فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَى أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 37-78]، إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 1-56].
والآيات من سورة الإنسان من بدايتها إلى قول الله تعالى: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان: 22]، والآيات من سورة المطففين عن الفجار والأبرار، وفي سورة الانفطار، وفي سورة الغاشية من أولها حتى نهاية الآية وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية: 16]. قال الله جل جلاله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 20، 21].
والآيات كثيرة، ولكني اقتصرت على التي تعطي صورة أوضح لنعيم الجنة أو عذاب النار أكثر من غيرها. أسأل الله أن ينفعنا جميعًا بما فيها وفي القرآن كاملاً وفي سنة رسول الله.
(1/5512)
التفكر في الإنسان وخلقه (1)
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
27/6/1417
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة القرآن المسلم للتفكر في نفسه وأطواره. 2- دعوة القرآن المسلم للتفكر فيما جعله من المخلوقات. 3- خلق الإنسان وأطواره المختلفة. 4- التفكر يقودنا إلى تعظيم الله وطاعته. 5- التفكر يوقظ الغافل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله عز وجل قد دعا الناس مؤمنهم وكافرهم إلى التدبر والتفكر في خلقهم ومَبْدَئِهم ونشأتهم وما هو عليه حالهم من الآيات العظيمة التي يتمتعون بها وهم عنها غافلون في حياتهم الدنيا، وبعدها الحياة البرزخية ثم القيامة وحسابها والدار الآخرة إما إلى الجنة أو إلى النار.
دعا الله عز وجل عباده للتفكر في الآيات التي في أنفسهم كما دعاهم إلى غيرها؛ ليؤمن الكافر ويصدق ويشهد بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وليزداد المؤمن إيمانًا على إيمانه بوحدانية الله وصفات كماله ونعوت جلاله وعموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبِرِّهِ ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه، لا إله إلا هو الحي القيوم الرحمن الرحيم ذو الجلال والإكرام.
لقد ندبنا الله عز وجل إلى التفكر في خلق الإنسان والنظر في ذلك في مواضع عدة من كتابه الكريم، فقال تعالى: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق: 5-8]، وقال سبحانه: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21]، وقال تعالى: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس: 17-23]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8].
والآيات الأخرى التي توضح مراحل تكوين هذا الإنسان الضعيف في أطواره المتتابعة من عمره وأمام عظمة الله وقدرته وضعفه البشري الملازم له، ولكنه جبار عنيد متكبر متغطرس إذا لم يستقر الإيمان في قلبه ويذل ويخضع لربه وخالقه سبحانه، مع أن الله سبحانه وتعالى سخر لهذا الإنسان الضعيف ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه عز وجل لخدمة هذا الكائن البشري ليعبد الله وحده، قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 13]، وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان: 20].
وسوف يكون لنا وقفات إن شاء الله تعالى مع التفكر في ذلك التسخير وتلك النعم التي لن نستطيع حصرها ولا عدَّها، ولكن من أجل زيادة الإيمان وارتباط المؤمن بالله عز وجل ولترتفع نفسه وهِمَّتُه إلى درجة اليقين والإحسان؛ حتى يكون أشد مراقبة لله تعالى فيما يأتي ويذر، ويحاسب نفسه في خاصة هذا الزمن الذي تكالب فيه الأعداء علينا من داخل أنفسنا وملذاتنا وشهواتنا ومطامعنا إلى جانب شياطين الإنس والجن وأعداء ديننا من جميع ملل الكفر ونِحَلِهِ.
إن الله عز وجل دعا العباد جميعًا للتفكر والنظر في خلقهم ومطاعمهم ومشاربهم وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما من آيات عظيمة ليهتدي من الكفار من أراد الله له الهداية ويزداد المؤمن إيمانًا، قال تعالى: قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101]، وقال عز وجل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].
إن تكرار ذكر النطفة والعلقة والمضغة والتراب في القرآن الكريم ليست لمجرد تعريفنا بهذا فقط، بل للدعوة إلى النظر والتفكر والتعقل في مبدإِ خلق الإنسان ونشأته وحياته وآخرته، إلى العظام البالية في قبره وإعادة نشأته مرة أخرى بكل مكوناته وجميع أعضائه وأشلائه وأجزائه، بل أدقّ من ذلك كله تسوية البنان لكل إنسان وإعادته كما كان، وهو علم في حد ذاته، علم البصمات الذي بَهَرَ المتخصصين فيه ويَبْهَرُ عقول الآخرين من عامة الناس حيث اختلاف البشر بعضهم عن بعض في البصمات، كل هذا وغيره لم يُذكر في القرآن لنمرّ عليه مرور الكرام ـ كما يقال ـ ونتلوه تلاوة عابرة، بل للتدبر والتفكر، قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 3، 4]. ومرورًا بهذه الروح التي يقف البشر من أولهم إلى آخرهم مهما أوتوا من العلوم عاجزين عن وصفها وماهيتها وماذا يذهب منها في النوم وغيره، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85]، وقال عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: 23]، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، وقال عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء: 82]، وقال سبحانه وبحمده: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24].
فلننظر الآن بعين البصيرة إلى النطفة التي هي جزء من قطرة من ماء مهين دافق ضعيف مُسْتَقْذَر لو مَرَّتْ عليه ساعة من الزمن وتعرض للهواء الخارجي لفسد وتغير كلّ شيء فيه، لو تفكرنا ببساطة متناهية كيفية بداية هذا الخلق العجيب دون الخوض في التفاصيل العلميةِ الحديثةِ القديمةِ في آنٍ واحدٍ، حديثة في اكتشافها، قديمة في معلوماتها لوجودها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ولكنَّ عقولنا القاصرة التي لا تدرك كثيرًا مما نراه ونشاهده قد تقف أحيانًا بنا إلى إنكار حقائق واضحة للعيان، والإنسان عدو لما يجهل، وما أكثر جهلنا مع كثرة انتشار العلم وفُشُوِّ القلم والكتابة؛ لذلك ينبغي أن لا نملَّ ونسْأَمَ من الجمل الاعتراضية أو العبارات التوضيحية التي تأتي في المكان الذي أراه مناسبًا للمقام وإن كان لا يناسب استغراق الذهن والتفكير وانسياقه حول تناسق الموضوع، لذا أعود للقول بأن علينا أن ننظر في تلك النطفة من الماء المهين المستقذر الخارج من بين الصلب والترائب المودع في القرار المكين في الظلمات الثلاث بعد التخليق، وكيف انقادت تلك النطفة لقدرة الله مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها وطول مسافتها، مع أننا نراها قصيرة ولكنها تبلغ آلاف الأمتار وليس عشرات أو مئات الأمتار، حتى وصلت إلى رحم الأنثى واستقرت بعد أن ساقها رب العزة والجلال إلى مستقرها ومستودعها بقدرته عز وجل ومشيئته وإرادته بعد أن اجتمع الذكر والأنثى وقادتهما الشهوة التي كانت السبب في الجمع بين الْمَاءَيْنِ ليتم تخليق الولد وتكوينه.
لننظر إلى تلك النطفة التي تحمل الصفات الوراثية للوالدين أو لأحدهما أو للقرابة، وكيف يحمل الشبه من عظام ولحم وشعر وجلد وأنف وعين وأصابع وأطراف مختلفة، بل حتى في المشي والجلوس والانحناء والكلام والتفكير والمنطق والصوت من حيث الحدة والغلظة واللين والشدة والقوة والسمع وقوته أو ضعفه والبصر وقربه وبعده، بل العواطف والانفعالات المتعددة كيف يحملها ذلك الْجُزَيْءُ البسيطُ الذي لا يُرى بالعين المجردة وإنما تُرى منه الأجزاء المجتمعة. علينا أن نتفكر فيها ونتدبر ونتأمل قدرة الله وعظمته سبحانه وتعالى، وأترك التفصيلات لحينها إن شاء الله بعد استكمال المهم في هذا الموقف.
قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 20-24]، وقال تعالى: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: 6-9]، وقال عز وجل: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36-40]، وقال سبحانه: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق: 5-10]، وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله، ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد: فإن العلماء في القديم والحديث ألَّفوا مؤلفات تتكون من مئات المجلدات حول الإنسان وخلقه وتكوينه، وقد جاءت موجزة مختصرة في القرآن الكريم شاهدة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته ودقيق صنعه وخلقه وجمال إبداعه وتكوينه لهذا الإنسان ولجميع المخلوقات، فسبحانه من إله عظيم رؤوف رحيم، نسأل الله أن يدخلنا في رحمته ويجنبنا غضبه ومقته وعقابه.
لو أن المسلم تتبع الآيات القرآنية المتعلقة بخلق الإنسان وتدبرها ووعاها بعد قراءة تفسيرها في الكتب الموثوقة إلى جانب الأحاديث الصحيحة وتدبر ووعى واتعظ لكانت له أكبر موعظة تقوده إلى مرضاة ربه وثواب الدار الآخرة، وكانت له عبادة ورفعة في درجاته حيث إنها علامات واضحات منه وفيه ويتقلب في نعمها ليل نهار وهو عنها غافل ولم يقدِّر الذي منحَه إياها وأنعم بها عليه وتفضَّل العزيز الغفار ذو الجلال والإكرام.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 6]، وقال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن: 3، 4]، وقال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 1-4]، وقال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 1، 2]، وقال تعالى: خْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر: 6]، وقال تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد: 8-11].
وسوف يكون لنا وقفات مع هذه الآيات إن شاء الله تعالى، وخاصة مع الذين يسعون في الأرض فسادًا ليل نهار ويحسبون أن الله غافل عنهم ما دام الناس غير مطّلعين عليهم وعلى شرورهم وفسادهم وهتك الأعراض، فهم ماضون في شرِّهم وانحرافهم ولكن الله لهم بالمرصاد.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]. وفي سورة الروم آيات عديدة ومترابطة كما هو الحال في القرآن الكريم لمن وعاه وتدبره، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 8، 9]. ثم تأتي هذه الآية التالية بعد آية من هاتين الآيتين: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11]. ويمضي سياق الآيات للتذكير والموعظة وإيقاظ الغافلين إلى أن قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 20-27]. العالِم غير العالَم، فتح اللام غير كسرها، فلننظر إلى الربط في بداية الآية بين خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان من أول الآيات إلى آخرها واختلاف لهجاتهم ولغاتهم وألوانهم وكيف تكون الإعادة في النهاية، وقد تكررت مرتين: في بداية التذكير والأمر بالتفكر في مخلوقات الله، وفي آخر هذه الآيات، ولكنه في البداية قال تعالى: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11]، وفي النهاية: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27]. ولماذا ذكرت كلمة للعالمين في آخر الآية؟ فهي أكبر موعظة لنا لو تدبرنا وتفكرنا، وكذلك النوم من أكبر الآيات الدالة على وحدانية الله وعظمته سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون، أكتفي بهذه الآيات في هذه الخطبة ليبحث كل إنسان بنفسه في تفسيرها وما دلت عليه ويتفكر في الآيات العظيمة في شخصه، ومن لم يستطع فيقف بتفكيره المحدود للتعرف على بداية خلقه وتكوينه في رحم أمه والأطوار التي مرّ بها إلى أن صار على حاله الراهنة، وكم هي نعم الله عليه التي يتقلب فيها بالليل والنهار، ولا يحسب أنه جرم صغير فقط مع أنه إلى المخلوقات غيره ما هو إلا ذرة في هذا الكون الفسيح الذي سخره الله له ولغيره من بني آدم، ولكنه مع ذلك تنطوي فيه الآيات العجيبة الدقيقة التي ينبغي لنا أن نعيها لنحاسب أنفسنا ونراقب الله تعالى ونزداد منه خوفًا وإليه طمعًا ورجاء وتقربًا.
وتزعم أنك جرم أصغر وفيك انطوى العالم الأكبر
وفي الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى يتم استعراض ما يتيسر حول هذا الموضوع للوصول للغرض المطلوب والهدف المقصود بإذن الله تعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وآله.
(1/5513)
التفكر في الإنسان وخلقه (2)
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
4/7/1417
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أطوار خلق الإنسان. 2- القرار المكين. 3- الظلمات الثلاث. 4- بديع صنع الله تعالى وخلقه. 5- كلام ابن القيم رحمه الله عن ولادة الجنين. 6- من توجيهات القرآن الكريم للحوامل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زال الحديث موصولاً بسابقه حول التفكر والنظر والتأمل في خلق الإنسان والآيات العجيبة العظيمة الدالة على وحدانية الله وقدرته وعظيم خلقه ودقته وإحكامه وإحاطة علمه بكل شيء وعظيم لطفه وبره وإحسانه وإكرامه لهذا المخلوق الضعيف العاجز، هذا الإنسان المتكبر المتغطرس أمام نفسه وأقرانه وشيطانه وشهواته ونزواته، فمتى أَنْعَمَ هذا المخلوقُ الضعيفُ النظرَ وَأَمْعَنَهُ وتأمل وتفكر في كثير من المخلوقات ومنها نفسه فإنه يدرك حقائق وأشياء لا يدركها مع غفلته وسهوه ولهوه ومرحه وفرحه وتقلباته المعيشية الدنيوية.
أيها المسلمون، وأتجاوز مرحلة التخليق الأولى والثانية لظروف المتكلم والسامع والموقف، وأنتقل إلى المرحلة والطور الذي يليها، قال تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 13، 14]، وأقف عند الآية الأولى لأنها الهدف المقصود والمنشود في النهاية من وراء هذه السلسلة من الخطب والمواعظ، ولذلك يدور الكلام حولها وما في معناها بأي أسلوب يوصل إلى المطلوب، وضَعُوا خطوطًا تحتها واستفهامات وعلامات كثيرة حولها إلى حين الوصول إليها وإلى غيرها من النصوص القرآنية المؤدية للغرض المطلوب بإذن الله تعالى، والآية هي قول الله تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ، أما الآية التي تليها فنمرُّ ببعض معانيها من خلال هذه الخطب، وهي قول الله تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أي: طورًا بعد آخر ومرحلة بعد مرحلة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام واللحم والهيكل المتكامل ثم الخلق الكامل ومنها الظلمات الثلاث التي وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر: 6]. ثم تأتي الآيات الأخرى بعد هذه الآية مباشرة، وأرجو أن تتأملوها جيدًا وتقفوا عندها كثيرًا حتى نصل إليها إن شاء الله تعالى إذا كان لنا في الحياة بقية وفي الوصول إليها مقدّر، قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 7-10].
أذكِّر بهذه الآيات الكريمة التي تحمل المواعظ البليغة، وأعود إلى القرار المكين وإلى الظلمات الثلاث للتذكير ببعض ما ورد فيها لوضع النقاط على الحروف كما يقال، ولفتح الأبواب، وليتفكرَ ذَوُو الألباب ويَقِفُوا على ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة والأقوال المأثورة والتفسيرات الموثوقة والعلم الصحيح من الحقائق الواضحة، قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14]، وقال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 20-24].
لقد هَيَّأَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أرحامَ الأمهات لتكون قرارًا مكينًا مزوَّدًا بما تحتاجه النفس البشرية منذ دخولها وهي نطفة إلى مرورها بمراحلها المختلفة وأطوارها المتعددة حتى خروجها من تلك الأرحام، ففي تلك الظلمات الثلاث ظلمة البطن الذي تستقر فيه الرحم، وظلمة الرحم الذي يغَلِّفُ ويغطي المشِيمَةَ وما بداخلها من أغشية محيطة بالجنين داخل الرحم وهي غشاء السّلى والغشاء المشيمي والغشاء الساقط، أما غشاء السلى الغشاء الباطن فهو يحيط بالجنين من كل جانب إحاطة تامة، وهو كيس غشائي رقيق مقفل، به سائل يزداد مع نمو الجنين، يسبح فيه الجنين ويتقلب يَمْنةً ويَسْرَةً ويمسك بالحبل السُّرِّيِّ في أمانٍ تامٍّ بإذن الله عز وجل كما ورد ذلك في القرآن الكريم عن القرار المكين، ولهذا السائل الموجود في القرار المكين ـ وهو جزء منه ـ فوائدُ عظيمةٌ لا يمكن الاستغناء عنها في تكوين الجنين ونموه في الرحم ومنها:
1- تغذية الجنين لاحتواء السائل على مواد زلالية وسكرية وأملاح غير عضوية.
2- حماية الجنين ووقايته من الصدمات المفاجئة والسقوط الذي قد تتعرض له الأم.
3- يسمح للجنين بالحركة الكاملة داخل الرحم.
4- يحتفظ للجنين درجة حرارة ثابتة تقريبًا.
5- يمنع هذا السائل الغشاء المحيط به من الالتصاق بالجنين، فلو التصق الغشاء بالجنين لكان أحد العوامل الهامة في حدوث التشوهات الخلقية.
هذه أهم وظائفه أثناء الحمل، أما وظائفه أثناء الولادة فهي مهمّة للوليد ولأمه أيضًا؛ حيث يكوّن ذلك السائل جَيْبَ المياه الذي يوسِّع عنقَ الرحم لكي يخرج المولود بإذن الله، وهو مع ذلك يقي الجنين من أن ينحشر وينضغط بين جدران الرحم، ولولا لطف الله وعنايته وقدرته وتسخيره لجيب المياه هذا لتهَشَّمَ رأسُ الجنين وقت الولادة، ومع ذلك فهو يقوم بتمهيد وتعقيم الطريق للجنين عندما ينفجر فيقتل الميكروبات الموجودة في المهبل قبيل الولادة مباشرة حتى يخرج الجنين في ذلك المجرى الممهد المعقّم. فمن الذي خلق وأوجد وأبدع وأحكم ذلك وغيره؟! إنه اللهُ الذي لا إله إلا هو العزيزُ الحكيمُ أحكمُ الحاكمينَ وأرحمُ الراحمينَ، سبحانه لا إله إلا هو القادرُ على كلِّ شيءٍ، العليم ُالخبيرُ الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقَه ثُمَّ هَدَى.
وغشاء السّلى السابق ذكره ما هو إلا جزء من ثلاثة أجزاء وأغشية محيطة بالجنين داخل الرحم، فالغشاء الثاني هو غشاء المشيمة الذي يكون بين الغشاء الساقط من الخارج وبين غشاء السّلى من الداخل، وغشاء المشيمة هذا فيه آيات عجيبة وعظيمة، فهو يتركب من طبقتين أو ورقتين: خارجية والتي بها الزّغابات والخملات الكثيرة التي يُنقل بواسطتها الغذاء والأكسجين من الأم إلى الجنين، كما يُنقل بواسطتها غاز ثاني أكسيد الكربون والبولينا من الجنين إلى دم الأم، أما الطبقة الداخلية فتغطي كيس المحّ أو الصفار، وتشمل مبدأ ظهور الأوعية الخارجية في الجنين، ويتكوَّن ذلك الغشاء عند تكوّن النطفة الأمشاج في المراحل الأولى من التلقيح، وهذا الغشاء ينمو مع نمو الجنين ولا يكتفي بامتصاص الغذاء من البحيرة الدموية المحيطة به، وخاصة أن النساء إلا فيما ندر تنقطع عندهن العادة الشهرية ونزول دم الحيض إلى الخارج لتتحول بإذن الله عز وجل إلى ما يفيد الجنين ويفيد أمه؛ لأن في خروجه إنهاكًا لها وضعفًا خاصة إذا زاد عن حده، وليس الامتصاص المفيد من دم الحيض والعادة عن طريق تلك الخملات والزغابات فقط، بل هناك دورتان دمويتان متقاربتان قربًا شديدًا من بعضهما في الغشاء المشيمي، لا يفصل بينهما إلا جدارٌ رقيقٌ من خلايا الخملات، ومع أنهما لا تتصلان ببعضهما لكيلا يندفع الدم من واحدة إلى أخرى إلا أن اتصالهما وثيق من حيث قيام كل دورة بعملها ووظيفتها أَتَمَّ قيام وأحسنه وأكمله بقدرة الله ومشيئته، حيث ينتقل الغذاء المنتقى والمختار للجنين بعناية فائقة من دماء الأم في الرحم ودورة الأم الدموية إلى الأوعية الدموية للجنين، وينتقل معها أيضًا الأوكسجين ومواد المناعة للأمراض والأوبئة، كما تنقل الأخرى من الجنين إلى الأم كل المواد السامة التي تنتج عن عملية البناء والهدم المستمرة في خلايا الجنين مثل البولينا وثاني أكسيد الكربون لتحملها إلى أجهزة إفراز وإخراج الأم، ويمنع ذلك الغشاء المشيمي عن الجنين بإذن الله ما هو ضار وموجود في دماء الأم الموجودة في الرحم، ويتم تزويد الجنين عن طريقه وعن طريق الحبل السري بما يحتاجه ويفيده ويخرج عنه ما يضره من الغذاء والهواء إدخالاً وإخراجًا، كل ذلك داخل الرحم الذي لم نتعرض له ولا لبطن الأم ولا للحوض الذي يختلف بعض الشيء عن حوض الرجل من حيث التركيب في الاتساع والعرض والقصر والخشونة والليونة والبروز والعمق؛ لكي يساعد على حياة الجنين أولاً ثم الخروج ثانيًا، ولذلك وقف الناس في القديم والحديث مندهشين، وقليل منهم من يهتدي إلى الجواب الصحيح.
فسبحان من خلق فسوى! وسبحان من قدر فهدى! خلق الأجنة وسوّاها، وقدَّر ظهور أعضائها وهداها لوظائفها، وخلق المشيمة وسوّاها، وقدر محتوياتها وتركيبها، وأوجد غشاءها العجيب وهداه لوظائفه العديدة المعجزة بحيث كان من أسباب حياة ذلك الجنين وهو في رحم أمه بحيث لا يضرها وجودُه طيلة بقائه في رحمها مع أنه لو رجع إلى رحمها مع رجوع الرحم عند الولادة وبقي فيها لماتت هي ولفظت أنفاسها، فسبحان من أوجد القرار المكين للأجنة ورعاها وحفظها! فسبحانه من إله عظيم حليم، لا إله إلا هو الحي القيوم الذي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 1-3]، وحفظها في مراحلها المختلفة، وأبعد عنها ما يضرها ويؤذيها، وهَيَّأَ لها ذلك كله، وأمدها بما تحتاجه من الغذاء والهواء، وأوصله إليها بإحكام وإتقان وإبداع لا مثيل له ولا نظير.
سبحانك ربنا وبحمدك، خضعت لك رقابنا، وذلَّت وخشعت لك جميع جوارحنا وأعضائنا، وسجدت لك وجوهنا وجباهنا على الأرض، واقشعرت جلودنا ولانت خوفًا منك ومن عقابك وتقربًا ورجاءً في رحمتك وطمعًا في ثوابك وحبًا لك وطاعة وامتثالاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الغشاء الثالث الذي هو أحد الأغشية الثلاثة التي هي في مجموعها تكوّن غشاء المشيمة كما هو في الاصطلاح بين العلماء يسمى بالغشاء الساقط، وهو غشاء مخاطي رقيق مبطِّن للرحم، ينمو نموًا هائلاً أثناء الحمل حتى يصبح إسفنجيًا بحيث يغطي الجنين ويحميه بإذن الله عز وجل، ثم يسقط ويخرج أخيرًا مع دم النفاس.
وهذه العلوم والمعارف ليست جديدة على العلماء المسلمين المتقدمين الأفذاذ، فقد فتح الله عليهم من العلوم ما يعجز عنه ملايين البشر اليوم ممن لديهم وتحت تصرفهم واستعمالاتهم الكثير من الأجهزة الحديثة، ولكنهم لم يُوَفَّقُوا لتسخير تلك المخترعات والاستفادة منها في زيادة الإيمان بالله وترسيخ العقيدة، بل انْبَهَرُوا منها ووقفوا منها مواقف متباينة، وإلا لو قاموا بما أمر الله به لأنجز لهم وعده، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282].
فمن أولئك العلماء الأفذاذ ابن القيم رحمه الله المعروف بابن قيم الجوزية الذي توفي قبل أكثر من سبعمائة سنة، وألَّفَ كتبًا عظيمة النفع للمسلمين تصل إلى شغاف القلوب وتزيدها إيمانًا ويقينًا رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وعلى كل طالب علم أن يَضُمَّ إلى مكتبته الفقهية تلك الكتب الثمينة، ومنها مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة، والتبيان في أقسام القرآن، وطريق الهجرتين.
يصف ذلك الإمامُ العالِمُ الفقيهُ المحدِّثُ الإنسانَ وصفًا دقيقًا بارعًا في مختلف المراحل التي يمر بها، ولننظر إلى وصفه الدقيق لخروج الجنين لحظة الولادة، يصفه وصفًا كأنه طبيب معاصر لديه أعلى الشهادات العالمية والخبرات الميدانية، وكأن لديه من الأجهزة الحديثة الموضحة لذلك ما يبهر العقول، علمًا بأنه عاش قبل سبعة قرون، ولكنه نور البصيرة الذي أعطاه الله إياه، وقد ثبت حاليًا الذي قاله.
ومما قال رحمه الله عن الجنين حال الولادة: "وهو ـ أي: الجنين ـ معتمد بوجهه على رجليه وبراحتيه على ركبتيه، ورجلاه مضمومتان إلى قدميه ووجهه إلى ظهر أمه، وهذا من العناية الإلهية أن أجلسه هذه الجلسة في المكان الضيق في الرحم على هذا الشكل، وأول ما يخرج منه رأسه، لأن الرأس إذا خرج أولاً كان خروج سائر أعضائه سهلاً ميسورًا بإذن الله، ولو خرج على غير هذا الوجه لكان فيه تَعْوِيقٌ وعُسْرٌ، فلو خرجت الرجلان أولاً لانْعَاقَ خروجُ الباقي، ولو خرجت رجل واحدة لانعاق المولود عند الثانية، وإن خرجتا معًا انعاق عند اليدين، وإن خرجت الرجلان واليدان انعاق عند الرأس والْتَوَى إلى الخلف وتلتوي معه السُّرَّةُ وتلْتَفُّ إلى العنق، فَيَأْلمَ الرَّحِمُ ويصعب الخروج ويؤدي إلى مرضه وتَلَفِهِ". ثم تعرَّض رحمه الله للولادات المختلفة من نزول المقعدة أو دوران الوجه إلى الأمام والتواء السُّرَّة وآلام الطلق وتسهيله وتيسيره بإذن الله عز وجل إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقد استنتج علماء المسلمين من القرآن الكريم والسنة النبوية ما يفيد البشرية وهو واضح غاية الوضوح، ومنها أكل الرطب مع شرب الماء عليه قبل الولادة لفوائدها العظيمة المتعددة، وأهمها انقباض الرحم بعد الولادة والمساعدة على تقليص كميات الدم النازل من الأوعية الدموية، إلى جانب تسهيل الولادة ومنع المضاعفات لحمى النفاس، مع تنظيف الأمعاء لئلا تعيق حركة الرحم، مع البعد عن القلق والخوف ولزوم الرضا والاطمئنان، وكل ذلك قد ورد في القرآن الكريم في قصة مريم العذراء بعد حملها الخفيف السريع ومجيء المخاض إليها، قال تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم: 22-26]، ومكان الشاهد قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا [مريم: 25، 26]، قال تعالى: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس: 17-20]، ومكان الشاهد: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس: 20]، قال عز وجل: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 8، 9]، وقال عز وجل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر: 11]، وقال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]. فهل تدبرنا وتأملنا وتفكرنا ووعينا بعض هذه الأطوار من حياتنا؟!
اللهمَّ صلِّ وسِلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
(1/5514)
التفكر في الإنسان وخلقه (3)
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
11/7/1417
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة التدبر في خلق الإنسان. 2- كثرة المؤلفات المتعلقة بتكوين الإنسان. 3- من كلام ابن القيم في بديع خلق الإنسان. 4- آيات الربوبية في جسم الإنسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فالكلام موصول بسابقه حول التفكر في خلق الإنسان والآيات الدالة على وحدانية الله عز وجل وعظمته وقدرته وعظيم صنعه وإبداعه في الخلق عمومًا، من الذرة الصغيرة إلى أكبر جرم في هذا الكون.
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة الكاملة الشكل والوظيفة أمر يستحق التدبر والتأمل الطويل والأدبَ الجمَّ مع المنعم المتفضل الكريم رب العالمين الذي أكرمنا بهذه الْخِلْقَةِ السوية تفضلاً منه ورعاية ومنّة، والشكرَ له دومًا وأبدًا ذكرًا وفكرًا وقولاً وعملاً، فلو شاء سبحانه لركبنا على أي صورة أخرى يريدها ويشاؤُها عز وجل، ولكنه اختار لنا هذه الأشكال الجميلة التكوين المعتدلة الخلقة، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]، وقال سبحانه وبحمده: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 6].
وهناك مئات المؤلفات تتعلق بالإنسان من حيث التكوين والخلق والإحكام، ومن حيث العجائب والآيات العظيمة فيه، ومن حيث ما يتعلق بكل جهاز فيه للوصول إلى معالجته وتطبيبه، ولا زالت الدراسات قاصرة والباحثون عاجزين عن الوصول إلى كل صغير ودقيق في هذا الإنسان، ولذلك نرى التخصّصات المتعددة للأطباء، فذاك طبيب للعيون، وآخر للعظام، وثالث للأعصاب، ورابع للجهاز الهضمي، وخامس للقلب والغدد الصماء، والمسالك البولية، والصدرية، والأنف والأذن والحنجرة، والأسنان، والدورة الدموية، والجلدية، والتناسلية، والجراحة العامة، والأطفال، والنساء والولادة، وأمراض الدم، إلى آخر تلك التخصصات التي قضى أصحابُها السنواتِ الطويلةَ للدراسة والتخصص في جزء من جسم الإنسان لمعالجته فقط، ويرون بأنفسهم تلك العجائب والآيات العظيمة في الإنسان، وقليل منهم من يتعظ ويعتبر، مع البشائر السارة لمن يدرس في كليات الطب حيث تحركت فيهم الفطرة السليمة ورأوا عظمة الله وقدرته واتَّعظوا بما شاهدوه وتعلموه من علم التشريح، وأملنا وطلبنا منهم أولاً أن يتعظوا ويتقوا الله تعالى في البشر الذين يعالجونهم، ويؤدوا الأمانة التي أُنِيطَتْ بهم وتحمَّلوها حول أرواح الناس وعدم المتاجرة بهم وبمشاعرهم وأموالهم، فهم بَشَرٌ مثلهم، كما أن عليهم أن يربطوا العباد بخالقهم؛ لأن الله الذي أنزل الداء وهو الذي يرفعه إذا وفّق الطبيب لمعرفة الدواء وبرأ المريض بإذن الله، فهم ليسوا إلا أسبابًا لا يملكون لأنفسهم أدنى نفعٍ أو دفع أي ضرٍّ، ومنها الأمراض التي هم أسباب في وصف الأدوية لها، فقد تصيب بعضَهم أمراضٌ لا يستطيع زملاؤهم في المهنة معرفة الدواء لأصحابهم وزملائهم الأطباء، ولا يستطيع أكثرهم التوسع والخروج عن مجال تخصصه.
وأورد مقاطع من كلام ابن قيم الجوزية حول التأمل والنظر في خلق الإنسان حيث قال رحمه الله: "وانظروا كيف قسّم الله عز وجل تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين وبَيْنَ ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال، وكيف كساها لحمًا ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظًا، وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها وهي محفوظة به، وكيف صَوَّرَهَا فأحسن صُوَرَهَا، وشقَّ لها السمع والبصر والفم والأنف والأذن وسائر المنافذ، ومدّ اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والأمعاء والطحال والرئة والرحم والمثانة والكلى والحالب، كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه".
وقال رحمه الله: "ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قوامًا للبدن وعمادًا له، وكيف قدرها ربها وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير والقصير والطويل والمنحني والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوف، وكيف ركب بعضها في بعض، فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الأنثى، ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط، وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها كالأضراس فإنها لمَّا كانت آلةً للطحن جُعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جُعلت مستدقة محددة، ولما كان الإنسان محتاجًا للحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردد في حاجته لم يجعل الله عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه، وكيف شدّ أَسْرَ تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار وأربطة أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط له، ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه، وفي الآخر نُقَرًا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها، فإذا أراد العبد أن يحرك جزءًا من بدنه لم يمتنع عليه أو يتعذر عليه ذلك لوجود المفاصل".
ثم استطرد رحمه الله في الوصف بكلام عجيب يتم إيراد بعضه في مكانه.
لقد خلق الله العظام لكي تعطي لجسم الإنسان شكله وقوامه الإنساني، فهي كأركان المنزل الذي يقوم عليه البناء، ولولا تلك العظام لأصبح الإنسان قطعًا من اللحم المتراكم، ولو لم تكن عظام الإنسان مفصلة وكانت عظمًا واحدًا لما تمكّن من القيام من مكانه، ولعجز عن تحريك إصبع من أصابعه، ولكان حال الإنسان كأي قطعة من الحديد، ولكن الله تبارك وتعالى فَصَّلَ جسمَ الإنسان تفصيلاً دقيقًا محكمًا بمفاصل أحكمها عز وجل، فله المنة والفضل وحده، وله الشكر والثناء عز شأنه وتعالى سلطانه، فكوّن نهاية كل عظم بحيث تُناسب وتُوافق تركيب العظم المتصل به في غاية الإحكام والإتقان، ولهذا لا تناسب عظمة أخرى، وشكَّل الله سبحانه وتعالى هذه المفاصل تشكيلاً يلائم الحركة المطلوبة كالمفصل الدائري مفصل الورك الذي يربط عظم الفخذ بعظمة الحوض، وبه يتمكن الفخذ من الحركة في عدة اتجاهات، في حين نرى مفصل الركبة قد كُوِّن بحيث يسمح للساق بالحركة في اتجاهين فقط: إلى الأمام وإلى الخلف، والحقيقة أنه اتجاه واحد إلى الخلف وليس كاملاً وإن تمت إعادته إلى الأمام لأن صابونة الركبة تمنعه من إكمال اتجاهه المعاكس، ولو كان له اتجاهات متعددة لما استطاع الإنسانُ المشيَ والوصولَ إلى مطلوبه إلا بمشقة وصعوبة بالغة، وربطها سبحانه بتلك الأعصاب المناسبة لها في الاتجاهات والقبض والبسط والقيام والقعود والحركات المتعددة مع وجود ذلك الغطاء الدائري الغضروفي المسهل لحركتها التي عجز البشر إلى الآن فيما أعلم عن إيجاد البديل له الذي يقوم بالعمل الكامل الذي يقوم به في جسم الإنسان دون أدنى اختلاف، وهو من أبسط الأجزاء التعويضية الممكن استعمالها، مع أنهم استطاعوا إيجاد ما يقوم بالعمل الجزئي للركبة. وإذا تأملنا مفاصل العظام نجدها ملساء بخلاف سائر العظام الخشنة، كما خلق الله أيضًا وأوجد سبحانه سائلاً لَزِجًا في تلك المفاصل لتسهيل حركتها ومنع احتكاك العظام وتآكلها، وهذا مشاهد عند نزول السائل اللزج بعد فصل عظام البهائم التي يُؤْكَلُ لحمُها والتي نشاهدها باستمرار، ولهذا استفاد الإنسان من ذلك لمنع تآكل واحتكاك الحديد والمعادن في الآلات عند تحركها بوضع الزيت أو الشحم في تلك الآلات التي تدور أو تَحْتَكُّ تُرُوسُها وأسنانُها.
ولننظر إلى الذي يحرك العظام، إنها العضلات اللحمية المربوطة بالعظام الكاسية لها، حيث خلق الله لكل عظم ما يناسبه من العضلات اللحمية المربوطة بالأعصاب فيما بين أجزائها بالقدر المناسب لها ولوضعها ووظيفتها، لقد كَسَا الله العظام العريضة كعظام الظهر والرقبة كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع، والمتوسطة أيضًا كعظام الذراعين والعضدين.
ولننظر إلى اليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه، فقد طوَّلَهُمَا الله سبحانه وتعالى ليصل بهما الإنسان إلى ما يريد من جسمه وبدنه، وعرّض الكفّ ليتمكن به من القبض والبسط، وقسّم فيه الأصابع الخمسة، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل والإبهام باثنتين، وجعل الأصابع الأربعة في جانب والإبهام في جانب لتدور الإبهام على الأربعة. وعلى كل منا أن يتأمل ذلك عند عدّه وعقده التسبيح بيده، كيف يستطيع بإبهامه المرور والوصول إلى أصابعه الأخرى بعكس الأصابع الأخرى، لذلك جاء وضع الأصابع والأنامل والمفاصل بينها والكف على أحسن وضع صالح للقبض والبسط ومباشرة الأعمال، ولو اجتمع الأولون والآخِرون من الإنس والجن على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعًا آخر للأصابع سوى ما خلقت عليه لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، فتبارك الله أحسن الخالقين، فلو شاء لجعلها طبقًا واحدًا كالصفيحة، وعندها لا يتمكن الإنسان بذلك من مباشرة مصالحه وأنواع تصرفاته ودقيق الصنائع والخط وغير ذلك، فهي على حالها الراهنة لو بسط أصابعها لكانت طبقًا واحدًا يضع عليه ما يريد، وإن ضمّها وقبضها كانت دبّوسًا وآلةً للضرب قوية، وإن جعلها بين الضمِّ والبَسْط كانت مغْرَفةً وملْعَقةً له تمسك فيها ما يتناوله بها.
وركّب الأظفار على رؤوسها زينة لها وعمادًا ووقاية ليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها بالأصابع، ولِيَحُكَّ بها بدنه عند الحاجة، والظفر الذي هو أقل الأشياء وأحقرها في جسم الإنسان وعند طوله يقوم بقصِّه لو عُدِمَهُ ثم ظهرت به حِكَّةٌ في جسده لاشتدَّتْ حاجته إليه ولم يقم مقامه شيء في حَكِّ بدنه، فسبحان من هدى اليد بأصابعها وأظفارها لتصل إلى موضع الحك والألم من الإنسان وتمتد إليه ولو في النوم والغفلة من غير حاجة لطلب ونداءات إلى غيره، مع أنه لو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك ويهتدِ إلى موضع الألم والحكّ إلا بعد تعب ومشقة وتوجيه من الشخص نفسه.
وانظر كيف يتناول الشخص اللقمة مما يريد أكله ويضعه بين أصابعه، ثم تتجه يدُه إلى فمه دون أن تخطئَ الطريقَ إلى عينه أو أنفه أو رقبته أو تذهب يمنة أو يسرة، فمن الذي هداها إلى ذلك الموضع حسب إرادة الشخص وسخرها للعمل الدؤوب المستمر في الأكل والكتابة والأعمال الأخرى دون عناء أو تعب؟! ويعرف قدر هذه النعمة من فقد إحدى يديه أو أصابعه أو كان مشلولاً ومريضًا، فمن المنعم المتفضل عليك يا ابن آدم بهذه النعم التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؟! إنه الله العزيز الحكيم لا إله إلا هو مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [البقرة: 259]، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فلقد خلق الله كل شيء في الإنسان ليناسب وظيفته وعمله المناط به، وأحكم ذلك سبحانه وأتقنه وأبدعه، فقد جعل عظام أسفل اليدين قوية لأنها أساس لها، أما عظام أعلى اليدين فهي دونها في الثخانة والصلابة لأنها محمولة وتختلف عنها في الوظيفة والعمل، كما جعل عظام الرأس قوية لتحمي الْمَلِكَ الذي بداخلها تلك الجوهرة الثمينة العقل المفكر المرشد للإنسان في تصرفاته وأعماله وأقواله، ذلك السائل الليّن بين اللزوجة والتجمد المتصل بحبل بسيط من الأعصاب الخفيفة الذي لا يكاد يُرى بالعين من الدقة ولا يلقي له الإنسان بالاً، ومن عظيم لطف الله عز وجل ودقة خلقه وإبداعه أن جعل ذلك الحبل داخل ووسط سائل متوسط الكثافة من حيث السيولة والتجمد، ثم يحمي ذلك السائل ويغطيه غطاء يحفظه من التسرب إلى خارج ذلك الغطاء ويمنع دخول ما يؤثر عليه، وهو أيضًا داخل فقرات الظهر والرقبة إلى أسفل الظهر والعجز، ويعرف الناس قدر تلك النعمة العظيمة عندما يرون المصابين في الحوادث وغيرها ممن أصابهم الشلل التام أو بعضه، وكيف عجز العلم الحديث وأهله عن استبدال ذلك العصب الرفيع للقيام بعمله مع الإمكانيات الهائلة في هذا العصر، ولكنهم يقفون حائرين أمام قدرة الله وعظمته، ولا يستطيعون تقديمًا ولا تأخيرًا، ولا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًا ولا نفعًا.
وإذا أردت أن تعرف وتتفكر وتتأمل في هذه النعمة فَخُذْ بعضَ فقرات ظهر البهيمة المأكولِ لحمُها من الغنم أو الماعز، وانظر إلى ذلك المسمى بالمخ أو النخاع الشوكي داخل الفقرات، وافحص ما بداخله وتأمله جيدًا وخاصة الحبل الشوكي تلك الأعصاب الدقيقة والشبكة الكهربائية التي تحرك أجزاء الجسم المختلفة وتوصل إشاراتها في لمح البصر أو أقل إلى المخ في الرأس، ويصدر تعليماته إلى أجهزة الدفاع والمقاومة المنتشرة في الجسم، ذلك العصب الدقيق المحفوظ في تلك الطبقات المتعددة لو انقطع كاملاً أو حصل الضغط على جزء منه في أحد الأطراف الأربعة فماذا يكون حال الإنسان الضعيف؟ فاعتبر يا ابن آدم، واسجد لله شكرًا، واحمده ليلاً ونهارًا سرًا وعلانية قولاً وعملاً واعتقادًا، واخضع لربك واعبده وَقُمْ بما أوجبه الله عليك، وتواضع للخلق وأبعد نفسك عن الكبر والغطرسة والتعالي والشموخ.
ثم انظر إلى تجويف الصدر وربط أضلاع الجهتين بالقفص من الأمام وبالظهر من الخلف على أحسن هيئة لتحمي الرئتين والقلب مما يؤثر عليها من الخارج، ولتوجد المسافة التي تمكنها من أداء عملها في الشهيق والزفير وقيام عضلة القلب بالضَّخِّ للدماء في جميع أنحاء الجسم وفَصْلِ ما بينها وبين الجهاز الهضمي بالحجاب الحاجز المفتوح بفتحة ملائمة للمريء الموصل للطعام إلى المعدة، فانظر ـ يا عبد الله ـ إلى القلب تلك العضلة والمضغة المذكورة في الحديث الشريف: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). تلك العضلة الصغيرة التي تحمل الحب والكراهية والنيات والمقاصد والخير والشر في شفافية وروحانية عجز كثير من الناس في القديم والحديث عن الربط بين تلك العضلة المضغة التي تضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم وما في داخلها من روحانية وشفافية لم يدركوا كنهها وحقيقتها، وفي الوقت نفسه تؤدي ذلك العمل العجيب من ضخ للدماء عبر الأوردة والشرايين والأوعية الدموية إلى كل خلية في الجسم حاملة ما يحتاجه ذلك العضو والخلية من الطعام المناسب له بعد عملية التأكسد، ثم ترجع تلك الدماء مرة أخرى إلى القلب وتتم تلك العملية بالعكس من الأوعية إلى الشرايين الأخرى إلى الأوردة في الجهة الثانية للقلب آخذة من الرئتين ما تحتاجه من الهواء مصفية منقية لما يعلق بها طاردة عن الجسم ما يؤذيه ويؤثر عليه.
ولولا ضيق المقام لتتبعنا الطعام والشراب من بداية دخوله الفم حتى تتم عملية الإفراز والإخراج والهدم والبناء واستفادة كل عضو وعضلة في جسم الإنسان وكل خلية فيه، وكيف وصلت فائدة كل ما يتناوله الشخص إلى كل جزء بما يناسبه إلى الفم باللعاب المفيد للهضم، وإلى العين بالدمع المالح المطهر لها، وإلى الأذن بالصمغ المحافظ عليها مما يؤذيها من أصوات مزعجة وغيرها، وإلى الأنف بالمخاط الذي يحافظ على أغشيته للاستفادة من دخول الهواء وتنقيته قبل دخوله ووصوله للرئتين، فلو زادت إفرازات الدمع أو اللعاب أو الصمغ أو المخاط أو نقصت لتعب الإنسان وأصيب بالأمراض المتعددة وطلب الدواء في أي مكان بحثًا عن الشفاء، فمن الذي أوجد للقلب هذا المكان اللائق به دون غيره من أجزاء الجسم بحيث يجاور الرئتين ويتصل بجميع أنحاء الجسم وخلاياه عبر تلك القنوات والشُّعَيْرَات الدموية التي تبلغ آلاف الأمتار المختلفة الأشكال في المتانة والرخاوة والليونة وربطها بالأجهزة الأخرى لتقوم بوظائفها في الكبد والطحال والكليتين والمعدة والأمعاء والغدد المختلفة المنشرة في الجسم وكذلك المخّ؟! فمن الذي سيَّرها لتعمل ستين أو سبعين سنة أو أقل أو أكثر؟! من الذي سخَّرها لك لتقوم بهذه الأعمال التي أنت عنها غافل؟! من الذي أوصل لكل خلية ما تحتاجه من الغذاء؟! ومن الذي أوصل لكل جزء ما يناسبه من الإفراز من الدمع والصمغ واللعاب والمخاط والعرق؟! ومن الذي مَنَّ عليك بإخراج البول والأذى بعد الاستفادة من الصالح من ذلك الطعام والشراب؟! إنه الله الملك الحق المبين العزيز الحكيم خالق كل شيء وربه ومليكه لا إله إلا هو، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88]، الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، فسبحانه مِنْ إِلَهٍ عظيم رؤوف رحيم، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وما بينهما، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ. [الانفطار: 6-8]، وقال عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 1-4]، وقال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 6]، وقال تعالى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21].
(1/5515)
الإنسان والمرض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفتن, المرضى والطب
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
18/7/1417
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المرض كفارة للخطايا ورفع للدرجات. 2- فرح أهل البلاء في الآخرة. 3- دروس وعبر من قصة أيوب عليه السلام. 4- لا يعرف الناس قدر النعمة إلا عند فقدانها. 5- أهمية الدعاء لرفع الضّر. 6- فضل زيارة المرضى. 7- خطأ وضلال بعض الصحافيين. 8- ضعف الإنسان أمام الأمراض والطواعين. 9- الطاعون شهادة للمسلم ورحمة من الله له.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن أجل أن لا يدخل الملل والسآمة إلى كثير من النفوس مع الاسترسال في التفكر في خلق الإنسان والآيات العظيمة الموجودة فيه كانت هذه الخطبة وإن كنا لن نخرج بعيدًا عنها إلا أن المداخلات هذه من النتائج والأهداف والمقاصد المرجوة والمأمولة بعد العرض المنشود وإن طالت مدة الانتظار للوصول إلى النهاية ولكن الأيام تكشف ذلك بإذن الله عز وجل.
إن من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمن أن جعل كل أمره يحمل له الخير العميم ويسعد به، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن الصابر المحتسب؛ بشرط أن يشكر الله عز وجل عندما يأتيه ما يسره، ويصبر ويحتسب عندما يصيبه ما يضره. عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم.
ومن الأمور التي تحمل الخير للمؤمن حين تنزل به ذلك المرضُ الذي يكفر الله به من خطايا المؤمن ويرفع به درجته، قال رسول الله : ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) رواه البخاري، ولفظه عند مسلم: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يَهُمُّهُ إلا كفر الله به من سيئاته)). والوصب: المرض، والنصب: التعب. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا! قال: ((أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) ، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: ((أجل، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة. والوعك: مغث الحمى أو هو الحمى. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عنه بها، حتى الشوكة يشاكها)) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث: ((إذا مرض العبد ثلاثة أيام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفي رواية ابن أبي الدنيا: ((من وعك ليلة فصبر ورضي بها عن الله عز وجل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ، وقال : ((إن الله ليبتلي عبده بالسَّقَمِ حتى يكفر ذلك عنه كل ذنب)) رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري ومالك رحمهما الله تعالى، وقال : ((إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)) رواه أحمد، وفي رواية الترمذي وابن ماجة: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) ، وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله دخل على أم السائب ـ أو أم المسيب ـ فقال: ((مَا لَكِ تزفرين؟)) قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يُذهبُ الكيرُ خبثَ الحديد)) رواه مسلم.
ومن هذه الأحاديث وما ورد في معناها والآيات القرآنية الكريمة التي أوردت جملة منها أستعرض أحوال بعض الأنبياء والرسل والأجر العظيم الذي يعطاه الصابرون على البلاء وما ورد في كفران الإنسان النعمة ودعائه لربه عندما يصيبه الضر والبلاء والشدة وإعراضه عند الرخاء والصحة والعافية، فيجب على المسلم أن يعرف ويعلم أن المرض رحمة من الله عز وجل، ينزله على عبده المؤمن في هذه الحياة الدنيا ليكفر به عنه من سيئاته وخطاياه وذنوبه، أو ليرفع به من درجاته ليصل المنزلة التي يريدها الله له.
والمرض من جملة البلاء والاختبار للمؤمن ليكشف مَعْدنَهُ ويرى مدى صبره وتحمله، وليس كما شاع وانتشر بين المسلمين اليوم المتعلّم والجاهل حول نزول المرض وأنواع الابتلاءات والاختبارات على المؤمنين بأن ذلك دليل على عدم رضا الله عنهم، وهذا شيء يُؤْسَفُ له حيث انتشر بين أهل الإسلام وكأنهم يجهلون أو يتجاهلون النصوص الصريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وكأنهم لا يعلمون أن أصحاب الصحة والعافية في الدنيا سوف يتمنون يوم القيامة لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض وذلك حين يُعْطَى أهلُ البلاء الثوابَ والأجرَ العظيمَ الذي ادَّخَرَهُ الله لعباده الصابرين على البلاء في الدنيا، قال رسول الله : ((يَوَدُّ أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضَتْ بالمقاريض)) رواه الترمذي.
لذا يجب أن تُصَحَّحَ المفاهيمُ لتكون وفْقَ شرع الله المطهر لا حسب ما يروِّجُهُ المنافقون ويعتقدونه أو من قلَّ حظُّه من العلم والفقه في دين الله من المسلمين، وخاصة عندما يرون الأمراض والابتلاءات تنزل بالمؤمنين الصالحين الأتقياء ويقولون بأن ذلك دليل على غضب الله عليهم ولو كانوا صالحين حقًا لما نزل بهم ذلك، وها نحن لم يصبنا ما أصابهم. ويغترّون بشدتهم وقوة أجسادهم، ولم يعلموا أن ما هم فيه إنما هو عكس تَصَوُّرِهِمْ واعتقادهم، فالمؤمن لا يزال ينزل عليه البلاء حتى يلقى الله عز وجل وليس عليه ذنب إذا أراد أن يرفع درجته ويكرمه تبارك وتعالى.
وها هو رسول الله ينزل عليه المرض ويُبتلى بأنواع الابتلاءات، ومن قبله الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومنهم أيوب عليه الصلاة والسلام الذي وردت قصة مرضه مختصرة في القرآن الكريم، وفيها من الاستنتاجات والعبر الشيء الكثير لمن كان ذا عقل ولُبٍّ وتدبُّرٍ وتفكُّرٍ وبصيرة قبل البصر، فلقد ابتلاه الله عز وجل في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده مغْرِزُ إبرة سليمًا سوى قلبه كما ورد في الأثر، ولم يَبْقَ له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، إلا أن زوجته حفظت وُدَّهُ بإيمانها بالله تعالى ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه وتقوم على شؤونه نَحْوًا من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا، فَسُلِبَ جميعَ ذلك حتى رفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحًا ومساءً إلا وقت خدمتها للناس وتعود إليه في أقرب وقت ممكن، وهكذا الزوجات الصالحات الوفِيَّات لأزواجهن في الشدة والرخاء، وقليل من يسلك هذا المسلك من النساء والرجال ويكون وفِيًّا لصاحبه عندما يشتد به البلاء وينزل به المرض المزمن، فإذا طال المرض بأحدهما لم يصبر الآخر على صاحبه الذي قضى معه عشرات السنين وتأفّف منه وتضجّر وأرغى وأزبد وشكا إلى الناس حاله ليخرج أمامهم بمخرج ويذكر تعبه وصبره ومصابرته على رفيق دربه، وما علم المسكين كم يخسر من الأجر العظيم إذا هو لم يقم على خدمة صاحبه وخاصة المرأة التي إذا مات زوجها وهو راض عنها دخلت الجنة، فأين الوفاء بين الزوجين في هذه الأيام في مجتمعات المسلمين؟! إنه قليل وأقل من القليل، والله المستعان، حيث نرى بعض الزوجات لا يروق للواحدة حال ولا يهدأ لها بال إلا عند مرض زوجها لتذهب هنا وهناك وتزور فلانة وعلاّنة وتتنكر للعشرة الطويلة بينهما.
أعود للقول بأنه لما طال زمن المرض على أيوب عليه الصلاة والسلام واشتد عليه الحال وتَمَّ الأجلُ المقدَّرُ تَضَرَّعَ إلى الله رب العالمين ليرفع عنه البلاء فهو أرحم الراحمين، وهكذا يجب على المسلم أن يدعو ربه عند نزول البلاء والمرض عليه مع بذل الأسباب وعدم الاعتماد عليها، وإذا أراد الله أن يرفع الداء والمرض عن عبده فهو القادر سبحانه دون من سواه؛ لأنه الذي أنزله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى. فلما دعا أيوب عليه الصلاة والسلام ربه استجاب له وأمره بأخذ الأسباب حيث أمره أن يقوم من مقامه ويضرب برجله الأرض ويسعى ويركض ويغتسل ويشرب من الماء الذي نبع من الأرض بقدرة الله عز وجل حتى ذهب عنه المرض الذي كان يشكو منه، وقام سليمًا معافى بإذن الله تبارك تعالى، ولولا الإطالة لأوردت بعض المعاني والاستنتاجات الجيدة من هذه القصة العجيبة التي استفاد الطب الحديث منها الآن وينصح بها الأطباء، ومنها الجَرْيُ اليومي الذي يُذْهِبُ كثيرًا من الأمراض للمحافظة على الصحة العامة للأجسام، والشرب والاغتسال أي: استعمال الماء للجسد داخليًا وخارجيًا، وما هذه الحمامات الحارة للاغتسال والمنتشرة الآن بكثرة إلا أَخْذًا من فوائد العيون الحارة المعدنية التي تنبع من باطن الأرض كما نبعت لأيوب عليه السلام واغتسل وشرب منها. وفوائد كثيرة في هذه الآيات لا يتسع المقام لذكرها، وأكتفي بذكر الآيات القرآنية ففي إجمالها واختصارها الشيء العظيم، قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 41-44]، وقال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83، 84].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن نعم الله علينا كثيرة وعظيمة لا نستطيع عدها وحصرها كما أخبر بذلك ربنا عَزَّ وجلَّ، ومن واجبنا أن نتذكر نعم الله علينا ونشكرها ولا نكفرها ونتفكر ونتأمل فيما نعلمه، ومن تلك النعم نعمة الصحة والعافية التي نتقلب فيها ليل نهار ولا نحسب لها حسابًا ولا وزنًا ولا قيمة، وقد يَمُرُّ المرض بالواحد منا ولا يعرف مقدار تلك الصحة ولا ثمنها إلا إذا فقدها نهائيًا أو اعترته الأمراض المزمنة أو الشيخوخة والهرم الذي يعود إليه معظم البشر إذا لم يموتوا قبل ذلك، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54]، وقال عز وجل: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8]، وقال عز وجل: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49]، وقال سبحانه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الروم: 33، 34]، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 53-55]، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، قال تعالى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، قال تعالى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، والآيات والأحاديث حول هذا المعنى كثيرة.
فكما ذُكِرَ سابقًا بأنَّ على المسلم إذا مرض أنْ يدعو الله عز وجل ليرفع عنه المرض لأنه هو الذي أنزله وهو الذي يرفعه متى شاء، وفي الوقت نفسه يبذل الأسباب للعلاج بالطرق المباحة ويبتعد عن الطرق المحرمة سواء في الأدوية أو الطرق والوسائل بالذهاب إلى السحرة والمشعوذين أو تعليق التمائم والعزائم وغيرها، فالأدوية المباحة والطرق المشروعة فيها الغُنْيَةُ بإذن الله عن المحرمات، ويجب على المسلم أن يصبر ويحتسب الأجر عند الله تبارك وتعالى، وعليه أن لاَّ يَتَسَخَّطَ أو يُظْهِرَ الْجَزَعَ إذا نزل به الضُّرُّ، وأن يحسن الظن بالله تعالى ولا يتمنى الموت لأي ضرٍّ أو بلاء ينزل به للأحاديث الواردة في ذلك، ومنها قول رسول الله : ((لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)).
ولننظر إلى هذا الفضل الكبير والأجر العظيم في الأحاديث السابقة وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري وأبو داود رحمهما الله عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)) ، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23].
وعلى المسلم أن يزور المرضى لأن زيارة المريض تدعو الصحيح المعافى في بدنه للتذكر والشكر لله على آلائه ونعمه التي لا تعدُّ ولا تحصى، وبها يعلم أنه لو كان ساجدًا وقائمًا طوال حياته لله رب العالمين لم يُؤَدِّ مقابل نعمة واحدة من النعم التي أنعم الله بها عليه، وعيادة المرضى وزيارتهم تذكر الموت لئلا يسرح الشخص ويمرح في هذه الدنيا دون يقظة واعتبار، وتكون الزيارة أكثر اعتبارًا وتذكرًا عند زيارة المرضى في المستشفيات والمصحات العامة عمومًا وعند قرب الموت ودنوّ الأجل ولِدُورِ النقاهة والإعاقة خصوصًا لأصحاب الأمراض المزمنة أو المروِّعة نتيجة الحوادث المتعددة الأسباب، في تلك الدُّور مرضى قارب بعضهم عشرين عامًا ومنهم أقل أو أكثر، كثير منهم صابرون محتسبون، وقليل منهم من يجزع ويتسخط، ففي زيارتهم العِبَرُ والدروس الكثيرة لأهل الصحة والعافية والأمراض الخفيفة والعابرة، قال رسول الله : ((ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشيةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) رواه الترمذي وأبو داود موقوفًا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وأحمد بنحوه وابن ماجة وابن حبان مرفوعًا. والخريف: هو الثمر المخروف المجتنى. وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)) ، قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: ((جناها)) رواه أحمد ومسلم واللفظ له والترمذي. خرفة الجنة: ما يُجتنى من ثمرها. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوةً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)) رواه أحمد وابن ماجة.
وعلى الزائر لأخيه المسلم أن يدعو الله بالدعاء المأثور الوارد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله بدلاً من حمل الورود والهدايا التي انتشرت عند أبواب المستشفيات والتي حملها لنا الجاهلون بتعاليم الإسلام وطبقناها كأنها سنة وخصال حميدة، وتركنا تعاليم ديننا الذي فيه الخير والبركة، وأخذنا بعادات وتقاليد أعداء الإسلام والمسلمين، فما أسرع المسلمين اليوم إلى التشبه بأعدائهم والتمسك بعاداتهم واستحسانها وإدخال التعديلات والزيادات عليها، وما أبعدهم عن المسارعة إلى الخيرات وزيادة الحسنات والاقتداء برسولنا محمد واتباع هديه وطريقته.
وعلى المسلم أن يُطَيِّبَ خَاطِرَ المريض ويدعو له ويمسح بيده اليمنى عليه، ومن المأثور ما وردت به الأحاديث من هدي رسول الله حيث كان إذا دخل على مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((من عاد مريضًا لم يحضرْهُ أجلُه فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يَشْفِيَكَ إلا عافاه الله من ذلك المرض)) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح على شرط البخاري"، وقال : ((إذا عاد أحدكم مريضًا فليقل: اللهم اشف عبدك يَنْكَأُ لك عدوًا أو يمشي لك إلى صلاة)). ومن الأدعية المأثورة أيضًا التي يدعو بها المريض لنفسه أو الزائر قولُه : ((اللهم ربّ الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا)). وإذا رأى المسلم مبتلى فعليه أن يدعو له ولنفسه لئلا يبتليه الله بما ابتلاه به أو أكثر، فعليه أن يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ـ أو مما ابْتَلَيْتَ به كثيرًا من خلقك ـ اللهم عافه ولا تبتليني.
والأدعية كثيرة، من أرادها فليرجع إليها في مظانِّها، وأورد بعضها إن شاء الله في خطبة الدواء والتداوي.
وليعلم المسلم أن هذا المرض ـ حمى الوادي المتصدع ـ مهما سَمَّوْهُ الآن من تسميات وأعطوه من أسماء فهو موجود من آلاف السنين، وهو الطاعون الذي يقضي على الإنسان والحيوان في لحظات بتدمير أجهزة الهضم وخلايا المخ وغيرها خلال لحظات، سواء كان نقله عن طريق بعوض أو غيرها، كما أخبر رسول الله بأنه من علامات الساعة، وقد وقع طاعون عمواس في السنة الثامنة عشرة من الهجرة النبوية، وقَضَى فيه أكثر من خمسة وعشرين ألفًا، وفي هذا الزمان يتكرّر نفس المرض المعروف بالطاعون، وسواء سموه باسمه الحقيقي: الطاعون، أو سموه بتسميات حديثة، وهو ما عرف لديهم بحمَّى الوادي المتصدع، فهذه التسمية وغيرها لا تغير من وصف المرض شيئًا كما ورد في الحديث وإن وُصِفَ بغير هذا الوصف، والله أعلم.
ولا بأس بإيراد الحديث كاملاً للاستفادة دون الاقتصار على مكان الشاهد. قال عوف بن مالك رضي الله عنه: أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة أدم فقال: ((اعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا)) رواه البخاري.
والدواء والتداوي له خطبة مستقلة بإذن الله عز وجل حيث لا يتسع المجال لذلك، والذي جعلني أتطرق لموضوع اليوم وأفصل بين الخطبة السابقة واللاحقة التي وعدت بها ما حصل في الأيام الماضية من الشهر السابق وإلى الآن وما هو طافح على الساحة وطغى على أفكار الناس وعقولهم والذي أخذ حيزًا كبيرًا بين مختلف الفئات والطبقات وفي جميع الجهات والاتجاهات والمساحات، وحُقَّ لمن لم يكن متسلحًا بسلاح العقيدة أن تهزه أدنى رياح تهب نسماتها فضلاً عن الريح العاتية التي لن يستطيع الوقوف أمامها، وهذا التعبير المجازي ليس كتعبير المتخبطين ممن ظهرت سوءاتهم في كتاباتهم التي أظهرت ضحالة تفكيرهم ومستواهم المعرفي والثقافي بعيدًا، عن عقيدتهم التي جرحوها بل ثلموها بعباراتهم الرديئة التي أردت مستواهم مهما حملوا من شهادات عالية وكما يُقال: العالمية الدكتوراه، وبئس ما يحملون إذا لم يفهموا ويعوا ما يقولون ويكتبون.
ومنها على سبيل المثال ما كتبه أحدهم في إحدى الصحف بعنوان: وختامها فيروس، ومن ضمن كلامه: "كنت غارقًا في الحزن، كنت مجروح الفؤاد، كنت في بحر متلاطم من المرارة والأسى، كنت وزملائي في جبهة مستيقظة ليل نهار نحاول التصدي لذلك الزائر اللئيم الْمُمِلِّ الذي تَسَلَّلَ إلى منازلنا وحقولنا وديارنا واستشرى في أجساد بعض أهالينا متسلحًا بخواصه المتعبة، كنت أسرح بخيالي وأتساءل: هل يستحق هؤلاء الآمنون المسالمون هذا الغدر المفجع من فيروس أهوج لم يَطِبْ له المقام إلا في أرضهم الولود بالخير؟! هل يستحق ذلك المزارع المثابر أن يتهاوى فجأة خلف ثوره أو محراثه؟! هل يستحق ذلك الراعي البسيط أن يَنْفَقَ مع أغنامه في الخلاء لتنهشه الطيور الجارحة؟! وهل يستحق الذي ينام في العراء أن لا يكون له مهرب من الموت لأن الحياة لم تمنحه حجرة يختبئ فيها؟!" إلى آخر ما قال، وبئس ما قال.
فيا أيها المسلمون، هل لدى هذا الشخص وأمثاله من أهل الحداثة والثقافات الغربية الذين تصدرت صورهم وأسماؤهم وشهاداتهم زواياهم اليومية أو الأسبوعية عبر الصحافة، هل لديهم أدنى خلفية عن عقيدتهم وإسلامهم وما يقولون؟! هل درسوا التوحيد والقضاء والقدر وغُرِسَتْ في سويداء قلوبهم؟! هل مَرَّ بهم تعليم إسلامي إيماني حقيقي يستيقظ معهم عندما تنزل بهم النوازل والقوارع أو بمن حولهم؟! إن هذه العبارات التي أوردتها لو أردنا استقصاء ما فيها من الزلات والعثرات القادحة في توحيد وإيمان ذلك الكاتب لطال بنا المقام ولاحتجنا إلى خطب متعددة وليس خطبة واحدة، ولكن المسلم في مثل هذه المواقف والنوازل يُعرف معدنه وحقيقة إيمانه وإسلامه بكيفية تعامله النابع من منهج الإسلام من كتاب الله وسنة رسوله محمد وكيفية أخذ العبرة والعظة والدروس الإيمانية، فالمرض الذي نزل في الأشهر الماضية إنما هو بقضاء الله وقدره عز وجل، حيث حان أجل المتوفين في ساعاتهم المعلومة وبذلك السبب وفي المكان المحدد، وليرى العباد ضعفهم وقلة حيلتهم مع أشد الفيروسات التي لا ترى بالعين المجردة والتي هي أسرع فتكًا من غيرها بالحيوانات والإنسان الذي ينتقل إليه المرض بطرق متعددة، ومنها أصغر الحشرات المسماة بالبعوض أو كما يطلق عليه الناموس، وبأدق أداة تدخل جسم الإنسان بدون استئذان أو تحذير أو تخدير، وخلال ساعات إذا بالمرض ينتشر في جسم الإنسان وينهشه نهشًا ويحطم أجهزة المناعة وأهم أجزاء عمليةٍ عاملة في جسمه من الكبد إلى الكلى والمخ حيث تدمرها بإذن الله عز وجل في لحظات، فهل استيقظ الإنسان وعرف ضعفه وقلة حيلته؟! هل تفكر في هذا المرض السريع الفتك بهذه الدواب الكبيرة التي تدب على وجه الأرض من إنسان أو حيوان والذي نقلته حشرة صغيرة ضعيفة وهو فيروس كما سُمِّيَ لا يُرى بالعين؟! هل علمنا بأن تلك من جنود الله التي يرسلها على من يشاء كما قال تعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4]، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31]؟! هل تفكر أحد في هذه الاستنفارات الهائلة والمتعددة والمقاومة الشديدة والأموال الطائلة التي أُنفقت لمحاربة هذا المرض التي لا غبار عليها لأخذ الحيطة والحذر ووقف انتشار المرض؟! هل استفدنا دروسًا في العقيدة والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله سبحانه وتعالى وعدم التواكل، أم أننا اعتمدنا على الأسباب المادية ونسينا الخالق جل وعلا؟! هل علمنا حجم البشر وقدرهم وعجزهم عند محاربتهم البرية والبحرية والجوية لذلك الفيروس وتلك البعوضة؟! هل لجأ المسلمون إلى ربهم عز وجل وسألوه رفع الضُّرِّ عنهم، أم أنهم أشد عُتُوًّا وعنادًا من مشركي العرب الأوائل؟! هل تأدبنا مع الله في عباراتنا وألفاظنا وحسن الظن بالله عز وجل واللجوء إليه تبارك وتعالى؟! هل عرفنا مبدأ الحجر الصحي أنه من صميم إسلامنا وأنه لا يَرِدُ ولا يُورَدُ مريضٌ على صحيح أو العكس إذا كانت هناك عدوى متحققة، وأنَّ على المسلم أنْ يَفِرَّ من المجذوم فراره من الأسد؟! عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)) متفق عليه. هل نعلم أن من مات من المسلين بهذا الداء وأمثاله فهو شهيد بإذن الله إذا كان صابرًا محتسبًا؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)) متفق عليه. والمطعون هو الذي مات بالطاعون، والمبطون هو من مات بمرض البطن، وصاحب الهدم: الذي مات تحت الهدم. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تعدون الشهداء فيكم؟)) قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: ((إن شهداء أمتي إذًا لقليل!)) قالوا: فَمَنْ يا رسول الله؟ قال: ((من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد)) رواه مسلم، وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((الطاعون شهادة لكل مسلم)) رواه البخاري ومسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن الطاعون فقال: ((كان عذابًا يبعثه الله على من كان قبلكم، فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه فيمكث لا يخرج صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد)) رواه البخاري. وورد أيضًا في أحاديث صحيحة من ضمن الشهداء المرأة تموت في نفاسها بسبب ولدها والموت بالحرق وذات الجنب وداء السلّ.
(1/5516)
المرض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, المرضى والطب
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
2/11/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المرض سبب في الأجر وتكفير الخطايا. 2- تحريم الجزع وتمني الموت. 3- حكم التداوي. 4- حكم تعليق التمائم. 5- زيارة المرضى وآدابها وحكمها وفضلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمن أن جعل كل أمره يحمل الخير العميم له ويسعد بذلك، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن الصابر المحتسب، بشرط أن يشكر الله عز وجل عندما يأتيه ما يسره ويصبر عندما يصيبه ما يضره، قال رسول الله : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاءُ صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم.
ومن الأمر الذي يحمل الخير للمؤمن حين ينزل به هو المرض الذي يكفر الله به من خطايا المؤمن، وهو معنى الوصب الذي ورد في الحديث عن النبي : ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حَزَنٍٍ ولا أَذَى ولا غَمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّرَ الله بها من خطاياه)) رواه البخاري، ولفظه عند مسلم : ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يَهُمُّهُ إلا كَفَّرَ اللهُ به من سيئاته)) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وهو يوعك فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا! قال: ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) ، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: ((أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها من سيئاته، وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة. والوعك: مغث الحمى أو هو الحمى. وجاء عنه : ((إذا مرض العبد ثلاثة أيام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه الطبراني في الصغير والأوسط.
ومن هنا يُفهم أن البلاء والمرض رحمة للمؤمن في هذه الحياة الدنيا؛ ليكفر الله به عنه الخطايا، لا كما يفهمه بعض المسلمين بأن البلاء إذا نزل بالمؤمن أن ذلك من سخط الله عليه، وهذا هو المفهوم السائد عند كثير من المسلمين اليوم، وقال رسول الله : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وقال رسول الله : ((إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي وابن ماجة. ولما دخل رسول الله على امرأة مريضة فوجدها تَسُبُّ الحمَّى فَكَرِهَ ذلك وقال لها: ((إنها ـ أي: الحمى ـ تُذْهِبُ خطايا بني آدم كما يُذهب الكيرُ خبثَ الحديد)). ويوم القيامة يتمنى أهل الصحة والعافية في الدنيا لو أن جلودَهم قُرِضَتْ بالْمَقَارِيضِ حين يُعطى أهلُ البلاء الثوابَ الذي ادَّخَرَهُ الله لعباده الصابرين على البلاء في الدنيا، قال رسول الله : ((يَوَدُّ أهل العافية يوم القيامة حين يعطَى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض)) رواه الترمذي.
ويجب على المسلم أن يصبر ولا يتسخط ولا يجزع إذا نزل به الضرّ، ويحتسب أجر ذلك عند الله عز وجل، ويصبر على قضاء الله وقدره، ويحسن الظن بربه، ويتذكر قول الله تعالى : إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] ، وعليه أن يكون بين الخوف والرجاء، يخاف عقاب الله بسبب الذنوب، ويرجو رحمة ربه جل وعلا، ومع ذلك الحب لله والطاعة والامتثال، ومهما اشتد به المرض فلا يجوز له أن يتمنى الموت لحديث أم الفضل رضي الله عنها أن رسول الله دخل عليهم وعباس عم رسول الله يشتكي، فتمنى عباس الموت، فقال له رسول الله : ((يا عم، لا تَتَمَنَّ الموت؛ فإنك إن كنت محسنًا فأنْ تُؤَخَّرْ تَزْدَدْ إحسانًا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئًا فأن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمنّ الموت)) ، وورد من حديث أنس مرفوعًا: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)).
وعلى المسلم أن يطلب الدواء لمرضه، ولا ينافي ذلك التوكل أو الصبر والاحتساب، ومرد ذلك إلى النية التي يجدها المسلم في فؤاده، وهو أعرف بنفسه من غيره، والله أعلم سبحانه وتعالى بذلك وبغيره. روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)) ، وفي المسند من حديث ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه: ((إن الله عز وجل لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله)). ولكن على المسلم أن يتداوى بالمباح ويجتنب المحرم؛ لأنه لا يجوز له التداوي بالمحرم، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) ذكره البخاري رحمه الله.
ويحرم تعليق التمائم واستعمال العزائم، فلا يجوز للمسلم أن يعلّق تميمة أو ودعة لقول رسول الله : ((من علق تميمة فقد أشرك)) ، وقوله : ((من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له)) ، وقوله أيضًا للذي أبصر على يده حلقة من صُفْر: ((ويحك! ما هذه؟)) قال: من الواهنة، قال: ((انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهْنًا، وإنك لو متَّ وهي عليك ما أفلحت أبدًا)).
ويجب على المسلم عيادة أخيه المسلم إذا مرض، وهذه من محاسن الإسلام التي تهاون بها المسلمون اليوم، ولا يزورون المرضى طلبًا للأجر ولوجوب الزيارة، وإنما هي للعادة المتعارف عليها أو للقرابة، وبعض المرضى من الرجال المتهاونين بصلاة الجماعة لا أحد يعلم عنهم إذا مرضوا لأنهم لا يحضرون المسجد ولا يشهدون صلاة الجماعة في غالب أوقاتهم ولا يُرون إلا يوم الجمعة، فلهذا لا يُفْتَقَدُون ولا يعلم عنهم أحد عن مرضهم حتى يُزاروا، وبعض المصلين يمرض بمرض ولا أحد يعلم عنه لأنه إذا سُئِلَ عنه عند غيابه وافتقاده في غيابه عن المسجد يقول: لماذا تسألون عني؟! فحال كثير من المسلمين اليوم يرثى له، حيث تركوا تعاليم الإسلام ورضوا بتطبيق جاهلية أعداء الإسلام.
وإن زيارة المرضى من الحقوق الواجبة على المسلمين بعضهم لبعض، والتي تربطهم وتجعلهم كالجسد الواحد والبنيان المتراصِّ والمتماسك، وتشعر المريض بأن له إخوة متى مرض افتقدوه وكانوا إلى جانبه في مرضه، يلازمونه ويقومون بالواجب نحوه ونحو أسرته وأولاده وماله، وهم يحوزون وينالون على فعلهم ذلك الأجر العظيم من الله جل جلاله، قال رسول الله : ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) ، وكذلك الحديث الذي رواه مسلم والذي قال فيه رسول الله : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت ولم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟)) الحديث، وقال رسول الله : ((عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفُكُّوا العاني)). وبهذا يتبين وجوب عيادة المريض.
وأما ثواب الزائر للمريض فقد وردت أحاديث عديدة عن النبي ترغب في عيادة المرضى وتوضح ما للزائر من أجر جزاء زيارته لأخيه المسلم المريض، ومنها قول رسول الله : ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)) ، قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: ((جناها)) أي: ما يجتنى من الثمر. وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) ، والخريف: الثمر المخروف أي: المجتنى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَ?لَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَ?لَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ?لدِينِ [الشعراء: 80-82].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فإن زيارة المرضى تدعو المسلم الصحيح المعافى في بدنه للتذكر والشكر لله عز وجل على نعمه وآلائه، ومنها نعمة الصحة التي يجب أن يستعملها في طاعة الله، وأن لا تضيع عليه فيما لا يرضي الله أو في التهاون والتكاسل عن عبادة الله، وعيادة المرضى أيضًا تذكر الإنسان بالموت، وحتى لا يسرح ويمرح ويغدو ويروح في هذه الحياة الدنيا دون يقظة واعتبار، وتكون الزيارة أكثر اعتبارًا وتذكرًا عند الزيارة في المستشفيات ولأصحاب الأمراض المزمنة أو المروعة وعند قرب الموت ودُنُوِّ الأجل.
وعلى الزائر أن يُطَيِّبَ خاطر المريض ويدعو له ويمسح بيده اليمنى على رأسه، ومن الدعاء المأثور عن الرسول : ((اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا)) ، وكان يضع إصبعه في الأرض ثم يرفعها ويقول: ((بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشْفَى به سَقِيمُنا، بإذن ربنا)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من عاد مريضًا لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض)). وكان من هديه إذا دخل على من يعوده قال: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)). وعلى الزائر أن لا يُطِيلَ الجلوس عند المريض، فلربما تأذى من ذلك لما نعلمه جميعًا.
ولا بأس على المريض إذا سئل عن مرضه وحاله أن يخبر زائره بما يجد على سبيل الإخبار لا بقصد الشكوى، ولا كراهة في الإخبار إذا لم يكن على سبيل التسخط وإظهار الجزع أو أنه يشكو حاله ومرضه إلى المخلوقين، كما يقول بعض الناس: أنا ماذا عملت حتى يصيبني الله بهذا المرض؟! أو: أنا لم أفعل ما يغضب الله، أو: لم أقترف ذنبًا، أو أي كلام من هذا القبيل الذي يجري على ألسنة بعض الناس، فمتى كان الإخبار على هذا الحال فهو شكوى يشتكي فيها الخالقَ سبحانه إلى المخلوقين وهذا هو المنهي عنه، وهو بفعله هذا يُذْهِبُ أجرَه ولا حظَّ له في مرضه ذلك الذي جعله الله رحمة له وتكفيرًا لسيئاته، وأما إن كان عن طريق الإخبار كما سبق فإن ذلك جائز للأحاديث المروية في هذا عن النبي من حديث ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص رضي الله وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.
وعلى المريض أن يعلم أولاً وأخيرًا وقبل كل شيء أن الشفاء بيد الله ومن عنده سبحانه، فهو الذي أنزل الداء وهو الذي يرفعه، وما على المريض إلا بذل السبب مع طلب الشفاء من الله تعالى.
(1/5517)
التدخين وأضراره
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
23/12/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان خبث الدخان. 2- ضرر الدخان على الفرد والمجتمع. 3- الأضرار الدينية والصحية للدخان. 4- انتشار التدخين بين النساء. 5- الإشادة بجهود مكافحة التدخين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا أن نتقي الله تعالى ونشكره على نعمه وآلائه التي لا تعدُّ ولا تحصى، وقد أغنانا سبحانه بالحلال عن الحرام، وأباح لنا من الطيبات ما تقوم به مصالحنا الدينية والبدنية، وحرّم علينا الخبائث لما فيها من الضرر علينا، حيث التغذي بالطيبات له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه لأنها تغذّيه تغذية طيبة، أما التغذي بالخبائث فأثره خبيث في الأبدان والسلوك لأنها تغذيه تغذية خبيثة.
ألا وإن من الخبائث التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين اليوم الدخان الذي انتشر شربه واستعماله بين الصغار والكبار وكذلك النساء، وصار متعاطوه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء، حيث يملأ أحدهم فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم لأنه يتضايق منه ولا يستطيع استنشاقه كاملاً فيخرجه تخلصًا منه وتضايقًا ولو آذى به الآخرين، يخرجه من فمه المشبّه بمدخنة الأفران والمحارق، فيخيّم على الحاضرين سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوّث بالريق القذر والرائحة الكريهة المنتنة، ومصدر ذلك كله فَمُ المُدَخِّنِ البذيء الذي لا يراعي لِمُجالِسِيهِ حرمةً، ولا يفكِّر في وَخِيمِ فعله، ولو أن إنسانًا تنفّس في وجه المدخن أو بَصَقَ أوِ امْتَخَطَ أمامه فكيف يكون موقفه واستنكاره وتألّمه لهذا الفعل؟! علمًا بأنه يفعل بمن يجلس حوله في غرفته أو مكتبه أو سيارته أو في بيته بين أولاده وأهله أو مع جلسائه في أي مكان يفعل أكثر من هذا، ولم يستحِ، ولم يكن له من الشهامة والرجولة ما يردعه عن فعله هذا. أقول: الشهامة والرجولة لا الوازع الديني؛ لأنه لو كان لديه ذلك الوازع لانتهى وأقلع وخاف من رب العالمين ولما بقي عليه لحظة واحدة؛ لأن الخوف من الله ومن أليم عقابه يجعل المسلم حَيَّ الضمير يقظًا متنبهًا، متى أراد الشيطان الإيقاع به انتبه واستغفر ربه وأناب إليه ورجع، فالذي يشرب الدخان وينفثه في وجوه الحاضرين قد نُزع منه الحياء وصار صفيقًا متبلّد الشعور، وقد قال رسول الله : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
أيها المسلمون، كم تعالت الأصوات في إنكار شرب الدخان! وكم صدر من النشرات والتحذيرات الطبية من أضراره المتعددة! وكم صدر من الفتاوى الشرعية بتحريمه! وكم أُلِّف من الكتب والرسائل في بيان مفاسده! وكم جنى المدخنون من مضارّ في أبدانهم وأرواحهم وعلى نسلهم ونسائهم! وكم آذوا من جليس لهم في المجتمع! وكم أفنوا من دنانير ودراهم! وكم أضاعوا من أوقاتهم وأهدروها ومعها أعمارهم وأجسادهم حيث أفنوها فيما يحرقها ويتلفها! ومع هذا وذاك كلّه فكثير من شاربيه لا يُجيبون داعيا، ولا يُصْغُون لناصح، ولا يحترمون أحدًا، ولا يترفعون بأنفسهم عن تلك العادة السيئة؛ لأن الدخان قد أَسَرَهُمْ وأحكم أسرهم وقيّدهم فلا يستطيعون منه خلاصًا إلا بالإيمان بالله ورسوله والتوبة الصادقة إلى الله عز وجل، ولو كان شارب الدخان صادق العزيمة شهمًا متوكلاً على الله غير فاقد لذلك لاستطاع أن ينفكّ من هذا الأَسْر وينطلق من تلك القيود بإذن الله تعالى.
إن الكفار يدفعون هذا الدخان إلى مجتمعات المسلمين ويروّجونه في أسواقهم لعلمهم أنه من الأسلحة القاتلة التي تهدم الأجسام وتقضي على الصحة وتجني الشيء الكثير على أخلاق الشباب والرجال والنساء والأطفال، وبالتالي يستنزفون ثروات البلاد وخيراتها ويبنون حياتهم الاقتصادية الدنيوية ويتقدمون في مخترعاتهم العلمية بما يدفعه أولئك السّذّج من الأموال الطائلة مقابل الحصول على الدخان ومشتقاته الذي أهلكوا به أنفسهم، وبئس ما اشتروا لأنفسهم! وتُسْتَنْزَفُ الأموالُ أيضًا من المدخنين أنفسهم ومن الأفراد الآخرين عمومًا ومن الدول كذلك من حيث يشعرون أو لا يشعرون، حيث إنفاق الأموال الهائلة لعلاج المتضررين من التدخين وجلب الأدوية لهم والأجهزة الخاصة بالعلاج من بلاد الكفر، فهم المستفيدون ماديًا ابتداءً وانتهاءً، والمسلمون غافلون إلا من شاء الله، فهلاَّ استيقظنا وانتبهنا وعرفنا مقاصد أعداء الإسلام والمسلمين في هذا وغيره من الأمور الأخرى؟!
إن المجتمعات الغربية الكافرة تُخَصِّصُ سياراتٍ ومراكبَ وأماكنَ خاصةً لا يركبها ولا يدخلها أو يجلس فيها المدخنون حفاظا على صحة غير المدخنين وعدم الإساءة إليهم وأذيتهم بالروائح المنتنة الصادرة من أفواههم وسجائرهم، ومَنْعُ التدخين في الأماكن العامة مُطَبَّقٌ في عدد من الدول الغربية والشرقية، والمنع مع الغرامة الصارمة على من يدخن في الأماكن العامة والتجمعات السكانية صغيرةً كانت أو كبيرةً مُطَبَّقٌ في ثلاث دول غربية، فهلا طبق المسلمون ذلك في بلادهم واستفادوا من تجارب غيرهم ما دام المدخنون مصرّين على فعلهم؟! وهلاَّ قاموا بدور محمود يعود على الفرد والجماعة بخير؟! إن الأمل كبير في الأوبة والرجعة الصادقة، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 17].
إنَّ شُرْبَ الدخان ضارٌّ للبدن والدين والمال والمجتمع، ومُذْهبٌ للشرف والمروءة والكرامة والشهامة، ونوع واحد من الأضرار كافٍ لتحريمه والابتعاد عنه، فكيف إذا اجتمعت فيه تلك المضار المتعددة والتي منها ما يلي على سبيل الاختصار:
1- ضرره على البدن: يضعفه بوجه عام، ويحدث تصلبًا وتشنّجًا وانسدادًا في الشرايين الدموية، ومسبّب للسل والسرطان والسعال الديكي والتهابات الفم واللثة والبلعوم والأنف والحنجرة ومداخل الطعام والشراب وتقرحاتها وحرقها حتى يجعلها كالفحم المحترق المنهار، ويسوّد الأسنان ويسبّب بِلاءَها وتآكلها بالسوس بسرعة، والتهاب الحبال الصوتية والتمدّد والانتفاخ الرئوي وسرطان الرئة والغثيان، مع قلة الشهية للطعام وعسر الهضم وقرحة المعدة والإمساك، وما يصاحبه من صداع وآلام مختلفة والتهابات مزمنة تؤدي إلى اضطرابات عصبية وفتور واسترخاء وسرعة تعب وإجهاد عند بذل أي جُهد عضلي، إلى جانب قلة النوم والنسيان وارتعاش الأطراف، وإصابة العينين والجهاز البصري بعدم صفاء الرؤية والشعور بالغشاوة وضعف الإبصار.
وقد أعلنت هيئة الصحة العالمية قبل ثلاثين عامًا من الآن أن التدخين أشد خطرًا على صحة الإنسان من أمراض السل والجذام والطاعون والجدري مجتمعة، كما ثبت طبيًا أن التدخين يسبب الإجهاض والعقم عند النساء ويضعف القدرة الجنسية عند الرجال، كما جاء في تقرير الصحة العالمية أن التوقف عن التدخين سيؤدي إلى تَحَسُّن الصحة بما لا تستطيعه جميع الوسائل الطبية مجتمعة، فهل أدرك المدخنون ضرر التدخين عليهم في أبدانهم؟!
إن هذا وغيره موجود ضمن كتب ورسائل ونشرات عديدة لمن أراد البحث والزيادة، وخير دليل قائم على المدخّن هو نفسه وحاله وما هو فيه وعليه خاصة المدمن عليه منذ فترة وصاحب الخدمة الطويلة في ذلك، حيث لا يحتاج إلى إثبات ودلائل من خارج نفسه، وأكبر دليل على الضرر الصحي هو مطالبة بعض الجهات الصحية لشركات عالمية مسؤولة عن الإنتاج والتوزيع والدعاية والترويج للدخان مطالبتها بمليارات الريالات مقابل تعويضها عن الخسائر المادية جراء معالجتها وإنفاقها الأموال الطائلة لعلاج المدخنين، وهذه المطالبة المادية التي تحملتها الجهات الصحية دليل قاطع على الأضرار الصحية التي لحقت بالمدخنين، إلى جانب ما أهدره المدخنون للحصول على السجائر من عشرات المليارات من أموالهم الخاصة في السنوات الماضية، إلى جانب ملايين من ساعات العمل التي ضاعت نتيجة مراجعة المستشفيات وتلقي العلاج بالتنويم فيها لإجراء العمليات الناتجة عما خلَّفه الدخان أو لأي عارض مرضي، فهذه الأضرار المادية التي لحقت بالأطراف المذكورة كافية وحدها لتحريم الدخان، وإذا أُضيفت إليها الأضرار التالية كانت أشد وضوحًا لمن كان لديه أدنى شكِّ.
2- ضرره على الدين: يجعل العبادات والقيام بالطاعات ثقيلة على متعاطيه وخاصة الصيام والصلاة والجلوس في المساجد وحضور مجالس العلم؛ لأنه لا يستطيع الصبر عنه وخاصة المدمنين، وما كرّه المسلم في عمل الخير فإنه شرّ لا شك في ذلك، وهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار، ومتى سرى تعاطيه في الشباب سقطوا بالمرة وكان الخطوة الأولى للدخول في مداخل قبيحة وتدهور الأخلاق وتحطم المعنويات والنشأة السيئة مع جلساء السوء، فيصبح كل قرين بالمقارن يقتدي.
3- ضرره على المال: الذي يتعاطاه يعرف كم يضيّع فيه كل يوم من الريالات، وقد يكون فقيرًا لا يملك قوت يومه، ومع هذا يقدّم شراء الدخان على شراء غيره من الضروريات لأهله ولو تحمل الديون الكثيرة، فيحرم نفسه وربما يحرم أولاده من التمتع بالطيبات، ويستبدل ذلك بالتدخين الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وربما يسأل هذا وذاك سجارة وسجارتين ويهرق ماء وجهه مقابل الحصول على سجارة، وربما يُمنع من ذلك ولا يُعطى، ومع هذا فلا يخجل ولا يستحيي وهذا هو الواقع، ولو ألجأته الضرورة إلى سؤال وطَلَبِ شيءٍ من الطيبات لما أقدم على ذلك، هذا حال بعض الفقراء المتعففين عن السؤال، أما الغني فهو يبذل المال في شرائه غير مبالٍ بما يخرج ويضيع في سبيل الشيطان، وهو يعلم أن المبذرين هم إخوان الشياطين، وأنه سوف يُسأل عن كل درهم ودينار: فِيمَ أنفقه؟ ويعلم أنه لو وقف عليه فقير كل يوم لمدة شهر يطلبه ثمن فطور لما أعطاه، ولو أعطاه يومًا أو يومين لمنعه ونهره وطرده وأَرْغَى وأزبد وكشّر في وجهه بقية الشهر، وبهذا يتبين أن الشيطان لم يمنعه في يوم من الأيام عن شراء الدخان ولم يتركه يفكر في ذلك؛ لأنه إنفاق في سبيل الشيطان، فهو يسهّل عليه طريقه، أما الإنفاق في سبيل الخير وطرقه لكسب الحسنات فإن الشيطان يصعِّبه ويوسوس لصاحبه بوساوس كثيرة تمنعه من كسبها، ويكفي هذا البيان حال الإنفاق هل هو في الحلال والطيبات أم في الحرام والخبائث؟ وقد ذكرت سابقًا الأضرار المالية على الجهات الصحية والحكومية أو الأهلية أو الشركات والمؤسسات التي يعمل فيها المدخنون إلى جانب ما يلحق بهم أنفسهم.
4- ضرر شرب الدخان على المجتمع: إن شاربه يسيء إلى مجتمعه وإلى كل من يجالسه ويصاحبه، ابتداءً من زوجته وأولاده حيث يكتم أنفاسهم ويخنقهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجوّ من حولهم، وثبت طبيًا بأن الجالسين الذين يستنشقون الدخان أكثر تضررًا من المدخنين أنفسهم، ومما صدر في آخر إحصائية حول الخسارة البشرية في المجتمعات هو موت أكثر من عشرة ملايين شخص في السنة الواحدة في العالم من المدخنين منهم سبعة ملايين من البلدان النامية كما يعبرون، بسبب الأمراض الناتجة عن التدخين، أما بين عامة الناس المجالسين فإن المتضررين من ذلك على مدى الأيام سوف يجنون عواقبه وإن لم تصدر إحصائيات عن ذلك.
ولقد امتدّ أذى التدخين فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وحَالَ ركوبهم السيارات والطائرات، ولا حياء ولا خجل ولا رادع يردع متعاطيه إلا من شاء الله، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله قوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ((من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)).
وكذلك يلحق الأذى الملائكة الكرام الملازمين له، وإذا كان الرسول نهى من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا بِأَن لاَّ يقربَ المسجد ويعتزل مجتمع المسلمين مع وجوب صلاة الجماعة على الرجال لئلا يتأذوا من رائحته حتى تزول مع أنها من الطيبات فكيف بالخبيث الذي هو الدخان والجراك وغيرها من الخبائث؟! روى الإمام مسلم رحمه الله أن رسول الله قال: ((من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)).
أيها المسلمون، إذا كان شرب الدخان من الرجال منقصة لهم بين الرجال ويهدم مروءتهم وشهامتهم ويهدر كرامتهم ويحطّ من قدرهم فإنه من النساء أعظم، وما نسمع عنه من أن بعض نساء المسلمين وصل بِهِنَّ الحالُ من غير حياء ولا خجل بل وبكل وقاحة بِأَنْ يتصدرن مجالس النساء ومحافلهن واضعات السجائر في أفواههن وليات الشيشة والجراك ليخرج منهن كدخان المصانع والأفران، وهذا الانحطاط الخلقي والدناءة التي يأنفها كل غيور وصلت ببعض النساء إلى اصطحاب الشيش إلى المتنزهات والشواطئ ليمارسن المناظر المخزية أمام أعين الناس عامة، فيا لها من مناظر مخزية وحالات مستقذرة يندى لها الجبين! وذلك هو طيبهن وعطرهن الذي يستعملنه لأزواجهن الذين رضوا بفعلهن القبيح.
قال تعالى عن رسولنا محمد : وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]، وقال تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، وكما يحكم عليه المدخنون أنفسهم بأن الدخان من الخبائث فقد قال الله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]، وقال رسول الله : ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه)).
وإن مما يبشر بالخير ويثلج صدور المؤمنين ويغيظ المنافقين والكافرين هو امتناع كثير من المحلات التجارية في هذا البلد الطيب عن بيع الدخان والجراك، وفي مدينة واحدة مثل جدة وصل عدد المحلات التي امتنعت عن بيع الدخان ما يقارب خمسمائة محل تجاري قبل أكثر من عشر سنوات حصلت على شهادات تقدير، وهذه ظاهرة طيبة سرَت في معظم مدن بلاد الحرمين، وسمعنا وقرأنا عن منع بيع الدخان وعدم السماح لمحلات تعاطي الجراك والمعسل داخل مكة والمدينة احترامًا لمكانتهما وللحرمين الشريفين، وهذه خطوة مباركة لا شك فيها تحسب للمسؤولين في بلاد الحرمين، ولا غرابة في ذلك على أهل هذا البلد المبارك المسارعين إلى فعل الخيرات والاستجابة لنداء الفطرة السليمة، خاصة عندما يأتيهم من يذكّرهم ويوقظهم مما هم عليه وفيه. وما قامت به الدولة من إنشاء مصحات خاصة لمساعدة المدخنين لإقلاعهم عن تلك العادة السيئة لهو عمل مشكور وجهد مبارك ينبغي لمن ابتلي بالتدخين الاستفادة منه والمسارعة إلى العلاج بدون مقابل، وقد سمعنا وقرأنا عن الذي ذكرته سابقًا حول مطالبة جهات صحية لشركات التبغ بتعويضها عن الخسائر التي تكبدتها من أجل علاج المدخنين.
والحمد لله، فقد منعت الدولة منذ فترة طويلة الدعايات والإعلانات عن الدخان وما شابهه في الأسواق والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، وهذا شيء طيب ولله الحمد والمنة تمتاز به بين الدول من ضمن المناقب والمفاخر الأخرى التي لا توجد إلا في هذا البلد، إلى جانب الأمر السامي الذي يقضي بمنع التدخين في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وإننا لنرجو أن يطبق ذلك التطبيق الواضح والالتزام الكامل خاصة في المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية التي هي قدوة لغيرها من حيث العاملون فيها، فإذا لم يلتزم المعلمون والمربون والأطباء بهذا فلا فائدة مرجوة منهم حول ذلك على من يستفيد منهم من الطلاب والمرضى، وهذا لا يعفي الدوائر والمؤسسات الأخرى ولكن هذه الأماكن قبل غيرها.
أيها المسلمون، إن مما يلحق بشرب الدخان ويشبهه ما يسمى بالجراك أو الشيشة أو المدعّة والقات والشمّة، وكلها بنات الخمر والمخدرات والخطوة الأولى إليها لكثير ممن ابتلي بها، وإن كانت تختلف عنها في سرعة المفعول وبطئه وفي الحكم الشرعي، مع أن ضرر الشيشة والمدعّة وكل ما يستعمل فيه الليات والمواد المصنوعة والمجمعة من الفواكه المتعفنة والتي ترمى في القمائم والزبالات ولا تأكلها الحيوانات ضررها أعظم من السجائر، ولو علم متعاطو الجراك وكل ما يُسْتَخْدَمُ فيه اللَّيَّاتُ التي تنتقل من فَمٍ إلى آخر ومن بين شفتي مريض إلى غيره لو علم حقيقة تلك القاذورات التي جُمعت من أَسْوَإِ ما يتصوره البشر لو علموا الحقيقة وعرفوها لما وضعوها مرة أخرى في أفواههم، لذلك وجبت النصيحة والتذكير بين فترة وأخرى في هذا وغيره؛ لئلا يقدم الجاهلون على قتل أنفسهم قتلاً بطيئًا ويُلقوا بأنفسهم فيما يدمرهم ويهلكهم، قال الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195].
وهذا القتلُ البطيءُ للشخصِ نفسه عن طريق المخدرات أو بناتها شَبِيهٌ بالانتحارِ وقتلِ الإنسان لنفسه عدوانًا وظلمًا، وهذا القياس له وجهٌ ودلالةٌ ليست ظاهرة لكل أحد، وقد ذكرها بعض المجتهدين، ولنتأمل هذه الآيات والأحاديث وإن كانت دلالتها الصريحة على الظاهر منها، قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 29-31]، وقال رسول الله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سُمًّا فقتل نفسه فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وقال : ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار)) رواه البخاري رحمه الله. وكل إنسان يعرف ويعلم مصالحه وما يصلح شأنه في أغلب أحيانه ولا تخفى عليه هذه المفاهيم والبدهيات، قال الله جل جلاله: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 14، 15]، والله من وراء كل قصد،.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
(1/5518)
مفهوم العبادة في الإسلام (1)
التوحيد
الألوهية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
11/10/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى العبودية الصحيح. 2- شمولية العبادة للجهاد والأمر بالمعروف. 3- المعاصي التي نصنعها خرق في عبوديتنا لله. 4- العبادة تشمل جميع أعمال المسلم الدنيوية إذا خلصت النية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن بعض المسلمين لا يفهم من كلمة العبادة إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب أو النظم والقوانين أو العادات والتقاليد حسب المتداول من التعبيرات وكل حياة المسلم، وإذا سألت أحدهم: لأي شيء خلق الله الخلق؟ قال: لعبادته سبحانه وتعالى، وما هي العبادة؟ قال: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. إنه كلام جيد وتعريف يحفظه الطالب والمعلم في المرحلة الابتدائية، ولكن هل يعرف ويعلم تمامًا بأن مفهوم العبادة في الإسلام أشمل مما يتصوره هُوَ، وَهُوَ على حسب هذا التعريف فعلاً؟! هل يعلم معنى قول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] على الحقيقة فعلاً وأنها تشمل جميع مناحي حياته وكل حركة له في هذه الحياة بحيث يجب أن يتحقق فيها معنى العبودية لله؟!
إنَّ قَصْرَ مفهوم العبادة على الصلاة والزكاة والحج والعمرة والصوم وبعض الأدعية والأذكار مفهوم خاطئ يجب أن يُصَحَّحَ، فالصلاة لا تستغرق في اليوم والليلة إلا قرابة ساعة، فأين تذهب الساعات الباقية من حياة المسلم إذا لم تكن في العبودية الصحيحة وفي المفهوم الصحيح لمعنى العبادة؟! والصوم شهر واحد في العام، فكيف يقضي المسلم بقية أشهر العام إذا لم يعلم ويعمل بمعنى العبودية الحقة لله تعالى؟! والحج والعمرة لا تجب إلا مرة واحدة في العمر، والزكاة مرة واحدة في السنة.
فهؤلاء الذين يفهمون أو يعتقدون بأن العبادة في الإسلام مقصورة على هذه الشعائر التعبدية أو أنه يجب أن تقتصر على المسجد قد جانبوا الصواب، ويجب عليهم أن يعلموا معنى العبادة الصادقة لله تعالى، وأنها شاملة لحياتهم كلها، في النوم واليقظة ودخول المسجد والبيت والخروج منهما والبيع والشراء والعمل والتعامل مع الناس والكلام والضحك والأكل والشرب وركوب الدابة ونزول أي منزل وحتى إتيان الرجل شهوته ودخوله الخلاء والخروج منه، كل هذه وغيرها للإسلام فيها توجيه، فبذلك يتحقق معنى العبودية لله رب العالمين، وأن العبادة شاملة فعلاً لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
لقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن قول الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ [البقرة: 21] : ما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ فأجاب رحمه الله إجابة مبسوطة مفصلة وقد بدأها بقوله: "العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة"، ثم قال: "وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله" انتهى كلامه رحمه الله.
وهكذا نجد أن للعبادة ـ كما شرحها ابن تيمية رحمه الله ـ أفقًا رحبًا ودائرة واسعة، فهي تشمل الفرائض والأركان فيما يسمى بالشعائر التعبدية من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتشمل ما زاد عن الفرائض من ألوان التعبد التطوعي من ذكر وتلاوة ودعاء واستغفار وتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد وحسن المعاملة والوفاء بحقوق العباد والأخلاق والفضائل الإنسانية كلها وحب الله ورسوله وتوحيد الله وإفراده بالعبادة وخشيته والإنابة إليه وإخلاص الدين له، وتشمل العبادة كذلك الفريضتين الكبيرتين اللتين هما سياج ذلك كله وملاكه وهما: 1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 2- وجهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله، كما تشمل العبادة أمرًا له أهميته في الحياة المادية للناس، وهو الأخذ بالأسباب ومراعاة السنن التي أقام الله عليها الكون. ثم قال رحمه الله: "فكل ما أمر الله به عِبَادَهُ من الأسباب فهو عِبَادَةٌ".
بهذا نعرف ونعلم أن دين الإسلام كله عبادة، وأنه جاء ليرسم للإنسان منهج حياته الظاهرة والباطنة، ويحدد سلوكه وعلاقاته وفقًا لما جاء في الكتاب والسنة، إذًا فعبادة الله تَسَعُ الحياةَ كلَّها وتنظم أمورها قاطبة، من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة وسياسة الحكم وسياسة المال وشؤون المعاملات والعقوبات وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
إن هذه الشعائر العظيمة والأركان الأساسية في الإسلام على منزلتها وأهميتها إنما هي جزء من العبادة لله، وليست هي كل العبادة التي يريدها الله من عباده. والحق الذي لا شك فيه أن دائرة العبادة التي خلق الله لها الجن والإنس وجعلها غاية للإنسان في الحياة ومهمة في الأرض دائرة رحبة واسعة تشمل شؤونه كلها وتستوعب حياته جميعًا.
وبذلك تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبد الله ورسوله وقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات: 56-58]، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن مقتضى عبادة المسلم لله وحده أن يُخضِع أموره كلها لما يحبه الله تعالى ويرضاه في الاعتقاد والأقوال والأعمال، وأن يكيّف حياته وسلوكه وفقًا لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه أو أحلَّ له أو حرم عليه كان موقفه في ذلك كله: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فَفَرْقُ ما بين المؤمن وغيره أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لله رب العالمين، خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله، ليس المؤمن سائبًا ولا هملاً يفعل ما تهوى نفسه أو يهوى له غيره من الخلق، إنما هو ملتزم بعهد يجب أن يَفِيَ به وميثاق يجب أن يحترمه ومنهج يجب أن يتبعه، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36]، ويقول عز وجل: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ?لْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [النور: 51].
ليس بعابد لله إذًا من قال: أصَلي وأصوم وأحج ولكني حرٌّ في أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر والمسكرات أو أكل الربا أو الزنا أو رفض ما لا يصلح لي من أحكام الشريعة فأحكم فيه بغير ما أنزل الله، وليس بعابد لله أيضًا من أدى الشعائر ولكنه لم يخضع لآداب الإسلام وما جاء به في نفسه أو أهله، كالرجل الذي يلبس الحرير ويتحلى بالذهب ويتشبه بالنساء، والمرأة التي تلبس ما يبرز مفاتنها ولا يغطي جسدها ولا تضرب بخمارها على جيبها وتتشبه بالرجال، ليس بعابد لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدو جدران المسجد، فإذا انطلق في ميادين الحياة المتشعبة فهو حرٌّ في إعطاء نفسه هواها أو اتباع أهواء عبيدِ أنفسِهم من المخلوقين.
على المسلم أن يعلم أن كل عمل اجتماعي نافع فهو في الإسلام عبادة ما دام قَصْدُ فاعله الخير لا تصيُّد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس،كل عمل يمسح به المسلمُ دمعةَ محزون أو يخفف به كربة مكروب أو يضمِّد به جراح منكوب أو يسدُّ به رمق محروم أو يشد به أزر مظلوم أو يقيل به عثرة مغلوب أو يقضي به دَيْنَ غَارِمٍ مثقل أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال أو يهدي حائرًا أو يعلم جاهلاً أو يؤوي غريبًا أو يدفع شرًا عن مخلوق أو يُميط أذى عن طريق أو يسوق نفعًا إلى ذي كبدٍ رطبة أو يسعى لإصلاح ذات البين، كل ذلك وغيره إذا صحت وصلحت فيه النية فهو عبادة وقربة إلى الله تعالى.
ولقد كانت حياة رسول الله كلها عبادة لله عز وجل وذكرًا لله جل جلاله، وأيضًا كانت توجيهاته لأمته عليه الصلاة والسلام عبادة لله عز وجل. فعلى المسلمين الاتباع والاقتداء برسول الله حتى يحققوا معنى العبودية لله تعالى في حياتهم كلها، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21 ]، وقال عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 31، 32].
(1/5519)
ليلة القدر ونصيحة المفتي
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن خالد الخضير
الثقبة
23/9/1428
مسجد ابن حجر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص النبي في العشر الأواخر من رمضان. 2- فضائل ليلة القدر. 3- تحديد ليلة القدر. 4- الحكمة من إخفاء تعيينها. 5- نصيحة سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ للشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيام شهر رمضان بقيةٌ، وأي بقية؟! إنها عشره الأخيرة، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء، في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمّر وجد وشد المئزر، هجر فراشه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان؟!)) ، يطرق الباب وهو يتلو: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرا: ((أيقظوا صواحب الحجر؛ فرُبّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)) ، ألم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه؟!
أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدّموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة. إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق الخذلان.
في هذِه العشرِ المباركة ليلةُ القَدْرِ الَّتِي شرَّفها الله على غيرها، ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشادَ الله بفضلها في كتابة المبين فقال تعالى: إِنَّآ أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 3-5].
وصفَها الله سبحانَه بأنها مباركةٌ لكَثْرةِ خيرِها وبَركتِها وفضلها، فمِن بركتها أنَّ هذا القرآنَ المباركَ أُنْزِلَ فيها، ووصَفَها سبحانَه بأنه يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم، يعني يفصَل من اللوح المحفوظِ إلى الْكَتَبةِ ما هو كائنٌ مِنْ أمرِ الله سبحانَه في تلك السنةِ من الأرزاقِ والآجالِ والخير والشرِّ وغير ذلك من كلِّ أمْرٍ حكيمٍ من أوامِر الله المُحْكَمَةِ المتْقَنَةِ التي ليس فيها خَلَلٌ ولا نقصٌ.
وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
أيها الإخوة الصائمون، في هذه السورةِ الكريمةِ فضائلُ متعددةٌ لليلةِ القدرِ:
الفضيلةُ الأولى: أن الله أنزلَ فيها القرآنَ الَّذِي بهِ هدايةُ البشرِ وسعادتُهم في الدُّنَيا والآخرِةِ.
الفضيلةُ الثانيةُ: ما يدُل عليه الاستفهامُ من التفخيم والتعظيم في قولِه: وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
الفضيلةُ الثالثةُ: أنَّها خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ.
الفضيلةُ الرابعةُ: أنَّ الملائكةَ تتنزلُ فيها وهُمْ لا ينزلونَ إلاَّ بالخيرِ والبركةِ والرحمةِ.
الفضيلةُ الخامسةُ: أنها سَلامٌ لكثرةِ السلامةِ فيها من العقابِ والعذابِ بما يقوم به العبدُ فيها من طاعةِ الله عزَّ وجلَّ.
الفضيلة السادسةُ: أنَّ الله أنزلَ في فضلِها سورة كاملةً تُتْلَى إلى يومِ القيامةِ.
ومن فضائل ليلةِ القدرِ ما ثبتَ في الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ قالَ: ((من قَامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه)) ، فقوله: ((إيمانًا واحتسابًا)) يعني: إيمانًا بالله وبما أعدَّ اللهُ من الثوابِ للقائمينَ فيهَا، واحتسابًا للأجرِ وطلب الثواب.
وليلةُ القدرِ في رمضانَ؛ لأنَّ الله أنزلَ القرآنَ فيهَا، وقد أخْبَرَ أنَّ إنزالَه في شهرِ رمضانَ، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185].
وليلةُ القَدْر في العشر الأواخر من رمضانَ لقول النبيِّ : ((تَحَرِّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخر من رمضانَ)) متفقٌ عليه. وهي في الأوْتار أقْرب من الأشفاعِ لقولِ النبيِّ : ((تحروا ليلةَ القدرِ في الْوِترِ من العشرِ الأواخر من رمضان)) رواه البخاري.
وهي في السَّبْعِ الأواخرِ أقْرَبٌ، لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّ رجالاً من أصحاب النبيِّ أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام في السبعِ الأواخر فقال النبيُّ : ((أرَى رُؤياكُمْ قد تواطأت ـ يعني: اتفقت ـ في السبعِ الأواخرِ، فمن كانَ مُتَحرِّيَها فَلْيتحَرَّها في السبعِ الأواخرِ)) متفق عليه، ولمسلم عنه أنَّ النبيَّ قال: ((التمِسُوَها في العشر الأواخر ـ يعني: ليلةَ القدْرِ ـ ، فإن ضعف أحدُكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبعِ البواقِي)).
وأقربُ أوْتارِ السبعِ الأواخرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ لحديثِ أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: والله، لأعلم أيُّ ليلةٍ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله بقيامِها هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ. رواه مسلم.
ولا تَخْتَصُّ ليلةُ القدرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ، بل تَنتَقلُ فتكونُ في عامٍ ليلةَ سبع وعشرينَ مثلاً، وفي عام آخرَ ليلة خمسٍ وعشرينَ، تبعًا لمشيئةِ الله وحكمتِه، ويدُلُّ على ذلك قولُه : ((الُتمِسُوها في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقَى، في خامسةٍ تبقَى)) رواه البخاري. قال في فتح الباري: "أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشرِ الأخيرِ، وأنها تَنْتَقِلُ" اهـ.
وقد أخفَى الله سبحَانه عِلْمَها على العبادِ رحمةً بهم؛ ليَكْثُر عملُهم في طلبها في تلك الليالِي الفاضلةِ بالصلاةِ والذكرِ والدعاءِ، فيزدادُوا قربًا من الله وثوابًا، وأخفاها اختبارًا لهم أيضًا ليتبينَ بذلك مَنْ كانَ جادًّا في طلبها حريصًا عليها مِمَّنْ كانَ كسلانَ متهاونًا، فإنَّ مَنْ حرصَ على شيءٍ جدَّ في طلبِه وهانَ عليه التعبُ في سبيلِ الوصولِ إليهِ والظَفر به، وربَّما يظهرُ اللهُ عِلْمَهَا لبعضِ الْعبَادِ بأماراتٍ وعلاماتٍ يرَاهَا كما رأى النَبيُّ علامتَها أنه يسجُدُ في صبيحتِها في ماءٍ وطينٍ، فنزل المطرُ في تلك الليلةِ، فسجد في صلاةِ الصبحِ في ماءٍ وطينٍ.
عباد الله، ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب ويرد الجواب. ليلة ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غدا بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا أودعتموها؟! وبأي الأعمال ودعتموها؟! أتراها ترحل حامدة لصنيعكم أم ذامة تضييعكم؟! هذا أوان السباق فأين المسابقون؟! هذا أوان القيام فأين القائمون؟!
يا رجال الليل جدّوا ربّ صوت لا يردّ
لا يقوم الليل إلا من له عزم وجدّ
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا اللهَ إنّه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يحِبّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبد الله ورسوله، صلّى الله وبارَك عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِه.
أما بعد: أيها المسلمون، وجّه سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ نصيحة لعامة المسلمين جاء فيها:
"فإن الله قد أوجب على المسلمين التناصح فيما بينهم والتواصي بالحق، يقول الله تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر: 3]، ويقول النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). وإني من باب الشفقة على شبابنا والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم رأيت أن أكتب هذه الكلمة بعدما لوحظ منذ سنوات خروج أبنائنا من البلاد السعودية إلى الخارج قاصدين الجهادَ في سبيل الله، وهؤلاء الشباب لديهم حماسة لدينهم وغيرةٌ عليه، لكنهم لم يبلغوا في العلم مبلغًا يميّزون به بين الحق والباطل؛ فكان هذا سببًا لاستدراجهم والإيقاع بهم من أطراف مشبوهة، فكانوا أداة في أيدي أجهزة خارجية تعبث بهم باسم الجهاد، يحقّقون بهم أهدافهم المشينة، وينفذون بهم مآربهم، في عمليات قذرة هي أبعد ما تكون عن الدين، حتى بات شبابنا سلعة تباع وتشترى لأطراف شرقية وغربية، لأهداف وغايات لا يعلم مدى ضررها على الإسلام وأهله إلا الله عز وجل.
وقد سبق أن حذرنا وحذر غيرنا من الذهاب للخارج بهذه الحجّة؛ لأن الأوضاع كانت مضطربة والأحوال ملتبسة والرايات غير واضحة، وقد ترتب على عصيان هؤلاء الشباب لولاتهم ولعلمائهم وخروجهم لما يسمى بالجهاد في الخارج مفاسد عظيمة منها:
1- عصيان وليّ أمرهم والافتيات عليه، وهذا كبيرة من كبائر الذنوب.
2- وجِد من بعض الشباب الذين خرجوا لما يظنّونه جهادا خلعُ بيعة صحيحة منعقدة لولي أمر هذه البلاد الطاهرة بإجماع أهل الحل والعقد، وهذا محرم ومن كبائر الذنوب.
3- وقوعهم فريسة سهلة لكل من أراد الإفساد في الأرض واستغلال حماستهم.
4- استغلالهم من قبل أطراف خارجية لإحراج هذه البلاد الطاهرة وإلحاق الضرر والعنت بها وتسليط الأعداء عليها وتبرير مطامعهم فيها. وهذا من أخطر الأمور؛ إذ هذا الفعل منهم قد تعدّى ضرره إلى الأمة المسلمة، وطال شره بلادا آمنة مطمئنة، وفعلهم هذا فيه إدخال للوهن على هذه البلاد وأهلها.
ومعلوم أن أمر الجهاد موكول إلى وليّ الأمر، وعليه يقع واجب إعداد العدة وتجهيز الجيوش، وله الحق في تسيير الجيوش والنداء للجهاد وتحديد الجهة التي يقصدها والزمان الذي يصلح للقتال إلى غير ذلك من أمور الجهاد كلّها موكولة لولي الأمر، بل إن علماء الأمة أهل الحديث والأثر قد أدخلوا ذلك في عقائدهم، وأكدوا عليه في كلامهم، وعليه فإن الذهاب بغير إذن ولي الأمر مخالفة للأصول الشرعية وارتكاب لكبائر الذنوب.
كما أوصي أبنائي الشباب بطاعة الله قبل كل شيء، ثم ولاة أمرهم والارتباط بعلمائهم، هذا مقتضى الشريعة. وأوصي أصحاب الأموال بالحذر فيما ينفقون حتى لا تعود أموالهم بالضرر على المسلمين، كما أحث إخواني من العلماء وطلبة العلم على بيان الحقّ للناس، والأخذ على أيدي الشباب وتبصيرهم بالواقع، وتحذيرهم من مغبة الانسياق وراء الهوى والحماسة غير المنضبطة بالعلم النافع.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يرينا الحقّ حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يبصرنا بمواطن الزلل منا، كما أسأله سبحانه أن يعزّ دينه ويعلي كلمته وينصر عباده الموحدين، وأن يحفظ على بلادنا وسائر بلاد المسلمين الأمن والإيمان، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأسأله سبحانه أن يغفر لنا ويرحمنا، وأن لا يسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا، إنه سبحانه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
ثمّ اعلموا أنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ تزكو به أنفسُنا وتعظم به درجاتنا، ألا وهو الإكثار من الصّلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين...
(1/5520)
معان في نهاية رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
28/9/1427
مسجد نوري باني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- شفاعة الصيام لأصحابه. 3- البقاء لله وحده. 4- العدل الإلهي. 5- الاستغفار بعد الطاعات. 6- الوقت رأس مال العبد. 7- الثبات على الاستقامة. 8- رمضان مدرسة. 9- من آداب العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان، تكلمنا فيما مضى من خطب عن عدة جوانب وأمور حول شهر الصيام، واليوم وصلنا إلى الكلام عن نهاية شهر رمضان، فها هو رمضان قد تصرمت أيامه وانتهت لياليه وانفضّ سوقه، فربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، ولَّى رمضان وكأنه لم يكن شهرا بأيامه ولياليه، بل كأنه بضع أيام أو ساعات سرعان ما مرّت، فعجبا لمن لم يقاوم هواه ونفسه ويُرضِ ربه في هذه الساعات القليلة! عجبا لمن يضيّع هذه الساعات القليلة التي تأتي في العام مرة دون أن يعتق بها نفسه من النار! هذه الساعات التي قد ينجيه العمل فيها من أهوال وكرب يوم الدين، يوم يقف بين يدي رب العالمين خائفا وجلا قلبه لدى حنجرته يتمنى لو لم يخلق ويتطلع إلى شفيع أو متفضّل يتفضل عليه بحسنة، في هذا الظرف العصيب يكرم الصائمون بكرامة عظيمة، فبينما يكون المسلم في وجل وخوف يأتيه صومه الذي صامه امتثالا لأمر الله وخوفا من الله، صامه إيمانا واحتسابا، صامه كما يريد الله سبحانه ورسوله ، لا كما يريد هو، كفّ فيه جوارحه جميعا وأمسك عمّا حرمه الله عليه، يأتي هذا الصوم ويطلب من الله أن يشفعه في هذا العبد، فيشفعه الله فيه فيغفر له، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب، منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)) أخرجه أحمد.
يمضي رمضان وتلفظ أيامه أنفاسها لنتعلم من ذهابه أن البقاء لله وحده، وأن لكل مخلوق ولكل شيء مهما طال ومهما عظم نهاية، وأن الزمان والمكان ينتهيان ويفنيان ولا بقاء في هذه الحياة لشيء، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]. فإذا ما استحضرت هذا المعنى علمت ـ يا عبد الله ـ أنك ستمضي أيضا في يوم من الأيام، وستنتهي أيامك كما انتهت أيام هذا الشهر الكريم، وإذا علمت هذا وأيقنته تواضعت ولم تطغَ وأعددت العدة لملاقاة الله عز وجل.
يمضي رمضان ـ أيها الناس ـ مسجّلا في سجل المحسنين حسنات وفضائل تستوجب الثواب والإكرام، وفي سجل المسيئين خطايا وآثاما تستوجب الحساب والجزاء، فتدبروا واعلموا أن ما نقدمه في هذا الشهر وفي غيره هو ما سنلقاه بين يدي الله سبحانه، وهذا مقتضى العدل الإلهي، فليس واردا أن نقدّم خيرا وبرا راعَينا الله فيه واتبعنا سنة نبيه ثم نلقى يوم القيامة شرّا وعنتا، كما أنه ليس معقولا أن نقدم شرا وغفلة وتقصيرا ثم نمني أنفسنا بالمغفرة أو بالمنازل العالية من الجنة، إن الذي نقدمه هو الذي سنلقاه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال تعالى: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ، بل إن الربّ جل وعلا بكرمه وفضله يضاعف لنا الحسنات ويكثِّرها، أما السيئات فتسجّل كما هي، يقول سبحانه: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]، ويقول سبحانه: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا.
فرمضان إذًا صفحات بيضاء وأرض للحرث والبذر، إن شئت ـ أيها المسلم ـ جعلتها جنة وارفة، وإن شئت جعلتها يبابا وصحراء قاحلة، إذًا فلا تتعجب إذا وجدت غير ما تحبّ وتشتهي، فهل تجازى إلا بما عملت وقدمت؟! يقول تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ، ويقول عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]، وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم يقول المولى عز وجل: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
انقضى شهر رمضان وانقضاؤه لا يعني الراحة والدعة، ولا يعني الرضا عما قدمنا، بل انقضاؤه يتطلب إتباعه بالاستغفار حتى يقبله الله سبحانه، وحتى نتدارك ما وقع في صيامنا من نقص أو خلل أو تقصير، والاستغفار بعد الطاعات دأب الأنبياء والصالحين، فمن هديهم أنهم يستغفرون الله سبحانه بعد أدائهم للطاعات، أما نحن فإننا نظنّ أن العبد أبعد ما يكون عن الاستغفار وهو يقدّم طاعة، إنما يستغفر المذنب، هذا هو فهمنا، أما فهم من صفَت سرائرهم وقوي إيمانهم واستنارت بصائرهم فغير ذلك؛ لأنهم يحسون بالنقص والتقصير مهما قدموا، أولئك الذين قال الله عنهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أي: يؤدّون الطاعات والقربات وهم خائفون أن لا تقبل منهم.
إذًا فعلينا بعد أن أدينا فريضة الصوم أن نستغفر الله، وهذا الاستغفار مطلوب بعد كل فريضة، يقول تعالى في سياق ذكره لآخر فريضة الحج: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 199]، ويعلمنا رسول الله الاستغفار بعد الصلاة، ففي صحيح مسلم أن رسول الله كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا، ويخبرنا الله تعالى أيضا عن المتهجدين بين يديه أنهم إذا جاء وقت السحر وهو وقت ما قبل الفجر استغفروا الله، يقول تعالى: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 18]، يستغفرون الله وهم قد قضوا ليلهم قائمين لله. فعلينا ـ عباد الله ـ أن ننهي شهرنا الكريم هذا بالاستغفار عما يمكن أن يكون صاحبه من أخطاء أو زلل أو عُجب أو رياء، وعلينا التضرع إلى الله أن يقبله منا وأن يعيده علينا ونحن أحسن حالا وأصلح قلوبا وأزكى نفوسا.
ذهاب رمضان ـ أيها الناس ـ رسالة إلى كلّ مسلم أن الوقت رأس مالك الأول، والخسارة فيه من أعظم الخسائر، فقد تعوَّض خسارة الأموال ويعود ما ضاع منها، أما خسارة الوقت فإنها لا تعوض ولن نستطيع بأموال الدنيا كلها أن نعيد دقيقة مضت من عمرنا، كما أن ما ضاع من أوقاتنا في غير طاعة الله سوف يكون حسرة علينا يوم القيامة ولن يزيدنا من الله إلا بعدا، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من قوم اجتمعوا في مجلس فتفرّقوا ولم يذكروا الله إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة)) أخرجه الطبراني. فنحن مسؤولون عن أعمارنا كما نسأل عن أموالنا وأعمالنا، وفي الحديث الذي رواه الترمذي أن مما يسأل عنه العبد يوم القيامة: ((وعن عمره: فيم أفناه؟)).
كما أن من أعظم المعاني التي ينبغي أن نستحضرها في نهاية هذا الشهر الكريم أن من فاز بالتوبة في هذا الشهر وفاز بالتعرف على مولاه وذاق حلاوة الإيمان والعمل الصالح لا ينبغي له أن يترك هذا النعيم عند انقضاء الشهر بترك التوبة والاستقامة، بل ينبغي له أن يبقي على هذه المعاني وهذه المشاعر حية في قلبه، وذلك بثباته على التوبة وعلى العمل الصالح، وهذا من علامات صحة الإيمان ومن علامات حلاوة الإيمان التي من ذاقها ثبت على الاستقامة ولم يعد إلى الكفر والفجور، وهذه العلامة ذكرها رسول الله في الحديث المتفق عليه حيث يقول : ((ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)). إذًا فعلامة صحة التوبة وصحة الإيمان عدم الرجوع إلى ساحة المعاصي والآثام.
وينبغي أن نعلم أيضا أن الصوم مدرسة وممارسة نتعلم فيها الإيمان بالغيب والامتثال لأمر الله والصبر على المشاق والمتاعب والشهوات ومشاركة المحتاجين والفقراء مشاعرهم ومعاناتهم، وكل ذلك مما يرضي الله ويحقق الفوز في الآخرة، لهذا حثنا ديننا الحنيف على أن نكون من الصائمين في مختلف أوقات السنة لما للصيام من أثر في تزكية أرواحنا وتهذيب نفوسنا، يقول كما في صحيح الجامع: ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفا)) ، بل ويحثنا على الصوم فور انتهائنا من صيام شهر رمضان فيقول : ((من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصوم الدهر)) أخرجه مسلم، كل هذا لنعتاد على الصوم، هذه العبادة التي ترفع من قدر الإنسان وتسمو بأخلاقه وعقيدته.
فاحرصوا ـ عباد الله ـ على صوم هذه الأيام الست وغيرها من الأيام حتى يكون الصوم شافعا لكم يوم القيامة، وحتى تدخلوا جنة ربكم من باب الريان باب الصائمين، أسأل الله أن لا يحرمني وإياكم دخول جنته من باب الريان، يقول تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، نحن على مشارف العيد الذي شرعه المولى لعباده بعد هذه العبادة التي امتنعوا في نهارها عن المتع والملذات وأحيوا ليلها بصلاة القيام في المساجد، فصفت نفوسهم وزكت أرواحهم، يأتي العيد ليكون فرصة للاستجمام والترفيه عن النفس وتجديد النشاط لمواصلة العمل في هذه الحياة بما يرضي الخالق عز وجل، والعيد كما أنه فرصة للراحة والتوسعة فإنه عبادة يُتقرب بها إلى الله سبحانه؛ لهذا كانت له أعمال وآداب وسنن مستحبة، نذكّر في هذه الخطبة بهذه الآداب التي ينبغي أن يحاول كل منا أن يأتي بها عملا بسنة خير المرسلين.
من هذه الآداب الاغتسال والتطيب قبل صلاة العيد ولبس أحسن الثياب، كما يستحب أكل تمرات وترا قبل الخروج إلى الصلاة، وأن يخرج ماشيا والعودة من غير الطريق التي أتى منها، ومن هذه الآداب الإكثار من التكبير، والتكبير يبدأ من خروج المسلم إلى صلاة العيد حتى مجيء الإمام، وقال بعض أهل العلم: يبدأ التكبير من ثبوت رؤية هلال العيد، فيكبر المسلم بين الحين والآخر في بيته وفي الطريق وفي أي مكان، ويكبر عند خروجه إلى المسجد، ويجهر بالتكبير تعظيما لله، أما النساء فيكبرن سرا، ويستمر التكبير حتى مجيء الإمام عندها ينتهي التكبير ولا يكبر المأموم أثناء الخطبة، بل عليه الاستماع والإنصات، ويستحب حضور النساء لصلاة العيد، فقد أمر بها رسول الله الرجال والنساء، حتى العواتق وذوات الخدور اللاتي لا يخرجن عادة، وذلك ليشهدن الخير ودعاء المسلمين في هذا اليوم العظيم، يقول تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
فاتقوا الله عباد الله، وليكن العيد فرصة للتحابب والتسامح والتقارب والتعاون على البر والتقوى عملا بالوصية الخالدة التي أوصانا بها نبي الرحمة فهو القائل: ((لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) أخرجه البخاري.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وزكاتنا وسائر أعمالنا الصالحة، واجعلها خالصة لوجهك الكريم، اللهم اجعل شهر رمضان شاهدا لنا لا علينا، وأعده علينا مرات عديدة وأزمنة مديدة، واجعلنا ممن يصومونه إيمانا واحتسابا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحّدين برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5521)
عيد الفطر 1428هـ: أثر القرآن في رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, مواعظ عامة
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
1/10/1428
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم العيد. 2- تأثير القرآن الكريم على الصالحين. 3- مواعظ القرآن الكريم. 4- وصايا العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي لا تحصى وآلائه التي تترى.
ألا وإن يومكم هذا يوم شريف، فضله الله وشرفه، وجعله عيدًا سعيدًا لأهل الإسلام، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه، فعن ابن عباس يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السّكك ينادون بصوتٍ تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا، أن توفيه أجره؟ قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، القرآن الكريم كتاب رب العالمين، من تمسك به نجا، ومن خلفه وراء ظهره شقي.
عباد الله، أقبلتم على كتاب ربكم طيلة شهركم، ولا عجب فهو شهر القرآن، فماذا وجدتم؟! لقد كان القرآن موعظة وأي موعظة لمن تدبره؟! لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
لقد كان القرآن وما زال مؤثرًا في القلوب ومؤثرًا في الناس، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ، فيقول وقد امتلأ قلبه رهبة من جلالة هذه الآيات: بلى يا رب قد آن، فيتوب ويقلع. كان من السلف من يصل به الغضب مبلغه، فإذا تليت عليه آيات الله أذعَن لها وخشع لها وأرغم نفسه على العمل بها لما نزل قوله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، فلما سمعها أبو بكر وقد غضب على أحد أقربائه وقد آذاه في ابنته أم المؤمنين بالإفك وكان ينفق عليه قال: والله، لا أنفق عليه بعد اليوم، فلما سمع الآية وقد أخذت بمجامع قلبه هيبة لله وتعظيمًا، قال: بلى والله، أحب أن يغفر الله لي، ثم أرجع نفقته على قريبه كما كانت. هكذا كان كلام الله مؤثرًا في قلوب عباده المؤمنين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، ها أنتم أولاء قد قرأتم كلام ربكم في رمضان، ختمتموه مثنى وثلاث ورباع أو أكثر، قرأتم قصص أنبياء الله وصفوة خلقه، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. أما وقفت عند مشهد ابنَي آدم وهما يمثّلان الخير والشر في البشرية فأيهما اخترت؟! أما وقفت على مشهد نوح وهو ينادي ابنه بعاطفة البنوّة: يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا ، في مشهدٍ للعناد والإصرار على الكفر والعصيان؟! أما تجولت مع أبي الأنبياء تارة مع أبيه وهو يدعوه برفق ولين: يا أبتي يا أبتي، وتارة وهو يقارع الحجة بالحجة: إِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ، قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ؟! ألم تر إلى جهاد موسى مع قومه وعاقبة فرعون وهامان وقارون والعقوبات التي أنزلها الله على يهود؟! ألم تقف عند مشهد لوط وهو يدفع الفاحشة عن قومه فلمّا أصروا على نجاستهم جعل الله عالي أرضهم سافلها وما ربك بظلام للعبيد؟! ألم تقف ـ أيها الشاب ـ عند سورة الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام، وكيف قاوم فتنة النساء وصبر على الأذى والظلم والسجن حتى كانت عاقبته خيرًا؟! ألم تقف ـ أيها المريض ـ عند النبيّ الصابر أيوب وقد ابتلاه بالأمراض والأوجاع ثمانية عشر عامًا، وفقد أهله وأمواله حتى فارقه الناس، فما هو أن نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ؟! ألم تقف عند ذلك النبي زكريا وقد كبر سنّه ورقّ عظمه واشتعل الرأس منه شيبًا فنادى: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ؟! ألم تر ـ أيها الابن المبارك ـ إلى الابن الصالح إسماعيل وهو يعين أباه في بناء أول بيت وضع للناس؟! أرأيت طاعته المتناهية في تقبّل ذبحه فقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ؟! ألم تروا كيف نجّى الله خليله من النار، وكيف أخرج يونس من بطن الحوت، وكيف فلق البحر لموسى، وكيف فدى إسماعيل بكبش عظيم، وكيف نجى يوسف من غياهب الجب ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ؟!
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ألم تتفكروا وأنتم تقرؤون في كتاب ربكم كيف خلق الله السموات بغير عمد وكيف بسط الأرض، كيف أجرى السحاب وحرك الرياح، كيف أنزل القطر من السماء فسلكه ينابيع في الأرض، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ؟! ألم ترَ كيف فلق الله الحبة فإذا هي نبات مختلف ألوانه وطعمه ويسقى من ماء واحد؟! ألم تتفكر يومًا بالليل والنهار فمن يأتينا بضياء إن جعل الله علينا الليل سرمدًا؟! ومن يأتينا بالليل لنسكن فيه؟! ذلكم الله ربكم. ألم ترَ إلى نفسك يومًا؟! وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ، كيف كنت نطفة قذرة، ثم جعلك الله علقة في رحم أمك، ثم مضغة لحم، ثم نفخ الله فيك الروح وكوّن لك العظام والأعصاب والأعضاء، ثم صورك فأحسن صورتك، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المؤمن، كم ناداك الله في كتابه وأنت تتلوه فبماذا أجبت ربك؟! ألم ينادِك الله بوصف الإيمان الذي في قلبك وقال لك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ؟! ألم ينهك الله عن الربا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ؟! ألم يأمرك الله بمعاملة الزوجات معاملة حسنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ؟! ألم ينهك الله عن أكل أموال الناس بالباطل بالغش والاحتيال والرشوة والميسر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ؟! ألم يأمرك الله بالوفاء بالعقود التي وافقت عليها فلماذا تماطل بها وتخالفها؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
يا عبد الله، ألم ينادك الله بوصف الإيمان ويقُل لك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ؟! فكيف تورّط نفسك بهذه الكبيرة التي تذهب عقلك ومالك وأخلاقك؟! هل توقفت الفتاة التي تهاونت في حجابها وهي تقرأ كلام ربها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وقوله: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى.
أيها المسلم، ألم يأمرك الله بالتوبة والرجوع إليه؟! فهلا توقفت عن ذنوبك وتبت منها قبل أن يفجئك الموت؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ. ومن تاب من ذنبه مهما كان أبدل الله سيئات ذنبه حسنات، وكان ربك غفورا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، حياتكم الدنيا سماها ربكم لكم في القرآن بأنها متاع الغرور، وإن أمامكم ليوم يشيب له الولدان، نثر الله وصف هذا اليوم في آيات كثيرة لتذكير العباد بيوم المعاد ويوم الحاقة والصاخة والواقعة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وإذا الأرض زلزلت، وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وإِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ، وإِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى.
ألم يهزك منظر انقسام الناس والقرآن يحدثك عن الفريقين يوم القيامة، ففي أي الفريقين أنت؟! يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق: 7-15].
والقرآن كتاب ترغيب وترهيب حتى يعيش المؤمن بين حالتي الخوف والرجاء، تارة وصفٌ للجنة فتشتاق لها نفوس الصالحين، وتارة وصف للعذاب وهوله ذكرى لمن كان له قلب، وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 39-49]، حتى يقول في وصف أهل النار: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 62-68].
جعلني الله وإياكم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، فاستغفروا ربكم إن ربكم لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) ، وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، ولا تنسوا الأيتام والأرامل والفقراء، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تضيعوا حسناتكم في رمضان، وصلوا أرحامكم، وزوروا مرضاكم، واعرفوا أن للوالدين حقًّا عظيمًا، وتفكروا فيمن صلى معكم في سنين خلت وأيام مضت من الأقرباء والمعارف والخلان كيف اخترمتهم المنايا وأتاهم أمر الله، فإنَّ ما نزل بهم ملاقيكم، فأحسنوا العمل، وأقصروا الأمل؛ تنجوا من عذاب عظيم وتفوزوا بالنعيم المقيم.
أعاد الله عليَّ وعليكم وعلى المسلمين من بركات هذا العيد، وجعلنا في القيامة من الآمنين، وحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، عليه الصلاة من رب العالمين.
اللهم اجعل عيدنا فوزًا برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا، ورفعت فيه درجاتنا.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وصحابته المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين وبقية الصحب والتابعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أرحم الراحمين...
(1/5522)
عيد الفطر 1427هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
غازي بن مرشد العتيبي
الجموم
1/10/1427
مصلى العيد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد التقوى. 2- حث المجتهدين على الثبات والمقصرين على التوبة. 3- طريق السعادة والنجاة. 4- الأمر بالمحافظة على أركان الإسلام. 5- التحذير من قتل الأنفس المعصومة بغير حق. 6- نصائح للشباب. 7- الحث على بر الوالدين وصلة الأرحام. 8- أهمية تربية الأولاد. 9- رعاية الإسلام لحقوق المرأة. 10- الوصية بأداء الحقوق إلى أهلها. 11- حكم الشركات المساهمة. 12- زكاة الفطر. 13- الحث على صيام الست من شوال. 4- الثبات على الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي بلّغنا شهرَ رمضان، وأفسح لنا في الآجال، وأمدّ لنا في الأعمار إلى تمامه، والشكرُ لله أنْ هدانا لشهر الخير والغفران، وأعاننا على صيامِه وقيامِه، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية: 36، 37].
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أنّ الله خلقكم لتحقيق تقواه كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] , وشرع لنا صيام رمضان لتحقيق التقوى كما قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] , وقال في آخر آيات الصيام: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187].
وإنّ تقوى الله ليست صيام النهار وقيام الليل والخليط بينهما، ولكن تقوى الله أن تفعل ما أمرك الله به، وتترك ما نهاك الله عنه، كما فسرها بذلك الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
فمن قضى شهره وقد أثمر صيامه وقيامه في قلبه تقوى الله ومخافةً منه ورغبةً فيما عنده فليحمد الله على التوفيق، وليلزم هذا الطريق، وليبشر بوعد الله للمتقين في قوله: وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 35]، وقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان: 51، 52] ، وقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
وأمّا من أدرك رمضان وهو مبارزٌ لله بالمعصيةِ مستمرٌ على المخالفةِ فليراجع نفسه، وليعلم أنّ الله لا يتقبل إلاّ من المتقين كما قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ، وليبادر بالتوبة والإقلاع عن المعصية، فإنه لا يدري لعله يأتي رمضان من قابل وقد قضى نحبه، وأفضى إلى ربه، وندم على تفريطه، وتمنى على الله الأماني ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 5، 6].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها الناس، إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلقنا عبثًا ولم يجعلنا هملاً، وإنّما خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، وأخبرنا أنّ الشرك به ظلمٌ عظيمٌ، وأنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
وبعث الله إلينا نبيه بالبينات والهدى بشيرًا ونذيرًا، وجعله رحمةً للعالمين، فبلّغ رسالة ربه بلاغًا مبينًا، وترك أمته على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك، ولم يترك خيرًا إلاّ دلّ أمته عليه، ولا شرًّا إلاّ حذّرها منه إلى أنّ تقوم الساعة. وأنزل الله عليه شريعةً شاملةً كاملةً، صالحةً بل مصلحةً لكل زمانٍ ومكان، لا تحتاج لأن يُزادَ فيها شيء أو يُنقَص منها شيء؛ لأنّ الزيادة فيها ابتداعٌ في الدينِ وتشريعٌ من دون رب العالمين، والنقص منها تفريطٌ وإخلالٌ وتقصيرٌ وإهمال.
فمن أراد السعادة وحُسنَ الإكرام والوِفادة فليلزم ما جاء به هذا النبي الكريم ، فإنّه لا طريق للجنة إلاّ من طريقته، ولا فلاح في الدنيا والآخرة إلاّ باتباعه وطاعته ، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إنّ الصلاة فريضةٌ محكمة، لا يجوز تضييعها وتأخيرها عن وقتها، يقول الله عزّ وجل: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4، 5] ، قال ابن مسعود : ( ليس الذين يتركونها بالكلية، ولكنّهم الذين يؤخّرونها عن وقتها). لقد توعد الله من يؤخر الصلاة عن وقتها مع أنّه يصلي فكيف بمن ضيّع الصلاة بالكلية؟! يقول سبحانه: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم: 59، 60]. فأقيموا الصلاة رحمكم الله، وحَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238].
واعلموا أنّ الزكاة حقٌ لله يجب أن يؤتى؛ في بهيمة الأنعام والحبوب والثمار والذهب والفضة وما أُعدّ للبيع والشراء، وأنّ المال الذي لا يُزَكّى تذهب بركته في الدنيا، ويكون عذابًا لصاحبه يوم القيامة، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثّل له شجاعًا أقرعًا ـ أي: قد سقط شعر رأسه لكثرة سُمّه وطول سنه ـ له زبيبتان ـ أي: نقطتان سوداوان فوق عينيه ـ يطوّقهُ يوم القيامة ويقول: أنا مالُك أنا كنزك)). فأدّوا زكاة أموالكم، وطِيبوا بها نفسًا ، وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39].
واشكروا الله على نعمة الصيام، ومن أفطر منه وجب عليه أن يقضي عدّة ما أفطر من أيام أُخَر كما أمر الله بذلك فقال: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185].
ولا تتهاونوا في أداء فريضة الله في الحج، ولا تؤخروه عن زمان الوجوب وأنتم قادرون عليه، فإنّ الله كفّر من كان له سبيل إلى الحج فتركه حتى مات فقال سبحانه: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97]، وقال عمر بن الخطاب : (لقد هممتُ أن أبعث إلى الأمصارِ فينظروا إلى كلِّ من عنده جِدَة ـ أي: قُدرة ـ فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين ).
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، إنّ من أعظمِ المآثمِ وأخطرِ الجرائمِ أنْ يُسفَكَ دمُ امرئٍ مسلمٍ بغير سلطان أو تُزهقَ روحه من غير برهان، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
إنّ التفجيرات والمواجهات المسلّحة التي تُزهَق منها الأنفس المعصومة لا تبني أمّةً ولا تنصر دينًا ولا تدحر عدوًّا، بل هي على الضدّ من ذلك، ومن نظر في التاريخ عَلِمَ أنّها لا تجرّ على الديار إلاّ الخراب والدمار والفساد والتبار.
أيها الشبابُ المعتزُّ بدينه، إنّ الحماس المتوقّد الملتهب لا يكفي في نصرة الدين والدفاع عنه، بل لا بد من الاستنارة بنور الكتاب والسنّة والاستشارة للعلماء الربانيين، فإنّهم مصابيح الإسلام والمميزون بين الحق والأوهام ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83].
واعلموا أنّ دين الله منصور بنصر الله ووعدهِ، ولكنّ النصر له شروط لا بدّ منها، ذكرها الله في كتابه فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 45، 46]. فاحذروا العجلة والتهور، وعليكمُ السكينةََ السكينةََ.
وأمّا الشباب الذين غرّتهم الحياة الدنيا وخدعهمُ التسويفُ وطولُ الأمل واتّبعوا أهواءهم وأعرضوا عن طاعة الله فليعلموا أنّ الدنيا متاعٌ زائلٌ ونجمٌ آفلٌ، وليتوبوا إلى الله، وليثوبوا إلى رُشدهم، وليعلموا أنّه ما فرح أعداء الأمة الإسلامية بشيءٍ أشدَّ من فرحِهِم بفساد أبناء المسلمين.
اللهمّ أصلح شباب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنّبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 18، 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكرمنا بأفضل الأديان وأعظم الشرائع، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وعد بجنةٍ عرضها السموات والأرض كلَّ عابدٍ وطائع, وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله خير ساجد وراكع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم وتابع.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ تقوى الله زاد المؤمنين ووصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ [النساء: 131].
أيّها الناس، لقد أوجب الله علينا برّ الوالدين، وأمرنا أن نخفض لهما جناح الذُلّ من الرحمة، وأن نُحسن إليهما ولا سيّما عند العجز والكبر، ونقول لهما قولاً كريمًا، فبرّوا الآباء والأمّهات، وإيّاكم وعقوق الوالدين، فإنّه نُكرانٌ للجميل ومعصيةٌ للجليل، وإنّ رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين، واحذروا من قطيعة الرحم فإنّها متعلَّقة بعرش الرحمن، تقول: من وَصَلَني وصله الله، ومن قطعني قَطَعه الله، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها.
واعلموا أنّكم مسؤولون بين يدي الله عن تربية أولادكم وتأديبهم على الأخلاق الفاضلة والشمائل الكريمة، كما قال الله سبحانه وتعالى : يَا أيُّها الَّذيِنَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأهْلِكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غَلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، قال علي : (معناها: علّموهم وأدّبوهم). وإنّ بداية صلاح الأبناء والبنات هي صلاح الآباء والأمّهات، وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [الأعراف: 58].
واستوصوا بالنّساءِ خيرًا، وعاشروهنّ بالمعروف، ولا تنسوا الفضل بينكم، يقول : (( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقا, وخياركم خياركم لنسائهم )) رواه الترمذي وقال: "حسنٌ صحيح".
واعلموا أنّ الإسلام قد كفل للمرأة من الحقوق ما لم يكفله لها دين من الأديان أو نظامٌ من الأنظمة، وإنّ حرّية المرأة وكرامتها في تمسكها بدينها واستقامتها عليه، وإنّ الأسود الضاحكة التي تدعو لتحرير المرأة إنّما تريد أنْ تجعلها دُمْيَةً لها وفريسةً لشهواتها، وأيّ حرية للمرأة أعظم من الحرية التي تعيشها في ظل تعاليم الإسلام وَهَدْيِه؟!
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، اعلموا أنّ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأنّ من حق المسلم على أخيه أنْ يحفظ دمَه ومالَه وعِرضَه ، ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) ، واحذروا مِن أكل مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10].
وإيّاكم وحقوق العمّال والأُجَراء والخدم والصِّبيان، أعطوا الأجير أجره قَبل أن يجفَّ عرقُه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمَه خصمتُه: رجلٌ أعطِى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حرًّا وأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
واحذروا شهادة الزور والكذبَ والفجور والغدر والخيانة؛ فإنّها بئست البِطانة، وطهّروا ألسنتكم من الغيبة والنميمة والسخرية من المسلمين والاستهزاء بالدين، وطهّروا قلوبكم من الغل والحقد والحسد، وكونوا من عباد الرحمن الذين قال الله عنهم: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55].
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً.
أيها المؤمنون، لقد فتح الله عليكم أبواب الأرزاق، وهيأ لكم أسبابًا لم تُعْهَد فيمن قبلكم، ورزقكم رزقًا حسنًا، وأطعمكم من جوع، وآمنكم من خوف، وقد أخذ على نفسه العهد لئن شكرتم ليزيدنَّكم، ومن أسباب الرزق التي فتحها الله لعباده في زماننا هذا المتاجرة في الشركات المساهمة، وهذه الشركات المساهمة على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: شركاتٌ تتعامل بمعاملاتٍ مباحةٍ سواءً كانت تجاريةٍ أو صناعيةٍ أو زراعيةٍ أو غيرِ ذلك، ولا تشترط شروطًا محرمةً في هذه الأعمال، فهذه الشركات تجوز المساهمة فيها بلا إشكال.
النوع الثاني: شركاتٌ تتعامل بمعاملاتٍ محرّمةٍ كالربا وتصنيعِ الخمور أو بيعِ لحمِ الخنزير وما شابه ذلك، وهذه لا تجوز المساهمة فيها بلا إشكال.
النوع الثالث: شركاتٌ أصلُ نشاطها مباحٌ لكنّها تتعاملُ بمعاملاتٍ محرمةٍ كالإيداع في بنوكٍ رِبويةٍ مَعَ أخذِ فائدةٍ على ذلك، أو تأخذ ضمانات فاسدة، أو تأخذ قروضًا بفوائد، أو تعقد عقودًا فاسدة، وأكثر الشركات من هذا النوع، وقد اخْتَلَفَ فيها الفقهاءُ المعاصرون على قولين:
فذهبت طائفةٌ إلى تحريم المساهمة فيها؛ لأنّ ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، ولأنّ ما فيها من المفاسد أعظم من المصالح المترتبة عليها.
وذهبت طائفة إلى جواز المساهمة فيها مع اشتراط تقدير نسبة المال الحرام والتخلص منه في أوجه الخير، وذلك مراعاةً لحاجة الناس.
والقول بالتحريم قولٌ قويٌّ، ولا سيّما أنه يوجد بدائل مباحة في تنمية الأموال واستثمارها، وهي تغني عن المعاملات المشتبهة أو المحرّمة.
والمؤمن الصادق يتورّع عمّا فيه شُبهة، كما في الحديث الصحيح: ((فضلُ العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)) ، وهذا عمر بن الخطاب جاءه مال من البحرين فيه مسك وعنبر فقال: والله، لوددت أنّي أجد امرأةً حسنةَ الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أفرّقه بين المسلمين، فقالت امرأته عاتكة: أنا جيّدة الوزن فهلمّ أزِنُ لك، قال:لا، قالت: ولِمَ؟! قال: إنّي أخشى أن تأخذيه هكذا ـ وأَدخَل أصابعه في صدغيه ـ وتمسحين به عُنْقَكِ فأصيبَ به فضلا على المسلمين.
فتورّعوا عن هذه المعاملات الملتبسة، واعلموا أنّه مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، ((ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها)) ، وقد أخبر النبي في الحديث الصحيح: ((إنّ الرزق يطلب ابن آدم كما يطلبه أجله)) ، وفي لفظ: ((إنّ الرزق يطلبه أكثر ممّا يطلبه أجله)).
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، لقد شرع الله لنا في ختام هذا الشهر عبادة عظيمة، وهي زكاة الفطر، وجعلها طُهْرَةً للصائم من اللغو والرفث، فمن أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة إنْ شاء الله، ومن أخّرها عن الصلاة من غير عذر فليبادر بإخراجها وليستغفر الله من ذلك.
وهي صاع من غالب طعام البلد على الذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، ويستحب أن تُخرج عن الحمْلِ ولو في بدايته، لفعل عثمان.
ويستحب أن يُصام ستة أيام من شوّال, لقوله : ((من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوّال فكأنّما صام الدهر)) ، ومن عليه قضاءٌ فليبدأ بالقضاء ثم يصوم هذه الست؛ لأنّ الفرائض مقدمة على النوافل.
أيّها المسلمون، إنّ الطاعات لا تنقطع بانقضاء رمضان، وقد أثنى الله على الذين يديمون الأعمال الصالحة فقال: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج: 23]، وكان عمل النبي دِيمَةً، وإذا عَمِل عملاً أثبته، وقال: ((أحبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ)). فأديموا أعمالكم الصالحة من الصلاة وقراءة القرآن وكثرة الذكر والإحسان، واعلموا أنّ من علامات القبول الحسنة بعد الحسنة.
أيّها المسلمون، إنّ يومكم هذا يوم عيد وفرح، وهو شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام الظاهرة، فلا تُعكّروا صفْوَهُ بالهُجران والقطيعة، وأفشوا السلام بينكم، وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء: 86].
وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 130-132].
وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5523)
الاستدامة على الطاعة
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
1/10/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استدامة أمد الطاعة. 2- مدرسة رمضان. 3- الحث على إتباع الحسنة بالحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عِبادَ الله، إنّ في وصلِ البرِّ بالبِرّ وإتباع الخير بالخيرِ والحسَنَة بالحسنة آيةً بيِّنةً على حُسنِ وعيٍ وصِحّة فهمٍ وكمال توفيقٍ، حظِي به المتّقون من عباد الرحمن والصَّفوة من عباد الله والأفذاذِ من أولي الألبابِ، الذين يرونَ في استدامةِ أمدِ الطاعةِ وفي امتداد زمانها نعيمًا لا يعدله في الدنيا نعيمٌ وأملاً باسمًا لا يماثله أملٌ؛ ذلك أنّهم يستيقنون أنّ الطاعةَ ليس لها زمنٌ محدود تنتهي بانتهائه، وأنّ العبادةَ ليس لها أجل معيَّنٌ تنقضي بانقضائه، بل هي حقُّ الله على العباد يعمُرون به الأوقاتَ ويستغرقون فيه الأزمانَ؛ رغبةً في الظفَر بموعود الله لهم الواردِ في قوله عزّ اسمه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ [المرسلات: 41-44]، وتأسّيًا بهدي خير العبادِ صلوات الله وسلامه عليه الذي كان عملُه ديمةً أي: دائمًا لا يختصّ بزمان كما أخبرت بذلك أمّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره، وحدّثت رضي الله عنها أيضًا أنّه قال: ((أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى أَدوَمُها وإن قلَّ)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ لأنّه بدوام القليل ـ كما قال بعض أهل العلم ـ تدوم الطاعةُ والذكرُ والمراقبة والنيّة والإخلاص والإقبالُ على الخالق سبحانه، ويُثمر القليل بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرةً.
ولقد كان شهرُ رمضان ـ يا عباد الله ـ ميدانَ تنافُس الأبرارِ ومجالَ تسابُق الأخيار وعاملَ تهذيبٍ وترويضٍ لنفوسِ أهلِ الإيمان ومدرسةً رائعة للسموّ الروحيّ والكمال النفسيّ والإصلاح الخُلُقيّ، فليس عجبًا إذًا أن يُدعى المؤمنُ إلى الحرصِ على استمرار السّير على طريق رمضان ومواصَلَة الخُطَى على نهجِ الخير الذي سمت به ومسلك الرشدِ الذي ارتقت به النفوسُ في هذا الموسم العظيمِ؛ حفاظًا على هذه المكاسبِ العظيمة الكريمة، وحَذَرًا من النكوص على الأعقاب بالعودة إلى طاعة الشيطان واتِّباع خطواته بعدما ذاقت لذّةَ القرب في طاعة الرحمن والاستقامة على أمره، وهل يصحُّ لمن صام حرًّا بعتقِ الله له من النار هل يصحّ له أن يعودَ طوعًا إلى رقِّ الخطايا وعبودية الأوزار؟!
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعملوا على مرضاةِ ربّكم بالاستدامة على طاعته والاستمرار على عبادته، وحذارِ من التردّي في وهدةِ المعصية بعدما ترقّيتم في مدارجِ الطاعة، وأتبعوا السيّئةَ الحسنةَ كلّما زلّت بكم الأقدام أو طاشتِ الأحلام؛ يمحُ الله بها الخطايا ويرفَع بها الدّرجات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 114، 115].
نَفَعَني الله وإيّاكم بهَديِ كتابِه وبِسُنَّة نَبيِّه ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجَليلَ لي ولَكم ولِسائِر المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغَفورُ الرّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ المعبودِ في كلّ حين، أحمدُه سُبحانَه وليّ الصالحين، وأشهَد أَن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريكَ له، وأَشهَد أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسولُه المبعوث رحمةً للعالمين، اللّهمّ صلّ وسلّم على عَبدك ورسولِك محمّد، وعلى آله وصحبِه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، نُقل عن الحسن البصريّ رحمه الله قولُه: "إنّ الله لم يجعل لعملِ المؤمنِ أجلاً دون الموت"، ثمّ قرأ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، وقيل لبعضِ السلف: إنّ قومًا يتعبّدون ويتهجّدون في رمضان فإذا انتهى رمضانُ تركوا! فقال: "بئس القومُ لا يعرفون الله حقًّا إلا في رمضان".
فاتّقوا الله عبادَ الله، واعملوا على دوام طاعة الله مستغرقين به اللياليَ والأيامَ، واذكروا أنّ ثوابَ الحسنةِ الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثمّ أتبعها بمثلها دلَّ ذلك على قبولها، ومن عمل حسنةً ثمّ أتبعها بسيّئةٍ دلَّ ذلك على ردِّ الحسنة وعدم قبولها كما نقِل ذلك عن بعض السلف رضوان الله عليهم.
ألا وصلّوا وسلّموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم عَلى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة...
(1/5524)
مفهوم العبادة في الإسلام (2)
التوحيد
الألوهية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
18/10/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف العبادة. 2- كيف يحقق المسلم تمام العبودية لله؟ 3- شمولية العبادة وذكر بعض العبادات التي يذهل عنها الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد تعرفنا في الخطبة السابقة على مفهوم العبادة في الإسلام، وأن العبادة تشمل حياة المسلم كلها، وليست محصورة في الصلاة والصيام والزكاة والحج، مع ما لهذه الشعائر العظيمة وغيرها من أركان الإيمان والإسلام من منزلة وأهمية، ومع أن هذه الشعائر تمثل القاعدة الأساسية في الإسلام من غير شك، فليست العبادة محصورة فيها ولا بين جدران المسجد، وإنما هي كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"، وأَتْبَعَ هذا التعريف بما يُعَدُّ في الإسلام عبادة وأن للعبادة أفقًا رحبًا ودائرة واسعة، وهذا ما فهمه وعرفه هو وغيره من العلماء الأقدمين والمعاصرين، وفهموا معنى قول الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
إن في استطاعة كل مسلم ومسلمة في كل لحظة وساعة من ساعات الليل والنهار أن يعمل عملاً من الأعمال المشروعة يكتب له بها حسنات كثيرة تضاف إلى رصيد عبادته وحسناته، فمنها ما يقتصر على نفس العامل المسلم، ومنها ما يتعدى نفعه إلى غيره من الآدميين والحيوانات والطيور وغيرها.
فأما أنواع الأعمال والأقوال التي تقتصر فائدتها ويعود نفعها إليه وبها يكسب حسنات لشخصه فمثل أنواع الذكر من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والاستغفار والصلاة على النبي والأذكار عند دخول المسجد والخروج منه ودخول البيت والخروج منه عمومًا لصلاة أو لغيرها والخلاء ونزول أي منزل كان وركوب الدابة وأذكار الصباح والمساء وبعد الصلوات المفروضة وعند النوم والاستيقاظ منه وعند الوضوء وسماع الآذان وعند الأكل والشرب وعند الجماع، وكذلك تلاوة القرآن الكريم والاستماع له والمشي إلى المساجد والجلوس فيها لانتظار الصلاة أو لاستماع الذكرى والموعظة، ومنها أيضًا التواضع في اللباس والمشي وعدم التبختر والكبر والخيلاء والإعجاب بالنفس وابتعاد الرجال عن الإسبال في الثياب وعدم التختم بالذهب أو التشبه بالنساء أو تشبه الجنسين بأعداء الله والمحافظة على الوضوء والسواك والنظافة والتطيب والاكتحال وسنن الفطرة الأخرى، ومنها اكتساب الحلال والسعي في مناكب الأرض لطلب الرزق الحلال والابتعاد عن الحرام والتحري في طلب الحلال واتقاء الشبهات، ومنها أيضًا محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها والتوبة من الذنوب السالفة والإقلاع عنها وعدم العودة إليها والبكاء من خشية الله تعالى والتفكر في ملكوت السماوات والأرض وفي أمور الآخرة وما فيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك مما يزيد الإيمان في القلب وينشأ عنه كثير من أعمال القلوب كالخشية والمحبة والرجاء والتوكل وغير ذلك، وقد قيل: إن هذا التفكر أفضل من النوافل البدنية، قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران: 190، 191]، وقال رسول الله لبلال: ((وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) الآية، ثم قال: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) ، وقال تعالى: قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس: 101]، وكذلك خلق الإنسان وفي نفسه ومن أي شيء خُلق وإلى أي شيء ينتهي في هذه الحياة وكيف يكون بعد الموت والبعث والنشور والآيات الموجودة فيه وخاصة ممن أوتي علمًا في هذا المجال، وكذلك من لم يكن لديه علم باستطاعته التفكر في نفسه وكم من الآيات في الأرض وما فيها كذلك، قال تعالى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21]. فهذه الأعمال التي سبق ذكرها فإن نفعها وفائدتها للشخص نفسه.
أما التي يتعدى نفعها إلى الآخرين إما لشخص بعينه أو للمجتمع وتعتبر في الإسلام عبادة ويستطيع المسلم أن يضيف الشيء الكثير من الأجر إلى رصيده من الحسنات بعد توفيق الله له وقبول العمل متى صلحت النية وخلصت له سبحانه ووافقت السنة فتبدأ من بيت المسلم وأسرته بتعليم الزوجة أمور دينها وإرشادها وتوجيهها والإحسان إليها في المعاشرة والنفقة وإعفافها عن التطلع إلى الحرام وقضاء الشهوة التي تعتبر صدقة وعبادة متى أراد أن يعفَّ نفسه وزوجته وأن يخرج من صلبه الذرية الصالحة التي تعبد الله في الأرض ويقول الدعاء المأثور في ذلك، ثم مع أولاده في تربيتهم وتوجيههم وتعليمهم والعدل والمساواة بينهم وتنشئتهم التنشئة الإسلامية وحثهم على الالتزام بتعاليم الإسلام في الصلاة والصيام والزكاة والحج وجميع أركان الإيمان والإحسان، وتعليمهم كيفية التأدب في الحديث مع الناس ومعاملتهم الصغير والكبير وأدب الأكل والشرب وذكر الله في البداية والنهاية وعند النوم واليقظة ودخول المسجد والخروج منه ودخول البيت والخروج منه والخلاء وركوب السيارة وغيرها وجميع أنواع الذكر المأثورة والصحيحة، كل ذكر في موضعه اتباعًا للسنة وابتعادًا عن البدعة، مع تلقينهم ما أمكن من التعاليم الإسلامية التي تسير في عروقهم ودمائهم حتى يكونوا أعضاء صالحين مصلحين في المجتمع بإذن الله، وكذلك سعيه عليهم لطلب الرزق يعتبر عبادة، وإحسانه وبره لوالديه إن كانا أو أحدهما على قيد الحياة ومواصلة أصدقائهما وإنفاذ عهدهما بعد موتهما كل ذلك من العبادة، وصلة الأرحام عبادة، والإحسان إليهم وتحمل أذاهم والتصدق عليهم صلة وصدقة، والإحسان إلى الجار وكفّ الأذى عنه والهدية له وتفقد أحواله، والإحسان إلى اليتيم وخاصة إن كان تحت يديه هو أو ماله وحتى المسح على رأسه يعتبر صدقة وعبادة.
ومن أنواع العبادة ردُّ السلام وغضُّ البصر وتشميت العاطس وكف الأذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإماطة الأذى عن الطريق، وحتى صلة الحبل وما كان في معناه في هذا الزمن وشسْع النَّعْلِ والإفراغ من الدَّلْوِ في إناء المستسقي وإن كان هذا غير موجود في المدن ولكن قد يكون في أي مكان وقد يُحتاج لاستعمال الأباريق وأي إناء آخر، فالإفراغ منها يعتبر صدقة وعبادة، وتَبَسُّمُكَ في وجه أخيك صدقة، والوجه المنطلق وكف الأذى عن الناس عمومًا باليد أو باللسان، والعدل بين الناس وإصلاح ذات البين، وإعانة الرجل على دابته وسيارته ومساعدته في أي عمل مباح والكلمة الطيبة كل ذلك من العبادة، وإخراج الأذى من المسجد وتنظيفه وتبخيره وتجميره، وإعانة ذي الحاجة الملهوف، وإسماع الأصم وتبصيرُ المنقوصِ بَصَرُهُ وهداية الأعمى أو غيره الطريقَ، والبيان عمَّن لا يطيق الكلام فيما يحتاج لبيانه لوجود آفة في لسانه أو لِعُجْمَةٍ في لغته، وزيارة المريض واتباع الجنازة والصلاة على الميت وإجابة الدعوة ما لم يكن فيها محرّم، وبذل النصيحة، إبرار القسم، الكف عن الظلم ونصرة المظلوم، إرشاد الضال، تعليم الجاهل، إيواء الغريب، إهداء الحائر، الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة من البهائم والحيوانات، إنظار المعسر وإقراض المسلم، المشي مع المسلم لقضاء حاجة بحق، الصدق والأمانة والإخلاص والوفاء بالعهد والوعود والإيثار والمواساة والحلم والأناة والرفق واحتمال الأذى والصبر والعفو والإعراض عن الجاهلين والوقار والسكينة وإكرام الضيف والورع وترك الشبهات، وكل ما له علاقة بخلق المؤمن من صفات محمودة مع الابتعاد عن المذموم من صفات وأخلاق المنافقين والفاسقين وغيرهم كل ذلك يعتبر من العبادة، والابتعاد أيضًا عن الغيبة والنميمة والتجسس وشهادة الزور وسوء الظن والكذب والافتراء والبهتان واللعن والسب الشتم والمنّ بالعطية والحسد واحتقار المسلمين وإظهار الشماتة بهم والطعن في الأنساب وسماع الأغاني، وحبس اللسان والسمع والنظر وجميع الجوارح والابتعاد عن ذلك يعتبر عبادة وقربة إلى الله عز وجل، والابتعاد عن الربا وجميع المعاملات المحرمة في البيع والشراء وأكل أموال الناس بالباطل وعن اللواط والنظر المحرم والاختلاط وشرب الخمور وعن الشفاعة في الحدود وحبس النفس وكبح جماحها وعدم ترك العنان لها وكل محرم من المحرمات والابتعاد عنها يعتبر عبادة.
وأعجب من هذا أن النبي أخبر بأن الأعمال الدنيوية التي يقوم بها المسلم لمعيشته والسعي على نفسه وأهله تعتبر من أبواب العبادة والقربات إلى الله تعالى، فالزارع في حقله والعامل في مصنعه والتاجر في متجره والسائق في سيارته والجندي في حراسته والطالب في مدرسته ومعمله والمعلم في قاعته وفصله والموظف في مكتبه وكل ذي حرفة في حرفته، كل هؤلاء وغيرهم في استطاعتهم أن يجعلوا من أعمالهم المعيشية عبادة وجهادًا في سبيل الله ويحوِّلوها من العادة إلى العبادة إذا التزموا الشروط التالية:
1- أن يكون العمل مشروعًا في الإسلام، لا أن يكون محرمًا كالعمل في الربا والحانات والمراقص ونحوها.
2- أن تصحبه النية الصالحة، ونية المسلم إعفاف نفسه وإغناء أسرته ونفع أمته وعمارة الأرض كما أمر الله.
3- أنْ يُؤَدِّيَ المسلمُ العملَ بإتقان وإحسان وأمانة وإخلاص.
4- أن يلتزم فيه حدود الله، فلا يظلم ولا يغش ولا يخون ولا يجور على غيره، وأن يلتزم العدل والمساواة بين الناس في المعاملة.
5- أن لا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية الأخرى مثل الصلاة، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الآية [النور: 37]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون: 9]. عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مَرَّ على النبي رجلٌ فرأى أصحاب رسول الله مِنْ جَلَدِهِ ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! ـ أي: في الجهاد لأنه من أفضل العبادات وهو ذروة سنام الإسلام ـ فقال رسول الله : ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20]، فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10]، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي فطر الخلق على الدين القيم ملة محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ووفق من شاء برحمته فاستقام على هدي النبيين والمرسلين، وخذل من شاء بحكمته فَرَغِبَ عن هديهم وسنتهم فكان من الخاسرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوز بدار النعيم والنجاة من العذاب الأليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق طريقة وأقومهم شريعة وأقربهم إلى الخير العميم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله وكتابه، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها.
فخير الهدي هدي رسولنا محمد ، والهدي هو الطريقة والشريعة والسنة التي كان عليها رسول الله في العبادات والمعاملات والأخلاق الظاهرة والباطنة، فعلى المسلم أن يهتدي بهدي رسول الله ، ومعلوم أن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصًا لله تعالى وصوابًا على سنة رسول الله لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)) أي: مردود عليه.
لقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه المشهور المسمى: زاد المعاد في هدي خير العباد، ذكر هدي رسول الله في كل مجالات الحياة وطريقة عبادته لله رب العالمين،وكيفية تعامله مع الخلق أجمعين؛ المسلم والكافر، المؤمن والمنافق، اليهودي والنصراني، الإنس والجن، الطير والحيوان، الحجر والشجر والمدر، السحاب والرياح والمطر، الشمس والقمر، كل شيء في الكون كيف كان يتعامل معه في عبودية كاملة لله رب العالمين، وكيف كان هديه في كل أموره وشؤونه الخاصة والعامة، ومما قاله رحمه الله تعالى حول هدي رسول الله : "لقد كان رسول الله أكمل الخلق ذكرًا وعبادة لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرًا منه وعبادة لله عز وجل، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرًا منه له سبحانه وتعالى، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرًا منه لله تعالى، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرًا منه له جل جلاله، وسكوته وصمته ذكرًا منه له بقلبه، فكان ذاكرًا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه وسيره ونزوله وظعنه وإقامته، وعند نومه ويقظته، وعند دخوله وخروجه، هكذا كانت عبادة رسول الله ".
فعلى المسلم أن يتبع هدي رسول الله ، وعليه الابتعاد عن البدع، فكتب الحديث الصحيحة زاخرة بالكثير والكثير بما يفيد المسلم ويستطيع معه أن يضيف إلى رصيده من الحسنات الشيء الكثير في كل وقت من الأوقات آناء الليل وأطراف النهار دون رسوم ودون مراسيم معتادة، بل الكل في ذلك سواء، ولن يأتي أحد بأفضل مما أتى به غيره إلا إذا سبقه ونافسه بكثرة الحسنات في مجاله، ولكن كما سبق يجب أن يضع المسلمُ نصْبَ عينيه إخلاصَ العمل لله تعالى وصوابَه بأن يكون على ما جاء به رسول الله ؛ لأن الله جل جلاله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وصوابًا، والأدلة على إخلاص العمل وصوابه معلومة لدى كل مسلم ولا يتسع المقام لذكرها، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163].
وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وآله...
(1/5525)
صفة الصلاة وما يتعلق بها
فقه
الصلاة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/6/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أحكام الوضوء. 2- صفة صلاة النبي. 3- الأذكار المأثورة بعد الصلاة. 4- السنن الرواتب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد تعرفنا على بعض أحكام الصلاة من حيث تركها ووجوب أدائها جماعة في المساجد بالنسبة للرجال الذين ليس لهم عذر شرعي، ولا زلنا مع بعض ما يتعلق بالصلاة، وفي هذه الخطبة أورد كلمات موجزة في بيان صفة الصلاة مقتبسة من كتب بعض أهل العلم ومُلَخِّصَةً لصفة صلاة الرسول محمد ؛ ليجتهد كل مسلم ومسلمة في التأسي والاقتداء به لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
فيبدأ المسلم بإسباغ الوضوء وإتمامه، وإسباغه بأن يتوضأ كما أمره الله عملاً بقوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6]، وقول النبي : ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) رواه مسلم، وقول رسول الله : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال : ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) رواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقوله : ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه مسلم وأحمد والترمذي رحمهم الله.
فالشاهد هو إسباغ الوضوء والإتيان فيه بالمشروع والبعد عن الابتداع والوساوس، حيث يبدأ المسلم الوضوء بالتسمية، وقبل ذلك السواك، وإذا لم يجد السواك فيستعمل فرشاة الأسنان خاصة عند القيام من النوم وبعد الطعام حتى لا يبقى في الفم وبين الأسنان شيء مما يُكره ويُستقذر من بقايا الطعام وخلاف ذلك، ولا ينبغي للمسلم أن يتهاون بالسواك قبل الوضوء والصلاة لما ورد من أحاديث عن رسول الله ، ومنها قوله : ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)) رواه البخاري واللفظ له ومسلم إلا أنه قال: ((عند كل صلاة)) ، وأحمد وابن خزيمة وعندهما: ((لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء)).
والوضوء معروف لدى جميع المسلمين، ولكن يغيب عن بعضهم تخليل أصابع الكفين والقدمين للرجال والنساء أي: غسل ما بين الأصابع، وكذلك تخليل اللحية بالنسبة للرجال أي: إدخال شيء من الماء مما في أصابع الكفين بين شعر اللحية مع وجوب غسل ظاهر الشعر مع الوجه في كل مرة، قال : ((وخلّل بين الأصابع)) رواه أبو داود وصححه الألباني رحمهما الله تعالى.
ويغيب عن بعضهم أيضًا كيفية المسح المشروع للرأس، وصفته بأن يأخذ المسلم الماء في باطن كفيه ثم ينفضهما لإفراغ الماء منهما ثم يقابل بين رؤوس أصابعهما حيث تلتقي الأصابع الوسطى، أما البقية فليست كالوسطى في التقارب، ثم يبدأ المسح من مقدمة شعر الرأس إلى مؤخرة الرأس وبداية الرقبة من القفاة ويعيدهما إلى مقدمة شعر الرأس، يفعل ذلك مرة واحدة فقط أي: ذهابًا وإيابًا، ثم إدخال السبابتين في صمام الأذنين ـ أي: وسطيهما ـ وإدارة الإبهامين من خلف الأذنين ومسحهما.
ويغيب عن بعض المسلمين الاهتمام بغسل عقبي القدمين أي: مؤخرتهما، وخاصة أسفلهما من المؤخرة وتحت وحول الكعبين العظمين الناشزين البارزين فوق كل قدم مع ورود الوعيد الشديد لمن يتهاون بعدم غسلهما بالكامل، قال رسول الله : ((ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء)) رواه مسلم وأبو داود واللفظ له والنسائي وابن ماجة ورواه البخاري بنحوه.
وبعد الانتهاء من الوضوء يرفع المسلم بصره إلى السماء ويرفع سبابة اليمنى مشيرًا بها إلى توحيد الله جل جلاله قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، قال رسول الله : ((ما منكم من أحد يتوضأ فيُبْلِغُ ـ أو: فيسبغ ـ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وقالا: ((فيحسن الوضوء)) ، وزاد أبو داود: ((ثم يرفع طرفه إلى السماء ثم يقول...)). أما لفظ: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) فرواه الترمذي وصححه الألباني.
ثم يتوجه المصلي لصلاته التي يريدها فرضًا أو نفلاً، ويتجه إلى القبلة وهي الكعبة أينما كان بجميع بدنه قاصدًا بقلبه فعل الصلاة التي يريدها من فريضة أو نافلة، ولا ينطق بلسانه بالنية لأن النطق باللسان غير مشروع بل بدعة لكون النبي لم ينطق بالنية ولا أصحابه رضي الله عنهم، قال الله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات: 16]، ويجعل له سترة يصلي إليها إن كان إمامًا أو منفردًا. واستقبال القبلة شرط في الصلاة إلا في مسائل مستثناة معلومة وموضحة في كتب أهل العلم. واستقبال القبلة يكون بالوجه والصدر ومقدمة البدن حتى بالرجلين ومنها القدمان بحيث تكون أصابعهما إلى القبلة من غير اعوجاج، وليس كما يفعله بعض المتنطعين الذين يلاحقون مَنْ بجوارهم بأقدامهم لإلزاقها بأقدام المجاورين مع أن الله جل جلاله خلق جميع أقدام البشر عريضة من مقدمتها جهة الأصابع، ومن الخلف أقل من ذلك بكثير، فلا يمكن أن تُلْزَقَ الأقدام بتلك الكيفية التي يفعلونها بإلزاق الكعبين من المؤخرة حتى تعوجّ المقدمة، وليس ذلك الفعل هو المقصود من الحديث بسدّ الخلل، إنما هو عدم ترك فرجة بين المتجاورين، ويصل التنطع ببعضهم في مضايقة من يجاورونهم إلى أنّ أحدهم يحرف صدره وبعض جسمه عن القبلة من شدّة الزحام ولا يبقى إلا وجهه ورقبته يستقبل بهما القبلة وقد لا يكونان أيضًا إلى القبلة، لدرجة أنه يضع عضده وكتفه الأيمن على صدر المجاور له يمينًا ويضع بعض عظام صدره مع العضد الأيسر خلف المجاور له في اليسار، وهذا خلاف السنة، والمشروع والمندوب فعله في سد الفرج والخلل في الصف واستقبال القبلة والخشوع المأمور به جميعًا في الشرع المطهر.
فعلى المصلي حال وقوفه في الصف إذا أراد الانضباط والوقوف الصحيح أن يفتح رجليه بحيث تكونان متناسبتين ومتناسقتين مع عضديه مع زيادة بسيطة لبروز المرفقين عندما يضع يديه على صدره حال القيام قبل الركوع وبعده، ولا يفرّج بين قدميه كما يفعل بعض المصلين من أخذ مسافة كبيرة بينهما، ولا يلصقهما أيضًا بحيث يترك فرجة في الجهتين، ولا يضع القدمين كرقم سبعة كما يفعله الجنود في صفوفهم العسكرية والطلاب في مدارسهم، بل عليهم أن يوجهوا أقدامهم باستقامة جهة القبلة مع سدّ الفرج وعدم التعدّي والتجاوز على المجاورين وأذيتهم بذلك حتى يصل الوسواس ببعضهم إلى حدّ أنه يتحسّس كل لحظة بقدمه وخاصة الأصبع الصغيرة وما جاورها يتحسّس قدم المجاور له، وبعضهم لا يكتفي حتى بهذا مع خشونة أرجلهم وأذيتهم للمجاورين، بل يخفض رأسه ويحني جسمه ليصل بصرُه إلى قدميه وقدمي المجاورين له حتى يتأكد من عدم وجود خلل، وذلك كل دقيقة أو أقلّ من ذلك في كل ركعة، وهذا كله من الشيطان حتى يبعد المصلي عن الخشوع وحضوره في صلاته واستمتاعه بلذة الخشوع والوقوف بين يدي رب العالمين.
أعود للقول بأن على المصلي أن يكبر تكبيرة الإحرام قائلاً: الله أكبر، غير ممدودة عن المدِّ المعلوم ولا مُمَطَّطَة، ناظرًا ببصره إلى محل السجود، رافعًا كفيه عند التكبير حذو منكبيه أو إلى حيال أذنيه، تكون الأصابع مبسوطة غير متفرقة عن بعضها، مستقبلاً براحة الكفين القبلة، وهكذا في كل رفع لليدين. وينبغي ملاحظة أن السنة في رفع اليدين حذو المنكبين مستقبلاً براحتيهما القبلة في أربعة مواضع فقط: عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه في كل ركعة وعند القيام للركعة الثالثة في الثلاثية كالمغرب والرباعية كالظهر والعصر والعشاء، ثم يضع يديه على صدره، اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد، لثبوت ذلك عن النبي ، وينبغي أن يكون النطق بالتكبير موافقًا للفعل ومقرونًا به، وهذا هو الأكمل سواء في تكبيرة الإحرام أو تكبيرات الانتقال بحيث يكون رفع الكفين وضمّهما ووضع اليدين على بعضهما على الصدر في تكبيرة الإحرام موافقًا للنطق بقول: الله أكبر في لحظة واحدة، وليس كما يفعله كثير من المصلين اليوم من تأخير أو تقديم إحداهما على الأخرى، أو في تكبيرات الانتقال والتهاون بذلك وعدم العناية بها، وقد لا ينطق كثير من المصلين بالتكبير وخاصة من المأمومين، فينتقل أحدهم من ركن إلى آخر دون تكبير ونطقٍ به حتى ولو كان يصلي منفردًا، فيجب الانتباه لذلك من جميع المصلين.
وكذلك التمطيط في التكبير ومَدّه أكثر من اللازم وعدم موافقته للفعل في ركوع أو سجود أو اعتدال، وخاصة من بعض الأئمة حيث يَمُدُّ بعضُهم التكبيرَ أو قول: سمع الله لمن حمده أكثر من اللازم، ويُلجِئُون من خلفهم للموافقة لهم إذا لم تكن المسابقة عند بعض المأمومين مع ما في ذلك من النهي الشديد خاصة المسابقة، وسبب الموافقة خاصة هم الأئمة حيث لا يفقه بعضهم هذا الجانبَ المهمَّ في الانتقال بين الأركان، لذلك فهم يتحملون إثمًا بسبب المدّ الزائد والتمطيط أو عدم اقتران القول بالفعل حيث يسبق انتقالُه التكبيرَ أو العكس من ذلك، مع أن المأموم الذي يوافق الإمام يتحمل إثمًا، أما الذي يسابق الإمام فناصيته بيد شيطان كما ورد في الخبر عن سيد البشر ، وبعض أهل العلم الذين يقولون بأن جلسة الاستراحة ليست مسنونة ولا مشروعة خاصة في حق الإمام هو لعدم توافق تكبيرة الانتقال مع الجلوس وهذا الانتقال، يقولون: متى يكبر؟! إن كبّر وجلس فإن كثيرًا من المصلين سوف يقومون، وإن انتقل إلى الجلوس دون تكبير ثم كبّر عند قيامه كانت مخالفة شرعية في صلاته، لذلك لا يرون فعلها إلا للكبير أو للمنفرد، مع أنها لم ترد فيما قاله رسول الله أي: في السنة القولية للصلاة، وإنما كانت في قول الصحابي للصفة الفعلية، ويعزوها بعضهم إلى أنه في حال كبره وآخر حياته ، فوجب التنبيه عليها هنا، وليس فيها ذكر ولا دعاء، ولا حرج على من تركها، ولا يجوز أن تكون محل خلاف ونزاع بين المسلمين مثل الذي نشاهده ونسمعه من وصول ذلك إلى الولاء والبراء في هذه المسألة وأشباهها.
ومن السنة أن يقرأ دعاء الاستفتاح وهو: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)) رواه البخاري، وإن شاء قال بدلاً من ذلك: ((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)) رواه أبو داود والحاكم. وإن أتى بغيرهما من الاستفتاحات الثابتة عن النبي فلا بأس، والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة؛ لأن ذلك أكمل في الاتباع. ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ويقرأ سورة الفاتحة لقول الرسول محمد : ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) ، ويقول بعدها: آمين؛ جهرًا في الصلاة الجهرية، وسرًّا في الصلاة السرية، ثم يقرأ ما تيسر له من القرآن، والأفضل أن يقرأ بعد الفاتحة في الظهر والعصر والعشاء من أوساط المُفَصَّل، وفي الفجر من طواله، وفي المغرب من طواله تارة ومن قصاره تارة أخرى؛ عملاً بالأحاديث الواردة في ذلك، والمفصَّل من سورة ق والقرآن المجيد إلى آخر سورة الناس، وطواله من ق إلى المرسلات، وأوساطه من النبأ إلى الليل، وقصاره من الضحى إلى الناس.
ثم يركع مكبرًا رافعًا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه، جاعلاً رأسه حيال ظهره، واضعًا يديه على ركبتيه، مفرِّقًا أصابعه عليهما، وينبغي ملاحظة وضع الرأس حيال الظهر في مستوى واحد، وليس كما يفعله بعض المصلين من خفض الرأس حتى يصل قريبًا من الركبتين. وعليه أن يطمئن في ركوعه ويقول: سبحان ربي العظيم، أو يزيد عليها: وبحمده، والأفضل أن يكررها ثلاثًا أو أكثر، ويستحب أن يقول مع ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
ثم يرفع رأسه من الركوع رافعًا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه قائلاً: سمع الله لمن حمده إن كان إمامًا أو منفردًا، ويقول حال قيامه: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد. أما إن كان مأمومًا فإنه يقول عند الرفع: ربنا لك الحمد... إلى آخر ما تقدم، وإن زاد كل واحد منهم أي: الإمام والمأموم والمنفرد على ذلك: "أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فهو حسنٌ لثبوت ذلك عن النبي ، ويستحب أن يضع يديه على صدره كما فعل في قيامه قبل الركوع لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي من حديث وائل بن حجر وسهل بن سعد رضي الله عنهما. وينبغي ملاحظة المصلي لاعتداله التام في القيام بعد الرفع من الركوع، وكذلك الرفع من السجود للجلسة بين السجدتين حتى ترجع عظام الفقرات في اعتدال للظهر وطمأنينة في الفعل؛ لأن بعض المصلين ينقر صلاته ويسرع فيها خاصة في الرفع من الركوع والسجود والانتقال إلى الركن الذي بعد ذلك بسرعة متناهية.
ثم يسجد مكبّرًا واضعًا ركبتيه قبل يديه إذا تيسّر له ذلك، فإن شقّ عليه قدّم يديه قبل ركبتيه مستقبلاً بأصابع يديه ورجليه القبلة، ضامًّا أصابع يديه مادًّا لها، ويكون على أعضائه السبعة لقول رسول الله : ((أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم)) ، وفي رواية: ((على سبع: الجبهة مع الأنف واليدين والركبتين والقدمين)). والأعضاء السبعة: الجبهة مع الأنف حيث لا بدّ من إلزاق الأنف بالأرض كالجبهة، وراحة الكفين أي: بطونهما، والركبتان، وبطون أصابع الرجلين، ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه عن الأرض لقول النبي : ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)). وسبب بسط الذراعين هو تقديم وضع الكفين إلى مقدمة الرأس، فهذا الوضع لبطن الكفين يجعل المصلي يبسط الذراعين، وبعضهم يؤخر كفيه إلى محاذاة الركبتين أو الفخذين، وكلا الوضعين ليسا بصحيحين، وإنما الوضع السليم هو مقابل المنكبين مع الرقبة بحيث تصل الأصابع بمحاذاة الأذنين. ويقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، أو يزيد عليها: وبحمده، ويُسنّ أن يقول ذلك ثلاثًا أو أكثر، ويستحبّ أن يقول مع ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، ويكثر من الدعاء لقول النبي : ((أما الركوع فعظّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم)) ، ويسأل الله من خير الدنيا والآخرة، سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلاً، وينبغي للمسلم ملاحظة أن مجافاة العضدين عن الجنبين يمكن فعلها للإمام والمنفرد بكل سهولة، ولكنها مؤذية في الصفوف للمجاورين، فليتنبه كل مسلم لهذه وغيرها بحيث لا يؤذي من يجاوره بأي فعل من أفعال الصلاة وإن كانت مسنونة ولكنها ليست على إطلاقها، فبعض المصلين يؤذي من يجاوره في كل سجود في المجافاة عن العضدين بحيث يضعهما تحت صدر من في اليمين واليسار حتى يضطرهما لإبعاد عضديه حيث التقاء المفاصل للساعدين والعضدين في كل سجود، وهذا من قلة الفقه في الدين، مع أن كثيرًا من المسلمين يعلمون نص حديث رسول الله الذي قال فيه: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
ثم يرفع رأسه مكبرًا ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها وينصب رجله اليمنى ويضع يديه على فخذيه وركبتيه ويقول: رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني واجبرني، ويطمئن في هذا الجلوس. وينبغي أن يعرف المصلي هيئة الجلوس السابقة مع ملاحظة عدم إبعاد ما بين الركبتين حيث يفرّق بعض المصلين ما بين الفخذين حتى تبتعد مقدمة الفخذين من جهة الركبتين ويؤذي بهما المجاورين له في الصف، مع أنه بهذا الفعل الأناني يقلّص المسافة من مؤخرته جهة رجليه ويباعد المقدمة في منظر غير لائق بمصلٍّ يقف بين يدي ربه يرجو رحمته ويخشى عذابه.
فليتنبه المسلم لذلك وغيره من أنواع الأذى للمصلين، وليضع نصب عينيه حديث رسول الله عندما قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) عندما نهى عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، ونهى عن إتيان المساجد لمن أكلها حتى لا يتأذى المصلون منه، فكيف بمن يؤذيهم بالأفعال في كل ركوع وسجود واعتدال ووقوف وجلوس للتشهد أو بين السجدتين؟! وهذا الأمر يغيب عن كثير من المسلمين حتى من الملتزمين أنفسهم، وما أجمل المصلي الذي يوافق السنة ويطبقها في هيئة وصفة الوقوف حال القيام والركوع والسجود والجلوس بين السجدتين أو للتشهد، ما أجمله وأروعه متى طبّق السنة كما وردت لا كما يفهمها كثير من المسلمين على غير حقيقتها ويطبقها كل واحد حسب فهمه وإدراكه القاصر، حيث لا يأخذها غالبية المسلمين عن العلماء تطبيقًا عمليًا، بل يأخذونها نظريًا، إما من الكتب أو ممن يتلقّون عنهم العلم، وهذا هو الذي جعل كثيرًا من المسلمين بل الكثرة الكاثرة لا تعرف كيفية الصلاة وصفتها وهيئاتها المتنوعة، لا يعرفون ذلك ولا يطبقونه كما ينبغي.
ثم يسجد المصلي السجدة الثانية مكبرًا، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى.
ثم يرفع رأسه مكبرًا قائمًا إلى الركعة الثانية معتمدًا على ركبتيه إن تيسر له ذلك، وإن شقّ عليه اعتمد على الأرض بوضع يديه عليها، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسّر له من القرآن بعد الفاتحة، ثم يفعل كما فعل في الركعة الأولى.
فإذا كانت الصلاة ثنائية ـ أي: ركعتين ـ كصلاة الفجر والجمعة والعيد جلس بعد رفعه من السجدة الثانية ناصبًا رجله اليمنى مفترشًا رجله اليسرى، واضعًا يده اليمنى على فخذه اليمنى، قابضًا أصابعه كلها إلا السبابة ليشير بها إلى التوحيد في التشهد، وإن قبض الخنصر والبنصر من يده وحلّق إبهامها مع الوسطى وأشار بالسبابة فحسنٌ لثبوت الصفتين عن النبي ، والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وركبته، ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس وهو: ((التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)) ، ثم يقول: ((اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)). ويستعيذ بالله من أربع فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجّال)) ، ثم يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة، فإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة، لعموم قول النبي في حديث ابن مسعود لما علّمه التشهد: ((ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)) ، وفي لفظ آخر: ((ثم ليختر من المسألة ما شاء)) ، وهذا يعمّ جميع ما ينفع العبد في الدنيا والآخرة.
ثم يسلم عن يمينه وشماله قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وإن زاد كلمة: وبركاته فلا بأس لورود ذلك عن النبي.
وإن كانت الصلاة ثلاثية كالمغرب أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء يقرأ التشهد المذكور آنفًا مع الصلاة على النبي من غير الدعاء الأخير، ثم ينهض قائمًا معتمدًا على ركبتيه رافعًا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه قائلاً: الله أكبر، ويضعهما ـ أي: يديه ـ على صدره كما تقدم، ويقرأ الفاتحة فقط، وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة عن الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس لثبوت ما يدلّ على ذلك عن النبي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وعد المحافظين على الصلاة أجرًا عظيمًا، وأعدّ لهم في جنات الفردوس نعيمًا مقيمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المصلين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد: ففي الجلوس بعد الثالثة من المغرب وبعد الرابعة من الظهر والعصر والعشاء يجلس كجلسته في الثانية من حيث الصفة، وأحيانًا يتورك أي: يعتمد على وركه أي: فخذه الأيسر مخرجًا قدمه اليسرى من تحت قدمه اليمنى وجهة القدم، ويتشهد كما تقدم في الصلاة الثنائية، يقرأ التشهد مع الصلاة على النبي والاستعاذة بالله من الأربع الواردة في الحديث، ثم الدعاء وسؤال الله بما يختاره المصلي ويريده، ثم يسلّم عن يمينه وعن شماله، ويستغفر الله ثلاثًا، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام قبل أن ينصرف جهة المأمومين إن كان إمامًا، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، ثم يسبح الله ثلاثًا وثلاثين، ويحمده ثلاثًا وثلاثين، ويكبره مثل ذلك، ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ويقرأ آية الكرسي وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس بعد كل صلاة فرض، ويستحبّ تكرار هذه السور الثلاث الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات، وقَوْل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير يرددها عشر مرات بعد صلاتي الفجر والمغرب لورود الأحاديث بها عن النبي ، ولا ينسى المسلم أن يقول بعد كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وهذه من ضمن وصية رسول الله لمعاذ رضي الله عنه عندما عبر له عن محبته له وقال: ((لا تَدَعَنَّ دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
وكل هذه الأذكار وغيرها سنة وليست بفريضة، ولكن ينبغي المحافظة عليها هي وغيرها مما لم أورده هنا والتي ثبتت عن النبي ليحوز المسلم على الأجر العظيم الذي وعد به الرسول حيث تزيد عدد الحسنات عن خمس وثلاثين ألف حسنة بعد الصلوات الخمس في كل يوم وليلة، فإذا حافظ عليها المسلم فكم يكسب من الحسنات التي يجدها في ميزانه يوم القيامة. والأفضل في عدّ التسبيح أن يكون على أصابع اليد اليمنى.
ويُشرع لكل مسلم ومسلمة أن يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل صلاة الفجر ركعتين، الجميع اثنتا عشرة ركعة، وهذه الركعات تسمى الرواتب لأن النبي كان يحافظ عليها في الحضر، أما في السفر فكانت المحافظة منه على سنّة الفجر والوتر، فإنه كان عليه الصلاة والسلام يحافظ عليهما حضرًا وسفرًا، والأفضل أن تُصلى الرواتب التي بعد صلاة الفريضة والوتر في البيت، فإن صلاها في المسجد فلا بأس، لقول النبي : ((أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)). والمحافظة على هذه الركعات من أسباب دخول الجنة لقول النبي : ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته تطوعًا بنى الله له بيتًا في الجنة)) رواه مسلم في صحيحه. وإن صلى أربعًا قبل العصر واثنتين قبل صلاة المغرب واثنتين قبل صلاة العشاء فحسنٌ لأنه صح عن النبي ما يدل على ذلك، وعلى ركعتين أخريين بعد الظهر غير الركعتين الوارد مجموعهما ضمن اثنتي عشرة ركعة. والمحافظة على النوافل ومن قبلها السنن من أفضل القربات والطاعات بعد الفرائض، فليحرص المسلم على كل ما يقربه إلى الله عز وجل ليحوز على الأجر العظيم في يوم هو أحوج لحسنة واحدة يوم الجزاء والحساب، في يوم ليس فيه إلا الحسنات والسيئات.
هذا ملخص لصفة الصلاة، ولم أورد الأدلة على كل قول أو فعل لأن خطبة الجمعة لا تحتمل الإطالة، والمهم في ذلك هو الخروج بالنتائج المبنية على الدليل الشرعي، ولم أتطرق إلى البدع والأمور المنهي عنها في الصلاة التي يفعلها بعض المصلين لأنها غالبًا معلومة لدى كل مسلم مثل رفع البصر إلى السماء والالتفات في الصلاة والإقعاء والتخصر وفرقعة الأصابع داخل الصلاة وخارجها وغير ذلك من المنهيات، أما البدع فيطول الكلام عنها، وقد اكتفيت بهذا الملخص الذي رأيت كفايته في التطبيق للسنة ويؤدي المطلوب بإذن الله عز وجل.
وأود التنبيه إلى أمور شاهدتها وعاصرتها حول بعض الأفعال أو الأقوال في الصلاة حيث بلغ الأمر عند بعض المتحمِّسين والمندفعين من الشباب وغيرهم إلى حَدِّ الموالاة والمعاداة، الموالاة لمن سلك طريقهم واتبعهم سواء على علم أو بدون علم، والمعاداة لمن خالفهم أو ناقشهم ولم يستجب لآرائهم وأفكارهم، مع أن الأمر في غاية السعة والمرونة والسهولة، ولا يجوز أن يصل بهم الأمر إلى العداوة وتلك التصرفات التي لا ترضي الله عز وجل، بل يرضى بها الشيطان وأتباعه حينما يصل النزاع والخلاف بين المسلمين إلى هذا الحد عند أمور لا يترتب عليها بطلان صلاة أو عمل أو قول من أقوالها، ومنها جلسة الاستراحة عند القيام للركعة الثانية أو الرابعة، أو وضع اليدين وإرجاعهما على الصدر بعد الرفع من الركوع، أو مكان وضعهما على الصدر أو تحت السرة أو سدلهما أي: مدّهما ووضعهما في الجانبين دون ضمّ لهما، وأيضًا تقديم اليدين على الركبتين أو العكس عند النزول من القيام إلى السجود أو عند النهوض والرفع من السجود إلى القيام أيهما يتم تقديمه، وهل يُسار حسب ظاهر الحديث؟ وهل فيه قَلْبٌ للجمع بينه وبين حديث آخر بنفس المعنى؟ وكذلك الإشارة بالسبابة في التشهد هل تكون الإشارة عند النطق بعبارة: أشهد أن لا إله إلا الله، أو الإشارة عند الابتداء في كل جملة، أو عند الدعاء وقول: اللهم صَلِّ... إلى آخره، اللهم إني أعوذ بك من... أو الإشارة المستمرة دون تحريك من أول التشهد إلى آخره، أو الإشارة مع عدم توقف الإصبع ثانيةً واحدةً، وهذا النوع من المصلين قد لا يفقه أحدهم مما يقول شيئًا إن كان ينطق بشيء مع أنه يُشغل الذين بجواره بتلك الحركات المتناهية في السرعة المؤدية إلى ذهاب الخشوع عن المصلين المجاورين له، وغالبًا ما يكون هو فاقدًا لذلك نظرًا لاشتغاله بتلك الحركة الرهيبة السريعة التي تتحرك معها يده بكاملها وليس إصبع السبابة فقط.
ومن الحركات التي ينبغي التنبيه إليها ملاحقة بعض المتحمسين بأقدامهم من يجاورهم يمينًا وشمالاً لسد الخلل في كل ركعة وبحركات هي في غاية ذهاب الخشوع وإشغال المصلين، سواء من يقوم بها أو من يلاحقونه بأقدامهم لتتبع سد الخلل، أو التورك في المغرب والعشاء والظهر والعصر وهو بين المصلين في الصف خاصة عندما يكون سمينًا ويؤذي بفعله هذا من يجاوره، وكذلك عندما يسمع أحدَهم يزيد الواو في قول: ربنا لك الحمد، أو يزيد عليها: الشكر كيف ينفعل بعد الصلاة على من قالها وقد يصل الأمر إلى مشاداة كلامية، مع أن زيادة الواو وردت في حديث صحيح، وغير ذلك مما هو معلوم في الدعاء في السجود أو نهاية التشهد أو بعد صلاة الفريضة أو النافلة وغير ذلك مما يطول الكلام حوله، وأطلب من المسلمين أن يتفقهوا في دينهم سواء ذلك المنفعل المتحمّس أو ذلك الذي لا يعرف السنة أو لا يعمل بها جهلاً أو تساهلاً، وأن لا يصل بهم الأمر إلى القطيعة والجدل والخصومة والولاء والبراء على هذا الأساس وهذه الأمور البسيطة الخلافية إما في الكيفية والصفة أو في فهم المعاني والمقصود من الكلام الوارد حولها، عليهم وعلينا جميعًا أن نتفقه في دين الله ونتبع سنة رسول الله مع الإخلاص أولاً وآخرًا حتى يقبل الله منا أعمالنا حيث لا يقبل الله من الاعتقاد والأعمال والأقوال إلا ما كان خالصًا وصوابًا، قال رسول الله : ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) ، وقال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي: مردود عليه، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21]، وقال عز وجل: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]، وقال تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وقال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، وقال الله جل جلاله: مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].
اللهم فقهنا في ديننا وزدنا علمًا وأعمالاً خالصة صوابًا متقبلة يا رب العالمين، وردنا إلى إسلامنا ردًا جميلاً، وألّف بين قلوب المسلمين، وردّ كيد أعداء الإسلام والمسلمين في نحورهم يا ذا الجلال والإكرام.
وصلّى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد وآله وصحبه...
(1/5526)
صلاة الرجال جماعة في المساجد
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, المساجد, فضائل الأعمال
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
2/6/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الغفلة عن الموت. 2- تضييع الأمانة. 3- انتشار التهاون بصلاة الجماعة. 4- الأدلة على وجوب صلاة الجماعة. 5- من فوائد صلاة الجماعة. 6- التذكير بأداء صلاتي الفجر والعشاء في جماعة. 7- ثواب صلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا أن نقيم صلاتنا ونؤديها مع جماعة المسلمين في بيوت الله وحيث ينادى بها ما دمنا في زمن المهلة، ولنتعرف إلى الله في الرخاء لنجد المخرج في الشدة؛ فإن من نسي الله نسيه، ومن أضاع أمره أضاعه.
يا أمة محمد ، من منا عنده أمان من الموت حتى يتوب ويصلي ويركع مع الراكعين؟! أليس كل منا يخشى الموت ولا يدري متى يأتيه وهل يصبّحه أم يمسّيه؟! ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون؟! أما هجم على أناس في دنياهم وهم غافلون؟! أما بغت وفاجأ أناسًا خرجوا من بيوتهم فما استطاعوا مضيًا ولم يرجعوا إلى أهليهم؟! فمن منا أُعطي أمانًا أن لا تكون حاله كحال هؤلاء؟!
أيها المسلمون، وماذا بعد الموت الذي لا ندري متى يفاجئنا؟! إنه ليس بعده عمل ولا استعتاب، ليس بعده سوى الجزاء على العمل الذي عملناه في هذه الدنيا، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة: 7، 8]. تذكروا قول الله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37]، لنغتنم المهلة والوقت والعمر الذي أعطاه الله لكل شخص منا، وليعمل كل منا ويقدّم لنفسه قبل أن تأتي ساعة الندم ولات ساعة مندم.
ورد عن رسول الله قوله: ((تنقض عرى الإسلام عروة عروة، وأول ما تضيع الأمانة وآخرها الصلاة)). فالأمانة قد ضيعت حقًا، ولا يَكاد يجد الناس إلا أشخاصًا معدودين في كل مكان يشار إليهم بالبنان لخبر رسول الله حين أخبر عن علامات الساعة حيث لا يَكاد يوجد في القبيلة بأكملها غير شخصٍ واحدٍ، وها هي الصلاة نجد التهاونَ بها وتضْيِيعَها سواء بتركها بالكلية أو بعدم أدائها في جماعة، وإن مما يؤسف له ما نراه من حالنا في هذه الأيام حيث نجد المساجد في آخر صلاة الجمعة مملوءة ومزدحمة بالمصلين وليس في بداية الخطبة أو الصلاة وفي الصلوات الخمس لا نجد إلا أعدادًا قليلة من المصلين من الطاعنين في السن وقلة من الشباب ومن المغتربين.
وأورد أدلة على وجوب صلاة الجماعة على الرجال في بيوت الله حيث يُنادى لها، أداءً للواجب وبراءة للذمة وإبلاغًا للحجة وخروجًا من الإثم، نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعًا ويوفقنا لطاعته ويجنبنا جميع سخطه، ونسأله تعالى أن يحسن لنا جميعًا الخاتمة.
أيها المؤمنون بمحمد وما أنزل عليه من ربه، إن مما أوجب الله على الرجال في صلاتهم أن يؤدوها مع جماعة المسلمين في المساجد، قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: 43]، وقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 36-38]، فهذه طريقة النبي وأصحابه وهديه وتوجيهه للصحابة رضي الله عنهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف) رواه مسلم رحمه الله.
إن المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه، والمتخلف عن الجماعة بلا عذر عاصٍ لربه مخاطرٌ بصلاته، وإن من علماء المسلمين من يقول: إن من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر فلا صلاة له، مستدلّين بأحاديث صحيحة، منها عن أبي بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول : ((من سمع النداء فارغًا صحيحًا فلم يجب فلا صلاة له)) رواه الحاكم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)) رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"، ومعلوم العذر الشرعي الذي يباح معه للمسلم أن يتخلف عن صلاة الجماعة من مرض أو خوف أو مطر أو غلبة نوم أو حراسة ونحو ذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر)) قالوا: وما العذر؟ قال: ((خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلَّى)) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه وابن ماجة بنحوه.
ولنتأمل قول الله عز وجل في صفة صلاة الخوف حين لقاء العدو والتي فيها صفة صلاة الخوف جماعة، ولم يُعذر المسلمون في حال الخوف عن إقامتها جماعة، فكيف بالآمنين المطمئنين القابعين في بيوتهم هل يجدون عذرًا بعد ذلك مع ورود الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب أداء الرجال لها في جماعة؟! قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 102].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزمًا من حطب، ثم آتي قومًا يصلّون في بيوتهم ليست بهم عِلَّةٌ فأحرقها عليهم)) ، فقيل ليزيد بن الأصم: الجمعةَ عَنَى أو غيرها؟ قال: صُمَّتْ أُذُنَايَ إنْ لم أكنْ سمعتُ أبا هريرة يَأْثُرهُ عن رسول الله ولم يَذْكُرْ جمعةً ولا غيرها. رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة والترمذي مختصرًا، وعن عمرو بن أم مكتوم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أنا ضرير شاسع الدار، ولي قائد لا يُلائِمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: ((أتسمع النداء؟)) قال: نعم، قال: ((ما أجد لك رخصة)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، وروى الإمام أحمد بإسناد جيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله أتى المسجد فرأى في القوم رقةً فقال: ((إني لأَهُمُّ أن أجعل للناس إمامًا ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه)) ، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إن بيني وبين المسجد نخلاً وشجرًا ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال: ((أتسمع الإقامة؟)) قال: نعم، قال: ((فأتها)). قال الخطابي بعد ذكر حديث ابن أم مكتوم: "وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب، ولو كان ذلك ندبًا لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرورة والضعف ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم"، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أقبل ابن أم مكتوم ـ وهو أعمى وهو الذي أُنزل فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس: 1، 2] وكان رجلاً من قريش ـ إلى رسول الله فقال له: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنا كما تراني قد دَبَرَتْ سِنِّي ورقَّ عظمي وذهب بصري، ولي قائد لا يلائمني قياده إياي، فهل تجد لي رخصة أصلي في بيتي الصلوات؟ فقال رسول الله : ((هل تسمع المؤذن في البيت الذي أنت فيه؟)) قال: نعم يا رسول الله، قال رسول الله : ((ما أجد لك رخصة، ولو يعلم هذا المتخلف عن الصلاة في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبوًا على يديه ورجليه)) رواه الطبراني، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقنّ بيوتهم)) رواه ابن ماجة.
إن الحجج قائمة وكثيرة في هذا الزمان على ابن آدم، فالساعات في الأيدي وعلى الجدران في كل غرفة من المنزل، والتقويم وسماع الأذان والتذكير بأوقات الصلاة في الإذاعة والتلفاز، عدا مكبرات الأصوات التي هي من أكبر الحجج القائمة عليه.
إن الصلاة مع الجماعة نشاط وطمأنينة، والتخلف عنها كسل وإسراع بها غالبًا بدون طمأنينة، ينقرها المصلي نقر الغراب، وربما أخّرها عن وقتها. إن صلاة الجماعة تجلب المودة والألفة وتنير المساجد بذكر الله وتَظْهَرُ بها شعائرُ الإسلام، وبها يحصل التعارف بين كثير من المسلمين، وفيها تعليم الجاهل وتذكير الغافل ومصالح كثيرة، أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة فماذا تكون حال المسلمين؟! الأمة متفرقة، والمساجد مغلقة، وليس للأمة مظهر جماعي في دينهم، ومن أجل ذلك كان من حكمة الله ورحمته أن أوجبها على الرجال جماعة في المساجد، فاشكروا الله ـ أيها المسلمون ـ على هذه النعمة، وقوموا بهذا الواجب، واستحيوا من ربكم أن يفقدكم حيث أمركم، واحذروا عقابه ونقمته أن يجدكم حيث نهاكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شرع لعباده الشرائع وأكملها، وبين حدودها وفروضها وسننها، ولم يترك عباده في حيرة من دينهم ولا في نقص من عباداتهم بل بيّن لهم الدين وأكمله، فلم يمت نبيّه حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلله الحمد والنعمة وله الشكر والفضل والمنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا.
أما بعد: فلقد وردت أحاديث عن الرسول ترغّب في صلاة العشاء والصبح خاصة في جماعة، وكذلك الترهيب من التأخّر عنهما، أذكرها لعل القلوب المؤمنة تصحو وتنتبه من غفلتها ويرجع المسلمون إلى ربهم ويستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ويعمروا مساجد الله بالصلوات المفروضة ويتأملوا قول الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 36-38].
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)) رواه مسلم، وفي رواية أبي داود والترمذي: ((من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار)) رواه البخاري ومسلم، وفي آخر رواية مسلم: ((ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها)) يعني صلاة العشاء، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنّا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن؛ وذلك من أجل أن صلاتي الفجر والعشاء هي أثقل صلاة على المنافقين كما أخبر بذلك الرسول. وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله يومًا الصبح فقال: ((أشاهدٌ فلان؟)) قالوا: لا، قال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا، قال: ((إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على الركب)) الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي قال: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله)) رواه مالك ومسلم واللفظ له، وعن سمرة بن جندب أيضًا عن رسول الله قال: ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله تعالى)) رواه ابن ماجة بإسناد صحيح، ورواه أيضًا من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه وزاد فيه: ((فلا تخفروا الله في عهده، فمن قتله طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه)) رواه مسلم أيضًا من حديث جندب، وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثْمة ذكَرَ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وأن عمرَ غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمرّ على الشِّفاء أمِّ سليمان فقال لها: لم أَرَ سليمان في الصبح! فقالت له: إنه بات يصلي فغلبته عيناه، قال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليّ من أن أقوم ليلة. رواه مالك؛ لأن الفريضة أهم من النوافل، فالمحافظة على صلاة الجماعة وخاصة الصبح أفضل من التطوع. هكذا تعلم الخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم أجمعين من رسول الله ، ويفتقدون ويسألون عمن يتخلف عن صلاة الجماعة كما فعل ذلك رسول الله من قبلهم.
والذي يعتاد المساجد ويشهد الصلاة جماعة ويحافظ عليها فهو مؤمن حقًا بإذن الله كما ورد ذلك من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)) ، قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة: 18]. رواه الترمذي. فعندما يتخلّف هذا المؤمن عن الصلاة يعلمون أنه لم يتخلّف إلا لعذر من مرض أو سفر أو نحوهما، فيسألون عنه ليقوموا بالواجب نحوه في مرضه أو سفره، وإذا ما تخلف رجل وكثر تخلّفه عن الصلاة وخاصة العشاء والفجر ولم يكن له عذر المرض أو السفر أو الخوف وغيره فيعلمون أنه منافق يجب الحذر منه والابتعاد عنه إن هو أصرّ على ذلك بعد بذل النصيحة له.
والصلاة مع الجماعة مظهر من مظاهر شعائر الدين الإسلامي الذي يكشف المؤمن من المنافق في أي زمان ومكان، علمًا بأن المريض أو المسافر يُكتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في حال إقامته وصحته سواء في حضور صلاة الجماعة أو السنن أو النوافل الأخرى أو الصيام أو قراءة القرآن أو غير ذلك من أنواع القرب والطاعات، وهذا يشمل الذكر والأنثى، وإنما ذكرت هذا هنا للاستشهاد به على الحضور إلى المساجد والصلاة فيها والذكر، قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)) رواه البخاري.
وليبشر المسلم بالأجر العظيم لخروجه لصلاة الجماعة وخاصة مع المشقة ومن كان منزله بعيدًا عن المسجد وفي الظلام إشارة لصلاتي العشاء والفجر، وإن كان المغرب يدخل في الظلام بعد الصلاة وفي بداية الليل قبلها؛ لأن عموم الظلام يدخل فيه الصلوات الثلاث المغرب والعشاء والفجر وقيام الليل في رمضان والخسوف أو صلاة الليل منفردًا في الأماكن التي تكون فيها المساجد مفتوحة للعبادة، مع أن المشقة والظلام في أكثر بلادنا معدومة إلا ما ندر لوجود الإنارة والسيارات والشوارع والطرق الممهدة، وإن وجد ذلك في بعض ديار المسلمين الآن، وقد يوجد الظلام والمشقة حتى في المدن لمن تأمل ذلك. عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: ((من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة)) رواه الطبراني وابن حبان، وعن سهل بن سعد الساعديِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم واللفظ له وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله فقال لهم: ((إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد)) ، فقالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: ((بني سلمة، ديارَكم تُكتب آثارُكم، دياركم تكتب آثاركم)) ، وفي رواية: ((إن بكل خطوة درجة)) رواه مسلم رحمه الله، ورواه البخاري رحمه الله بمعناه من رواية أنس رضي الله عنه. بنو سَلِمَةَ بكسر اللام: قبيلة معروفة من الأنصار رضي الله عنهم، وآثارهم: خُطَاهم، ديارَكم بفتح الراء أي: الزموا مساكنكم التي أنتم فيها وابقوا فيها ولا تنتقلوا. وعن أبي المنذر أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدًا أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له أو فقلت له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: ما يَسُرُّني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله : ((قد جمع الله لك ذلك كله)) رواه مسلم، وفي رواية: ((إن لك ما احتسبت)). والرمضاء: الأرض التي أصابها الحر الشديد، ومعلوم حرّ المدينة النبوية في الصيف. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يقتربوا فنزلت: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس: 12] فثبتوا. رواه ابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها مَمْشًى فأبعد)) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم.
ويُكتب الأجر حتى لذلك الذي خرج إلى الصلاة ووجد الناس قد انتهوا من صلاة الجماعة، فبذلك ورد الخبر عن سيد البشر محمد ، وهذا من فضل الله وكرمه على عباده المؤمنين ورحمته بهم، حيث تكتب للمصلي كل خطوة بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، ويحط بها سيئة ويرفع له بها درجة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
فيا أيها الرجال من المسلمين، ارجعوا إلى ربكم، وتوبوا إليه، واعمروا مساجد الله بدلاً من الجلوس أمام القنوات الفضائية والاشتغال باللهو واللعب وعدم الحضور لصلاة الجماعة أو التأخر عنها حتى من الحريصين على أدائها بحيث تفوتهم لانشغالهم بشبكة المعلومات لئلا يفوتهم ما يريدون من خير أو شرّ، فقد دخل الشيطان حتى على الحريصين على صلاة الجماعة؛ فتجد أحدهم لا يلحق إلا آخر الصلاة وقد تفوته في أغلب الأحيان، فما بالنا ببقية الناس وعامتهم من الذين لا يأتون المساجد إلا في رمضان أو في الجمع أو في المناسبات أو كما يفعل الطلاب أيام الاختبارات؟! فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا، وحافظوا على صلاة الجماعة على الدوام وليس في المناسبات ووقت الأزمات قبل أن تأتي ساعات الندامة والحسرات، فالتوبة التوبة، والله يقبل توبة التائبين ويغفر ذنوب المذنبين ويبدل التائبين الصادقين حسنات عن إساءاتهم السابقة إن هم صدقوا في توبتهم، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70]، وقال عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر: 53-59].
(1/5527)
تسوية الصفوف في الصلاة ووقوف المأموم
فقه
المساجد
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
22/1/1415
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهاون المسلمين بتسوية الصفوف. 2- أحاديث في إتمام الصفوف وتسويتها وسد الفرجات. 3- أخطاء تقع عند تسوية الصفوف. 4- التحذير من أذية المصلين في الصلاة. 5- الترهيب من عدم تسوية الصفوف وإتمامها. 6- فضل ميامن الصفوف. 7- نصائح لمن يحضر أبناءه للمسجد. 8- دعوة للمؤسسات والهيئات والقنوات الفضائية لتعليم الصلاة تطبيقا عمليا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنه مما ينبغي أن يعلمه المسلم ويعمل به في أمور الصلاة تسوية الصفوف وإتمامها والمحافظة على ذلك، ومما يؤسف له في الآونة الأخيرة وفي واقع المسلمين هو التهاون في هذا الأمر، ومن الواجب في النصيحة للمسلمين عامة إبراء الذمة بإبلاغ الحجة وقيامها على من أراد العمل ومن لم يرد.
ومن إتمام الصلاة وإقامتها تسويةُ الصفوف والتَّرَاصُّ فيها وإتمامُ الصفوف الأول وسدُّ الفرج، وبذلك وردت أحاديث عن رسولنا محمد ، منها ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، أي: لو يعلمون ما في ذلك من الأجر العظيم لكان ذلك قرعة بينهم؛ لأن الأذان مرة واحدة لكل صلاة، والصف الأول لا يتسع لكل من في المسجد، فلو يعلمون حقيقة ما فيهما من الأجر والثواب لجرت بينهم القرعة والمداولة لينال كل منهم نصيبه وحظه الأوفر، ولكن الجهل بما فيهما من الأجر جعل أكثر الرجال من المسلمين يزهدون فيها ويتأخرون عن الحضور إلى المساجد في وقت مبكر ليحجز أحدهم مكانه ويجلس فيه ينتظر أداء الصلاة مع الجماعة ويؤدي السُّنَّةَ سواء كانت تحيةً للمسجد أو سنةً مؤكدةً أو مستحبةً قبل الصلاة ويقرأ القرآن الكريم فله بكل حرف عشر حسنات أو يذكر الله عز وجل ويستغفره ويتوب إليه بما يعرف ويعلم مما ورد في الأحاديث الصحيحة.
وفي الحديث الصحيح الآخر يقول رسول الله : ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة رحمهم الله جميعًا.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) ، أو: ((الصفوف الأُوَل)) رواه أحمد رحمه الله.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) ، قالوا: يا رسول الله، وعلى الثاني؟ قال : ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) ، قالوا: يا رسول الله، وعلى الثاني؟ قال: ((وعلى الثاني)) رواه أحمد والطبراني وغيرهما.
ونجد بعض المسلمين ـ هداهم الله ـ يأتون في اللحظات الأخيرة وحين إقامة الصلاة، ويدفع أحدهم هذا ويؤذي ذاك ويتخطى رقاب الناس خاصة في صلاة الجمعة ليصل إلى الصف الأول بعد أن يؤذي عباد الله؛ إما بتخطي الرقاب المنهي عنه أو بمزاحمة من يقف بجانبه في الصف خاصة إن كان المكان لا يتسع له، ويعتقد أنه يحصل على الأجر مثل الذي قد حضر من ساعات ينتظر الصلاة، والحقُّ أنهما لا يستويان، وفضل الله يؤتيه من يشاء، فمن كان متأخرًا فعليه أن يسعى لسدّ خلل أي صف من الصفوف وأي فرجة يراها ليحصل على الأجر في ذلك إن شاء الله إذا كانت هناك فرجة تكفيه دون مزاحمة، أما إن كان يريد أجر الصف الأول فعليه المبادرة في وقت مبكر إن كان لصلاة الجمعة أو للفروض الأخرى. وعلى العكس من ذلك نجد بعض المصلين يحضرون في وقت مبكر ويوجد الفراغ في الصف الأول والثاني ويجلس في مؤخرة المسجد؛ إما ليكون أول الخارجين من المسجد أو لجهله بفضل الصف الأَوَّلِ والصفوف الأُوَلِ عمومًا أو لعدم رغبته في الأجر، وهذا حرمان والعياذ بالله، وقد يكون ذلك من طلبة العلم حيث يتركون الصفوف الأول وخلف الإمام للأطفال وصغار السن أو للعامة من الناس الذين لا يُفيدون الإمام شيئًا فيما لو أراد استنابة أحدهم لأمرٍ ما، أو للردّ عليه والفتح في القراءة أو السهو في الصلاة، بل قد يُشَوِّشُون عليه ويَتَسَرَّعُون في الرَّدِّ والفتح وغير ذلك مما هو معلوم.
وحالةٌ بين الإفراط والتفريط ولم أَرَ القصدَ فيها إلى الآن في واقع المصلين وهي تسوية الصفوف وكيفية الوقوف في الصف وتطبيق المسلمين وفهمهم لذلك وتفريقهم بين صلاة وأخرى أو مجتمع الرجال والنساء، فنجد أنهم يقفون زمرًا أو مجموعات منفردة في صلاة العيدين، وكل مجموعة يكوِّنُون لأنفسهم صفًا متقدمًا أو متأخرًا عمَّن يجاورهم، وقد يكونون هم على اختلاف، وقد ينحرف بعضهم عن اتجاه القبلة ولا يبالون أو يصفون بمحاذاة الإمام من جهة اليسار أو متقدمين عنه من الناحيتين، وبلغ بهم الأمر إلى أن يُصَلُّوا على الرصيف الأمامي قبل الإمام أو تَصُفَّ النساء قبل الرجال ويصلي الرجال خلفهن في مصليات العيد وحتى في المسجد الحرام وفي نمرة يوم عرفة وفي مسجد الخَيْفِ في منى وغيرها من أماكن التجمعات الكبيرة، وهذا العمل منهم في غاية التهاون في دين الله خاصة في مصليات العيد في المدن، وقد يكون لبعضهم العذر في الحرم في الحج وأواخر رمضان، مع أن المشروع هو التمسك بالسنة، ونرى أيضًا عدم المبالاة من بعض الناس في تسوية الصفوف عندما يحضرون صلاة الجمعة والجماعة، فنجد أحدهم ينظر إلى السقف أو الجدار الأمامي وما فيه وعليه أو ينظر خلفه ولا يعلم عن تقدمه أو تأخره هو في الصف، ولا يلين في يد أخيه عندما يجرّه إليه ويرشده إلى تسوية الصف، وكذلك الحال في صفوف النساء عندما يحضرن المساجد، ومن المصلين من يجعل المسافة بين رجليه قدر متر أو أكثر أو ما يساوي عرض كتفيه مرتين أو ثلاثًا لئلا يقرب أحد منه وليترك فرجة للشيطان يريد السعة له والبحبوحة في المكان، وهذا خلاف السنة، ومنهم من يضمّ رجليه وقدميه ولا يلزقهما بمن يجاوره، ومنهم من يلاحقك برجله لسد الفرجة إن أبعدتها عنه لأمرٍ ما، فلا هو يعقل صلاته ولا المجاور له أيضًا حتى يذهب الخشوع عن الجميع بهذا الصنيع، ومنهم من يُفَرِّجُ بين ركبتيه في الجلسة بين السجدتين أو للتشهد مرتين أو ثلاثًا عن عرض كتفيه ومنكبيه ومكانه الواقف فيه، ويؤذي من يجاوره في اليمين والشمال، ومن يقع بين اثنين من هذا الصنف إن كان في الجلوس أو الوقوف لا يكاد يصدق بانقضاء الصلاة وهو سَالِمٌ من أمور يعرفها هو وغيره وخاصة إن كان مريضًا أو يتأذى من ذلك ويحتاج هو إلى توسعة في مكانه.
وفي الركوع أيضًا لا يعرف بعض المسلمين أن عليه أن يحاذي بين رأسه وظهره بحيث يكونان في مستوى واحد، فنجد أحدهم يخفض رأسه مما يضطره إلى جعل المرفقين في صدر من يجاوره يمينًا وشِمَالاً، وكذلك الحال في السجود يجافي عَضُدَيْهِ عن جسده بحيث يؤذي المجاوريْن له، أو يتورَّك أي: يُخرج قدمه اليسرى من تحت ساقه اليمنى جهة ظهر القدم الأيمن ويجلس على فخذه الأيسر في التشهد الأخير، وإن كان ذلك من السنة في الركعة الأخيرة من الرباعية أو الثلاثية للإمام والمنفرد ومن كان في طرف الصف من المأمومين وله سعة، أما المأموم الذي يتأذى به من يجاوره فلا يُشْرع فعلُه هذا، وقد يتكئ ويضغط على من يجاوره من الناحية اليسرى ويؤذيه خاصة إذا لم يكن في الصف سعة أو كان هو سمينًا وبدينًا، فهذه الأمور التي ذكرت وغيرها مما ينبغي للمسلم مراعاتها في الصلاة سواء فيما يتعلق بإتمام الصلاة وإقامتها أو ما كان ضررًا ومضارة للآخرين وهي في الحقيقة مُذْهِبةٌ لإتمام الصلاة وإقامتها حيث يذهب معها الخشوع في الصلاة، ويوسوس الشيطان للمجاور طوال الصلاة ماذا يفعل مع هذا الشخص؟ وأقلّ ما فيه أنه يفكّر كيف ينصحه في ذلك العمل إن لم يصل الأمر بعد الصلاة إلى المُشَادَّاة الكلامية كما سمعنا مرات ومرات.
ومن أحاديث رسول الله المتعلقة بتسوية الصفوف وسد الفرج وغيرها ما ورد في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سوّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية للبخاري: ((فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)). وإقامة الصلاة تشتمل على أمور عدة منها تسوية الصفوف؛ لأن الله عز وجل لم يقل: صَلُّوا، أو: يُصلُّون، بل جاء في القرآن إقامتها كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة: 43]، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة: 71]، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [الرعد: 22]، وقال : ((سوّوا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدّوا الخلل، فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف)) رواه أحمد والطبراني وغيرهما، والحذف أولاد الضأن الصغار. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله يأتي ناحية الصف ويسوّي بين صدور القوم ومناكبهم ويقول: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات الشيطان، ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة. الفرجات: جمع فُرْجَة، وهي المكان الخالي بين الاثنين، وليس هو قدر الأصبع أو أقل كما يعتقده المتنطعون، ويُعَادُون ويَكرهون من يخالفهم أو يناقشهم في ذلك. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله فقال: ((ألا تَصُفُّون كما تصف الملائكة عند ربها؟)) فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: ((يُتِمُّون الصفوفَ الأُوَلَ، ويَتَرَاصُّون في الصف)) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أحسنوا إقامة الصفوف في الصلاة)) رواه أحمد.
وكما جاء الترغيب في تسوية الصفوف وإتمامها فقد جاء الترهيب أيضًا في عدم التسوية، ومنها عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((لَتُسَوُّنَّ صفوفَكم أو ليُخَالِفَنَّ اللهُ بين وجوهكم)) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وفي رواية لأبي داود وابن حبان في صحيحه قال: أقبل رسول الله على الناس بوجهه فقال: ((أقيموا صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أعظم أجرًا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فَسَدَّها)) رواه البزار بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه كلاهما بالشطر الأول، ورواه الطبراني في الأوسط.
وليتنبه لهذا الحديث أولئك الذين يغرزون مناكبهم عند مفصل المرفقين كأنها الرماح في جنوب من يجاورهم في الصلاة وقوفًا وركوعًا وسجودًا، وسدُّ الفُرَجِ والخَلَلِ ووصْلُ الصفوف لا يعني مضايقة الآخرين وأذيتهم والتسبب في عدم الخشوع لدى الجميع خاصة ممن يجاورهم بمناكبهم ومرافقهم أو بملاحقتهم بأقدامهم لإلصاقها بأقدام المجاورين وتحسّسها كل لحظة كما يفهمه من قلَّ فِقْهُهُ في الدين وأشغل نفسه في صلاته وأشغل غيره، وقد أشرتُ إلى هذا في صفة الصلاة وهيئتها، وأورد هذا الحديث التالي لكي يتعلّم منه ومن غيره من الأحاديث قليلو الفقه في الدين ليعلموا الحكمة من وراء كل حديث ويجمعوا بين الأحاديث ويعلموا المقصود منها ويطبقوها بحكمة ورويّة وفقهٍ مصحوبٍ بحسن النية عند تطبيق السنة مع الإخلاص لله رب العالمين وطلب القبول من الله جل جلاله: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذِيَ أحدًا أضعف الله له أجر الصف الأول)) رواه الطبراني في الأوسط. فهل يفهم أحد من هذا الحديث أو من الحديث السابق: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة)) ، هل يفهم منهما أو من أحاديث أخرى بأنها الشدة والغلظة والمضايقة وأذية الآخرين وإذهاب الخشوع عنهم وإشغالهم بهذه المفاهيم الخاطئة التي لا تدل على أي فقه في دين الله؟! وهل ورد نص صريح واضح فيما يُقدمون عليه أم أنها تفسيرات خاطئة لنصوص واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وبلغة عربية فصحى لا تحتاج إلى هذه التفسيرات والتأويلات البعيدة كل البعد عن المقصود منها؟! ولم أجد حديثًا صريحًا صحيحًا عن رسول الله يؤيد ما ذهبتْ إليه تلك الأفهامُ أو تلك الاجتهاداتُ التي ألزمت الناس بإلزاق الأقدام من المقدمة والمؤخرة والأكعب ومعها الركب والمناكب في وقت واحد حال الوقوف في الصلاة، فهذا مفهوم خاطئ لمن أوّل بعض ألفاظ الأحاديث حتى قالوا: يلزق الرجل منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه، فإذا كان إلزاق القدم بالقدم ممكنًا مع ما فيه من التكلّف لأنه لا يمكن أن يلزق قدميه بقدمي المجاوريْن له إلا مع اعوجاج للقدمين لأنَّ مؤخرةَ القدم ليست كمقدّمته، فلا يمكن مطابقتهما وتساويهما في وقت واحد، فأقول: إذا كان ذلك الإلزاقُ ممكنًا فإنه لا يمكن أن يحصلَ إِلْزَاقُ الكعبين في نفس الوقت إلا مع رفع بعض باطن القدمين عن الأرض، هذا إذا كان قَدَمَا المُجَاوِرَيْنِ بنفس الطول، فكيف إذا كان هذا الشخص الذي في الوسط كبيرًا وعريضًا في جسمه والذي عن يساره في العاشرة من عمره، والذي في اليمين قصير القامة وإن كان مثله في العمر، فهل يمكن أن تنطبق قدماه مع من في يمينه وشِمَالِهِ من أولها إلى آخرها؟! وهل يمكن إلزاق كعبيه بكعبي المجاوِرَيْن له؟! إنه لا يمكن أن يلزق الكعبين مع كعبي من يجاوره بأيّ حال من الأحوال؛ لأن الكعبين الواردين في الآية هما العظمان الناشزان فوق القدمين وليسا أسفل القدمين مما يلي الأرض.
فليحذر المسلم من الإفراط أو التفريط، وعليه بالاعتدال والوسطية في الأمور كلها دون تكلف لفهم المعاني التي تبعدها عن مقاصدها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والشكر له عز وجل على آلائه ونعمائه الظاهرة والباطنة، أحمده سبحانه وأشكره حمدًا وشكرًا يليقان بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه فسمعته يقول: ((ربّ قني عذابك يوم تبعث عبادك)) رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن، وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله قال: ((إن الله وملائكته يُصَلُّونَ على الذين يَصِلُونَ الصفوف)) رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وزاد ابن ماجة: ((ومن سدّ فرجة رفعه الله بها درجة)) ، وقد تقدم الحديث الذي فيه قوله : ((من وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف الأول، وما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها العبد يصل بها صفًا)) رواه أبو داود وابن خزيمة، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي قال: ((خطوتان إحداهما أحبُّ الخطى إلى الله، والأخرى أبغض الخطى إلى الله، فأما التي يحبها الله عز وجل فرجل نظر إلى خلل في الصف فسدّه، وأما التي يبغضها الله فإذا أراد الرجل أن يقوم مدّ رجله اليمنى ووضع يده عليها وأثبت اليسرى ثم قام)) رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
ومن الأمور التي ينبغي ملاحظتها والفقه فيها الصلاة في مَيْسَرَةِ الصفوف حيث زَهِدَ ورَغِبَ بعض المسلمين عن ذلك ويصلون في اليمين دائمًا، ومما لا شك فيه أن الصلاة في اليمين أفضل وخاصة لمن يبادر بالحضور المبكر ليحوز على الأجر العظيم، وميسرة الصف الأول خير من يمين الصف الثاني لورود ما يدل على ذلك من حديث رسول الله ، ولو كانت ميامن الصفوف حتى وإن كانت متأخرة خيرًا من الميسرة وإن كانت متقدمة لما وردت الأحاديث بالترغيب في الصفوف الأول للرجال والترهيب من التأخر في الصفوف، ولكانت المساجد مبنية ومصمّمة على أن يكون الصف عن يمين الإمام وهو في آخر الصف من اليسار، ولما كان هناك معنى من أحاديث الرسول والتي سبق ذكر بعضها، وكذلك قوله : ((وَسِّطُوا الإمام)) ، والحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَنْ عَمَّرَ جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله أجران)) رواه الطبراني في الكبير.
وعن الذين يكونون في الصفوف الأولى وخاصة وراء الإمام والترهيب من تأخر الرجال في الصفوف وردت أحاديث، منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ((اسْتَوُوا ولا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم، لِيَلِينِي منكم أُولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) رواه مسلم وغيره.فمما ينبغي مراعاته لمن يُحْضِر أبناءَه الصغار إلى المسجد وخاصة مَنْ كان دون سِنِّ التمييز أن يعلمهم آداب الصلاة والحضور إلى المساجد وأين يقفون في الصفوف، فعلى الأبناء أن يتأخروا خلف صفوف الرجال لما سبق ذكره في الحديث السابق، وإن كان لا بُدَّ لأحدهم أن يوقف ابنه بجانبه فعليه أن يكون هو في طرف الصف من جهة اليمين أو اليسار ويوقف ابنه بجانبه جهة الجدار لئلا يُشْغِلَ المأمومين بجانبه يمينًا وشمالاً ويُذْهِبَ عنهم الخشوع في صلاتهم لما يحدثه من حركات وغيرها، وليكون الاشتغال به من جانب الأب فقط، وليلاحظ ما يحصل منه من أجل توجيهه وإرشاده.
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله رأى في أصحابه تَأَخُّرًا فقال لهم: ((تقدَّمُوا فَأْتَمُّوا بي، ولْيأتَمَّ بكم مَنْ بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ)). ولْيَفْهَم هذا الحديث من يصلي في مؤخرة المسجد في الجمعة ويكون متقدمًا حتى يخرج مبكرًا قبل غيره ويرغب عن الأجر في الصفوف الأول، ولننظر إلى صفوف الجنود والعسكريين في أي قطاع عندما يقفون صفوفًا أو يمشون وهم يقفون أمام البشر وحسب تنظيماتهم وإن كان قد وردت تسوية صفوف الجنود المجاهدين عن رسول الله ، فأقول: إن اهتمامهم بتسوية الصفوف وعدم خروج أي شخص عن الصف وهم يقفون ويمشون ويتدرّبون أو يؤدّون عروضًا عسكرية أمام البشر، إن ذلك الاهتمام وأكثر منه يجب أن يكون من المسلم عندما يقف بين يدي ربه عز وجل في الصلاة كما أمر به رسول الله ، والسبب الحقيقي وراء هذه الاختلافات والمفاهيم هو أنه لم توجد أي جهة فيما أعلم من مجتمعات المسلمين مدرسة أو مسجد أو وسيلة إعلامية تطبق ذلك عمليًا أمام أعين الناس وترشدهم وتوجههم حتى في الفصول الدراسية في المدارس الحكومية أو الأهلية الخاصة أو الخيرية، فلا زال الأمر من القديم إلى الحديث نظريًا على كل المستويات، ويتوارثه الأفراد عن الآباء والأجداد من الناحية العملية، هذا إن قاموا به أمام أولادهم الذكور والإناث، أما العملي في المساجد فلا يتعدى أن يقول الإمام وهو في المحراب: استووا، اعتدلوا، وقليل من يقول: أتِمُّوا الصفوف وسُدُّوا الخَلَلَ، وكثير من الأئمة يقول أحدهم هذه العبارات وهو مستقبل القبلة ولا يلتفت بل يتكلم عبر لاقط الصوت ثم يكبر تكبيرة الإحرام، وقليل من يلتفت إلى المأمومين ويرشدهم ويوجههم، وقد يتذمّر بعض المصلين من هذا الصنف من الأئمة، فعلى الجهات المسؤولة عن توجيه الناس وإرشادهم في كل بلد إسلامي في المدارس والمعاهد والجامعات ووسائل الإعلام، عليها أن تولي الصلاة جُلَّ عنايتها واهتمامها من ناحية التطبيق العملي صفةً وهيئةً وقوفًا وركوعًا وجلوسًا وقراءةً وخشوعًا للمنفرد وللإمام والمأموم، وخاصة كيفية الوقوف في الصفوف وتسويتها وإتمامها وسدّ الخلل فيها مع عدم أذية الآخرين الواقفين ضمن تلك الصفوف في أي هيئة وكيفية وصفة للصلاة، وإني لآمل وأنتظر من الفضائيات في بلاد المسلمين أنْ تهتمَّ بهذا الجانب المُهِمِّ في حياة المسلمين كما أنهم تفضلوا بنقل شعائر صلاة التراويح من الحرمين الشريفين أو تلك الفضائيات التي تنقل الصلاة الجهرية يوميًا منهما والجمعة خطبة وصلاة، أو تلك التي تقوم بتعليم الناس القرآن الكريم عن بُعْدٍ تطبيقًا عمليًا، وهذا أمر محمود وخطوة مباركة كما ينقلون هذا للعالم بأسره ولهم من الله الأجر والمثوبة، إني لأتطلع لليوم الذي تنقل فيه الفضائيات تطبيق الصلاة العملي والوضوء مع الدليل الصحيح لكل فعل وقول، وكما أدّت وسائل الإعلام بعضًا من دورها الإسلامي في الجوانب السابقة وقامت بذلك فإن الأمل معقود على شبابها ودعاتها المخلصين أن يقوموا بدورهم في هذا، وأَخُصُّ القنوات الإسلامية، وكذلك في الحج والعمرة؛ حتى يتمَّ البَثُّ عَبْرَ الفضائيات للتطبيق العملي لكي يستفيد الناس قبل أن يأتوا إلى المشاعر المقدسة، وحتى تسهل عليهم أعمال الحج والعمرة؛ لأنهم بذلك قد أخذوا فكرة واضحة متكررة أمام أعينهم في جميع بقاع الأرض، ثم يأتون وقد تيسّر عليهم التطبيق العملي بإذن الله عز وجل.
وخلاصة القول: فعلينا معرفة وتطبيق آداب الصلاة عند دخول المسجد واختيار الصّفّ ومرورًا بالقيام في الصلاة تسويةً للصفوف وقوفًا وركوعًا وسجودًا وجلوسًا حتى انتهاء الصلاة والخروج من المسجد والمرور بين يدي المصلي وغيره والذي يأتي في حينه إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد وآله...
(1/5528)
الخشوع في الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
16/3/1422
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد الخشوع في العبادات. 2- خشوع الخلائق يوم القيامة. 3- فضل الخشوع. 4- الخشوع خشوع القلب. 5- أسباب الخشوع. 6- مفسدات الخشوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الخشوع أمر مطلوب من المسلم في مقامات العبودية المتعددة؛ في الصلاة والصيام والحج والعمرة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والصدقة وغير ذلك من المقامات التي ينبغي أن يكون الخشوع ملازمًا لها، الخشوع بمعناه الشرعي الواسع المصاحب للأمور التعبدية التي يُظهر فيها العبدُ المسلمُ الذلَّ والانكسارَ والخضوعَ والتواضعَ والاستكانةَ والتطامنَ، وليس كما يفهمه بعض الناس ويقصرونه على الخشوع الظاهر على الشخص في الصلاة، إنما هو أوسع من ذلك، وأصلُ الخشوع لينُ القلب ورقَّتُه وسكونُه وخضوعُه وانكسارُه وحرقتُه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء مثل السمع والبصر واللسان وغيرها من الجوارح والأعضاء، قال رسول الله : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي.
والناس في مقامات متعددة يخشعون ويذلون وينكسرون وينيبون إلى ربهم، سواء اختاروا ذلك لأنفسهم وهو الأجدر بهم أو عَرَض لهم وقُدِّر عليهم في أزمنة وأمكنة ومواقف معينة وخاصة يوم القيامة؛ يوم البعث والنشور والجزاء والحساب ونصب الموازين يخشع البَرُّ والفاجر والرئيس والمرؤوس والظالم والمظلوم والغني والفقير، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا [طه: 108]. من هول ذلك اليوم العظيم لا ترى إلا الأبصار شاخصة إلى السماء، ولا تسمع إلا صوت الأقدام الخفية الخافتة، كل ينتظر كتابه وما قدمت يداه.
والصلاة قد أمرنا الله عز وجل بالاستعانة بها على أمور الحياة ومشاقِّها إضافة إلى الصبر، والصلاة شاقة ثقيلة إلا على الخاشعين من المؤمنين فإنها سهلة ميسرة على نفوسهم، لا يجدون الأنس والراحة والطمأنينة إلا فيها وبها، لا تنقضي صلاة فرض إلا وقلوبهم معلّقة بالتي تليها، ولا ينتهون من فريضة إلا وينتقلون إلى نافلة، جُعلت قُرَّةُ عيونهم في الصلاة كما أمرهم الله بذلك وكما سنّ لهم ذلك رسول الله بفعله وقوله وإقراره، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45، 46].
وقد جاء الخبر عن سيد البشر محمد بالسنة القولية والفعلية بأن قُرَّةَ عينه كانت في الصلاة، فقال : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) ، وكان إذا حَزَبَهُ أمرٌ فَزِعَ إلى الصلاة، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((أَرِحْنَا بالصلاة يا بلال)) ، ولم يقل: "أرحنا من الصلاة" كما هو حال بعض المسلمين اليوم، فالفرق واضح بين "أرحنا منها" و"أرحنا بها"، ولا أعتقد أن المعنى غامض بعد هذا ولا حتى عند الذين يريدون أن يرتاحوا منها بسرعة أدائها والخروج منها وثقلها عليهم عندما يقرأ الإمام آيات أطول مما اعتاده كثير من المسلمين اليوم، أو أولئك الذين ما إن يدخل أحدهم من باب المسجد إلا ويلتفت يمينًا وشمالاً يريد إقامة الصلاة للتخلص منها بسرعة ثم يخرج منها بعد السلام كأنه كان في سجن أو قد رُبط وقُيِّدَ بالأغلال، مع علمه بأن الخشوع في الصلاة هو روحُها ولبّها، والصلاة بلا خشوع في القلب كالقشور بلا لُبٍّ وكالجسد بلا روح، وقد وصف الله المؤمنين المفلحين الفائزين بالخشوع في الصلاة، وكذلك وصف رسلَه وعبادَه الصالحين وكذلك أهل العلم الذين هم أكثر الناس خشية لله عز وجل خاصة عندما يسمعون كلام الله يُتلى عليهم، قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90]، وقال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2]، وقال تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، وقال عَزَّ شَأنُه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107-109].
ويجب أن يكون الخشوع نابعًا من القلب لا يريد به العبد إلا وجه الله تعالى والإخلاص له والتقرب إليه عز وجل وفْقَ سنة رسول الله ، لا أن يكون الخشوع متكلّفًا في الجوارح والأطرافِ والقلبُ منه خاوٍ، فمتى تكلَّف الإنسانُ الخشوعَ في جوارحه وأطرافه وفي حركاته وذكره وقراءته للقرآن أثناء الصلاة حتى يظهر أمام الناس خاشعًا وقلبه وفكره وعقله ليس موافقًا وشاهدًا على ذلك فإن ذلك رياء وسمعة، بل قد يكون نفاقًا أو شركًا عياذًا بالله من ذلك، وليس الخشوع في انحناء الرقبة وتنكيس الرأس في الصلاة وخلافها، ولقد رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شابًا ناكسًا رأسه ورقبته، فقال له: يا هذا، ارفع رأسك فإن الخشوع ليس في الرقاب، وقيل بأنه قال: ارفع رأسك لا تُمِتْ علينا ديننا.
والخشوع الحاصل في القلب إنما يحصل من معرفة الله عز وجل ومعرفة عظمته، فمن كان بالله أعرف كان له أخشع، ومن أعظم الأسباب لحصول الخشوع تدبر كلام الله عز وجل، قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21]، وكما ورد في الآية السابق ذكرها عن المؤمنين من علماء أهل الكتاب الذين يخشعون عند سماع هذا القرآن، كما ذم الله عز وجل من لا يخشع عند سماع كلامه تعالى وذكره ونهى المؤمنين عن سلوك طريق القاسية قلوبهم، قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أنْ عُوتِبْنَا بهذه الآية إلا أربع سنين. رواه مسلم. وتوعد الله أصحاب القلوب القاسية بقوله: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22]، وذكر من أوصاف الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من العذاب أو النعيم بأن قلوبهم تشمئز عندما يسمعون ذكر الله عز وجل في القرآن والمواعظ التي فيها قال الله وقال رسوله، ولكن عندما يُذكر ما دون ذلك من لغو الحديث ولهوه والغناء وما إلى ذلك تنشرح صدورهم، نعوذ بالله من حالهم الذي هو حال المنافقين، قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45]. أما المؤمنون الذين شرح الله صدورهم للإسلام ونوّر قلوبهم فإن جلودهم تقشعر وتلين هي وقلوبهم عند ذكر الله أو سماع كلامه عز وجل، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23].
ولقد كان رسول الله في دعائه يستعيذ بالله من قلب لا يخشع كما ورد عنه في قوله: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) ، وكان يقول في ركوعه في الصلاة: ((خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلَّ به قدمي)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد، وروى الإمام مسلم رحمه الله من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه أحمد والترمذي.
فالشاهد قوله: ((وخشوعها)) ، فللخشوع في الصلاة أسباب، من أعظمها استحضار عظمة الله تبارك وتعالى حيث يشعر المصلي بأنه واقف بين يديه عز وجل، وأن الله قريب منه محيط بجميع عباده بعلمه وقدرته وتدبيره وسمعه وبصره وغير ذلك من معاني الربوبية وإن كان مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فإذا استشعر العبد المسلم أن الله يسمعه ويراه ويطلع على ما في قلبه وضميره واستحيا من الله عز وجل حق الحياء فإنه يخشع قلبه وجوارحه ويكبّر ويضع يده اليمنى على اليسرى فوق الصدر ويذل وينكسر بين يدي الله تبارك وتعالى ويلزم السكون ويترك الحركة والعبث في الثوب والعمامة والبشت واللحية والأنف والساعة وغيرها من الحركات التي تُعَدُّ بالعشرات وقد تتجاوز مائة حركة عند بعض المصلين، تلك الحركات التي تَبْطُلُ الصلاةُ بكثرتها ويذهب معها الخشوع الذي هو لبُّ الصلاة وروحُها، وقد يتدهده بعض الناس ويتحرك يمينًا وشمالاً وإلى الأمام والخلف ويحرك يديه ورجليه ورقبته ورأسه أيضًا كالصوفية ويؤذي من يجاوره ويشغله، وأحيانًا يرفع صوته بالقراءة والأذكار ويحرك شفتيه ولسانه ويشغل غيره إما لوسواس به أو ليُظهر الخشوع وحضور القلب والجوارح أمام الناس، وهذا من الشيطان ونزغاته التي يدخلها على الشخص ليورده المهالك وليفسد عليه وعلى غيره الصلاة، وأقل ما هناك إشغال المصلين من حوله ليذهب عنهم الخشوع بتفكيرهم في حاله واهتمام بعضهم بنصحه وإرشاده بعد الصلاة، ولو خشع قلبه حقًّا لخشعت جوارحه وسكنت.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمن أسباب الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها عدمُ الانشغال بهموم الدنيا وأعمالها وإن كان لا يسلم من ذلك أحد إلا من شاء الله، وأن يُقْبِلَ المسلمُ بقلبه على الله وكذلك بأعضائه وجوارحه. ومنها النظرُ إلى موضع السجود وعدمُ الالتفات وأن لا يشتغل بغير الصلاة، ولنتذكر جميعًا حال كثير من الناس خاصة في هذه الأيام عندما يقفون أو يجلسون أمام رئيس أو ملك أو أمير أو غيرهم سواء هم يتكلمون معهم أو يسمعون وينصتون إلى كلامهم وحديثهم كيف يُطْرِقُ ذلك السامعُ ويكون في غاية من الخشوع والإنصات وذلِّ العبد للعبد ومسكنته، ولا يلتفت يمينًا أو شمالاً ولا يحرك ساكنًا ولا يعبث بشيء من ملابسه أو أطرافه ولا يكثر حتى الحركات التي قد يحتاج إليها ضرورة لإصلاح ملابسه أو هيئته في الجلوس أو الوقوف خوفًا من العبد المسكين الذي أمامه وقد يكون إجلالاً واحترامًا له، هذا وأكثر هو حال كثير من الناس مع العبيد أمثالهم، ولو فعل أحد غير ذلك ولم يستمع وينصت ويطرق ويَكُنْ حاضرًا بجميع حواسه وجوارحه لحصل أمر لا تُحمد عقباه، فلله المثل الأعلى وتعالى الله سبحانه وعز شأنه وعظم سلطانه، أليس الله بأحق أن يكون له الذل والانكسار وإظهار الحاجة والفقر والخضوع والسكون وحضور القلب والجوارح وعدم العبث وكثرة الحركات والالتفات في الصلاة؟! إن ذلك وغيره مما يقرب إلى الله جدير بكل مسلم أن يفعله وأن يراقب الله في سره وعلانيته.
إن الالتفات في الصلاة نوعان:
أحدهما: التفات القلب عن الله جلَّ جلاله بالانصراف إلى الدنيا وأشغالها وعدم التفرغ لله عزّ شأنه وتعالى سلطانه، جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن النبي أنه قال في فضل الوضوء وثوابه بعد أن ذكره وقال: ((فإن هو قام وصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجَّده بالذي هو أهله وفرّغ قلبه انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه)).
والنوع الثاني من الالتفات في الصلاة: الالتفات بالنظر يمينًا وشمالاً، وكذلك الجوارح والحواس والأعضاء الأخرى إنما يحدث لها الالتفات عندما يلتفت القلب والفكر والعقل وتنشغل بغير الله، أو يلتفت الشخص ببصره ثم يتبعه القلب والعقل للتفكير فيما انصرف إليه، وعندها تنشغل الأعضاء الأخرى بالحركات وكثرتها.
والمشروع للمصلي أن يقصر نظره على موضع سجوده، ولا يلتفت يمينًا أو شمالاً، ولا يرفع بصره إلى السماء، ولا ينظر فيما هو أعلى من موضع السجود؛ لأن ذلك من لوازم الخشوع وقطع الاشتغال بالمناظر والأشياء التي حوله وأَدْعَى إلى كمال الصلاة ونفعها للعبد وانتفاعه بها أجرًا وسلوكًا وتأثرًا في العاجل والآجل وتأثيرًا في غيره أيضًا، وهذا من ثمرات الخشوع في الصلاة التي يجنيها المسلم ويجدها جزاءً من جنس العمل.
ويكثر بعض المصلين الالتفات بالبصر يمينًا وشمالاً ورفعًا إلى السماء وخفضًا إلى المقصود رؤيته، وقد يكون الالتفاف بالرأس أو بعض أجزاء الجسم مع البصر، وقد يُصْلِحُ أحدهم عمامته وعقاله في الصلاة أمام الزجاج العاكس الموجود في نوافذ بعض المساجد وأبوابه التي أمامه أو البلاط اللامع الذي يعكس صورته، فمن كان هذا حاله فليس في قلبه شيء من الخشوع، روى الإمام البخاري رحمه الله من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي عن الالتفات في الصلاة فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد رحمهم الله، وقال : ((لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي، وقد سبقت الإشارة إلى بعض أنواع الحركات وكثرتها والاشتغال بها في الملابس وبعض أجزاء الجسم حتى من الذين يُرى عليهم الصلاح واهتمامهم بالصلاة حيث يقومون بحركات تتعدى العشرات وأصبحت روتينًا في صلاتهم تعلموها من غيرهم تقليدًا وأخذها عنهم غيرهم كذلك، ومنها إصلاح العمامة من الجوانب ووضعها على بعض وفوق الرأس بعد تكبيرة الإحرام وقبل أن يضع أحدهم يده اليمنى على اليسرى، وبعد القيام من الركوع في كل ركعة، وبعد الاعتدال للجلسة بين السجدتين وعند التشهد، ويعتبرونها من مكملات الصلاة وهيئتها.
ومن الأسباب المذهبة للخشوع أيضًا لهم ولغيرهم كثرة حركات إصبع السبابة اليمنى عندهم بسرعة متناهية في التشهد، فَلا هُمْ عرفوا السنة وطبقوا الحديث في وضع اليد اليمنى على الفخذ، ولا التزموا الرفع والتحريك للإصبع بعد انتهاء الجُمَل لعدم معرفتهم بنهاية كل جُمْلة وبداية الجملة الأخرى في الدعاء الوارد في جمل التشهد وبعده. ومنها تَتَبُّعُ أحدهم بقدميه مَنْ بجانبه وإشغاله غيره بذلك حتى يذهب الخشوع عن الجميع، وكذلك مضايقة الآخرين يمينًا وشمالاً بالتوسع في الفتحة فيما بين القدمين في الوقوف كأن أحدهم يمارس ألعابًا رياضية ولا يكتفي بما يقابل عرض منكبيه في مكان وقوفه بل يتعدى ويظلم غيره ويضايقه، وأيضًا يمدُّ أحدُهم جسمَه في السجود ويفرده حتى يكوِّنَ زاوية قائمة لفخذيه من الخلف ويؤذي من أمامه في الصف برأسه ومن خلفه بقدميه خاصة عندما يكون طويلَ القامة، والمسافةُ بين الصفين لا تتعدى المتر والرُّبْع غالبًا، وكذلك الحال في الجلسة بين السجدتين وعند التشهد وفي السجود أيضًا حيث يفتح أحدهم ما بين ركبتيه وفخذيه حتى تكون كالعدد سبعة ويضايق جَارَيْه في اليمين والشمال، وكذلك وضع المنكبين والمرفقين كالحربة لمضايقة المُجَاوِرَيْنِ بهما أثناء الوقوف والسجود، ويمارس ذلك فعلاً بعضُ المصلين، فهذه الحركات والهيئات والأنانية الممقوتة التي تزعج المصلين وتضايقهم وتؤذيهم هي من الأسباب المُذْهِبَةِ للخشوع في الصلاة والمَنْهِيِّ عنها.
ومنها أيضًا إحضار بعض المصلين للأطفال الصغار وإيقافهم بين كبار السن، وقد يكون ذلك خلف الإمام، ثم يقوم أولئك الأطفال بالعبث والحركات الكثيرة في الصلاة والتي تسبب ذهاب الخشوع عن المصلين في اليمين والشمال والخلف، ولو كان أولياؤهم الذين أحضروهم أو الذين أرسلوهم للمسجد حريصين حقًّا على تعليمهم وتعويدهم الصلاة لعلموهم أولاً آداب الصلاة والجلوس في المسجد واحترامه ثم جعلوهم في طرف الصف إلى الجدار وهم بجوارهم حتى يعلِّموهم ويوجّهوهم بعد ملاحظة ما يَبْدُرُ منهم من حركات وعبث في الصلاة، وثانيًا: لو كان ذلك حرصًا حقيقيًّا لاصطحبوا أبناءهم الذكور البالغين إلى المساجد وَلَمَا تركوهم في البيوت أو في الشوارع والطرقات.
ومن الأسباب المذهبة للخشوع أيضًا في الصلاة عدم إغلاق أجهزة الهاتف المحمول قبل الدخول في الصلاة، خاصة تلك الأجهزة المحمَّل عليها النغمات الموسيقية المحرمة والتي يتسابق التافهون إلى تغييرها واستبدالها بين حين وآخر، وبعضهم لا يعرف كيف يُقْفل الهاتف عندما يتم الاتصال عليه، ثم يعيد المتَّصِلُ الاتصالَ مرات ومرات وهو في الصلاة، فيشغل مَنْ في المسجد ويذهب عنهم الخشوع بسبب عدم إقفال الجهاز ولصدور تلك الأصوات المؤذية سواء المحرمة كالموسيقى أو المباحة كالمنبهات العادية أو تلك المقاطع الممتهنة وإن كانت من القرآن أو الأذان أو الدعاء والأذكار لأنها تُقْطَعُ وليس هذا مكانها، فصاحب الهاتف يتحمل إثمًا خاصة عندما يتعمد تحميل جهازه المقاطع الموسيقية وتشغيلها وخاصة في المساجد وأماكن الطاعات وإن كانت محرمة في كل الأوقات، والمتصل أيضًا يتحمل إثمَ الاتصال خاصة إن كان رجلاً وفي نفس المدينة؛ لأنه من المُفْتَرَضِ عليه أن يحضر الصلاة جماعة في المسجد، أما إن كان الاتصال من امرأة وليس لديها ما يمنعها من الصلاة فإنها تكون راكعة ساجدة مؤدية للصلاة في بيتها، وإن كان المتصل في مدينة أخرى فالمتعين عليه أن يعرف فوارق التوقيت بين المدن ومواعيد الصلاة قبل أن يتصل.
وإن كان الذي ذكرته آنفًا من الآداب المرعية التي ينبغي للمسلم أن يتحلَّى بها ويمارسها ولكنها تلاقي الاستهتار وعدم المبالاة بين كثير من المسلمين لأنها أمور صعبة المنال في نظر أصحاب المظاهر الزائفة والغرور الزائد عند بعض الناس الذين يهمُّ بعضُهم بالردِّ على المتصل وهو في الصلاة، وأقلُّهم من يخرج الهاتف من جيبه وينظر إليه ليعرف المتصل ورقمه ثم يقفله، أما مَنْ كان مِنْ هذا النوع في المسجد ولم يدخل في الصلاة أو بعدها فإنه يقوم بالردّ أو الاتصال بصوت مرتفع يشغل المصلين والذاكرين الله، ولو عرف هذا الصنف من المصلين معنى الصلاة والخشوع لغيّروا هذا السلوك وكل سلوك خاطئ دون تردد، والحقيقة أنه لن يُوقِفَ هذه الأصنافَ من الناس إلا قوَّةُ النظام والعقاب الذي طُبِّقَ في الطائرات وسمعنا عن العزم على تطبيقه على قائدي السيارات، أو تعطيل شبكة الإرسال للهواتف المحمولة كما هو معمول به في المستشفيات، فعسى أن يعمم ذلك على المساجد، وإني لأتمنى أن يكون كل مسلم مستشعرًا عظمة الوقوف بين يدي الله عز وجل ويبتعد عن كل ما يسيء لغيره ويؤذيه وينقص من أجره أو يذهبه ويراقب ربه تبارك وتعالى ويخاف منه بدلاً من الخوف من البشر.
ومن أسباب ذهاب الخشوع أيضًا الصادرة ممن هم خارج المسجد ما يسمعه المصلون في بعض المساجد من وصول قراءة الأئمة في الصلاة الجهرية عبر مكبرات الصوت في مساجد قد تبعد عن المسجد المسموع فيه القراءة عدة كيلومترات بحيث لا يستطيع المصلون في هذا المسجد متابعة قراءة إمامهم ولا تمكين أحدهم من قول الأذكار في الركوع والسجود والاعتدال والتشهد لانشغالهم بما يصلهم من أصوات والتشويش عليهم، فهذا يعتبر في الحكم بالقياس من الجهر بالقراءة المنهي عنه في الصلاة الوارد في الحديث النبوي الشريف حيث نهى عن ذلك رسولُ الله الصحابةَ الذين يُصَلُّون النافلةَ في المسجد وسمع رَفْعَ أصواتهم بالقراءة، فقال : ((لا يَجْهَرْ بعضُكم على بعض بالقراءة في الصلاة؛ فكلٌّ يُنَاجِي رَبَّهُ)).
وأيضًا من الأسباب ما يصدر من بعض العمال أو من الآلات التي يستخدمونها في العمارات التي تحت الإنشاء أو الترميم المجاورة للمسجد أو في الحفريات لأي تمديدات مجاورة ممن لا يحضرون الصلاة مع أنه من المفترض إلزامهم بالحضور للصلاة في المسجد إن كانوا مسلمين أو التوقف عن العمل إن كانوا غير ذلك احترامًا لشعيرة الصلاة ولمشاعر المسلمين.
من الأسباب أيضًا كثرة الزخارف الموجودة في جدران المساجد وفرشها والتي تشغل المصلين وتلهيهم عن صلاتهم، وقد نزع رسول الله الإنبجانية التي لبسها في الصلاة وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنها أَلْهَتْنِي آنفًا عن صلاتي)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
فكل ما ذُكِرَ ومما لم يُذْكَرْ ومما هو سبب في عدم الخشوع في الصلاة منذر بالخطر ووقوع صدق الخبر عن سيد البشر محمد حيث نعيش ما أخبرنا به رسولنا وحبيبنا محمد ، قال : ((أولُ ما يُرفع من الناس الخشوعُ)) رواه الطبراني، وله شاهد في المسند عند أحمد رحمه الله، قال : ((تنقض عرى الإسلام عروة عروة، وأول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدونه الصلاة)) ، فالأمانة قد ذهبت من سنين عديدة عند كثير من الناس، والصلاة والخشوع فيها كما نعلمه ونشاهده، وليتأملْ كلٌّ مِنَّا حَالَهُ وحالَ غيرِه ليرى صِدْقَ ما أخبر به رسولنا محمد.
(1/5529)
الأذكار بعد الصلاة المفروضة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الدعاء والذكر, الصلاة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
19/2/1409
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الإكثار من ذكر الله تعالى. 2- مشروعية الذكر بعد كثير من أنواع العبادات. 3- الأذكار المسنونة بعد الصلاة المكتوبة. 4- مسائل متعلقة بكيفية التسبيح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسولنا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بذكره وعلَّق الفلاح في الدنيا والآخرة بالمداومة على ذلك والإكثار منه، وقد ورد ذلك كثيرًا في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله ، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ ?لَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ وَكَانَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 41-42]، وقال تعالى: ?ذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ?لْجَهْرِ مِنَ ?لْقَوْلِ بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [الأعراف: 205]، وقال عز وجل: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]. وأثنى سبحانه على عباده المسلمين والمسلمات من الجنسين الذكور والإناث، وفي نهاية الآية الكريمة قال تعالى: وَ?لذاكِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذاكِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]. فهنا وعدهم أحسن الجزاء على ذكرهم له تعالى كثيرًا، كما توعد سبحانه في المقابل مَنْ لَهَا عن ذكره بأشدّ الوعيد فقال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [المنافقون: 9].
إن ذكر الله تعالى أكبر من كل شيء، فبعد أن ذكر إقامة الصلاة أخبر تعالى بأن المقصود من العبادات والطاعات على اختلاف أنواعها هو إقامة ذكره تعالى: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].
ولو تتبعنا الآيات الواردة في الذكر عمومًا لطال بنا المقام حيث المقصود هنا هو إثبات الذكر عقب العبادة بأنه أمر مطلوب ومندوب، فعلى المسلم أن لاَّ يغفله وأن لاَّ يتهاون به، وخاصة بعد الصلوات، وهو موضوع خطبتنا هذه، فالدليل على الذكر في ختام الصيام قوله تعالى بعد ذكر الصوم: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185]، وفي ختام الحج قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200]، والذكر ختام الصلاة وبعد الانتهاء منها قول الله تعالى: وَمِنَ ?لَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـ?رَ ?لسُّجُودِ [ق: 40]. فالذكر يختم به المسلمُ صلاتَه حتى في حالة الحرب مع العدو بعد صلاة الخوف على أي حال يكون عليه قائمًا أو قاعدًا أو على جنب، وعند الاطمئنان عليه أن يقيم الصلاة حق الإقامة، ومنها ذكره سبحانه وتعالى، فقال عز وجل بعد ذكره صلاة الخوف حال الحرب مع العدو: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ قِيَـ?مًا وَقُعُودًا وَعَلَى? جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ?طْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?بًا مَّوْقُوتًا [النساء: 103]. وأمر الله المؤمنين المقاتلين بذكره عز وجل كثيرًا عند لقاء العدو فقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45]. والذكر أيضًا هو ختام صلاة الجمعة فقال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]. فذكر الله تعالى عقب الصلاة المفروضة مطلوب من المسلم أن يفعله ليحوز بذلك على الأجر العظيم في الوقت الذي يحرص الشيطان الرجيم على تذكير المصلي حاجته واستعجاله له لِيُفَوِّتَ عليه الفرصة ليكون المسلم هو الخاسر في هذه الحال في الظاهر والشيطان هو الرابح مع أنه صاحب الخسران المبين لأنه استطاع أن يبعده عن ذكر الله تعالى.
وأورد بعض الأحاديث في الأذكار المشروعة عقب الصلوات ليحافظ عليها المسلم من أجل أن يضيف رصيدًا عظيمًا من الحسنات إلى أعماله الصالحة في كل يوم ليغفر الله ذنوبه ويرفع درجته في الجنة إن شاء الله، عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) ، قيل للأوزاعي وهو أحد رواة الحديث: كيف الاستغفار؟ قال: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أستغفر الله، أستغفر الله.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)).
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يقول دبر كل صلاة حين يسلم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)). قال ابن الزبير: وكان رسول الله يهلل بهن دبر كل صلاة.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((مُعَقِّبَاتٌ لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، وثلاثًا وثلاثين تحميدة، وأربعًا وثلاثين تكبيرة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين تسبيحة وحمد الله ثلاثًا وثلاثين وكبر الله ثلاثًا وثلاثين وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غُفِرَتْ خطاياه وإن كانت مثلَ زبد البحر)).
وقد وردت عدة أحاديث في التسبيح والتحميد والتكبير بروايات عِدَّة وعَدَدٍ مُغَايِرٍ فيعمل بما تيسر منها، وكذلك العمل بها ولو مرة، واتباع الأكمل في العدد هو الأفضل عندما يكون الخبر في ذلك صحيحًا.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من قرأ آية الكرسي دبرَ كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)) ، وعن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي قال: ((من قرأ آية الكرسي في دُبرِ الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى)).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذتين دُبرَ كل صلاة. وفي رواية لأحمد وأبي داود: بالمعوذات.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله أخذ بيده يومًا ثم قال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك)) ، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إني لأحبك، قال: ((أوصيك يا معاذ، لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين"
هذا الذكر للصلوات الخمس، ولكن هناك زيادة في صلاتَي الفجر والمغرب وهي قراءة المعوذات ثلاث مرات بدلاً من مرة واحدة، وقَوْل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير عشر مرات، وقول: اللهم أجرني من النار اللهم إني أسألك الجنة ثلاث أو سبع مرات بعد صلاتي الفجر والمغرب كما ورد تحديدها في الحديث التالي ذكره، أو قولها في غير هذين الوقتين كما ورد في إطلاق نص الحديث:
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع عشر درجات، وكانت له حِرْزًا من كل مكروه، وحِرْزًا من الشيطان الرجيم، ولم يَحِلَّ لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملاً إلا رجل يفضله يقول أفضل مما قال)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار: يا رب، إن عبدك فلانًا استجار مني فأجره، ولا سأل عبد الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب، إن عبدك فلانًا سألني فأدخله الجنة)) رواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار)) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح الإسناد". وورد من حديث مسلم بن الحارث أنّ رسول الله قال: ((إذا انْصَرَفْتَ من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إذا قلت ذلك ثم مِتَّ من ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك، فإنك إن مِتَّ من يومك كتب لك جوار منها)).
وورد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي إذا فرغ من صلاته يقول: ((سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين)). وهذا الذكر أيضًا وارد في ختام المجلس الذي يذكر الله تعالى فيه وهو عام، ويكون بهذا خاتمًا وطابعًا على الذكر بعد الصلاة إن شاء الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فتعميمًا للفائدة وتذكيرًا بما سبق عن الذكر بعد الصلاة ألخصه فيما يلي:
أولاً: الاستغفار ثلاثًا، ثم قول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له... إلى آخر ما ورد في الحديث.
ثانيًا: التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين، وتمام المائة قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ثالثًا: قراءة آية الكرسي ثم سورة الإخلاص والفلق والناس مرة واحدة، وقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. كلُّ ما تقدم ذكره بعد كل صلاة مفروضة.
رابعًا: أما بعد صلاة الصبح والمغرب فيُقال عشر مرات زيادة على ما تقدم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وثلاث مرات للمعوذات أي: الإخلاص والفلق والناس.
أما قول: اللهم أجرني من النار اللهم إني أسألك الجنة سبع أو ثلاث مرات بعد المغرب والصبح فَإِنْ حافظ عليها المسلم فلا بأس بذلك إن شاء الله كما ورد في الحديث السابق ذكره في الخطبة الأولى، وإن قالها في ليل أو نهار يحصل على الأجر الموعود بإذن الله عز وجل، وكذلك دعاء ختام المجلس بعد كل صلاة، والله أعلم.
أما عَقْدُ وَعَدُّ التسبيح باليمنى أو باليسرى أو باليمنى واليسرى أو قول التسبيح والتحميد والتكبير معًا أو مفَرَّقًا وعن رفع الصوت بالتكبير أو خفضه والسرعة في التسبيح وكذلك الصمت فأقول:
إن عَدَّ التسبيح باليمنى أفضل، وإن سبّح بهما معًا فلا حرج.
وكذلك التسبيح والتحميد والتكبير مرة واحدة ثم يعقبه بالثانية مثلاً وهكذا إلى أن يكمل ثلاثًا وثلاثين أو يقول التسبيح ثم التحميد ثم التكبير فقد ورد في الأحاديث ذكر الطريقتين، والأمر في هذا واسع ولله الحمد.
وعن رفع الصوت في حالة متوسطة دون ذِِكْرٍٍ جماعي بل كل شخص بمفرده خاصة في الاستغفار والتهليل وتعليم الجاهل فهذا هو الأفضل من خفض الصوت في هذا الموضع دون بقية الذكر ليعلم انقضاء الصلاة وليتعلم الذي لا يعلم كيفية الذكر.
وأما السرعة في عَدِّ التسبيح كأنَّ أحدَهم حاسبٌ آليٌّ يحسب في أصابعه اليمنى واليسرى في وقت واحد وبسرعة متناهية فهذا غير محمود وهو عبث واستهتار، وضحك من الشيطان على صاحبه ذلك الذي يفعله، فالمسلم الذي يسبِّح الله حقًّا ويقدِّسُه ويكبره ويذكره لا يليق به هذا الفعل والعبث والاستهتار.
وأما عن الصمت وعُجْمَةِ اللسان وعدم تحريكه فإن ذلك من تغرير الشيطان بالعبد لئلا يذكر الله تعالى، فتجده بعد الصلاة جالسًا مع الذاكرين ولكنه لا يحرك شفتيه ولا ينطق بلسانه، بل الشيطان جاثِمٌ على قلبه وعاقد لسانه ورابط أصابع يديه، نعوذ بالله من قسوة القلب.
فعلى المسلم أن يحرص على الذكر بعد الصلوات المفروضة ويفصل بين صلاة الفرض والسنة بالذكر، ولا يستخفَّنَّه الشيطانُ ويستعجله ويذكّره حاجاته وأموره الدنيوية ويفوّت عليه الأجر العظيم والحسنات الكثيرة ومغفرة الذنوب، وليتذكر كل منا أن الشيطان له عدو فليتخذه عدوًا ولا يطيعه، بل علينا أن نطيع أمر ربنا تبارك وتعالى وأمر رسوله ، قال تعالى: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر: 6]. وهل يعلم المسلم أن هذه الأذكار القليلة في كل صلاة من غير المكرر منها تزيد على خمسة آلاف حسنة في كل صلاة، ففي اليوم الواحد إذا حافظ العبد عليها مع تكرار المعوذات في المغرب والفجر وقول: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له... إلى آخرها عشر مرات فإنه في كل يوم يحوز على أكثر من تسع وثلاثين ألف حسنة، وهذا فضل من الله عظيم، وقليل من يدركه، وإذا أراد المسلم بعد الصلاة أن يدعو الله عز وجل ويسأله ما يريد من خيري الدنيا والآخرة فذلك الوقت بعد الفراغ من الصلاة من أسباب استجابة الدعاء إن شاء الله تعالى كما ورد بذلك الحديث، والأوقات التي هي مظنة لقبول الدعاء واستجابته متعددة، منها بعد الصلاة سواء الفريضة أو النافلة، وإن كان بعض العلماء عَدَّهُ بعد الفريضة من البدع، وبين الآذان والإقامة، وفي آخر الليل، وعند إفطار الصائم، وعند نزول المطر، ودعوة المسافر وغير ذلك من الأوقات.
والدليل على الدعاء عقب الصلاة المفروضة وفي جوف الليل الحديثُ المرويُّ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله : أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة)). وقد قال بعضهم: إن المقصود بدبر الصلاة آخرها بعد التشهد وقبل السلام، ولكنه يُرَدُّ عليهم بأحاديث واضحة وصريحة، منها الأحاديث التي سبق ذكرها في الخطبة الأولى ولا نحتاج لإعادتها إلى جانب الآية القرآنية الواضحة الجلية للمراد بأدبار السجود بأنه بعد الانتهاء من الصلاة، والله أعلم.
وينبغي للمسلم المحافظة والالتزام بالسنة في الأذكار عمومًا وفي هذا الموطن خصوصًا، ولا يأتي بزيادة أو ابتداع من نفسه أو من غيره، وخاصة الذين يَقْرَؤُونَ المعوذات وينفثون في أيديهم ويمسحون بها على أجسادهم ووجوههم عقب الصلوات المفروضة، فقراءة المعوذات أو المعوذتين والإخلاص أمر مشروع في هذا الوقت، أما النَّفْثُ في اليدين والمسح فموضعه عند النوم، والخير والبركة في اتباع هدي رسول الله وعدم الإحداث في دين الله وشرعه ما لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ، فليتنبه المسلم لهذا ولغيره، ولا يستحسن شيئًا أو يفعله وهو غير مشروع، قال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، وفي رواية أخرى: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
(1/5530)
الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
5/2/1425
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الدعاء وفضله. 2- آداب الدعاء. 3- الدعاء المستجاب. 4- موانع إجابة الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد أمر الله عباده المسلمين بالدعاء، ووعدهم بالاستجابة لهم، وسمى الدعاء عبادة، وتوعد المعرضين عن عبادته التي فيها الدعاء بدخول نار جهنم بسبب إعراضهم وكفرهم، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. وقد صَحَّ عن النبي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الدعاء هو العبادة)) ، ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الآية. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ليس شيءٌ أكرم على الله سبحانه من الدعاء في الرخاء)) رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والطبراني والبخاري في الأدب المفرد، وورد أيضًا عنه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((مَنْ لَمْ يَدْعُ الله سبحانه غضب عليه)) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله وقال الإمام ابن كثير: "إسناده لا بأس به"، وهذا موافق لآخر الآية التي تبين عقاب المستكبرين عن عبادة الله ودعائه حيث قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ.
وهو سبحانه يستجيب للمسلم دعوته أو يصرف عنه من السوء مثلها أو يدخرها عنده عز وجل، فعلى المسلم أن يكثر من الدعاء وقت الرخاء ووقت الشدة ولا يملّ ولا ييأس، وإكثار المسلم الدعاء وقت الرخاء يدل على صدقه في عبوديته والتجائه إلى ربه في جميع أحواله؛ لأنه يشكر الله سبحانه في الرخاء كما يشكره في الشدة، ويتوجه إليه بكُلِّيته ليكون له عونًا ونجاة مما ألمّ به واستحكم من الملمّات والنوازل. روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((من سرّه أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء)) رواه الترمذي والحاكم، وفي وصية رسول الله لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما دليل واضح على ذلك عندما علمه كلمات موجزات في منتهى البلاغة والإعجاز وهي للمسلمين عامة، ومنها قول رسول الله : ((تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
فعلى المسلم أن يستمرَّ في الدعاء ولا يملَّ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، ومنها قوله : ((يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل؛ يقول: دعوت فلم يُستجب لي)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يستعجل)) ، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَعَ الدعاء)) رواه مسلم. يَدَع أي: يترك الدعاء. وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) ، قالوا: إذًا نكثر، قال: ((الله أكثر)) رواه أحمد والبزار وأبو يعلى والحاكم، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
فعلى المسلم أن يدعو الله عز وجل سرًّا وعلانية رغبة ورهبة، وعليه أن لا يعتدي في الدعاء ولا يتجاوز المشروع، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55، 56]، وقال سبحانه بعد أن ذكر استجابته لدعاء الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90]، وقال : ((سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء)) رواه أبو داود والطبراني وابن ماجة.
وهذه حال بعض الناس اليوم خاصة في القنوت في شهر رمضان، فبعض أئمة المساجد ـ هدانا الله وإياهم ـ يتجاوز أحدهم في الدعاء ويشرح الأحوال لرب العالمين وهو الذي يعلم السِّرَّ وأخْفَى، ويستعرض في سَجع من الجمل والعبارات ويطيل إطالة خارجة بل بعيدة عن السنة والمباح، بل هو التجاوز والتعدي المنهي عنه، وكذلك كثير من المأمومين لا تطيب لهم الصلاة إلا خلف أولئك الذين فتنوا الناس حتى أصبح القوم لا يَلْتَذُّونَ بسماع القرآن الكريم ولا يخشعون عندما يُتلى عليهم القرآن الكريم في صلاة التراويح أو خارجها ولكنهم يبكون ويتباكون ويُظهرون الخشوع والبكاء والخشية عند الدعاء في القنوت، وخاصة عند استعراض أولئك الفاتنين والمفتونين لبعض الجمل والعبارات. وهذا التعدي والتجاوز يوصل الإمام والمأمومين إلى باب خطير من الشرك وهو الرياء والسمعة، ولا شك في ذلك أبدًا ممن يسمع ويرى أحوالهم سواء حضرهم أو سمعه مسجلاً على الأشرطة، وهذا المدخل الشيطاني الذي استشرى في زماننا وهو من علامات الساعة التي أخبر عنها رسولنا محمد يجب الابتعاد والحذر منه؛ لئلا تحبط الأعمال الصالحة عن طريق الرياء والسمعة، وقد جاء في الحديث عن رسول الله قوله: ((من سمّع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)).
ومن الجهل بأحكام الصلاة والتهاون في إقامتها على الوجه المشروع قيام بعض أئمة المساجد بالدعاء جهرًا في الصلوات الجهرية المغرب والعشاء والفجر يوميًا وطوال خمسة أشهر لنازلة نزلت بالمسلمين في أرض فلسطين، وألزموا أنفسهم بالدعاء الجهري المستمرّ حتى غدا لديهم كأنه من صلب الفريضة وأنه من الواجب الذي لا بُدَّ أن يستمروا عليه حتى تنكشف تلك النازلة، وفتنوا أنفسهم وافتتن بهم غيرهم من المصلين الذين يصلون خلفهم أو يسمعونهم عن بُعْدٍ عبر مكبرات الصوت، وبعض الأئمة كان يدعو بناءً على رغبة بعض المأمومين أو صاحب المسجد، أي: أنه أصبح الدعاء حسب الطلب في الصلاة التي أوشكت على ذهاب معالمها الصحيحة في الأداء والقيام بالواجب فيها، فبعض المُسْتَأْجَرِينَ للصلاة والتغني بالقرآن يُقَدِّمون الصلاة حسب الطلب في الجَمْعِ عندما تنزل قطرات من المطر، أو تقصير الصلاة في القيام في رمضان أو غيره ورفع الصوت بالقرآن ليسمعه الساكنون في الأحياء القريبة والبعيدة والنَّوْح بذلك أو الدعاء عندما يقال لهم ذلك حسب رغبة المُسْتَأجِر إِنْ صَحَّ التعبيرُ بهذا وهو أقرب إلى ما أقدموا عليه؛ لأنها أصبحت صلاةً حسب الطلب، والذي لا يسلك مسلك هؤلاء ولا أولئك يُستنكر عليه عدم إقدامه على ما أقدم عليه أولئك.
ألا فليتّقِ اللهَ من يقوم بإمامة المسلمين، وليلتزم شرع الله، وليقم بالواجب عليه، وليهتمّ برضا الله عز وجل، وليتّبع سنة رسول الله ، وليبتعد عن إرضاء كل شخص بعينه في أداء الصلوات المفروضة، بل هو الالتزام بما ورد عن رسول الله للجميع من حيث التخفيف الذي لا يُخِلُّ بالصلاة مراعاةً للمريض والضعيف وصاحب الحاجة، أما الصلاة على طلب المأموم والدعاء الجهري في الفريضة حسب الطلب فعلى الجميع أن يتقوا الله تعالى ويلتزموا بأوامر الشرع المطهر، ولا أحد يمنعهم من الدعاء كل بمفرده في صلاة الفريضة أو النافلة في السجود وقبل السلام وخارج الصلاة متى أرادوا ذلك، ولا أدخل في التفاصيل حول دعاء النوازل وممن يكون ومن يأمر به ومُدَّته إلى غير ذلك، فهذا يحتاج إلى تفصيل، وإنما هو التنبيه للجميع حيث افتتن كثير بما هو حاصل في هذه الأيام والذي تجاوز فيه بعضهم الحد ليُفْسِدَ صلاتَه وصلاةَ مَنْ خلفه. فعلى كل مسلم أن يبتعد عن التعدي ومجاوزة الحد في الدعاء ويلتزم أوامر الشرع في الدعاء وفي غيره، قال تعالى: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: 87]، قال الله عز وجل: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55]، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء ويَدَع ما سِوَى ذلك. رواه أبو داود والطبراني وصححه الألباني رحم الله الجميع.
ولو أن أئمة المساجد وعامة المسلمين اكتفوا بما ورد في الأدعية والأذكار الواردة عن رسول الله لكان خيرًا لهم في دينهم ودنياه وآخرتهم؛ لأنه قد أُوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، وعلى المسلم أن يطلع على الأحاديث الواردة في أحواله عليه الصلاة والسلام ويأخذ بالصحيح منها في جميع أدعيته إلا إذا كانت له مسألة وطلب ودعاء في وقت وساعة من الساعات يرجوها ويطلب قضاءها والاستجابة لها من الله جل جلاله في أمرٍ معينٍ يخُصُّه أو مظلمة أو دعاء لأولاده وأهله ونفسه، فعليه بالإيجاز والله يعلم السر وأخفى، فنسأل الله التوفيق والهداية والاتباع وعدم الابتداع.
وللدعاء آداب، منها أنْ يَتَحَيَّنَ المسلم الأزمان والأوقات الشريفة كيوم عرفة وليلة القدر وشهر رمضان كله وحال الصيام في رمضان أو في غيره وخاصة عند الإفطار ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار وفي السفر، ويغتنمَ الأحوالَ الشريفةَ كحالة السجود والتقاء الجيوش وعند نزول المطر وبين الأذان والإقامة وبعد الصلوات سواء المكتوبة أو النافلة.
وإذا أراد المسلمُ أنْ يستجيبَ اللهُ دعاءَه فعليه أن يطيب مطعمه بأن يكون كسبه حلالاً كما قال عليه الصلاة والسلام لسعد رضي الله عنه: ((أَطِبْ مطعمَك تَكُنْ مُسْتجابَ الدعوة)).
وللدعاء آداب أخرى، منها حضور القلب ورقته والخشوع ورفع اليدين في أماكن دلّت عليها السنة، وعدم التكلف في الدعاء بالسجع ونحوه، ودعاء الله باسمه الأعظم، فَحَرِيٌّ بمن سأل الله به أن يستجيب له، عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال: ((لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم إلا أنه قال فيه: ((لقد سألت الله باسمه الأعظم)) ، وقال : ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] وفاتحة سورة آل عمران)) ، وفاتحة سورة آل عمران التي تشير إلى ذكر الحي القيوم هي قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 2]. قال الله جل جلاله: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]، وقال سبحانه وبحمده: قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء: 110].
وعلى المسلم أنْ يَعْزِمَ في دعائه ولا يُلْحِقه بالمشيئة كما هو ملاحظ عند بعض المسلمين حيث انتشر إِلْحَاقُ المشيئة بعد كل دعاء حتى بين المتديّنين في هذا الزمان، وخاصة عند دعاء أحدهم لغيره في وجهه أو في غيبته، يقول بعضهم: الله يهديك إن شاء الله، الله يوفقك إن شاء الله، وما أشبهها، وانتشار هذا كثير بين المسلمين في هذه الأيام لجهلهم بالدعاء المشروع، ولأنهم كلّما سمعوا شيئًا تمسكوا به سواء كان مشروعًا أو مخالفًا للكتاب والسنة، فينبغي للمسلم أن يحرص على التمسك بالكتاب والسنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يقولنَّ أحدُكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولْيَعْزِمِ المسألةَ؛ فإن الله لا مُكْرِهَ له)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
ومن آداب الدعاء رفع اليدين في أكثر الأحوال، ومنها القنوت وبعد الصلوات أحيانًا وعند التقاء الجيوش، وقد وردت بذلك الأدلة في أحاديث صحيحة عن رسول الله ، ومنها أن النبي قال: ((إن ربكم حَيِيٌّ كريم يَسْتَحيِي من عبده إذا رفع إليه يديه أنْ يردَّهما صِفْرًا)) أو قال: ((خائبتين)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم. ولا يرفع المسلمُ بصرَه إلى السماء حال الدعاء وإن كان رافعًا يديه حيث ورد النهي عن ذلك خاصة في الصلاة لما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ، ومنها عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء في الصلاة أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارُهم)) رواه مسلم والنسائي. لقد ورد النهي في هذا الحديث تصريحًا وتحديدًا بالدعاء في الصلاة وإن كانت هناك أحاديث عدة في النهي عن رفع البصر إلى السماء عمومًا وليست خاصة بالدعاء، ولكن هذا حديث صحيح صريح خاص بالنهي عن رفع البصر إلى السماء حال الدعاء في الصلاة.
ويستجيب الله للمظلوم وينصره ولو بعد حين وللمسافر وللوالد لولده أو عليه، قال رسول الله : ((ثلاث دعوات يستجاب لهن لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)). ومما ينبغي ملاحظته والعناية به هو عدم الدعاء على الأولاد من قبل الوالدين حيث قد توافق الدعوة على الأولاد وقت استجابة فتقع الكارثة عليهم جميعًا، فعلى الوالِدين الآباء والأمهات أن يتجنبوا الدعاء على أولادهم ويكثروا من الدعاء لهم بدلاً من الدعاء عليهم.
ويستجيب الله لمن يدعوه مضطرًا منيبًا إليه توجَّه بقلبه وقالبه إليه في حال شدته، فالله سبحانه يجيبه ويكشف السوء عنه بفضله وكرمه، وهذا مما ذكَّر الله به عباده في معرض البيان والتوضيح بنعمه وآلائه الكثيرة التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ذكَّر الله العباد بذلك ليعبدوه ويوحدوه سبحانه، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]. فالمضطر في حال الكربة والضيق لا يجد ملجأ إلا إلى الله وحده، يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء، وذلك حين تضيق الحلقة ويشتد الخناق وتستحكم عليه الشدائد وتتخاذل القُوَى، فينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردًا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص لا قوته ولا أي قوة في الأرض تنجده وتخلّصه مما ألمَّ به، في تلك اللحظة الحرجة تستيقظ الفطرة ليس في المسلمين فحسب بل في الكفار والملحدين، فتلجأ إلى القادر وحده، فيلجأ الإنسان إلى الله القوي العزيز ولو أنه قد نسي الله في ساعات الرخاء، ولكن الله عز وجل برحمته وعفوه وإحسانه ومنّه وكرمه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء وينجّيه مما حلّ به من الكُرَب والمصائب إذا دعاه وهو موقن بالإجابة وأخلص الدعاء له سبحانه، والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء وفترات الغفلة، حتى المسلمين الموحدين مع الأسف الشديد يغفلون عن ذلك فيتلمسون القوة والنصرة والحماية في قوى الأرض الهزيلة ويعلِّقون عليها الآمال العظيمة في نصرتهم سواء كانوا أفرادًا أو جماعات أو دولاً، وحين تلجئهم الشِّدَّةُ ويضطرهم الكرب ويجدون أن لا ملجأ من الله إلا إليه عند ذلك تزول الغشاوة والغفلة عن فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها ويرجعون إلى ربهم منيبين إليه مهما كانوا من قبل غافلين أو مكابرين.
وما أجمل ألفاظ القرآن الكريم حين يتدبرها المؤمن ويطبقها على الواقع وكأنها نزلت اليوم غَضَّة طريّة، ففي نهاية الآية يذكِّر اللهُ سبحانه عبادَه الضعفاءَ الذين لا حول لهم ولا قوة بعد أن استجاب لهم عند اضطرارهم في الدعاء وكشف السوء عنهم فيذكرهم بحقائق منها قوله: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ، أليس الله هو الذي استخلف الجنس البشري في الأرض يخلف بعضهم بعضًا؟! فلو تذكر الإنسان المسلم وغيره وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولاً بالله، ولما غفل عن ربه سبحانه وتعالى ولا أشرك معه أحدًا في العبادة، ومنها قوله عز وجل: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ، ومنها قوله جل وعلا: قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. إن العباد يغفلون ويَنْسَوْن، ولكنَّ هذه الحقائق الكامنة في أعماق النفوس تتحرك حين تشعر بالخطر وتحيط بها الضرورة وتلجئها إلى طريق الخلاص والنجاة إلى الطريق المستقيم، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
والدعاء حال الصيام في رمضان أو غيره مستجاب بإذن الله عز وجل بنص القرآن الكريم وصحيح سنة رسول الله ، ولنتأمل إلى هذه الآية الكريمة عن الدعاء واستجابة الله لعباده المستجيبين له المؤمنين به عز وجل، والآية موجودة بين آيات الصيام ليعتبر من له أدنى بصيرة وتَفَكُّرٍ، وهي قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]. قال رسول الله : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر ـ وفي رواية: حتى يفطر ـ ، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي، لأنصرنّك ولو بعد حين)) رواه الترمذي وابن ماجة والطبراني، وقال : ((إن للصائم دعوة عند فطره لا ترد)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإذا كان المسلمون مأمورين بدعاء الله والتضرع إليه وسؤاله عز وجل في حال البأس ونزول البلاء بهم وعليهم فإنه مطلوب منهم الاستمرار على ذلك وعدم الإعراض عن الله وعن منهجه الذي هو متمثل في التمسك والعمل بالقرآن الكريم وسنة النبي محمد ، وعليهم أن لا يكون حالهم كحال المشركين الذين يخلصون الدعاء والعبادة لله وقت الشدة فإذا كشف الله عنهم ما هم فيه من بلاء ونجّاهم مما حلّ بهم إذا هم يشركون ويرجعون إلى ما كانوا عليه، وهذه عدة آيات توضح ذلك وغيره مما غفل عنه المسلمون ويغفلون عنه؛ لعل في الاستماع والإصغاء والتدبر ما يجعلهم يفيقون من غفلتهم ويرجعون إلى ربهم عز وجل ويقلعون عما كانوا عليه ويتوبون توبة صادقة ويعودون إلى الله عودًا حميدًا في جميع أمورهم ويعملون بعقيدتهم التي تخلخلت وضعفت وبَانَ مَخْبُوؤُهَا حين الشدة: قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 43-45]، وقال سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 65، 66]، وقال عز وجل: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8]، وقال عز وجل: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51]، وقال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس11، 12].
إن كلام الله عز وجل لا يحتاج إلى توضيح وبيان مني ومن أمثالي، بل على كل مسلم أن يربط نفسه بالقرآن الكريم ويجعل له وقتًا كل يوم يرجع فيه إلى كتب التفسير المشهورة التي توضح الغامض وخاصة الذين يستدلون بأحاديث رسول الله ، على المسلمين أن يعتبروا ويتّعظوا ولا تمرّ بهم الأحداث والنوازل دون إحداث تغيير في حياتهم وسلوكهم ورجوعهم إلى الله عز وجل وتمسكهم بكتاب الله وسنة نبيهم محمد ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37]، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]. هل فكرنا في عدم استجابة الله لدعائنا بإنزال المطر رغم خروج بعضنا للاستسقاء ودعاء آخرين في خطب الجمعة؟! لماذا هذا الجفاف في الآبار ومنابع الماء في الأودية والجبال؟! كيف استجاب الله لدعاء الآباء والأجداد عندما يخرجون في أي قرية أو قبيلة ولا يخيّب اللهُ آمالَهم ورجاءَهم ودعاءَهم ونحن في هذا العصر رغم تكرار ذلك الدعاء من الذين يدعون به لا يُستجاب لنا، بل عندما تكون السماء ملبّدة بالغيوم والسحاب المحمّل بالماء إذا بنا بعد لحظات لا نرى إلا زُرْقَةَ السماء بعد أنْ تَهَيَّأَت الرحمةُ وأسبابُها؟!
إن أسباب امتناع نزول المطر هو لدينا في عدة أشياء وموانع في عدم استجابة الدعاء، ومنها عدم طيب الكسب للمآكل والمشارب لحديث رسول الله السابق ذكره: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)). فقد دخلت علينا المكاسب الخبيثة بالطرق المحرمة المتعددة عن طريق الربا الذي فَشَا في المجتمع بشكل مخيف وبطرقٍ ملتويةٍ وتحايلٍ واضحٍ لإدخاله في باب الحلال، مع أن الغرض من تلك المعاملات الملفوفة هو الحصول على المال من الطرفين، ولكن حتى يهرب الطرفان من الربا الواضح أوجدوا طرقًا للتحايل بأضعاف أضعاف الربا الواضح التحريم، ولكن لن تنطلي تلك الطرق على ربّ العالمين العالِمِ بالمقاصد والنوايا، وكيف يحصل ذلك بين المسلمين ويرتكبون طرق اليهود في التحايل على ما حرم الله عليهم وقد حذرنا رسول الله منهم ومن أفعالهم؟! قال رسول الله : ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)). وثاني أسباب الكسب الخبيث هو الغش في المعاملات والمنتشر بشكل فظيع في أسواق المسلمين ومعاملاتهم اليومية، وكلٌّ يتعرف بنفسه هل اشترى بضاعة صغرت أو كبرت دون غشّ من بائعها أو الوسيط فيها أو منتجها، كل شخص يفكّر في ذلك جيدًا، إلى جانب الغش والخداع والتعامل بالطرق الشيطانية المحرمة التي يُتْبِعُهَا كثيرٌ من البائعين بالأيمان الكاذبة التي تمحق بركة البيع والشراء.
ولا يتسع المقام لذكر أنواع المعاملات المحرّمة التي خَبُثَ معها الكسب حتى في الوظائف وعدم الأمانة في القيام بالواجب فيها إلى أنْ خَبُثَ المطعمُ والمشربُ، هذه بعض طرق المكاسب الخبيثة مما تعتبر لدى الكثيرين من الحلال وهي مشتبهة في حقيقتها لا يعلمها كثير من الناس، فضلاً عن المكاسب المحرمة المعلوم تحريمُها للجميع مثل الربا الواضح والمتاجرة في الخمور والمخدرات وسرقات الأموال واختلاسها بأي طريقة من الطرق، إلى غير ذلك مما هو معروف للجميع.
ومن أسباب عدم استجابة دعائنا عدم الاضطرار أصلاً والدعاء بقلوب غافلة وعقول ساهية لاهية، قال رسول الله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافلٍ لاهٍ)) رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني رحمهم الله جميعًا. فالملايين الذين يعيشون في المدن وكثير من القرى يأتيهم الماء عبر الأنابيب إلى منازلهم أو في الصهاريج ولا يعرفون من أين أتى، وماذا أُنْفِقَ عليه حتى وصل إليهم، فلذلك لا يَأْبَهُون به ولا يُلقون له بالاً ولا يحسبون له حسابًا، علمًا بأن الغش والخيانة وصلت إليه أيضًا، إذًا هذا الغش التابع للأسباب الأولى في عدم إطابة الكسب يدخل أيضًا لكثير من الناس في عدم الاضطرار عند الدعاء، فالفرق بيننا وبين الأولين هو الاضطرار من عدمه، وهذا أحد الشروط المهمة في تخلف الشرط لعدم وجود المشروط، وهذا واضح في قول الله تبارك وتعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62]. إنه الله عز وجل الذي يكشف السوء ويجيب دعوة الداعي المضطر وإن كان لديه خلل سابق قبل إخلاصه الحالي في الدعاء وتَوَجُّهِهِ لله العلي العظيم سبحانه وبحمده.
فعلى المسلم في أي دعاء أن يكون موقنًا بالإجابة من الله العليم الحكيم، ولا يحمل همَّ الاستجابة لدعائه، ولكن عليه أن يحمل همَّ الدعاء ولوازمه وآدابه وشروطه التي منها بعض ما تقدم.
ومن لوازم الدعاء حمدُ الله جل جلاله والثناء عليه بما هو هو أهله، وفي نهايته ختمُه بالصلاة والسلام على الرسول محمد ، عن فَضَالةَ بْنِ عُبَيْد الأَوْسِيِّ رضي الله عنه قال: سمع رسولُ الله رجلاً يدعو في صلاته لم يُمَجِّدِ الله ولم يُصَلِّ على النبي ، فقال رسول الله : ((عجلت أيها المصلي)) ، وسمع رسول الله رجلاً يصلي فمجّد الله وحمده وصلى على النبي ، فقال رسول الله : ((ادْعُ تُجَبْ وَسَلْ تُعْطَ)) رواه أبو داود والترمذي وذكره الألباني في صحيح سنن النسائي.
وإلى جانب ما تقدم وإن كانت تلك تدخل في عموم هذا الأخير ألا وهوكثرة الذنوب والمعاصي التي نبارز بها رب العالمين في كل حين ولحظة حتى تلوّثت الأجواء مما نعمل أو نستقبل عبر الفضائيات والشبكات من كل أنواع المُخْزِيَات التي تُنْشَرُ من خلال ما يُعِدُّهُ أعداءُ الإسلام والمسلمين حتى يوقعوهم في المعاصي والآثام على أقل تقدير أو يخرجوهم ويسلخوهم من عقيدتهم الإسلامية، سواء كان ذلك عن طريق وسائل الأعداء وأموالهم أو عن طريق وسائل المنتسبين للإسلام وأموالهم التي سوف يُسألون عنها يوم القيامة، والتي هي مع كل أسف تهدم أخلاق المسلمين وتشوِّه سمعتَهم وصورتَهم الناصعةَ التي عرفها عنهم أعداء الإسلام فيما خلا من العصور والأزمان، إِذَا بأصحاب رؤوس الأموال يوجِّهُونَ ضربةً قاصمةً للإسلام وأهله من خلال استعمالهم لأموالهم فيما لا يرضي الله بما يَبُثُّونَهُ مما يندى له الجبين ويخاف من عواقبه كلُّ غيور على الإسلام والمسلمين من خلال وسائلهم الإعلامية وتسابقهم المحموم للمساعدة على نشر الفواحش في المجتمعات جميعها ومجتمعات المسلمين على وجه الخصوص، وإننا لنخاف من انتقام الله عز وجل من الجميع حيث لم يأخذ العقلاء على أيدي السفهاء، فلذلك ليس الجميع بمأمنٍ من العقاب العاجل إذا لم يتّقوا الله ويحرصوا على الركوب في سفينة المجتمع بشروطها حتى لا يغرق الجميع في يوم من الأيام، قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25].
فعلينا أن ندعو الله ونحن موقنون بالإجابة، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر60]، وعلينا أن نستجيب لأمر الله عز وجل باتباع أوامره واجتناب نواهيه حتى يستجيب الله دعاءنا، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]. إذًا علينا أن نقلع عن الذنوب والمعاصي ونفتش أنفسنا وأموالنا ومكاسبنا ونطهرها من الكسب الخبيث ونستغفر الله ونتوب إليه ونطلب منه المغفرة والعفو عما سلف وكان من الذنوب والآثام.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله، وارض اللهم عن الصحابة وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5531)
الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
12/9/1421
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر نعمة المال بأداء الزكاة. 2- التحذير من البخل. 3- وجوب الزكاة في الذهب والفضة وبيان ذلك. 4- وجوب الزكاة في النقود الورقية وعروض التجارة والديون وتفصيل ذلك. 5- شروط وجوب الزكاة. 6- مخارج الزكاة وأهلها. 7- تنبيهات حول مصارف الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا أن نتقي الله ونؤدي ما أوجب الله علينا في أموالنا التي رزقنا الله سبحانه، فقد أخرجنا الله من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا ولا نملك لأنفسنا ضرًا ولا نفعًا ولا نملك دينارًا ولا درهمًا، ثم يسَّر لنا الرزق وأعطانا ما ليس في حسابنا كما رزق جميع الدواب على هذه الأرض، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6]، وقال عز وجل: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات: 22، 23]، فعلينا أنْ نشكرَ الله على نعمه ونؤدي ما أوجب الله علينا لإبراء ذممنا وتطهير أموالنا، ونحْذرَ الشُّحَّ والبخلَ بما أوجب الله علينا، فإنَّ فيهما هلاكَنا ونَزْعَ بركة أموالنا، ونعلم أن أعظم ما أوجب الله علينا في الأموال الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام وقرينة الصلاة في محكم القرآن، وجاء في منعها والبخل بها الوعيد بالعذاب الأليم، قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران: 180]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35]، وقال النبي في تفسير الآية الأولى: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له شجاعًا أَقْرَعَ ـ وهي الحية الخالي رأسها من الشعر لكثرة سمّها ـ له زبيبتان يطوَّقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتَيه ـ يعني شدقيه ـ يقول: أنا مالك أنا كنزك)) رواه البخاري، وقال في تفسير الآية الثانية: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم، فيُكْوَى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه، كلما بردت أُعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضَى بين العباد)) رواه مسلم. وحَقُّ المال هو الزكاةُ.
فيا أيها المسلمون، إنه لا يُحْمَى على الذهب والفضة في نار كنار الدنيا، إنما يحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا كلها ضوعفت عليها بتسعة وستين جزءًا، إذا أُحمي عليها لا يُكوى بها طرفٌ من الجسم متطرف وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية؛ الجباه من الأمام، والجنوب من الجوانب، والظهور من الخلف، وإذا كُوِيَ بها الجسمُ أُعيدتْ فأُحميتْ في نار جهنم ويكوى بها الجسم مرة ثانية، وهكذا كلما بَرَدَتْ أعيدت حتى يُقضى بين العباد أعاذنا الله منها.
أيها المسلمون، إن ذلك العذاب ليس في يوم أو شهر أو سنة، ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فما قيمة الأموال التي نبخل بزكاتها؟! وما فائدتها إذا كانت نقمة علينا وثمرتها لغيرنا؟! إنه لا يطيق أحدٌ الصبرَ على وهج النار في الدنيا فكيف يستطيع الصبر على نار جهنم؟! نعوذ بالله من النار ونسأله سبحانه أن يجيرنا من عذابها. فعلى المسلم أن يتقي الله ويؤدي الزكاة طيبة بها نفسه معتقدًا فرضيتها ويؤديها لمستحقيها.
إنّ الزكاة واجبة في الذهب والفضة على أي حال كانت، سواء كانت جنيهات أو ريالات أو قطعًا من الذهب والفضة أو حُلِيًّا من الذهب أو الفضة للبيع أو للتأجير أو للاقتناء، أما الحلي الملبوس من قبل النساء فالخلاف في زكاته معلوم، فالذهب والفضة جاءت نصوص القرآن والسنة بوجوب الزكاة فيهما عمومًا بدون تفصيل، وقد جاءت نصوص من السنة خاصة في إيجاب الزكاة في الحلي الذي تلبسه النساء على الذين يجمعون الأموال لشراء ذهب النساء ليكنزوها إلى وقت الحاجة وليتهربوا بذلك من الزكاة بحجة أنه للنساء وللبسهن وليس للادخار مع أنه احتيال في طريقة الادخار والاكتناز، يدّخرونه لليوم الأسود على حدّ زعمهم وطريقة بخلهم وشحّهم وتهربهم من إخراج الزكاة ودفعها لمستحقيها، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن امرأة أتت النبي ومعها ابنة لها وفي يدها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال رسول الله : ((أتعطين زكاة هذا؟)) قالت: لا، قال: ((أَيَسُرُّكِ أنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بهما يوم القيامة سِوَارَيْن من نار؟)) فخلعتهما فألقتهما إلى النبي وقالت: هما لله ورسوله، وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب فقالت: يا رسول الله، أَكَنْزٌ هو؟ فقال : ((ما بلغ أن يُزكَّى فزُكِّي فليس بكنز)).
وزكاة الحلي الذي تلبسه المرأة أو تدّخره مع الخلاف المعلوم في وجوبه يجب أن تؤدّيه المرأة بنفسها، وإذا أراد الزكاةَ عنها زوجُها أو ولدُها أو أبوها أو غيرُهم من أقاربها فلا بأس، ولكن لا تجب عليهم كما يعتقده بعض المسلمين، بل الواجب على المالك نفسه وهو المرأة.
ولا تجب الزكاة في الذهب والفضة حتى يبلغا النصاب، فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، ومقداره من الجنيهات السعودية أحد عشر جنيهًا وثلاثة أسباع الجنيه، وبالجرام اثنان وتسعون جرامًا، والأحوط خمسة وثمانون جرامًا، وقيل: خمسة وسبعون جرامًا، أما نصاب الفضة فمائة وأربعون مثقالاً، ومقداره بالدراهم السعودية ستة وخمسون ريالاً من الفضة، وما دون ذلك لا زكاة فيه. والواجب فيهما ربع العشر على من ملك نصابًا منهما أو من أحدهما وحال عليه الحول، والربح تابع للأصل فلا يحتاج إلى حول جديد. وتجب الزكاة أيضًا في الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم، سواء سُمِّيت درهمًا أو دينارًا أو دولارًا أو غير ذلك من الأسماء إذا بلغت قيمتها نصاب الذهب أو الفضة وحال عليها الحول.
كما تجب الزكاة في الديون التي للمسلم على الناس إذا كانت من الذهب أو الفضة أو الأوراق النقدية وبلغت نصابًا بنفسها أو بضمّها إلى ما عنده من جنسها سواء كانت حَالَّةً أو مُؤَجَّلةً، فيزكِّيها كلَّ سنة إن كانت على غني، فإن شاء أدّى زكاتها قبل قبضها من ماله، وإن شاء انتظر حتى يقبضها فيزكيها عن المدة التي مضت مهما كان عدد السنوات، أما إن كانت الديون على فقير فلا زكاة على من هي له حتى يقبضها فيزكيها سنة واحدة عما مضى لأنها قبل قبضها في حكم المعدوم.
وتجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها نصابًا بنفسها أو بضمّها إلى ما عنده من الدراهم أو العروض، وهي كل مال أعده مالكه للبيع تكسبًا وانتظارًا للربح من عقار وأثاث وسيارات ومكائن وأطعمة وأقمشة وغيرها، فتجب عليه الزكاة فيها، وهي ربع عشر قيمتها عند تمام الحول، فإذا تم الحول يجب عليه أن يُثمِّن ما عنده من العروض ويخرج ربع عشر قيمتها سواء كانت القيمة مثل الثمن أو أقل أو أكثر، فإذا اشترى سلعة بألف ريال مثلاً وكانت عند الحول تساوي ألفين وجب عليه زكاة ألفين، وإن كانت لا تساوي إلا خمسمائة ريال لم يجب عليه إلا زكاة خمسمائة فقط.
ولا زكاة في المال الواجب زكاته حتى يحول عليه الحول مثل النقدين وعروض التجارة والسائمة، فإذا كان عند المسلم دراهم بلغت النصاب وحال عليها الحول في رمضان مثلاً فيجب عليه أن يزكيها في رمضان، ويجوز أن يقدم الزكاة قبل أن يحول الحول على المال الواجب زكاته، أما ما يقع فيه بعض الناس من تأخير الزكاة عن وقت وجوبها وهو تمام الحول فهذا لا يجوز، أي: تأخير الأداء عن وقت الوجوب، فبعضهم يكون تمام الحول عنده في المحرم أو صفر أو غير ذلك من الشهور المتقدمة عن رمضان فيؤخر الزكاة إلى رمضان فهذا الفعل لا يجوز ويجب التنبه له، أما تقديم الزكاة فلا بأس به وهو الأفضل خاصة إن قدمها في شهر رمضان عن وقت وجوبها الذي يحل بعد شهرين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك طلبًا لزيادة الأجر في رمضان حيث مضاعفة الأجر كما ورد بذلك الخبر عن رسول الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإذا كان المسلم يملك المال شيئًا فشيئًا كالرواتب الشهرية فلا زكاة على شيء منه حتى يحول عليه الحول، وإذا كان يشق ملاحظة ذلك فيزكي الجميع في الشهر الأول من السنة، الشهر الأول بالنسبة له وادِّخَاره وحساباته وما يملك هو، فقد يكون أول شهر هو رجب، وقد يكون ربيع الأول أو رمضان كل بحسبه، فما تم حوله فقد زُكِّي في وقته، وما لمْ يتمَّ حولُه فقد أُدِّيَتْ زكاتُه، ولا يضرُّ تعجيلُ الزكاة بل هو أربح وأسلم من الاضطراب. وإذا كان للمسلم عقار يسكنه أو سيارة يركبها أو آلات ومكائن لفلاحته وصناعته فلا زكاة عليه في ذلك لقول النبي : ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)).
وإذا كان له عقار يُؤَجِّرُه أو سيارة يكدُّها في الأجرة أو معدات يؤجرها فلا زكاة عليه فيها، وإنما الزكاة فيما يحصل فيها من الأجرة إذا حال عليها الحول وهي في حوزته، والخلاف إنما هو في أجرة العقارات والمعدات وغيرها مما لم يتم عليها الحول وهي في حوزته وعند استلامه لها، أما ما حال عليها الحول فلا خلاف عليها، والأحوط للمسلم أن يخرج الزكاة خروجًا من أي خلاف محتاطًا لنفسه وسوف يخلف الله عليه وينمّي له المال، ((ما نقص مال من صدقة بل تزده)) كما ورد عن رسول الله.
وعلى كل مسلم أن يعلم أن الزكاة لا تبرأ منها الذمة حتى تُوضع في الموضع الذي عيّنه الله عز وجل في كتابه الكريم في الأصناف الثمانية، فلا يجوز للمسلم أن يحابي ويجامل فيها أحدًا ممن لا يستحقها، فهي كفريضة الصلاة أو الصوم أو الحج، كما يُحافظ على الشروط والواجبات والأركان فيها يكون ذلك في الزكاة أيضًا لأنها أحد أركان الإسلام، فلا بُدَّ فيها من الإخلاص لله رب العالمين، فلا يكون فيها رياء ولا سمعة ولا منّة ولا أذى وترفّعٍ على الفقراء والمساكين، بل هي حَقٌّ لهم في ذلك المال، يجب على المسلم أن يدفعها لهم بدون منٍّ ولا أذى خالصة لله من كل شائبة تشوبها لئلا يحبط عمل المسلم بذلك، بل عليه أن يؤديها معتقدًا فرضيتها ووجوبها عليه وأنها حق لأولئك الأصناف في ذلك المال ليس له في ذلك فضل ولا منة.
ولا بد لدافع الزكاة أن يكون متبعًا لهدي رسول الله في دفعه الزكاة لمستحقيها، فالإخلاص والصواب شرطان أساسيان في قبول العمل، وبعدها يسأل الله عز وجل أن يتقبل منه ذلك العمل وأداءه لتلك الزكاة المفروضة عليه في ماله؛ لأن كثيرًا من المسلمين لم يقدروا لتلك الشعيرة الإسلامية العظيمة قدرها، فتراهم يجاملون ويحابون أشخاصًا يدفعون لهم الزكاة وليسوا من أهلها أو يدفعونها لأشخاص رجاء مصلحة من ورائهم بِجَلْبِ نَفْعٍ أو دفع مضرة فيما يظهر مع أن ذلك بيد الله عز وجل وغير ذلك مما هم يعلمونه.
ولا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب، وإذا أعطاها المسلم شخصًا غلب على ظنه أنه مستحق وتبين أنه غير مستحق أجزأت عنه والإثم يكون على ذلك الذي لا يستحقها. ويجوز أن يدفعها المسلم إلى أقاربه الذين لا تجب نفقتهم عليه إن كانوا مستحقين لها، ولا يجوز للشخص أنْ يَقِيَ بها مَالَهُ أو يدفع بها عنه مذمَّةَ الآخرين، ولا يجوز أن يصرفها في شراء مصاحف أو أثاث للمساجد أو في عمارتها أو لإصلاح طرق أو غيرها من المشاريع الخيرية العامة أو الخاصة أو للمساهمة في أعمال تطلبها جهات رسمية أو غير رسمية يظهر للناس منها بأنها تبرع ولكنها مدفوعة من صاحب المال بِنِيَّةِ الزكاة. ولا يجوز دفعها للدعايات والإعلانات التجارية وغيرها وجوائز المسابقات في رمضان أو غيره في الإذاعة أو التلفاز أو الصحافة أو غيرها، فلا يجوز التحايل والإقدام على هذه الطرق الملتوية التي ظاهرها الإحسان والإنفاق والإقدام على فعل الخير بالبذل والعطاء من مال الشخص ولكنها في الحقيقة والنية المُبَيَّتَةِ هي فريضة الزكاة التي أوجبها الله عليه، فلا تبرأ ذمة من يفعل ذلك وسوف يحاسب على فعله كما يحاسب على فريضة الصلاة أداءً أو ضياعًا أو إهمالاً أو تكاسلاً يوم القيامة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].
فالواجب على المسلم أن يدفع زكاة ماله إلى مستحقيها لكونهم من أهلها الذين وضّح وحدّد أصنافَهم ربُّ العزة والجلال في كتابه الكريم، ولو أن الزكاة تؤدى في مجتمع المسلمين حقيقة وتدفع لمستحقيها لأصبح الفقراء أغنياء بإذن الله، ولكن التفريط حاصل ومشاهد الآن في المجتمعات الإسلامية، وزكاة أموال المسلمين بالمليارات وليست بالملايين ولا زال الفقراء والمحتاجون في زيادة وحاجتهم لم تُسدّ، فيا تُرى، ما السبب؟! إن السبب وراء ذلك هو عدم دفع الزكاة لمستحقيها أولاً، فتذهب هنا وهناك، فذلك يحابي فيها ويجامل، وفلان لا يؤديها أو يتحايل على أدائها ولم يعلم حكم الله فيها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تلك الجهود المبعثرة التي نشاهدها في أعمال الخير في البلد الواحد من انتشار عشرات الجمعيات والهيئات المتعددة والأشخاص الذين يتجمع حولهم أصحاب الحاجة والفقر، فلو توحّدت هذه الطاقاتُ المُبَدَّدَةُ والجهود المبعثرة التي قُصد من ورائها الخير وأوصلت إلى الفقراء والمساكين النقود ليتصرفوا فيها ويقضوا حاجاتهم بأنفسهم لكان ذلك أَسْلَمَ وأَفْضَلَ من حرمان كثير من الناس من تلك الخيرات أو حجزهم على أنواع معينة من المأكولات والمطعومات التي قد دخل السُّوسُ بعضَها أو انتهت صلاحيتها أو أُرْغِمَ صاحبُ الحاجة بفرض ذلك عليه وليس على ما يرغب في المأكل والمشرب والملبس، ولا أدلَّ على ذلك مما يُفعل في مشروعات إفطار الصائمين وإن كان لا يدخل في الزكاة ولا يجوز أن يَدفع أحدٌ الزكاةَ إلى هذه المشاريع؛ لأن المستفيدين هم أصحاب المطاعم والمحلات التجارية بأنواعها، والضحية هو ذلك المسمى بالصائم المستفيد من تلك الوجبات المسماة باسمه وحقيقتها المفروضة على الصائمين أكلاً وشربًا قد لا يرغبونها حيث يُفرضُ عليهم اللبن والعصير والسمبوسة والأرز وغيرها مما قد تكون باردة أو غير جيدة في تحضيرها مع ما يصاحبها من جهود وأوقات لو استثمرت في غير ذلك لكان أولى، ولو دُفع لكل صائم مائة وخمسون ريالاً كُلْفة تلك الوجبات واشترى بها الصائم لنفسه ما يريد من أكل وشرب لكان أولى من هذه الجهود المبعثرة والطاقات المهدرة والأموال التي فُرضت على الصائمين واستفاد منها غيرهم.
فهذه إشارة أردت منها توحيد الجهود والسير المحمود في الطريق الصحيح وتنبيه كل مسلم ليعرف عظم الأمانة الملقاة على عاتقه سواء كان قائمًا على مشروع خيري أو صاحب مال يؤدي زكاة ماله، فعليه أن يعرف أين يضعه، وهل وضعه في المكان الصحيح، وهل أداه كما أمر الله عز وجل ورسوله أم لا؛ لأنه سوف يحاسب على هذه الأموال الحلال منها والحرام، وأداء الزكاة من عدمها، وهذه الصناديق التي توضع عند أبواب المساجد هي لِتُلْقِيَ التبرعات من مالك الخاص وليس من الواجب في مالك الذي لا بد أن تؤديه للأصناف الثمانية أو أي واحد منهم، ولو فُرض أنك تريد وضع الزكاة فيها فلا بد من الكتابة على المظروف الذي تضع فيه النقود بأنها من الزكاة وعَدَد تلك النقود؛ لئلا توضع في مشاريع أو أعمال أخرى ليس لها صلة بمصارف الزكاة، وليس كل مشروع خيري تدفع له الزكاة، فليتنبه كل مسلم إلى ذلك حتى تبرأ ذمته من مسؤولية هذه الفريضة العظيمة التي دخلتها هذه الأيام وهذا الزمان عدة عوامل أفقدتها مكانتها العظيمة في الإسلام، وأصبح التهاون بها بين المسلمين الآخذ والمعطي سمة وعلامة بارزة تدل على عدم الاهتمام وقلة المبالاة والخوف من عاقبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة.
ولا يفهم أحد من كلامي هذا غير ما أردته ولا يحمله على غير المحمل الحسن إن كنا نريد الخير لا غير، فما أردت إلا الخير من حيث توحيد الجهود في جهة واحدة في كل بلدة ومدينة والاهتمام بأمر الزكاة والعناية بذلك والتفريق بينها وبين عموم الصدقات والهبات، قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]، وفي ختم هذه الآية بهذين الاسمين العظيمين تنبيه من الله جل جلاله لعباده على أنه سبحانه وتعالى هو العليم بأحوال عباده ومن يستحق منهم للصدقة ومن لا يستحق، وهو الحكيم في شرعه وقدره فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وإن خفي على بعض الناس أسرار حكمته ليطمئن العباد لشرعه ويسلّموا لحكمه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
(1/5532)
الترهيب من المسألة وتحريمها مع الغنى
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
8/9/1422
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت الناس في الأرزاق. 2- حث الإسلام على طلب الرزق والتكسب. 3- الترهيب من المسألة. 4- تربية الرسول أصحابه على العفة والعفاف. 5- وجوب الإنفاق على الفقراء وتفقد أحوالهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن حكمة الله عز وجل أن جعل الناس درجات متفاوتين في الأرزاق والأعمال وغيرها في الدنيا وفي الآخرة، ومن ذلك التفاوت في الأرزاق ليخدم بعضهم بعضًا وإن لم يشعروا بهذا، ومن أجل الامتحان والابتلاء والاختبار لكيلا يطغى صاحب المال وليستعف المحروم، ولولا ذلك لما نجح أحد في الامتحان الذي فيه ومعه وبعده رفع الدرجات أو هبوط الدركات، قال تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَـ?كُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 165].
ولكي يتربى المسلم على الطاعات وفعل الخيرات فتح الله له أبوابًا كثيرة من الخير وإن كان فقيرًا، ويتساوى فيها الفقير مع الغني، وقد يسبق الفقيرُ الغنيَّ وينافسه ويكون أعلى منه درجة في كل أبواب الخير والعمل الصالح إلا عندما يكون مُعْدَمًا لا مال له وسبقه الغني بإنفاق المال سواء كان فرضًا أو نفلاً زكاة أو صدقة عامة إلى جانب أعماله الصالحة، عندها يدرك المسلمُ الحكمةَ من وجود المال في يده أو عدمه.
والإسلام لا يحب لأهله الذلة والخضوع والمسكنة لغير الله والهوان ومسألة الناس، وإنما حَثَّ على التكسب والسعي في الأرض لطلب الرزق الحلال، وجَعَلَ السعي على الأهل والأولاد والعيال من أفضل الأعمال التي يُثاب عليها المسلم، وتعتبر عبادة متى نوى بذلك التقرب إلى الله عز وجل ممتثلاً أمر الله جل جلاله في طلب الحلال والإنفاق منه في الحلال أيضًا وأداء ما أوجب الله فيه من حق لأهله المستحقين له، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك: 15]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51]. وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، وقال تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ حَلَلاً طَيّبًا وَ?شْكُرُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 114]. وقال مرغبًا في النفقة على أهل الشخص ومن يعول: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) رواه مسلم، وقال رسول الله : ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم.
ووردت أحاديث كثيرة في الترهيب من المسألة وتحريمها مع الغنى، كما جاءت بالترغيب في التعفف والقناعة والأكل من كسب اليد؛ ليرتفع المسلم عن كل ما يشِينُهُ أو يَحُطُّ من كرامته، وليبقى عزيزًا رافع الرأس، ولكن مع تغافل الناس وغفلتهم وقلة عنايتهم بإسلامهم وعدم معرفتهم لأحكام دينهم أو لتهاونهم في التطبيق يكون الإفراط أو التفريط، وكلا الأمرين مذمومٌ سلوكُ طريقِهِما وغير محمود، فلا أصحاب المال يؤدون ما أوجب الله عليهم في الوجوه التي أُمروا بأدائها فيها أَيْ: في الأصناف الثمانية، لم يُؤَدُّوا زكاة أموالهم في مصارفها الشرعية، ولم يتصدقوا من فضول أموالهم، وإلا لما بقي سائل يسأل أو فقير في مجتمعات المسلمين لو أديت الزكاة كما يجب، ولا الفقير أو صاحب الحاجة يعرف المسألة الشرعية ويكفّ عما زاد عن ذلك.
وأَخُصُّ بالذكر أولئك الذين اتخذوا المسألة مهنة شَبُّوا وشابوا عليها ورَبَّوْا أولادَهم ومن تحت أيديهم على ذلك حتى صارت تلك عادتهم التي لا يستطيعون الخلاص منها، وأذكر ما تيسر من أحاديث رسول الله حول ذلك، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم)) رواه البخاري ومسلم والنسائي، مزعة أي: قطعة. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنما المسائل كُدُوحٌ يُكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بُدّا)) رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال رسول الله : ((من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب)) رواه البيهقي، وقال : ((من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شَيْنًا في وجهه يوم القيامة)) رواه أحمد والبزار والطبراني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس تكثّرًا فإنما يسأل جمرًا، فَلْيَسْتقِلَّ أو لِيَسْتكثرْ)) رواه مسلم وابن ماجة، وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس عن ظَهْر غِنَى استكثر بها من رَضْف جهنم)) ، قالوا: وما ظهر غنى؟ قال: ((عشاء ليلة)) رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند والطبراني في الأوسط وإسناده جيد، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس لِيُثْرِيَ مالَه فإنما هي رَضْفٌ من النار مُلْهَبَةٌ، فمن شاء فَلْيُقِلَّ، ومن شاء فَلْيُكْثِرْ)) رواه ابن حبان في صحيحه، والرضف: الحجارة المُحْمَاة.
وقد أثَّرَتْ تلك التربية النبوية في أصحاب رسول الله حتى بلغ بهم الأمر إلى أبعد من ذلك مع الحاجة إلى المال والنفقة في ضروريات الحياة أو المسألة التي نراها عادية لدينا وهي كذلك. عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ((ألا تبايعون رسول الله ؟)) وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فقال: ((ألا تبايعون رسول الله ؟)) فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فَعَلامَ نبايعك؟ قال: ((أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا)) ، وأَسَرَّ كلمة خفية: ((ولا تسألوا الناس)) ، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه. رواه مسلم والترمذي والنسائي.
وفي إحدى الروايات عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي قال: ((ستة أيام ثم اعقل ـ يا أبا ذَرٍّ ـ ما يُقال لك بَعْدُ)) ، فلما كان اليوم السابع قال: ((أوصيك بتقوى الله في سرّ أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدًا شيئًا وإن سقط سوطك، ولا تقبضنّ أمانة)) رواه أحمد ورواته ثقات، ((لا تقبضن أمانة)) أي: لا تحجبها ولا تمنعها صاحبها.
ووصل الأمر بأبي بكر رضي الله عنه إلى أنه ربما يسقط خطام الناقة من يده فيضرب ذراع الناقة فيُنِيخُهَا فيأخذه لئلا يطلب من أحدٍ أن يناوله إياه، فيقولون له: أفلا أمرتنا فَنُنَاوِلَكَهُ؟! قال: إن حِبِّي أمرني أن لاَّ أسال الناس شيئًا.
وهذا حكيم بن حزام رضي الله عنه يروي ما جرى له فيقول: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذا المال خَضِرٌ حُلْوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)) ، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أَرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين، أُشهدكم على حكيم أني أَعْرِضُ عليه حقّه الذي قسم الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، ولم يَرْزَأ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد النبي حتى توفي رضي الله عنه. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي رحمهم الله. يرزأ أي: يأخذ.
وعن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه أنه قال: تحمّلت حمالة فأتيت رسول الله أسأله فيها، فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها)) ، ثم قال: ((يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حَمَالَةً فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: سدادًا من عيش ـ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الْحِجَى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: سدادًا من عيش ـ، فما سواهن من المسألة ـ يا قبيصة ـ سُحْتٌ يأكلها صاحبُها سحتًا)) رواه مسلم وأبو داود والنسائي، والحمالة: الدية يتحملها قومٌ عن قومٍ، وقيل: هي ما يتحمله المصلح بين فئتين في ماله ليرتفع بينهم القتال والفتنة، والجائحة: الآفة تصيب الإنسان في ماله، والفاقة: الفقر والحاجة، والسِّداد بكسر السين: ما يسدّ الحاجة ويكفيه، والقِوام بكسر القاف وفتحها: ما يقوم به حال الإنسان من مال غيره، والحِجَى بكسر الحاء: هو العقل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده عز وجل وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فلقد جاء الترغيب في التعفف عما في أيدي الناس والقناعة بالرزق الحلال مهما كان قليلاً، ورفع الإسلام من مكانة ودرجة من كانت القناعة والتعفف وغنى النفس خلقًا له، ولقد رأينا في الأحاديث السابقة كيف كان حال الصحابة رضي الله عنهم في الابتعاد عن سؤال الناس، ليس المال وإنما سقوط سوط أحدهم على الأرض أو خِطَام الدابة وهو عليها فينزل ليأخذه لئلا يسأل أحدًا ويطلبه ليرفعه له.
وأذكر عدة أحاديث متنوعة في هذا الباب للانتفاع ونشرها بين عامة المسلمين وإن كانت معلومة لدى بعضهم، قال رسول الله : ((لأَنْ يأخذَ أحدُكم أَحْبُلَه فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكفَّ بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أَعْطَوْهُ أَمْ مَنَعُوه)) رواه البخاري وابن ماجة وغيرهما، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)) رواه أبو داود والترمذي، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) رواه مسلم وغيره، وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اليد العليا خير من اليد السفلى، وابْدَأْ بمن تَعُول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدَّق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)) رواه البخاري ومسلم، وقال رسول الله : ((لا تُلْحِفُوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فَتُخْرِج له مسألتُه مني شيئًا وأنا له كاره فيُبارك له فيما أعطيتُهُ)) رواه مسلم والنسائي والحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يعطيني العطاء فأقول: أَعْطِهِ من هو إليه أفقر مني، قال: فقال: ((خُذْهُ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشْرِفٍ ولا سائل فَخُذْهُ فَتَمَوَّله، فإن شئتَ كُلْهُ، وإن شئت تصدق به، ومَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نفسَك)) ، قال سالم بن عبد الله: فَلأَجْلِ ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدًا شيئًا ولا يردُّ شيئًا أُعْطِيَهُ، رواه البخاري ومسلم النسائي، وقال : ((من عُرض له من هذا الرزق شيء من غير مسألة ولا إشراف نفس فليتوسع به في رزقه، فإن كان غنيًا فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه)) رواه أحمد والطبراني والبيهقي رحمهم الله تعالى.
فعلى المسلمين القيام بالواجب عليهم في هذا الباب وغيره من دين الإسلام، على الأغنياء سواء كانوا أصحاب أموال كثيرة أو قليلة أن يُؤَدُّوا زكاةَ أموالهم في مصارفها الشرعية طيبةً بها نفوسُهم، ولا يتركوا الفقراء والمساكين والمحتاجين يتخدّعونهم ويستخرجون منهم حقوقهم وهم في غاية الذلة والمسكنة، عليهم أن يتقوا الله تعالى ويرفعوا من قدر إخوانهم المحتاجين المستحقين لها دون إلحاق الحرج والضرر بهم، وعليهم الابتعاد عن الحِيَلِ الشيطانية والفتاوى التي لا تستند إلى دليل شرعي، كما أنَّ عليهم أنْ يتصدقوا من فضول أموالهم غير الزكاة الواجبة التي ليس لهم فيها فضل ولا منّة؛ ليفوزوا بِرِفْعَةِ الدرجات في الجنة، ولِيَقُوا بها أنفسهم من عذاب النار، قال رسول الله : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)). عليهم أولاً وأخيرًا أن يؤدّوا الزكاة الواجبة في أموالهم؛ لأن كثيرًا من المسلمين يبخلون بها ولا يؤدونها إما بالتحايل في إيجاد الطرق الملتوية لئلا يدفع أحدهم الزكاة كما هو الحال فيمن له ديْن على شخص أو أشخاص أو أي جهة أخرى ثم لا يدفع الزكاة بحجة هذا الدين وبحجة أن له دينًا على الناس تهرُّبًا أو تحايلاً لئلا يدفعها لأهلها المستحقين لها، وقد يأخذ بعضهم بقولٍ لا يستند على دليل صحيح، فيجب على صاحب الدَّيْنِ أن يُخرج الزكاةَ عن دَيْنه الذي له على أي شخص أو أي جهة كانت، وعلى أصحاب الديون التي لهم عليه أو على غيره أن يؤدوا زكاة ديونهم ويدفعوها للأصناف الثمانية الذين ورد ذكرهم في الكتاب والسنة، ومنها قول الله جل جلاله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]، وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه لليمن من ضمن وصاياه له: ((فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة في أموالهم تُؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم)).
كما أن على الفقراء والمساكين ومن نزلت بهم حاجة وفاقة أن يلتزموا حدود الله ويعلموا حرمة المسألة من غير حاجة، وعليهم القناعة والتعفف عما في أيدي الناس ولا يذلوا أنفسهم فتكون أيديهم السفلى، بل عليهم السعي للتكسب والعمل من الحلال، وخاصة من يقدر على العمل فإنه لا تحل له المسألة كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد أنه قال: ((لا تحل لقوي مكتسب)).
وعلى المسلمين عمومًا في أي بلد أن يَتَفَقَّدُوا الفقراء منهم لأنهم في ازدياد وكثرة، وحاجتهم وفاقتهم أكثر نظرًا لمتطلبات العصر الذي نعيشه ومواجهة نفقاته، فقضاء حاجاتهم والاهتمام بهم وبشؤونهم خير للجميع في الدنيا والآخرة بدلاً من تركهم وإهمالهم الذي قد يؤدي بهم إلى الكفر والعياذ بالله، كما هو الحال في استغلال النصارى لحاجات الفقراء في كثير من الدول والوقوف إلى جانبهم ومن ثم دخولهم في النصرانية، ولا يظن أحدٌ أنَّ الفقرَ خاصٌّ بالدول الفقيرة التي ظاهرها الفقر، بل هو موجود في كل بلاد المسلمين بدون استثناء، ولا أدخل في التفاصيل ولكن اللبيب بالإشارة يفهم. فواجب الأغنياء أن يتقوا الله تعالى في إخوانهم الفقراء والمساكين من المسلمين، ويعطوهم الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم، ويسدوا حاجتهم حتى لو أدى الأمر إلى الصدقة من فضول أموالهم، قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24، 25]، وقال عز وجل: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19]. وعلى المسلمين عمومًا أن يساعدوا إخوانهم بكل طريقة ممكنة وتفقد أحوالهم، وعلى الحكومات أيًا كانت تفقّد حال شعوبها ومواطنيها وخاصة الفقراء والمساكين، ولا يتركوهم لذل الحاجة والمسألة أو العيش في الفقر والمسكنة، فالجميع مسؤولون أمام الله عز وجل عن هذا وغيره، فلنتق الله ونحذره ونعدّ العدة يوم العرض عليه، فَالْعَقَبَةُ كَؤُودٌ، والصعود إلى أعلاها صعب المنال، والخروج من مغاراتها وكهوفها في غاية الشدة والكرب والهمِّ يوم الفزع الأكبر، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18].
(1/5533)
صفة الحج
فقه
الحج والعمرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
30/11/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم قبل القول والعمل. 2- صفة الحج. 3- الحث على التكبير في عشر ذي الحجة. 4- من أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الواجب على المسلم أن يعبد الله على علم وبصيرة، لا يعبده على جهل وضلال، يجب عليه التعرف والسؤال عن أحكام دين الإسلام مما هو معلوم من الدين بالضرورة مما يجب عليه تعلمه ومعرفته والعمل به ويعمل بذلك مخلصًا العبادة لله رب العالمين؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا له سبحانه وصوابًا على سنة رسوله محمد.
ومما يؤسف له في هذا الزمن الذي كثر فيه العلم الدنيوي والديني أيضًا نجد التطبيق العملي لبعض شعائر الإسلام من الصعوبة بمكان لدى كثير من المسلمين، وأكبر دليل على ذلك تلك الأخطاء والإشكالات التي تقع في مناسك الحج لكثير من الحجاج الذين لو اتبعوا المنهج القويم وسلكوا الطريق المشروع لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولما صعب عليهم أداء ذلك النسك وتلك العبادة المفروضة على من دخل فيها وعلى المستطيع إليها سبيلاً.
إذًا فالحج عبادة مفروضة كَأَيِّ عبادة أخرى، يجب على المسلم أن يتعلمها قبل الشروع والدخول فيها، وهي في غاية اليسر والسهولة، فعلى المسلمين أن يعرفوا ويتعلموا أحكام الحج أحد أركان الإسلام الخمسة الذي يجب على كل مسلم ومسلمة أداؤه مع الاستطاعة، وحتى يقوموا بأدائه على أكمل وجه وأفضله بإذن الله عز وجل فعليهم أن يعلموا ذلك ابتداءً ليسيروا على علم وبصيرة، وبذلك يكونون قد أراحوا أنفسهم وأراحوا غيرهم وعلموا معنى قول الله عز وجل في آخر سورة الحج: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
فعلى المسلم أن يتعلم ذلك وغيره، ومتى لم يعلم أي أمرٍ من أمور دينه فعليه أن يسأل أهل العلم امتثالاً لقول الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7]، ولقول رسول الله في الحج عند كل منسك: ((خذوا عني مناسككم)).
وأورد أعمال الحج مُلَخَّصَةً ومُسْتَقَاةً من كتب أهل العلم مع ذكر بعض الأدلة وليس كلها لأن زمن خطبة جمعة واحدة لا يتسع لها.
فإذا عزم المسلم على السفر للحج يستحب له أن يوصي أهله وأصحابه وأقاربه ومن يودّعه من المسلمين بتقوى الله عَزَّ وجلَّ كما هي الوصية بالتقوى أيضًا لنفسه في أي مكان وزمان، وهي وصية الله للأولين والآخرين بفعل الأوامر وترك النواهي واجتنابها، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]. ويجب عليه أنْ يكتبَ مَا لَهُ ومَا عَلَيْهِ من الدَّيْن ويُشْهِدَ على ذلك إذا كان الدين لم يحلَّ موعدُه أو حلَّ وسمح له صاحب الدين بالتأجيل، والسماح المقصود هنا والذي يتعلّق به كثير من الناس حسب مفهومهم هو للديْن الذي حلَّ موعدُه أو قَرُبَ وليس له مالٌ يُسَدِّدُ منه صاحبُ الدين، أو أن نفقة الحج كثيرة على الحاج لا يطيق بعدها أو معها سدادَ الدين، ففي هذه الأحوال هي التي لا بُدَّ أنْ يَتِمَّ استئذان صاحب الدين، أما إذا كانت نفقةُ الحج قليلةً أو أن المدين لديه أموال سوف تسدد منها الديون أو أنَّ موعد سداد الدين بعد أشهر أو سنوات فهذا لا يمنع أي مسلم من أداء الحج كما اتخذ ذلك كثير من المسلمين حجةً لعدم تأديتهم الحج لدرجة أن بعضهم بلغ الستين والسبعين من عمره وهو لم يحج مع الاستطاعة وهو قريب من مكة المكرمة بحجة الدين القليل الذي عليه مع أنه يسافر الأسفار الطويلة والبعيدة ويصرف فيها أضعاف ما يصرف في الحج ولا يسأل عن ذلك ولا يحتجّ بالدين الذي عليه ولا يستأذن صاحب الدين كما يدعي ويزعم، والمقصود بالدين في الحج والجهاد في سبيل الله وغيرهما هو الاهتمام بأمر الدَّين وقضائه؛ لأن الميت يبقى معلقًا به حتى يُقضى عنه، والشهيد يُغفر له عند أول قطرة تُهراق من دمه كلُّ شيء من الذنوب إلا الدين، وليس المقصود عدم جواز حج من كان عليه دين، بل هو لتعظيم شأن الدين ووجوب المبادرة بقضائه والوفاء به وتقديمه على فريضة الحج في الأداء والقضاء.
وأعود للقول بأن على الحاج المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب واختيار الرفقة الصالحة، وكذلك اختيار النفقة الطيبة من المال الحلال للحج أو العمرة كما هو الحال في حياته كلها لما صحَّ عن الرسول محمد في قوله: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا)) ، وللحديث الوارد في ذلك أيضًا: ((إذا خرج الرجل حاجًا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغَرْزِ فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور)). والحج المبرور جزاؤه الجنة كما جاء ذلك على لسان رسول الله حيث قال : ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
وإذا وصل الحاج إلى الميقات يُسَنُّ له قبل الإحرام الأخْذُ من مشاربه وقَلْمُ أظفاره وحَلْقُ عَانَتِهِ ونَتْفُ إِبْطَيْهِ والاغتسال والتطيب، وإن فعل ذلك في منزله وخاصة مَنْ منزلُه قريب من الميقات فلا بأس لئلا يعطّل رُفْقَتَهُ أو لقرب الوقت كالمسافر في الطائرة أو الذي لا يسير ليالي وأيامًا حتى يصل الميقات، ثم يلبس الرجل إزارًا ورداءً أبيضين نظيفين بعد أن يتجرَّدَ من المَخِيط، والمخيط هو ما يُخَاطُ للبدن أو بعضه كالفلينة والسروال والثوب وما شابه ذلك، وليس من المخيط الحزام والساعة والحذاء التي فيها خيوط، فليس هذا هو المقصود والمنهي عنه، بل هو الأول. أما المرأة فتلبس المخيط وتحرم فيما شاءت من الثياب السوداء أو الحمراء أو الخضراء أو غيرها بعيدة عن الزينة وفتنة الرجال ودون التشبه بالرجال في اللباس الأبيض أو الأخضر كما هو الحال فيمن يتقيّدن بلباس معيّن لهن في الإحرام كما تفعله بعض النساء ويُقِرُّهُنَّ الرجالُ على ذلك.
والحاج مُخَيَّرٌ بين أنواع النسك الثلاثة: الإفراد أو التمتع أو القِران، ويجب على الحاج أن ينوي الدخول في النسك الذي يريده ويحدده من عمرة أو حج، ويشرع له التلفظ بما ينوي، فإن كانت نيته الحج قال: لبيك حجًا، أو: اللهم لبيك حجًا، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وإن كانت نيته العمرة قال: لبيك عمرة، أو: اللهم لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك... إلى نهاية التلبية، وله أن يشترط في حجه أو عمرته خاصة من كان له عذر كالمريض أو الخائف من الحَصْرِ وعدم إكمال نسك الحج أو العمرة وذلك بقوله بعد التلبية: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"، فبهذا الاشتراط إن حصل له ما يعوقه عن إتمام النسك جاز له التحلل.
ولا يجوز للمحرم بعد نية الإحرام من الميقات أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظفاره ولا يمسّ طيبًا ولا يلبس مخيطًا بالنسبة للرجال، ومن الواجب عليه أن يترك الرفث والفسوق والجدال في الحج امتثالاً لقول الله جل جلاله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]، ولقول رسول الله : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
وينبغي الإكثار من التلبية في الطريق إلى مكة، فإذا وصل المسجد الحرام ورأى الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف. ويضطبع الرجل أي: يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وهذا هو المشروع في الاضطباع من حين يرى الكعبة حتى ينتهي من الطواف فقط، وعندما يريد أداء ركعتي الطواف فعليه أن يعيد الرداء على كتفيه ويسترهما في الصلاة، وليس كما يفعله معظم المسلمين من الاضطباع وإبداء الكتف الأيمن من حين لبس ملابس الإحرام حتى الانتهاء من أعمال العمرة أو الحج وعدم سَتْر الكتف الأيمن حتى في الصلاة فهذا خلاف المشروع.
ثم يطوف بالبيت ابتداءً من الحجر الأسود أو ما يوازيه من المسجد وانتهاءً بنفس المكان من كل شوط سبعة أشواط، يرمل الرجل في الثلاثة الأولى إن تيسر له ذلك ويمشي في الأربعة الباقية، ويدعو الله بما شاء إلا أنه بين الركن اليماني والحجر الأسود يُشرع له أن يقول عند نهاية كل شوط: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، وهذا الدعاء هو الذي ثبت قولُه في الطواف قبل نهاية كل شوط. فإذا فرغ من الطواف أعاد الرداء على كتفيه ثم يصلي ركعتين خلف المقام أو في أي ناحية من المسجد الحرام لا سيما في الزحام، وتبتعد المرأة عن الرجال والاختلاط بهم خاصة في الصلاة، ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [سورة الكافرون] وفي الثانية بعد الفاتحة بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص]. ويدعو بما تيسر له من الدعاء النافع سواء بعد صلاة الركعتين أو بعد الشرب من ماء زمزم والتَّضَلُّع منه.
ثم يخرج إلى الصفا من بابه ويرقى عليه ويستقبل القبلة ويوحّد الله ويثني عليه ثلاث مرات، هذا هو الأفضل، ويدعو بما شاء، ثم ينحدر إلى المروة ويفعل كما فعل على الصفا، ومن السنة أن يُسْرِعَ الرجلُ في المشي الإسراعَ المسمى بالخَبَبِ فيما بين العلمين الأخضرين في الأشواط السبعة كلها، وأما المرأة فلا يُشرع لها الإسراعُ لأنها عورة، وإنما المشروع لها المَشْيُ العاديُّ في السعي وكذلك الطواف.
وبعد السعي يقصّر أو يحلق، وبذلك تتم عمرته إن كان متمتعًا، والتقصير هنا أولى إذا كان قريبًا من الحج ليترك الحلق للحج حتى يتوفَّرَ شعرُه، أما المرأة فتأخذ قدر أَنْمُلَةٍ من طرف شعرها في هذا أو غيره من حج أو عمرة مفردة بسفر خاص، وهذا الحلق أو التقصير في الحج للمتمتع. وإن كان الحاج مفردًا أو قارنًا فلا يحلق ولا يقصّر بل يبقى على إحرامه حتى يُتِمَّ أعمالَ يوم النحر، وإن كان المشروع للمفرد أن يجعلها عمرة حتى يكون متمتعًا، وكذلك القارن إذا لم يَسُقِ الهديَ معه، وإذا أراد المفرد والقارن تقديم سعي الحج بعد الطواف الأول للقدوم فلا بأس، وإلا فلا سعي عليهما بعد طواف القدوم إلا بعد طواف الإفاضة فيَسْعَيَان سعي الحج إذا لم يُقدِّماه.
وفي اليوم الثامن يُهلّ بالحج من كان متمتعًا لأنه قد حلّ من إحرامه، أما من كان قارنًا أو مفردًا فإنه باقٍ على إحرامه بالحج ولم يحلّ منه، ثم يتّجه الحاج إلى منى ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر اليوم التاسع، كل صلاة في وقتها يقصر الرباعية فقط الظهر والعصر والعشاء، ثم بعد طلوع الشمس يوم عرفة يتوجه من منى إلى عرفة، ويُسَنّ له النزول بنَمِرَةَ إن تيسر له ذلك حتى زوال الشمس، ثم يصلي الظهر والعصر قصرًا وجمعًا في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين، ثم يقف بعرفة ويتنبه لمكان وقوفه وبقائه من بعد الصلاة حتى غروب الشمس بأن لاَ يكون خارج حدود عرفة؛ لأن بعض الحجاج لا يقفون داخل عرفة خاصة من يُصَلُّون في مسجد نمرة أو أمامه وبجوانبه، علمًا بأن مقدمة المسجد واقعة في بطن وادي عُرَنَة وليس في عرفة، فليتنبه الحجاج لذلك ومن يقوم على شؤونهم لإرشادهم وتوجيههم وعدم تركهم خاصة وهم يجهلون المواقع.
ويكثر الحاج من الدعاء والتلبية والتهليل والتكبير وذكر الله عمومًا وخاصة كلمة التوحيد والإخلاص: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير" حتى غروب الشمس، وينبغي للمسلم في هذا الموقف العظيم أن يكون مخبتًا لله متواضعًا خائفًا وجلاً منكسرًا بين يدي الله يرجو رحمته ومغفرته ورضوانه، ويخاف ويخشى الله وغضبه ومقته وأليم عقابه، وعليه أن يحاسب نفسه ويجدّد التوبة النصوح ليجود الله عليه ويغفر ذنبه ويعتق رقبته من النار ويباهي به الله ملائكته.
فإذا غربت الشمس ينصرف إلى مزدلفة ويصلي بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا للعشاء، بأذان واحد وإقامتين من حين وصوله، والمبيت بمزدلفة واجب إلا في حق الضعفة من النساء والصبيان ونحوهم، فيجوز لهم أن يدفعوا إلى منى في آخر الليل، أما من هو متعيّن عليه المبيت فبعد صلاة الفجر بمزدلفة يقف عند المشعر الحرام ويستقبل القبلة ويكثر من ذكر الله وتكبيره والدعاء مع رفع اليدين حال الدعاء، وحيثما وقف من مزدلفة أجزأه، ويجب على الحاج أن يعلم أنه داخل حدود مزدلفة إلا من لم يجد مكانًا بعد اجتهاده في ذلك أو من كان له عذر، ويكون الذكر والدعاء حتى يُسْفِرَ ويظهرَ الضوءُ جليًا بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس، لقول الله عز وجل: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 198، 199]. والسنة لَقْطُ سبع حَصَيَاتٍ فقط لرمي جمرة العقبة بعد أن يدفع من مزدلفة إلى منى، وفي الأيام الباقية يلتقط كل يوم إحدى وعشرين حصاة من منى لرمي الجمرات الثلاث.
وإذا وصل الحاج إلى منى قطع التلبية عند جمرة العقبة التي يجب رميُها في هذا اليوم، يرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. وبعد الرمي ينحر هديه أو يذبحه إن كان متمتعًا أو قارنًا، ثم يحلق الرجل رأسه أو يقصره، والحلق أفضل لأن الرسول دعا بالرحمة للمحلقين وردّد ذلك ثلاث مرات وللمقصرين واحدة، ولا يكفي تقصير بعض الرأس بل لا بد من تقصيره كله كالحلق، والمرأة تقصّر من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل.
وبعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير للمفرد أو الذبح للقارن والمتمتع يُباح للمحرم بفعل اثنين كلُّ شيء حَرُمَ عليه إلا الزوجة، ويسمى هذا التحلل الأول.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 200-202].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العظيم القهار، القوي القدير الجبار، فرض الفرائض وحدّ الحدود وأمر بتعظيم شعائره وجعل ذلك من تقوى القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطّلع على الظواهر والبواطن وهو علام الغيوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيُسنُّ بعد التحلل الأول أن يتطيب الحاج ويتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتمّ الحج إلا به، ثمّ بعد الطواف وصلاة الركعتين يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعًا، فهذا السعي لحجه والأول لعمرته، وكذلك إن كان مفردًا ولم يسبق له أن قدّم السعي في قدومه، أما القارن بين الحج والعمرة فليس عليه إلا سعيٌّ واحد، فإن كان قد سعى بعد طواف القدوم كفاه ذلك عن السعي بعد طواف الإفاضة، وإن لم يَسْعَ بعد طواف القدوم فعليه أن يسعى بعد طواف الإفاضة.
والأفضل للحاج أن يرتِّب يوم النحر هذه الأمور الأربعة؛ فيبدأ أولاً برمي جمرة العقبة ثم النحر ثم الحلق أو التقصير ثم الطواف بالبيت والسعي بعده للمتمتع، وكذلك للمفرد والقارن إذا لم يسعيا بعد طواف القدوم، وإن قدّم بعض هذه الأمور على بعض أجزأه ذلك ولا حرج عليه لثبوت الرخصة عن النبي لمن قدم أو أخّر في ذلك وقوله لكل من سأله: ((افعل ولا حرج)).
ثم يرجع الحاج إلى منى ويقيم بها ثلاثة أيام بلياليها أي: يوم النحر اليوم العاشر ويومي الحادي عشر والثاني عشر لمن أراد التعجل، والثالث عشر لمن أراد أن يتأخر، يرمي الجمار الثلاث بعد زوال الشمس في كل يوم من الأيام الثلاثة غير يوم النحر، ويجب الترتيب في رميها فيبدأ بالجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخَيْفِ ثم يرمي الجمرة الثانية ثم الثالثة وهي جمرة العقبة، ويجوز لمن كان له عذر يمنعه عن مباشرة الرمي بنفسه أن يستنيب من يرمي عنه، والذي يُسْتَناب في هذا يرمي عن نفسه أولاً ثم يرمي عمّن استنابه وفي مكانه دون أن يرجع مرة أخرى، سواء كان الحجُّ فرضًا أو نفلاً، ومن تعجل في يومين بعد يوم النحر فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى، قال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى [البقرة: 203].
ثم على الحاج بعد أن ينزل من منى ويريد مغادرة مكة عليه أن يطوف طواف الوداع وهذا واجب، وبهذا يتم حجه، ولا يسقط طواف الوداع إلا عن الحائض والنفساء حيث ورد الترخيص لهما في حديث رسول الله.
ولنتدبر هذه الآيات المتتابعة والموضحة لأعمال الحج وأحكامه وإن كان هناك آيات غيرها في مواضع أخرى، قال الله عزَّ شأنُه وجلَّ جلالُه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 196-203].
أما المقيمون في بلادهم من المسلمين ولم يحجوا فقد جعل الله لهم أبوابًا من الخير ينبغي لهم أن يسارعوا إليها ويغتنموها بالعمل الصالح في أيام العشر من ذي الحجة من صيام وصدقة واستغفار وتكبير وذكر لله عز وجل وقراءة القرآن وجميع أنواع القربات، يقول رسول الله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم.
ومن أعظم الأعمال في أيام العشر الصوم وخاصة صوم يوم عرفة للمقيمين وليس للحجاج، فلقد سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم.
عباد الله، أحيوا ـ رحمكم الله ـ سنة التكبير المطلق في كل وقت في هذه الأيام من أيام العشر في الأسواق والطرقات والمساجد والبيوت، وكذلك المقيد بعد الصلوات المكتوبة من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فمن أحيا سنة قد أماتها الناس أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب، وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإذا دخلت عشر ذي الحجة فلا يجوز أخذ شيء من الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي حتى يذبح أضحيته للأحاديث الواردة في ذلك، ومنها ما ورد في صحيح مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من كان له ذبح يذبحه فإذا أهلَّ هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره، ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي)) رواه مسلم، وفي الحديث الآخر: ((إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي)) رواه مسلم.
(1/5534)
عيد الفطر 1413هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
1/10/1413
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التمسك بالإسلام الصحيح. 2- تدهور حال المسلمين عندما تخلوا عن دينهم. 3- ضرورة التمسك بما كان عليه السلف الصالح. 4- وجوب أداء حقوق الله تعالى وحقوق العباد. 5- التحذير من بعض المعاصي والمنكرات. 6- موعظة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن التمسك بالإسلام يكفل للمسلمين السعادة والسيادة والعز والتمكين والنصر المبين والرفعة والكرامة، وحظُّهم من ذلك وغيره بقدر تمسكهم أو تفريطهم، فبالإسلام الصحيح وتطبيقه في حياة الأفراد والجماعات تصفو النفوس وتتّحد القلوب وتقوى الأمة وتُهاب بين الأمم وينتشر الأمن ويعم الرخاء ويسعد الجميع بتطبيق شرع الله في أرض الله على عباد الله، وعندما يتخلى الجميع أو الأفراد أو الحكومات يكون العكس من ذلك، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53].
إن الله تعالى يذكِّر عباده المؤمنين بنعمه عليهم الظاهرة والباطنة، ومنها نعمة الهداية للإسلام واجتماع الكلمة وعدم الاختلاف والتفرق حيث كانوا قبل الإسلام ضُلاَّلاً وأعداءً متفرقين، ثم صاروا بالإسلام إخوة متحابين، آمنوا بالله ربًا وإلهًا معبودًا وبِنَبِيِّهِ محمدٍ رسولاً مطاعًا وقدوة متبعًا، وبالإسلام دينًا وشريعة ومنهجًا وطريق حياة حقيقية في الدنيا والآخرة، قَبِلُوا نعمة الإسلام التي أنعم الله بها عليهم وشكروه عليها وعلى جميع النعم الأخرى، وامتثلوا أمر الإسلام وعملوا به دين توحيد وفطرة وتعاون على الخير والهدى والمحبة وعلى البر والتقوى عمومًا، عرفوه وطبَّقوا أوامرَه، وابتعدوا عن نواهيه واتخذوها حدودًا لا تُنتهك، فيه كل شيء وكل خير وسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38]، فالإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، مصحف وسيف، إسلام قائم في كل زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولو كره الكافرون، الإسلام هو دين الله عز وجل، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران: 19]، إسلام لن يقبل الله من أحد دينًا سواه بعد أن بلغته رسالة النبي محمد ، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]. فالإسلام محفوظ في كتاب الله وسنة رسوله محمد إلى قيام الساعة، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، فلله سبحانه وتعالى الحمد والشكر، وله الفضل والمنّة، ومنه الرحمة والمغفرة.
عندما فهم الإسلامَ سلفُنا الصالحُ من صحابة رسول الله ومن تبعهم على نهجهم واقتفى أثرهم الفهم الصحيح والإيمان العميق والتطبيق السليم والدعوة الصادقة عندها انشرحت صدورُهم هُمْ أنفسُهم قبل غيرهم وفتح الله لهم القلوب والأمصار، وقَبِلَ الإسلامَ خلقٌ كثير ودخلوا في دين الله أفواجًا، وزكت نفوس الجميع عندما آمنت فكانت لها العزة بالإسلام والإيمان الصادق، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]. فحينما مَنَّ الله على السلف الصالح بالتمسك بدين الإسلام وقاموا بواجبه خير قيام وطبقوه على أنفسهم وعلى غيرهم لا فرق بين الفقير والغني والشريف والوضيع والحاكم والمحكوم عندها شرفهم الله عز وجل فأصبحوا قادة العالم في العز والكرامة والعلم والحضارة والأمن والسعادة والأخلاق السامية والقيم الرفيعة، وصاروا أهل السيادة على العالم بعدلهم وإنصافهم للمظلوم من الظالم مهما علا شأن الظالم وتسلطه، ونالوا الخيرية الموعودة عندما قاموا بالواجب عليهم في كل شؤونهم، ومن ذلك قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا مع الإيمان بالله أولاً وآخرًا، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، ونالوا الخيرية المذكورة في هذه الآية الكريمة عندما اعتصموا بحبل الله جميعًا ولم يتفرقوا وقاموا بالواجب عليهم في ذلك وفي غيره، وقد جاء هذا في الآيات التي سبقت هذه الآية السابق ذكرها في قول الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 102-105]. عندما قاموا بالواجب عليهم مَكَّنَ الله لهم في الأرض ونصرهم وحقق لهم الأمن ولشعوبهم ومن تحت رعايتهم، وحكموا الممالك والشعوب بصدق ووفاء وعِفَّةٍ وأمانة وعدل وإنصاف، فنصرهم الله عز وجل كما قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 40، 41]، وقال عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 55، 56]، وقال سبحانه وبحمده: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 81، 82]، وقال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105]، وقال عز وجل: وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14].
فهذه سنة كونية قائمة؛ عندما أقامت الأمةُ وقادتُها العدلَ وامتثالَ أمر الله جل جلاله كانت لها السيادة والريادة في العالم لأنها حَكَمَتْ بشرع الله عز وجل، ولكن عندما انحرفت أكثر القيادات وجمهرة الشعوب في الماضي والحاضر في البلاد الإسلامية عن حقيقة الإسلام وعن المنهج النّبوي والهدي المحمدي أصبح واقع المسلمين في غاية الألم والحسرة بسبب الإعراض عن حقيقة الإسلام ونهج سلف هذه الأمة في تطبيق شرع الله، وخاصة في هذا الزمان حيث اكتفى كثير من المسلمين بالتَّسَمِّي بالإسلام وقد لا يؤدي كثير منهم الصلاة فضلاً عن الشعائر الأخرى، والانتسابُ للإسلام لا يُسْمِنُ ولا يغني من جوع، والأسماء لا تُجْدِي شيئًا عن الحقائق ولا تغير من الواقع شيئا، والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم السِّرَّ وأخفى.
فلما عدلت تلك القيادات عن تحكيم شريعة الله ولما أُلْجِمَ العلماءُ وأُخْرِسُوا عن بيان الحق أو داهنوا وكتموا ورضوا بالحياة الدنيا نتج التفكك في قيادة الأمة الإسلامية وشعوبها وأصبح بَأْسُهم بينهم لعدم الوِئَام بين الحكام والمحكومين ولعدم تطبيق تعاليم الإسلام وشريعته في المجتمع، فانتشر بينهم التفرق والاختلاف والعداوة والبغضاء وكلُّ ما يندى له الجبين ويحزن له الصديق ويرضى به العدوُّ ويَشْمت، وهذه سنة الله في خلقه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160]، وقال : ((من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم.
ولو أن أولئك أصحاب آراءٍ سديدةٍ وعقول مفكرة وقلوب واعية لأخذوا المثل القائم أمام أعينهم في تطبيق الإسلام وتعاليمه على تَقْصِيرٍ في ذلك، لأخذوا المثل من هذا البلد المبارك، البلد الآمن الذي منّ الله عليه بقادة وعلماء وأمة راضية بالشرع الحنيف والدين القويم حيث قام كلٌّ بدوره، ونريد المزيد إن شاء الله تعالى، فعندما حكَّم ولاةُ الأمر شرعَ الله وتمّ تطبيقه على الشعب المسلم المغتبط بذلك انتشر العدل في ربوع البلاد وعمّ الأمنُ أرجاءَ الوطن وارتاحت النفوس المؤمنة واطمأنت، وسكنت النفوس الشريرة التي تسوّل لها شياطين الإنس والجن بإحداث الفتن حتى لو كان المرضُ حالاًّ بها فإنها ترتدع عن الإقدام على أي جريمة لما تعلمه من العواقب المؤلمة التي هي حدود الله التي وضعها لتستقيم حياة العباد في الأوطان والبلاد. وساق الله لبلاد الحرمين الأرزاق والخيرات من كل أقطار الدنيا التي معظم شعوبها محرومون من خيراتها، وإن في ذلك لعبرة حيث هذه النعم والخيرات تأتي من عشرات الدول من العالم وتُسَاق إلى هذه الأرض الطيبة المباركة وخاصة تلك الخيرات والثمار والفواكه المستمرة طوال العام، وتحققت دعوة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في جلب الأرزاق والثمرات لمكة وما حولها، وأصبحت المملكة عامة تتمتع وتنعم ببركة ذلك، المسلمُ والكافرُ في ذلك على حد سواء من حيث النعمة والمقام، كما قال تعالى عن دعاء إبراهيم عليه وعلى رسولنا وجميع الأنبياء والرسل الصلاة والسلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة: 126]، وكما ورد في سورة إبراهيم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37].
إننا نحمد الله عز وجل على ما مَنَّ به على هذه البلاد وعلى حكامها وعلمائها ومحكوميها على اختلاف أجناسهم من تطبيقٍ لشرع الله، وإننا لنرجو الله عز وجل أن يوفق الجميع إلى المزيد من التطبيق الأمثل والتحقيق الأصْوَب لتعاليم الإسلام في جميع مجالات الحياة، إن الله على كل شيء قدير.
إن المسلمين اليوم في كل المجتمعات والبقاع في أمَسِّ الحاجة إلى إيمان كإيمان السلف الصالح، إيمانٍ واعٍ متكامل لهذا الدين الإلهي والتشريع الحكيم، وبحاجة إلى روابط متينة تربط بينهم وتشدّ وثاق تفككهم وانحرافهم عن النهج القويم من أجل أن يحفظ الله عليهم حياتهم ويحميهم من العبث والفوضى والفساد ليعيشوا في دنياهم في سلام وأمن واطمئنان، ولتتحقق لهم السعادة الحقيقية في الآخرة بإذن الله عز وجل.
إن الأمل والرجاء أن نكون شيبًا وشبانًا ذكورًا وإناثًا على الفهم الصحيح للإسلام والتطبيق الشامل لتعاليم الإسلام إيمانًا وعملاً ودعوة وصبرًا وصدقًا وإخلاصًا ومتابعة، وعلينا أن نعلم بأن المحرمات والوقوع فيها يضعف الإيمان ويُمرض النفوس فتفسق عن طاعة الله، وعندها تكون المخالفة والضعف والفساد والضلال. إنه لا مخرج ولا نجاة من الضياع والفساد في العقيدة والسلوك إلا بتطبيق الإسلام قولاً وعملاً واعتقادًا؛ لأن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، وإلا كان النقص والضعف في الإيمان وغيره بقدر ما يُنقص منه.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، علينا أن لا نقلد في ديننا إلا من نرضى أمانته وعلمه وصدقه وإخلاصه وبصيرته في الإسلام، وكل البشر يؤخذ من أقوالهم ويُردّ إلا رسول الله ، وعلينا أن نتوب إلى ربنا ونرجع إليه ونلتزم بالإسلام إخلاصًا وصوابًا، ونطلب بعد ذلك القبول من الله تعالى.
علينا أن نؤدي الصلوات الخمس المفروضة عن إيمان وخشوع في أوقاتها، يؤديها الرجال مع جماعة المسلمين حيث يُنادى لها في بيوت الله، وتؤديها النساء غير المعذورات في أوقاتها حيث تيسّر لهنّ، وبيوتُهنَّ خيرٌ لهنَّ. وعلينا أن نؤدي زكاة أموالنا على أحسن وجه طيبة بها نفوسنا، فهي كالصلاة والصيام والحج من حيث فرضيتها، نؤديها في وقتها المفروض ويجوز تقديمها، ويلحق الإثم من أخّرها، يجب تأديتها لمستحقيها فهي تزكي النفوس وتطهّر الأموال وتزيدها نماءً وبركة وتحفظها من الآفات، ولو أدّى المسلمون زكاة أموالهم كما يجب لما بقي في مجتمعاتهم فقير واحد، خاصة في هذا العصر حيث تبلغ الزكاة آلاف الملايين، ولكنه التقصير وعدم صرفها في مصارفها الشرعية للأصناف الثمانية الوارد ذكرهم في قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60].
وعلينا تأدية زكاة الجاه في نفع إخواننا المسلمين في الإصلاح والشفاعة الحسنة، فهي مطلوبة ممن يستطيعها وأعطاه الله جاهًا ومكانة يستطيع بها إيصال الخير لأهله، وليس المقصود بذلك الوساطات والشفاعات السيئة التي تضيّع الحقوق وتنصر الظالم وتؤيده وتقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا أو تُسقط حدًّا من حدود الله، بل هي الشفاعة الحسنة المعروفة.
كما أنه يجب علينا بِرُّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والمساكين ومساعدة المحتاجين من العجزة والأرامل واليتامى، واجتناب الزور والغش والخداع في شتى أنواع المعاملات، والبعد عن أكل أموال الناس بالباطل وخاصة في البيع والشراء، والتعامل بالربا الذي فشا وانتشر وعظم خطره وضرره بسبب تهاون المسلمين وتعاملهم به وتساهلهم في أمر تحريمه لدرجة استحلال بعضهم له مع علمهم بالوعيد الشديد للمتعاملين به، قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 275]، ثم قال عز وجل بعد آيتين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]، وقال : ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)).
يجب علينا أن لا نبخس الناس أشياءهم، ونجتنب الظلم في جميع أشكاله وصوره، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وعلينا توقير اليمين بالله في الخصومات، ويجب علينا اجتناب الكبر وبطر الحق وغمط الناس واحتقارهم والخيلاء والإسبال في الثياب بالنسبة للرجال الذين عكس أكثرهم التطبيق هم والنساء حيث أطال الرجال ثيابهم وسراويلهم وبُشُوتَهُم إلى ما تحت الكعبين وجَرُّوها إما كبرًا وخيلاء أو عنادًا ومكابرة وعدم اتباع لهدي الرسول محمد ، وبعض النساء رفعن وقصّرن ملابسهن مع أن المشروع أن يُرخين ويغطّين أقدامهن لئلا تنكشف ويراها الرجال، ويحصل هذا من الجنسين كثيرًا في الأعياد والمناسبات، قال تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء: 37]، وقال رسول الله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، قال أبو ذر: فقرأها رسول الله ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم، وفي رواية: ((المسبل إزاره)). وأما النساء فقالت أم سلمة رضي الله عنها لرسول الله : فكيف يصنع النساء بذيولهن؟! قال: ((يُرْخِين شِبْرًا)) ، قالت: إذًا تنكشف أقدامهن، قال: ((فيرخينه ذراعًا لا يَزِدْنَ)) أي: عن نصف الساق الذي هو الحدُّ لإزْرَة الرجل، ولا حرج عليه فيما بين نصف الساق والكعبين، أما ما هو أسفل الكعبين فهو في النار بالنسبة للرجل، أما المرأة فترخي ملابسها لتغطي أقدامها فضلاً عمَّا فوق ذلك.
ويجب علينا الابتعاد عن قول الزور وشهادة الزور والظن الآثِم والتجسس والغيبة والنميمة والبهتان واللعن والسب والشتم وقذف المؤمنين والمؤمنات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 23-25]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10].
أيها المسلمون، مُرُوا أولادكم وأهليكم ومن تحت أيديكم بالصلاة، ومروا المكلفين من الذكور بتأديتها مع جماعة المسلمين في المساجد، ومروا الجميع بالالتزام بشرع الله القويم والبعد عن المحرمات واجتنابها وعدم الوقوع فيها، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. إن الخدم رجالاً كانوا أو نساءً وسائقي سيارات وممن هم تحت أيدينا من العمال الآخرين في المهن الأخرى جميعهم أمانة في أعناقنا، نحن مسؤولون عنهم يوم القيامة، فعلينا أن نتقي الله ونحذر عقابه.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فعلينا أن نتقي الله تعالى حق التقوى ونشكره على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة التي لا تعد ولا تحصى، ونتذكّر إخواننا المسلمين الفقراء والمساكين والمرضى والعاجزين والأرامل والأيتام والمجاهدين في سبيل الله في كل مكان، نتذكرهم ونمدّ لهم يد العون والمساعدة بالمال الذي هو أقل ما نفعله مع الدعاء الصادق لهم، ولا ننساهم في بهجة العيد وفرحته، ولا تستبدّ بنا المشاعر فننسى واجب الشكر والاعتراف بالنعم ويدفعنا لبس الجديد والإعجاب بالنفس وامتلاك الدرهم والدينار إلى أن نبلغ درجة المخيلة والتباهي والتعالي والكبر. إن العيد مناسبة لإطلاق الأيدي الخيّرة في مجال الخير والتسابق والتنافس في جميع وجوه البر والإحسان، نتذكر إخواننا المسلمين في كل مكان ونمدهم بما نستطيع بعد البذل لذوي القربى والأرحام؛ فالأقربون أولى بالمعروف.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وأخص النساء بالوعظ والتذكير حيث خصّهن رسول الله بذلك في خطبة العيد، وإنْ كُنَّ في كل ما تقدم مشتركات إلا فيما اخْتُصَّ به الرجال مما هو معلوم، فعلى المرأة المسلمة أن تتقي الله تعالى وتحافظ على ما أوجب الله عليها في دينها وما استرعاها الله عليه، وتؤدي حقوق زوجها وأولادها وأهل بيتها وأهلها وأقاربها وذوي رحمها وجيرانها، وتحفظ لسانها من الوقوع في أعراض الناس بالغيبة والنميمة والبهتان والقذف وقول الزور والسباب والشتم واللعن وغير ذلك مما هو منهي عنه، وعليها أن تحافظ على كرامتها وعِفَّتِها وعِرْضِها وكل ما يُدَنِّسُها، وتبتعد عن الاختلاط والسفور ومزاحمة الرجال في الأسواق والمتاجر والمتنزهات ولو في أماكن العبادة لأنها فتنة كما أخبر بذلك رسول الله بقوله: ((ما تركت فتنة بعدي أضرّ على الرجال من النساء)). وعليها أن لا تسرف في حفلات الزواج والأفراح وفي جميع وجوه النفقة، ولا تكلف الزوج ما لا يطيق من النفقة والكسوة والزيارات والأسفار، فالله لا يحب المسرفين. وعليها أن تحافظ على حق زوجها في المال والأولاد والنفس والفراش لتحصل لها السعادة في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، والمرأة إذا صَلَّتْ خَمْسَهَا وصامت شهرها وأطاعت زوجها وحفظت فرجها يقال لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت.
أما عن زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد فإن الوقت المناسب للتذكير بها في خطب الجمعة، وكذلك صيام الست من شوال، وهذا يتكرر كل عام ويعرفه الخاص والعام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وآله...
(1/5535)
القرآن وفضله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فضائل الأعمال
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
11/9/1415
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل قراءة القرآن الكريم. 2- أنواع التلاوة. 3- فضل تعلم القرآن وتعليمه. 4- الترغيب في حفظ كتاب الله تعالى. 5- فضل حملة القرآن الكريم. 6- فضل سور وآيات معينة. 7- الغاية من تلاوة القرآن الكريم. 8- الحث على ترتيل القراءة وتجويدها. 9- التحذير من امتهان القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أعظم ما يتقرب به المؤمن من أنواع الذكر والطاعات قراءة القرآن الكريم وخاصة في هذا الشهر العظيم، قال رسول الله : ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)) رواه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن أَلِفٌ حَرْفٌ، ولاَمٌ حرف، ومِيمٌ حرف)) رواه الترمذي، وعن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما إني سمعت رسول الله يقول: ((ستكون فتن كقطع الليل المظلم)) ، قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، لا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يَخْلَق من كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم)) ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن هذا القرآن مأدبة الله، فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيُستعتب، ولا يَعْوَجُّ فيُقَوَّمُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَقُ من كثرة الرَّدِّ، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ)) رواه الحاكم وقال: "صحيح".
إن تلاوة كتاب الله من أعظم القربات، والذي يعلّم القرآن ويتعلمه خير المؤمنين، وتلاوة القرآن نوعان:
تلاوة حكمية وهي تصديق أخباره وتنفيذ أحكامه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن الكريم، ويكون ذلك بالتدبر والتأمل في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، وقال جلَّ جلاله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]؛ ولهذا كان السلف الصالح رضي الله عنهم يتعلمون القرآن ويصدقون ويؤمنون به ويطبقون أحكامه؛ لذا كانوا رضي الله عنهم يتعلمون من النبي عشر آيات ثم لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. وهذا النوع من التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة.
أما النوع الثاني: فهو التلاوة اللفظية، وهي قراءته وتلاوته، والمسلم الذي يتقن تلاوته ويجيدها أفضل ممَّن هو أقلّ منه إتقانًا مع اقتران الإخلاص والصواب بهذا وبغيره من الأعمال والأقوال الصالحة، قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 121]، قال رسول الله : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم. نعم، إن خير المسلمين في التعلم والتعليم الذي يتعلم كتاب الله ويعلمه الناس. وعن الذي يقرأ القرآن والذي لا يقرؤُهُ من المؤمنين والمنافقين قال رسول الله : ((مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأتْرُجَّةِ ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حُلْوٌ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحَنْظَلَةِ ليس لها ريح وطعمها مرٌّ)) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
وتعلمه وتعليمه وتدارسه في بيوت الله أفضل من غيرها، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله ونحن في الصُّفَّةِ فقال: ((أَيُّكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطْحَانَ أو إلى العَقِيقِ فيأتي منه بناقتين كَوْمَاوَيْنِ في غير إثم ولا قطيعة رَحِمٍ؟)) فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك! قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلّم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاثٌ خيرٌ من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ ومن أعدادهن من الإبل؟!)) رواه مسلم. الكَوْمَاء: الناقة العظيمة السنام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
وهذا لا يعني أن نترك البيوت مهجورة من قراءة القرآن ولكن ذلك أعظم أجرًا، وإلا فينبغي المحافظة على قراءة القرآن في أي مكان يتيسر للإنسان ما عدا الأماكن المستقذرة والحالات التي يكون فيها المسلم أو المسلمة على غير طهارة مثل الجنابة للجنسين أو الحيض والنفاس للمرأة على خلاف بين العلماء فيهما. وقد ورد الترغيب في قراءة سورة البقرة في البيوت لأن فيها آية الكرسي التي صحّ عن رسول الله أن من قرأها في ليلة لم يَزَلْ عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، قال رسول الله : ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يَفِرُّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة)) رواه مسلم والنسائي والترمذي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبرائيل عليه السلام قاعد عند النبي سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه، فقال: ((هذا باب من السماء فُتِح لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فَسَلَّمَ وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعْطِيتَهُ)) رواه مسلم والنسائي والحاكم، وكان أُسَيْد بن حُضَيْر في الليل يقرأُ القرآن وفَرَسُهُ مربوطةٌ عنده وله ابْنٌ قريب منها، فَجَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، فقرأ فجالت الفرس مرة ثانية فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس مرة ثالثة فخاف أن تصيب ابنه يحيى فانصرف، ثم رفع رأسه إلى السماء فإذا هي مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح أخبر النبي بذلك فقال رسول الله : ((تلك الملائكة تستمع لك، ولو قرأت لأَصْبَحَتْ يراها الناس ما تستتر منهم)) رواه البخاري ومسلم.
وقد ورد الترغيب في حفظ كتاب الله تعالى وأن الماهر بالقرآن الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا تَشُقُّ عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه مع السفرة الكرام البررة، وأن الذي يتتعتع فيه ويتردد في تلاوته لمشقته عليه إما لصعوبة اللغة إن كان القارئُ أعجميًا أو كان عربيًا وهو عليه شاقٌّ فله بذلك أجران، أَجْرُ التَّعْتَعَةِ وأجر التلاوة، وتكون مَنْزِلَةُ صاحب القرآن ومَنْزِلُهُ يوم القيامة عند آخر آية يقرؤها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين)) ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْقَ، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالاً فتصدق به آناء الليل وآناء النهار)) رواه البخاري ومسلم. قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي ومجازي، فالحقيقي هو تَمَنِّي زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، أما المجازي فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي عليها غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد من الحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما".
وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ويقدّم من كان أكثر أخذًا للقرآن عن غيره في الحياة والممات، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن لله أهلين من الناس)) ، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)) رواه النسائي وابن ماجة والحاكم، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: ((أيهما أكثر أَخْذًا للقرآن؟)) فإن أُشِيرَ إلى أحدهما قدّمه في اللَّحْدِ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران)) ، وضرب لهما رسول الله ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: ((كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجّان عن صاحبهما)) رواه مسلم والترمذي، وقال : ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ـ أو: غيايتان، أو: كأنهما فرقان من طير صَوَافّ ـ تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) رواه مسلم.
وقد ورد الترغيب في سور معينة من القرآن لفضلها وإن كان القرآن كله كلام الله عز وجل وقراءة حرف منه في أي سورة كانت يؤجر عليه المسلم الحرف بعشر حسنات، ولكن سور وآيات معينة جاءت الأحاديث عن رسول الله بفضلها، ومن أراد نصوصها فعليه الرجوع إلى مكانتها، ومنها الفاتحة التي هي السبع المثاني والقرآن العظيم، والزهراوان البقرة وآل عمران وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وسورة الملك وعشر آيات من أول الكهف أو آخرها وقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص] والفلق والناس ويس، وغير ذلك من السور والآيات التي وردت بها الأحاديث الشريفة عن رسول الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن مما يجب علينا أن نعلمه ونَعِيَهُ تمامًا هو الهدف والغاية من تلاوة كتاب الله تعالى أو استماعه من غيرنا، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]. إذًا فالغاية هي التدبر والتعقل والتفكر فيما يتلى من آيات القرآن الكريم، وليتذكر أصحاب العقول السليمة والأفهام المستقيمة ويتبعوا أحكامه بفعل المأمورات وترك المنهيات والعمل به وتطبيقه في جميع مجالات الحياة، وليبتغي به من يتلوه أو يستمعه يبتغي به ما عند الله من الأجر العظيم في التلاوة والاستماع كما وردت بذلك الأحاديث.
وإنَّ مما يُعِينُ على تدبُّرِهِ وفَهْمِهِ قراءتَهُ وتلاوتَهُ كما أنزل وترتيلَهُ حسب أحكام التجويد التي وضعها علماء القراءات لِصَوْنِ اللسان من الخطأ والتحريف في كتاب الله، وكما هو منقول بالتواتر والتلقي، قال تعالى: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل: 4]، وقال تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان: 32]، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء: 106]، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 121]. وقد أوردت كتب التفسير بيان معنى الترتيل وأنه يعني: بَيِّنْهُ وتَأَنَّ فيه وتلبّث في قراءته وتمهَّل في ذلك، ومنها تجويد حروفه ومعرفة الوقوف. سُئلتْ أُمُّ المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة الرسول فإذا هي تنعتها وتصفها بقولها: قراءة مفسّرة حرفًا حرفًا. وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان عليه الصلاة والسلام يقرأ السورة حتى تكون أطول من أطول منها؛ كناية عن بلوغ الغاية في التأنِّي والتّؤدَةِ، وعن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة الرسول فقال: كانت مدًّا ثم قرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ اللهِ ويمدّ الرَّحْمَنِ ويمدّ الرَّحِيمِ ، وكان يقطِّع قراءته آية آية يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثم يقف ثم يقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم يقف وهكذا، وكان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس صوتًا بالقرآن، فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه، وقال رسول الله : ((حسّنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا)) ، وفي حديث آخر: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وفي رواية: ((زينوا أصواتكم بالقرآن)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن)) ، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري: ((لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) رواه البخاري ومسلم.
ولكن يا ترى، هل هذا التغني على إطلاقه كما فهمه بعض الجهال من المسلمين في زمننا هذا؟! أو هل هو الهَذُّ والهَذْرَمَةُ حيث هَمُّ القارئ الوصول بسرعة إلى آخر الآيات أو السورة التي يتلوها؟! أو هل هو تحسين الصوت دون معرفة وتطبيق لأحكام التجويد أو كأنه يقرأ في جريدة أو مجلة أو أي كتاب عادي، أو هو الدعوة إلى قراءته على آلات الطرب، أو إعطاء أصوات بدون آلات ولكنها مشابهة للأغاني كما هو حاصل من بعض المقرئين؟! أو هل هو التقليد والتمثيل لأصوات بعض المقرئين أو الأئمة وعبادة أصواتهم؟! فالإمام منهم تجده شريطًا مسموعًا مُسَجَّلاً عليه قراءةُ أحدِ هؤلاء المشايخ، فهو لا يهمُّه إلا تقليد صوت أحدهم لنبرة صوت المُقَلَّد ورخامته ورقته وارتفاع صوته وانخفاضه وترعيده وتشديده ووقوفه وتطبيقه لأحكام التجويد، فهم يكلفون أنفسهم ويحمّلونها ما لا تطيق بمحاولة تقليد صوت من أرادوا تقليده وتمثيله وعدم الخروج عن صوته، حتى أصبح همّ أحدهم عبادة الصوت ويخاف من الشطط والخروج عن صوته فيفلت الزمام من يده، فهذه بلية عظيمة في هذه الأيام، ولئن كنا نعيب على الذين يتلاعبون بكتاب الله في المآتم فإن شرّ من يتلاعب بكتاب الله في صلاتنا أعظم خطرًا وأشد إثمًا.
فليتق الله أولئك الذين يقومون على هذا العمل والتقليد والتمثيل، فإن لكل إنسان خلقه الله صوتًا يميزه عن غيره، فعليه أن يقرأ بصوته الذي وهبه الله إياه ويحسّن صوته بالقرآن ويطبق أحكام التجويد من غير إخلال ولا تعسف ولا تمطيط ولا إفراط ولا تفريط، وعلى كل مأموم أن يتقي الله ويعلم المقصود من تلاوة كتاب الله وسماعه ولا يعبد الأصوات بل يتدبر كلام الله ويطبقه في واقعه ويبتغي به ما عند الله من الأجر العظيم.
وأسوق بعض الأحاديث لنفسي ولإخواني المسلمين لعل الله ينفعنا بما نسمع ونقول:
قال رسول الله : ((اقرؤوا القرآن بِلُحُونِ العرب وأصواتها، وإياكم ولُحُونَ أهل الكتاب والفسق؛ فإنه سيجيء بعدي أقوام يرجّعون القراءة ترجيع الغناء والرهبانية والنَّوْحِ لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم)) ، وصدق رسول الله ، فهذا هو الواقع المؤلم اليوم في مجتمعات المسلمين إلا من رحم الله، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اقرؤوا القرآن وابتغوا به وجه الله تعالى من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القِدْح يتعجلونه ولا يتأجلونه)) ، وقال : ((تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله)) ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((أكثر منافقي أمتي قرّاؤها)). ومن علامات الساعة التي أخبر بها الرسول قوله عن الذين يقدمون أحدهم للصلاة من أجل أن يطربهم بصوته قوله عليه الصلاة والسلام: ((وقوم يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنّيهم به غناءً)).
والتجويد هو عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الرداءة في النطق، وإعطاء الحروف حقها، وإخراجها من مخارجها من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف، وهو القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة التي لا مضغ فيها ولا لَوْك ولا تصنّع ولا تنطّع ولا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء بوجه من وجوه القراءة والأداء، قراءة تلذّ لها الأسماع وتخشع لها القلوب. ومما ينبغي التنبيه له والابتعاد عنه خاصة في مثل هذه الأيام من كل عام افتتان الناس بالأصوات والقدح في كثير من الأئمة بالغيبة والبهتان واستغلال هذا الوقت لتنفيس ما في الصدور المريضة.
ومما ينبغي ملاحظته احترام القرآن الكريم بعدم استدباره أو وضعه عند القدمين أو تناوله باليد اليسرى، ولو قُدِّمَ لأحد من أولئك رسالةٌ أو أي شيء آخر باليد اليسرى لتَأَفَّفَ ورآه عيبًا في نظره مع أنه منهي عنه شرعًا، فكيف بالقرآن الكريم أَخْذه وتناوله وإعادته لمكانه باليد اليسرى، أو الجلوس عليه وإن كان في الحقائب كما هو حال طلبة المدارس حيث يضع أحدهم الحقيبة أو بدون حقيبة ويجلس بمقعدته عليه أو على الكتب التي لا تخلو من آية أو حديث أو اسم من أسماء الله عز وجل، وهذا الحال هو المشاهد يوميًا أمام مدارس البنين على اختلاف مراحلها ويجب العمل على منعه، وكذلك منع استخدام الجرائد والمجلات التي تحمل آية قرآنية أو حديثًا شريفًا أو اسمًا من أسماء الله عز وجل سفرة للطعام كما هو الحال في بعض الإدارات والمحال التجارية أو وقاية من حرارة العيش كما هو الحال في بعض الأفران والمخابز أو فرشًا في الثلاجات للخضروات كما هو الحال في بعض البيوت أو تنظيفًا ووقاية في الورش ومحلات الزيوت أو غطاءً أو فرشًا لبعض الفواكه وغير ذلك من الاستخدامات التي يكون معها الامتهان لكتاب الله وأسمائه الحسنى وسنة رسوله مما يجب تنزيهها عن ذلك وغيره من صور الامتهان والازدراء أيًا كانت. ويجب على كل مسلم بحسب مكانته وقدرته على إزالة هذه الظواهر السيئة إنكارُ ذلك حتى تختفي وتنتهي بإذن الله عز وجل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...
(1/5536)
احترام القرآن الكريم وأسماء الله
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
20/6/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدين النصيحة. 2- إكرام الله تعالى صدر هذه الأمة بحفظ القرآن والعمل به. 3- مصيبة ترك الحكم بكتاب الله تعالى. 4- من صور الإعراض عن القرآن الكريم والاستخفاف به. 5- نعمة التمسك بالدين الحنيف. 6- عناية بلاد الحرمين بالقرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن بذل النصيحة في مجتمع المسلمين من أهم الواجبات، عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
فالنصيحة لله عز وجل تتضمن الإخلاص له سبحانه وصدق القصد في طلب مرضاته بأن يكون الإنسان عبدًا لله حقيقة، راضيًا بقضائه وقدره، قانعًا بعطائه، ممتثلاً لأوامره، مجتنبًا لنواهيه، مخلصًا له في ذلك كله، لا يقصد به رياءً ولا سمعة. وأما النصيحة لكتاب الله تعالى فهي تلاوته مع امتثال الأوامر واجتناب النواهي التي وردت فيه وتصديق أخباره والذبّ عنه وحمايته من تحريف المبطلين وزيغ المفسدين الملحدين واعتقاد أنه كلام رب العالمين تكلم به حقيقة وألقاه على جبريل عليه السلام فنزل به على الرسول محمد ليكون هدى ونورًا للعالمين إلى يوم القيامة.
وقد أكرم الله صدر هذه الأمة بحفظ القرآن في صدورهم والعمل به في جميع شؤون الحياة والتحاكم إليه في القليل والكثير، ولا يزال فضل الله سبحانه على بعض عباده المؤمنين المتقين فيعطون القرآن الكريم حقه من التعظيم والتكريم والاحترام حِسًّا ومَعْنى، وعرفوا القصد من تنزيله فعملوا به وحكموه في جميع شؤون حياتهم وعلموا معنى قول الله عز وجل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، وقد تكفل الله بحفظه من أي تحريف مهما صغر ومهما كاد أعداء الإسلام وعملوا، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وليس خوفنا من عدم حفظ القرآن وبقائه بين المسلمين في الصدور وبين السطور، ولكن واقع كثير من المسلمين لا يبشر بخير حول احترام كتاب الله والعمل به حتى مِمَّنْ يحفظه عن ظهر قلب، ولقد قامت الحجة على الجميع.
وأعظم ما ابتليت به مجتمعات المسلمين اليوم هو عدم تحكيم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله واكتفوا بتلاوة آيتين أو ثلاث في بداية أعمالهم للافتتاح فقط والبركة كما يزعمون في جميع أعمالهم، ثم الابتلاء الآخر لمن يحفظ القرآن الكريم ولا يعمل به ولا يقف عند حدوده ولا يجتنب ما نهى الله عنه، وكذلك عبادة الأصوات التي عمت البلوى بها مجتمع المسلمين ولا يكاد يسلم منها إلا القليل ممن رحمه الله حيث سماع القرآن وليس الاستماع والإنصات، يتم السماع من أجل التلذذ بصوت القارئ سواء كان القارئ إمامًا أو في الإذاعة أو التلفاز أو غير ذلك من وسائل الاستماع على الأشرطة أو الأقراص المضغوطة المرئية والمسموعة وغيرها من الوسائل الحديثة، ومن المسلمين من لا يقرؤه إلا في رمضان أو في يوم الجمعة، ومنهم من يضعه على الرَّفِّ في البيت أو يعلق آيات منه على الجدران، ومنهم من لا يوجد في بيته مصحف، ومنهم من توجد في بيوتهم المصاحف ولكن لا يُقرأُ فيها القرآن، ومنهم من يتخذ منه التمائم والحروز والتعاويذ ويعلقها أو يربطها في جسده، ومنهم من لا يعرفه إلا عند طلب الرقية.
ولقد وصل الاستخفاف به في المدارس وفي أوساط الناس عامة إلى أن يستبعدوا ويستغربوا أحدًا يرسب في تلاوة القرآن الكريم، وليس لاعتقادهم جودة ذلك الطالب الراسب أو الطالبة ولكن لعدم المبالاة والعناية بالقرآن الكريم مع أنه لا يستطيع أن يتلو آية صحيحة بالحركات المعروفة وليس بالتجويد، فلقد وصل بنا الحال إلى هذا وأقل بل أدنى في هذا وفي غيره، مع أنهم لا يستبعدون رسوب أحد في الرياضيات والعلوم والإنجليزي وغيرها من المواد مع المطالبة المستمرة بوضع درجات للرسوب في مادة التربية الرياضية وتوضع الرياضة الحصص الأولى في الجدول اليومي ويكون القرآن في جداول الدراسة والاختبارات أواخر الحصص والأيام، فهذا واقع مؤلم، والأكثر ألمًا عدم تدريسه وتعليمه في مدارس بعض الدول الإسلامية.
وحالة تقشعر منها الأبدان ولا يرضاها مؤمن بالله تلك هي كتابة آيات من القرآن الكريم على هيئة آدَمِيٍّ يُؤَدِّي الصلاة، أو كتابة التشهد وفيها ذكر الله عز وجل بحيث يكون اسم الجلالة عند القدم واسم الرسول أيضًا في مُؤَخَّرَةِ الشخص أو غير ذلك مما ابْتُلي به المسلمون وغزاهم به أهلُ الكفر والإلحاد في عُقْر دورهم. ومنها أيضًا كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) على هيئة عصفور أو غيره من الطيور، وتلك المخازي التي كانت دخيلة علينا قبل زمن أصبح الخطاطون اليوم يتبارون فيها ويتسابقون على أي هيئة وصورة يقدمونها، ويستحسنها ضعاف الإيمان الذين تنطلي عليهم مثل تلك الأعمال الشنيعة.
ولقد شاهدت مناظر متعددة تقشعر منها الأبدان ونخاف من عقاب الله أن يعمَّنا إذا لم نأمرْ بالمعروف ونَنْهَ عن المنكر، ومن المشاهدات ورقة من القرآن الكريم مرمية أمام منزل قد جُمِعَ فيها أعقابُ السجائر، ومرة أخرى: جريدة فيها اسم الله عز وجل وآيات قرآنية جمعت امرأة أذى أطفالها ورمت بها في الشارع، وإذا كان ذلك الفعل مستقبحًا ممن قد تكون جاهلة وغير متعلمة وقد يُلْتَمَسُ لها العذرُ بجهلها وعدم علمها ومعرفتها بما هو مكتوب في تلك الأوراق ـ والله أعلم بذلك ـ فإنَّ أمورًا عَمَّتْ بها البلوى بين الصغير والكبير والذكر والأنثى والمتعلم والجاهل وقد سبق التنبيه عليها من المسؤولين عدة مرات، ولكن ذلك لا يعفي أفراد المجتمع من القيام بواجبهم حتى ينتهي ذلك المنكر بإذن الله سبحانه وتعالى. ومنها استعمال أوراق الجرائد والمجلات والصحف أيّا كانت والمنشورات وغيرها من الأوراق التي تحمل آية من القرآن الكريم أو حديثا من أحاديث رسول الله أو اسمًا من أسماء الله عز وجل مثل عبد الله أو عبد العزيز أو غير ذلك من أسماء الله الحسنى أو (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا تخلو أي ورقة من بعض ما ذكر إلا ما ندر، فحينما تُقرأ أو يُستغنى عنها نجد العجب بعد ذلك في استعمالها حيث توضع سفرة للطعام وتُوطَأُ بالأقدام، ومنهم من يتخذها فِرَاشًا يجلس عليها بمقعدته لئلا تتَّسِخَ ملابسُه من ذلك الكرسي أو غيره، ومنهم من يستعملها في ورش السيارات عند رش البويات واستعمالها في التنظيف ثم رميها مع النفايات وهي تحمل آيات من القرآن الكريم أو أسماء الله عز وجل، بل قد وصل الاستخفاف والاستهتار إلى أن نراها في محلات تغيير زيوت السيارات لينظف بها العامل يده ويرميها، وبعضهم يضعها أغطية على الفواكه والخضروات، وإن كان قد خف ذلك والحمد لله ولكنه يعود بين حين وآخر وفي المخابز أيضًا والأفران قد يعاود أصحابها ذلك عند غياب الرقابة عليهم من الخلق لأنهم لا يخافون من الله فيخافون من مراقبة المخلوقين، وكذلك الأوراق والصحف أو الكتب الدراسية التي ترمى أمام مدارس البنين والبنات في صناديق القمائم وهي تحمل آية من كتاب الله أو حديثًا من أحاديث رسول الله أو اسمًا من أسماء الله عز وجل، كل ذلك من الاستخفاف والامتهان لكتاب الله عز وجل ولسنة رسوله محمد.
ومنظر يشاهده بعض الناس أمام المدارس أو على أرصفة الشوارع للطلبة الذين ينتظرون غيرهم للنقل يضع أحدهم حقيبته ويجلس عليها وبداخلها القرآن الكريم وكتب التفسير والتوحيد والحديث وغيرها من الكتب التي لا تخلو من آية أو حديث أو اسم من أسماء الله عز وجل، بل قد يجلس أحدهم مباشرة على الكتب أو القرآن مباشرة ليتقي برودة الأرض أو حرارتها أو وَسَخَهَا. وهذه هي ثمرات العلم في هذا الزمن! الثمرات التي يغفل عنها المدرس والطالب ومن يمرّ بذلك الطالب المسكين ولا ينصحه ويخبره بأن ذلك لا يجوز بل عليه أن يحترم كتاب الله وسنة رسوله.
ومن الاستخفاف بكتاب الله أيضًا ما يُشاهد في المساجد من استدبار المصلي للقرآن الكريم، وقد يضعه أحدهم عند قدميه لئلا يتناوله للقراءة بعد انتهائه من الركعتين، وبعضهم يضعه عند قدميه حال القراءة ولا يرفعه عن الأرض، وآخرون يضعه أحدهم عندما يجلس متربعًا على قدميه وبين فخذيه وعلى ذَكَرِهِ لئلا يحمله ويضعه على راحة كفيه، وهذه مناظر متكررة يوميًا ونشاهدها في المساجد.
ومن الاستخفاف أيضًا بالمصحف أن يتناوله المسلم بيده اليسرى أو يعيده إلى مكانه أيضًا أو يقدّمه لغيره أو يأخذه منه باليد اليسرى، ولو أنَّ أحدًا قَدَّمَ له أو أَخَذَ منه شيئًا باليد اليسرى لغضب ولو كان ذلك الشيء حِذَاءً، فما بَالُهُ يَسْتَخِفُّ بكتاب الله عز وجل وهو يعلم في أي شيء تستعمل اليد اليسرى؟! في غسل البول والبراز والامتخاط وغير ذلك مما يُستقذر، أما اليمنى فتُستخدم في كل شيء يُحْتَرَمُ، ومِنْ أعظمِهَا وأهمِّهَا كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ القرآنُ الكريمُ. روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لِيَأْكُلْ أحدُكم بيمينه، ويشربْ بيمينه، ولْيأخذْ بيمينه، ولْيُعْطِ بيمينه، فإنَّ الشيطان يأكلُ بشماله، ويشربُ بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذٌ بشماله)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9، 10].
_________
الخطبة الثانية
_________
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف: 1-5]، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فإن الله تعالى قد أنعم علينا بنعم عظيمة وأسبغها علينا ظاهرة وباطنة، وهي مِنْهُ وحده لا شريك له، نسأله عز وجل أن يحفظها من الزوال ويديمها علينا، قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، وقال عز وجل: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل: 53].
وأهم ما ننعم به في هذه الدولة المباركة هو التمسك بالدين الحنيف وتحكيم الكتاب والسنة وتطبيق شرع الله حيث قامت وتأسست عليه وجاهدت واجتهدت من أجل العمل به وتطبيق شريعته، وهذا من فضل الله عز وجل الذي نحسد عليه بين الأمم المتكالبة علينا من كل حدب وصوب، وإن كان هناك تقصير غير متعمد إن شاء الله فإنما هو للضعف البشري نسأل الله تعالى أن يجعل مستقبلنا ومستقبل من بعدنا خيرًا مما نحن عليه. وهذا النهج القويم الذي أخذ به ولاة الأمر متعدد الطرق والاختصاصات، ومن أهم ذلك العناية بالقرآن الكريم، فقد أُنْشِئَتْ مدارس حكومية متخصصة لتحفيظ القرآن الكريم بنين وبنات، تعتني بالقرآن الكريم حفظًا وتلاوة وتجويدًا إلى جانب العلوم الأخرى في التعليم العام لا تقل عنها في أي مادة من المواد وإن كان القرآن ولله الحمد مقررًا في جميع مراحل التعليم لدينا من الابتدائي حتى الجامعة، وهذا ما تتميز به هذه الدولة عن غيرها، إلا أن التركيز على القرآن الكريم والتشجيع على حفظه ووضع الحوافز والمكافآت المادية كان في مئات المدارس الحكومية للبنين والبنات المنتشرة في أنحاء المملكة، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى الذي وفق وأعان على ذلك، ونسأل الله المزيد من ذلك ومن كل خير.
ولم تقتصر العناية بالقرآن الكريم وتعليمه وتحفيظه على المدارس الحكومية، بل سَخَّرَتْ الدولة ودَعَمَتْ آلاف الحلقات لتحفيظ القرآن الكريم في المساجد والمدارس والمراكز المتخصصة للبنين والبنات وللرجال والنساء على اختلاف مستوياتهم، وعَمَّ نفعُها ولله الحمدُ والمنَّةُ، وذلك مما يبشر بالخير حيْثُ التَّنَافُسُ والتَّسَابُقُ على تعلم القرآن الكريم وحفظه حتى بين النساء اللائي تجاوزن الستين عامًا، وهذا دليل وَعْيٍ وإدراكٍ ودعوة صادقة إلى الله عز وجل. كما سخرت الدولة إمكانات كبيرة لطباعة المصحف الشريف يعرف ذلك القاصي والداني، وهذه مَنْقَبَةٌ عظيمة اختصت بها إلى يومنا هذا وفي مدينة رسول الله ، ووصلت المصاحف المطبوعة والمسموعة إلى كثير من بلدان العالم، فلله الحمد أولاً وآخرًا، وجزى الله كل من سعى وساعد وشارك وأعان على ذلك خير الجزاء.
ومن العناية التي تثلج صدور المؤمنين وتغيظ الحاقدين الفاسدين هو الاستمرار والدعم السنوي لإقامة المسابقة الدولية للقرآن الكريم بمكة المكرمة أقدس بقعة على وجه الأرض لتشجيع أبناء المسلمين للتسابق والتنافس الشريف على هذا المستوى الرفيع من قبل نهاية القرن الرابع عشر الهجري بسنتين، وذلك بعد إقامة المسابقة المحلية على مستوى المملكة. فهذه ميزات متعددة انفردت بها المملكة بين دول العالم الإسلامي وإن كانت هناك دول إسلامية يوجد بعض ما ذكر فيها فلم توجد فيها هذه الخصال الحميدة مجتمعة. وهذه مِنَّةٌ من الله علينا عظيمة وفضل كبير، ولكن يجب علينا احترام هذا القرآن العظيم والعمل به وتدبر معانيه وربط أنفسنا وأولادنا وأهلينا وطلابنا وطالباتنا لتطبيقه في جميع شؤون حياتنا قولاً وعملاً واعتقادًا وتحاكمًا إليه وإلى سنة رسول الله وعدم الاكتفاء بالحفظ في الصدور والكتابة على السطور والتلاوة والتجويد والتغني به والتلذذ بالاستماع إليه دون التطبيق الكامل في حياتنا، فإذا لم نطبقه على مستوى الفرد أو الجماعة والدولة فإنه حجة قاصمة لظهورنا، كما أن علينا تشجيع جميع الفئات على التنافس والدخول في المسابقات أيًا كانت، وخوفنا على أنفسنا من عدم العمل وليس على ضياع القرآن كما سبق الكلام، فإن الله حافظ دينه وقرآنه كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وقال جل جلاله وتعالى سلطانه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 47-49]. نعم، إنه محفوظ في صدور العلماء وكثير من طلبة العلم وعامة المسلمين، وقد جعل الله حفظه وتعلمه سهلاً ميسرًا حتى من الذين لا ينطقون باللغة العربية، بل إن كثيرًا منهم يحفظون القرآن الكريم ولا يستطيعون التحدث بالعربية، وهذا مصداق للآيات المتكررة في سورة القمر في قول الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17].
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا وشفاء صدورنا وأسقامنا، اللهم اجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا، اللهم اجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده، اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويتلوه حق تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم أسْكِنَّا به الظُّلَلَ وأسبغ علينا به النعم وادفع به عنا النِّقَمَ...
(1/5537)
صاحب الرسالة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, قضايا دعوية
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
2/5/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال البشرية عند بعثة النبي. 2- حفظ الله لرسوله من أدران الشرك وقاذورات الجاهلية. 3- الرؤيا الصادقة أول أنواع الوحي إلى محمد. 4- نزول جبريل في غار حراء. 5- بدء الدعوة في مكة واستنكار قريش لها. 6- تعذيب الصحابة. 7- رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب. 8- رسول الله يدعو في الطائف. 9- دروس وعبر للدعاة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى عباد الله.
إن سيرة النبي الكريم هي الشفاء لما فسد من القلوب، وهي الملاذ عند الأزمات والفتن التي تعصف بالأمة، لما جاء القرن السادس لميلاد عيسى عليه السلام كانت منارات الهدى قد انطفأت في مشارق الأرض ومغاربها، وكان الشيطان يذرع الأقطار الفسيحة فيرى ما غرس من أشواك قد نما وامتد، فالمجوسية في فارس طليعة عنيدة للشرك الفاشي في الهند والصين وبلاد العرب وسائر المجاهل، والنصرانية التي تناوئ هذه الجبهة قبست أبرز مآثرها من خرافات الهنود والمصريين القدامى، فهي تجعل لله صاحبة وولدا، وتغري أتباعها في روما ومصر والقسطنطينية بلون من الإشراك أشد من شرك عباد النيران والأوثان، والظلام الذي ران على الأفئدة والعقول في غيبة أنوار التوحيد طوى في سواده أيضا تقاليد الجماعة وأنظمة الحكم، فكانت الأرض مذأبة يسودها الفتك والاغتيال، ويفقد فيها الضعاف نعمة الأمن والسكينة، وأي خير يرجى في أحضان وثنية كفرت بالعقل ونسيت الله ولانت في أيدي الدجالين؟! لا غرابة إذا رفع الله يده عنهم كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) [1] ، لقد شملت الدنيا قبل مبعث محمد حيرة وبؤس ناءت بهما الكواهل.
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم إلا على صنم قد هام في صنم
فعاهل الروم يطغى في رعيته وعاهل الفرس من كبر أصم عَمِ
فتأذن الله عندئذ ليحسمنّ هذه الآثار، وليسوقن هدايته الكبرى إلى الأنام، فأرسل إلى الأمة محمدا عليه الصلاة والسلام برسالة عامة ودائمة لجميع الناس وكل العصور، وأنزل معه القرآن ليدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
كان رسول الله يتيما تولاه الله برعايته، وحفظه بعنايته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) [2] ، وشبّ رسول الله والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى ما لبث أن صار اسمه في قومه: الصادق الأمين.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
وبعد هذه التهيئة لهذا الأمر العظيم تأذّن الله لهذا النبي الكريم بالرسالة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاء الملك، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ)) ، قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ [العلق: 1-4] )) ، فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: ((زملوني زملوني)) ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) ؛ فقالت خديجة: كلا والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ـ ابن عم خديجة ـ وكان امرأً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله : ((أوَمخرجِيَّ هم؟!)) قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزَّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. رواه البخاري [3].
تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف محمد معرفة اليقين أنه أضحى نبيا لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه هو سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء، جاء جبريل للمرة الثانية بعد انقطاع، قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله يتحدث عن فترة الوحي: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففزعت منه حتى هويت على الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زملوني زملوني، فدثروني فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا ?لْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَ?لرُّجْزَ فَ?هْجُرْ [المدثر: 1-5] )) أخرجه البخاري [4].
وهكذا كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذانا للرسول بإنذار قومه، ونزل القرآن الكريم على النبي آية آية، وشرع محمد يكلم الناس في الإسلام ويعرض عليهم الأخذ بهذا الدين الذي أرسله الله به، وسور القرآن الذي نزل بمكة تبين العقائد والأعمال التي كلف الله بها عباده، وأوصى رسوله أن يتعهد قيامها ونماءها، وأخذت الدعاية للإسلام تنتشر في مكة، ومن الطبَعِيّ أن يعرض الرسول أولا الإسلام على ألْصَقِ الناس به من آل بيته وأصدقائه، آمنت زوجته خديجة ومولاه زيد بن حارثة وابن عمه علي بن أبي طالب وصديقه الحميم أبو بكر الذي نشط في نشر الدعوة، فأدخل في الإسلام أهل ثقته ومودته: عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وبدأ الإسلام غريبا ولكنه سرعان ما انتشر في الفترة السرية للدعوة حتى نزل قول الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء: 214-216]، فصدع رسول الله بالدعوة إلى الإسلام، وأنكر على قريش ما تشرك به مع الله، ودعاهم إلى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون، وحدب على رسول الله عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، فلما رأت قريش أن رسول الله لم يعبأ بها واستمر في تسفيه آلهتهم ذهبوا إلى عمه أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنا والله لا نصبر على ابن أخيك وقد شتم آباءنا وسفه أحلامنا وعاب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، فبعث أبو طالب إلى رسول الله فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، فقال له رسول الله : ((يا عمّ، والله ولو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته)) ، ثم استعبر رسول الله فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، فقال له: قل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا [5] ، ثم أنشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا
وهكذا بدأت قريش بالترغيب والترهيب، تريد صدّ رسول الله وصحابته عن هذا الدين، فما فتئت تعذّب صحابته بوسائل تعذيب لم يعهد لها التاريخ مثيلا، فعذب أبو جهل عمار بن ياسر ووالده ياسر ووالدته سمية فقتلهما، وعذب أمية بن خلف بلالا الحبشي، وممن عُذَّب عامر بن فهيرة وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
ثم إن قريشا اشتد أمرهم فأغروا برسول الله سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله مظهر لأمر الله لا يستخفي به، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فظهر عليهم رسول الله ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه النبي ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه فوقف ثم قال: ((أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح)) ، فأخذت القوم كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، حتى إن أشدهم أذية له قام يلاطفه، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله حتى إذا كان من الغد طلع عليهم رسول الله فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله : ((نعم، أنا الذي أقول ذلك)) ، قال: فلقد رأيت منهم رجلا أخذ بمجمع ردائه فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه [6].
واستمر أذى قريش للنبي حتى قرروا قرارا رهيبا وهو محاصرته عليه الصلاة والسلام ومن تبعه في شعب أبي طالب، وقرروا أن لا يناكحوهم ولا يبيعوهم ولا تأخذهم بهم رأفة، وتحالفوا على هذا القرار، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، وكان الذي كتبها بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله ، فشلت يده، وانحاز بعد ذلك بنو هاشم وبنو المطلب في الشعب إلا أبا لهب، وقطعت عنهم الميرة والمادة، ومنع التجار من مبايعتهم، فجهد القوم حتى أكلوا أوراق الشجر والجلود، وواصلوا الضر والفاقة حتى سمعت أصوات النساء والصبيان يتضاغون جوعا، ولم يكن يصل إليهم شيء إلا سرا، وكان رسول الله على رغم كل ذلك مستمرا في دعوته إلى الله، ولا سيما أيام الحج حينما كانت القبائل العربية تفد إلى مكة من كلّ صوب، عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله يعرض نفسه في الموقف، فيقول: ((ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي)) [7]. واستمر الحصار في الشعب ثلاث سنوات حتى أنهاه بعض عقلاء قريش، فوجدوا أن الصحيفة التي كتبوها قد أكلتها الأرضة إلا "باسمك اللهم"، كما أخبرهم قبل ذلك رسول الله [8].
وبعد وفاة أبي طالب عمّ الرسول وزوجته خديجه عظم الخطب على رسول الله ، واغتم وحزن الرسول ، فخرج إلى الطائف يطلب النصرة والمنعة ماشيا على قدميه ومعه مولاه زيد بن حارثة، فدعا أشرافهم ورؤساءهم إلى الإسلام، فردوا عليه ذلك، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما تهيأ للخروج بعد عشرة أيام وقفوا له صفين وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه ، وحتى اختضب نعلاه بالدم وزيد بن حارثة يقيه بنفسه ويدافع عنه، فأصابه شجاج في رأسه، واستمر هذا الأذى برسول الله حتى وصل إلى حائط في ضواحي الطائف، فدخل به واحتمى منهم، وقد أثر في نفسه ما لاقاه منهم فقال يدعو ربه: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)) [9] ، ثم خرج رسول الله من الحائط وتقدم إلى مكة وهو حزين مهموم، حتى إذا بلغ قرن المنازل أظلته سحابة فيها جبريل ومعه ملك الجبال، فرفع رأسه فناداه جبريل: إن الله بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت ثم سلم ملك الجبال، وقال: يا محمد، ذلك فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة، فقال : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) [10].
ثم قدم عليه الصلاة والسلام مكة ودخلها بجوار المطعم بن عدي حماية له من أهل مكة، وحصل الإسراء والمعراج بعد ذلك للنبي ، فزاد أذى المشركين له وأصحابه حتى أذن رسول الله لصحابته بالهجرة إلى المدينة هروبا من بطش المشركين وأذاهم، وكل ذلك كان لكي يكتب للدعوة والإسلام الانتشار في الأرض عن طريق ذلك البلد الذي آمن أهله وصدقوا برسول الله ، وتجرأت قريش بعد ذلك على فكرة قتل النبي ، فأتتهم فكرة أن يأخذوا من كل قبيلة شابا من أنشط شبابها، فيجتمعون حول بيت رسول الله ، فإذا خرج ضربوه بالسيف ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فبينما هم يمكرون أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة قضاها في مكة مهبط الوحي بصنوف الأذى والعذاب، ولكن الله الذي أنزل هذه الرسالة حماها وتكفل بها، وهاجر رسول الله إلى المدينة حتى وصلها منصورا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] رواه مسلم (2865).
[2] ذكره أبو سعيد السمعاني في أدب الإملاء (ص1)، والسيوطي في الأحاديث المشتهرة وغيرهما. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/375): "المعني صحيح، لكن لا يُعرف له إسناد ثابت". وانظر: السلسلة الضعيفة (72).
[3] صحيح البخاري (3).
[4] صحيح البخاري (4).
[5] أخرجه ابن إسحاق في السيرة (سيرة ابن هشام 1/266). وإسناده ضعيف لانقطاعه، حيث قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدّث. وانظر: السلسلة الضعيفة (909).
[6] أخرجه أحمد (2/218)، قال الهيثمي في المجمع (6/16): "رواه أحمد، وقد صرّح ابن إسحاق بالسماع، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (7036): "إسناده صحيح، وبعضه في البخاري".
[7] أخرجه الترمذي (2925) وقال: "غريب صحيح"، وأبو داود (4734)، وابن ماجه (201)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2335).
[8] أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 1/350-351، 374-376) بدون إسناد، وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق الله أحمد (ص217-219).
[9] أخرج هذه القصة ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 2/419) بسند صحيح عن محمد بن كعب القرطبي مرسلاً، أما الدعاء فقد ذكره بدون سند، (المصدر السابق 2/420). وانظر: فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص125-126).
[10] أخرجه البخاري (3231)، ومسلم (1795).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد: فيقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى ?للَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب: 45، 46].
حياة النبي مملوءة بكل معاني الخير التي يجب أن تتوفر في الدعاة إلى الله، كما أنها مملوءة بما يجب أن يتعلمه المسلمون من منهج حياته، وإننا مهما حاولنا استخلاص العبر فيها وأخذ الدروس من وقائعها لن ننتهي من ذلك، وإن تعددت المصنفات والخطب والمواعظ فالسيرة النبوية الكريمة كالبحر، كلما تعمقت في قاعه ظفرت بأجود أنواع اللؤلؤ والمرجان.
وإن فيما أخذناه اليوم من سيرة رسول الله وما لقي من أذى قومه عبرًا عظيمة ينبغي لدعاة الله وأوليائه أن يراجعوها ويقرؤوها في كل ما يلاقيهم من صنوف الأذى، بل إن هذا الجمّ الغفير من أنبياء الله ورسله الذين بلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر كما في بعض الأحاديث الحسنة كلهم رفعوا راية الإصلاح في وسط مجتمعات سيطر عليها الفساد بكل صوره وألوانه، ولم يكتفوا بمجرد صلاح أنفسهم، فلم يكن من بينهم قط واحد رضي بأن يعيش بين قوم ضالين منحرفين وهو مخالف لهم إلا أن يصدع بدعوة الحق والتوحيد بين أظهرهم، فهل لقوا التكريم من أقوامهم؟! لقد سمعنا في حديث النبي أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه واحد، والنبي يأتي ومعه اثنان، ويأتي النبي وليس معه أحد [1] ، هذا عدا من قتل وأوذي من أنبياء الله ورسله.
إذًا فالأذى هو سمة أهل الدعوة إلى الله، ولقد كان الله تعالى قادرا على نصر أوليائه في مكة، ولكنه أراد تربيتهم وتعويدهم على الصبر، فصبروا ثلاث عشرة سنة، وأخرجوا وأوذوا حتى صفت نفوسهم وقوي إيمانهم. عن أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتي بالمنشار، فيوضع إلى رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري [2] ، فأراد النبي أن يربي صحابته بهذا الحديث العظيم الذي يبين نصرة الإسلام والحق برغم القهر والأذى من أعداء الله. إذًا فللدّعاة إلى الله ولأوليائه قدوة بما حصل بإذن الله لهم وإن طال الزمان أو قصره، نسأل الله جلّت قدرته أن يعلي كلمتَه وينصر أولياءه، إنه سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلّموا على نبيكم الكريم، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال جل من قائل عليما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
[1] أخرجه مسلم (220).
[2] صحيح البخاري (6943).
(1/5538)
خطبة استسقاء 8/10/1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة, الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
8/10/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دلائل وحدانية الله تعالى. 2- نعمة الماء والمطر. 3- ضرورة الخلق إلى الماء. 4- فشوّ المنكرات. 5- آثار الذنوب. 6- تشخيص الداء. 7- التوبة والرجوع إلى الله. 8- فضل الله وسعة رحمته. 9- الغيث المعنوي والغيث الحسي. 10- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، دلائل وحدانيّة الله وآياتُ قدرتِه كثيرة، لا تُعدّ ولا تحصَى، وشواهدُ عظَمَته لا تحدُّ ولا تستقصى؛ في الأنفس والأولاد، في الخلق والإيجاد، في الإعداد والإمداد، في الكون والعباد، في الحياة والبلاد، في العدد والعدّة والعتاد، في السماء والأرض والجبال والبحار والسهول الوهاد، في الماء والأنعام والطير والنبات والجماد، أإلهٌ مع الله؟! لا إله إلا الله.
فوا عجبًا كيف يُعصى الإله أم كيف يَجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ
وفِي كل شيء له آية تدلّ على أنّه واحدُ
لا إله إلا الله، ولكنَّ القلوبَ عن آيات الله غافلة، والنّفوسَ عن شواهدِ قدرتِه لاهيَةٌ، والعقولَ عن دلائل عظمته شارِدة، إلاّ من رحم الله، فأين المتفكِّرون؟! وأين المتأمِّلون؟! أين أولو الألباب؟! وأين أهل البصائرِ واللُّباب عن التفكير في عظمة ربِّ الأرباب وقدرةِ مسبِّب الأسباب وصُنع منشئ السحاب وخالق الناس من تراب؟! ليقودَهم ذلك إلى توحيده وإخلاص الدّينِ له وإفراده بالعبادةِ دون سِواه.
إخوة الإسلام، نِعمةٌ من نِعَم الله، وآيةٌ من آياته، لا غنَى للنّاس عنها، هي مادّةُ حياتهم وعُنصُر نمائِهم وسَبَب بقائهم، منها يشرَبون ويسقون، ويحرثون ويزرَعون، ويرتَوُون ويأكلون، تلكم هِي نعمة الماء والمطَر وآيةُ الغَيث والقَطر، أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70].
إخوة الإيمان، الماء أصلُ النماءِ الفائقُ على الهواء والغِذاء والكساء والدّواء، هو عنصر الحياةِ وسبَب البقاء، من الّذي أنشأه من عناصرِه إلا الله؟! ومن الذي أنزَله من سحائبه إلا الله؟! وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]، وَهُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ ?لرّيَـ?حَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُورًا لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـ?مًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا [الفرقان: 48-50].
معاشر المسلمين المستسقين، الغيث نعمةٌ عظمَى ومنّة كبرى، رسولُ الرحمات وبشائر الخيرات وروح الأفراد والمجتمعات وبهجة القلوب وفرحةُ الشعوب، مع الماء الخُضرة والندى والطلُّ والرِّوَى، إذا عُدم زحفت جيوش القحط ودلفت كتائب المجاعة، فتذوي الثمار وتموت الأشجار، فإذا تدفّق الماء تفتّق النماء والعطاء والهناء والصفاء، فتحيا الحقول والمزارع وتميس الحدائق وتُهمهِم الأنهار والجداول وتُزهر الخمائل وتتمايل السنابل.
فهو حيث استدار وقفُ لجينٍ وهو حيث استطار سيفٌ يماني
شريان الحياة النابضُ ورواؤها المتدفّق، أغلى مفقود وأرخص موجود، سرّ البقاء والوجود، نعمةٌ من الله جليلة وهبة م المولى جميلة، فيا له من خلق عجيب ونبأ غريب، جميل المحيَّا بهيّ الطلعة، سبحان من سوّاه، سبحان من أجراه، سبحان من أنزل المياه وروّى بها الأجساد والأفواه.
هذا الذي أنزل سيلاً في البلد فكيف لو صبَّ جبالا من برد
أنزله رفقًا بنا قطَّارًا وبعضه سخّره أنهارًا
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان: 50].
أمّةَ الإسلام، إنّه لا يَقدر هذه النعمةَ قدرَها إلاّ من حُرِمها، تأمَّلوا في أحوالِ أهل الفَقر والفاقةِ التي تغلب على حياة مَن ابتُلوا بالجدْبِ والقَحطِ والجَفافِ والمجاعَة، سائِلوا أهلَ المزارِع والمواشي: في أيّ حالةٍ من الضرّ يعيشون لقلّةِ الأمطار وغورِ المياه؟! وهي سبَبُ خَصبِ مزارِعِهم وحياةِ بهائمهم. أرأيتم يا مَن تَنعمون بوَفرةِ المياه، ماذا لو حبِسَ الماء عَنكم ومنِعتم إيّاه؟! هل تصلُح لَكم حال؟! وهل يَقرّ لكم قَرارٌ؟! وهل تدوم لكم حياةٌ؟! قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك: 30]، إنّه لا منجَأ ولا ملجأ من الله إلا إليه.
ومِن حِكمته تبارك وتعالى أن لا يُديمَ عبادهُ على حالةٍ وَاحدَة، بل يبتليهم بالسّرّاء والضّرّاء، ويتعاهَدُهم بالشّدّة والرّخاء، ويمتحنهم خَيرًا وشرًّا، نِعَمًا ونقمًا، محنًا ومنحًا، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
ومِن ابتلاءِ الله لعبادِه حَبسُ القطرِ عنهم، أو تأخيرُه عَليهم، أو نزع بركتِه مِنهم، مع ما للمَطَر من المنافع العظيمة للناس والبَهائم والزروعِ والثمار، وما في تأخيرِه من المضارّ الجسيمةِ عَلَيهم.
معاشرَ المؤمنين، إنّ للغيثِ أسبابًا جالبة وأخرَى مانعة، هل ساءَلنا أنفسَنا ونحن في مواسِمِ الغَيث: هل أخذنَا بأسبابِ نزوله، أم قد نكون نحن بأفعالِنا سببًا في منعه؟! تعالَوا بنا نعرض شيئًا من أحوالنا، علَّها تكون ذكرَى نافعة وسببًا في تقويم أوضاعنا على منهجِ الكتاب والسنّة؛ لنحظَى برِزقِ الله الوافر الذي لا يُنال إلاّ بمرضاتِه؛ إذِ الغيثُ جِماعُ الرّزق، قال تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، والمَطر أصلُ البركات، قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
فيا عبادَ الله، لنحاسِب أنفسَنا؛ ألم نقصِّر في تحقيقِ الإيمان والتّقوى؟! ألم تتسَلَّل إلى بعضِ أهل الإسلامِ لوثاتٌ عقدية ومظاهر شركيّة وأخرى بدعيّة؟! ما ميزانُ الصلاةِ وهي ثاني أركان الإسلام والفارقُ بين الكفر والإيمان؟! لقد خفَّ مقدارها، وطاشَ ميزانها عند كثيرٍ من الناس إلاّ مَن رحم الله، وإذا سألت عن الزكاة وإخراجِها هالك بخلُ بعض الناس وتقصيرهم في أدائها؛ مما نزَع البركةَ من الأموال، وكانَ سببًا كبيرًا في منعِ القطرِ من السماء، أخرج البيهقيّ والحاكم وصحَّحه من حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّ رسول الله قال: ((لم ينقص قومٌ المكيال والميزانَ إلا أخِذوا بالسنين وشدّة المؤونة وجَورِ السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلاّ منِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطروا)) [1].
لقد ظهرتِ المنكراتُ وعمَّت المحرَّمات في كثير من المجتمعات، فلم يتمعَّر منها وجهٌ ولم يشمئزّ منها قلب إلاّ من عصم الله؛ قتلٌ وزِنا، ظلمٌ وشرك وربا، خمورٌ ومسكِرات، مجونٌ ومخدّرات، وفي مجال المعاملات غشٌّ وتزوير وبخسٌ ومماطَلات ورَشاوَى، في انتشارٍ رهيب للمَكاسِب المحرمة والمعاملات المشبوهة.
وعلى الصعيدِ الاجتماعيّ هناك مشكلات أسريّة معقَّدة وعلاقات اجتماعيّة مفكَّكة، ساد بعضَ القلوب حسدٌ وبَغضاء وغِلّ وحِقد وضَغينة وشحناء، وقل مثلَ ذلك في مظاهرِ التبرّج والسفور والاختلاط، وما أفرَزته موجاتُ التغريب من مساوئَ في النساءِ والشباب، مما يذكِي الجريمة ويثير الفتنة ويشحَذ الغريزة من مظاهر محرّمة وملاهٍ معلَنَة وصوَر ماجنة وأفلام خليعة، وحدّث ولا كرامة عن عفن الفضائيات وبؤَر المتديات في شبكات المعلومات، حتى ضعُفت الغيرةُ في النّفوس، وقلَّ التآمر بالمعروف والتّناهي عن المنكر، مع أنّه قِوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيريّةَ على العالمين، وحصَل القصور في مجال التربية والدّعوة والإصلاح والتعليم والإعلام، مع سَيلٍ من مظاهر التحلّل والإباحيّة والانفتاح واللاَّمُنضبِط. فأين الغيرةُ الإيمانيّة؟! وأين الحميّة الإسلاميّة؟! فالله المستعان عباد الله، وإلى الله المشتكَى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
إنَّ ذنوبَنا كثيرة ومعاصيَنا عظيمة، وإنّ شؤمَ المعاصي لجسيمٌ وخَطير، يقول ابن القيّم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرةِ شرٌّ وبلاء إلا سبَبه الذنوب والمعاصي؟!"، إنها تَقضّ المضاجع وتدَع الدّيارَ بَلاقع، يقول أميرُ المؤمِنين عليّ رضي الله عنه: (ما نَزَل بلاءٌ إلا بذَنب، ولا رُفع إلا بتوبة) [2] ، ويقول مجاهد رحمه الله: "إن البهائم لتلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدّتِ السنة وأمسك المطر؛ تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم" [3].
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانُها
إذا كنت في نعمة فارعَها فإنّ المعاصي تزيل النِّعَم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريعُ النِّقَم
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنَّ ما عند الله لا يُستَنزَل إلاّ بالتوبة النصوح. إنّ الذنوبَ ما حلَّت في ديارٍ إلا أهلَكتها، ولا في قلوبٍ إلا أفسدتها، ولا في مجتمعاتٍ إلا دمّرتها. لا بدّ من تعزيزِ جانب الحِسبة وحِراسة العقيدة والفضيلة وسَدّ الثغرات في قنواتِ التّعليم ووسائل الإعلام والاهتمام بقضايا التربية والأسرة والمرأة، وأن تُحسِن الأمّة من شأنها في مِرآة الشريعة ما شانَها.
أيّها الأحبّة في اللهِ، إنَّ تشخيصَ الدّاءِ في هذهِ القضيّة يحمِل في طيّاته أسبابًا كثيرة، منها غفلة العِباد وقَسوَة قلوبهم وضَعف إيمانهم وانتِشار الذنوبِ والمعاصي بَينهم، لا سيّما منعُ الزكاة ونقص المكاييل والموازين والتّقصيرُ في الدّعاء والضّراعة والإعراض عن التوبة والتسويفُ فيها وإغفال الاستغفار الذي هو السّبَب العَظيم في استنزالِ المطر من السماء، يقول تعالى عن نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، ويقول سبحانه عن هودٍ عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود: 52].
نَستغفِر الله، نَستغفِر الله، نستغفر اللهَ، نستغفر الله الذي لا إلهَ إلاّ هو الحيّ القيّوم ونتوب إليه.
استسقى عمر رضي الله عنه فلم يزِد على الاستغفارِ، فقيل له في ذلك فقال: (لقد طلبتُ الغيث بمجاديحِ السماء التي يُستَنزَل بها المطر) [4].
فالاستغفار ـ يا عبادَ الله ـ هو الدواءُ الناجِع في حصولِ الغيثِ النافع. لا بدَّ في الاستغفارِ أن يكون صادِقًا عمليًّا، فقد قال بعض السلف: "استغفارُنا يحتاج إلى استغفار" [5].
فلنتَّقِ الله يا عبادَ الله، ولنَعلَم أنّه ليس طلبُ الغيث بمجرَّدِ القلوب الغافِلة والعقول اللاهية، وإنما يتطلَّب تجديدَ العهد مع الله وصِدقَ العمل بشريعةِ الله وفَتحَ صفحةٍ جديدة من حياةِ الاستقامة وإصلاحًا شامِلاً في كلِّ مرافِق الحياة، وحاجةُ الأمّةِ إلى الاستغاثةِ العمليّة لا تقلُّ أهمّيةً عن الاستغاثةِ القوليّة، ومع هذا كلِّه ففضل الله واسع، ورحمتُه وسِعت كلَّ شيء، وعفوه عمَّ كلَّ التائبين، فما ضاقَ أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجًا، ولا عظُم خَطب إلا جعَل الله معه فرجًا، فمنه يكون الخوف وفيه يكون الرّجا، فقد فتح بابه للسائلين، وأظهر غِناه للطالبين، ها هو جلَّ وعلا ينادي عبادَه للتّوبةِ والإنابة: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر: 53].
وإنَّ مواهبَ ربّنا لجليلة وعطاياه لجزيلة، بابُه مفتوح، وعطاؤه ممنوحٌ، وفَضله للرّاغبين يغدو ويروح، فاشكروه على ما أعطَى، وارجِعوا عن الأخطا، جدِّدوا التوبةَ من ذنوبكم، وأبشِروا وأمِّلوا، وأحسِنوا الظّنَّ بربِّكم، وتسامحوا، وتراحموا، ولتصفُ قلوبكم، بروا الوالدين، وصِلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، ومدّوا يدَ العون للمحاويج والفقراء والأرامل والمساكين واليتامى والثكالى والأيامى، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 19]، ولا تقنَطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من رَوح الله، وادعوا الله وأنتم موقِنون بالإجابةِ. ضَعوا عن المَدِينِين، يَسِّروا على المعسِرين.
وإني لأدعو الله حتى أرَى بجميل الظنّ ما الله صانع
فمتى علِم الله صدقَكم وتوبتكم وإخلاصكم وتضرّعكم أغاثكم وجلب الأرزاقَ إليكم بمنِّه وكَرَمه.
أيّها المسلمون، يا مَن خَرَجتم تَستَغيثونَ، هنيئًا لكم اجتماعُكم هذا، لقد أجَبتم داعيَ الله، وأحيَيتهم سنّةَ رسول الله ، فلا حرمكم الله فضله وثوابه، وحقَّق آمالَكم، واستجاب دعاءَكم، وإنه لمِن الحرمان العظيم تساهلَ بعضِ النّاس في حضورِ دَعوة الخير وإحياءِ سنّة المصطفى.
هذا وإنَّ الارتباطَ بين الغيثِ المعنويِّ والحسّي لعظيم ووثيقٌ، فإذا أجدَبَتِ الأحاسيس والمشاعِر وقحطتِ المعاني الخيِّرة والمثُل العليَا في النّفوسِ والضمائر وساد الناسَ جفافُ الإيمان والسلوك بُلِيَت الأمّة بمنعِ القَطر، وإذا روِيَت بالإيمان والتّقوى سَعدَت في الأُولى والأخرَى، وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
فيا عبادَ الله، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16]. فاتَّقوا الله عباد الله، وتأسّوا بنبيّكم ، فقد خرَج يومَ الاستسقاء متخشِّعًا متذلِّلاً متضرعًا [6] ، ملِحًّا على الله في الدعاء، لأن الإلحاحَ في الدعاءِ مِن أعظم الأمور التي يُستنزل بها المطر، قال سبحانه: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، ويقول سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، وقد ورد أن الله عزّ وجلّ يستحيي من عبادِه إذا رَفَعوا أيديَهم إليه أن يردَّها صِفرًا أي: خائبتين [7].
إذا علِمتهم ذلك ـ يا عبادَ الله ـ فارفَعوا قلوبَكم إلى بارئكم وأيديَكم إلى مَولاكم وربّكم، والهجوا بالثناء عليه سبحانه، طالبين الغيثَ منه، راجين لفضلِه، مؤمِّلين لكرمِه، ملحِّين عليه بإغاثةِ القلوب والأرواح وسقي البلادِ والعباد.
لا إلهَ إلا الله غِياث المستغيثين، وراحِم المستضعفين، ومجيب دعوة المضطرين، وجابر كَسر المنكسرين، لا إله إلا الله العظيم الحلِيم، لا إله إلا الله ربّ العرشِ الكريم.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إلهَ إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه.
اللهمّ يا حيّ يا قيوم برحمتِك نستَغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسِنا طَرفَة عَين ولا أقلَّ مِن ذلك، على الله توكَّلنا، ربَّنا لا تجعلنا فِتنة للقومِ الظالمين، ونجِّنا برحمتِك من القومِ الكافِرين، لئن لم يَرحمنا ربّنا ويغفِر لنا لنكوننَّ من الخاسرين، لا إلهَ إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين.
اللّهمّ أنت الله لا إلهَ إلا أنت، أنتَ الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
اللّهمّ أغثنا، اللّهمّ أغثنا، اللّهمّ أغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم يا مغيث أغثنا، اللّهمّ إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهمّ أغث قلوبنا وأرواحنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيرات والأمطار والغيث العميم يا ربَّ العالمين، اللّهمّ لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بسوءِ ما عِندنا.
اللّهمّ إنّا نستغفِرك إنّك كنت غفَّارًا، فأرسِلِ السماء علينا مدرارًا، اللّهمّ أغِثنا غَيثًا مغيثا هَنيئًا مريئًا مريعًا سحًّا غَدقًا طبَقا عامًّا واسعًا مجلِّلا، نافعًا غير ضارّ، عاجلا غير آجلٍ، عاجلا غير رائث، اللّهمّ سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرَق.
اللهم اسق عبادَك وبهائمك، وانشر رحمتَك، وأحيِ بلدك الميّت، اللهم أغثنا غيثًا مباركا، تحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعَله بلاغًا للحاضِرِ والباد.
اللهم أنزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ الضرعَ، وأسقنا من بركاتك، وأنزِل علينا من بركاتِ السماء، وأخرِج لنا من بركات الأرض. اللهم أخرج في أرضنا زينتَها، وأتمم فيها حلَّتها، وأدم عليها بهجتها، يا جواد يا كريم.
اللّهمّ ارفَع الجهدَ والقحط والجفاف عن بلادنا وعن بلاد المسلمين عامّة يا ربّ العالمين، واكشف عنّا مِن الضرّ ما لا يكشفه غيرك. اللّهمّ إنّ بالعباد والبلاد من اللأواءِ والجَهد والضّنك ما لا نشكوه إلاّ إليك.
اللهم ارحَم الشيوخَ الرُّكَّع والبهائم الرّتّع والأطفالَ الرّضّع، اللّهمّ اكشف الضرَّ عن المتضررين، والكرب عن المكروبين، وأسبِغ النّعَم، وادفَع النّقَم عن عبادك المؤمنين.
ربَّنا ظلَمنا أنفسنا، وإن لم تغفِر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.
يا أكرم مسؤول، ويا أعظم مأمول، اللهم قد دَعَوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، ولا تردَّنا خائبين، لا تردَّنا يا مولانا خائبين، ولا من رحمتك محرومين، ولا من بابك مطرودين.
أيها الإخوة المسلمون المستغيثون، لقد كان مِن سنّة نبيّكم بعدما يستغيث ربَّه أن يقلب رداءَه [8] ، فاقلبوا أرديَتَكم اقتداءً بسنّة نبيّكم ، وتفاؤلاً أن يقلِبَ الله حالَكم من الشدّة إلى الرخاء ومن القحط إلى الغَيث، وليكونَ ذلك شِعارًا وعَهدًا تأخذونَه على أنفسِكم بتغيير لباسِكم الباطن إلى لباسِ الإيمان والتّقوى بَدلاً من لباس الذنوب والمعاصي.
ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم، وتب علينَا إنّك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
سُبْحَـ?نَ رَبّكَ رَبّ ?لْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَـ?مٌ عَلَى? ?لْمُرْسَلِينَ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الصافات: 180-182]، وصلّى الله على النبي المصطفى المختار، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، المهاجرين منهم والأنصار والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلِّم يا ربِّ تسليمًا كثيرًا.
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[2] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[3] أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55).
[4] أخرجه عبد الرزاق (4902)، وسعيد بن منصور (5/353)، وابن أبي شيبة (29485)، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فذكره، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الشعبي عن عمر مرسل، تحفة التحصيل (ص164).
[5] روي عن الحسن البصري رحمه الله كما في تفسير القرطبي (4/210).
[6] أخرجه أحمد (2039)، وأبو داود في الصلاة (1165)، والترمذي في الجمعة (559)، والنسائي في الاستسقاء (1489)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1266)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1408)، وابن حبان (2862)، وابن الجارود (253)، والضياء في المختارة (9/501).
[7] أخرجه أحمد (23715)، وأبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، من حديث سلمان رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه"، وصححه ابن حبان (876)، وهو في صحيح الترغيب (1635).
[8] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الاستسقاء (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5539)
صيام التطوّع
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
8/10/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة في الدنيا. 2- فضل الصيام. 3- وصية النبي أصحابه بالإكثار من الصيام. 4- صيام النافلة. 5- الحث على قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونَفسي بتقوَى الله جلَّ وعلا، فمن اتَّقاه وقاه أسعَدَه وما أشقاه.
أيّها المسلِم، السعادةُ في هذه الدّنيا هي في مُداوَمَة ما يقرِّبك من الرحمن والتزوُّدِ بما يُدخلك الجنان، فالشهور والأعوامُ واللّيالي والأيّام مقاديرُ للآجال مَواقيتُ للأعمال.
ليسَ السّعيد الّذي دُنياه تُسعدُهُ إنّ السعيد الذي ينجو من النارِ
فيا أيّها المسلم، اجعلْ من عُمرك ظرفًا للطّاعات، تتقرّب فيه بالصَّالحات، فوا أسَفاه على زمانٍ يضيع في غير طاعَتِه سبحانه! ووا حسرتاه على وقتٍ يفوت في غير مرضاتِه جلّ وعلا! وقد قال العلماءُ: ما أحسَنَ الحسنةَ بعد السَّيِّئة تمحُها! وأحسنُ منها الحسنةُ بعدَ الحسنةِ تتلوها، وما أَقبحَ السّيِّئةَ بعد الحسنة تمحقُها! نسأل الله تعالى الثباتَ على الطاعاتِ، ونعوذ به من الموبِقات والسيِّئات.
إخوةَ الإسلام، من أفضل الأعمال التي يتقرّب بها العبد إلى مولاه جلّ وعلا عبادةُ الصيام فرضًا ونفلاً، فقد ذكر الله جلّ وعلا في أوصافِ من أعدّ لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ [الأحزاب: 35]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((كلُّ عملِ ابنِ آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام، فإنّه لي، وأنا أجزي به)). قال أهل العلم: وقوله: ((إلا الصيام، فإنّه لي، وأنا أجزي به)) يتضمّن أنّ الصيامَ لا ينحصر تضعيفُ أجره، بل يضاعفه الله أضعافًا كثيرة بغير حصرِ عدَدٍ؛ فإنّ الصيامَ من الصبر وقد قال الله جلّ وعلا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].
أخي المسلم، الصومُ فضلُه عظيم وثوابُه كبيرٌ، في الصحيحين عن النبيّ أنّه قال: ((إنَّ في الجنّة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون، لا يدخل منه غيرُهم)) ، وفي روايةٍ: ((فإذا دخلوا أُغلِق)) ، وفي روايةٍ: ((من دخل منه شرِب، ومن شَرِب منه لم يظمَأ أبدًا)). ورسولُنا يقول أيضًا: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النومَ بالليل فشفِّعني فيه، فيُشفَّعان)) رواه أحمد بإسناد صحيح.
ومن هنا كان النبي يوصي أصحابَه بالصوم والإكثار منه، فقد قال له أبو أمامةَ رضي الله عنه حينما قال: يا رسول الله، مُرني بعملٍ، قال: ((عليك بالصوم؛ فإنّه لا عِدلَ له)) ، وفي رواية ابن حبان: قال: قلتُ: يا رسول الله، دُلَّني على عملٍ أدخل به الجنّة، قال: ((عليك بالصوم؛ فإنّه لا مثيلَ له)) ، وكان أبو أمامةَ وأهلُه يصومون، فإذ رُئي في بيتهم دخانٌ بالنهار عُلِم أنّه قد نزل بهم ضيفٌ.
إخوةَ الإسلام، وقد تضمّنت سنّة حبيبنا ونبيّنا محمد الترغيبَ في نوافل الصوم، نشير إلى بعضٍ من ذلك في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: استحبابُ صيام يوم الاثنين والخميس، فكان يتحرّى صومَهما ويقول: ((تُعرض الأعمال فيهما، فأحبّ أن يُعرض عملي وأنا صائمٌ)). قال ابن رجب: "وكان أسامةُ ـ وهو راوي بعض هذه الأحاديث ـ يصومهما حضرًا وسفرًا".
الوقفة الثانية: استحباب صيام ستّة أيّام من شوّال، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر)) ، وفي حديث ثوبان عن النبي قال: ((صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستّة أيام بشهرين، فذلك صيام سنة)) أخرجه الإمام أحمد والنسائي وصححه الرازي.
إخوةَ الإسلام، وقد استحبّ بعض العلماء أن تُصام هذه الأيام على وجهِ التّتابع، ولكن لا حرجَ في تفريقها في أثناء هذا الشهر، كما أنّ أكثرَ العلماء على أنه لا يُكره صيامُ ثاني يوم الفطر لما دلَّ عليه حديث عمران عن النبيّ أنه قال لرجل: ((إذا أفطرتَ فصُم)).
الوقفة الثالثة: تأكُّد استحباب صيامِ ثلاثةِ أيّامٍ من كلِّ شهرٍ، فعن عبد الله بن عمرو بنِ العاص رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ : ((صَومُ ثلاثةِ أيَّام مِن كلِّ شَهر صومُ الدّهر كلِّه)) متفق عليه، وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاثٍ: صيامِ ثلاثة أيّام من كلّ شهر، وركعتي الضحى، وأن أوترَ قبل أن أنامَ. وعن أبي الدرداء قال: أوصاني حبيبي بثلاثٍ، لن أدعَهنّ ما عشتُ: صيامِ ثلاثة أيّام من كلّ شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنامَ حتى أوترَ. رواه مسلم.
والأفضلُ ـ يا عباد الله ـ صومُ هذه الثلاثة في الأيام البيض، وهي الثالثَ عشر والرابعَ عشر والخامسَ عشر، لما رواه النسائي والترمذيّ وقال: "حسن" عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: [قال رسول الله :] ((يا أبا ذرّ، إذا صمتَ من الشهر ثلاثةً فصم ثلاث عشرةَ وأربع عشرة وخمس عشرةَ)) ، وقال: ((هي كصيام الدهر)). وعن ملحان القيسيّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله يأمرنا بصيام البيض: ثلاث عشرةَ وأربع عشرة وخمس عشرةَ. رواه أبو داود. وروى النسائي بإسناد حسن كما قاله النووي عن ابن عباس قال: كان رسول الله لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفرٍ، ولكن ضعفه بعض أهل العلم.
أخي المسلم، ومَن عليه قضاءٌ من رمضان فالصّحيح من قولَي أهلِ العلم أنه لا يتَطوّع قبل صيام المفروض، ويَتأكّد هذا في حَقّ صيامِ ستّة أيام من شوال، فإنّ صريحَ الحديث يدلّ على أنها لا تكون إلا لمن أكمل عدّةَ رمضان، ومن أصول الشريعة أنّ الفرضَ مقدّمٌ على النفل.
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ، ونَفَعَنا بما فيهِ مِنَ الآياتِ والبيان، أقول هذَا القول، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولسائِرِ المسلمين مِن كلِّ ذنب، فاستَغفروه إنَّه هو الغفورُ الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله علَى إِحسانِه، والشّكرُ له علَى تَوفيقِهِ وامتِنانِه، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه تعظيمًا لشَأنِه، وأَشهَد أنَّ سيّدنا ونَبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلَيه وعلى آلِه وأصحابِه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمونَ، أوصيكم ونَفسي بِتقوَى الله جَلّ وعلا، فَهِيَ وَصِيَّة الله للأوَّلين والآخِرين.
أيّها المسلم، ولئن كنتَ في رمضانَ مجتهدًا في صلاةِ الليل فاعلَم أنّ فضلَ الله عظيمٌ في سائرِ الشهور والأعوام، وقد وعَد عبادَه المتهجِّدين في اللَّيل بالأجرِ العظيم والثَّواب الجزيل، ووصفهم بقوله: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17]، ورسولنا يقول: ((أفضلُ الصيامِ بعد رمضانَ شهرُ الله المحرَّم، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضة قِيامُ اللّيل)) رواه مسلم. تقول عائشةُ رضي الله عنها لرجلٍ: لا تدَع قيام الليل، فإنّ رسول الله كان لا يدعه، وكان إذا مرض صلّى قاعدًا. أخرجه أبو داود بسند صحيح.
فحافظوا ـ رحمكم الله ـ على صلاة الليل؛ ففيها تكفير السيئات ورفعُ الدرجات، فالنبي يوصي بذلك فيقول: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم وقُربةٌ إلى ربّكم وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردةٌ للداء عن الجسد)) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما هو حديث حسن.
فيا من يطمع في الجنان ونيل رضا الرحمن، سارع إلى تحصيل أسباب الرضوان، فنبينا يقول: ((يا أيّها الناس، أطعِموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخُلوا الجنّة بسلام)) حديث صحيح.
ثمّ إنَّ مِن أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا جلّ وعلا الإكثارَ مِنَ الصلاةِ والسلام على النبيّ الكريم.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدنا ونبيِّنا محمّد، وارضَ اللّهمَّ عَن الخلفاءِ الرّاشدِين والأئمّة المهديِّين أبي بكر وعمَرَ وعثمان وعليّ...
(1/5540)
خطبة استسقاء 13/8/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة, الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
13/8/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دلائل وحدانية الله تعالى. 2- نعمة الماء والمطر. 3- ضرورة الخلق إلى الماء. 4- سنة الابتلاء. 5- أسباب نزول الغيث. 6- فشو المنكرات. 7- آثار الذنوب. 8- تشخيص الداء. 9- التوبة والرجوع إلى الله. 10- فضل الله وسعة رحمته. 11- الغيث المعنوي والغيث الحسي. 12- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق تقواه، فإن من اتقى الله حفظه ووقاه، ومن سأله منحه وأعطاه، ومن توكّل عليه كفاه وآواه.
أيها المسلمون، دلائل وحدانية الله وآياتُ قدرته كثيرة، لا تُعدّ ولا تحصى، وشواهدُ عظمته وفيرة لا تحدُّ ولا تستقصى.
فوا عجبًا كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كلّ تحريكةٍ وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ
وفِي كل شيء له آية تدل على أنه الواحدُ
أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ تَعَالَى ?للَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 63].
ولكن القلوب عن آيات الله غافلة، والنفوس عن شواهد قدرته لاهية، والعقول عن دلائل عظمته شاردة، إلا من رحم الله، فأين المتفكرون؟ وأين المتأملون؟ أين أولو الألباب؟ وأين أهل البصائر واللباب عن التفكير في عظمة رب الأرباب، وقدرة مسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب؟ ليقودهم ذلك إلى توحيد ربهم جل وعلا، وإخلاص الدين له، وإفراده بالعبادة دون سواه.
إخوة الإسلام، هنالك نعمة من نعم الله، وآية من آياته، لا غنى للناس عنها، هي مادة حياتهم، وعنصر نمائهم، وسبب بقائهم، منها يشربون ويسقون، ويحرثون ويزرعون، ويرتوون ويأكلون، تلكم ـ يا رعاكم الله ـ هي نعمة الماء والمطر، وآية الغيث والقطر.
إخوة الإيمان، الماء أصل النماء، الفائق على الهواء والغذاء والكساء والدواء، هو عنصر الحياة وسبب البقاء، من الذي أنشأه من عناصره إلا الله؟! ومن الذي أنزله من سحائبه إلا الله؟! أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]، وَهُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ ?لرّيَـ?حَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُورًا لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـ?مًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى? أَكْثَرُ ?لنَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان: 48-50].
تلك كوكبة من آيات كتاب الله، تدل على عظمة هذه النعمة، وأهمية تلكم المنة.
أمة الإسلام، إنه لا يقدر هذه النعمة قدرها إلا من حُرمها، تأمَّلوا في أحوال أهل الفقر والفاقة، التي تغلب على حياة من ابتلوا بالجدْب والقحط والجفاف والمجاعة، سائلوا أهل المزارع والمواشي، في أي حالة من الضر يعيشون، لقلة الأمطار، وغور المياه، وهي سبب خصب مزارعهم وحياة بهائمهم، أرأيتم يا من تنعمون بوفرة المياه، ماذا لو حبس الماء عنكم ومنعتم إياه؟ هل تصلح لكم حال؟! وهل يقر لكم قرار؟! وهل تدوم لكم حياة؟! قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك: 30]، إنه لا منجأ ولا ملجأ من الله إلا إليه.
ومن حكمته تبارك وتعالى أن لا يديم عبادهُ على حالة واحدة، بل يبتليهم بالسراء والضراء، ويتعاهدهم بالشدة والرخاء، ويمتحنهم خيرًا وشرًا، نعمًا ونقمًا، محنًا ومنحا، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة: 155].
ومن ابتلاء الله لعباده حبسُ القطر عنهم، أو تأخيره عليهم، أو نزع بركته منهم، مع ما للمطر من المنافع العظيمة للناس والبهائم والزروع والثمار، وما في تأخيره من كثير من المضار.
معاشر المسلمين، إن للغيث أسبابًا جالبة وأخرى مانعة، هل سألنا أنفسنا ونحن في مواسم الغيث: هل أخذنا بأسباب نزوله، أم قد نكون نحن بأفعالنا سببًا في منعه؟ تعالوا بنا نعرض شيئًا من أحوالنا، لعلها تكون ذكرى نافعة، وسببًا في تقويم أوضاعنا على منهج الله، لنحظى برزقه الوافر، الذي لا ينال إلا بمرضاته، فالغيث جناح الرزق، قال تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، والمطر أصل البركات، قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
فيا عباد الله، لنحاسب أنفسنا، ألم نقصِّر في تحقيق الإيمان والتقوى؟! ألم تتسلَّل إلى بعض أهل الإسلام لوثات عقدية، ومظاهر شركية، وأخرى بدعية؟! ما ميزان الصلاة وهي ثاني أركان الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان؟! لقد خفَّ مقدارها، وطاش ميزانها عند كثير من الناس إلا من رحم الله، وإذا سألت عن الزكاة المفروضة وإخراجها ترى العجب العجاب، من بخل بعض الناس وتقصيرهم في أدائها، مما نزع البركة من الأموال، وكان سببًا كبيرًا في منع القطر من السماء، أخرج البيهقي والحاكم وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((ولم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) [1].
لقد ظهرت المنكرات، وعمت المحرمات، في كثير من المجتمعات، فلم يتمعَّر منها وجه، ولم يشمئزّ منها قلب إلا من عصم الله، قتل وزنا، ظلم وربا، خمور ومسكرات، مجونٌ ومخدرات، وفي مجال المعاملات غش وتزوير، وبخس ومماطلة ورشاوي، في انتشار رهيب للمكاسب المحرمة، والمعاملات المشبوهة، وتساهل في حقوق العباد، وعلى الصعيد الاجتماعي هناك مشكلات أسرية معقدة، وعلاقات اجتماعية مفككة، ساد كثير من القلوب الحسد والبغضاء، والحقد والضغينة والشحناء، وقل مثل ذلك في مظاهر التبرج والسفور والاختلاط، وما أفرزته موجات التغريب من مساوئ في النساء والشباب، مما يذكي الجريمة، ويثير الفتنة، ويشحذ الغريزة من مظاهر محرمة، وصور ماجنة، وأفلام خليعة، يتولى كبر ذلك كثير من الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، حتى ضعفت الغيرة في النفوس، وقل التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، مع أنه قوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين، وحصل القصور في مجال التربية والدعوة والإصلاح، مع سيلٍ من مظاهر التحلل والإباحية والعولمة والانفتاح.
فأين الغيرة الإيمانية؟! وأين الحميّة الإسلامية؟! وأين الشهامة الإنسانية؟! وعلى الصعيد العالمي والدولي، هناك حروب وحوادث، ومكائد وكوارث، فتنٌ وبلايا، ومحن ورزايا، ظلم وإرهاب، وفوضى واضطراب.
فاللهم سلم سلم، ورحماك ربنا رحماك، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن ذنوبنا كثيرة، ومعاصينا عظيمة، وإن شؤم المعاصي جسيم وخطير، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهل في الدنيا شرٌ وبلاء، إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!". الذنوب ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، إنها تقضّ المضاجع، وتدع الديار بلاقع، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما عند الله لا يستنزل إلا بالتوبة النصوح، يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة) [2].
عباد الله، لقد شكوتم إلى ربكم جدْب دياركم، وتأخر المطر عن إبّان نزوله عن بلادكم وأوطانكم، فما أحرى ذلك أن يدفعكم إلى محاسبة أنفسكم، ومراجعة دينكم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]، ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
وما ابتلي المسلمون اليوم بقلة الأمطار، وغور المياه، وانتشار الجدْب والقحط، وغلبة الجفاف والمجاعة والفقر، في بقاع كثيرة من العالم، إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلَّ إدمانَها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النِّقَم
أيها الأحبة في الله، إن تشخيص الداء في هذه القضية يحمل في طياته أسبابًا كثيرة، منها: غفلة العباد، وقسوة قلوبهم، وضعف إيمانهم، وانتشار الذنوب والمعاصي بينهم، لا سيما منع الزكاة، ونقص المكاييل والموازين، والتقصير في الدعاء والضراعة، والإعراض عن التوبة والتسويف فيها، وإغفال الاستغفار الذي هو السبب العظيم في استنزال المطر من السماء، يقول تعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، وقال سبحانه عن هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود: 52]، واستسقى عمر رضي الله عنه فلم يزد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، قال: (لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر) [3].
فالاستغفار ـ يا عباد الله ـ هو الدواء الناجع في حصول الغيث النافع، ولا بد في الاستغفار أن يكون صادقًا، فقد قال بعض السلف: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار" [4].
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أنه ليس طلب الغيث بمجرد القلوب الغافلة، والعقول اللاهية، وإنما يتطلب تجديد العهد مع الله، وصدق العمل بشريعة الله، وفتح صفحة جديدة من حياة الاستقامة، وإصلاحًا شاملاً في كل مرافق الحياة، ومع هذا كله ففضل الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء، وعفوه عمَّ كل التائبين، فما ضاق أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجا، وما عظم خطب إلا جعل الله معه فرجا، فمنه يكون الخوف، وفيه يكون الرجا، هاهو جل وعلا ينادي عباده للتوبة والإنابة: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر: 53]، ويقول سبحانه: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًَا ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه: 82].
وإن مواهب ربنا لجليلة، عطاياه لجزيلة، بابه للسائلين مفتوح، وعطاؤه للمقبلين ممنوح، وفضله للراغبين يغدو ويروح، فاشكروه على ما أعطى، وارجعوا عن المعاصي والأخطاء، جددوا التوبة من ذنوبكم، واتركوا التشاحن، واخرجوا من المظالم، وأحسنوا الظن بربكم، وتسامحوا، وتراحموا، ولا تقنطوا من رحمة الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
وإنِّي لأدعو الله حتى كأنَّما أرى بجميل الظن ما الله صانع
أيها الإخوة في الله، من رحمة الله بعباده أن أنزل لهم من الغيث نوعين اثنين: أحدهما معنوي والآخر حسي.
فالأول غيث القلوب والأرواح بالكتاب والسنة، وهذا الغيث هو مادة حياة القلوب، وصفاء الأرواح، وبه تتحقق سعادة الدارين، وصلاح الحياتين، وهذا الغيث ـ يا عباد الله ـ هو ما يفتقده الناس اليوم على الحقيقة، بل إن ضرورتهم إليه وحاجتهم له أشد من الغيث الحسي، وهو غيث الأرض بالمطر، ولا يحصل الثاني إلا بتحقق الأول، فعلينا ـ يا عباد الله ـ أن نتفقد قلوبنا؛ هل رويت من القرآن، أم هي ظامئة عطشى؟ يجب علينا أن ننظر في صحائفنا، هل هي ربيع لوحي الله، أم قاحلة جدْباء؟ لعل ذلك يدفعنا إلى إصلاح حالنا، وتقوية الإيمان في قلوبنا.
عباد الله، يا من خرجتم تستغيثون، هنيئًا لكم اجتماعكم هذا، لقد أجبتم داعي الله، وأحييتهم سنة رسول الله ، وامتثلتم أمر ولي الأمر وفقه الله، فلا حرمكم الله فضله وثوابه، وحقق آمالكم، واستجاب دعاءكم، وإنه لمن الحرمان العظيم تساهل بعض الناس في حضور دعوة الخير، وإحياء سنة المصطفى.
هذا وإن الارتباط بين الغيث المعنوي والحسي عظيم ووثيق، فإذا أجدبت الأحاسيس والمشاعر، وقحطت المعاني الخيّرة والمثل العليا في النفوس والضمائر، وساد الناس جفاف في الإيمان والسلوك، بليت الأمة بمنع القطر، وإذا رُويت بالإيمان والتقوى سعدت في الأولى والعقبى، وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
فيا عباد الله، ألم يأن لنا أن تخشع قلوبنا لذكر الله، فلنتق الله عباد الله، ولنتأس بنبينا الحبيب المصطفى ، فقد خرج يوم الاستسقاء متخشِّعًا متذللاً، متضرعًا [5] ، مجتهدًا في الدعاء، لأن الاجتهاد في الدعاء من أعظم الأمور التي يستنزل بها المطر، يقول سبحانه: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، وقد ورد أن الله عز وجل يستحي من عباده، إذا رفعوا أيديهم إليه، أن يردها صفرًا أي خائبتين [6].
أتَهزأ بالدعاء وتزدريه ولم تدْر ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطئ ولكن لَها أمدٌ وللأمد انقضاء
إذا علمتهم ذلك ـ يا عباد الله ـ فارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم ومولاكم، والهجوا بالثناء عليه سبحانه، طالبين الغيث منه، راجين لفضله، مؤمِّلين لكرمه، ملحِّين عليه بإغاثة القلوب والأرواح، وسقي البلاد والعباد، فمتى علم الله إخلاصكم وصدقكم وتضرعكم، أغاث قلوبكم بالتوبة إليه، وبلدكم بإنزال المطر عليه.
لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وراحم المستضعفين، وجابر كسر المنكسرين، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العشر الكريم.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم أغثنا غيثًا هنيئًا مريئًا مريعًا سحًّا غدقًا طبقا عامًا واسعًا مجللا، نافعًا غير ضار، عاجلا غير آجل، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاءٍ ولا هدم ولا غرق.
اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أغثنا غيثًا مباركا، تحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد.
اللهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته عونًا لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ الضرع، وأسقنا من بركاتك، وأنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض.
اللهم ارفع عنا الجهد والقحط والجفاف، وعن بلاد المسلمين يا رب العالمين، واكشف عنا من الضر ما لا يكشفه غيرك.
اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك.
اللهم ارحم الشيوخ الركع، والبهائم الرتع، والأطفال الرضع، اللهم اكشف الضر عن المتضررين، والكرب عن المكروبين، وأسبغ النعم، وادفع النقم عن عبادك المؤمنين.
اللهم صل وسلم وبارك على خاتم النبيين، وإمام المتقين، وأشرف المرسلين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، والقحط وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة، يا رب العالمين.
اللهم أمدَّ بالعون والتسديد والتوفيق أميرنا وسائر المسلمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، لقد كان من سنة نبيكم ، بعدما يستغيث ربه أن يقلب رداءه [7] ، فاقلبوا أرديتكم، اقتداءً بسنة نبيكم ، وتفاؤلاً أن يقلب الله حالكم من الشدة إلى الرخاء، ومن القحط إلى الغيث، وليكون ذلك شعارًا وعهدًا تأخذونه على أنفسكم بتغيير لباسكم الباطن إلى لباس الإيمان والتقوى بدلاً من لباس الذنوب والمعاصي.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تردنا خائبين، ولا عن بابك مطرودين، ولا من رحمتك محرومين.
اللهم هذا الدعاء، ومنك الإجابة، وهذا الجهد، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سُبْحَـ?نَ رَبّكَ رَبّ ?لْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَـ?مٌ عَلَى? ?لْمُرْسَلِينَ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الصافات: 180-182]، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[2] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[3] أخرجه عبد الرزاق (4902)، وسعيد بن منصور (5/353)، وابن أبي شيبة (29485)، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فذكره، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الشعبي عن عمر مرسل، تحفة التحصيل (ص164).
[4] روي عن الحسن البصري رحمه الله كما في تفسير القرطبي (4/210).
[5] أخرجه أحمد (2039)، وأبو داود في الصلاة (1165)، والترمذي في الجمعة (559)، والنسائي في الاستسقاء (1489)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1266)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1408)، وابن حبان (2862)، وابن الجارود (253)، والضياء في المختارة (9/501).
[6] أخرجه أحمد (23715)، وأبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، من حديث سلمان رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه"، وصححه ابن حبان (876)، وهو في صحيح الترغيب (1635).
[7] أخرجه البخاري في الجمعة (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا توجد.
(1/5541)
خطبة استسقاء 7/11/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
7/11/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المطر. 2- ضرورة الخلق إلى الماء. 3- افتقار الخلق إلى الله. 4- ما وقع بلاء إلا بذنب. 5- الأمر بالتوبة. 6- التقوى سبب البركات. 7- المعاصي أسباب البلايا والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إنكم شكوتم جدْب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله تبارك وتعالى أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، فقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر: 60].
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فإنك إن تكلنا إلى أنفسنا، تكلنا إلى ضعف وعورة، وذنب وخطيئة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
عباد الله، إن المطر نعمة عظمى، ومنة كبرى، لا يقْدِر على خلقه وإغاثة الخلق به إلا الله تبارك وتعالى، قال الله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى: 28]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ?لأرْضِ وَإِنَّا عَلَى? ذَهَابٍ بِهِ لَقَـ?دِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـ?تٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـ?بٍ لَّكُمْ فِيهَا فَو?كِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 18، 19].
فأنزل الله المطر بقدر حاجة الخلق، على قطرات لا يتضرر منها الناس، وجعل الأرض مخزنًا للمطر قريبًا، يصل إليه الناس بالحفر والاستنباط، ولو شاء الله لغوَّره في مسارب الأرض فلا يقدرون منه على قطرة واحدة، ومن المطر ما يُجري الله تبارك وتعالى منه الأنهار، ويخرج منه الينابيع، قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ?لأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ [الزمر: 21].
الماء عنصر الحياة للحيوان والنبات، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ [الأنبياء: 30]. المطر يطيب به الهواء، وتستبشر به النفوس من الحاضر والباد، وتحيا به الأرض، وتهتزّ بأنواع النبات النافع، ويجلو عن وجه الأرض ونباتها الحشرات الضارة، ويدرُّ الله به الرزق، قال الله تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما علمت لكم غير المطر) [1].
أيها الناس، إنكم في غاية الافتقار والاضطرار إلى رب العالمين، مفتقرون إلى الله تبارك وتعالى ومضطرون إليه في نشأتكم وخلقكم وتكوين ذواتكم وصفاتكم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?مًا فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقًا ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون: 12-14].
أنتم ـ أيها الناس ـ مفتقرون ومضطرون إلى الله تعالى في طعامكم وشرابكم ولباسكم ومساكنكم ومراكبكم، قال الله تعالى: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا مَّتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس: 24-32]، وقال تعالى: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]. وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، كلكم عار إلى من كسوته، فاستكسوني أكسكم)) رواه مسلم من حديث أبي ذر [2] ، وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل: 80]، وقال عز وجل: وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ?لْفُلْكِ ?لْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42]، وقال عز وجل: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72].
وأنتم ـ أيها الناس ـ مفتقرون ومضطرون إلى الله تعالى في جلب كل نفع وخير ودفع كل شر وضر، قال الله عز وجل: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس: 107].
إنكم مفتقرون إلى الله ومضطرون إليه في الهداية التي عليها مدار السعادة والشقاوة، قال الله عز وجل: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف: 17]، وقال عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر: 15].
أيها الناس، إن لله سننًا في الكون، لا تتغير ولا تتبدل، قال الله تعالى: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43].
وقد جعل الله من سننه أن الطاعات سبب في كل خير في الدنيا والآخرة، وأن المعاصي سبب في كل شر في الدنيا والآخرة، وكل عقوبة في الدنيا والآخرة سببها عصيان الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه: 123، 124].
وما وقع بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، قال عز وجل: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود: 53].
فأصلحوا ـ عباد الله ـ ما بينكم وبين ربكم يصلح لكم أحوالكم، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، قال الله تبارك وتعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 10-14].
وإياكم وأعراضَ المسلمين وأموالهم ودماءهم وحقوقهم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وطهروا قلوبكم من الغل والحقد والحسد والكبر والتشاحن والتباغض والتدابر والمكر والخداع، واحذروا شعب النفاق، وأدوا زكاة أموالكم تطهِّروا نفوسكم، وإياكم وقطيعة الأرحام، وأحسنوا إلى الفقراء والأيتام.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن نزول الغيث في وقته وإحلال البركة فيه للخلق يكون بتقوى الله والعمل الصالح، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]. وبركات الأرزاق والأعمار والأموال والأولاد تكون باستقامة المسلم على دين الله وشرعه، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ وَلأدْخَلْنَـ?هُمْ جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 65، 66].
فاطلبوا البركات من الله بدوام طاعته والبعد عن معصيته، وفي الحديث: ((لولا شيوخٌ رُكَّع وأطفالٌ رُضّع وبهائمُ رتّع لصُبَّ عليكم العذاب صبًا)) [3] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا معشر المهاجرين، خمس بخمس، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلَّط الله عليهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم من قبل، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حبس عنهم القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا فأخذ بعض ما في أيديهم)) رواه ابن ماجه [4].
وأطيبوا ـ أيها الناس ـ مطاعمكم، أطيبوا مطاعمكم بأكل الحلال واجتناب المحرم من الربا والغش في التجارات والمعاملات وغيرها.
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة: 286]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف: 23]، رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لراحِمِينَ [المؤمنون: 118].
اللهم أنت الله الملك، كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود: 56]، خذ بنواصينا لما تحب وترضى.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، وَجِلَ عرشك من عظمتك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت اشتدَّ خوف حملة عرشك من عزتك وكبريائك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت رجفت السموات وصعقت الملائكة من جبروتك وقهرك وسماع كلامك، اللهم أنت ربنا ورب كل شيء، وسعت رحمتك كل شيء، عظم حلمك وعفوك عن خلقك، فأمسكت العقوبة يا رب العالمين، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? [النحل: 61].
سبحانك ربنا، هديت كل مخلوق في السماء والأرض، والبر والبحر، لما فيه نفعه وصلاح حياته، ما أجل شأنك ربنا، وما أعظم سلطانك، رزقت الطير في جو السماء ومجاهل الأرض، ورزقت الوحوش في البرية، والدواب في البر والبحر، أحصيتهم عددًا، ولم تنس منهم أحدا.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، سبحان الله وبحمده، رضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وعدد خلقه، سبَّحَ لله كل شيء من صامت وناطق، اللهم لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم ربَّ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومحمد أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهم خضعت لك رقابنا، وعنت لك وجوهنا، ومددنا لك أيدينا، وعظمت فيك رغبتنا، وحسن فيك ظننا، اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا، عاجلاً غير آجل، اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا عاجلا غير آجل، اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا عاجلا غير آجل، اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا هنيئا مريئا غدقا سحًّا عامًّا مجللا، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث يا رب العالمين، تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتنفع به الحاضر والباد، يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن رحمتك، اللهم إليك يا رب العالمين نسعى ونحفد، ولك نسجد، وإليك يا رب العالمين مددنا أيدينا، اللهم إنا نسألك أن تغيثنا، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم لا تردنا خائبين يا أرحم الراحمين.
عباد الله، ألحوا في الدعاء، وتضرعوا إلى الله عز وجل، وتوجهوا إليه تبارك وتعالى بالدعاء المخلص، فإنه تبارك وتعالى يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
فاسألوا ربكم فإنه ليس بينكم وبينه حجاب، فإنه تبارك وتعالى أمركم بالدعاء ووعدكم بالاستجابة، ومن أصدق من الله قيلاً.
واقلبوا أكسيتكم ولباسكم اقتداءً بالنبي [5] ، وتوجهوا إليه تبارك وتعالى.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليما كثيرا.
[1] انظر: تفسير البغوي (7/375).
[2] أخرجه مسلم في كتاب البر (4674).
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (22/309)، والبيهقي في السنن (3/345) من حديث مسافع الديلي رضي الله عنه، وضعفه الذهبي كما في فيض القدير (5/344)، والهيثمي في المجمع (10/227)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (4860). وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو يعلى (6402) والطبراني في الأوسط (7085)، والبيهقي (3/345)، قال الحافظ في التلخيص (2/97) : "في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وقد ضعفوه"، وبه أعله الهيثمي في المجمع (10/227). وله شاهد مرسل عن أبي الزاهرية عند أبي نعيم في الحلية (6/100)، وله شاهد من حديث ابن مسعود عزاه القرطبي في تفسيره (3/260) إلى الخطيب في السابق واللاحق من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[5] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (6069)، ومسلم في الاستسقاء (1011) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا توجد.
(1/5542)
خطبة استسقاء 20/11/1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
20/11/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المطر. 2- ضرورة الخلق إلى الماء. 3- افتقار الخلق إلى الله. 4- ما وقع بلاء إلا بذنب. 5- الأمر بالتوبة. 6- التقوى سبب البركات. 7- المعاصي أسباب البلايا والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إنكم شكوتم إلى الله جدْبَ دياركم، واستئخارَ المطر عن إبَّانِه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيبَ لكم، فقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر: 60].
اللهمَّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين، ولا أقلَّ من ذلك، فإنك إن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضعفٍ وعورة وذنبٍ وخطيئة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا ذنوبَنا فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
عباد الله، إن المطرَ نعمة عظمى ومنّة كبرى، لا يقْدِر على خلقه وإغاثة الخلق به إلا الله، قال الله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى: 28]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ?لأرْضِ وَإِنَّا عَلَى? ذَهَابٍ بِهِ لَقَـ?دِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـ?تٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـ?بٍ لَّكُمْ فِيهَا فَو?كِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 18، 19].
فأنزل الله المطرَ بقدرِ حاجة الخلق، على فتراتٍ لا يتضرّر منها الناس، وجعل الأرضَ مخزنًا للمطر قريبًا، يصل إليه الناسُ بالحفر والاستنباط، ولو شاء الله لغوَّره في مسارب الأرض فلا يقدرون منه على قطرةٍ واحدة، ومن المطر ما يُجري الله منه الأنهار، ويُخرج منه المنابيع، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ?لأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ [الزمر: 21].
الماءُ عنصر الحياة للحيوان والنبات، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]. المطر يطيب به الهواءُ، وتستبشر به النفوسُ من الحاضرة والبادية، وتحيى به الأرضُ، وتهتزّ بأنواع النبات النافع، ويجلّ عن وجه الأرض ونباتها الحشرات الضارة، ويدرُّ الله به الرزق، قال الله تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما علمتُ لكم غيرَ المطر) [1].
أيها الناس، إنكم في غاية الافتقار والاضطرار إلى ربِّ العالمين، مفتقرون إلى الله ومضطرّون إليه في نشأتكم وخلقكم وتكوين ذواتكم وصفاتكم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?مًا فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقًا ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون: 12-14].
مفتقِرون مضطرّون إلى الله تعالى في طعامكم وشرابكم ولباسكم ومساكنكم ومراكبكم، قال الله تعالى: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا مَّتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس: 24-32]، وقال تعالى: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي كلكُم عارٍ إلى من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم)) رواه مسلم من حديث أبي ذر [2] ، وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل: 80]، وقال عز وجل: وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ?لْفُلْكِ ?لْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42]، وقال عز وجل: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72].
وأنتم مفتقرون إلى الله ومضطرّون إلى الله في جلب كلِّ خيرٍ ونفع ودفع كل وشر وضرّ، قال عز وجل: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس: 107].
إنكم مفتقرون إلى الله ومضطرون إليه في الهداية التي عليها مدارُ السعادة والشقاوة، قال الله تعالى: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف: 17]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر: 15].
أيها الناس، إنَّ لله سننًا في الكون لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، قال الله تعالى: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43]. وقد جعل الله من سننه أنَّ الطاعات سببٌ في كل خير في الدنيا والآخرة، وأن المعاصي سببٌ في كلِّ شر وعقوبةٍ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه: 123، 124].
وما وقع بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود: 53].
فأصلحوا ـ عباد الله ـ ما بينكم وبين ربّكم يُصلحْ لكم أحوالكم، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
وإيَّاكم وأعراضَ المسلمين وأموالهم ودماءَهم وحقوقَهم؛ فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، وطهِّروا قلوبكم من الغلّ والحقد والحسد والكبر والتشاحن والتباغض والتدابر والمكر والخداع، واحذَروا شعبَ النفاق، وأدّوا زكاةَ أموالكم تطهِّروا نفوسَكم وتحصِّنوا أموالَكم، وإياكم وقطيعةَ الأرحام، وأحسنوا إلى الفقراء والأيتام.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ نزول الغيث في وقته وإحلالَ البركة فيه للخلق يكون بتقوى الله عز وجل والعملِ الصالح، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
وبركاتُ الأرزاقِ والأعمارِ والأموالِ والأولادِ تكونُ باستقامة المسلمِ على دين الله وشرعه، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ وَلأدْخَلْنَـ?هُمْ جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 65، 66]، فاطلبوا البركاتِ من الله بدوام طاعته والبعد عن معصيته، وفي الحديث: ((لولا شيوخٌ رُكَّع وأطفالٌ رُضّع وبهائمُ رتّع لصُبَّ عليكم العذاب صبًّا)) [3] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ بخمس، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرتِ الفاحشة في قوم إلا سلَّط الله عليهم الطاعون والأمراضَ التي لم تكن في أسلافهم من قبل، وما لم تحكم أئمتُهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما منعوا زكاةَ أموالهم إلا حُبس عنهم القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما نقضوا عهد الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا فأخذ بعضَ ما في أيديهم)) رواه ابن ماجه [4].
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة: 286]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف: 23]، رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون: 118].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، كل دابة أنت آخذٌ بناصيتها، إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود: 56]، خذ بنواصينا لما تحب وترضى.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، وَجِلَ عرشك من عظمتك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اشتدَّ خوف حملة عرشك من عزّتك وكبريائك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، رجفت السموات، وصعقت الملائكة من جبروتك وقهرك وسماع كلامك العظيم، اللهم أنت ربنا وربّ كل شيء، وسعتَ كلَّ شيء رحمة وعلما، عظم حلمُك وعفوُك عن خلقك، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? [النحل: 61].
سبحانك ربَّنا، هديتَ كل مخلوق في السماء والأرض والبرّ والبحر لما فيه نفعه وصلاح حياته.
اللهم أنتَ الله لا إله إلا أنت، ما أجلَّ شأنَك ربَّنا، وما أعظم سلطانك، رزقتَ الطيرَ في جو السماء ومجاهل الأرض، ورزقتَ الوحوش في البرية، والدوابَ في البرّ والبحر. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أحصيتهم عددًا، ولم تنسَ منهم أحدا.
اللهم استكانت النفوس، وخشعت القلوب، اللهم جفت الأشجار، وقلت الثمار، اللهم يا ذا الجلال والإكرام وتأخرت الأمطار.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. سبحان الله وبحمده، رضا نفسه، وزنةَ عرشه، ومدادَ كلماته. سبَّحَ لله وحمده كلّ شيء من صامت وناطق، اللهم لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد صلى الله عليهم وسلم، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهم خضعت لك رقابُنا، وفاضت بالدمع أعيننا، وصدقت لك توبتنا، ولن يضيق عفوك عن ذنوبنا. اللهم عنت لك وجوهنا، ومددنا لك أيديَنا، وعظمت فيك رغبتنا، وحسن فيك ظنّنا.
اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا، عاجلاً غير آجل، اللهم أنزل علينا غيثًا مغيثًا، عاجلاً غير آجل، اللهم تغيث به العباد، وتحيي به البلاد، ويكون بلاغا للحاضر والباد. اللهم أسق عبادك وبهائمك، وأحي بلدَك الميت. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهم غيثًا مغيثًا سحًّا عامًّا طبقًا مجلِّلا مباركا فيه يكون قوةً لنا وبلاغا إلى حين.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرًا، عددَ ما أحصاه كتاب الله، وملءَ ما أحصاه كتاب الله، وعددَ كل شيء، وملءَ كل شيء.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
توجَّهوا إلى الله أيها المسلمون، واضرعوا إليه بالدعاء، فإنه قريب مجيب، يجيب دعوة المضطرين، وهو أرحم الراحمين. واقلبوا أكسيتكم تأسيا برسول الله [5] ، واستقبلوا قبلتكم، وادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
[1] انظر: تفسير البغوي (7/375).
[2] أخرجه مسلم في كتاب البر (2577).
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (22/309)، والبيهقي في السنن (3/345) من حديث مسافع الديلي رضي الله عنه، وضعفه الذهبي كما في فيض القدير (5/344)، والهيثمي في المجمع (10/227)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (4860). وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو يعلى (6402)، والطبراني في الأوسط (7085)، والبيهقي (3/345)، قال الحافظ في التلخيص (2/97): "في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وقد ضعفوه"، وبه أعله الهيثمي في المجمع (10/227). وله شاهد مرسل عن أبي الزاهرية عند أبي نعيم في الحلية (6/100)، وله شاهد من حديث ابن مسعود عزاه القرطبي في تفسيره (3/260) إلى الخطيب في السابق واللاحق من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[5] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا توجد.
(1/5543)
خطبة استسقاء 17/1/1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
17/1/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المطر. 2- ضرورة الخلق إلى الماء. 3- افتقار الخلق إلى الله. 4- ما وقع بلاء إلا بذنب. 5- الأمر بالتوبة. 6- التقوى سبب البركات. 7- المعاصي أسباب البلايا والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، إنّكم شكوتُم جدْبَ دياركم واستئخارَ المطرِ عن إبَّانِ زمانِه عنكم، وقد أمَركم الله أن تدعوه، ووعَدكم أن يستَجيبَ لكم، فقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر: 60].
اللهمَّ لا تكِلنا إلى أنفسِنا طرفةَ عين، ولا أقلَّ من ذلك، فإنَّك إن تكِلنا إلى أنفسِنا تكِلنا إلى ضعفٍ وعورة وذنبٍ وخطيئة، وإنَّا لا نثِق إلا برحمتك، فاغفِر لنا ذنوبَنا فإنّه لا يغفِر الذنوب إلا أنت، وتُب علينا إنَّك أنتَ التواب الرحيم.
عبادَ الله، إنَّ المطرَ نعمةٌ عظمى ومنّة كبرى، لا يقْدِر على خلقِه وإغاثة الخلق به إلا الله، قال الله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى: 28]، وقال تبارك وتعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ?لأرْضِ وَإِنَّا عَلَى? ذَهَابٍ بِهِ لَقَـ?دِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـ?تٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـ?بٍ لَّكُمْ فِيهَا فَو?كِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 18، 19].
فأنزَل الله المطرَ بقدرِ حاجةِ الخلق، على قَطراتٍ لا يتضَرّر منها النّاس، وجعَل الأرضَ مخزنًا للمطَر قريبًا، يصِل إليه الناسُ بالحفرِ والاستنباط، ولو شاء الله لغوَّرَه في مسارب الأرض فلا يقدِرون منه على قطرةٍ واحدة، ومن المطَر ما يُجري الله منه الأنهَار، ويُخرِج منه المنابيع، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ?لأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ [الزمر: 21].
الماءُ عنصُر الحياة للحيوان والنَّبات، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ [الأنبياء: 30]. المطرُ يطيب بِه الهواءُ، وتستبشِر به النفوسُ من الحاضِرة والبادية، وتحيى به الأرضُ، وتهتزّ بأنوَاع النبَات النافع، ويجلُو عن وجهِ الأرض ونباتِها الحشراتِ الضارّة، ويدرُّ الله به الرّزق، قال تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما علمتُ لكم غيرَ المطر) [1].
أيّها النّاس، إنّكم في غايةِ الافتقار والاضطرار إلى ربِّ العالمين، مفتقرون إلى الله ومضطرّون إليه في نشأتِكم وخلقِكم وتكوين ذَواتِكم وصفاتِكم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?مًا فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقًا ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون: 12-14].
مفتقِرون ومضطرّون إلى الله في طعامِكم وشرابِكم ولباسِكم ومساكنِكم ومراكبِكم، قال الله تعالى: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا مَّتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس: 24-32]، وقال تعالى: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، كلكُم عارٍ إلى من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم)) رواه مسلم من حديث أبي ذرّ [2] ، وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل: 80]، وقال عز وجلّ: وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ?لْفُلْكِ ?لْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42]، وقال عز وجل: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72].
وأنتُم مفتقرون ومضطَرّون إلى الله في جلبِ كلِّ خيرٍ ونَفع ودَفع كلِّ وشرّ وضرّ، قال الله تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس: 107].
إنَّكم مفتقِرون إلى اللهِ ومضطرّون إليه في الهدايَة التي عليها مدارُ السّعادة والشقاوَة، قال عزّ وجلّ: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف: 17]، وقال عزّ وجلّ: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر: 15].
أيّها النّاس، إنَّ للهِ سننًا في الكونِ لا تتَغيَّر ولا تتبَدَّل، قال عزّ وجلّ: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43]. وقد جَعَل اللهُ مِن سننِه أنَّ الطاعاتِ سببٌ في كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وأنَّ المعاصي سببٌ في كلِّ شرّ وعقوبةٍ في الدنيا والآخرة، قال تبارك وتعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه: 123، 124].
ومَا وقَع بَلاءٌ إلا بذَنب، ومَا رُفِع إلا بتوبة، قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى عَن هودٍ عليه الصلاة والسلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود: 53].
فأصلِحوا ـ عبادَ الله ـ ما بينَكم وبينَ ربّكم يُصلحْ لكم أحوالَكم، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
وإيَّاكم وأعراضَ المسلمِين وأموالَهم ودماءَهم وحقوقَهم؛ فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة، وطهِّروا قلوبَكم من الغلّ والحِقد والحَسَد والكِبر والتشاحُن والتباغض والتدابُر والمكرِ والخِداع، واحذَروا شُعبَ النفاق، وأدّوا زكاةَ أموالكم تطهِّروا نفوسَكم، وإيّاكم وقطيعةَ الأرحام، وأحسِنوا إلى الفقراء والأيتام.
واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ نزولَ الغيث في وقتِه وإحلالَ البركة فيه للخلق يكون بتقوى الله والعملِ الصالح، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
وبَركاتُ الأرزاقِ والأعمارِ والأموالِ والأولادِ تَكونُ باستِقامة المسلمِ على دين الله وشرعه، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ وَلأدْخَلْنَـ?هُمْ جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 65، 66]. فاطلُبوا البركاتِ من اللهِ بدوامِ طاعتِه والبعدِ عن معصيتِه، وفي الحديث: ((لولا شيوخٌ رُكَّع وأطفالٌ رُضّع وبَهائمُ رتّع لصُبَّ عليكم العذاب صبًّا)) [3] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ بخمس، وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ: ما ظهرتِ الفاحشَة في قومٍ إلا سلَّط الله عليهِم الطاعونَ والأمراضَ التي لم تكن في أسلافِهم من قبل، وما لم تحكُم أئمَّتُهم بكتابِ الله إلا جعَل الله بأسَهم بينهم، وما منَعوا زكاةَ أموالهم إلا حُبس عنهم القطرُ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا، وما نقَصوا المكيالَ والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدَّة المؤنة وجورِ السلطان، وما نقضوا عهدَ الله وعهدَ رسولِه إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا فأخَذ بعضَ ما في أيديهم)) رواه ابن ماجه [4].
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف: 23]، رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون: 118].
اللهمَّ أنت الله الملك، لا إله إلا أنت، كلّ دابة أنت آخذٌ بناصيتها، إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود: 56]، خُذ بنواصينا لما تحبّ وترضَى.
اللهمَّ أنت الله لا إله إلا أنت، وَجِلَ عرشُك من عظمتِك. اللهمَّ أنت الله لا إله إلا أنت، اشتدَّ خوفُ حملةِ عرشك من عزّتِك وكبريائك. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، رجَفَت السموات وصعقت الملائكة من جبروتِك وقهرِك وسماعِ كلامك العظيم. اللهم أنت ربّنا وربّ كل شيء، وسعت رحمتك كلَّ شيء، عظم حلمُك وعفوُك عن خلقك، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? [النحل: 61].
سبحانَك ربَّنا، هدَيتَ كلَّ مخلوق في السَماء والأرض والبَرّ والبحر لما فيه نفعُه وصلاح حياته، وأوصلتَ إليه برَّك وإحسانك، لن تُطاع إلا بإذنك، ولن تعصَى إلا بعلمك، ما أجلَّ شأنَك ربَّنا، وما أعظمَ سلطانَك، رزقتَ الطيرَ في جوّ السماء ومجاهِل الأرض، ورزقتَ الوحوشَ في البريّة، والدوابَ في البرّ والبحر، أحصيتَهم عددًا، ولم تنسَ مِنهم أحدًا.
اللهمَّ استكانَت النفوس وذلَّت لعظمتك، اللهم خشَعَتِ القلوب لجبروتِك، اللهم استسلمت الجوارح لقدرتِك، اللهمَّ يبسَتِ الأشجار وقلَّتِ الثمار وهلكتِ البهائم والدوابّ من قلَّة الأمطار، اللهم لا إله لنا غيرك فندعوه، ولا ربَّ لنا سواك فنرجوه، أنت أرحم الراحمين، ربّ السماوات والأرض لا إله إلا أنت.
اللهمَّ أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين. سبحانَ الله وبحمده، رضا نفسِه، وزِنةَ عرشِه، ومدادَ كلماته، وعدد خلقه. سبَّحَ لله وحمدَه كلّ شيءٍ من صامتٍ وناطق، اللهم لا نُحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك.
اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمَّد ، أنزِل علينَا الغيثَ ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهمَّ خضعَت لك رقابُنا، وفاضَت بالدَّمع أعيننا، وصدَقت لك توبتُنا، ولن يضيقَ عفوُك عن ذنوبنا. اللهم عنَت لك وجوهُنا، ومدَدنا لك أيديَنا، وعظُمت فيك رغبتُنا، وحسُن فيك ظنّنا.
اللهمَّ أنزِل علينا غيثًا مغيثًا، عاجِلاً غيرَ رائث، اللهم تغيثُ به العباد، وتحيي به البلاد، ويكون بلاغًا للحاضر والباد. اللهم أسقِ عبادَك وبهائمك، وأحيِ بلدَك الميّت. اللهم سقيا رحمةٍ لا سقيا عذابٍ ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهم غيثًا مغيثًا سحًّا عامًّا طبَقًا مجلِّلا مبَارَكا يكون قوةً لنا وبلاغًا إلى حين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آله محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وسلّم عددَ ما أحصَاه كتاب الله، وملءَ ما أحصاه كتابُ الله، وعددَ كلّ شيء، وملءَ كلّ شيء.
سبحانَ ربّك ربّ العزّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
توجَّهوا إلى الله بالدعاء، واقلبوا ألبسَتكم تأسّيًا برسول الله [5].
[1] انظر: تفسير البغوي (7/375).
[2] أخرجه مسلم في كتاب البر (2577).
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (22/309)، والبيهقي في السنن (3/345) من حديث مسافع الديلي رضي الله عنه، وضعفه الذهبي كما في فيض القدير (5/344)، والهيثمي في المجمع (10/227)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (4860). وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو يعلى (6402)، والطبراني في الأوسط (7085)، والبيهقي (3/345)، قال الحافظ في التلخيص (2/97): "في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وقد ضعفوه"، وبه أعله الهيثمي في المجمع (10/227). وله شاهد مرسل عن أبي الزاهرية عند أبي نعيم في الحلية (6/100). وله شاهد من حديث ابن مسعود عزاه القرطبي في تفسيره (3/260) إلى الخطيب في السابق واللاحق من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[5] سنّة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا توجد.
(1/5544)
الإسلام دين المشاعر النبيلة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
حسن سعيد موسى سيد
الكويت
20/5/1427
مسجد الخياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حياة الآلة. 2- جفاف مشاعر الإنسان في هذا العصر. 3- الرابطة الإيمانية. 4- حث الإسلام على كل ما يقوّي الروابط بين أفراد المجتمع. 5- حقوق الأخوّة. 6- التحذير من كلّ م يعكّر صفو الأخوّة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الأمة الإنسانية في هذا الزمان قد ابتليت بحياة الصناعة والآلة حتى أثر ذلك في حياتهم كلها الخاصة منها والعامة، فها أنت ترى الناس اليوم يضغطون على زرّ في الحائط فتضيء لهم البيوت، ويفتحون الصنبور فيصب عليهم الماء صبا، ويديرون مفتاح السيارة فتنطلق بهم إلى حيث يشاؤون، وتجد الشباب يعانقون شاشات التلفاز بالساعات، ويحتضنون لوحة المفاتيح لأجهزة الحاسب الآلي، أو يداعبون هواتفهم المحمولة، ويرفع سماعة الهاتف فيحادث من شاء في أي وقت شاء وأينما كان، وانتشرت المصانع والآلات حتى إن من يسمّي هذا العصر بعصر الآلة لا يكون كاذبا.
غير أنه من البلاء أن هذه الآلة أثرت على المشاعر، حتى جعلت كثيرا من الناس يتعامل مع بعضهم البعض كالآلة، فاختفت ـ أو قُل: جفت ـ المشاعر وتباعدت وجهات النظر وانقطعت أواصر الحب والمودة بين كثير من طبقات المجتمع، حتى قطع الحبل بين الأخ وأخيه والابن وأبويه، وصار كلّ يتعامل مع غيره كأنه آلة لا مشاعر لها ولا إحساس، حتى صرنا نسمع عن كثير من المشكلات المعضلة التي تفشت في مجتمعاتنا المسلمة، فهذا ولدٌ قتل والده، وهذه بنت عقّت أمها، وهذا شاب يحمل والديه إلى دور العجزة، وهذا جار يشكو جاره، وهذا وهذا... وغيرها من المشكلات التي تنذر بالشر وتنبئ عن فساد في القلوب.
وها نحن ـ أيها الإخوة في الله ـ نحاول أن نمطر هذه الأرض المجدبة ببعض من أمطار الرحمة الإسلامية لعلها تبتل بعد جفاف، وتنبت المودة والمحبة بعد القحل والحرمان، وتنمو مشاعر الحب والمودة والحنان في مجتمعاتنا فنجني الثمرة النضرة، ويرجع المجتمع إلى السعادة الهنيّة، ويعود الناس إلى ما فقدوه في زمن الآباء والأجداد وزمن الصبا.
أيها الإخوة في الله، إنه وإن كان أهل المسجد هم صمام الأمان للمجتمع وهم نحسبهم والله حسيبهم أحرص الناس على الخير والبر ونربأ بهم عن تلكم الصفات ونظن بهم حسن الظن من جميل الخصال والأفعال، غير أن هذه تذكرة وموعظة لعل من سمعها يذكّر غافلا أو يشدّ على يد جاهل؛ لعل الله تعالى ينفع بها.
أيها المسلمون، إن دين الله تعالى بنى بين المسلم وأخيه والمجتمع المسلم أفرادا وجماعات روابط وأسُسا متينة مبنية على التقوى، ويحفظها الإيمان بالله تعالى، ويجمعها دين الإسلام، فقال عز من قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]، وقال سبحانه مقرِّرا أصل العلاقة بين المسلمين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]. فهذه هي أساس العلاقة بين المسلمين؛ الأخوَّة في الدين والاجتماع على الولاء لله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام البررة، إنه ما من صفة جميلة وخلة حميدة تعمل على ترابط المجتمع وتجمع الشمل وتنشر الودّ وتطرد البغض إلا أمر بها الإسلام، وما من خلّة ولا صفة ذميمة تفكّك المجتمع وتنشر بين أهله العداوة وتقيم العلاقة بين الناس على البغض والكره إلا ونهى الإسلام عنها، حتى يبقى المجتمع نظيفا طاهرا متماسكا قائما على الحب والمودة والرحمة، وصدق رسول الله حين قال: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رواه مسلم.
لقد أمر الإسلام بإفشاء السلام وصلة الأرحام، وبشّر أن هذه الأعمال من أعظم السبل إلى جنة الله تعالى، فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأَرْحَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ)) رواه ابن ماجة وأحمد والترمذي. فهذا كان من أول كلام النبي في بناء المجتمع المسلم حين هاجر إلى المدينة.
وفي سبيل تحقيق الترابط بين المسلمين بعضهم ببعض جعل النبي المسلم أخا المسلم، له حقوق وعليه واجبات؛ حتى تسير الحياة معتدلة لا حيف فيها، من أخذ حقه فليعط الذي عليه من الواجبات، فتسير بهم سفينة الحياة سعيدة هنيئة بإذن الله تعالى، فقال : ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه البخاري، وقال أيضا: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ)) رواه البخاري، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ)) ، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)) رواه مسلم، وقال أيضا: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم.
وجعل النبي الأخوة بين المسلمين كالبنيان، فهل ترى بنيانا يقوم كلّ حائط وحده أم حتى يكون بنيان فلا بد من الترابط والتواصل بين جدرانه؟! عن أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)) ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ جَالِسًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ)) رواه البخاري.
ونهى الإسلام عن كل شيء يعكّر صفو هذه المحبة ويقيم البغض، فنهى الشرع الحكيم عن الغيبة والنميمة والكذب والسبّ والظن السيّئ والبهتان وشهادة الزور، فضلا عما نهى عنه مما يقترف بالجوارح فعلا كالقتل والضرب والاعتداء وغير ذلك من الأعمال، ونهى عن قطيعة الأرحام، بل حتى نهى الشرع الحكيم عما يكون ذريعة لزرع البغض في القلوب والقطيعة في المجتمع، فنهى عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((لا يَحِلُّ لامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ، وَلا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ)) رواه أحمد.
وبعد هذه الصفات النبيلة التي دعا إليها الشرع فقد وعد الشارع الحكيم المتحابين فيه والمتعاونين في سبيله ومن يأخذ بعرى الأخوّة فضلا كبيرا وأجرا عظيما، قال : ((قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتى للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)) رواه أحمد ومالك، وعن أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ في صفة صلاة النبي قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا قَضَى صَلاتَهُ أَقْبَلَ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ)) ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَاسٌ مِنْ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ! انْعَتْهُمْ لَنَا يَعْنِي: صِفْهُمْ لَنَا، فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ لِسُؤَالِ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) رواه أحمد والترمذي ومالك.
فما أحوجنا أن نستمع إلى هذه الآيات وتلكم الأحاديث لتتشنّف بها الأسماع ولتهتز لها القلوب؛ عسى أن تلين القلوب بعد قسوة، وتتذكر وتأخذ عبرة وتعود المودة إلى سابق عهدها.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5545)
الشباب
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
حسن سعيد موسى سيد
الكويت
11/6/1427
مسجد الخياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الشباب. 2- عناية الإسلام بالشباب. 3- أصناف الشباب. 4- تربية النبي للشباب. 5- نصائح للشباب المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن شباب كلِّ أمة هم كنزها الحقيقي وذخرها الدائم، هم الساعد الذي تبني به مجدَها وتهزم به عدوها، وأطفال اليوم هم شباب الغد، وشباب اليوم هم رجال المستقبل، فبهمة الشباب وبخبرة الشيوخ تبني الأمم حضارتها، فمتى اعتمدت الأمة على الشباب دون الشيوخ كانت متهوِّرة وضائعة، ومتى اعتمدت على الشيوخ دون الشباب ضربها العجز والوهن وكانت في آخر ركب الأمم، فلا بد من قوة الشباب وحكمة الشيوخ حتى تسير سفينة الحياة ويستمرّ عطاء الأمم؛ لذا فعلى الشيوخ أن يورثوا الشباب الحكمة والحنكة والعقل والتجربة، وأن يربوهم على معالي الأمور وعظائم الأعمال، وما بكى الباكون وتأسّف المتأسفون على مثل فترة الشباب كما قال قائلهم:
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
وقال آخر:
وَيا عصرَ الشباب عليك منّي مَدى الدَهرِ التحيَّةُ وَالسَلامُ
لذا أيها الإخوة في الله، كان للإسلام دور كبير في توجيه الشباب المسلم إلى ما ينفعه، فإن الناظر إلى سيرة النبي يجد الشباب هم من أسلموا معه ونصروا الدين، فها هو النبي يُبعث على رأس الأربعين من عمره في أفضل أيام الشباب وأعظمها عطاء، ويسلم أصحابه من حوله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم وهم الشباب الذين حملوا همّ الدين وهمّ الإسلام، أما الشيوخ فقد خالفوه إذ إنهم قد تشربوا الكفر كابرا عن كابر، فمشوا على سيرة الآباء والأجداد فلم يسلم منهم إلى القليل ممن حكّم عقله وأعمل فكره وكان من الله تعالى له التوفيق.
ومن نظر إلى حال النبي وسنته وتعامله مع الشباب يجده يعلّم الشباب ويوجههم ويأخذ بأيديهم ويعطيهم سرَّه في بعض المواقف ويؤمّرهم على الجيوش، وهكذا حتى ينشأ الشباب على العفاف والطهارة والمسؤولية وتحمّل المواقف.
وها نحن ـ أيها الإخوة في الله ـ نرى شباب اليوم على طريقين، منهم من حمل همَّ أمته فاجتهد في دراسته، وفي أوقات فراغه التحق بالدورات العلمية والعمليّة التي تؤهّله لأن يكون عضوا صالحا في مجتمعه، فنفع الله به من حوله ونفع به المجتمع والأمة.
نَفَضَ الشّبابُ العَجزَ عن آمالهِ والعاجزون على الشُّعوب عِيالُ
وانسابَ يأبى أن يَعيبَ زَمانَهُ قِيلٌ يضيعُ به الزّمانُ وقالُ
لم يقضِ حاجَتَه ولم يظفرْ بِها في النّاس إلا القائل الفعّالُ
الأمرُ جِدٌّ ما به من ريبة والبعثُ حقٌّ ليس فيه جدالُ
والفريق الثاني ـ وهم كثير للأسف ـ بلا مسؤوليات، فتراه غاية همه قتل الوقت والفراغ، فتراهم يمشون في الشوارع يستعرضون شبابهم فيؤذون عباد الله، أو تراهم في المجمعات التجارية يطالعون الضارّ والنافع ويجرحون حياء المارة، أو يتعرضون للنساء في تلك المجمعات والأسواق، فهل هؤلاء الشباب استغلوا طاقاتهم بما يعود على مجتمعهم بالنفع؟! وهل ترى هؤلاء الشباب ممن يحمل هم أمته لينهض بها؟!
فالفريق الأول ينالون رضا المجتمع ودعواتهم لهم بالتوفيق، ويعتمد الأهل عليهم في بعض المهام لما يرون فيهم من صفات الرجولة والنضوج، أما الصنف الثاني فهو صنف لا ينال الاحترام والتقدير، بل ربما لا ينالون سوى الدعوات عليهم ممن آذوه وجرحوا مشاعره.
يقول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54]. فالشباب مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، فعلى الشاب أن يستغل شبابه ويغتنمه فيملأه بما يرضي ربه عنه وينفع به أمته، وكما قال الشاعر:
أَمَّا شَبابي فَلَم أَذمُم صَحابَتَهُ وَالشَّيبُ حينَ عَلاني زادَني وَرَعًا
أَصبَحتُ بَينَ الفَتَى وَالشَّيخ مُرتَدِيًا ثَوبَ الشَّبابِ بِثَوبِ الشَّيبِ مُقتَنِعا
أيها الشباب، لقد خاطب النبي عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو شاب فقال له: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)) ، وإن العبد ليُسأل عن العمر عامة وعن فترة الشباب خاصة كما جاء في الحديث، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((لا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟)) رواه الترمذي وقال: "حديث غريب". ولقد أثنى الله تعالى على فتية الكهف في القرآن وهم شباب قاموا لله تعالى مؤمنين، فحفظهم الله عز وجل وأثنى عليهم وجعلهم آية للناس إلى يوم القيامة، فقال: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13].
فيا أيها الآباء الكرام، ربوا شبابكم وأبناءكم على طاعة الله تعالى وعلى منهج رسول الله ، فقد كان النبي يعلّم الشباب ويوجّههم، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا فَقَالَ: ((يَا غُلامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)) رواه الترمذي وقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". فها هو النبي يربي ابن عباس ويعلمه ويوجهه إلى طاعة الله تعالى ومراقبته والاعتماد على الله عز وجل والرضا بقدره والثقة بما عند الله تعالى.
وها هو عمر بن أبي سلمة يقول: كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : ((يَا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)) رواه البخاري ومسلم. فها هو النبي يعلم عمر بن أبي سلمة كيفية الطعام وآدابه. ووجّه النبي المجتمع كلّه صغيرا وكبيرا إلى احترام الكبير توقيرا وتبجيلا ورحمة الصغير شفقة وإحسانا فقال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَر)) رواه الترمذي وأحمد وغيرهما.
وعليك ـ أيها الأب ـ أن تربي أبناءك على تحمل المسؤوليات وحفظ الأسرار، وهذا كان منهج النبي ، فانظر إلى هذا الموقف من سيرته : عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَأَخَذَ بِيَدِي فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ وَقَعَدَ فِي ظِلِّ حَائِطٍ أَوْ جِدَارٍ حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ فَبَلَّغْتُ الرِّسَالَةَ الَّتِي بَعَثَنِي فِيهَا، فَلَمَّا أَتَيْتُ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ فِي حَاجَةٍ لَهُ، قَالَتْ: وَمَا هِيَ؟ قُلْتُ: سِرٌّ، قَالَتْ: احْفَظْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ سِرَّهُ، قَالَ: فَمَا حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدُ. رواه أحمد.
وأمّر النبي عتاب بن أسيد على مكة وعمره سبع عشرةَ سنة، وكذا أمّر أسامة الجيش الذي فيه كبار الأصحاب وعمره سبع عشرة سنة.
فعلى الأب أن يربي ولده على رحمة الصغير وتوقير الكبير وحفظ السرّ ومراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن وتحمل المسؤوليات.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الشباب، عليكم بالتزام أمر الله تعالى وهدي النبي ، واعلموا أنكم كنز الأمة وقوتها وذخرها، فعليكم بما ينفع أمتكم وينفعكم في الدنيا والآخرة.
واحذروا ما يحاك للأمة من مؤامرات ومكر تقصَدون به أنتم مباشرة؛ لأنكم عصب الأمة، ويقصدكم كذلك تجار الموت الذين يجلبون المخدرات ويبحثون عن ضحاياهم من الشباب ليقتلوا فيهم الفكر والإبداع والعطاء ليبقى الشاب عبءًا على أمته ومجتمعه.
واعلموا أن الأيام تمر وأن الأزمان تنقضي، وغدا نلقى الله تعالى، فإذا الحساب بين يديه والعرض يوم القيامة عليه، فعليكم بما يسركم بين يدي الله تعالى، وإياكم وضياع الأوقات، فإن الفراغ نعمة من نعم الله تعالى، فعليكم باغتنامها والعمل فيها بما يرضي الله تعالى عليكم وينفع أمتكم ووطنكم، وعليكم بصديق الخير والجليس الصالح، وإياكم والجليس السوء، فإن المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، وجليس السوء يجرك إلى الردى وينقص من قدرك، وكما قيل: "قل لي من صديقك أقل لك من أنت". فصاحب من تغنم وتسعد به ولا تعضّ أصابع الندم يوم القيامة على صحبته، قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان: 27-29].
وها هو أبو الأسود الدؤلي يتوجّع على الشباب الذي ولى وأعقبه العجز بعد القوة:
غَدا مِنكَ في الدُنيا الشَبابُ فَأَسرَعا وَكانَ كَجارٍ بانَ مِنكَ فَوَدَّعا
فَقُلتُ لَهُ فاذهَب ذَميمًا فَليتَني قَتَلتُكَ عِلمًا قَبلَ أَن تَتَصَدَّعا
جَنَيتَ عَلَيَّ الذَنبَ ثُمَّ خَذَلتَني عَليهِ فَبِئسَ الخَلَّتانِ هُما مَعا
وَكُنتَ سَرابًا ماحِصًا إِذ تَرَكتَني رَهينَةَ ما أَجني مِنَ الشَرِّ أَجمَعا
نسأل الله تعالى أن يصلح شبابنا وأن يبارك فيهم ويجعلهم ذخرا للأمة، وأن يبعد عنهم المخدرات والأمراض ورفقاء السوء، وأن يبعد عنهم الزنا والربا والخمر والوبا، آمين.
(1/5546)
خطبة استسقاء 5/2/1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/2/1424
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة المطر. 2- ضرورة الخلق إلى الماء. 3- افتقار الخلق إلى الله تعالى. 4- ما وقع بلاء إلا بذنب. 5- الأمر بالتوبة. 6- التقوى سبب البركات. 7- المعاصي أسباب البلايا والمحن.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللهُ أكبَر، الله أكبَر، الله أكبَر، اللهُ أَكبر، اللهُ أكبر، الله أكبرُ، الله أكبَر، الله أكبَر، الله أكبَر، الله أكبَر، لا إلَه إلا الله، والله أكبَر، الله أَكبر، وللهِ الحَمد.
الحمدُ لله كثيرًا، وسُبحان الله بُكرةً وأصِيلا. الحمد للهِ ربِّ العالمين، الرَّحمن الرحيم، مالك يوم الدّين، لا إله إلا الله يفعَل ما يُريد. اللهمّ أنت الله، لا إله إلا أنت، أنتَ الغنيّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ واجعَل ما أنزلتَ لنا قوةً وبلاغًا إلى حِين.
الحمد لله الوليِّ الحميد، القويِّ المتين، المَرجوِّ لكشفِ كلِّ كربٍ شديد. نحمَد ربَّنا تبَارك اسمه وتعالى جدّه بما حمِد بِه نفسَه. وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العرشِ المجيد، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيَّدنا محمّدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، بلّغ الرسالة، ونصَح للأمَّة، وجاهَد في الله حقَّ جهادِه حتّى أتاه اليقين. اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمَّد، وعلى آله وصحبِه أجمَعين.
أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون، إنّكم شَكوتُم جدْبَ دِياركم واستئخارَ المَطرِ عن إبَّانِ زمانِه عنكم، وقد أمَركم الله أن تدعوه، ووعَدَكم أن يستَجيبَ لكم، فقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر: 60].
اللهمَّ لا تكِلنا إلى أنفسِنا طرفةَ عين، ولا أقلَّ من ذلك، فإنَّك إن تكِلنا إلى أنفسِنا تكِلنا إلى ضعفٍ وعورَة وذنبٍ وخطيئة، وإنَّا لا نثِق إلا برحمتِك، فاغفِر لنا ذنوبَنا فإنّه لا يغفِر الذنوبَ إلا أنت، وتُب علينا إنَّك أنتَ التواب الرحيم.
عبادَ الله، إنَّ المطرَ نعمةٌ عُظمى ومنّة كبرى، لا يقْدِر على خلقِه وإغاثة الخلق به إلا الله، قال الله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى: 28]، وقالَ تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ?لأرْضِ وَإِنَّا عَلَى? ذَهَابٍ بِهِ لَقَـ?دِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـ?تٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـ?بٍ لَّكُمْ فِيهَا فَو?كِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 18، 19].
فأنزَل الله المطرَ بقدرِ حاجةِ الخَلق، على قَطراتٍ لا يتضَرّر مِنها النّاس، وجعَل الأرضَ مخزنًا للمطَر قريبًا، يصِل إليه الناسُ بالحَفرِ والاستِنباط، ولو شاء الله لغوَّرَه في مسارب الأرض فلا يقدِرون منه على قَطرةٍ واحِدة. ومِن المطَر ما يُجري الله منه الأنهَارَ، ويُخرِج مِنه اليَنابيع، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ?لأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ [الزمر: 21].
الماءُ عُنصُر الحياةِ للحيوانِ والنَّباتِ، قال عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ [الأنبياء: 30]. المطرُ يَطيب بِه الهواءُ، وتَستبشِر به النفوسُ من الحاضِرة والبادية، وتحيا به الأرضُ، وتهتزّ بأنوَاع النبَاتِ النافع، ويجلُو عن وجهِ الأرض ونباتِها الحشراتِ الضارّة، ويُدرُّ الله به الرّزق، قال الله تعالى: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما علِمتُ لكم غيرَ المطر) [1].
أيّها النّاس، إنّكم في غايةِ الافتقار والاضطرار إلى ربِّ العالمين، مفتقرون إلى الله مضطرّون إليه في نَشأتِكم وخلقِكم وتكوين ذَواتِكم وصِفاتِكم، قال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنْسَـ?نَ مِن سُلَـ?لَةٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَـ?هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ?لنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ?لْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ?لْمُضْغَةَ عِظَـ?مًا فَكَسَوْنَا ?لْعِظَـ?مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـ?هُ خَلْقًا ءاخَرَ فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون: 12-14].
مفتقِرون ومضطرّون إلى اللهِ تعالى في طعامِكم وشَرابِكم ولِباسِكم ومساكنِكم ومراكبِكم، قال تعالى: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا مَّتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس: 24-32]، وقال تعالى: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عِبادي، كلّكُم عارٍ إلى من كسوتُه، فاستَكسُوني أكسُكم)) رواه مسلم من حديث أبي ذرّ [2] ، وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل: 80]، وقال عزّ وجلّ: وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ?لْفُلْكِ ?لْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42]، وقال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ أَفَبِ?لْبَـ?طِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ?للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72].
وأنتُم مُفتقرون ومضطَرّون إلى اللهِ في جلبِ كلِّ خيرٍ ونَفع ودَفع كلِّ شَرّ وضُرّ، قال عزّ وجلّ: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس: 107].
إنَّكم مفتقِرون إلى اللهِ ومضطَرّون إليه في الهدايَة التِي عليها مدارُ السّعادة والشقاوَة، قال الله تعالى: مَن يَهْدِ ?للَّهُ فَهُوَ ?لْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف: 17]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر: 15].
أيّها النّاس، إنَّ للهِ سُننًا في الكونِ لا تتَغيَّر ولا تتبَدَّل، قال عزّ وجلّ: فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43]. وقد جَعَل اللهُ مِن سُننِه أنَّ الطاعاتِ سببٌ في كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وأنَّ المعاصيَ سببٌ في كلِّ شرّ وعقوبةٍ في الدّنيا والآخرة، قال تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه: 123، 124].
ومَا وَقَع بَلاءٌ إلا بذَنب، ومَا رُفِع إلا بتَوبة، قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى عَن هودٍ عليه السلام: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود: 53].
فأصلِحوا ـ عبادَ الله ـ ما بينَكم وبينَ ربّكم يُصلحْ لكم أحوالَكم، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
وإيَّاكم وأعراضَ المسلمِين وأموالَهم ودِماءَهم وحقوقَهم؛ فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة، وطهِّروا قلوبَكم من الغلِّ والحِقد والحَسَد والكِبر والتشاحُنِ والتباغض والتدابُر والمكرِ والخِداع، واحذَروا شُعبَ النّفاق، وأدّوا زكاةَ أموالكم تطهِِّروا نفوسَكم، وإيّاكم وقطيعةَ الأرحام، وأحسِنوا إلى الفقراء والأيتام.
واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ نزولَ الغيثِ في وقتِه وإحلالَ البركة فيه للخَلق يكون بتقوى الله والعملِ الصالح، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
وبَركاتُ الأرزاقِ والأعمارِ والأموالِ والأولادِ تَكونُ باستِقامة المسلمِ على دِين الله وشرعِه، قال عزّ وجلّ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـ?تِهِمْ وَلأدْخَلْنَـ?هُمْ جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 65، 66].
فاطلُبوا البَركاتِ مِن اللهِ بدوامِ طاعتِه والبعدِ عن معصيتِه، وفي الحديث: ((لولا شيوخٌ رُكَّع وأطفالٌ رُضّع وبَهائمُ رتّع لصُبَّ عليكم العذاب صبًّا)) [3] ، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ بخمس، وأعوذ بالله أن تدرِكوهنَّ: ما ظهَرتِ الفاحشَة في قومٍ إلا سلَّط الله عليهِم الطاعونَ والأمراضَ التي لم تكُن في أسلافِهم من قبل، وما لم تحكُم أئمَّتُهم بكتابِ الله إلا جعَل الله بأسَهم بينهم، وما منَعوا زكاةَ أموالهم إلا حُبس عنهم القطرُ من السّماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا، وما نقَصوا المكيالَ والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدَّة المؤنة وجَورِ السلطان، وما نقَضوا عهدَ الله وعهدَ رسولِه إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا فأخَذ بعضَ ما في أيديهم)) رواه ابن ماجه [4].
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ?عْفُ عَنَّا وَ?غْفِرْ لَنَا وَ?رْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـ?نَا فَ?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة: 286]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف: 23]، رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون: 118].
اللهمَّ أنت الله الملك، لا إله إلا أنت، كلّ دابّة أنت آخذٌ بناصيتها، إِنَّ رَبّى عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود: 56]، خُذ بنواصينا لما تحبّ وترضَى.
اللهمَّ أنت الله لا إله إلا أنت، وَجِلَ عرشُك من عظمتِك. اللهمَّ أنت الله لا إله إلا أنت، اشتدَّ خوفُ حملةِ عرشِك من عزّتِك وكبريائك. اللهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، رجَفَت السموات وصعقت الملائكة من جبروتِك وقهرِك وسماعِ كلامِك العظيم. اللهمّ أنت ربّنا وربّ كل شيء، وسعت رحمتك كلَّ شيء، عظم حلمُك وعفوُك عن خلقِك، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَل?كِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى? [النحل: 61].
سبحانَك ربَّنا، هدَيتَ كلَّ مخلوق في السَماء والأرض والبَرّ والبَحر لما فيه نفعُه وصلاح حياته، وأوصلتَ إليه برَّك وإحسانَك، لن تُطاع إلا بإذنك، ولن تعصَى إلا بعلمك، ما أجلَّ شأنَك ربَّنا، وما أعظمَ سلطانَك، رزقتَ الطيرَ في جوّ السماء ومجاهِل الأرض، ورزقتَ الوحوشَ في البريّة، والدوابَ في البرّ والبَحر، أحصيتَهم عَددًا، ولم تنسَ مِنهم أحدًا.
اللهمَّ استكانَت النفوسُ وذلَّت لعظمتك، اللهمّ خشَعَتِ القلوب لجبروتِك، اللهمّ استسلمت الجوارح لقدرتِك، اللهمَّ يبسَتِ الأشجار وقلَّتِ الثمار وهلكتِ البهائم والدوابّ من قلَّة الأمطار، اللهمّ لا إله لنا غيرك فندعوه، ولا ربَّ لنا سِواك فنرجوه.
اللهمَّ أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين. سبحانَ الله وبحمده، رضا نفسِه، وزِنةَ عرشِه، ومدادَ كلماته، وعددَ خلقه. سبَّحَ لله وحمدَه كلّ شيءٍ من صامتٍ وناطِق، اللهمّ لا نُحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك.
اللهمّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمَّد ، أنزِل علينَا الغيثَ ولا تجعلنا من الآيسين.
اللهمَّ خضعَت لك رقابُنا، وفاضَت بالدَّمع أعينُنا، وصدَقت لك تَوبتُنا، ولن يضيقَ عفوُك عن ذنوبِنا. اللهمّ عنَت لك وجوهُنا، ومدَدنا لك أيديَنا، وعظُمت فيك رغبتُنا، وحسُن فيك ظنّنا.
اللهمَّ أنزِل علينا غيثًا مغيثًا، اللهمَّ أنزِل علينا غيثًا مغيثًا، عاجِلاً غيرَ آجِل، اللهمَّ أنزِل علينا غيثًا مغيثًا، عاجِلاً غيرَ آجِل، اللهمَّ أنزِل علينا غيثًا مغيثًا، عاجِلاً غيرَ آجِل، اللهمّ تُغيثُ بِه العباد، وتحيي به البلاد، ويكون بلاغًا للحاضر والباد. اللهم أسقِ عبادَك وبهائمك، وأحيِ بلدَك الميّت. اللهمّ سقيا رحمةٍ لا سُقيا عذابٍ ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهمّ غيثًا مغيثًا سحًّا عامًّا طبَقًا مجلِّلا مبَارَكا يكون قوّةً لنا وبلاغًا إلى حين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آله محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليما كثيرا، عددَ ما أحصَاه كتاب الله، وملءَ ما أحصاه كتابُ الله، وعددَ كلّ شيء، وملءَ كلّ شيء.
سبحانَ ربّك ربّ العزّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
استقبلوا بالدعاء القِبلة، وحوِّلوا لباسَكم، وارغبوا إلى الله عزّ وجلّ في الدّعاء، فإنّ الله تبارك وتعالى يجيب دعوةَ المضطرّين، ورحمتُه قريب من المحسنين.
[1] انظر: تفسير البغوي (7/375).
[2] صحيح مسلم: كتاب البر (2577).
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (22/309)، والبيهقي في السنن (3/345) من حديث مسافع الديلي رضي الله عنه، وضعفه الذهبي كما في فيض القدير (5/344)، والهيثمي في المجمع (10/227)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (4860). وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو يعلى (6402)، والطبراني في الأوسط (7085)، والبيهقي (3/345)، قال الحافظ في التلخيص (2/97): "في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وقد ضعفوه"، وبه أعله الهيثمي في المجمع (10/227). وله شاهد مرسل عن أبي الزاهرية عند أبي نعيم في الحلية (6/100). وله شاهد من حديث ابن مسعود عزاه القرطبي في تفسيره (3/260) إلى الخطيب في السابق واللاحق من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
لا توجد.
(1/5547)
خطبة استسقاء 2/12/1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
2/12/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله لا تعدّ ولا تحصى. 2- الافتقار إلى الله. 3- الحث على التوبة والاستغفار. 4- دعاء وابتهال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
اتقوا الله الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رافع لما خفض، ولا خافض لما رفع، العطايا من فضله ترتقب، وهو المرجوُّ لكشف الكرب، بدأنا بالنعم قبل الاستحقاق، ومنحنا ما لا يُحصى من أنواع الأرزاق، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?للَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18].
كيف يحصر نعمه حاصر، ونعمه مع صعدات الأنفاس وهجس الخواطر، وحركات الألسن ولمحات النواظر، أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، ومن كل نعمه ومننه أعطانا، ساق إلينا الأرزاق ونحن أجنة في بطون الأمهات، وأخرجنا من تلك المضائق والظلمات، وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لأبْصَـ?رَ وَ?لأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].
ليس لنا إذا ذبلت الأزهار، وذوت الأشجار ونقصت الأمطار وغار الماء واشتد البلاء ومات الزرع وجفّ الضرع إلا الله جل في علاه، لا إله إلا هو ولا رب سواه، يقول جل في علاه: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر: 15]، ويقول جل وعلا: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، ويقول تبارك وتعالى: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك: 30].
أيها المسلمون، إنكم خرجتم في هذا المكان المبارك تستسقون وتستغيثون، فأظهروا الحاجة والاضطرار والافتقار، واصدقوا في التوبة والاعتذار، وأكثروا من الاستغفار، واهجروا الذنوب والأوزار، واجتنبوا موارد الخسار، ومتارح البوار، واحذروا عملاً يقرّب إلى النار، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وادعُوا دعاء الغريق في الدجى، ادعوا وأنتم صادقون في الرجا، وظنوا بربكم كل جميل، وأمِّلوا كل خير جزيل، فهو أوسع من أعطى، خزائنه ملأى، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وهو الواسع الفضل جزيل العطاء، حيِيٌّ كريم يستحي أن يردَّ يدي عبده إذا رفعهما إليه صفرًا.
إليك مددنا بالرجاء أكفَّنا فحاشاك من ردِّ الفتى فارغَ اليد
فارفعوا أكفَّ الضراعة، وادعوا وأمِّنوا وأنتم موقنون بالإجابة.
اللهم أنت المدعوُّ بكل لسان، المقصود في كل آن، لا إله إلا أنت غافر الخطيئات، لا إله إلا أنت كاشف الكربات، لا إله إلا أنت مجيب الدعوات، لا إله إلا أنت مغيث اللهفات، أنت إلهنا، وأنت ملاذنا، وأنت عياذنا وعليك اتكالنا، وأنت رازقنا، وأنت على كل شيء قدير، يا أرحم الراحمين، يا خير الغافرين، يا أجود الأجودين، ويا أكرم الأكرمين، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، نسألك مسألة المساكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضعين الذليلين، وندعوك دعاء الخائفين الوجلين، سؤال من خضعت لك رقابهم، ورغمت لك أنوفهم، وفاضت لك عيونهم، وذلّت لك قلوبهم، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، غدقًا مغدِقا مونقًا، هنيئًا مريئًا، مريعًا مُرتعا مُربعا، ربيعًا طبقا مجلِّلا، نافعًا غير ضار، عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورًا، لتحيي به بلدة ميتا، وتسقيه مما خلقت أنعامًا وأناسي كثيرًا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والبلاء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم أنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم أنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء والعبيد، لا إله إلا أنت أنت الغني الحميد، اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، اللهم ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تسلب نعمتك عنا، وكن معنا يا ربنا حيث كنا، إن هي لا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، يا من عمَّ برزقه الطائعين والعاصين، وعمّ بجوده وكرمه جميع المخلوقين، جد علينا برحمتك وإحسانك، وتفضل علينا بغيثك ورزقك وامتنانك، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم وسِّع أرزاقنا، ويسّر أقواتنا، رحماك رحماك بالشيوخ الركع، والمسبِّحات الخشّع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، اللهم اسقنا واسق المجدبين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرّج عنا وعن أمة محمد أجمعين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرج عنا وعن أمة محمد أجمعين، اللهم هذا الدعاء، ومنك الإجابة، وهذا الجهد، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، فلا تردنا خائبين، اللهم صل على نبينا محمد النبي المصطفى المختار، اللهم صل عليه ما تعاقب الليل والنهار، اللهم صل عليه ما أزهرت الأشجار، اللهم صل عليه ما هطلت الأمطار، وسالت الأودية والأنهار، وفاضت العيون والآبار.
أيها المسلمون، اقلبوا أرديتكم تأسيا بسنة النبي محمد [1] ، وادعوا وأكثروا، جعل الله دعاءنا مسموعا، ونداءانا مرفوعًا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[1] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الاستسقاء (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا توجد.
(1/5548)
ونزل المطر
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
20/10/1422
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المطر نعمة من نعم الله العظيمة. 2- أوصاف المطر في القرآن ودلالتها على أهميته. 3-
واجب الشكر لهذه النعمة وكيفيته. 4- انقطاع المطر وحبسه بسبب الذنوب والمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بوصية الله لكم ولمن كان قبلكم؛ تقوى الله جل جلاله، فهي وصيته لخلقه الأولين والآخرين، يقول سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء: 131]. فاتقوا الله يا عباد الله، اجعلوا بينكم وبين عذاب ربكم وقاية؛ بفعل أوامره والبعد عما نهى عنه، فهو سبحانه القائل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من عباده المتقين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
أيها الإخوة، من النعم التي ينعم بها الرب جل جلاله على عباده ما أنعم به علينا في هذه الأيام من نعمة المطر، فإنزال المطر نعمة من أعظم وأجل نعم الله عز وجل، كيف لا وقد أشاد الله بها في كتابه وذكرها في سياق الامتنان على عباده؟! اسمعوا ما قال جل جلاله عن هذه النعمة، قال: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأرْضَ فِرَاشًا وَ?لسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ?لثَّمَر?تِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21، 22].
ففي هذه الآيات يأمر جل جلاله خلقه من الأنس والجن بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويذكرهم بأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي أوجدهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مهدا كالفراش، وجعل لهم السماء بناء، ثم ذكر هذه نعمة نعمة إنزال المطر فقال: وَأَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء. فيا لها من نعمة عظيمة ومنة كريمة!
ومما يدل على عظم قدر هذه النعمة أن الله عز وجل سماها بالغيث، وجعلها مظهرا من مظاهر رحمته، يقول سبحانه: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ?لْوَلِىُّ ?لْحَمِيدُ [الشورى: 28]، وفي سورة الأنبياء يقول: أَوَلَمْ يَرَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـ?هُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]. يقول ابن عباس : (كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات).
أيها الإخوة المؤمنون، ومما يدل على عظم نعمة المطر الأوصاف التي ذكر الله في كتابه، فأحيانا يصف الله المطر بالبركة، وأحيانا يصفه بالطهر، وأحيانا بأنه سبب للحياة، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة، يقول سبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء مُّبَـ?رَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـ?تٍ وَحَبَّ ?لْحَصِيدِ [ق: 9]، ويقول: وَهُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ ?لرّيَـ?حَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُورًا [الفرقان: 48]، ويقول: وَ?للَّهُ أَنزَلَ مِنَ ?لْسَّمَاء مَآء فَأَحْيَا بِهِ ?لأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذ?لِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل: 65]، وغير ذلك من الآيات. فالبركة والطهر وإحياء الأرض في هذا المطر يا عباد الله.
أيها الإخوة المؤمنون، إننا ـ والله ـ بحاجة لشكر الله عز وجل في كل وقت وفي كل حين، وعلى كل نعمة ينعم بها الله جل جلاله، وخاصة في هذه الأيام، فمن واجب الله علينا أن نشكره، فقد سقى البلاد والعباد، وأنزل هذا الماء الذي جعله سبب حياتنا، فمنه نشرب، ومنه نسقي حرثنا وأشجارنا، منه ـ أيها الإخوة ـ وبسببه ينمو الزرع ويدر الضرع بإذن الله تعالى.
أيها الإخوة، إننا إذا لم نشكر الله على نعمة المطر فإننا لن ننتفع منه، اسمعوها صريحة: إننا إذا لم نشكر الله على نعمة المطر فإننا لن ننتفع منه، بل سوف يجعله الله أجاجا غير صالح للاستعمال، يقول جل جلاله: أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، ومعنى أجاجا أي: مالحا لا ينتفع به.
إن الله عز وجل ـ والذي نفسي بيده ـ قادر أن يجعله أجاجا، قادر أن يجعله مالحا، لا ينبت زرعا، ولا يسقي إنسانا، ولا ينتفع به حيوان ولا غيره. يستطيع الله أن يجعل هذا الماء بعيدا، لا أحد يستطيع الوصول إليه، قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك: 30].
فلنشكر الله يا عباد الله، نشكره على هذه النعمة التي خصنا بها وأنزلها رحمة بنا، وليكن شكرنا شكرا حقيقيا، نشكره بألسنتنا، ونشكره بأعمالنا، نعمل شكرا له سبحانه، أليس هو القائل: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ: 13]؟! ولنحذر من كفران النعم، فإن النعم إذا شكرت زادت ودامت ونفع الله بها، وأما إذا كفرت فإنها تزول وتنتهي، نسأل الله السلامة.
فالله الله يا عباد الله، اجعلوا ألسنتكم تلهج بشكر الله، وجوارحكم تعمل بطاعة الله شكرا لله. أسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه سميع مجيب.
اللهم أيقظنا من رقدة الغافلين، وأغثنا بالإيمان واليقين، واجعلنا من عبادك الصالحين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وسلم تسليما كثيرا ما رأت عين وامتد نظر.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، يقول ربكم تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ ?لرّيَـ?حَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُورًا لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـ?مًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى? أَكْثَرُ ?لنَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان: 48-50].
يقول ابن كثير في تفسيره: وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ أي: أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا، والتي وراءها لم يُنزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: ليس عام بأكثر مطرا من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى? أَكْثَرُ ?لنَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ، أي: ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات، أو ليذكر من منع المطر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه، فالذنوب والمعاصي هي سبب كل شر، وهي طريق كل بلاء.
فالله الله يا عباد الله، لنحذر الذنوب والمعاصي.
أيها الإخوة المؤمنون، وعليكم بكثرة الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى والإيمان بالله والتقوى. أسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم احم حوزة الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، واستعمل علينا خيارنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العلمين...
(1/5549)
التدخين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
11/3/1428
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إرهاب الدخان. 2- ضحايا التدخين. 3- خبث الدخان. 4- أضرار التدخين الصحية. 5- ضرر التدخين على المال. 6- التدخين في المملكة. 7- المواد الضارة الموجودة في الدخان. 8- التدخين أذية للآخرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فاتقوا الله تعالى، واستغنوا بما أباح لكم من الطعام والشراب عما حرمه، فإنه ما من شيء ينفع الخلق من ذلك إلا أباحه فضلا منه وإحسانا، وما من شيء يضرهم إلا حرمه عليهم رحمة منه وامتنانا، فلله النعمة فيما أباحه من الطيبات، وله النعمة بما حرمه من الخبائث والمضرات، وعلى العباد أن يشكروا نعمته في الحالين، فيتناولوا ما أباحه لهم فرحين مغتبطين، ويتجنبوا ما حرمه عليهم سامعين مطيعين.
أيها الأحبة، موضوعنا هذا اليوم موضوع شائك، والحديث عنه ليس بالأمر السهل، ووالله لقد تردّدتُ كثيرًا في الحديث عنه وأجّلته أكثر من مرة، وما ذلك إلا تهيبًا أن لا نعطيه حقه من البيان والتجلية للناس.
حديثنا هذا اليوم عن الإرهاب، ليس الإرهاب الذي يتحدّث عنه الناس صباح مساء، بل هو أخطر، ومع تحذيرنا من الإرهاب الفكري والأمني إلا أننا أشدّ تحذيرًا من هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم، إنه الإرهاب الصحيّ الذي يفتك بالشعوب ويهلك الأمم ويخلّف البلاد ويقتل العباد، هل عرفتم عمَّ نتحدث؟! إنه حديث عن التدخين والمعسّل والجراك أجلكم الله. وإنا لنعتذر لإخواننا المدخنين، فوالله إنا لا نتحدث استهزاء ولا شماتة بهم، بل والله إنا لنشفق على كلّ من ابتلي بهذه البلية ونتحسّر على صحتهم ومالهم ودينهم.
أيها المؤمنون بربهم، وليس قولنا هذا من المبالغات في شيء، بل هي الحقيقة المرة التي لا مهربَ منها حتى ولو لم تظهر لأهل الشهوات والنزوات، وهل تصدقون أن القنبلة الذرية التي ألقِيت على هيروشيما لم تفعل بالناس مثلما يفعل التدخين؟! يقتل التدخين 4 ملايين شخص كل العام، وتقدِّر منظمة الصِّحّة العالمية أن يصل العدد إلى 10 ملايين شخص يتوفّون سنويا بحلول عام 2020م. وبالمقارنة فإن القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناكازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945م قتلت مباشرة 140 ألفًا ثم مات بعد ذلك عدد آخر بسبب الأشعة القاتلة، فيقدَّر العدد الإجمالي لضحايا القنبلتين الذريتين بربع مليون شخص، فكيف يمكن أن نقارن ضحايا التدخين ـ أربعة ملايين شخص يتوفون سنويا ـ بضحايا القنابل الذرية؟!
أخِي المسلم، حينَما أتحدَّث معك عن دَاءِ التّدخين وعن أضرارِه ومَساوئِه وآثارِه القبيحة على الفردِ والمجتمَع بل حتى البيئةِ فذاك نتيجةٌ لما توفَّر وعُرِف حَقًّا ما فيه من الضّرَرِ والبلاء، مما لا يبقِي شكًّّا لدى عاقلٍ أنَّ شريعةَ الإسلام تقِف من هذا الدّاء موقفَ التحريم والمنعِ والحَظرِ على المسلم أن يتعاطاه.
أيّها المسلم، إنَّ هذا الداءَ خبيثٌ بمَعنى الكلمة، والله يقول: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ، ويصِف نبيَّه بقولِه: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ. نَعم، إنّه خَبيثٌ بكلّ ما تحمِلُه الكلِمةُ من مَعنى؛ خبيثٌ في الرائحة، خبيث في الآثارِ على الإنسانِ عمومًا لو عادَ الإنسان إلى عَقلِه وفكّر وتأمَّل.
أما ضرره على البدن فإنه يضعف البدن ويضعف القلب ويحدث مرض السرطان والسلّ والسعال ويفضي إلى الموت، فكم من إنسان أنهك جسمه وأفسد صحته وقتل نفسه بما تعاطاه من هذا الدخان، ولا تغترّوا بما يُرى من بعض الناس الذين يشربونه وأجسامهم سليمة؛ فإن هؤلاء المدخنين ليسوا بحسب مظهرهم، واسألهم: ماذا يحدث لهم من قلة الشهية وكثرة السعال والنزلات الصدرية والفتور العام حتى في علاقته الجنسية مع زوجته؛ مما جعل التدخين سببا ضمن قائمة أسباب ظاهرة الطلاق والتعب الشديد عند أقل عمل وكلفة.
وهنا سؤال ورد على بعض الأطباء قد يجهله كثير من الذين يتعاطون الشيشة ويرون أنها أهون من تعاطي الدخان، يقول السائل: ما أثر تعاطي الشيشة؟ وهل تعاطيها أكثر من مرة في اليوم يزيد الضرر؟ وهل تؤثر على تناول الطعام أم أنها تفتح الشهية وتجعل الفرد يأكل كثيرًا؟ أجاب الدكتور: آثارها خطيرة وكثيرة ولو لمرة واحدة، فالدخان الجانبي منها يحتوي على 72 ملجرام أول أكسيد الكربون السام، علما بأن عادم السيارات به 45 ملجرام، ومبيد الحشرات به 55 ملجرام من هذا الغاز السام. وهذا يدلنا على أن ضرر الشيشة أشد من ضرر عادم السيارات والمبيدات الحشرية، هذا بالإضافة إلى أضرار الشيشة الاجتماعية التي ينتجها تعاطيها في أماكن مشبوهة لا يكاد يدخلها إلا من قلّ حياؤه فترك أهله وذهب ليسهر لوقت متأخّر من الليل.
أيها الأحبة، أما ضرر التدخين والشيشة في المال فاسأل من يشربه: ماذا ينفق كل يوم في شربه؟ ولو كان ينفق هذا المال فيما يعود عليه وعلى أهله بالنفع من الطعام الطيب والشراب الحلال واللباس المباح لكان ذلك خيرًا له في دينه ودنياه، ولكنه ينفق الكثير في هذا الدخان الذي لا يعود عليه إلا بالضرر العاجل والآجل، فنسأل الله لنا وله الهداية. أما من يتاجر به ويتكسّب به حتى صاروا بعد الإعواز واجدين وبعد الفقر مغتنين فلبئس ما كسبوا حرامًا واكتسبوا آثامًا، وإنهم لأغنياء المال فقراء القلوب، واجدون في الدنيا معدمون في الآخرة، وإنهم إن تصدّقوا به لم يقبل منهم، وإن أنفقوه لم يبارك لهم فيه، وإن خلّفوه كان زادًا لهم إلى النار.
أيها العقلاء، استمعوا إلى ما ذكرته صحيفة الشرق الأوسط حيث قالت: "وفي الوقت الذي يتناقص عدد المدخنين في الدول المتقدمة وهي الدول الأكثر إنتاجا للتبغ، فإن معدلات استهلاك السجائر في الدول النامية في ارتفاع مستمر... وتشير الدراسات والتقارير التي تناولت خطورة التدخين في المملكة إلى أن عدد الوفيات في المملكة والتي يكون التدخين من بين مسبِّباتها الرئيسية تقدر بنحو 23 ألف فرد في السنة، أي: بمتوسط 63 فردا يوميا" اهـ.
أيها الفضلاء، وفي المملكة العربية السعودية تعتبر هذه المشكلة أكثر استفحالاً وخطورة حيث أثبتت الدراسات أن ما يقارب 30 في المائة من سكان المملكة العربية السعودية يمارسون هذه العادة القاتلة، أي: ما يقارب ستة ملايين نسمة يعرِّضون أنفسهم للموت المحتّم إن لم يقلعوا عن هذه العادة.
ولو افترضنا أن الواحد من هؤلاء يدخن علبةَ دخانٍ بسعر خمسة ريالات يوميًا لعلمنا أنهم يدخنون يوميًا بثلاثين مليون ريال، ثم إذا ضربتَها في عدد أيام السنة لوجدتها ما يقرب من المليارين ريال سنويًا، وهذا على أقل التقديرات، ولو أنّ هذه المليارات صرفت فيما يعود بالنفع علينا وعلى وطننا الغالي لرأينا عجبًا، ولكنها تصرف لدول تعمل ليل نهار على تدمير الوطن والمواطن، فأين حبنا لديننا؟! وأين وطنيّتنا التي ندعيها؟!
وفي إحصائية نشرتها مجلة البيان الإسلامية في ملحقها السنوي عام 1423هـ، وهي نسبة تعدّ قديمة، قالت الإحصائية: "إنّ السعودية تحتلّ الرقم 23 في الترتيب العالمي للدول الأكثر استهلاكًا للسجائر، والترتيب الرابع في عدد المدخّنين.
فهل يكفي هذا ليكون رادعًا خاصة إذا علمنا أن التدخين صار ظاهرة بين طلاب المدارس بل وطالباتها فضلاً عن المعلمين والمعلمات الذين باعوا دينهم وصحتهم لسيجارة ومعسّل سمي معسلاً زورًا وبهتانا؟!
بل إن التدخين سبب من أسباب الوقوع في المخدّرات التي صارت وباء منتشرًا في المجتمعات، فأهلكت العباد وأنهكت البلاد وعطّلت التنمية في كثير من المجالات.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه، إنه كان غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهنا سؤال نوجهه إليكم أحبتنا في الله، وخاصة إلى إخواننا المدخنين الذين يتعاطون التدخين والشيشة ولا يعلمون حقيقتها، السؤال يقول: هل تعلم من أي شيء تتكون السيجارة؟ أعلمُ أنه سؤال محرج؛ ولهذا فإنّ من العيب أن يفعل الإنسان شيئًا لا يعرف حقيقته ولا تفصيلاته. وإليك ـ أخي الحبيب ـ بعض مكوّنات السيجارة والشيشة كما ذكرها موقع الجمعية الخيرية لمكافحة التدخين بالمملكة:
أهم المواد الداخلة في تركيب السجائر:
أولاً: القطران (القار): والتي تحمل معها العديد من المواد الكيميائية من مكونات الدخان الأخرى إلى داخل الرئة، ومنها إلى بقية الجسم. ومن المعروف الآن أن مادة القطران في دخان السجائر هي أحد مسببات سرطان الرئة وسرطان الحلق والأحبال الصوتية، وتعمل على الترسّب في الشفاه والأسنان وتحت الأظافر فتغيّر ألوانها، وتتسبّب مادة القطران في إضعاف جهاز المناعة عند المدخن؛ مما يكون له أسوأ الأثر في إمكانية مكافحة الأمراض، وبالتالي تعرض الجسم للعلل المختلفة.
ثانيًا: النيكوتين: وهذه هي المادة الكيميائية الأساسية المسؤولة عن التسبّب في إدمان تدخين السجائر، بل إن العديد من الدراسات تؤكد أن مادة النيكوتين في السجائر لا تقلّ خطورة في التسبّب في الإدمان من المخدرات الأخرى كالكوكايين والهيروين. وحينما يبدأ المدخن باستنشاق السيجارة فإن النيكوتين الداخل عن طريق الرئتين يُمتصّ إلى الدم، وفي غضون ثمان ثوان يصل النيكوتين إلى المخّ. كذلك يسبب النيكوتين في دخان السجائر زيادة في معدل ضربات القلب ومعدل ضغط الدم، ويسبّب تقلّصَ الأوعية الدموية في الجسم وبالأخص الشرايين؛ مما يعني أن على القلب أن يضخّ الدم بصورة أقوى حتى يستطيع أن يوفي بحاجة الجسم من الغذاء والأكسجين، وهذا مما يتعب ويرهق القلب حتمًا مع مضي الزمن. كما تعمل مادة النيكوتين على الترسّب في الشفاه والأسنان وتحت الأظافر فتغير ألوانها.
ثالثًا: أول أكسيد الكربون: وهو مادة غازية سامّة تنبعث مع دخان السجائر ومن عادم السيارات، وهي مادة الاحتراق الأولية، ويقوم هذا الغاز على إضعاف قدرة الخلايا الحمراء في الدم على حمل الأكسجين وتوصيله إلى خلايا الجسم المختلفة والتي لا تعيش إلا به.
رابعًا: مادة البنزين: وهي من المواد الصناعية المستخدمة في الأصباغ وفي صناعة بعض مواد البلاستيك والمطاط الصناعي والوقود، وهذه إحدى المواد المسببة لسرطان الدم (اللوكيميا).
عباد الله، ولقد تضاعفت نسبة المصابين بأمراض الصدر من الأطفال من خمسة بالمائة إلى خمسة وأربعين بالمائة بسبب دخان الأب أو الأم. ولقد امتدّ أذى التدخين فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وحال ركوبهم السيارات والطائرات، ولا حياء ولا خجل، مع أن من حق الناس أن يدافعوا عن صحتهم من كل من أراد أن يعتدي عليها، ولا رادع يردع متعاطيه إلا من شاء الله، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله قوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ((من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)). وكذلك يلحق الأذى بالملائكة الكرام الملازمين له، وإذا كان الرسول نهى مَن أكل ثومًا أو بصلاً أو كُرّاثًا أن لا يقرب المسجد وأن يعتزل مجتمعَ المسلمين مع وجوب صلاة الجماعة على الرجال لئلا يتأذّوا من رائحته حتى تزول ـ مع أنها من المباح ـ فكيف بالخبيث الذي هو الدخان والجراك وغيرها من الخبائث؟! روى الإمام مسلم رحمه الله أن رسول الله قال: ((من أكل البصل والثوم والكُرّاث فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى فيه بنو آدم)) ، هذا في الأشياءِ المباحةِ فكيف بالداءِ الخبيثِ الضارّ؟! إنّك تؤذِي إخوانَك، لا سيّما إن ضمَّك مجلسٌ أو مَراكِب طويلة المسافَة.
فاتَّق الله، ولا تؤذِ إخوانَك بهذا الضررِ العظيم، فإنّك تؤذيهِم واللهُ يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، بل استمع إلى قول نبيك المشفق عليك حيث قال : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)) رواه مسلم. فما الذي يضمن للمدخن أن يكون التدخين مانعًا لإجابة دعوته وهو يدعو ربه أن يعطيه من خير الدنيا والآخرة؟!
ثم إنه لا يجوز للإنسان أن يتناول شيئًا ثبت عند الأطباء قديمًا وحديثًا أنه مضرّ بالصحة ضررًا بالغًا، فإن المسلم لا يملك نفسه، وإنما حياته ملك لله الذي وهبه إياها، ولا فرق بين من يقتل نفسه بوسيلة عاجلة ومن يقتلها بسمّ بطيء، فكلاهما يودي بحياة الإنسان عاجلاً أم آجلاً، وأصل ذلك قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا وقال تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ.
وأخيرًا، قد يسأل سائل عن العلاج، فنقول: نعدكم بأن نذكر العلاج مفصَّلاً بإذن الله في خطبة الجمعة القادمة.
اللهم اشف إخواننا المدخنين وعافهم مما ابتُلُوا به، وامنَحهم الصحة والعافية، وأعنهم على الإقلاع عن هذا الداء العضال.
وصلوا على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين والصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والكفرة والملحدين، ودمر أعداء الدين...
(1/5550)
علاج التدخين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
18/3/1428
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصص مأساوية عن التدخين. 2- سبل وقاية المجتمع من التدخين. 3- طريق الإقلاع عن التدخين. 4- قصص لمقلعين عن التدخين. 5- ضرورة اللجوء إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فاتقوا الله عباد الله، فإنها هي الجسر الموصل لرحمة الله تعالى.
إخواني وأحبابي، حديثنا اليوم هو استكمال لحديث الجمعة الماضية الذي كان عن التدخين وآثاره على الفرد والمجتمع، واليوم سنتحدث عن العلاج الذي يجعل المدخن يقلع عن التدخين ويزيد الذين لا يدخّنون بعدًا عنه فلا يقعون فيه.
أيها المؤمنون، استمِعوا لقصة هذا الشاب وهو يتحدّث عن الشقاوة التي يعيشها، قال: أبي لم يحاول مطلقًا أن يترك السيجارة... وأتت المحاولة فقط عند اكتشاف إصابته بمرض السرطان واستطاع أن يتركها للأبد بموته بعد عام واحد فقط من معرفته بذلك، وأنا أفتقده الآن كثيرًا.
ولعل المنظَر المؤلم الذي يتكرّر كثيرًا حينما يكون الأب ممسكًا بالسيجارة ليستمتع بها في حضرة زوجته وأطفاله في البيت أو السيارة من المناظر التي تدلّ على مدى ما وصلت إليه أنانيّة ذلك الأب وقد أهلك نفسه وأسرته دون أن يشعر. ومن العجيب الذي فيه العبرة لكلّ مدخن أن المواطن الأمريكي مروّض الخيول والذي يظهر في دعايات التدخين واستُؤجر عام 1975م في مجلّة "مارلبورو" ودعاياتها المنتشرة في المجلات الأسبوعية العديدة ليظهر بدور المدخن الوسيم والقويّ لمارلبورو كان يدخن علبة ونصف علبة من السجائر يوميًا لمدة خمسة وعشرين عامًا، أصيب بسرطان الرئة عام 1990م، فصَبّ جام غضبه على من تسبّب في ذلك وهي الشركة المصنّعة للمارلبورو التي استأجرته، فأصبح مقاتلاً ضدّ التدخين حتى إنه ظهَر في اجتماع عام لحاملي أسهم هذه الشركة، وأمام الإعلام حذّرهم من أعمالهم وأنهم يقودون العالم إلى الموت، وطلب منهم أن يحدّوا من الدعايات الكاذبة للتدخين. وفي إحدى المقابلات قال هذا الرجل: "العادات كثيرة، لكن هل سمعتم أن العادة تقضي على صاحبها؟! إن عادتي قضت عليّ". خاض هذا الرجل معركة شرسة مع التدخين وكان من كلماته: "انتبهوا واهتموا بالأطفال من هؤلاء المخادعين، وبينوا لهم بأن التبغ سيقتلكم، وأنا مثال حي لإثبات ذلك". توفي عام 1992م بسبب التدخين.
وهذا شاب من أسرة طيبة كان شابًا محافظًا، دخل في المرحلة الثانوية، تعرّف على مجموعة من رفقاء السوء الذين أوقعوه بعد محاولات عديدة في وحل التدخين، بدأ يدخّن خفية، ثم اتّضح أمره لأهله فعاتبوه أشدّ العتاب، فقرّر ترك التدخين إرضاء لأمه، ولكن شياطين الإنس لم يدعوه بل حاولوا معه مرات وكرات حتى عاد مرة أخرى للوقوع في التدخين، ولم يتوقّف به الحال عند هذا الأمر، بل تطوّر الأمر في هذه المرّة حتى وقع في الحشيش، ثم وقع في شراك المخدّرات، وأصبح من المدمنين على هذه السموم المهلكة، وفي يوم من الأيّام عاد إلى البيت وهو يبحَث عن قيمة المخدّر كالمجنون، فسأل أمه قيمةَ المخدر فرفضت إعطاءه، فما كان من ذلك المجرم إلا أن قتل أمّه بسكين، ثم قام بأخذ ما عندها من المال، وليس هذا فحسب، بل قام بأخذها إلى مكان مهجور وأحرقها حتى يخفيَ جريمته الشنيعة، ولكن قُبِضَ عليه وأقيم عليه حدّ القتل، وكل هذا بسبب التدخين.
وقبل أن نذكر علاج التدخين يجدر أن نشير إلى نقاط مهمّة جدًا هي من أهمّ ما يقي المجتمع من هذه العادة القبيحة:
أولاً: لا بدّ من التربية الجادة المتكاملة التي تصنع شبابَ الأمة صناعة تجعلهم مؤهلين لأن يكونوا عوامل بناء ورقي بالوطن والأمة، تربية إيمانية وأخلاقية وثقافية وبدنية وفكرية، فإذا حصل ذلك فإنه لن يكون لحياة الضعف والترف والفراغ القبيح والوقوع في المفسدات وجود أبدًا، وهذه التربية الجادة هي مهمّة كلّ مسؤول في بيته ومدرسته ومؤسّسته الشبابية، وعلى قدر نقص تلك التربية أو انعدامها تشيع الفوضى الأخلاقية ويكثر الفساد بين الشباب.
ثانيًا: لا بد من تكامل الأدوار في مكافحة التدخين من جميع المؤسسات الحكومية والأهلية، فيصبح الجميع كلهم ضد هذا الوباء الذي يحدق بأعز ما يملكه الوطن والأمة وهم الشباب، وإن من المقت العظيم أن تجد مؤسسة تحارب التدخين وتبذل في سبيل ذلك الأموال الطائلة في الوقت الذي تجد فيه مؤسّسة أخرى تسمح برواج الدخان ولا تعده ممنوعًا، وهذا الذي أضر بنا كثيرًا، فالممنوع صحيًا ليس ممنوعًا تجاريًا، والمحرم شرعًا ليس محظورًا إعلامًا، وهذا أساس البلايا، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
ثالثًا: يجب أن تعطى هذه المسألة حقَّها كما أعطيت غيرها من القضايا، فتنشر الحملات، ويكثر التنبيه، ويزداد التحذير، ويشيع جو الهجر لكل من يعمل على ترويج مثل هذه السموم القاتلة، ويمنح المحلّ الذي لا يبيع الدخان وسامًا، ويكافأ الذي يقلع، ويحاسب المروج المقيت.
رابعًا: إن إبراز الإعلام لمن يقال عنهم أبطال ونجوم وإظهارهم على أنهم مدخّنون صار من أسباب وقوع بعض الشباب في وحل هذه البلية؛ لأنهم يبحثون عن الشهرة التي حصل عليها أولئك النجوم، فيرون أن من النجوميّة أن يكون الشاب مدخنًا، فينبغي أن لا يكون لأولئك التافهين تصدير في إعلامنا الذي هو مرآة حضارتنا وقيمنا.
أخي الحبيب، إنك إذا علمت خطر الوقوع في عادة التدخين القاتلة فيجب عليك أن تبحث عن العلاج بنفسك ولا تنتظر أن يأتيك العلاج في خطبة أو في صفحات مجلة أو على شاشات إعلام، وإن الموفَّق من وفقه الله للبدء عن البحث في علاج نفسه قبل أن يندم في وقت لا ينفع فيه الندم، وهذه خطوات ـ يا رعاك الله ـ هي في رأيي من أهمّ ما يجعل المدخّن يقلع عن التدخين بإذن الله تعالى:
أوّلها: قف مع نفسك وقفة صادقة، واعترف بأنك واقع في مشكلة تحتاج إلى علاج، فإن الاعتراف بالمرض بداية الشفاء بإذن الله تعالى، والتكبّر وتهوين القضية هو مما يجعلك تتمادى فيما أنت فيه، واعلم أن سبعين بالمائة من المدخنين الأمريكيين حاولوا الإقلاع عنه لعلمهم بضرره، فلا يكن أولئك أحرص منا ونحن المسلمون المتوكلون على الله.
ثم اعقد العزم على البداية الجادة في سبيل الإقلاع، واعلم أنك بهذا تكون قد صرت ضمن الباحثين عن الصحة والتوبة والحياة السعيدة، وتذكّر دائمًا أن هنالك من ينتظر منك هذه اللحظة، فأبواك وزوجتك وأبناؤك يريدون منك أن تعلنها صراحة بأنك أقلعت، واجعل قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] نصب عينيك.
أحبابي وإخواني، لقد هيّئت المراكز الصحية المتخصّصة في مكافحة التدخين، ووضعت البرامج التي تساعد المدخن على الإقلاع، وهناك من أنواع العلاج لدى تلك المراكز ما يعين الجسم على تقبّل البعد عن هذه العادة، ولِتعلمَ خطوات العلاج فما عليك إلا الاتصال بتلك المراكز التي تشتكي من قلة المراجعين مع كثرة المحتاجين لها، وإنّ مراجعة تلك المراكز لهي أهم من مراجعة كثيرٍ من المراكز التي تعالج أمراضًا أخرى، وقد تركت الحديث عن أنواع من العلاج حتى لا نخوض فيما ليس لنا به علم، ومرجعها إلى المراكز الصحية.
ومما يعتبر من خطوات العلاج أن يشغل المرء نفسه بما يبعده عن التفكير في تعاطي الدخان والشيشة ونحوها، فيشتغل بالرياضة والقراءة ومؤانسة الأهل والتنزه معهم. واعلم أنك غالٍ علينا وعلى أهلك وذويك فلا تدع الفرصة لسيجارة تفقدنا حبيبًا طالما اشتقنا إليه.
اللهم اشف كل مريض وعافِ كل مبتلى.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد: فإنك ـ أخي الحبيب ـ بإقلاعك عن التدخين تضيف رقمًا إلى عدد المقلعين وتزيد عدد الآباء الناصحين وتزيد عدد الأبناء الأوفياء الطيبين، فكن عند حسن ظنّ أهلك ووطنك وأمتك بك، وخاطب نفسك شجاعًا وقل لها: إن المطلوب والمنتظر مني أعلى وأسمى وأغلى من هذا العدو اللّدود، وإن استسلامي لسيجارة يمنعني من مقاومة أي عدو آخر.
واستمع إلى هذا الخبر الذي أورته الجمعية الخيرية لمكافحة التدخين، يقول الخبر: نجح مسن يبلغ من العمر 83 عامًا في الإقلاع عن التدخين نهائيًا, وذلك بعد أن دامت صحبته مع السيجارة لأكثر من 65 عامًا. يقول: بدأت التدخين عندما كان عمري 18عاما، وكانت البداية مجرد طيش لا أكثر، ولكنني وبعد مدة لا تتجاوز العام وجدت نفسي مدمنًا للتدخين, واستمرّ معي الحال إلى أن أصبحت أدخن 4 علب سجائر في اليوم. ويؤكد أبو مسفر أنه قد عانى كثيرا من التدخين: فمن الناحية الصحية سبّب لي التدخين انسدادًا في أحد الشرايين، كما أنه يعاني أيضًا من ضيق التنفس، ومن الناحية الاجتماعية يقول: كنت لا أهنأ بالجلوس مع أقاربي في المناسبات ولا مع عائلتي في المنزل، فأضطر للخروج بعيدًا من أجل تدخين السيجارة, وبعد 65 عامًا اكتشفت أنني لم أجنِ من التدخين سوى الهلاك والدمار للصحّة والمال، فقرّرت أن أقاطع السيجارة للأبد, واليوم وبعدَ الإقلاع عن التدخين شعرت بأنني ولدت للحياة من جديد.
وهذا رجل آخر يحدثنا عن سبب إقلاعه عن التدخين فيقول: إنه كان يستحيي حين يكون في مناسبات كبيرة يعدّها له أقاربه حينما يقدم عليهم من سفره وفي أثناء المناسبة يضطر للذهاب إلى دورات المياه ـ أجلكم الله ـ ليتعاطى التدخين، فوقف مع نفسه وقفة وسألها: كيف يعدُّ هؤلاء الناس المناسبات إكرامًا لي وأنا قد أهنت نفسي بتعاطي الدخان في هذه الأماكن القذرة؟! فقرر بعد ذلك الإقلاع عما كان سببًا في إهانته.
ثم إنا لا ننسى أهمّ علاج يعالج به المسلم أدواءه ويزيل به همومه وغمومه ويذهب به قلقه واكتئابه، إنه دواء الأدواء وسيد الدواء، إنه الالتجاء إلى الله تعالى والشكوى إليه سبحانه وطلب الشفاء منه جل وعلا، فهو الشافي وهو المعافي وهو مجيب دعوة المضطرين، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وليكن قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] نصب عينيك دائمًا، وروي مرفوعًا: ((ما ترك عبد شيئًا لله لا يتركه إلا له عوض الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه)) أخرجه أبو نعيم في الحلية.
فتعالَ أخي في الله، وقف بين يدي ربك تبارك وتعالى، واسأله أن يمنحك القدرة على التخلّص من هذا الداء العضال، واطلب منه الشفاء من كلّ داء، واطلب ممن حولك أن يدعوا لك بخير الدنيا والآخرة، وليكن تقرّبك إلى الله تعالى بأنواع القرب والطاعات خير معين لك في التخلّص مما حلّ بك، فإنك بتقرّبك من الله تعالى يرعاك ويكلؤك ويحفظك من كلّ ما تكره وتبتعد عن الشيطان وأعوانه. ولا تدع أهل الفسوق يستولون عليك، بل اترك مجالستهم واعتزل السهر والسفر معهم؛ فإن نفسك هي أغلى عليك منهم، ولا تكن لذة ساعة أثمن عندك من سعادة الدنيا والآخرة.
وفقك الله وشفاك، ونفعنا وإياك، وجعل الخير سبيلنا وسبيلك إلى نيل رضاه.
اللهم اشف إخواننا من كل ما ألمّ بهم، وعافهم مما ابتلوا به، وارزقهم سعادة الدنيا والآخرة، وردهم إلى أهليهم أصحاء سالمين يا رب العالمين. ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين المتوكلين عليه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
وصلوا ـ عباد الله ـ على نبي الرحمة وإمام المتوكلين والأمّة محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم تعالى بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، والصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5551)
أكرم الناس أتقاهم
الأسرة والمجتمع, الإيمان
فضائل الإيمان, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
15/10/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان مدني بالطبع. 2- الحث على الاجتماع والتحذير من الفرقة. 3- راية العرب في الجاهلية. 4- إبطال الإسلام لفخر الجاهلية. 5- التحذير من احتقار الآخرين. 6- العزة بطاعة الله. 7- ذم التكاثر بالأموال والأولاد والعشيرة. 8- التحذير من العصبيات القبلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
أيُّهَا المُسلِمُونَ، الإِنسَانُ اجتِمَاعِيٌّ بِطَبعِهِ، مَيَّالٌ بِفِطرَتِهِ إِلى بَني جِنسِهِ، يَألَفُهُم وَيَأنَسُ بهم، وَيَأوِي إِلى مُجتَمَعَاتِهِم وَيَسكُنُ إِلَيهِم، وَمُنذُ أَن وُجِدَ النَّاسُ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ وَهُم يَجتَمِعُونَ وَيَأتَلِفُونَ، وَيَتَّحِدُونَ وَيَتَحَالَفُونَ، وَلا شَكَّ أَنَّ الاجتِمَاعَ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ وَرَحمَةٌ، وَالتَّفَرُّقَ ضَعفٌ وَتَخَاذُلٌ وَعَذَابٌ، وَلَقَد دَعَا الإِسلامُ إِلى الاجتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَأَمَرَ بِهَا، وَذَمَّ الفُرقَةَ وَالاختِلافَ وَالتَّخَاذُلَ وَنهى عَنهَا، قَالَ سُبحَانَهُ: وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ اللهَ تعالى يَرضَى لَكُم ثَلاثًا، وَيَكرَهُ لَكُم ثَلاثًا، فَيَرضَى لَكُم أَن تَعبُدُوهُ وَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَأَن تَعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جميعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَأَن تُنَاصِحُوا مَن وَلاَّهُ اللهَ أَمرَكُم، وَيَكرَهُ لَكُم قِيلَ وَقَالَ، وَكَثرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((الاجتِمَاعُ رَحمَةٌ، وَالفُرقَةُ عَذَابٌ)) ، وَقَالَ: ((المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا)) ، وَقَالَ: ((المُؤمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم، وَهُم يَدٌ عَلَى مَن سِوَاهُم، وَيَسعَى بِذِمِّتِهِم أَدنَاهُم)) ، وَقَالَ: ((المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ، لا يَخُونُهُ وَلا يَكذِبُهُ وَلا يَخذُلُهُ)).
وَقَد كَانَتِ العَرَبُ في الجَاهِلِيَّةِ تَجتَمِعُ تَحتَ رَايَةِ القَبِيلَةِ، وَتَضُمُّ صُفُوفَهَا تَحتَ لِوَاءِ العَشِيرَةِ، مُعتَزَّةً بِأَنسَابِهَا مُفَاخِرَةً بِأَحسَابِهَا، يَعقِدُونَ لِذَلِكَ الأَسوَاقَ وَالمُنتَدَيَاتِ وَالمَجَامِعَ، وَيُلقُونَ فِيهَا الأَشعَارَ وَالأَرَاجِيزَ وَالمُعَلَّقَاتِ، وَيَخطُبُ خُطَبَاؤُهُم وَيَتَفَاصَحُونَ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسلامُ أَبطََلَ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُم بِأَيِّ شَيءٍ يَكُونُ الفَخرُ وَعَلامَ يَكُونُ الاجتِمَاعُ، قَالَ سُبحَانَهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، وقَالَ : ((إِنَّ أَنسَابَكُم هَذِهِ لَيسَت بِسِبَابٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنما أَنتُم وَلَدُ آدَمَ، طَفُّ الصَّاعِ لم تملَؤُوهُ، لَيسَ لأَحَدٍ فَضلٌ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِالدِّينِ أَو عَمَلٍ صَالحٍ)). قَالَ ابنُ الأَثِيرِ رحمه اللهُ: "وَالمَعنى: كُلُّكُم في الانتِسَابِ إِلى أَبٍ وَاحِدٍ بِمَنزِلَةٍ وَاحِدَةٍ في النَّقصِ وَالتَّقَاصُرِ عَن غَايَةِ التَّمَامِ، وَشَبَّهَهُم في نُقصَانِهِم بِالمَكِيلِ الذِي لم يَبلُغْ أَن يَملأَ المِكيَالَ، ثم أَعلَمَهُم أَنَّ التَّفَاضُلَ لَيسَ بِالنَّسَبِ وَلَكِنْ بِالتَّقوَى". وَعَن أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أَنَّ النَّبيَّ قَالَ لَهُ: ((اُنظُرْ ؛ فَإِنَّكَ لَستَ بِخَيرٍ مِن أَحمَرَ وَلا أَسوَدَ إِلاَّ أَن تَفضُلَهُ بِتَقوَى)) ، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبيِّ : مَن أَكرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: ((أَكرَمُهُم أَتقَاهُم)) ، قَالُوا: يَا نَبيَّ اللهِ، لَيسَ عَن هَذَا نَسأَلُكَ، قَالَ: ((فَأَكرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ، نَبيُّ اللهِ ابنُ نَبيِّ اللهِ ابنِ نَبيِّ اللهِ ابنِ خَلِيلِ اللهِ)) ، قَالُوا: لَيسَ عَن هَذَا نَسأَلُكَ، قَالَ: ((فَعَن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسأَلُونَني؟)) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ((فَخِيَارُكُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُم في الإِسلامِ إِذَا فَقُهُوا)). وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذهَبَ عَنكُم عِبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخرَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِن تُرَابٍ، مُؤمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، لَيَنتَهِيَنَّ أَقوَامٌ يَفتَخِرُونَ بِرِجَالٍ إِنَّمَا هُم فَحمٌ مِن فَحمِ جَهَنَّمَ أَو لَيَكُونُنَّ أَهوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجِعلانِ التي تَدفَعُ النَّتنَ بِأَنفِهَا)).
وَأَمَّا حِينَ يَقتَرِنُ الفَخرُ بِالنَّفسِ بِاحتِقَارِ الآخَرِينَ وَازدِرَائِهِم وَيَصحَبُهُ تَنَقُّصُهُم وَالسُّخرِيَةُ بهم فَكَفَى بِهِ شَرًّا، قال : ((بِحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ)) ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((اِنتَسَبَ رَجُلانِ عَلَى عَهدِ مُوسَى فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلانُ بنُ فُلانٍ حَتى عَدَّ تِسعَةً، فَمَن أَنتَ لا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلانُ بنُ فُلانِ ابنِ الإِسلامِ، فَأَوحَى اللهُ إِلى مُوسَى أَن قُلْ لِهَذَينِ المُنتَسِبَينِ: أَمَّا أَنتَ أَيُّهَا المُنتَسِبُ إِلى تِسعَةٍ في النَّارِ فَأَنتَ عَاشِرُهُم في النَّارِ، وَأَمَّا أَنتَ أَيُّهَا المُنتَسِبُ إِلى اثنَينِ في الجَنَّةِ فَأَنتَ ثَالِثُهُمَا في الجَنَّةِ)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لا شَكَّ أَنَّهُ لا عِزَّ لِلإِنسَانِ بِغَيرِ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ وَالإِخلاصِ لَهُ، وَلا رَافِعَ لِشَأنِهِ وَمُنجِيَ لَهُ ممَّا يَحذَرُ إِلاَّ عَمَلُهُ الصَّالحُ وَسَعيُهُ لآخِرَتِهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ، وقال تعالى: وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذمُومًا مَدحُورًا وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَشكُورًا.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخوَةُ، العِزَّةُ للهِ وَبِاللهِ، العِزَّةُ للهِ العَزِيزِ القَهَّارِ، مَالِكِ المُلكِ الذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ. العِزَّةُ بِالكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ، العِزَّةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ المُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ، العِزَّةُ لِمَن وَالاهُ اللهُ وَأَعَزَّهُ بِطَاعَتِهِ وَتَقوَاهُ، وَفي حَدِيثِ القُنُوتِ المَشهُورِ: ((إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَن وَالَيتَ وَلا يَعِزُّ مَن عَادَيتَ)) ، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: الكِبرِيَاءُ رِدَائِي وَالعِزِّةُ إِزَارِي، فَمَن نَازَعَني وَاحِدًا مِنهُمَا أَلقَيتُهُ في النَّارِ)).
وَمِن هُنَا ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ فَقَد أَبدَلَ اللهُ النَّاسَ بِاجتِمَاعَاتِ الجَاهِلِيَّةِ المَبنِيَّةِ عَلَى المُفَاخَرَةِ وَالتَّكَاثُرِ وَالتَّنَابُزِ وَالتَّهَاجِي، أَبدَلَهُم بها اجتِمَاعَاتِ الطَّاعَةِ وَالتَّقوَى، في صَلاةِ الجَمَاعَةِ وَصَلاةِ العِيدَينِ وَنَحوِهَا، وَفي الحَجِّ وَالجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ وَمُحَارَبَةِ الأَعدَاءِ، وَفي الاجتِمَاعِ عَلَى الذِّكرِ وَشُكرِ النِّعَمِ. وَحِينَ تُرِيدُ الأُمَّةُ العِزَّةَ وَتَبحَثُ عَنِ الكَرَامَةِ فَعَلَيهَا أَن تَتَّقِيَ اللهَ وَتَتَرَقَّى في مَرَاقِي العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَن تَجتَمِعَ عَلَى مَا يُرضِي اللهَ وَيُقَرِّبُ إِلَيهِ، أَمَّا التَّفَاخُرُ بِالنَّسَبِ وَالحَسَبِ وَالاجتِمَاعُ عَلَى رَوَابِطَ قَبَلِيَّةٍ وَأَوَاصِرَ عَصَبِيَّةٍ وَلأَهدَافٍ دُنيَوِيَّةٍ فَهُوَ وَإِن رَاقَ لِبَعضِ قَاصِرِي النَّظرِ وَأَعجَبَهُم وَارتَفَعَت لَهُ رُؤُوسُهُم فَمَا هُوَ إِلاَّ تَلاعُبٌ مِنَ الشَّيطَانِ لِتَمزِيقِ وحدَةِ الأُمَّةِ وَبَعثَرَةِ صُفُوفِهَا، وَمِن ثَمَّ إِضعَافُهَا وَإِبقَاؤُهَا في المُؤَخِّرَةِ.
إِنَّ التَّكَاثُرَ بِالمَالِ وَالوَلَدِ وَالعَشِيرَةِ لم يَنفَعْ أَبَا جَهلٍ وَلا أَبَا لهبٍ وَلا الوَلِيدَ بنَ المُغِيرَةِ لَمَّا تَكَبَّرُوا عَنِ الإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ، قَالَ سُبحَانَهُ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالمُهلِ يَغلِي في البُطُونِ كَغَلْيِ الحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعتِلُوهُ إِلى سَوَاء الجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوقَ رَأسِهِ مِن عَذَابِ الحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ ، وَقَالَ تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغنَى عَنهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: ذَرني وَمَن خَلَقتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدبَرَ وَاستَكبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحرٌ يُؤثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَولُ البَشَرِ سَأُصلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلبَشَرِ عَلَيهَا تِسعَةَ عَشَرَ.
وَلَمَّا كَانَت وَفرَةُ الأَموَالِ وَكَثرَةُ الأَولادِ تَغُرُّ كَثِيرًا وَتَمنَعُهُم مِنَ الهِدَايَةِ وَتَصُدُّهُم عَنِ الحَقِّ فَقَد بَيَّنَ الحَقُّ سُبحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَن يُغنيَ عَن صَاحِبِهِ يَومَ القِيَامَةِ شَيئًا؛ لِيَحذَرَ ذَلِكَ العِبَادُ وَيَتَّقُوهُ، قَالَ تعالى: وَمَا أَرسَلنَا في قَريَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحنُ أَكثَرُ أَموَالاً وَأَولادًا وَمَا نَحنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ وَمَا أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُم عِندَنَا زُلفَى إِلاَّ مَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُم جَزَاءُ الضِّعفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُم في الغُرُفَاتِ آمِنُونَ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَىَ شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تهتَدُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأَطِيعُوا رَبَّكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخشَوا يَومًا لا يَجزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَولُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيئًا إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعِيرِ.
ألا وَإِنَّ مِن عَدَاوَةِ الشَّيطَانِ لِلمُسلِمِينَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ أَن سَلَّطَ عَلَيهِم مَن يُوقِدُ فِيهِم نَارَ العَصَبِيَّاتِ بَينَ حِينٍ وَآخَرَ لِيُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُم وَيُخَالِفَ بَينَ كَلِمَتِهِم، وَلِيَرجِعَ بهم إِلى جَاهِلِيَّاتٍ كَرِيهَةٍ مُنتِنَةٍ، وَيَعُودَ بهم إِلى مُفَاخَرَاتٍ مَقِيتَةٍ مُهلِكَةٍ، وَذَلِكَ مِصدَاقُ قَولِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ الشَّيطَانَ قَد أَيِسَ أَن يَعبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَلَكِنْ في التَّحرِيشِ بَينَهُم)). وَإِنَّ أُمَّةَ الإِسلامِ لم تُرزَأْ في تَارِيخِهَا بِمِثلِ حَصرِهَا في عَصَبِيَّاتٍ قَبَلِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ، أَو تَقيِيدِهَا بِأَحزَابٍ وَطَنِيَّةٍ خَادِعَةٍ، أَو تَعلِيقِهَا بِشِعَارَاتٍ جَوفَاءَ وَهُتَافَاتٍ حمقَاءَ، وَيَا للهِ كَم نجحَ أَعدَاءُ الإِسلامِ في إِخرَاجِ النَّاسِ مِن سَعَةِ الإِسلامِ وَعَدلِهِ وَصَفَائِهِ إِلى ضِيقِ تِلكَ العَصَبِيَّاتِ وَجَورِهَا وَكَدَرِهَا! إِنهم يُطعَنُونَ في قُلُوبِهِم يَومَ أَن يَرَوا أُمَّةَ الإِسلامِ صَفًّا وَاحِدًا، وَيَعلَمُونَ مَدَى الخَطَرِ عَلَيهِم مِنهَا إِذَا هِيَ اعتَصَمَت بِحَبلِ اللهِ وَاجتَمَعَت، فَيَسعَونَ جُهدَهُم لِتَمزِيقِهَا وَتَفرِيقِهَا وَشَغلِهَا بِأَنفُسِهَا عَن غَيرِهَا؛ لِيَتَفَرَّغُوا هُم لِمَا أَرادُوهُ بها، فَيَقتُلُوا وَيَسلُبُوا، وَيَتَحَكَّمُوا في الثَّرَوَاتِ وَالمَصَالحِ، وَيُملُوا عَلَى الشُّعُوبِ مَا يُرِيدُونَ، وَيَبُثُّوا ثَقَافَةَ الكُفرِ وَالانحِلالِ وَالابتِعَادِ عَن مَنهَجِ اللهِ، كُلّ ذَلِكَ وَالأُمَّةَ غَافِلَةٌ لاهِيَةٌ، مَشغُولَةٌ بِتَردِيدِ أَشعَارِ مُفَاخَرَةٍ وَرَفعِ شِعَارَاتٍ خَادِعَةٍ، مُكتَفِيَةً بِتَمَدُّحٍ وَتَكَثُّرٍ بِمَالٍ وَوَلَدٍ وَعَشِيرَةٍ، مُتَزَيِّنَةً بِمَا لَدَيهَا مِن سَوَائِمَ وَبَهَائِمَ.
أَلا فَرَحِمَ اللهُ امرأً اعتَزَّ بِدِينِهِ وَافتَخَرَ بِتَقوَاهُ، وَأَهَمَّهُ أَمرُ أُمَّتِهِ وَاشتَغَلَ بِمَا يُصلِحُ شَأنَهَا وَيُعلِي بُنيَانَهَا، وَعَمِلَ عَلَى اجتِمَاعِ كَلِمَتِهَا عَلَى الحَقِّ، وَحَذرَ وَحَذَّرَ مِن تَفَرُّقِهَا، عَامِلاً بِقَولِ اللهِ سُبحَانَهُ: وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ. أَمَّا الاجتِهَادُ في إِحيَاءِ العَصَبِيَّاتِ وَتَشجِيعُهَا وَالمُشَارَكَةُ فيها مَادِّيًّا أَو مَعنَوِيًّا فَإِنما هُوَ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَاءَ الأَمرُ بِهِ مِنَ الاعتِصَامِ بِحَبلِ اللهِ وَهُوَ عَهدُهُ وَصِرَاطُهُ المُستِقِيمُ وَكِتَابُهُ الكَرِيمُ، بَل هُوَ وُقُوعٌ فِيمَا نُهِيَ عَنهُ مِنَ التَّعَاوُنِ على الإِثمِ وَالعُدوَانِ، وَلا وَاللهِ تَجني البِلادُ وَلا العِبَادُ مِن إِحيَاءِ العَصَبِيَّةِ وَبَعثِ القَبَلِيَّةِ إِلاَّ الدَّمَارَ وَالهَلاكَ وَلَو بَعدَ حِينٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُّهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا. أَفَلَيسَ مِنَ الفُسُوقِ جَمعُ مَالِ اللهِ مِن عِبَادِ اللهِ ثم تَفرِيقُهُ في حَفَلاتِ فَخرٍ وَسُمعَةٍ؟!
لَقَد نهى عَن دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ وَوَصَفَهَا بِأَنها مُنتِنَةٌ، فَعَن جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ في غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ، فَقَالَ الأَنصَارِيُّ: يَا لَلأَنصَارِ! وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ؟!)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ، فَقَالَ: ((دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ)). وَقَالَ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((أَربَعٌ في أُمَّتي مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ لا يَترُكُونَهُنَّ: الفَخرُ في الأَحسَابِ، وَالطَّعنُ في الأَنسَابِ، وَالاستِسقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ)).
وَإِنَّ لِلشُّعَرَاءِ في إِذكَاءِ تِلكَ العَصَبِيَّاتِ وَإِيقَادِهَا لَدَورًا كَبِيرًا هُم مِنهُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، قال : ((إِنَّ أَعظَمَ النَّاسِ فِريَةً لَرَجُلٌ هَجَا رَجُلاً فَهَجَا القَبِيلَةَ بِأَسرِهَا، وَرَجُلٌ انتَفَى مِن أَبِيهِ وَزَنَّى أُمَّهُ)).
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ جَمِيعًا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَلْنَحرِصْ عَلَى الاجتِمَاعِ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلْنَعمَلْ عَلَى تَقوِيَةِ رَوَابِطِ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ وَالعَلائِقِ الإِيمَانِيَّةِ؛ لِنَنَالَ بِذَلِكَ رَحمَةَ اللهِ وَرِضَاهُ عَنَّا، قال سُبحَانَهُ: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ ، وقال جَلَّ وَعَلا: وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
(1/5552)
الظلم الاجتماعي
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سعود بن عبد الرحمن الشمراني
نجران
15/10/1428
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الظلم. 2- ظلم الولد لوالديه. 3- ظلم الآباء لأبنائهم. 4- التحذير من عضل البنات. 5- ظلم الزوجات. 6- ظلم العمال. 7- من صور ظلم بعض المديرين. 8- كلمة للمعلمين والمعلمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسّكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى.
أيها المؤمنون، ثبَتَ في صَحيح مسلمٍ عنِ النبيِّ فيما يَروِيه عن ربِّه جلَّ وعلا في الحديث القدسيِّ أنَّ الله جلَّ وعلا يقول: ((يا عِبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسِي، وجعلتُه بينَكم محرَّمًا فلا تَظَالموا)).
حديثٌ جَليل يتَوَجّه إلى البشَريّة حين يجورُ بها الطّريق، ويحذِّر الأفرادَ حين يُغرِيها الجشَعُ والطمَعُ العميق. تَوجيهٌ ربَّاني يحذِّر فيه الربّ جلَّ وعلا خلقَه من أن يتغَالبوا، ويأكلَ قويُّهم ضعيفَهم، ويعتَدي كبيرُهم على صغيرهم، ويحتقر ذكرهم أنثاهم، ويستغل غنيهم فقيرهم، ويسيء التجار والصناع لمن ولاهم الله أمرهم. توجيهٌ إِلَهيٌّ ينبِّه العقلَ أن يزلَّ به الهوَى فيَقَع في الظلم على الضّعَفَاء. وصيةٌ من البارِي جلّ وعلا يسوقها رسولُه المجتبَى ليتحاشَى الخلقُ كلُّهم الظلمَ والعدوانَ والطّغيان، ويتجنَّبوا ظلمَ العباد أيًا كانت صلتهم بهم، ويحرم التعدِّي على حقوقهم والتَّجنّي على مقدَّراتهم والاعتداء على أنفسِهم وأموالهم وأعراضِهم.
أحبتي في الله، إن من أبشع أنواع الظلم على الإطلاق ظلم الولد لوالديه، كيف لا وهما اللذان قرن الله تعالى برهم بعبادته في أكثر من آية كقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36]؟! وكيف يجرؤ أحد على ظلم من حمله ورباه وتعب من أجله؟! إن هذا لشيء عجاب، وما أكثر صورَ الظلم التي تقع من الأولاد لآبائهم، فهذا بخيل عليهما بماله، وذاك لا يحترم قول أبيه، وثالث يضيق بهما حينما يكبران ويضعفان.
هذا عجوز طاعن في السن يحتاج إلى أبنائه كي يقوموا بالنفقة عليه وعلى من بقي من أسرته، فيطلب من أبنائه أن يرسلوا له نفقة شهرية، فيأبون، وبعد مشاكل كثيرة افتعلها الأبناء حتى لا ينفقوا على أبيهم اضطر الأب للمحكمة، فقضى له القاضي بمرتب شهري من أبنائه، فيقول أحد الأبناء: والله، لو توقفت حياتك على أن أزيدك عما حكم لك القاضي لما أعطيتك. إنها قلة الدين، فيا لله كم من قلوب جاحدة لمن لا يستحق النكران!
وإذا ذكرنا ـ إخواني في الله ـ ظلم بعض الأبناء لآبائهم فإنا نذكر ظلم بعض الآباء لأبنائهم، فإن من الآباء من يستعمل مع ابنه أو بنته أنواعًا من القسوة التي تعدّ من الظلم، كأن يهمل تربيتهم وقلةِ الإنفاق عليهم وتركهم عالة على غيره وقلة متابعته لهم في مدارسهم، فتراهم يعيشون في فقر مع غناه، وفي يُتم مع وجوده، حتى إن بعض الآباء قد يكون سببًا في وقوع أبنائه في أنواع السرقات بسبب بخله عليهم، عن ابن عمر عن رسول الله قال: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود. ولعل من أفظع ما سمعت به في هذا أنّ زوجة الأب تضرِب بنتَ زوجها وهو يعلم، بل وصل بها أن تعاقبها عقابًا لا يعاقبه إلا من قست قلوبهم من الجبابرة، فصارت تستعمل معها كل صنوف العقاب حتى الحرق بالنار، فويل لهذه القلوب القاسية، ألا تخاف من الله تعالى أن يصبّ عليها العذاب صبًا في الدنيا والآخرة؟!
ولتحذر ـ أيها الأب ـ أن تعمل على حرمان ابنتك من الزواج الذي هو من أهم حقوقها، ولا تتّخِذ البنتَ المسكينة عاملة لديك تجلب لك الأموال من وظيفتها على حساب دينها وحيائها وشبابها، فإن ذلك من أعظم الظلم، فسهل لها الزواج، فإنه خير لك ولها، فهي لا تقل عن الرجل في احتياجها إلى الزواج.
عباد الله، ويجب على كل زوج أن يعلم حقوق زوجته ليؤدّيها كما أمر الله، فإن الخير في أداء حقوق الأهل وخاصة الزوجة، وينبغي على الزوج أن ينظر لزوجته على أنها شريكته في بناء الأسرة، وأنها رفيقة حياته، يأنس بها، ويسعد بسعادتها، ويشقى لما يصيبها، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
ومن العجيب أن ترى بعد هذا أزواجًا قلّ دينهم واضمحلت مروءتهم ونقصت شهامتهم، فصاروا يعاملون زوجاتهم على أنهنّ من متاع البيت الذي يداس أو أنهن خدم في البيوت، ولقد اشتكت زوجة من زوجها وسوء تعامله معها وضربه لها حتى إنها تشتكي من كثرة ضربه الذي ترك أثرًا في صفحة عنقها، وما علم الغبي أنه ليس أكثر رجولة ولا قوامة من رسول الله ، فعن إياس بن أبي ذباب قال: قال رسول الله : ((لا تضربوا إماء الله)) ، قال: فذئر ـ أي: نشَز ـ النساء وساءت أخلاقهنّ على أزواجهنّ، فقال عمر بن الخطاب: ذئر النساء وساءت أخلاقهن على أزواجهن منذ نهيتَ عن ضربهن، فقال النبي : ((فاضربوا)) ، فضرب الناس نساءهم تلك الليلة، فأتى نساءٌ كثير يشتكين الضربَ، فقال النبي حين أصبح: ((لقد طاف بآل محمّد الليلةَ سبعون امرأة كلّهنّ يشتكين الضربَ، وايم الله لا تجدون أولئك خياركم)) رواه النسائي وصحّحه ابن حبان، وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: ما ضَرَبَ رسول اللَّهِ شيئا قَطُّ بيده، ولا امْرَأَةً ولا خَادِمًا، إلا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وما نِيلَ منه شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ من صَاحِبِهِ، إلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ من مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل. رواه مسلم.
أيها المسلمون، ومن أنواع الظلم ظلم العمّال وعدم إعطائهم حقوقهم في وقتها والمماطلة في ذلك والتأخير، فعن أبي هريرة مرفوعا: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)). فحقوقهم واجبة في وقتها، وتحرم المماطلة بها وتأخيرها وظلمهم واستغلالهم بغير حق. روى البخاري ومسلم عن أبي ذر أن النبي قال: ((إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)).
إن العامل يأتي من بلاد بعيدة وفقيرة، وقد باع ما يملك حتى وصل إلى هذه البلاد، ويفاجأ بالظلم المرير والبخس للحقوق، عياذًا بالله تعالى. فاتق الله تعالى فيمن تحت كفالتك من العمالة، واعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك.
اللهم ارزقنا العدل مع أنفسنا والناس أجمعين، اللهم إنا نعوذ من الظلم وأهله يا رب العالمين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إنه كان غفارا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معزِّ من أطاعه واتّقاه، ومذلِّ من خالف أمرَه وعَصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ولا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله اصطفاه ربّه واجتباه، اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد، وعلى آله وأصحابِه ومن اتّبع هداه.
وبعد: إخوة الإيمان، فإننا ونحن نحذّر من الظلم لَنُحذّر مما قد يفعله بعض الناس من أنواع الظلم بحجة التربية أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لأجل المصلحة، وأحيانًا بدعوى الحفاظ على الأمانة. فهذا مسؤول في دائرته أو مدير في مؤسسته تراه يهضم بعض زملائه حقوقَهم بزعم المحافظة على هيبة الإدارة والمؤسسة، حتى لقد نجد بعض المدراء يحرم بعض زملائه بعض حقوقهم من دورات أو مشاركات يسمح بها النظام بحجة الأمانة ومصلحة العمل، ولو اجتهد في الجمع بين المصلحتين لكان خيرًا لمؤسسته وله ولزملائه، بل قد يفرق المدير بين زملائه مع أنه لا فرقَ بينهم، أو يأتي بما يسوّي بينهم مع أنهم يتفاوتون في الجهد والمواظبة، روى مسلم عن عائشة مرفوعًا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)) ، وقال النبي : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ما ولوا)) أخرجه مسلم، وقال : ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)) أخرجه الإمام مسلم. ومن أقبح ما يصدر من بعض المدراء أنهم يستخدمون صغار الموظفين لديهم في قضاء حوائجهم الشخصية التي لا علاقة لها بالعمل، وهذا لا يجوز من جانبين: الجانب الأول: أنه استغلال لوظائف الدولة في أغراض لا يسمح بها النظام، ومن جانب آخر: فهو استذلال لأولئك الذين لا يستطيعون رفض طلبات مسؤوليهم.
وإنا لنحذر إخواننا المعلمين والمعلمات من الشدة التي تنفّر الطالب وتجعله كارهًا للمدرسة، وهذا من أسباب انحراف كثير من الطلاب وتراجعهم عن تفوقهم؛ لأن ذلك يدخل الإحباط إلى نفوسهم ويصيبهم بالملل من الدراسة، ولو أنّ المعلمين والمعلمات غلّبوا جانب التشجيع والمكافأة على جانب العقاب لوجدنا لذلك أثرًا طيبًا في نفوس الطّلاّب. ومما يجدر ذكره أن بعض المعلّمين والمعلّمات هداهم الله يطلبون من الطلاب طلبات قد تثقل كواهلهم أحيانا، وأحيانا ينفذونها حياء من معلميهم، حتى صار بعضهم يرى أن على الطالب خدمة أستاذه فيما يخصّه داخل المدرسة أو خارجها.
فلنتقِ ـ عباد الله ـ ما يسوؤنا رؤيته يوم القيامة، ولنجتنب دعوات المظلومين، ففي الصحيحين قال لمعاذ : ((واتق دعوة المظلم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ، وفي الحديث الآخر: ((إن الله يرفعها فوق الغمام ويقول: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)).
وصلوا وسلموا ـ عباد الله ـ على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه...
(1/5553)
المسكرات والمخدرات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
15/10/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العقل. 2- آفة المسكرات والمخدرات. 3- تحريم الخمر وكلّ مسكر. 4- عظم ضرر المخدرات ومفاسدها. 5- أسباب انتشار هذا الوباء. 5- سلاح المسكرات والمخدّرات. 6- واجبنا تجاه هذه الآفة. 7- حرمة التدخين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وخير ما يوصى به هو التقوى، فهو الزاد الذي به الإيمان يقوى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]. ثمّ تأهّبوا للقاء الله العظيم، فها هي الأيام تجري سِراعًا، والشهور تمضي تِباعًا، والقبور مُشرَعةٌ أفواهُها، والمصير محتوم، والأجلُ مكتوم، فرحم الله عبدًا تأهّب للخاتمة، وجعل دنياه لدينه خادمةً، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19].
أيّها المسلمون، لقد كرّم الله الإنسان بالعقل، وجعله مناطَ التكليف، وأحاطه بالخطاب والتنبيه في القرآن والحديث الشريف. بالعقل تميّز الإنسان وتكرّم، وترقّى في شأنه وتعلّم، جعله الشارع الحكيم ضرورةً كبرى، وشرع لصيانتِه الحقَّ والحدّ، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]. بالعقل يميّز الإنسان بين الخير والشرّ والنفع والضرّ، وبه يتبيّن أوامرَ الشرع ويعرف الخطابَ ويردّ الجواب ويسعى في مصالحه الدينيّة والدنيويّة، فإذا أزال الإنسان عقله لم يكن بينه وبين البهائم فرق، بل هو أضلّ منها، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44]، بل قد يُنتفع بالحيوان، أما الإنسان فلا يُنتفع به بعد زوال عقله، بل يكون عالةً على غيره، يُخشى شرّه ولا يُرجى خيره. ومع كلِّ ذلك فقد أبى بعض التائهين إلاّ الانحطاط إلى درَك الذلّة والانحدارَ إلى المهانة والقِلّة، فأزالوا عقولَهم معارضين بذلك العقل والشرعَ والجِبِلّة؛ وذلك بتعاطي الخمور والمسكرات والمفتّرات والمخدّرات.
أيها المسلمون، آفةُ المجتمعات اليوم هي المسكرات والمخدّرات، أمّ الخبائث أمّ الكبائر وأصل الشرور والمصائب، شتَّتِ الأسَر، وهتكتِ الأعراض، وسبّبت السرقات، وجرّأت على القتل، وأودت بأصحابها إلى الانتحار، وأنتجت كلّ بليّةٍ ورذيلة، أجمع على ذمّها العقلاء منذ عهد الجاهليّة، وترفّع عنها النبلاء من قبلِ الإسلام، فلمّا جاء الإسلام ذمّها حرّمها ولعنها ولعن شاربَها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولةَ إليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة: 90، 91]. بيّن الله تعالى مفاسدَ الخمر، وأنها رجسٌ ونجَس، وأنها توقع العداوةَ والبغضاء، وتصدّ عن الصلاة، وتصدّ عن ذكر الله، وأنها سببٌ لعدم الفلاح.
والخمر المحرّمةُ هي كلّ ما خامر العقل مهما كان نوعُه وأيًّا كان اسمُه، قال رسول الله : ((كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ)) رواه مسلم، وفي الصحيحين أن النبيَّ قال: ((كلُّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ)) ، وعن جابر أن النبي قال: ((كلُّ مسكرٍ حرام، إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينةِ الخبال)) ، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: ((عرقُ أهل النار)) أو: ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ قال: ((كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها لم يتُب لم يشربها في الآخرة)) رواه مسلم وأخرجه البخاريّ مختصرًا، وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح أنّ النبيّ قال: ((مُدمن الخمر إن مات لقِيَ الله كعابدِ وثنٍ)). إنّها نصوصُ زجرٍ ووعيد وتخويفٍ وتهديد يقفُ عند حدّها من يعلَم أنه محاسَبٌ غدًا أمامَ الله العظيم.
عبادَ الله، والمخدّرات بأنواعها شرٌّ من الخمر، فهي تفسد العقل، وتدمّر الجسد، وتُذهب المالَ، وتقتُل الغيرةَ، فهي تشارك الخمر في الإسكار وتزيد عليها في كثرة الأضرار، وقد أجمع الناس كلّهم من المسلمين والكفّار على ضررِ المسكرات والمخدّرات ووبالها على الأفراد والمجتمعات، وتنادت لحربها جميع الدول وتعاهدت، وأدرك الجميع مخاطرها، حتى قال المنظرون: إنّ خطرَ المخدّرات وتأثيرها المدمّر أشدُّ فتكًا من الحروب التي تأكل الأخضر واليابسَ وتدمِّر الحضارات وتقضي على القدرات وتعطّل الطاقات.
أيها المسلمون، نتحدّث عن المسكرات والمخدّرات في وقتٍ ضجّت بالشكوى فيه البيوت واصطلى بنارها من تعاطاها ومن عاشره، وأحالت حياتَهم جحيمًا لا يُطاق، فوالدٌ يشكي وأمٌّ تبكي وزوجةٌ حيرى وأولادٌ تائهون في ضيعةٍ كبرى، ومن عوفي فليحمدِ الله. المخدّرات تفسد العقل وتقطع النسل وتورث الجنون وتجلب الوساوس والهموم وأمراضًا عقليّة وعضويّة ليس لها شفاء، وتجعل صاحبَها حيوانًا هائجًا ليس له صاحب، وتُرديه في أَسوَأ المهالك، مع ما تورثه من قلّة الغيرة وزوال الحميّة حتى يصير متعاطيها ديّوثًا وممسوخًا. وما تفكّكتِ الأسَر إلاّ من أثرها، وتفشّتِ الجرائم إلا بسببها، ومع غلائها فإنّ مروِّجَها من أفقر الناس وأتعسهم حالاً. أمّا متعاطيها فإنّها لا تزال تستنزف مالَه حتى يضيقَ بالنفقة الواجبة على أهله وأولاده وعلى نفسه، وحتى تصبح أسرتُه عالةً يتكفّفون الناس، وربّما باعَ أهلَه وعِرضَه مقابلَ جرعَةِ مخدّر أو شَربةِ مسكرٍ، فهل من قلوبٍ تعي أو عقولٍ تفكّر في النهاية الموحشة والآثار المدمّرة لهذه البلايا؟! مع فَقدِ الدين وضياعِ الإيمان، ففي الصحيحين أن النبي قال: ((ولا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن)) ، وقد قال عثمان بن عفان : (إنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجلٍ إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.
عباد الله، لانتشار هذا الوباء أسبابٌ وبواعث، منها ضَعف الإيمان وضَعفُ الوازع الدينيّ والأزمة الروحيّة التي سبّبتها كثرة المعاصي، ووسائلُ الإلهاء والتغفيل فأبعدت الناس عن هدي الله وذكره، وهوّنت عليهم ارتكاب أيّ محظور، وأنتجت قلّةَ الخوف من الله، فلا يفكّر أحدهم في عذاب الآخرة ولا عقاب الدنيا، ومن لم يكن له دين صحيحٌ يمنعه فلا عقلَ ينفعه ولا زجرَ يردعه. والفراغ القاتل والبطالة سوقٌ رائجة للمخدّرات والمسكرات، سيما عند الشباب، خاصةً عند مصاحبةِ أصدقاء السوء ورفاق الشرّ، يهوّنون عليه الأمر ويجرّئونه على المنكر، ويزيّن الشيطان له المتعةَ الموهومةَ والهروبَ من الواقع، إنّ هذا الهروب ليس إلا غيبوبةً يعقبُها صحوٌ أليم وتنقل ذويها إلى عالم التبلّد والبلاهة، ثمّ تأتي إفاقةٌ مضاعفة الحسرة. وتحمل وسائلُ الإعلام عبءًا كبيرًا من مسؤوليّة ذلك، حين تعرض البرامجُ والمسلسلاتُ شربَ الخمر وقوارير الخمر على أنّه أمرٌ طبيعيّ ومن خصائص المجتمعات الراقية، وتُقحم ذلك في الدعايات للهو والمتعة. وإذا سافر ضعيف الإيمان إلى بلاد الكفر والإباحيّة وقع في المحظور وأدمن عليها وعاد لبلده باحثًا عنها.
أيها المسلمون، إنّ أعداءكم لا يألونكم خبالاً، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118]، قد اتَّخذوا المسكراتِ والمخدّرات سلاحًا فاتكًا للسيطرة والعدوان واستلاب العقول والأموال. إنّ بلادَ الإسلام تواجه هجومًا شرسًا من جهاتٍ مشبوهة بخططٍ وأهداف بعيدة المدى لتهريب المخدّرات وترويجها بين أبناء المسلمين؛ لتحطيم البلاد كلِّها اجتماعيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا وفي كلّ المجالات، حتى أضحت حرب المخدّرات أحدَ أنواع الحروب المعاصرة الخطيرة، والذي يقف في الميدان يدرك مدى ضراوةِ هذه الحرب. ومع ما سنّته البلادُ مشكورة من عقوباتٍ رادعةٍ فلا زال طوفان المخدّرات المدمّر تئنُّ منه خفايا البيوت وأروقةُ المحاكم وجدرانُ السجون؛ مما يُنبيك عن غَور الجرح وعمق المأساة.
وبعد هذا: أيُّها المسلمون، فإنّ الحديثَ عن تفشي المسكرات والمخدّرات ونِسَبها وآثارها وقصصها ومآسيها لهو حديث مؤلم، ولكن السكوت عنه لا يزيد الأمرَ إلا إيلامًا؛ لذا فلا بدّ من الوعي بحقائق الأمور وإدراك حجمِ الخطر، ثم التكاتُف والتآزر بين أفراد المجتمع ومؤسّساته للحدّ من هذا الوباء وصدّه قبل استفحال الداء. لا بدّ من تنمية الرقابةِ الذاتيّة بالإيمان والخوف من اللهِ في قلوبِ الناس عامّةً والناشئة والشّباب خاصّة، ولن يردع البشرَ شيءٌ كوازع الدِّيانة. لا بدّ من تكثيفِ التوعية بأضرار المسكرات والمخدّرات والتركيز على ذلك في المناهج الدراسية وفي وسائل الإعلام. تجب العناية بالشباب وملءُ فراغهم بما ينفعهم وينفع مجتمعهم. واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفةُ كلِّ مسلمٍ، ولو ائتمرنا بيننا وتناهينا ونصحنا وتناصحنا لما وجَدَ الشيطان سبيلاً إلى ضعيفٍ بيننا. لا بدّ أن يتكاتفَ أفراد المجتمع مع الجهاتِ المسؤولة على نبذِ المروّجين والتبليغ عنهم والحذر من التستّر عليهم أو التهاون معهم. أما المبتلى بالتعاطي فهو مريض بحاجةٍ إلى المساعدة، لا إلى مجرّد الشفقة والسكوت السلبيّ.
وهنا لا بدّ من الإشادة بما يبذله رجال الأمن وجهاتُ مكافحة المخدّرات ومن يقومون بالتوعيةِ بأضرار التدخين من جهود مشكورةٍ للحدّ منها ومتابعتها والتحذير والتوعية، وننتظر منهم ومن غيرهم المزيد، أعانهم الله وسدّدهم وأنجح مساعيَهم، وعافانا الله وإياكم والمسلمين من كلّ سوءٍ ومكروه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة: 90-92].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ والسنّة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أحلّ الطيبات وحرّم الخبائث، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى الآل والصحبِ الكرام، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون، التدخين بوّابة المخدّرات، وضررُه على الدين والبدن والمال بيِّنٌ ظاهر، ولا يجادل فيه إلا مكابر، أفتى العلماءُ بتحريمه، وتنادَتِ المنظّماتُ العالميّة بتجريمِه، واتَّفق الأطباء على ضرره وأنه سببٌ رئيسٌ للهلاك ولأمراضٍ مُرديةٍ كثيرة. حرّمتِ الدولُ المتحضِّرةُ تعاطيَه في الأماكن العامّة، ومنعت بَيعَه للمراهقين؛ للقناعة بشرّه وضرّه وخطره. وهذه المفتِّراتُ من الدخان والقات مع ما فيها من شرٍّ وضرّ فهي سببٌ للاجتماع على المفاسد والخلوةِ برُفقاء السوء والنُّفرة من أهل الخير والصلاح والوحشة منهم ومن مجالسهم، وهو أصلُ الأخلاق الرديئة وسوء الطباع واللؤم والخيانة.
أيها المسلمون، النصيحة المكرّرة والوصيّة المؤكّدة هي الحرص على الأبناء والبنات ومتابعتهم وملاحظتهم، ولا يعني ذلك حصارهم، بل التربية والمراقبة والثقة والمتابعة، أمّا إذا كانت الثقة عمياء أو وضِعت في غير محلّها فإنّ نتاجَها الحسرةُ والندامة. على الآباء والأمّهات والمربّين والمربّيات أن يقوموا بواجبِهم بصدقٍ وعزمٍ وإخلاصٍ جدّيةٍ، والحذَرَ والحذَر من التّهاونِ واللامُبالاة؛ فإنّ الفرد لو وقع فريسةً للمخدّرات صعُب الخلاص والفكاك.
فاللهمّ احفظنا واحفظ علينا، وعافنا في أنفسنا وفي ديننا وأهلنا، وقنا والمسلمين شرَّ هذه البلايا، ورُدَّ ضالَّ المسلمين إليك ردًّا جميلاً.
هذا وصلّوا وسلّموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبد الله رسول الله وخاتم أنبيائه.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمّد، وآله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللَّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمِنا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين...
(1/5554)
انصر أخاك ظالما أو مظلوما
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
22/10/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة النبي. 2- قانون النصرة بين الجاهلية والإسلام. 3- من المفاهيم الخاطئة للنصرة في العصر الحاضر. 4- التحذير من التناصر الجاهلي. 5- مبدأ الأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، لَقَد كَانَت بِعثَةُ محمدٍ هِيَ أَعظَمَ مِنَّةٍ وَأَجَلَّ مِنحَةٍ، لَيسَ لِقَومِهِ مِنَ العَرَبِ خَاصَّةً، بَلْ لِلعَالمينَ جميعًا، فَقَد فَرَّقَ اللهُ بِهِ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَزَكَّى بِهِ النُّفُوسَ وَطَهَّرَ بِهِ القُلُوبَ، وَهَدَى بِهِ بَعدَ الضَّلالَةِ وَجَمَعَ بِهِ بَعدَ الفُرقَةِ، وَفَتَحَ بِهِ أَعيُنًا عُميًا وَآذَانًا صُمًّا، لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ، وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِلعَالمِينَ. وَلَقَد هُدِمَت بِرِسَالَتِهِ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أُسُسٌ شِركِيَّةٌ جَائِرَةٌ، وَغُيِّرَت مَفَاهِيمُ جَاهِلِيَّةٌ ظَالمةٌ، وَأُلغِيَت أَخلاقُ فُحشٍ وَبَغيٍ مُنكَرَةٌ، فَحَلَّ مَحَلَّهَا كُلُّ مَا فِيهِ مَصلَحَةٌ وَخَيرٌ وَعَدلٌ وَإِحسَانٌ وَرَحمَةٌ، قال سُبحَانَهُ: لَقَد جَاءكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ، وقال جل وعلا: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ، وقال سُبحَانَهُ: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ ، وقال جل وعلا: إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاء ذِي القُربَى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاء وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ.
فَهَنِيئًا لِلمُسلِمِينَ حِينَ يَتَمَسَّكُونَ بما جَاءَ بِهِ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ، وَيَا لَعِزِّهِم إِذْ يَعَضُّونَ عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ! وَيَا لَخَسَارَتِهِم وَطُولِ شَقَائِهم حِينَ يُعرِضُونَ عَنهُ وَيَطلُبُونَ العِزَّ بِغَيرِهِ.
أَلا وَإِنَّ ممَّا كَانَتِ العَرَبُ تَقُولُهُ وَتَعمَلُ بِهِ عَلَى فَهمِهَا الخَاصِّ وَتَرَاهُ في جَاهِلِيَّتِهَا مِن مَزَايَاهَا ومَفَاخِرِهَا أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: "اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالمًا أَو مَظلُومًا"، يَعنُونَ بِالأُخُوَّةِ أُخُوَّةَ النَّسَبِ وَالقُربى، وَيَرونَ أَنَّ النُّصرَةَ لِلقَرِيبِ عَلَى قَدرِ قَرَابَتِهِ، فَالأَخُ مَعَ أَخِيهِ عَلَى ابنِ عَمِّهِ، وَهُوَ مَعَ ابنِ عَمِّهِ عَلَى البَعِيدِ، لا يُفَرِّقُونَ في تِلكَ النُّصرَةِ بَينَ كَونِ ذَلِكَ القَرِيبِ عَلَى حَقٍّ أَم عَلَى بَاطِلٍ، وَلا يَرَونَ غَضَاضَةً وَلا عَيبًا في نَصرِهِ ظَالمًا كان أَو مَظلُومًا، فَلَمَّا جَاءَ اللهُ بِمُحمَّدٍ بَيَّنَ لهم المَفهُومَ الصَّحِيحَ لِلنُّصرَةِ، فَعَن أَنَسٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالمًا أَو مَظلُومًا)) ، فقال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظلُومًا، أَفَرَأَيتَ إِذَا كَانَ ظَالمًا كَيفَ أَنصُرُهُ؟! قَالَ: ((تَحجُزُهُ ـ أَو: تَمنَعُهُ ـ مِنَ الظُّلمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصرُهُ)).
أَلا وَإِنَّهُ قَد ظَهَرَ في الأُمَّةِ اليَومَ مَن يُرِيدُ أَن يَعُودَ بها إِلى مَفهُومِ النُّصرَةِ الجَاهِلِيِّ الظَّالمِ، بما يَزرَعُهُ في صُفُوفِهَا مِن جَعلِ مَبدَأِ القُربى هُوَ مَبعَثَ النُّصرَةِ وَالإِعَانَةِ، دُونَ نَظَرٍ فِيمَ تَكُونُ النُّصرَةُ وَعَلامَ يَكُونُ التَّعَاوُنُ. وَإِنَّ مَن يُنعِمُ النَّظَرَ في أَحوَالِ النَّاسِ لَيَجِدُ لِذَلِكَ صُوَرًا مُتَعَدِّدَةً وَأَشكَالاً مُختَلِفَة، فَمِنَ النَّاسِ مَن يَبخَلُ بِمَالِهِ إِذَا دُعِيَ إِلى خَيرٍ أَو مَعرُوفٍ، فَلا يُشَارِكُ في عِمَارَةِ مَسجِدٍ وَلَو بِقَلِيلٍ، وَلا يُسَاهِمُ في بِنَاءِ مَشرُوعِ خَيرٍ وَلَو بِنَزرٍ يَسِيرٍ، وَلا يُفَرِّجُ هَمَّ مَهمُومٍ وَلا يُنَفِّسُ كَربَ مَكرُوبٍ، يَدُعُّ اليَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسكِينِ، فَإِذَا دُعِيَ إِلى رِفدَةٍ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَظٌّ قَرِيبٌ عاجِلٌ أَو مَتَاعٌ دُنيَوِيٌّ قَلِيلٌ زائلٌ مِن رَفعِ سُمعَةِ القَبِيلَةِ أَو إِعلاءِ مَقَامِ العَشِيرَةِ رَأَيتَهُ في مُقَدِّمَةِ المُنفِقِينَ بِجُودٍ، وَألفيتَهُ في طَلِيعَةِ المُعطِينَ بِسَخَاءٍ، وَفي النَّاسِ مَن يَكتُمُ شَهَادَةَ الحَقِّ وَهُوَ يَعرِفُهَا، ولا يُظهِرُهَا لِوَجهِ اللهِ وَهُوَ مُتَأَكِّدٌ مِنهَا، فَإِذَا دَعَاهُ قَرِيبٌ لِيَشهَدَ مَعَهُ وَلَو بِالزُّورِ وَقَلبِ الحَقَائِقِ وَتَغيِيرِ الوَاقِعِ خَفَّ مَعَهُ وَنَشِطَ وَسَارَعَ؛ مُفتَخِرًا بِنَصرِهِ وَتَأيِيدِهِ، غَافِلاً عَن أَنَّهُ في الحَقِيقَةِ قَد ظَلَمَ نَفسَهُ بِالكَذِبِ، وَظَلَمَ قَرِيبَهُ بِإِعَانَتِهِ عَلَى أَخذِ مَا لَيسَ لَهُ، وَظَلَمَ طَرَفًا ثَالِثًا بِأَخذِ مَالِهِ وَبَخسِهِ حَقَّهُ، قال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِغَيرِ حَقٍّ كَانَ في سَخَطِ اللهِ حتى يَنزِعَ)) ، وفي رِوَايَةٍ: ((وَمَن أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلمٍ فَقَد بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)).
وَممَّا يَتَنَاصَرُ النَّاسُ فِيهِ نُصرَةً جَاهِلِيَّةً في هَذَا الزَّمَانِ مُرَاعَاةُ ذَوِي القُربى في الأَعمَالِ وَالوَظَائِفِ وَمُحَابَاتُهُم وَتَقدِيمُهُم على غَيرِهِم ممَّن هُوَ أَكفَأُ مِنهُم وَأَولى. وَمِنَ التَّنَاصُرِ بِالبَاطِلِ مَدحُ الرَّجُلِ عَشِيرَتَهُ وَذَمُّ مَن سِوَاهُم، وَإِقرَارُهُ إِيَّاهُم عَلَى غِيبَةِ الآخَرِينَ وَالوَقِيعَةِ فِيهِم وَتَنَقُصِّهِم، قال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((وَمَن قَالَ في مُؤمِنٍ مَا لَيسَ فِيهِ أَسكَنَهُ اللهُ رَدغَةَ الخَبَالِ حتى يَخرُجَ ممَّا قَالَ)).
وَفي الجُملَةِ فَإِنَّ صُوَرَ التَّنَاصُرِ الجَاهِلِيَّةَ كَثِيرَةٌ وَلا تَخفَى، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! كَم لِلخَطَأِ في مَفهُومِ التَّنَاصُرِ مِن أَثَرٍ في ظُلمِ النَّاسِ بَعضِهِم بَعضًا، إِمَّا بِالقَولِ بِالافتِرَاءِ عَلَى الآخَرِينَ، أَو بِالفِعلِ بِضَربِهِم وَالتَّعَدِّي عَلَيهِم، وَإِمَّا بِإِعطَاءِ مَن لا يَستَحِقُّ مَا لا يَستَحِقُّ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ أَنَّهُ لا خَيرَ إِلاَّ جَاءَ بِهِ الإِسلامُ وَحَثَّ عَلَيهِ، وَلا شَرَّ إِلاَّ حَذَّرَ مِنهُ ونهى عَنهُ، وَأَنَّ كُلَّ نَصرٍ لِقَرِيبٍ أَو صَدِيقٍ أَو عَزِيزٍ يَخرُجُ عَن نِطَاقِ الدِّينِ وَتَوجِيهِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ فَإِنَّهُ لا مَصلَحةَ فِيهِ وَلا خَيرَ البَتَّةَ، وَلا فَائِدَةَ تُرجَى مِنهُ قَطعًا وَلا مَنفَعَةَ، بَلْ هُوَ عَلَى صَاحِبِهِ وَبَالٌ وَشَرٌّ، قال : ((مَن نَصَرَ قَومَهُ عَلَى غَيرِ الحَقِّ فَهُوَ كَالبَعِيرِ الذِي رَدَى فَهُوَ يُنزَعُ بِذَنَبِهِ)). قَالَ الخَطَّابيُّ رحمه اللهُ: "مَعنَاهُ أَنَّهُ قَد وَقَعَ في الإِثمِ وَهَلَكَ، كَالبَعِيرِ إِذَا تَرَدَّى في بِئرٍ فَصَارَ يُنزَعُ بِذَنَبِهِ وَلا يَقدِرُ عَلَى الخَلاصِ" اهـ.
يَا لَهُ مِن تَشبِيهٍ نَبَوِيٍّ بَلِيغٍ، إِذْ مَا يُغني القَومُ أَوِ القَبِيلَةُ أَوِ العَشِيرَةُ عَنِ المَرءِ شَيئًا إِذَا هُوَ ظَلَمَ نَفسَهُ وَأَثقَلَهَا بِوِزرِ النُّصرَةِ بِالبَاطِلِ؟! إِنَّهُم لَن يُغنُوا عَنهُ شَيئًا وَلَو حَاوَلُوا مُجتَمِعِينَ، فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ، يَومَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهلِ وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالعِهنِ وَلا يَسأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُم يَوَدُّ المُجرِمُ لَو يَفتَدِي مِن عَذَابِ يَومِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤويهِ وَمَن في الأَرضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ التَّنَاصُرَ عَلَى البَاطِلِ وَإِعَانَةَ الأَقَارَبِ عَلَى ظُلمِهِم مِن شِيَمِ الجَاهِلِيَّةِ الجَهلاءِ، وَأَمَّا حِينَ يَقتَنِعُ النَّاصِرُ عَلَى البَاطِلِ أَنَّهُ عَلَى غَيرِ الحَقِّ لَكِنَّهُ يَفعَلُ ذَلِكَ حَيَاءً مِن أُمَرَاءِ القَبِيلَةِ أَو رُؤَسَاءِ العَشِيرَةِ وَإِرضَاءً لهم أَو مُجَامَلَةٍ لِلكُبَرَاءِ أَو مُحَابَاةً لأَيِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَو لِيُقَدِّمَ لَهُ عِندَهُم يَدًا يَقضِيهَا فِيمَا بَعدُ أو مَعرُوفًا يَستَرِدُّهُ إِذَا احتَاجَ إِلَيهِم فَتِلكَ رَزِيَّةٌ أُخرَى وَمُصِيبَةٌ عُظمَى؛ إِذْ عَصَى رَبَّهُ بِارتِكَابِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيهِ، وَاستَحيَا مِنَ المَخلُوقِينَ الضُّعَفَاءِ الفُقَرَاءِ ولم يَستَحْيِ مِنَ الخَالِقِ الرَّازِقِ النَّافِعِ الضَّارِّ، وَأَرضَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن يُرضِيَهُ، إِضَافَةً إِلى تُوَكُّلِهِ عَلَى أُولَئِكَ الذِينَ يُعِينُ عَلَى الظُّلمِ مِن أَجلِهِم، قَالَ سُبحَانَهُ: يَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَستَخفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرضَى مِنَ القَولِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطًا ، وقال تعالى: أَتَخشَونَهُم فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مُؤُمِنِينَ ، وقال سُبحَانَهُ: وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرضُوهُ إِن كَانُوا مُؤمِنِينَ ، وقال : ((مَن أَرضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلى النَّاسِ، وَمَن أَسخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللهِ كَفَاهُ اللهُ مَؤُونَةَ النَّاسِ)).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَتَنَاصَرُوا بِالحَقِّ وَعَلَى الحَقِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ ، وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوا أَمرَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَاعتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَولاكُم فَنِعمَ المَولى وَنِعمَ النَّصِيرُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ التَّنَاصُرَ الشَّرعيَّ الصَّحِيحَ الذِي يَجِبُ أَن يَكُونَ عَلَيهِ المُسلِمُونَ مَبدَؤُهُ أُخُوَّةُ الإِسلامِ، وأَقوَى دَوَافِعِهِ عَلائِقُ الإِيمَانِ، وَمَن ظَنَّ غَيرَ ذَلِكَ أَو فَعَلَهُ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُ وَظَلَمَ إِخوَانَهُ المُسلِمِينَ، وَهُوَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ أَن يَخذُلَهُ اللهُ في مَوطِنٍ يُحِبُّ أَن يَنصُرَهُ فِيهِ، قال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَا مِن امرِئٍ يَخذُلُ امرَأً مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ تعالى في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ، وَمَا مِن أَحَدٍ يَنصُرُ مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللهُ في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ)) ، وَقَالَ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن رَدَّ عَن عِرضِ أَخِيهِ رَدَّ اللهُ عَن وَجهِهِ النَّارَ يَومَ القِيَامَةِ)).
فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتَنَاصَحُوا، ((وَلا تَنَافَسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا)).
(1/5555)
سر الوحدة والائتلاف
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا المجتمع, مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
22/10/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسلم بين الفضائل والرذائل. 2- اقتضاء الفضائل للألفة. 3- الفضائل في معايير الحضارة الغربية. 4- حقيقة الفضائل في الإسلام. 5- أمة الفضائل. 6- اقتضاء الرذائل للنفرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعدُ: فيا أيُّها النّاسُ، إنَّ لِلمَرءِ المسلِمِ كَمالاً في الفضَائلِ يَنبَغي لَه أن يَطلُبه حَثيثًا، كَمَا أنّه في الوَقتِ نفسِه عُرضةٌ لِنَقصٍ وخلَلٍ بسَبَبِ رَذائلَ يجِب عَليه التَّرفُّع عنها، فكَمالُ المرءِ المسلِمِ يَكمُنُ في استِيفاءِ أَكبرِ قَدرٍ منَ الفَضائِلِ، ونَقصُه يَبرُز جَليًّا في التِياثِه بِرَذيلةٍ منَ الرذائل. ثمَّ إنَّ الفَضَائلَ المحمودةَ ما هي إلا سَجايَا للنَّفسِ المؤمنة، من مُقتضاها التَّأليفُ والتآلُفُ بين المتَّصِفِين بها على حدٍّ سَواء، فالعَفيفان منَ الناسِ مثلاً يَعرِفان حدودَ العفَّةِ فيَقِفان عندها، ولاَ يتَزاحمان على مُشتَهًى مِنَ المشتَهَيات؛ لأنَّ مِن خُلُق كلٍّ منهما التَّجافي عنِ الشَّهوةِ وحبِّ الذّات، وكذا الباحثان عن الحقيقةِ، لا يَتَنازَعان، ولا يَتَشاحَنان؛ لأنَّ غايتَهما واحِدَة وهي الحقّ، فَالحقُّ ضالَّة المؤمن، متى وَجَدَها أخذَ بها، وسجِيّة الباحِثَين عن الحقيقةِ هيَ بَذلُ الوُسع في الوصولِ إلى الحقِّ، فلا يوجد حينئذٍ مَوضوعٌ للنِّزاع عند مُعاطَاةِ الوَسائل المؤدِّيَة إلى الحقيقةِ التي أرادها الله وأرادَهَا رسوله.
وقولُوا مثلَ ذلكم ـ عبادَ الله ـ في جميعِ ما عُدَّ من الفضائل في شَريعتِنا الغرّاء، حيث نجِد أنَّ مِن لوازمِ كلِّ فضيلةٍ من الفضائل التآلفَ بين المتّصِفين بها مِن حيثُ الأثرُ الناشِئ عنها، ولا غَروَ حِين نجِد الفضيلةَ إذا توافَرَت في شَخصَين مالَت نفسَاهما إلى الاتِّحادِ والالتِئام في الأعمالِ والمقاصِدِ، ودامَت الوحدَةُ بينهما بمقدارِ تمكُّن تِلكم الفضائلِ فيهما.
وعَلى هذا النَّحوِ يَنتقِل الأمرُ مِن الأفرادِ إلى الأسَر المكوَّنةِ من الأفراد، ثمّ إلى المجتمع المكوَّن منَ الأسَر، ثم إلى الأمّة المكوَّنة من المجتَمَعات، فمَناطُ الوحدَةِ بين هؤلاء جميعًا هي القِيمةُ المعنويّة للفضائِلِ الرّاسخة فيهم، حتى يُرَى الجُمهورُ منَ الناس كواحدٍ منهم؛ يتحرَّك بإرادَة واحدةٍ، ويطلُب غايةً واحِدَة وهي الصراط المستقيم الذي أوصى الله به في قَولِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
وإذا مَا كانَتِ الغايةُ واحدةً فإنَّ مجموعَ الفضائل يُعَدّ هو العِدلُ في جميع الأعمال، فلا يمكِنُ أن يَتَجاوَزَ أحدٌ مِنَ الجمهورِ في عَملِه ما يمسُّ به حقًّا للآخر الذي يشترِك معه في الوسيلةِ الموصِلة إلى الغايَةِ وهي الحقّ عند كلٍّ.
إذا عُلِم ذَلكم ـ عِبادَ الله ـ فإنَّ الفضائلَ في بعضِ معايير الحضارةِ الوافِدَة كغيرها من القِيَم الأخلاقيّة التي تحدِّدها النّسبيّةُ، مع القابليَّةِ لأن توزَن بميزانَين أو تُكال بمكيَالَين عند من ابتَغَى غيرَ الإسلام دينًا.
أمّا الفضائلُ في الإسلام فَهي قيمةٌ مُطلَقَة لا مجالَ للنسبيّة فيها، فالقَبيحُ قبيح، والحَسَن حسنٌ، وهناك فضائلُ مشتركَةٌ يستوي في التكليف بها جميع آحادِ المسلِمين، وهناك فَضَائلُ تختَصّ بكلِّ وَاحدٍ وفقَ مهنَتِه وصنعَتِه وفنّه، فقد يُطلَب شيءٌ من الطبيبِ ويُعدّ من الفضائل، ولا يطلَب مثلُ هذا الطّلَب من النجار، وقد يطلَب من العالِم ولا يطلَب من الورّاق، وقد يُطلَب من الحاكِم ولا يُطلَب مِنَ السّوقَة، غيرَ أن المصبَّ الأخير يكون في القيمةِ المطلَقَة للفضائِل التي تؤلِّف بين أفرادِ المجتمع في مَنظومةٍ واحدة يعمُّها اسمٌ واحد، والأفرادُ في هذه المنظومة كأعضاءٍ تختلِف في وظائِفِها وأشكالها، وكلٌّ يؤدِّي عملَه لبقاءِ البنيةِ الجامعةِ، كما أودَعَ الله في أعضاءِ أبدانِنا ما يقوم به كامِلُ الجسَد مع وقوفِ كلِّ عضو عندَ حدِّ وظيفتِه، فلاَ يُطلَب من اليدِ أن تُبصِر، ولا يطلب من العَين أن تبطِش، ولا يُطلب من الأذُن أن تمشي، ولا يطلَب من الرِّجل أن تَسمَع، مع أنَّ الكلَّ حيٌّ بحياةٍ واحِدَة، غيرَ أنَّ اليد بها البَطش، والعين بها الإبصَارُ، والأذنَ بها السَّمعُ، والرِّجل بها المَشيُ، وأيُّ اختلالٍ يموج بهذِهِ الوظائفِ فهُوَ اصطِفَاف في مصافِّ الأنعامِ، بل هُوَ أضلّ كَمَا قَالَ تَعَالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179].
وقُولُوا مِثلَ ذلِكم ـ عِبادَ الله ـ في وظائِفِ المجتَمَع المتَنَوِّعَة؛ إذ لاَ يَسوغ للطَّبِيب أن يُنصِّبَ نَفسَه مفتيًا، ولا يُطلَب مِنه ذلك، ولا للمفتِي أن يكونَ طَبيبًا، ولا للصّحَفي أن يكونَ فقيهًا، ولا يُقبَل مِنه ذلك، فالحاكم للحُكم، والفَقِيه للفَتوى، والطَّبيب للطّبِّ، والصّحفيُّ للصحافة، وإلاَّ فستَختَلّ المعايير، وتنقلِب الفضائِلُ، ولن يُلامَ بعد ذَلك من يَأكل المِلحَ ليدفعَ به العَطَش، ولا مَن يَشرَب الماء ليدفَعَ به الجوعَ، ولا مَن يستنشِق الغازَ ليتنفَّس.
إنَّ أيَّ أمةٍ يَكون الدَّافِع فيها والرَّافعُ والحارِثُ والزارعُ والعالِمُ والحَاكِم إنما هم بَنوها وأفرادُها مِن هَامَاتِها أو مِن لهازِمها وليس هو الأجنبيّ عَنها، ويكون كلُّ فَردٍ مِنها آخذًا بحقِّ الكُلّ، لا يسلُك مقصدًا يعكِس مقصدَ الكلّ، ولا غايةً تميل بِهِ عن غايةِ الكلّ التي خلَق الله العبادَ لأجلِها، فهِي الأمّةُ التي علَت فيها الفضائلُ، وسادَت في أوسَاطها مكارمُ الأخلاق، وما يكون في تِلكم الأمّة من اختِلافٍ في التنوُّع لا في التّضادّ فإنما هو مِن بابِ تنوّعِ جلب المنافِعِ واستِكمالِ المصالح، كالجَداول التي تمُدّ البحرَ لتستَمِدّ مِنه. ولا يحقرنَّ أحدٌ منَّا نفسَه وَسطَ هذا الكمّ الهائل من أفرادِ الأمة، فالواحِدُ منّا وإن كان صَغيرًا فلاَ أقلّ من أن يَكونَ لبِنةً أو حَجَرة صغيرةً في هذا البنيانِ الكبير رُبَّما كان بَعضُ الهدم بِسبَب سُقوطِهَا.
فمَا عَلينا ـ عِبادَ الله ـ إلاَّ أَن نَنظُرَ في حقائقِ الفضَائل؛ لنَحكمَ بما ينشَأ عنها من الأثَرِ عَلَى حَاضِر الأمّة ومُستَقبَلها، فالعِفَّةُ والسَّخاء والرحمةُ والتَّواضع والقناعَةُ والدَّماثة وعلوُّ الهمَّة والتعقُّل والتروِّي والحِلم والإيثارُ والشَّجاعَة في الحقّ مع الوَفاءِ والصِّدقِ والأمانَة وسَلامةِ الصَّدر وغيرِ ذلكم من الفضائل تُرَى لَو عَمَّت هَذهِ الصِّفاتُ جُلَّ أفرادِ المجتمعاتِ أَيبقَى بَعدَ ذَلِكم لِلفُرقةِ سَبيلٌ؟! أمَا وَالله، إنَّ تَوافرَها ليُحيِي مَواتَ المجتمعاتِ وينبِت قفرَها ويمطِر جَدبها. وأيُّ أمة أولَى بأن تَبلغَ مثلَ هذا الكمالِ في السّجايا غَير الأمّة التي قالَ نبيُّها : ((إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ مَصَالحَ الأخلاَق)) رواه أحمد والبخاريّ في الأدب المفرَد [1] ؟!
والحاصلُ ـ عبادَ الله ـ أنَّ أصولَ الأخلاق أو التحلِّي بحِليةِ الفَضَائِل وتطوِيعَ القوى في المجتمَعَات على العَمَل بآثَارِها إنما يَكونُ بالدِّين، ولن يكملَ أثَرُ الدّين في نفوسِ الآخذين بهِ والمنتَمِين إليه فيُصيبُوا به حظَّيِ الدنيا والآخرةِ إلاّ إذا قامَ حمَلةُ الدين ورُؤسَاؤه وحفَظَته بأداءِ ما أوكَلَ الله إليهم مِن تَبيِين أوامره ونواهيه وتَثبِيتِها في العقولِ والقلوب ودَعوةِ الناس [إليه] وتهيِئَة السّبُل لهم للعمَل به وتذكيرِهم بأيّامِ الله، إنهم لَو فَعَلوا ذَلِك لرأَينا الأمّةَ الإسلاميَّة ناشطةً من عِقالها، وليس للنَّاس على الله حُجّة، فلا بدّ من تَوجِيه العنايةِ إلى رَتق الفَتق قبل اتِّسَاعه وتدارُك العلَّة قبل استِحكامها، وإلاّ فسيَمِيل ميزانُ الاختيار مع الهوَى، فَتَعُمّ الشّهوَةُ، وتحكُمُ الشبهةُ، ويصير منطِق الناس: "الدّنيا أولاً ثم الآخِرَة"، والله جلَّ وعلا قال في كتابِهِ: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77].
بارَك الله لي وَلَكُم في القُرآنِ العَظيم، ونَفَعَني وإيّاكُم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذّكرِ الحَكِيم، قد قُلتُ ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشَّيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
[1] مسند أحمد (2/318)، الأدب المفرد: باب حُسن الخلق (273) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضا ابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في الكبرى (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وَحدَه، والصّلاةُ والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وبعد: فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، واعلَموا أنَّ في مُقابِلِ الفضائلِ التي ترتَفِع بالمجتمعاتِ المسلِمة رَذائلَ تعرِضُ للأنفُس بكَيفيَّات خبيثة، من مُقتضاها النُّفرة والتَّفريق بين النّفوس التي غَشِيَتها تِلكم الرذائلُ؛ كقِلّة الحياء والبَذاء والطَّيش والسَّفَه والتعالي والجُبنِ والدَناءة والأثَرَة والحِقد والحَسَد والخُصومة والمِراء والغَدر والكَذِب والنّفاق، فما من نَفسَين تَلتَاثان بِصفةٍ من هذه الصفاتِ إلاَّ أغرت بينهما العَدَاوةَ والبَغضَاء، وذَهَبت بهما مَذَاهبَ الفُرَقَاء حَيث لا يَبقَى بَعدَ ذَلِك أمَلٌ في الوِفَاق؛ إمّا لأنَّ مَن طَبع أحدِهما أو كِليهما مجاوزةَ الحدود في الاعتِداء على الحقوق، وإمّا السُّقوط إلى ما لاَ يمكن مَعَه لواحدٍ منهما أداءُ الواجِبِ من الفضائل عليه لمن يشارِكه مِن بني جنسِه وملته. فما ظنّكم ـ يا أجَارَكم الله ـ بشَخصَين وَقِحَين ألَدَّين خَصِمَين جَبَانَين بَخِيلَين حاقِدين حَاسدين، هل يُمكن أن يجمَعَهما مَقصِد أو توحِّد بينهما فِكرة؟! كلاَّ؛ لأنَّ هَذهِ الرَّذائلَ إذا فشَت في مجتمعٍ مَا قوّضَت بُنيانه وبَدّدَته شَذَر مَذَر، فاستَطَالَ الأمر برُمَّتِه إلى جمهور أفرادِ المجتَمَعات، وساعَدَ المخذِّلون والمرجِفون وبعضُ الإعلاميّين اللاهِثِين وراءَ البَلبَلَة في إذكاءِ مِثلِ هَذِه السَّواقِط، ومِن ثَمَّ تتقاذَفها المجتَمَعات في كلّ اتجاهٍ حتَّى تصيرَ سَجِيّة يتخلَّق بها الكثيرُ من الناس، فيستدعِي مثلُ هذا الطَّبع الاجتماعيّ أن تَسطوَ على هذِهِ الأمّة قوّةٌ أجنَبِيّة عنها لتأخذَها بالقَهرِ وتصرِفها في أعمال الحياة بالقَسر تحت غِطاء الحرّيّة القَاتِم.
إنَّ مثلَ هذه الرَّذائل إذا رَسَخت في نفوس أقوامٍ صارَ بَأسهم بينهم شديدًا، تحسَبُهم جميعا وقلوبهم شتَّى، يراهم كلُّ رامِقٍ بعينِه أعزّةً بعضُهم على بعض، أذلّةً للأجنَبيّ عنهم، يدعونهم للسِّيادةِ عليهم، ويفتَخِرون بالانتماءِ إليهم، حتى يُبدِّلوا بهذه الرَّذائل جملةَ المفاهيم الرَّفيعة تجاهَ الفضائل، فلا عَجَبَ إذا انقلَبَتِ المعايير حينئذ، فرَأوا كلَّ حسنٍ من أبناءِ ملَّتِهم ومجتمعهم قَبيحًا وكلَّ جَليلٍ حقيرا، إذا نطَق الأجنبيُّ عنهم عَدّوا منطقَه من جوامع الكَلِم ونفائِس الحِكَم، وإذا صَدَق الواحد منهم ربما عَدّوه من سقطِ المتَاع وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: لا يمكِن أن يكونَ بيننَا عارِفٌ أو خبير. يكثُر ارتِيابُ أمثالِ هؤلاء في الصادِقين المخلِصين في خِدمةِ دينهم ومجتَمَعاتهم وإن قامَت على صِدقِهم البراهين.
هَذِه هي أسبابُ عِثار المجتمعاتِ المسلِمة والعَقَباتُ القاعِدةُ بِكُلّ صراطٍ توعِد وتَصدّ عَن رِفعةِ الأمَّةِ والنّهوض بها إلى سفينةِ النَّجاة الماخِرَة.
ألا فاتَّقوا الله رَحمَكم الله، واعتَصِموا بحبلِ الله جميعًا تُفلِحوا، والتَزِموا بِدينِه تَغلِبوا، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38].
هذا وصلُّوا ـ رَحِمَكم الله ـ عَلَى خير البريّة وأَزكَى البَشريَّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بِنَفسِه، وثنَّى بملائِكتِه المسبِّحة بِقُدسِه، وأيَّه بِكم أيّها المؤمِنون، فقال جَلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللَّهمَّ صَلِّ على محمَّد صاحب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
(1/5556)
الأشهر الحرم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
خالد بن عبد الله الجبير
المجمعة
جامع منيرة بنت محمد التويجري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من نعم الله تعالى. 2- نعمة التوفيق للطاعة. 3- الحث على اغتنام الفرص في طاعة الله تعالى. 4- حرمة الأشهر الحرم. 5- الأمر بتعظيم الأشهر الحرم. 6- فضل الحج. 7- فضل العمل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله تكونوا خير عباد الله وأكرمهم عليه وأقربهم إليه، فتفوزوا بمرضاته وتحوزوا خيراته، والأمر لا يتطلب سوى مجاهدة النفس وحملها على الالتزام بحدود ربها ومنعها عن شهواتها التي لا تحلّ لها، ولقد أكثر جل وعلا لعباده من الوصية بتقواه تحذيرًا لهم من سخطه وأليم عقابه، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. فاتقوا الله عباد الله، وتأملوا نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، واشكروه عليها باغتنامها فيما يزيد الزاد الحق ليوم لقاء الرب جل جلاله.
عباد الله، إن من نعمة الله على عبده المؤمن بعد أن خلقه وأوجده أن منّ عليه بالهداية لعبادته وطاعته ومكّنه من العمل ورغّبه فيه، ألا وإن ما يمنّ به سبحانه على البعض من الصحة والعافية والأمن والاطمئنان هو من أكبر وأقوى الأسباب التي توجب شكرا وتدفع لمزيد عمل وطاعة، وبهذا يكون الفرق بين الخلائق، بل بين الإخوة والأصحاب يوم القيامة، وتأمل هذا الحديث أيها الحبيب، وتذّكر من فارقته أو فارقك من صحبك، فستعرف مدى الفضل الذي خصصت به ومُنّ به عليك:
روى النسائي وأبو داود وأحمد عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ثُمَّ مَاتَ الآخَرُ ـ أي: بعده بفترة ليست بطويلة ـ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ : ((مَا قُلْتُمْ؟)) قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ. وانظر لمقولتهم: اللهم ألحقه بصاحبه لأنّ صاحبه الأول مات شهيدا، فبالتأكيد منزلته عالية رفيعة. فَقَالَ النَّبِيُّ : ((فَأَيْنَ صَلاتُهُ بَعْدَ صَلاتِهِ؟! وَأَيْنَ صِيَامُهُ أَوْ عَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ؟! مَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)). فهما صحابيان آخى النبي بينهما، عَمِلا سويّة، وعاشا سوية، وكانا لبعضهما عونا وسندا في كل الشأن، ولكن فضل الله تعالى ومنته التي يمن بها على من يشاء فضلا منه وقد يحرم منها من يشاء عدلا وحكمة قضى بأن يُقتَل أحدهما فيدخل في زمرة الشهداء ويتأخر أجل الثاني فترة ليست بطويلة بدليل أنهم لا زالوا يذكرون صاحبه. وتأمّل: الأول قتل شهيدا، والثاني مات ميتة طبيعية، إلا أن المدَّ في العمر مع استغلال الفرص بكثرة العمل والإخلاص فيها وصدق النية كانت سبب زيادة درجة الثاني ورفعته على صاحبه إلا أن يشاء الله فيرفع الأول مع الثاني منهما.
واعلم ـ عبد الله ـ أن كثيرًا من الخلق قادر على العمل ولكن الله جل في علاه كرّههم وكره انبعاثهم للطاعة والصلة به سبحانه بسبب سوء ما صدر منهم فثبطهم ولم يعنهم بل تركهم لأنفسهم تقودهم كما قال جل وعلا عن البعض من أولئك: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، وقال سبحانه محذِّرا: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
إذا فاعلم ـ عبد الله ـ أن إصرار البعض على ما هم فيه من معصية وغفلة علامةٌ على مقت الله لهم وعدم مبالاته سبحانه بهم، فالله كما يغار على أنبيائه فهو يغار سبحانه على شريعته، وقد يجنبها بعضَ من لا يستحقها. كما يجب أن تعلم أن إقبالك على الصلاة والطاعة راغبا فرِحا غير مكرَه ولا محرج إنما هو علامة للقبول عند الله جل في علاه، فلا تشمت بأولئك، ولا تلقِ بالا لهم ولا لما يصدر عنهم، واعمل لنفسك على الترقي في المنازل عند ربك سبحانه، فتلك ترقية ورفعة لا تحتاج إلا لعزم صادق وجهد لا يعرف الكلل ولا الملل، وليس غير ذلك شيء.
وأول ذلك التعامل الحق مع الفرص الربانية التي يمن بها جل وعلا دوما على عباده، فالله سبحانه قد خصص أمكنة وأزمنة فاضلة يُضَاعِفُ فيها قليلَ العمل ويفتح أبوابه موسعة لمريد زيادة الدرجات، وجمعتنا هذه هي الجمعة الثانية في موسم عظيم من مواسم الله العظام هو موسم الأشهر الحرم، تلك الأشهر التي نص عليها جل وعلا في محكم كتابه الكريم بقوله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ، ورسول الله يبين هذه الأشهر ويؤكد على أهميتها وضرورة احترامها بقوله في الحديث الصحيح: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري ومسلم. وجاء في نهاية الحديث التحذير من الظلم كما جاء في الآية الكريمة ليكون هذا تنبيها وبلاغا يتذكر به أولو الألباب فيزجروا النفس وينهوها عن الاندفاع وراء ما لا يحبه الله ولا يرضاه، سواء أكان انتصارا للنفس أو للمبادئ، كما ينهونها عن الانسياق وراء الشهوات فالله جل في علاه يقول: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ، وهذا نهي عام عن كل مظلمة للنفس وإن كان السياق في الأصل نهي عن ظلم النفس بالاعتداء على الآخرين.
وإن فيما حفظه التاريخ من تعظيم المشركين عُبّاد الأصنام والأوثان لهذه الأشهر لَدعوة للمسلمين لأن يعظموا هذه الفترة الزمنية التي نبه جل وعلا ونبه نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام على فضلها وأهميتها، ولكن الناس غفلوا عنها فلم يحفظوا منها سوى أيام الحج، حتى إنك لا تسمع ناهيا ينهى عن مشاجرة أو مخاصمة ولا أبا يحدث أبناءه بأننا في أشهر محرمة يجب كف النفس فيها عما لا يحل لها، ولئن شرع في رمضان زيادة العمل والصلة به سبحانه فإن في الأشهر الحرم تشرع طاعات وعبادات معينة، ويشرع بل ويؤكد على الكف عن السيئ من العمل سواء في حق الآخرين أم في حق النفس، ومعصية الله ظلم للنفس وظلم الآخرين والتعدي عليهم ظلم للنفس أيضا. وإنه لمن الغبن أن تترحل الأيام العظام ذوات الفضل ترحُلَ غيرها من الأيام، فكم من فرصة مرت كنا نعد النفس بالعمل فيها ولكن قصرنا وصرنا بآمالنا نتطلع لموسم آخر نتزود منه، وها هي الآن فرصة أخرى حلت تلوح بفضائلها وخيراتها، فماذا أعددنا لها؟! ولنتذكر الآن صاحبا من أصحابنا كانت له منزلة خاصة واريناه الثرى ماذا يتمنى الآن؟! وماذا نتمنى له نحن؟! ولننتبه لأنفسنا الآن علها أن لا تندم غدا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه.
وبعد: عباد الله، وإن مما يشرع في هذه الأشهر الحرم بل وإن أعظم سبب قد حرمت هذه الفترة لأجله هو الحج إلى بيت الله المحرم، تلك العبادة الخاصة العظيمة التي زرع الله سبحانه في فطر الناس وأفئدتهم الاستجابة لها منذ ذلك النداء الخالد من الرب جل جلاله لخليله ونبيه إبراهيم عليه السلام بقوله سبحانه: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. جاء في تفسير ذلك الأمر عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ، قال: ربّ ومَا يبلغ صوتي؟! قال: أذّن وعليّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فحجوا، قال: فسمعه ما بين السماء والأرض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون؟!
ولو أن غنيمة العبد من الحج هي فقط ما رواه ابن ماجة وغيره عن عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)) لكانت غنيمة كافية.
ومن لم يتيسر له الحج فقد شرع له من العمل ما قد يمنح به فضلا عظيما يدرك به شيئا مما فاته من أعمال الحج سيأتي ذكرها بإذن الله في حينها، ولعل في الحديث التالي تذكرة وعبرة إذ هو توجيه ودعوة في كل الأوقات ويتأكد في الأوقات الفاضلة دعوة لأعمالٍ من اعتنى بها عاش في خير ومات على خير، عن مُعَاذَ بْن جَبَلٍ وابن عباس وغيرهم رضوان الله عليهم قَالَوا: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: ((كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ)) ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ: ((إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ، إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ ـ أي: الملائكة المقربون في أي شيء يتباحثون؟ وعن أي شيء يتناقشون؟ إنهم يبحثون ويتناقشون حول أفضل الأعمال ـ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي يَا رَبِّ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي رَبِّ، فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ، قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ، قُلْتُ: نَقْلُ الأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلاةِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ)) ، وفي رواية أنه قال: ((وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلامِ وَالصَّلاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)) الحديث رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني وغيره.
عباد الله، هذه أعمال فاضلة يَغبِطُ أهلُ السماءِ أهلَ الأرض عليها، وهي ليست سوى خطوات إلى المسجد لكل الفروض، وبالأخص الجمع، وتعميم الوضوء على الأطراف والاعتناء بإكماله حتى ولو كان الوقت باردا أو الماء شحيحا أو مؤذيا ومؤلما، وإطعام الضيوف والمحتاجين، ولين الكلام وحسن الألفاظ، وركعات بالليل عندما يلذ النوم وتكره النفس الاستيقاظ، فهل نتمسك بها ونلزمها في كل حين وبالأخص في الأزمنة الفاضلة علنا أن نعيش بخير ونموت بخير ونعود من ذنوبنا وخطايانا كيوم ولدتنا أمهاتنا؟!
نسأل الله تعالى من فضله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على أنفسنا بالخشية منه سبحانه وتقواه، وأن يقر أعيننا بالحشر مع نبينا وبرؤية وجهه الكريم في جنات عدن ووالدينا وذرياتنا وأحبتنا والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ولنتذكر دوما أننا في أشهر حرم يحرم فيها الظلم للنفس وللآخرين، فلنتق الله فيها.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5557)
مزاين الإبل
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
22/10/1428
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جزيرة العرب قبل البعثة. 2- نعمة بعثة النبي. 3- جهود محمد بن عبد الوهاب في تجديد التوحيد. 4- نعم الله تعالى على بلاد الحرمين. 5- ظاهرة (مزاين الإبل). 6- مفاسد هذه الظاهرة. 7- حكم هذه المسابقات والمهرجانات. 8- مشروعية الانتساب للقبيلة. 9- الأخوة الإيمانية والكرم بالتقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى واذكروه، وارعوا نعمة الله التي أنعم بها عليكم وأخبركم أنكم لا تستطيعون عدها ولا حصرها، فإن النعم تتقيّد بشكرها، وإن الله تعالى قد وعدكم بالزيادة إن شكرتم وتوعدكم بالعذاب إن كفرتم، فقال جل وعلا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
أيها المسلمون، لقد كانت جزيرة العرب مرتعًا للجهل والفوضى قبل بعثة النبي ، وكان سكانها أهل جاهلية جهلاء وفي ضلالة عمياء، كان فيهم القوي يأكل الضعيف، وكانت تستهين بهم الحضارات المجاورة في بلاد فارس وفي بلاد الروم، بل كانوا يعتبرون الجزيرة العربية مَهلَكة ليس فيها إلا قوم رعاة للأغنام وقوم يغزو بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم بعضًا، حتى أكرم الله العرب بالإسلام ببعثة محمد ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2].
لقد خرج محمد في شعاب مكة ينادي بـ"لا إله إلا الله" ليعتز بها العرب يوم تمسكوا بها ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، فعزوا بعد ذلّ، واجتمعت كلمتهم بعد فرقة، وأغناهم الله بعد فقر، وخضعت الجزيرة العربية كلها لدعوة محمد قبل أن يفارق هذه الدنيا ملبّيًا نداء ربه، وأنزل الله تعالى عليه في آخر أيامه في صعيد عرفات قوله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]، فصلحت بعد فساد، وانتظمت بعد اختلال، وتوحّدت بعد شتات.
ثم تكرّر المشهد قبل عهد الإمام المجدد شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأعظم له الأجر والمثوبة، فقد قام بالدعوة إلى الله وتصحيح عقيدة المسلمين من الشركيات والبدعيات، وقيض الله له أنصارًا من أمراء آل سعود فآزروه ونصروه، فاحتضنوا هذه الدعوة السلفية النقية التي تدعو الناس إلى عبادة الله من جديد، فاجتمعت قوة العلم وقوة السلطان، فأصبحت هذه البلاد مضرب المثل في توفير الأمن والاستقرار وصفاء العقيدة، وتوارث ذلك الأجيال اللاحقة من أبنائهم وأحفادهم إلى يومنا هذا ولله الحمد والمنة.
كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا توفيق الله ثم جهود القائد الموحد الإمام الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، حيث أعادها جذعة من جديد دعوة سلفية خالصة واجتماعًا وألفة ومحبة، فاجتمعت القلوب والنفوس الطيبة والآراء الصائبة على جمع شمل هذه الجزيرة من حجازها ونجدها وشمالها وشرقها وجنوبها تحت اسم المملكة العربية السعودية أعزها الله، فلا يوجد بين أبناء هذا الوطن أيّ ميزة غير الإسلام، ولا فضل لأبيض على أسود ولا فضل لغني على فقير ولا للون ولا لجنس، فالجنسية واحدة من شمال البلاد من حدود بلاد الشام وإلى حدود بلاد اليمن، ومن شاطئ الخليج إلى شاطئ البحر الأحمر، كلهم إخوة في الله، كلّهم سعوديون، وإذا قيل هذا الاسم ذُكِر الإسلام والإسلام وحده، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وهذه نعم كبرى وآيات عظمى تفضل بها رب السموات والأرض على أهل هذه الجزيرة، فنحن نعيش اليوم راحة في جميع متطلبات الحياة الدنيا، فكان هذا الأمن والرخاء والعز والفلاح، فمنذ أن فتح الملك عبد العزيز مدينة الرياض ونحن من خير إلى خير ومن عز إلى عز ومن فضل إلى فضل، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21]، وصدق المولى جل جلاله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج: 41].
نعم أيها الإخوة المؤمنون، لقد عجزت تجارب كثيرة في بلاد مجاورة وغير مجاورة عن اتحاد الناس وجمع كلمتهم، الكثير منكم يسمع عن أحوال كثير من البلدان في العالم، يقتَلون ويحرّق بعضهم بعضًا، وكلهم مسلمون، ومع ذلك لا يستطيعون الاجتماع والاتحاد، كما يحصل التفرقة والشتات والنزاع والشقاق والحرب بين أبناء كثير من البلدان أصغر من بلادنا هذه بكثير وأقل منها شعبًا، فما بالكم ببلاد واسعة كالمملكة العربية السعودية وما فيها من البلاد واتساع مساحتها؟! ومع ذلك خضعت كلها لله رب العالمين، ونجحت هذه الأسرة المباركة أسرة آل سعود في جمع الناس على راية "لا إله إلا الله"، ولولا ذلك لم يجتمع لهم الناس، فلله الحمد والمنة، وله الشكر والفضل، وهذه نعم نذكر بها أنفسنا وأبناءنا من الأجيال المتأخرة ممن لم يدركوا حال الأجداد يوم كان الناس في رعب وخوف وجهل ومرض واضطراب، كل قبيلة تغزو الأخرى، وكل قرية تحارب الأخرى، فالحمد لله أولا وأخرا، ثم الحمد لله حمدًا لا كفاءَ له على ما أنعَم وأسدَى.
هذه المقدمة ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أذكرها لا تفاخرا ولا تعاليا، ولكن ليتضح أمام ناظرَي كلّ عاقل ومنصف ويظهر لكل مسلم أننا لا نحب بلادنا فطرة فحسب، ولكننا نحبها فطرة وجبلة وديانة. نعم أيها المسلمون، إن من أعظم نعم الله علينا أن جعلنا مسلمين ثم نعمة الأمن والإيمان والصحة في الأبدان، ونعمة الاجتماع والائتلاف والاعتصام والاستقرار والعزة والمنعة لهي من أعظم نعم الله علينا، والله تعالى قد اختارها واجتباها وهو يخلق ما يشاء ويختار قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78]. وإن تذكيرنا لكم ـ أيها الإخوة ـ ببعض نعم الله التي تترادف عليكم في هذا البلد الأمين إنما هو امتثالاً لأمر رب العالمين في كتابه المبين: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11].
فالنعم تترادف وتدوم وتزداد إذا شكرت وأدّى الناس حقوقها، فيجدر بنا ـ أيها الإخوة ـ أن نتحدث ونلهج بذكر الله وشكره، ونطلب المزيد من فضله، ونستجلب رضاه ونعمه بطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر؛ لتدوم هذه النعم، فما أحوجنا إلى شكر الله! والاستقامة على دينه مصدر عزنا وفخرنا وسبب أمننا واستقرارنا ورخائنا، فالمؤمن الحق هو الذي يعرف قدر نعمة الله عليه ثم يشكرها حق شكرها لتدوم وتبقى، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُم [إبراهيم: 7].
أيها المسلمون، إن كلامنا اليوم لا مجاملة فيه؛ لأنه ينبع من قلب غيور على وحدة هذا الوطن الغالي وحبه له ولقادته الكرام وأهله أهل العزة والكرامة والنخوة والشهامة، ولا يساور أحد شكّ في غيرتكم وحبكم لهذا الوطن الغالي كما يغار عليه كل مواطن مخلص لأن حب الوطن فطرة بشرية فطر الله الناس عليها، فمن منطلق حبنا لهذا البلد المبارك بلاد الحرمين الشريفين وقبلة جميع المسلمين وموطن سيد الثقلين نَجْهدُ في النصح له وفي القيام بواجباتنا تجاهه، وليعلم كل واحد منا أنه حارس للمجتمع ومرابط على ثغر من ثغور الأمة، ومن هذا المنطلق ـ أيها الإخوة في الله ـ أرجو تقبل كلامي إن رأى أحدكم فيه شيئا من القسوة؛ لأنه من باب وضع اليد على الجرح النازف، هي تضغط عليه وتؤلمه بيدَ أنها تريد وقف نزيفه وحفظ حياته، وإن الجرّاح ليضع مشرطه في جسد المريض ويقطعه، وربما استأصل بعض أجزائه، ولكنه يريد إصلاح الباقي، وينشد عافية ونجاة حياة المريض لا شك، وهي كلمة من القلب للقلب لا أريد بها إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. فأقول متوكلا على الله:
إنه لا يخفى عليكم ـ أيها الإخوة ـ ظاهرة ظهرت علينا في السنوات الأخيرة في أنحاء البلاد، وهي ما تسمى بـ(مزاين الإبل)، وتقام فيها بعض المسابقات الوطنية العامة المفتوحة لكل القبائل، ثم نحت القضية منحى آخر فصارت كل قبيلة تقيم لها مهرجانًا خاصًا، لا يخلو من دعوى الجاهلية وهي العنصرية، ولا يخلو من التفاخر والتبذير، وإن من المؤسف أن تكون الإبل وقود هذه العصبية المقيتة.
وقبل أن أتحدث عن هذا الموضوع الهام أقول: اللهم اشهد أننا نُكِنّ كلّ تقدير واحترام لكل قبائل هذه البلاد، ونوجّه هذا الكلام لكل هذه المهرجانات القبلية، ولا نخصّ بالنقد قبيلة ولا مهرجانًا بعينه، وإن العاقل ليتساءل: ما الذي يستفيده الوطن أو المواطن من هذه المسابقات القبلية؟! وهل تأملنا قليلاً في المصالح والمفاسد المترتبة عليها؟! وحتى نكون منصفين فإن هذه المسابقات والتجمعات القبلية لا تخلو من بعض المصالح من إشاعة الألفة والتضامن بين أبناء القبيلة وتجديد أواصر القربى وتأكيد صلة الرحم، وربما يكون فيها بعض الفعاليات الدينية والثقافية والدعوية، وهذه المصالح المدَّعاة يجب أن لا تعمينا عن النظر في المفاسد الأصلية المترتبة على هذه الاجتماعات، ومنها:
أولا: لا شكّ أن المسلمين اليوم في أمسّ الحاجة إلى الوحدة واجتماع الصّف، ولو كانت هذه التجمعات لا يحضرها إلا العقلاء والأخيار لما سلمت من آثار التعصب الخفي والمعلن، فكيف والدهماء والرعاع وعوام الناس هم قوامها وجمهورها في الغالب، الحقيقة أن القضية تعدّت (مزاين الأبل) إلى إثبات وجود ومكانة القبيلة، بل وإحياء النعرات المدفونة تحت رماد الماضي، والتغنّي بأمجاد القبيلة وقصص الانتصارات على القبائل الأخرى، وهذا الأمر خطير جدًا، وشهد شاهد من أهلها، فقد قال أحد ملاك الإبل المعروفين في المملكة: "للأسف أن النعرات القبلية والعنصرية موجودة في مهرجانات مزاين إبل القبائل". ولا بد أن نشير بكل أسف إلى دور الأمسيات الشعرية في إشعال فتيل التفاخر والعصبية وقيام بعض الشعراء بإثارة النعرات القبلية بين أبناء القبائل، ويكفي أن تنظر لشريط الرسائل في إحدى قنوات الشعر الشعبي وكيف يتنابز بعضهم ببعض، فالأول يقول: من أنتم يا بني فلان وأنتم كنتم كذا وكنّا كذا، فيرد الآخر ببيت شعر: حنا كنا كذا وجدانك كذا. والأدهى من هذا أن تتسلّل هذه العادة الجاهلية إلى أطفالنا وسفهاء الأحلام منا مع رضا والديهم وللأسف, وهذا والله نذير سوء؛ لأنه يغرس مفاهيم خاطئة في نفوس الناشئة، أضف إلى ذلك ما تعيشه كثير من المجتمعات من ويلات العصبية التي تجرّ ذيلها في الأحياء والشوارع والمدارس.
يا هؤلاء، إن التفاخر بالأنساب والأحساب والعصبية القبلية والتحزبات الجاهلية أعمال محرمة، قال عنها الحبيب : ((دعوها فإنها منتنة)) ، وقال فيها: ((ليس منا من دعا إلى عصبية)). إن هذه الأعمال تولد الصراع وتجلب الفرقة وتذكي الضغينة بين أبناء هذه الأمة في الوقت الذي يتربص الأعداء بها من كل جانب.
فيا هؤلاء، إن قبائل هذه البلاد المباركة قبائل معروفة، وتاريخها عريق في نصرة الدين وتوحيد هذه البلاد، وتقديم أبناء بررة في شتى التخصصات، وليست في حاجة لمثل هذه العصبيات والمهرجانات لتعرف بنفسها وتفاخر بمجدها.
ثانيا: الإسراف والتبذير وصرف المبالغ المالية الكبيرة في ما لا طائل وراءه، هناك تنافس ماديّ بين مشايخ وتجار القبيلة الواحدة لدعم هذه الاحتفالات، يصل إلى حد الإسراف المخيف والمنذر بانتقام الله، في الوقت الذي يعاني فيه كثير من أسر هذه القبائل وأفرادها من الفقر والإعسار والبطالة، بعض المهرجانات بلغت التبرعات فيها عشرات الملايين، بينما لا يوجد صندوق خيري واحد لسدّ حاجة الفقراء والمعسرين والأيتام وغيرهم.
ثالثا: التضييق على بعض المتعفّفين من مستوري الحال وإحراجهم للمشاركة الماليّة في المناسبة.
رابعا: المغالاة في أثمان الإبل بمبالغ خيالية لا شك في دخولها في الإسراف والتبذير المحرم. نعم، هناك من يهوى الإبل ويطلب الرزق بالمتاجرة فيها، ولكن هذه التجارة لا بد أن تكون في حدود المعقول، وليس كما نراه اليوم، المستفيد الأول من هذه المسابقات هم شيوخ القبائل وتجار الإبل، وهم أغلب المشاركين فيها، لقد أصبحت هذه المهرجانات أشبه ما تكون بالميسر المحرم، إثمه وضرره أكبر من نفعه، يكفي أن تعرف أن هذه الإبل لا تشترى للبنها ولا للحمها وإنما لجمالها، ولو أحجم بعض القادرين عن التداول فيها لبارت هذه السلع بيد أصحابها.
فيا هؤلاء، انظروا موقفكم من نعم الله، وتأملوا أحوال من حولكم ممن تنكروا لنعم الله واستكبروا في الأرض كيف دهمهم أمر الله، حتى لقد ملّكهم خوفًا وذعرًا، فبدلوا بالنعمة نقمة بالمنحة محنة، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]. فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، واتقوا أسباب سخطه وعقوبته، واشكروه على آلائه ونعمائه، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والحذر من أسباب زوالها وتحولها، ولنعلم أنه قلّ أن زالت نعمة عن قوم ثم عادت إليهم، قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]، وقال سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141].
أيها الإخوة، إن العاقل اللبيب هو الذي لا يغيب عن باله فضل الله عليه، وكلما تذكر نعمة الله عليه ازداد له حمدًا وشكرًا، والله تعالى أمر نبيه بأن يحدث بنعمته عليه في قوله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3]. ولا شكّ أن الإبل آية ربّانيّة، فلقد جاء الإسلام فرفع من شأن الإبل بما هو أهم وأعظم من مجرد النفع الدنيويّ، فجعل الله في التأمل فيها والنظر إليها وسيلة لمعرفة عجائب قدرته، وجعل النظر إلى كيفية خلقها مقدَّما على التأمل في السماء والجبال والأرض، وهذا مدخل إلى الإيمان الخالص بقدرة الله وجميل صنعه، ففي سورة الغاشية قال تعالى: أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17-20]. ففي هذه الآيات الكريمة يخصّ الله سبحانه وتعالى الإبل من بين مخلوقاته الحية، ويجعل النظر إلى كيفية خلقها أسبق من التأمل في كيفية رفع السموات ونصب الجبال وتسطيح الأرض، ويدعو إلى أن يكون النظر والتأمل في هذه المخلوقات مدخلاً إلى الإيمان الخالص بقدرة الخالق وبديع صنعه. في هذه الآية الكريمة يحضنا الخالق العليم بأسرار خلقه حضًا جميلاً رفيقًا على التفكير والتأمل في خلق الإبل أو الجمال باعتباره خلقًا دالاً على عظمة الخالق سبحانه وتعالى وكمال قدرته وحسن تدبيره، والنظر ومشاهدة الإبل كان من الأمور السهلة والممكنة في زمن النبي حين كان الجمل جزءًا من حياة كل إنسان في الجزيرة العربية. فلا شك أن الإبل رمز وطني اهتمّ به آباؤنا وأجدادنا، وكانت الإبل في وقتهم تحظى بعناية غير مُبالغ فيها، وأسعارها معقولة، مع أنهم كانوا أكثر حاجة منّا إليها.
هذه بعض مفاسد مسابقات المزايين، ومع هذا فلا يزال بعض الناس يكابر، بل إن أحدهم يتشدق بقوله تعالى: أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ على مشروعية هذه المسابقات، وقد ردّ عليه أحد الشعراء بقوله:
سيجمع الجمعُ أموالاً وأموالاً فِي ذاك بغيتُهم حِلاًّ وترحالاً
لا للفقير ولا للبر سعيُهمُ لكن لأمرٍ غلا في اللّغو إيغالا
يا أمةً رغم ضعفٍ بات ينهشها أمست تنازع ربَّ الكون سربالا
وتدّعي أنه عن أمر بارئها وأنه في جمال الإبل قد قالا
والله قال: انظروا فيها لتعتبروا ولَم يقل: فانتقوا منهن أشكالا
ولم يقل: واجعلوا في ذاك محتفلاً وقوموا الليل تصفيقًا وموّالاً
و أترعوه بنعرات قد اندثرت وأنفقوا الْمال تبذيرًا وإضلالاً
سبحان الله! كيف يجتمع الناس هذا الاجتماع الشعبي الكبير من أجل جمال حيوان لا ينطق ولا يتكلم, ويجعلونه في كامل أناقته وزينته، ويتقافزون طربًا من أجل شفَتَيه أو رقبته، وفي القبيلة ذاتها بشر لا يجدون ما يسدّ رمقهم ويقضي حاجتهم؟! لماذا لا نجتمع لسد حاجة الآلاف من أسرنا المحتاجة أو شبابنا العاطل أو المحتاج للزواج وبناتنا العوانس المحتاجات للزواج؟! هل مزايين الإبل أهم عندنا من بناتنا مزايين الخلق والدين؟! وقد يتساءل بعض الناس عجبًا: أين عقلاء القوم؟! وهل يمكن أن يجتمع كل هؤلاء على باطل؟! فنقول: لا تعجب، فإن التجمعات الكبيرة الجماهيرية المشوبة بالمشاعر والحماس يتساوى فيها العاقل والجاهل، ويصبح التمييز فيها معدومًا، خصوصًا في الأمور التي مرجعها الشعور كالأدب والقبيلة والجماعة, فينحّى تحكيم العقل فيها، ويصبح الشعور هو سيد الموقف.
أيها المسلمون، ويبقى السؤال الهام: ما الحكم الشرعي لهذه المسابقات والمهرجانات؟ لقد صدرت الفتوى من اثنين من علمائنا الكبار بتحريم مسابقات (مزايين الإبل) بوضعها الحالي:
فقد سئل معالي الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء عن مسابقات (مزايين الإبل) فقال: "لا تجوز المشاركة في ذلك لما فيه من المنكرات من بذل الأموال الطائلة بغير فائدة والله جل وعلا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]، ولا يجوز أخذ العوض عن المسابقات لأنه من القمار إلا ما استثناه الرسول بقوله: ((لا سبق إلا في ثلاث في نصل أو خف أو حافر)) ، والمراد بذلك المسابقة على الخيل أو على الإبل أو على الرماية لأجل التدرب على الجهاد في سبيل الله، وما عدا ذلك لا يجوز أخذ الجوائز عليه من المسابقات؛ لأنه أكل للمال بالباطل وهو داخل في الميسر والقمار" اهـ.
وممن أفتى كذلك في ظاهرة (مزايين الإبل) معالي الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء، فقد ذكر أن فعاليات ومسابقات (مزايين الإبل) هي من البدع الضالة، وأكد أن كُلَّ من ينساق وراء هذا النوع من السباقات مشمول بصفات التبذير والإسراف وكذلك التغرير ببسطاء العقول. وكان الشيخ المنيع تلقى سؤالاً في هذا الخصوص، فحواه أن بعض المواطنين يتفاخرون بكرائم الإبل (المزايين)، ووصل حد التفاخر إلى التغالي بأسعارها وتداول بيوعها بأثمان باهظة جدًا، يصل البعير أو الناقة إلى مليون ريال أو مليونين أو أكثر، وامتد هذا التفاخر إلى قبائل البادية وإلزام مشايخ هذه القبائل أفرادها بدفع مبالغ مالية للدخول في هذه المفاخرات. وأكد فضيلة الشيخ المنيع في فتوى أصدرها بذلك أن هذا التفاخر مما كان لدى الجاهلية من الأعراف والتقاليد البالية المتنافية مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ومن ذلك العدل في الإنفاق والبعد عن الإسراف والتبذير، مذكرًا بقول الله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27]، وقوله تعالى في شأن المال وحفظه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء: 5]. وأشار الشيخ عبد الله المنيع إلى أن مشايخ القبائل حينما يلزمون أفرادهم بمبالغ ينفقونها للدخول في هذا التفاخر والتباهي يعتبرون ظالمين لإخوانهم وإخوانًا للشياطين من حيث الإسراف والتبذير، والله سبحانه وتعالى غيور على حدوده ونعمه، ولا شك أن المتجاوزين لهذه الحدود والكافرين بنعم الله جديرون بغضب الرحمن. وأضاف في فتواه: "يغلب على الظن أن نفوق الإبل الذي حدث أخيرًا هو عقوبة من رب العالمين على هذا الانحراف بالأموال إلى الإسراف والتبذير"، سائلاً المولى عز وجل أن يعيد أهل هذا التصرف الآثم إلى رشدهم.
فيا أيها الإخوة، هذا ما أفتى به كبار علمائنا، وإن لنا في ذلك لعبرة، فاسمعوا وخذوا النصيحة منهم، ولا تزهدوا في كلام الناصحين، اضبطوا عواطفكم بالشرع المطهر، وانصروا دينكم وأمتكم.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعًا لشكر نعمته والاستقامة على طاعته، وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر.
أيها الإخوة المؤمنون، قد كتبت ما قلت وسمعتم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، القائل: يـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى.
عباد الله، ونحن نتحدث عن القبلية ربما يقول قائل: هل يمنع الشرع من الانتساب إلى القبيلة والاعتزاز بها والوفاء لها؟ الجواب: بلا شك لا، ولكن ـ أيها المبارك ـ إذا انتسبت لقبيلتك فليكن لك مساحتك الخاصة في الاعتزاز بها في الوقت المناسب والمكان المناسب، دون مخالفةٍ شرعية ولا تعصبٍ أعمى ولا تجريحٍ للآخرين أو افتخارٍ عليهم. إن الافتخار بالقبيلة والتعصب لها مظهر جاهلي ممنوع، أما مجرد الانتماء إليها وصلة رحمها فهو مظهر إسلامي مشروع. وأشير كذلك إلى أنه من أسباب انتشار التفاخر بين أبناء البدو وأبناء القبائل هو استفزازهم من قبل بعض السفهاء سواء في الإنترنت أو في بعض المجالس العامة, فيحتقر البدو ويقلّل من مكانتهم ويذكر مثالبهم، فيرد الآخر بازدراء الحضر والتعصّب لقبيلته، وكل هذا والله من الجهل والسفه.
والواجب على الجميع نبذ كل هذه الألوان من التعصب والتحزب، فلا بدوي ولا حضري، ولا قبيلي ولا خضيري، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. لو كان النسب وحده ينفع صاحبه لكان أبو لهب عمّ النبي متربّعا في سماء العزّ والمجد، ولكنه لما أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، فتردى في هاوية سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد: 3]، أما بلال رضي الله عنه فإنه لما أسرَع به عمله مع كونه حبشيًّا تربّع في سماء ((إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة)) ، فدعوها فإنها منتنة.
عباد الله، إن مما يدعو للتفاؤل أن عددًا من العقلاء من نفس القبائل التي تقيم هذه المسابقات قد كتبوا عنها في الصحف والمنتديات، وحذروا من مساوئها على البلاد، وطالبوا بإيقافها، ونحن نضمّ أصواتنا لهم بمنع مثل هذه المسابقات ولو تضمّنت بعض الأمور المشروعة كما أفتى مشايخنا الكبار بذلك.
وختامًا أيها الإخوة الكرام، أوصيكم ونفسي بالتزام الكتاب والسنة، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، واحذروا من كل بدعة تخالف كتاب الله تعالى وسنة نبيه.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ كلّ ما سمعتم في هذه الخطبة إنما هو والله غيرة على أمن ووحدة هذه البلاد المباركة، وأرجو أن لا يفهم البعض أن هذا الكلام موجّه ضد قبيلة أو أخرى، فحن نكنّ كل تقدير واحترام لكل القبائل في بلادنا، ولكل مواطن صالح، بل ولكل مسلم تقيّ داخل بلادنا أو خارجها.
ونسأل الله أن يجمع قلوبنا تحت راية التوحيد في هذه البلاد المباركة، بلادنا المباركة كلها هي قبيلتنا وعزتنا، وفوق ذلك إسلامنا هو انتماؤنا الأكبر وهو الذي نجتمع عليه ونذود عنه، وهو مصدر فخرنا وعزنا ورقينا، نسأل الله أن يجعل كل أبناء الأمة الإسلامية بادية وحاضرة يدا واحدة في وجه أعدائها، وأن ينزل السكينة في أنفسنا، والرحمة فيما بيننا، ويؤلف بين قلوبنا، ويهدينا سبل السلام، ويجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، كما نسأله سبحانه أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يأخذ نواصينا إلى الهدى.
ألا وصلوا على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا في كتابه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعنا معهم بعفوك وجودك ومنك يا جزيل العطاء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الملة والدين، اللهم احم حوزة هذا الدين، اللهم انصر عبادك الموحدين...
(1/5558)
قراءة في نصيحة سماحة المفتي بشأن خروج الشباب للجهاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
22/10/1428
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واجب النصيحة. 2- مضمون نصيحة سماحة المفتي. 3- مفاسد الذهاب إلى العراق للقتال. 4- من فقه الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى, وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
معاشر المسلمين، من أجلّ صفات العلماء الربانيين أنهم يخلصون النصيحة للناس, ويدعونهم للخير والفلاح, ويهدونهم للفوز والنجاح, ويحذّرونهم من مغبة مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله ؛ وذلك لأن أهل العلم ورثة الأنبياء, ومن شأن الأنبياء أن يمحضوا النصيحة للمؤمنين, قال تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62], وقال تعالى: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود: 34]. وفي الحديث الصحيح قال : ((الدين النصيحة)) , قالوا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، تناولت الصحف في الأيام الماضية نصيحة سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله تعالى, وقد وجهها سماحته لأبنائه الشباب في هذه البلاد الطيبة بلاد الحرمين الشريفين حينما حملتهم الغيرة على أعراض المسلمين المنتهكة وحركتهم الدماء التي تسيل من عروق إخوانهم المضطهدين على أيدي أعداء الملة والدّين في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، وحرَّكتهم تلك المشاهد الدموية التي تذاع في اليوم والليلة عبر وسائل الإعلام عن مقتل بعضهم وهدم بيوتهم وانتهاك حقوقهم وسلب أموالهم؛ مما جعل الشباب ينظرون للمستقبل نظرةً ملؤها الشؤم واليأس, ولم يجدوا من الحكومات القريبة والبعيدة من تنتصر لهم وترفع الضر عنهم وتنادي للجهاد في سبيل الله تعالى. هذا وغيره دفع ببعض الشباب ـ وفقهم الله لكل خير وهداهم سواء السبيل ـ أن يبذلوا النصرة لإخوانهم هناك بأنفسهم وأموالهم, ولم يرقبوا في ذلك طاعة آبائهم ورضاهم ولا إذن ولاة أمر المسلمين في هذه البلاد وطاعتهم.
ولا شك أن الدافع لهؤلاء الشباب الحماسةُ لدينهم وغيرةً عليه, لكنهم لم يبلغوا في العلم مبلغًا يميزون به بين الحق والباطل, فكان هذا سببًا لاستدراجهم والإيقاع بهم من قبل أطراف مشبوهة, وأصبحوا أداةً فتاكةً في أيدي أجهزةٍ خارجيةٍ تعبثُ بهم باسم الجهاد الذي يحبونه وجاؤوا من أجله, يحقّقون بهم مآربهم, وينفذون أهدافهم, في عملياتٍ غاية في القذارة والقباحة, هي أبعد ما تكون عن الدّين الحنيف, حتى بات شبابنا سلعةً تباع وتشترى لأطراف شرقية وغربية, لأهداف وغايات لا يعلم مدى ضررها على الإسلام والمسلمين إلا الله سبحانه.
أيها الشباب المسلم، لقد ترتب على الذهاب للخارج بحجة الجهاد مع كون الأوضاع مضطربة والأحوال ملتبسة والرايات غير واضحة, ترتب على ذلك مفاسد عظيمة, منها:
أولاً: عصيان ولي أمرهم والافتيات عليه, وهذا من كبائر الذنوب, قال : ((من أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي)) رواه البخاري, ويقول : ((السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية, فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) رواه البخاري, والأدلة في تحريم معصية ولي الأمر كثيرة.
ثانيًا: وُجد من بعض الشباب ـ وفقهم الله لكل خير ـ الذين خرجوا لما يظنونه جهادًا خلعُ بيعةٍ صحيحةٍ منعقدةٍ لولي أمر هذه البلاد الطاهرة بإجماع أهل الحل والعقد, وهذا محرّم ومن كبائر الذنوب, يقول النبي : ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له, ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) رواه مسلم.
ثالثًا: وقوعهم فريسةً سهلةً لكل من أراد الإفساد في الأرض واستغلال حماستهم حتى جعلوهم أفخاخًا متحركةً يقتلون أنفسهم لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية لجهاتٍ مشبوهة من حيث لا يشعرون.
رابعًا: استغلالهم من قبل أطرافٍ خارجيةٍ لإحراج هذه البلاد الطاهرة وإلحاق الضرر والعنت بها وتسليط الأعداء عليها وتبرير مطامعهم فيها. وقد تبيّن في الواقع حدوث عمليات تفجيرية بأيدي الأعداء لإحداث فوضى بين المسلمين, ولتسويغ مهاجمتهم وقتلهم واحتلالهم، وإحياء فتنة الطائفية لينشغلوا بقتل بعضهم بعضًا في حين يتسنى لهم نهب خيرات بلاد المسلمين وهم عنهم غافلون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59 ].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة, ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المسلمين، من المتقرِّر في الشريعة الإسلامية السمحة في أمر الجهاد في سبيل كونه من خصائص ولاة الأمور, وعليهم يقع واجب إعداد العدة وتجهيز الجيوش, ولهم الحق في تسيير الجيش والنداء للجهاد وتحديد الجهة التي تقصد والزمان الذي يصلح للقتال, إلى غير ذلك من أمور الجهاد كلها موكولة لولي الأمر, بل إن علماء الأمة أهل الحديث والأثر قد أدخلوا ذلك في كتب العقائد, وأكدوا عليه في كلامهم. قال الحسن البصري رحمه الله في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود, واللهِ ما يستقيم الدّين إلا بهم وإن جاروا وظلموا, واللهِ لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون, واللهِ إن طاعتهم لغيظ, وإن فرقتهم لكفر"، وقال الطحاوي رحمه الله: "والحج والجهاد ماضيان مع ولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى يوم القيامة, لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: "ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع والأمراء, أبرارًا كانوا أو فجارًا".
وهذا الأمر ولله الحمد مستقرٌ عند أهل السنة والجماعة أن لا جهاد إلا بأمر الإمام وتحت رايته, والأصلُ في هذا قول النبي : ((وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ من وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فإن له بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قال بِغَيْرِهِ فإن عليه منه)) أخرجه البخاري ومسلم. وعلى هذا جرى إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من سائر المسلمين.
قال سماحة المفتي: "وعليه فإن الذهاب بغير إذن ولي الأمر مخالفة للأصول الشرعية وارتكاب لكبائر الذنوب, والمحرض لهؤلاء أحد رجلين:
إما جاهلٌ بحقيقة الحال, فهذا يجب عليه تقوى الله عز وجل في نفسه وفي بلاده وفي المسلمين وفي هؤلاء الشباب, فلا يزج بهم في ميادين تختلط فيها الرايات وتلتبس فيها الأمور, فلا تتضح الراية الصحيحة من غيرها, ويزعم أن ذلك جهاد.
وإما رجل يعرف حقيقة الحال ويقصد إلحاق الضرر بهذه البلاد وأهلها بصنيعه هذا, فهذا والعياذ بالله يخشى عليه أن يكون من المظاهرين لأعداء الدّين على بلاد التوحيد وأهل التوحيد, وهذا خطر عظيم.
أيها المسلمون، هذه الشريعة الإسلامية شريعة ربانية, جاءت كاملةً غير منقوصة, تامةً غير قابلة للزيادة, هاديةً لا ضلالةَ فيها, مستقيمةً لا اعوجاجَ فيها, وإن الحقَ أبلجُ لا غيايةَ عليه, يراه كلُ من فقه في دين الله وتعلم أحكامه واهتدى بهدى أهل البصيرة والنور واستمسك بغرزهم ووسعه ما وسعهم, فاتبع ولم يبتدع, وأخذ الهدى وطرح الهوى, وصبر وصابر, ولم يغتر ويكابر, والحماسة قرينة العقل, فإن خلت منه كانت تهورًا, والأمة بحاجةٍ إلى قوة الشباب وحكمة الشيوخ, فمن كان مع الجماعة هدي إلى صراط مستقيم, ومن فارقها قيد شبرٍ ضل ضلالاً بعيدًا.
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5559)
وجوب التمسك بالسنة
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد العزيز بن فهد الريس
الحائر
جامع إصلاحية الحائر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل ذكر الله تعالى. 2- حب التقليد والاتباع في النفس البشرية. 3- التحذير من تقليد أهل الهوى والشبهات الشهوات. 4- الأسوة الحسنة. 5- وجوب طاعة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي الموجبة لرحمته والمنجية من سخطه وأليم عقوبته، من حققها فاز ونجا، ومن ضيعها خرج من دائرة أهل العقول السليمة والحجا.
أيها المسلمون، نقضي الآن في هذا المسجد أوقاتًا فاضلة نؤدي فيها بخشوع وطمأنينة عبادة وشعيرة جليلة هي صلاة الجمعة، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يشملنا ذلك الوعد الذي أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)). فما أيسر هذا العمل على من يسره الله عليه! وما أجزل ثوابه من الكريم سبحانه! سكينة تتنزل ورحمة تغشى وملائكة تحفّ ورب كريم رحيم يذكر، نسأل الله الكريم من فضله.
أيها المسلمون، إن من سنن الله تعالى في خلقه أن جعل لهم قدوات يتأسون بهم ويتبعونهم فيما يفعلون ويتركون، فالناس يتطلعون لتقليد واتباع من هم أعلى منهم منزلة وأكبر منهم سنًا. وهذا الأمر ـ أعني التقليد ـ يبدأ منذ ولادة المولود كما يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ، فلا بد للعبد أن يختار له قدوةً صالحة يقلدها حتى ينجو ويفوز ويفلح.
أيها المسلمون، المغبون الخاسر من يقلّد أهل الهوى والشبهات والشهوات ويسير في ركب إبليس الذي ينتهي في نار تلظى، حمانا الله وإياكم، يقول الله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 21، 22].
فهذه الخطبة التي خطبها إبليس كبير العصاة وقدوتهم الذي قام خطيبًا في أتباعه وعلى رأسهم شياطين الجن والإنس، قام فيهم في جهنم بعدما رأوا العذاب ومسهم منه ما مسهم، فأعلن براءته منهم، فالعاقل الذي يتبرأ من إبليس الآن قبل أن يعلن إبليس براءته منه في جهنم عياذًا بالله.
أيها المسلمون، لا يعذر التابع بتقليده للمتبوع؛ لأن الله جل وعلا جعل لكل عبد عقلاً وفطرة سليمة يختار بها من يقلده ويتبعه، ولا يوجد على هذه الأرض من يستحقّ الاتباع المطلق إلا النبي عليه الصلاة والسلام كما يقول جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. الله أكبر! أسوة حسنة في عقيدته وتوكله، وأسوة حسنة في عبادته وتبتله، وأسوة حسنة في خلقه وتعامله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى أصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
فاللهم ارزقنا اتباعه والتمسك بسنته حتى نلقاه على حوضه المورود، فيسقينا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العلي الأكرم، والصلاة والسلام على خير قائد ومعلم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، من أراد النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة فليتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام التي هي الأصل الثاني من أصول دين الإسلام بعد كتاب الله تعالى، وقد أمرنا الله جل وعلا بطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، ووعدنا بالرحمة إن نحن فعلنا ذلك، قال سبحانه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران :133]، وقال تعالى: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء: 80]. وحذرنا جل وعلا من مخالفة أوامر نبينا عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]. فطاعته عليه الصلاة والسلام واجبة على الأمة، ومعصيته قد تحرِم العبد من دخول الجنة، كما روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).
فيا عبد الله، تمسك بسنة رسول الله، ولا تغتر بدعوة فلان ولا دعوة علان، انظر فيما حولك، فما وافق السنة فاقبله، وما خالفها فلا تلتفت إليه، فالباطل باطل وإن زخرِف وكثُر أتباعه، والحق حق وإن شوّهت صورته وقلّ مناصروه.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيه بالمؤمنين من جنّه وإنسه، فقال عز من قائل كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسلك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحبة أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/5560)
دعاوى حرية المرأة وقيادتها للسيارة
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا المجتمع
إبراهيم بن صالح العجلان
الرياض
جامع الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة موضوع حرية المرأة وأهميته. 2- استهداف الأعداء للمرأة المسلمة. 3- عمل المرأة في الإسلام. 4- من صور تخريب المرأة. 5- الحرية الحقيقية. 6- قضية قيادة المرأة للسيارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان، وستبقى قضية المرأة هي القضية الأهم في مجتمعنا، ستبقى قضية المرأة حلقة مفاصلة بين أهل الغيرة الذين يسيرون بالمرأة إلى برّ الأمان وبين قطيع المستغربين الذين يزجون بالمرأة إلى وادٍ سحيق من الانفلات والتفلت. سيتكرر الحديث عن المرأة ما دام في الجهة الأخرى من يعلي ضجيجه وصخبه ويبثّ سمومه في المجتمع. سيتكرر الحديث عن المرأة لأنها وصية النبي لأمته، ولأنها أعظم فتنة خافها المصطفى على أمته. قضية من قضايا المرأة تثار بطريقة ماكرة، قضية قديمة تلبس بلبوس جديد، إنها قضية حرية المرأة، وما أدراك ما حرية المرأة! ذلك المصطلح العائم الفضفاض الذي يفسره كل قوم بحسب أهوائهم ومصالحهم، حتى أصبح هذا المصطلح يطرح في كل عيد واحتفال وفي كل مناسبة وبلا مناسبة. ولسنا بحاجة ـ عباد الله ـ إلى بيان حرية المرأة في الإسلام وحفظه لحقوقها كاملة، لسنا بحاجة إلى بيان كيف نقل الإسلام المرأة من قمقم المهانة في حياة الجاهلية إلى قمم الكرامة في سماء الإسلام. هذه الحرية وتلك الكرامة عرفها عقلاء الغرب وغابت عن بعض بني جلدتنا، يقول المفكر الفرنسي غوستاف لوبون: "إن الإسلام قد أثر تأثيرًا حسنًا في رفع مقام المرأة أكثر من قوانيننا الأوروبية".
عباد الله، ما عرف المسلمون في تاريخهم قضية تثار باسم حرية المرأة، وإنما عرفنا هذه القضية بذرة نشأت في فرنسا النصرانية، نشأت الدعوة إلى حرية المرأة في تلك الديار كردة فعل لتلك النظرة الدونية للمرأة في التراث النصراني الذي اعتبرها أصل الخطيئة ومنبع الشر، ثم جاء بعد ذلك عصر الاستعمار الذي نقل لنا المستعمر ثقافته وفكره مع سلاحه ودبابته، نقل لنا استعماره الاجتماعي مع استعماره الفكري، وكان من أذرعة هذا الاستعمار ما يعرف بحركات حرية وتحرير المرأة، والتي قامت في مصر وتركيا وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وحفظ الله بلاد الحرمين من هذه الدعوات وتلك السموم الفكرية.
إخوة الإيمان، إن المتتبع والمتابع لقضايا المرأة هنا في السنوات الأخيرة ليرى بعين البصر والبصيرة أن المرأة هنا مستهدفة، مستهدفة بجرّها إلى مثل حال أخواتها في البلدان التي استجابت لنداءات أبالِسة دعاة حرية المرأة، وليست هذه الرؤية ـ عباد الله ـ من قبيل المبالغة أو الوقوع في هاجس المؤامرة، كلا لقد نوقشت قضايا نسائنا هنا في هيئات عالمية ومؤتمرات دولية، ووضعوا الحلول لحريتها بعيدة كل البعد عن تشريعات الإسلام وأحكامه، وأثبتت لنا الأحداث والوقائع بعد ذلك أننا أمام مشروع تغريبي يراد بالمرأة هنا تحت شعار المطالبة بحريتها.
هذا المشروع التخريبي يطل علينا تحت صور وأشكال عدة، فمن أبرز أذرعته وأولى خطواته افتعال قضية للمرأة يصوّرون من خلالها أن المرأة مهضومة الحقوق مسلوبة الإرادة، ثم تطرح تلك القناة أو الصحيفة آراء الناس مع هذه القضية، والغلبة والنهاية بالطبع للرأي الذي تتبناه هذه الوسيلة، والنتيجة: إقناع الناس أن للمرأة قضية، وأنها تعيش حياة مكبوتة. وهذا الأسلوب الإعلامي سلطة خفية تعيد صياغة عقول الناس وتوجهاتهم بطريقة غير مباشرة، ولو تأملنا ودققنا في هذه القضايا المثارة لوجدنا قضايا فردية لا يخلو أي مجتمع منها. نعم، يوجد لدينا ظلم وعضل وقهر للمرأة، ولكن علاجه يكون بالطرق الإسلامية الشرعية، لا بالدعوة إلى الحريات المنفلتة.
ومن المشاريع التخريبية الظاهرة السعي الجاد لإخراج المرأة من بيتها بكل وسيلة وبأي طريقة، فتراهم لا ينفكون عن الحديث عن حبس المرأة والتباكي على عزلتها، يتحدثون عن بطالة النساء والقاعدات في البيوت وعن شلل نصف المجتمع والأيادي المعطلة، مع تهميش واضح ومتعمد لعمل المرأة في بيتها، سجلوا لنا برامج لنساء ناجحات وما رأيناهن إلا متبرجات ساخطات على قيم المجتمع، في بلدنا أكثر من مائة ألف معلمة لم نر الإشادة بواحدة منهن ووصفهن بالنجاح! والسبب أنهن يعشن في جو مصان من الحشمة والبعد عن الاختلاط.
عباد الله، إسلامنا لم يحرم على المرأة العمل، بل أباح لها ذلك إذا احتاجت وكان هذا العمل مناسبا لطبيعتها بعيدا عن مخالطة الرجال أو الخلوة بهم، أما المناداة بخروج المرأة في أي مهنة حتى ولو كانت لا تتناسب مع أنوثتها فهذا مصادمة لقانون الفطرة ووقوع في شراك التبعية.
أما حال الحجاب مع دعاة الحرية النِّسوية فهو تارة يقيد حرية المرأة، وتارة عادة اجتماعية وحرية شخصية، وأخرى من العادات البالية التي فرضها الزمن الذي فرضت فيه ولا يصلح لزماننا هذا، وأصبح خروج المرأة السعودية ممثِّلة أو مذيعة مطلبًا ثمينًا لبعض القنوات الفضائية، حتى ولو لم تكن هذه المرأة مؤصلة فكريا وثقافيا ومهنيًا، الأهم والمؤهِّل أن تحمل هذه الجنسية.
عباد الله، ومن صور تخريب المرأة تحت شعار الحرية الدعوة إلى فتح النوادي النسائية والمطالبة بتمثيل المرأة لبلدها في المناسبات الرياضية مع الشنشنة المحفوظة: "وفق عاداتنا الإسلامية وتقاليدنا"، وأسألك بالله: أي عادات وأي إسلام يبقى بعد هذا كله؟! ومن لحن القول عند دعاة الحرية النسوية الدندنة حول موضوع قوامه الرجل أو سفر المرأة بلا محرم أو العلاقات البريئة ـ زعموا ـ بين الجنسين، وكلها قضايا محسومة بنصوص شرعية قطعية.
عباد الله، هذه بعض الدعاوى المطروحة في حرية المرأة، والدعاوى أكثر، والضابط في هذا الموضوع أن كل حرية تعاكس الشرع وتصادم الشريعة فهي في الحقيقة تمرّد على دين رب العالمين وتفلت من الاستجابة لأحكام الإسلام. ولنعلم ـ عباد الله ـ أن حقيقة دعوة هؤلاء ليس الوصول لحرية المرأة، وإنما حرية الوصول إليها وإن أظهروا لنا خلاف ذلك، إلا أن فلتات اللسان تأبى إلا أن تخرج المكنون، يقول أحد دعاة هذه الحرية المزعومة: "كيف قادَتنا جاهليّتُنا الحديثة إلى أن قسّمنا وجودَنا وكياننا إلى قسمين قليلاً ما التقينا؟!".
وبعد: عباد الله، فإن حرية المرأة الحقة تكمن في عبوديتها لله واستسلامها لأوامر دينها، حرية المرأة مربوطة بالقوامة عليها والتي تحفظ لها كيانها وتحافظ على عفتها، حرية تجعل المرأة تتدفق حياء وتشرق طهرًا، لا مرحبًا بحرية تقتل الحياء وتغتال الحشمة، ولا مرحبًا بحرية تسترجل فيها النساء ويجترئ عليها السفهاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27].
بارك الله لكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيها من الآيات والحكمة، وأقول ما سمعتم، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، وقضية أخرى طالما دندن حولها دعاة حرية المرأة وأجلبوا عليها وغرروا آخرين فيها، قضية تنشط تارة ثم تفتر، ثم تهيج تارات ثم تخبو، إنها قضية قيادة المرأة للسيارة، تلك القضية التي لا زال سعارها متوهجًا وشرها يرمي بلظاه في الأيام القريبة الخوالي، رفعت فيها تواقيع ومطالبات، ودبجت فيها مقالات، ومثلت من أجلها مسلسلات، وسيقت فيها قصص وحكايات.
عباد الله، إن من واجب القول وأمانة الكلمة أن نقف مع هذه القضية الحساسة وقفات عدة:
أولاً: أن أمر قيادة المرأة للسيارة قضية محسومة بفتوى شرعية من هيئة كبار العلماء وبقرار موفق يذكر فيشكر لولاة الأمر، وهذه الفتوى إذا كانت غير مقنعة لفئة معينة فهي بحمد الله محل الثقة والاعتبار عند غالبية المجتمع وسواده.
ثانيًا: أن قيادة المرأة للسيارة من القضايا العامة المتعلقة بحياة الجميع، وأثرها وضررها على الكل، والبتّ في هذه القضايا العامة وتقدير المصلحة والمفسدة فيها يتطلب علما راسخًا وفهما ووعيًا بمآلات الأمور وإدراكًا لطبيعة ووضع المجتمع، وقبل ذلك كله تقوى الله تعالى في أعراض المسلمين ونسائهم. وإذا تقرر هذا فليس من الاعتبار في هذه القضية أو الفصل فيها فتح باب التصويت، سواء أكان هذا التصويت في قناة معروفة التوجه أم في مواقع إلكترونية مشبوه أم في صحيفة سيارة ما طرحت التصويت إلا لقناعتها به، ثم أيضا لا يدرى من هو هذا المصوت أمتعلم هو أم جاهل، أعاقل أم سفيه، أمتزن أم طائش، ومع ذلك تأتي النِّسَب والنتائج عكس ما كان يتوقعه ويؤمله هؤلاء بكثير.
ثالثًا: أن أساس الفتوى الشرعية وأسّ القرار الحكومي ليس لذات القيادة، وإنما لغيره من المفاسد المتنوعة والنتائج الضارة، والجدال في هذه القضية على أنها محرم لذاتها خروج عن الموضوع وتلبيس على من لا يدرك الفرق بين الأمرين.
رابعًا: أن هذه المطالبات هي في الحقيقة من أقلية لا رقم لها في حساب المجتمع، وليس لأقلية أن تفرض رأيها أو توجهاتها على رأي الأغلبية الساحقة، وإلا لحدث بلبلة واضطراب في كيان المجتمع.
خامسًا: سؤال يطرح نفسه: لماذا تختصر قضية حرية المرأة وإصلاحها في قيادة؟! هل انتهت مشاكل المرأة في بلدنا ولم يبق إلا أمر القيادة؟! أين الحديث عن انتشار قضايا المعاكسات وبيوت الدعارة؟! أين الحديث عن أثر الإعلام في إفساد المرأة؟! نتمنى من هؤلاء الغيورين على المرأة أن يتلفتوا إلى المشاكل الحقيقية التي تحيط بالمرأة وتعطل من دورها في المجتمع، والتي لا شك أن قيادة السيارة ليست منها، فضلاً عن أن تكون من أهمها وعلى رأسها.
سادسًا: أن هذه القضية ليست مسألة ركوب سيارة، بل هي قضية لها ما بعدها لا ينبغي أن نفصلها عن مشاكلنا الاقتصادية أو اختناقاتنا المرورية أو عن قيمنا وأعراضنا وإن تسامح فيها المتساهلون. ماذا عن المشاكل الأخلاقية والأخرى الأمنية التي لا يعلم مداها إن انفجرت إلا الله تعالى؟! ومن الغفلة والتغافل أيضا أن ننظر إلى مسألة القيادة كقضية مفرد وليس جزءًا وحلقة من مشروع كبير طالما دندن حوله المنغمسون في ثقافة المرأة.
سابعًا: إذا كانت قيادة المرأة للسيارة نافعة للمرأة في مجتمعنا ولا ضرر عليها وأن من يمنع ذلك مصاب بعقدة رفض كل جديد ـ كما زعموا ـ فأين الدراسات العلمية والإحصائيات الميدانية التي تثبت لنا أن هذه المسألة لا ضرر فيها ولا مفسدة؟! وللأسف أن بعض من يطرح هذه القضية هم من حاملي الألقاب الأكاديمية ويفتقد طرحهم إلى أبجديات الطرح العلمي.
ثامنًا: نعم يوجد في مجتمعنا حالات تحتاج فيها المرأة للقيادة، والسماح لها فيه منفعة وحلّ لمشكلتها، لكن من الخطأ في المعالجة أن ننظر إلى هذه المشاكل الجزئية ونتغافل عن سلسلة المفاسد الكبرى، فالقضايا العامة ينظر في حكمها إلى الأعم الأغلب وإن كان فيه مفسدة وضيم على الغير، ومن قواعد الشريعة المقررة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
تاسعًا: نسائلكم عباد الله: من الذي يطالب ويروّج لهذه الدعوات؟ أهو عالم بالشرع يفقه الحلال والحرام ويفهم مقاصد الشريعة، أم هو مسؤول يقدر للكلمة عواقبها، أم هو رجل غيور يخشى الله في نساء المسلمين؟! إنهم حفنة من المستهترين المسعورين خلف المرأة أو من المقترين بهم ممن قلّ فقههم وقصر إدراكهم في هذه القضية.
ثم عاشرًا وأخيرًا: سؤال آخر يطرح نفسه: لماذا تطرح هذه القضية في أوقات الأزمات وإبان الحملات المغرضة ضدّ بلادنا والتي من المفترض أن يكون المجتمع فيها لحمة واحدة مع علمائه وولاته؟! فأين صدق الانتماء ودعاوى الوطنية ممن يصنع ويتفنن في مثل هذه الإثارة؟!
الخلاصة ـ عباد الله ـ أن أمر القيادة سيفتح أبوابًا من المفاسد كثيرة تكلّم عنها العلماء وبسطها الناصحون، وعدُّها وحصرها مقام يطول، وحسبنا أن نعرف أن قيادة السيارة مطيّة لنزع الحجاب أو التساهل فيه، وحال الحجاب اليوم لا يحتمل مزيدًا من التسامح واللعب فيه، وقد علمتنا حوادث الأيام وتجارب الدول القريبة أن قيادة نسائهم ما زادهم إلا تمردًا على الحجاب أو التساهل فيه، والسعيد من وعظ بغيره.
نسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه...
(1/5561)
العصبية القبلية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
ناصر بن سعود القثامي
الحوية
23/10/1428
جامع السناح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مبدأ الأخوة الإيمانية. 2- تأليف الإسلام بين القلوب. 3- النسَب في نظر الإسلام. 4- ذم العصبية الجاهلية. 5- حرص الأعداء على تفريق الأمة الإسلامية. 6- تواضع النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فتقواه سبحانه بها ترفع الدرجات وتغفر السيئات، وبها يتمايز الخلق عند فاطر السموات، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.
عباد الله، إن من المبادئ العظيمة التي أرسَى دعائمها ديننا الحنيف مبدأ أخوّة الإسلام، إنها الصلة الحقيقية التي تربط أبناء الإسلام على تنائي الأوطان وتباعد الديار واختلاف الألسن واللغات. إن رابطة الدين والعقيدة رابطة تضمحلّ في ظِلالها كلّ روابط العنصريات والقبليات الممقوته، إنها رابطة لا تنفصم عراها ولا تتقطع حبالها، إِنَّمَا الْمؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.
عباد الله، ليس غير الإسلام جامعًا للقلوب، ليس غير الدين مؤلفًا بين الشعوب، تتلاشى أمامه كل دعاوى الجاهلية والفوارق الجنسية والعصبيات القومية، يأتي نبيكم محمد منذ زمن بعيد ليعلن للناس جميعًا ضلال الأنساب والأحساب والتفاخرات القبلية، ليعلن للناس جميعًا أن أصلهم واحد وخلقتهم واحدة ومردهم واحد والتمايز والتفاضل على أساس العمل والتقوى: ((أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى)).
عباد الله، إن النظر والمقياس يوم القيامة للقلوب والأعمال، لا للصور والأجسام، ولا للأحساب والأنساب. إن النسب ـ يا عباد الله ـ لا يزيد في عمل الإنسان ولا ينقص، يصدق ذلك قول النبي : ((من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)). إن النسب لم يقدم شيئًا لابن نبيّ الله نوح عليه السلام؛ إذ فارق أباه في العقيدة، فقال الله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. إن النسب الرفيع لم يقد شيئًا لأبي جهل ولا لأبي لهب، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد: 1-3]، بينما نصرة الدين والإسلام ورفع لوائه هي التي رفعت سلمان الفارسي وبلالا الحبشي وصهيبا الرومي، فهم لا يملكون نسبًا ذائعًا ولا صيتًا قبليًا؛ إذ سمع نبينا خشخشة بلال في الجنة، ويقول لصهيب: ((ربح البيع أبا المنذر)) ، ويأتي سلمان لما تفاخروا بالقبيلة ليعلن مقولته المشهورة:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميمِ
إن العصبية القبلية والحمية الجاهلية رافعة ألوية الشيطان وباعثة الأحقاد وموقدة الفتن، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح: 26].
لقد حذر نبينا من المفاخرة بالأحساب والطعن في الأنساب، وجعلها من أمور الجاهلية، ولذا يقول: ((أربع من أمتي من أمر الجاهلية: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)).
إن العصبة القبلية والحمية من أجلها مقتها رسولنا وعدّها من دعاوى الجاهلية: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) ، ويقول : ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) ، بل جعلها الإسلام منتنة تنفيرًا للنفوس من سلوك طريقها واتباع سبيلها؛ إذ ضرب رجل من الأنصار رجلاً من المهاجرين فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال : ((ما بال دعوى الجاهلية؟!)) فقالوا: يا رسول الله، رجل من الأنصار ضرب رجلاً من المهاجرين، فقال: ((دعوها فإنها منتنة)).
إن المفاخرة بالقبيلة واستنقاص الناس يتنافى مع التواضع؛ إذ يقول : ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد)).
عباد الله، إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي والطعن في أنساب الناس وأصولهم واحتقارهم لأجل هذا أمر منكر يدل على ضعف الإيمان وخور العقل، إنه مرض فتاك يشعل العداوات ويفرق الجماعات، يولّد الكبر المذموم والزهو الممقوت، ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)). إن استنقاص الناس والتقليل من شأنهم والحطّ من قدرهم على أساس العنصريات القبلية والانتماءات المكانية أمر يتنافى مع تعاليم الإسلام ويفرق الأخوة الإسلامية ويزرع الأحقاد، ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره)).
لقد شدد النبي في محاربة هذا الداء بقوله: ((لينتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان الذي يدهده الخرأة بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية ـ أي: كبرها ـ ، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب)).
لقد جاء نبينا إلى المدينة فوجد قبلتَي الأوس والخزرج متناحرتين، تقوم بينهما المعارك لأتفه الأسباب، تغلغلت فيهم أسباب العصبية والنعرات الجاهلية، جاءهم بعدل الإسلام ونور الإيمان، فأصبحوا إخوة متحابين متآلفين، سادوا الدنيا ونصروا الدين، إنهم الأنصار، أثنى الله عليهم في كتابه، وذكّرهم بحالهم إبان الفرقة والنزاعات الظالمة: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103].
عباد الله، إن أعداء الإسلام بمكرهم الدفين وحقدهم المتين على الإسلام وأهله لم يألوا جهدًا في التفرقة وإثارة النزاعات والعصبيات؛ لأنهم يدركون أن هذا طريق التمزق والاختلاف والضعف والوهن للمسلمين، ويصدق ذلك واقعهم المعاصر في أرض العراق وإثارة الأحقاد والحزبيات والطائفيات، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30].
عباد الله، لقد ساوى الإسلام بين الناس، وأعلمهم بما يتمايزون به يوم القيامة، إنه ميزان التقوى لا ميزان اللون والجنس والقبيلة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [لحجرات: 13]. لقد بدأت الآية بتأصيل مبدأ الخلق وأن أصلهم واحد: آدم وحواء، ثم أخبرت عن تشعب الناس وقبائلهم لأجل التعارف لا لأجل التفاخر، ثم ختمت ببيان ميزان الكرامة والرفعة عند الله ألا وهو التقوى.
عباد الله، العصبية القبلية مجالس الدهماء تروّجها، واحتفالات القبائل تذكيها، وأشعار الغاوين تردّدها، ونحن أمّة واحدة، عقيدة الإسلام تجمعنا، وراية التوحيد تألّف بيننا، لا فخر لنا إلا بطاعة الرحمن، ولا عز لنا إلا بالإيمان، ومهما ابتغينا العزة بالأنساب والألوان فلا عز لنا.
إن العصبية القبلية قد توقع المرء في ظلم العباد ومنع الحقوق وبخس الناس أشياءهم والانتصار للباطل ودخول الكبر المذموم إلى قلب العبد، ألم يمتنع إبليس من السجود لآدم بسبب نظرته لأصله الناري؟! فكيف يسجد للأصل الطيني؟! قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12]، أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء: 61].
فاتقوا الله عباد الله، واربؤوا بأنفسكم عن النعرات الجاهلية والافتخار بالقبلية والعصبية، فإن الفخر الحقيقي والنسب الحقيقي في الإسلام، عليه نحيا وعليه نموت.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
عباد الله، إن أخوة الإسلام من أوثق الروابط بين المسلمين، تتجاوز الحدود الجغرافية والروابط القبلية، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)).
وإن الناظر ـ يا عباد الله ـ في حال نبينا محمد وما كان عليه من التواضع الجمّ وهو من هو صاحب الحوض المورود واللواء المعقود صاحب النسب الطاهر والحسب الرفيع ولذا يقول: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ، وهو خيار من خيار، ومع ذلك لم يحمله شرف نسبه ورفعة أصله على الكبر وازدراء الناس واحتقارهم، بل ضرب به المثل في التواضع، يأكل مع الخادم، ويجالس المسكين، ويمشي مع الأرملة، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، وينام على الحصير، ويقول: ((أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)).
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على قدوة الخلق أجمعين...
(1/5562)
التدخين والعرض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن فهد الريس
الحائر
جامع إصلاحية الحائر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل ذكر الله تعالى. 2- تكريم الله تعالى للإنسان. 3- داء التدخين. 4- ضرر التدخين على العرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي الموجبة لرحمته والمنجية من سخطه وأليم عقوبته، من حققها فاز ونجا، ومن ضيعها خرج من دائرة أهل العقول السليمة والحجا.
أيها المسلمون، نقضي الآن في هذا المسجد أوقاتًا فاضلة، نؤدّي فيها بخشوع وطمأنينة عبادة وشعيرة جليلة هي صلاة الجمعة، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يشملنا ذلك الوعد الذي أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)). فما أيسر هذا العمل على من يسره الله عليه! وما أجزل ثوابه من الكريم سبحانه! سكينة تتنزل، ورحمة تغشى، وملائكة تحف، ورب كريم رحيم يذكر، نسأل الله الكريم من فضله.
أيها المسلمون، كرّم الله تعالى بني آدم أيما تكريم، وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلاً، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا. وأول إنسان خلقَه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وحبا الله تعالى الإنسان عقلاً يعرف به الضار من النافع، ويميز به الطيب عن الخبيث، فالعاقل من يترك كل شيء يعود عليه بالضرر في دينه ودنياه ويقبل على ما ينفعه.
أيها المسلمون، من الناس من ينهمك فيما يضرّه في دينه ودنياه، ولا يعتبر، ولا يتوب مما يسمعه ويراه، وللأسف فقد شاع بين بعض المسلمين داء فتّاك ومرض عضال، يفتك بدين العبد ونفسه وعقله وعرضه وماله، ذلكم هو داء التدخين عافانا الله وإياكم منه.
عباد الله، إن هذا الشر الوارد إلينا من أعدائنا لا يجوز لنا السكوت عنه، لا سيما ونحن نرى ضحاياه يتساقطون في كل يوم وليلة، فهذا مصاب بسرطان في بدنه، وذاك مصاب بتصلّب في شريان قلبه، وآخر يسعل ليل نهار، ناهيكم عن اسوداد في الوجه وشحوب في اللون والهيئة، فمٌ رائحته كريهة، وأسنان تئنّ من سموم تعلق بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أمراض في الدنيا وأوزار في الآخرة، وصدق القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي
فيا عباد الله، هل من وقفةٍ صادقة ناصحة مع أنفسنا المقصّرة؟! من عوفي فليكثر من حمد الله وليجتهد في التحذير من هذا الداء ومناصحة من وقع فيه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن ابتلي فعليه أن يترك هذا الداء بلا تردّد، وأن يسأل الله تعالى أن يعينه، فهو جل وعلا مَن أمَرَه بالتوبة عاجلاً غير آجل، ووعده بالمغفرة والأجر العظيم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وصام وأناب، وعلى آله والأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب.
أيها المسلمون، نعرف جميعًا أن التدخين محرّم وخبيث، ويسبب الأمراض الخطيرة، لكن ثمةَ أمر يجهله الكثيرون، وهو أن المدخن قد يجلب على نفسه العار ويساهم في الاعتداء على عرضه علم أم لم يعلم. نعم، إنها حقيقة مرّة يجب أن نصدع بها. احذر أيها المدخن؛ عرضك في خطر وأنت السبب وإليك البراهين:
أولاً: أنت قدوة لأبنائك وأقاربك الصغار، فإذا رأوك تدخّن فإنهم حتمًا سيقلدونك، ومن شابه أباه فما ظلم، ثم ما النتيجة؟! طفل لم يحتلم أو شابّ مراهق ابتلي بالتدخين لا شك أن رفقاءه الطيّبين سينفرون منه ويجتنبونه خوفًا على أنفسهم، وسيلتفّ عليه أصدقاء السوء ومن هم أكبر منه سنًا، ولا تسأل عما سيحصل بعد ذلك، عافانا الله وإياكم.
ثانيًا: كل عاقل يسعى لتطبيق وصية الرسول عليه الصلاة والسلام بالاقتران بالمرأة الصالحة ذات الدين، فقد روى الإمام مسلم عن النبي أنه قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)). والمدخن يصعب عليه أن يقترن بذات الدين؛ لأنها غالبًا لا تقبل به، فيدفعه ذلك إلى الزواج من امرأة أقلّ دينًا، فينعكس ذلك على أخلاق الأولاد وتربيتهم؛ مما يتسبب في انحرافهم ووقوعهم في الشرور والرذائل، عافانا الله وإياكم.
ثالثًا: المدخن ـ يا عباد الله ـ معرّض للوقوع في داء المخدّرات، فلا يوجد مدمن إلاّ وكانت بدايته مع التدخين، ثم تردّى حتى صار مدمنًا، والمدمن لا همّ له ولا شغل إلا الحصول على جرعة من المخدر تعيد إلى جسمه التوازن، أما أهله وعرضه فلا يسأل عنهم إلا نادرًا إن سأل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، صيحة تحذير ونصيحة مشفق من أخ لإخوانه: احذروا هذا الداء الوارد إلينا من الأعداء، وليسعَ كلٌّ منا في محاربته ومكافحته؛ لعل الله أن يدفع عنا شره وضرره ويستبدلنا خيرًا منه، إنه خير من سُئل وأجود من أعطَى وأكرم من قُصِد، هو حسبنا ونعم الوكيل.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بالمؤمنين من جنِّه وإنسه، فقال عز من قائل كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسلك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/5563)
خطورة سب الدين
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
سلطان بن حيدر الأهدل
بيت الفقيه
مسجد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نِعَم الله تعالى على الإنسان. 2- الاعتراف بنعم الله تعالى. 3- فضل تعظيم الله تعالى. 4- نعمة الإسلام. 5- جريمة سب الله تعالى ورسوله ودينه. 6- الإجماع على أن سب الله تعالى ورسوله ودينه كفر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله الذي لا فلاح ولا كرامة إلا بطاعته، ولا نجاة ولا فوز إلا بتقواه، وكونوا من أبناء الآخرة وطالبيها، ولا تغتروا بالدنيا وما فيها، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32].
معاشر المسلمين، إن المسلم ينظر إلى ما لله عليه من مننٍ لا تحصى ونعم لا تستقصى، فلقد اكتنفه سبحانه من ساعة علوقه في رحم أمه إلى أن يلقاه يوم القيامة، فينبغي لهذا المسلم أن يشكر الله تعالى على هذه النعم بلسانه بحمد الله والثناء عليه، وبجوارحه بتسخيرها في مرضاته وطاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله سبحانه وتعالى وتقديرًا له؛ إذ ليس من الأدب في شيء كفران النعم وجحود المنعم والتنكر له ولإحسانه وإنعامه، والله سبحانه يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل: 53]، ويقول سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34].
وإن من إجلال الله وتعظيمه واعترافًا بحقه أن نتفكر في آلائه ونخضع له سبحانه، فهو الكريم العظيم الذي هو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، إنه الله الجليل، هو وحده الخالق لهذا العالم، لا يقع شيء في الكون من حركةٍ أو سكون أو رفعٍ أو خفض أو عزٍ أو ذلٍ أو عطاءٍ أو منع إلا بإذنه سبحانه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
من تفكر في ذلك خاف الله تعالى لا محالة؛ لأن الفكر يوقعه على صفاتِ جلال الله وكبريائه، فهو سبحانه العزيز الكريم المتعال الواحد القهار الذي قهر كل شيء وغلبه، والذي لا يطاق انتقامه، مذلّ الجبابرة، القوي الذي تتصاغر كل قوة أمام قوته ويتضاءل كل عظيم أمام ذكر عظمته.
إن تعظيم الله عز وجل من أجلِّ العبادات القلبية وأهم أعمال القلوب التي يتعين ترسيخها وتزكية النفوس بها، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 83].
أيها المسلمون، ولا شك أن أجلَّ نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض عامة وعلى المسلمين خاصة بعد معرفته وتعظيمه سبحانه نعمة الإسلام وبعثة نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والسلام.
عباد الله، لقد كان أهل الأرض قبل مجيء الإسلام في ظلام دامس وضلال مبين، فأنقذهم الله بهذا الدين وأخرجهم من الظلمات إلى النور. هذا الدين الذي أرسل الله به محمدًا هو دين الله للبشرية كافة، ضمنه سبحانه نظامًا متكاملاً للحياة لتسعد به البشرية في هذه الدنيا وتنجوَ وتفوزَ في الآخرة. هذا الدين غايته الكبرى وهدفه الأسمى الإصلاح بشتى صوره وكافة أشكاله، دين الرحمة، دين يدعو إلى إيصال النفع وتحقيق المصالح للعباد، دين تقوم دعوته على الخير والهدى في الدنيا والآخرة، دين لا يرضى بالأذى ولا يقر الضرر لغير المعتدين الظالمين.
فيتبين مما سبق ـ يا عباد الله ـ أن المؤمن الحق هو من عظَّم الله تعالى وعظَّم رسوله وعظَّم دين الإسلام، فهكذا يكون المؤمن حقًا، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30].
ولكن أيها المسلمون، هل تصدقون أنه يوجد في أمتنا في مجتمعنا ومن يتكلم بألسنتنا من ينتهك هذا التعظيم ويدنّس هذه الحرمة ويقول كلمة الكفر والعياذ بالله؟! فينطلق لسانه بها دون هوادة، فيسب الذات الإلهية، يسب الله خالق الإنسان والأكوان، ويسب خير البشرية محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام، ويسب القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويسبّ هذا الدين العظيم الذي أنقذ البشرية من الكفر إلى الإيمان ومن الضلالة إلى الهدى.
إنها والله لجريمة كبرى وعادة قبيحة رذيلة وبدعة دخيلة منكرة، تلك التي تنتشر في بلادنا ونسمعها من شبابنا وأبنائنا، سب الدين والرب، حتى نسمع الطفل الذي لا يتجاوز من العمر خمس سنوات يسبّ ويتلفظ بهذه الألفاظ، فمن أين وكيف تعلم ذلك يا ترى؟! لقد تعلم من البيئة التي يعيش فيها، تعلم من شر البقاع إلى الله تعالى الأسواق، تعلم ممن هم أكبر منه سنًا، تعلم من أبيه أو من أمه أو من جيرانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول رسولنا الأكرم في حديث مطول: ((ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)). فالإثم يلاحق الشخص الذي أدخل هذه المسبّات إلى بيته، وأوصلها إلى جيرانه وأصدقائه حتى بعد وفاته.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، نقول لمن خرجت من فمه هذه الكلمات القبيحة وتفوّه بالكفر الصراح: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح: 13]، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66].
وتأمل ـ يا عبد الله ـ كيف شن الله تعالى حربًا على من ينسب الولد إليه في كتابه فقال سبحانه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مري: 90، 91]. ولا شك أن سب الله المباشر الذي يخرق صماخ آذان الموحدين على لسان بعض المنتسبين للإسلام أسوأ من نسبة الولد إليه سبحانه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67].
أيها المسلمون، إن الذين يسبون الذات الإلهية ويستهزئون بالرسول قد حكم الله عليهم باللعن والطرد من رحمته الواسعة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 57، 58]. ففرَّق الله عز وجل في الآية الكريمة بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا، وقد جعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين.
ومن هنا ـ يا عباد الله ـ نعلم خطورة الاستهزاء بالدين وأهله، سواءً عبر ما يعرض في المسلسلات والأفلام الهابطة التي تصوّر أهل العلم والفضل أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو شعائر الدين في صور لا تليق، بل وربما تعدّى أهل الدين والفضل. فهل يعي من يتجرأ على الدين وأهله خطورة ما أقدم عليه؟! وهل بعد هذا الجرم العظيم إلا الوقوع في الله ورسله وأنبيائه؟!
أيها المسلمون، عباد الله، إن المتأمل في مجتمعنا يجد أن الموازين قد انقلبت وتبدلت، فلو أن شخصًا سب دين شخص آخر فإنه لا يتأثّر ولا يتحرّك ولا تهتزّ له شعرة واحدة ولا يعتبرها إهانة لدين الله، أما إذا سُبَ أباه أو أمه أو أهله فإنه يثور ويغضب وتظهر الحماقات ونشاهد المشاجرات ومبادلة الشتائم بين الطرفين، وهذه ظاهرة من ظواهر الجاهلية الأولى، وهي معاكسة تمامًا لأخلاق رسولنا الأكرم الذي كان يغضب حينما تنتهك حرمات الله، ولم يكن يغضب لنفسه ، فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصف أخلاقه: وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى.
فالواجب على المسلمين تقوى الله تعالى وإجلاله وتعظيم دينه ونبيه والعمل بسنته ونصيحة من زلّ لسانه بأمر يخالف الشرع وتحذيرهم من هذه المصيبة؛ فإن أعظم مصيبة هي مصيبة الدين؛ لأن من استهزأ بهذا الدين ولقي الله بغير توبةٍ يخشى عليه والعياذ بالله من عذاب الجبار.
نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق، وأن يحفظ ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي كتابه وسنة نبيه الكريم محمد ، والحمد لله رب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا ببعثة سيد الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله بدرُ التمام ومسك الختام، صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
عباد الله، اتقوا الله تعالى، خافوه وعظموه، قدسوه واقدروه حق قدره.
أيها المسلمون، إن علماء التوحيد من المذاهب الأربعة من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم قد نصوا على كفر السّابّ للدين أو للنبيّ الكريم أو لربّ العالمين، بل وحكوا على ذلك إجماعات أهل العلم، وأن من فعل ذلك يعتبر مرتدًّا ويخرج من ربقة الإسلام.
قال الإمام إسحاق بن راهويه وهو من أئمة الشافعية: "أجمع المسلمون على أن من سبّ الله ورسوله أو دفع شيئًا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيًا من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقرًّا بكل ما أنزل الله"، وقال القاضي عياض رحمه الله: "لا خلاف أن سابّ الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن من سبّ الله تعالى أو سب رسوله كفر كفرًا ظاهرًا وباطنًا، سواءً كان السابّ يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده"، وقال أبو بكر بن المنذر: "أجمع عوام أهل العلم على أن من سبّ النبي يقتل، وممن قال ذلك مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي" اهـ.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أما آن للمجتمعات المسلمة أن تعلم لماذا تنزل علينا المصائب تترى؟! لماذا يسلط الله علينا أعداء الإسلام؟! إن ذلك بما كسبت أيدي الناس، يقول عز وجل في سورة الشورى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، أي: لعلهم يتوبون ولعلهم يرتدعون، ولو أن الله رب العالمين يحاسب الناس في الدنيا ويؤاخذهم على أعمالهم ما ترك على ظهرها من دابة، فيقول عز وجل في سورة النحل: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل: 61].
فأحفظ ـ أيها المسلم ـ دينك أن لا يذهب عليك بكلمات يستزلّك بها الشيطان مسايرة لرفقاء الشر والغيّ، فإن الموت مصير كل حي، ولا يعلم الإنسان متى يحلّ، ومن نزل به لم ينفعه إلا عمله بعد توفيق الله، أما يعلم هؤلاء أنهم إذا ارتدّوا عن الإسلام فإنّ هناك أحكامًا شرعية تطبّق عليهم؟! فلا تجوز الصلاة خلفهم، ولا تحلّ ذبيحتهم، ويجب أن يفرّق بينه وبين زوجته فلا تحل له، وغيرها من الأحكام التي تجري على الكافر في الدنيا. ثم إذا لم يتوبوا وماتوا على مثل هذه المقولات الشنيعة فإنهم لا يغسّلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، ولا يجوز لمسلم أن يترحّم عليهم أو يدعو لهم؛ لأنهم كفار مرتدّون لوقوعهم في هذا الإثم الذي هو أعظم الآثام.
فوا عجبًا لهذا الإنسان! ما العمل الذي يبقى له عند ربه الذي هو مفتقر إليه وفي حاجة لرحمته بعد سبّه له أو لدين الإسلام أو لرسوله ؟! بل إن هذه الثلاث هي أول ما يسأل عنها العبد في قبره، فماذا بقي له من هذه الدنيا؟!
فيا لله! ما هذه الحال التي بلغها المسلمون حتى إنهم لم يسلم منهم أحد حتى ربُّهم الذي يعبدون ودينه الذي يعتقدون ونبيه الذي يعظمون؟!
إذا جلجلت الله أكبر فِي الوغى تخاذلت الأصوات عن ذاك النِدا
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سدى
فعلينا ـ أيها المؤمنون ـ جميعًا أن نتوجه إلى الله خالق الإنسان والأكوان تائبين منيبين إليه مستغفرين، علينا أن نتكاتف جميعًا على محاربة هذه البدعة المحرمة وهذا الجرم العظيم على الآباء والأمهات، على المعلمين والمعلمات، على العلماء والوعاظ وعلى الدعاة وكل مسلم غيور على ربه ورسوله ودينه أن يعالجوا هذا الموضوع ويقفوا سدًا منيعًا لمنع هذه الظاهرة السيئة في المجتمع، ورسول الله يقول: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفَّنا على التوحيدِ شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، ولا تشمت بنا الحاسدين والأعداء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
(1/5564)
الاحتباس الحراري
موضوعات عامة
مخلوقات الله
محمد بن عبد الله الصواط
الطائف
22/10/1428
جامع الأمير سعد الفيصل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الفساد في البر والبحر. 2- معنى الاحتباس الحراري. 3- مظاهر ظاهرة الاحتباس الحراري ومفاسدها. 4- وقفات مع هذه الظاهرة. 5- دعوة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم وأطيعوه، وراقبوه دوما ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله، ونحن نعيش في عصر محتدمٍ بالكشوفات والمخترعات، وملتهب بالصراعات والتوسعات، عصر كثرت فيه ضروب الفساد وعمّت، وانداحت كرب الشرّ وطمّت، تنظر يمينًا وشمالا فلا ترى إلا حروبا مهلكة وزلازل مدمرة وأعاصير مزمجرة وفيضانات مفرّقة مغرقة، قد خلّفت وراءها نساء ثكالى وأطفالا يتامى ومشرَّدين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وهذه المصائب والكوارث ما هي إلا بعض جزاء لما اقترفته أيدي بني آدم من الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
عباد الله، ومن هذا الفساد الذي ظهر بسبب طغيان بني آدم ما سأحدّثكم عنه اليوم من قضية تنادى لها العالم شرقا وغربا، ورصدت لأجلها ملايين الدولارات، واستنفرت لها الجهود والأبحاث من مختلف الأصقاع والبلدان؛ لما لها من آثار سيئة على العالم كلّه على المدى القريب والبعيد، إنها ظاهرة "الاحتباس الحراري"، فما المقصود بها؟ وما آثارها؟ وما علاقة الإنسان بها؟
الاحتباس الحراريّ معناه باختصار: هو الزيادة التدريجية لدرجة حرارة الأرض نتيجة لزيادة نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو فوق النسبة الطبيعية، ومن عجيب صنع الله أن هذا الغاز السام يلعب دورا مهما في تدفئة الأرض، فبدونه قد تصل درجة حرارة الأرض إلى تسع عشرة درجة تحت الصفر، وزيادته فوق نسبته الطبيعية تجعل الحياة على الأرض جحيما لا يطاق، ولذلك كان من حكمة الله تعالى وبديع صنعه أن جعل لهذا الغاز نسبة معينة في الجو لا يزيد ولا ينقص عنها، إلا أنه مع تقدم الصناعة وتطوّر وسائل المواصلات والاعتماد على الفحم والبترول والغاز الطبيعي كمصدر أساسي للطاقة وما ينتج عن ذلك من انبعاث كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو بنسبة كبيرة فوق ما يحتاجه الغلاف الجوي للحفاظ على درجة حرارة الأرض أدى ذلك إلى زيادة معدّل درجة حرارة الأرض خلال السنوات الأخيرة بشكل متسارع، مما ينذر بحدوث كوارث طبيعية على المدى القريب والبعيد.
أيها الإخوة، إن من أهم مظاهر هذه الظاهرة كما يقول المختصّون ما يلي:
1- ارتفاع درجة حرارة الأرض بشكل متصاعد في العقود الأخيرة بنسبة 1.5 درجة مئوية عن مستويات عام 1990م، وهذا سيجعل نحو ثلث الأنواع الحيوانية والنباتية معرّضة للانقراض في الأربعين عاما المقبلة إذا استمرّت وتيرة هذا التصاعد.
2- ذوبان مساحات شاسعة من جبال القطب المتجمد، وهذا أدى إلى ارتفاع مستوى مياه البحر، وبالتالي غرق مناطق ساحلية شاسعة ذات كثافة سكانية عالية، كما أدى إلى ضعف خصوبة التربة وتدني الإنتاج الزراعي، فضلا عن الانهيارات الثلجية وانزلاق الصخور.
3- ذوبان الثلوج في المناطق الجبلية كجبال الهملايا والأنديز، وهذه الجبال تعمل بقدرة الله كخزانات طبيعية للمياه، حيث تتجمع بها مياه الأمطار وثلوج الشتاء، ثم تبدأ بالذوبان تدريجيا في الصيف لتمدّ الأرض بالمياه العذبة في صورة جداول وأنهار، وذوبانها بسرعة أكبر يجعل المناطق الواقعة تحتها عرضة للجفاف وشحّ المياه.
4- كثرة ظهور الأعاصير بمعدلات لم تكن معروفة من قبل، وظهورها في أماكن لم تكن تظهر فيها من قبل، وهذا يرجع لوجود تيارات ساخنة في المحيطات مما أثّر على التوازن الحراري فيها، وأنتج بقدرة الله هذه الأعاصير.
هذا بعض ما قاله المختصّون حول هذه الظاهرة, ولنا مع ذلك كله وقفات:
الوقفة الأولى: أن المسلم يعلم علم اليقين أن ما يكون في هذا الكون من خير أو شر أو نفع أو ضر أو صلاح أو فساد فهو بإذن الله وقدره ومشيئته، كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]؛ ولذلك فإنّ نسبة هذه الظواهر إلى غير الله شرك، كما قال فيما يرويه عن ربه: ((أصبح منك اليوم مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن)).
الوقفة الثانية: أن كل ما يحدث في هذه المعمورة من فساد وخلل فهو نتاج سيئ لذنوب بني آدم وخطاياهم، فالذنوب لها آثار سيئة ومدمّرة على الإنس والجن والحيوان والنبات والفيافي والبحار، بل امتدّ أثرها إلى الهواء الذي نستنشقه، فانظر إلى المعصية وشؤمها كيف يعمّ الأخضر واليابس، وصدق الله حيث يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، فبيّن جل شأنه أن المعاصي سبب لظهور الفساد في برّ الأرض وبحرها وجوّها، قال أبو العالية رحمه الله: "من عصى الله في الأرض فقد أفسَد الأرض؛ لأنّ صلاح الأرض والسماء بالطاعة". فالذنوب ـ عباد الله ـ لها آثار سيّئة ليس على الإنسان فحسب، بل على كل ما حوله من أشجار ودواب وأنهار وغيرها، سمع أبو هريرة رضي الله عنه رجلا يقول: الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: (لا والله والذي نفسي بيده، إنّ الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم).
الوقفة الثالثة: في ظاهرة الاحتباس الحراري مثال حيّ واضح لما للحضارة الغربية المادية من آثار سيئة على الأفراد والمجتمعات عندما تجردت عن القيم والأخلاق والآداب ورمتها خلفها، فأصبح همّ دهاقنتها زيادة أرباحهم ولو كان ذلك على حساب حياة غيرهم من الشعوب، فلا يهمّ من يعيش ومن يموت ومن يتضرّر ومن يهلك ما دام ذلك يحقق أرباحا لهم ويسهم في رفاهيتهم؛ ولذلك امتنعت أمريكا عن التوقيع على اتفاقية "كيوتو" للحدّ من انبعاث الغازات السامة، ودافع الرئيس الأمريكي عن ذلك بأن اقتصاد أمريكا معرّض للخطر إذا هي وقّعت على هذه الاتفاقية، فالأهم في نظرهم هو اقتصادهم ودولارهم، غير عابئين بما يحصل للبشرية من كوارث جراء تصرفاتهم الرعناء وسعارهم المحموم، ولسان حالهم يقول: ليمت من يمت وليكن ما يكون من كوارث المهمّ أن لا ينقص من أموالنا شيئا، وكأن باقي البشر عندهم قطعان من الماشية يضحّون بها إذا لزم الأمر.
أيّ صلف هذا؟! وأي غرور هذا الذي نراه ونشاهده من قطب العالم الأوحد؟! ولكن الله لهم بالمرصاد، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
ورد في بعض التقارير أن مجموع سكان أمريكا يصل إلى 4 في المائة من سكان الأرض، ومجموع ما ينبعث من مصانعها من غازات سامة يصل إلى 20 في المائة من مجموع ما تنتجه شعوب الأرض قاطبة!
قارن بين هذا وبين ما كان عليه المسلمون أيام مجدهم وعزِّهم وحضارتهم , فتحوا القلوبَ قبل أن يفتحوا البلدان، وأناروا العقول وحرّروها من عبادة الأوثان، كانوا في أعلى قِمم الإنسانيّة وهم في أشدّ لحظات الحرب ضراوة وشراسة، ها هو يقف ويوصي أصحابه قبل انطلاقهم للغزو ويقول: ((انطلقوا باسم الله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة)) ، كان ينهى عن قتل الدواب وقطع الأشجار والرمي بالنار بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، كان ينهى عن الضرر أيا كان وممن صدر فيقول: ((من ضارّ ضارّه الله، ومن شاقّ شق الله عليه)) ، كان ينهى عن قضاء الحاجة في طرق الناس العامة فيقول : ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل)) ، فسماها: ملاعن؛ لأنها سبب للَعن الله ومقته، بل ويبلغ الأمر مداه أن جعل إماطة الأذى عن الطريق درجة من درجات الإيمان، فأين ذلك ممن يعيث اليوم في الأرض فسادا باسم الحضارة والتقدم؟! ينهب ويسلب ويقتل ويسرق خيرات الشعوب باسم إرساء الديمقراطية تارة ومحاربة الإرهاب تارة أخرى.
قد كانت الأيام قبل وجودنا ليلا لظالمها وللمظلوم
لَما أطلّ مُحمّد زكت الربَى واخضرّ فِي البستان كل هشيم
وأذاعت الفردوس مكنون الشذا فإذا الورى فِي نضرة ونعيم
.......
من كان يهتف باسم ذاتك قبلنا؟!! من كان يدعو الواحد القهارا؟!
عبدوا تماثيل الصخور وقدسوا من دونك الأحجار والأشجارا
هل أعلن التوحيد داع قبلنا وهدى الشعوب إليك والأنظارا؟!
كنّا نقدّم للسيوف صدورنا لم نَخش يوما غاشِما جبارا
ندعو جهارا لا إله سوى الذي صنع الوجود وقدّر الأقدارا
ورؤوسنا يا رب فوق أكفّنا ترجو ثوابك مغنما وجوارا
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المعاصي ما حلّت في ديار إلا خرّبتها، ولا في قلوب إلاّ أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، ولا استدفعت نقم الله وعقوبته بمثل التوبة والعمل الصالح، فلتلهج الألسنة بالاستغفار والتوبة النصوح؛ لعل الله يعفو ويتوب ويتجاوز، إنه خير مسؤول وأعظم مأمول.
ثم صلوا وسلموا على خير الورى...
(1/5565)
تعظيم قدر الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
فهد بن حسن الغراب
الرياض
6/11/1428
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرض الصلاة. 2- من فضائل الصلاة. 3- فضل إجابة المؤذن. 4- فضل الطهارة. 5- فضل المشي إلى المسجد وانتظار الصلاة فيه. 6- ميزة الصلاة عن بقية الطاعات. 7- فضل الذكر بعد الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
هذه وقفةٌ مع فريضة من فرائض الله، مفروضة على كل مسلم مكلف، الغني والفقير، والصحيح والمريض، والذكر والأنثى، والمسافر والمقيم، في الأمن والخوف، لا يستثنى منها مسلم مكلف، ما عدا الحائض والنفساء.
إنها قرة عيون المؤمنين ومعراج المتقين، إنها الصلاة ركن الدين وعموده، آخر ما يفقد العبد من دينه، فليس بعد ضياعها والتفريط فيها إسلام، هي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن قبلت قبل سائر العمل، وإلا رد سائره.
الصلاة فرضت في أشرف مقام وأرفع مكان، هي أول ما فرِض، وهي آخر ما أوصى به النبي أمته: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)). هي فواتح الخير وخواتمه، مفروضة في اليوم والليلة خمس مرات، يفتتح المسلم بالصلاة نهاره ويختم بها يومه.
الصلاة خضوع لجلال الله وخشوع لعظمته وتواضع لكبريائه، ولم يفترض الله على عباده بعد توحيده فريضة أعظم من الصلاة، والإسلام يعلّق قلب المؤمن دائما بالصلاة، تأمل ربط المسلم بالصلاة في كل شؤونه، إن فرح شكر فصلّى ومنه سجود الشكر، وإن خاف صلى ومنه صلاة الكسوف، وإن همّ بأمر صلى واستخار، إن أجدبت الأرض صلى الاستسقاء، وفي سائر أوقاته قَالَ كما في صحيح البخاري: ((مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
عباد الله، تأمّلوا حال المسلم مع الصلاة، من حين النداء إليها حتى ينتهي منها، استشعروا تهيئة المسلم للصلاة قبل بدايتها، فإذا سمع النداء جاء في صحيح البخاري قول رَسُول اللَّهِ : ((مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) ، وفي صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَي عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَي عَلَى الْفَلاَحِ قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
ثم هيّأه بعد ذلك بالطهارة الحسية، ففي صحيح مسلم من حديث عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ : ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ)) ، ثم أمره بأخذ الزينة: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31]، بل وأمره بنظافة الباطن، ففي صحيح البخاري قال : ((مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلا فَلْيَعْتَزِلْنَا)) أَوْ قَالَ: ((فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا)).
فإذ خرج من بيته أمره بالسكينة كما عند مسلم من حديث أبي قتادة قال : ((إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا سَبَقَكُمْ فَأَتِمُّوا)) ، ووعده بالأجر الجزيل لخُطاه، كما في صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِىَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً))، ولأنه سيدخل بيت الله فإن له من التعظيم ما ليس لسواه أمره بالدعاء عند الدخول، فعَنْ أَبِى حُمَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)) رواه مسلم، وجعل لبيته تحية خاصة، ففي صحيح البخاري من حديث أَبي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ : ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ)).
فإذا جلس اشتغل بالذكر والدعاء والقرآن كما في صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي قَالَ: ((لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ وَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ أَوْ يُحْدِثَ)).
فإذا دخل المسلم في صلاته فتح الله له من التسبيح والتحميد والذكر والدعاء ما يوجب له مرافقة رسول الله في الجنة، وكان قريبا من ربه يناجيه كما عند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)).
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن الدليل على عظم قدرها وفضلها أن كل فريضة افترضها الله فإنما افترضها على بعض الجوارح دون بعض، إلا الصلاة فإنه يقبل عليها بكليته، فإن الصائم له أن يلتفت وينام ويتكلم بغير ذكر الصوم، والحاج في قضاء مناسكه قد أبيح له أن يتكلم كذلك فيما بين ذلك وينام ويشتغل بما أحب من منافع الدنيا المباحة له، وكذلك إعطاء الزكاة، والمقاتل في سبيل الله له أن يلتفت ويتكلم، وهكذا جميع الطاعات له أن يعمل فيها ويتفكر في غيرها، ومنع المصلي من الأكل والشرب وجميع أعمال الدنيا من الالتفات والأفعال بالجوارح إلا بالصلاة وحدها، ومن التفكر إلا فيما يتلو ويقول، فالمصلي كأنه ليس في الدنيا ولا في شيء منها، إذ إنه بقلبه وجميع بدنه في الصلاة، فكأنه ليس في الأرض، وذلك أنه يناجي الملك الأكبر، فلا ينبغي أن يخلط مناجاة الإله العظيم بغيرها، وكيف يفعل ذلك والنبي قد أخبر أن الله مقبل عليه بوجهه؟! فكيف يجوز لمن صدّق بأن الله مقبل عليه بوجهه أن يلتفت إلى ما سواه؟! ففي صحيح البخاري من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِي قَالَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ)) ، أَوْ قال: ((إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)).
فإذا قام إلى صلاته تمثل قول النَّبِي كما عند أبي داود: ((إِنَّهُ لاَ تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ ـ يَعْنِى مَوَاضِعَهُ ـ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَيُثْنِى عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَرْكَعُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حَتَّى يَسْتَوِي قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيُكَبِّرُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ)).
ثم بعد التسليم الاستغفار والذكر، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)).
عباد الله، هل تنتهي علاقة المسلم بالصلاة بعد إتمامها، تأمّل حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ)) رواه مسلم، وفي صحيح البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي قَالَ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)) وذكر منهم: ((وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ)) ، قلبه معلق بها فإذا انتهى منها تطلّع للتي تليها، همّه الصلاة وإقامتها.
أيها المسلمون، عبادة هذه مكانتها وهذه عند الله منزلتها وهذه عناية الإسلام بها فحري بالمسلم أن يكون عليها من المحافظين ولها من المقيمين.
(1/5566)
أفضل أيام الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
جماز بن عبد الرحمن الجماز
شقراء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول أيام عشر ذي الحجة. 2- فضل يوم العيد. 3- فضل العمل في أيام العشر. 4- وظائف عشر ذي الحجة. 5- التكبير في أيام عشر ذي الحجة. 6- فضل صيام يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الأمة الإسلامية أجمع تعيش بعد يومٍ أيامًا شريفة وليالي فاضلة وأزمنة عامرة بذكر الله تعالى وشكره، وموسمًا عظيمًا من مواسم طاعة الله وعبادته، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها، والسعيد من اغتنم تلك المواسم وأكثر فيها من الطاعات والصالحات.
وعما قريب ـ أيها المسلمون ـ نرى حجاج بيت الله الحرام، يقفون هناك على عرفات، في مشهد رائع من مشاهد العبودية، يستمطرون رحمة الله، ويستجلبون عفوه ومغفرته، ويسألونه من فضله، ويتوجهون إليه بالذكر والدعاء والاستغفار والمناجاة، معترفين بالذل والعجز والفقر والمسكنة.
وفي يوم العيد يوم النحر الذي هو أكبر العيدين وأفضلهما يشترك المسلمون جميعًا في الفرح والسرور في جميع الأمصار، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده، وذلك لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، ولذلك شرع للجميع التقرب إلى الله بذبح الأضاحي وإراقة دماء القرابين، فأهل الموسم (المُحرمون) يرمون الجمرة، ويشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج، ويقضون تفثَهم، ويوفون نذورهم، ويقربّون قرابينهم، ثم يطوفون بالبيت العتيق، وأهلُ الأمصار (المُحِلّون في بلدانهم) يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له، ثم يذبحون عقب ذلك نسكهم ويقرّبون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك شكرًا منهم لهذه النعم.
والعيد ـ أيها الأحباب ـ موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بخالقهم ومولاهم، إذ فازوا بإكمال طاعته وحازوا ثواب أعمالهم بفضله ومغفرته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
معاشر المسلمين، حَريٌّ بنا أن نستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة النصوح وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإنّ الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربِّه وتحجب قلبه عن مولاه، ومن عزم على شيء أعانه الله، ومن صدق الله صدقه الله، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]، وكما في الذين عناهم الله عز وجل بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90].
وقد فضل الله تعالى عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام، صحَّ عنه أنه قال: ((ما العمل في أيام العشر أفضلَ من هذه)) ، قالوا: ولا الجهاد؟! قال: ((ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) ، وفي رواية: ((ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظمُ أجرًا من خير يعمله في عشر ذي الأضحى)) ، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)). قال راوي الحديث: فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكادُ يُقدرُ عليه. وُروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: "لا تُطفئوا سُرجكم ليالي العشر"، يشير إلى قيام الليل، وقال مجاهد: "العمل في العشر يضاعف". قال الحافظ ابن رجب: "جميع الأعمال الصالحة مضاعفة في العشر من غير استثناء شيء منها"، وقال أيضًا: "العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها"، وقال أيضًا: "ويستثنى جهادًا واحدًا هو أفضل الجهاد، وهو أن يُعقر جوادُه ويُهراق دمُه". ونهار عشر ذي الحجة من الفجر إلى المغرب أفضل من نهار العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان من المغرب إلى الفجر أفضل من ليالي العشر الأول من ذي الحجة،
واعلم ـ أيها المؤمن ـ أن فضيلة عشر ذي الحجة جاءت من أمور كثيرة، فالله جلّ جلاله أقسم بها، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 2]، وقال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج: 28]، والليالي والأيام في الآيتين هي عشر ذي الحجة، بل هي أفضل أيام الدنيا، صحَّ عنه أنه قال: ((أفضل أيام الدنيا العشر)) يعني عشر ذي الحجة، قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ((ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عُفِّر وجهه بالتراب)). ومن أسباب فضلها أن النبي حث فيها على العمل الصالح، وذلك لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان بالنسبة لحجاج بيت الحرام، بل وخصَّ منها الإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير. ومن أسباب فضلها أن فيها يوم عرفة ويوم النحر، وفيها الأضحية والحج. فظهر بذلك جليًا أن السبب هو امتيازها باجتماع أمهات العبادة فيها وهي الذكر والدعاء والصلاة والصيام والحج والصدقة، ولا يتأتى ذلك في غيرها.
أيها المسلمون، واجبنا جميعًا استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، فنخُّص العشر بمزيد عناية، ولنُعظِّم هذه العشر فنُكثر فيها من العمل الصالح، فمن لم يُمكنه الحج فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى وعبادته، من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء والصدقة والإنفاق في سبيل الله والشفقة بالضعفاء ورحمة الفقراء وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة.
ومما ينتهزه المسلم في هذه الأيام التوبة النصوح، فلها في هذه الأيام شأن عظيم، فأجرها مضاعف، وإذا اجتمع لك توبة نصوح مع أعمالٍ فاضلة في أزمنة فاضلة فهذا عنوان الفلاح، فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص: 67]. فليحرص كل واحد منا على مواسم الخير، فإنها سريعة الانقضاء، فالثواب قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطرُ عظيمٌ، والناقدُ بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 8].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أتاح لعباده مواسم الخير ونوّعها، ليتزودوا منها صالح الأعمال، ويستدركوا ما يحصلُ فيها من الغفلة والإهمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ وآل، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد صحَّ عنه أنه قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) ، وفي لفظ: ((فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير)).
وهكذا كان الصحبُ الكرام يخرجون إلى الأسواق فيكبرون ويكبر الناس بتكبيرهم، والتكبير في الأضحى سنة بالاتفاق في المساجد والأسواق والمنازل والطرقات وكلِّ موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجال، وتخفيه المرأة؛ إظهارًا للعبادة وإعلانًا بتعظيم الله تعالى، وهو لا يتقيد بمكان، حتى في الأسواق وعلى الفراش وأثناء المشي، ولا يتقيد بزمان فيؤتى به في الليل والنهار والسفر والحضر، ولا يتقيد بشخص فيأتي به الرجال والنساء والمميزون والبالغون، ولا يتقيد بحال فيأتي به قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو راكبًا أو محمولاً أو على غير طهارة، يبدأ به الإنسان من فجر اليوم الأول في ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق مغرب اليوم الثالث عشر.
ولا نص فيه يقال، فابن مسعود كان يقول: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، وابن عباس كان يقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا)، وكان سلمان الخير يقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا)، فينبغي إحياء هذه السنة المهجورة؛ تذكيرًا للغافلين وتعليمًا للجاهلين.
ومن الأعمال الفاضلة في هذه الأيام صيام يوم عرفة، صحّ عنه أنه قال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله والتي بعده)) ، فصيامه كفارة ذنوب سنتين، وهو سنة لمن لم يحجّ، أما من حجّ ووقف بعرفة فيُكره ذلك له، والله تعالى مُنعم مُتفضّل، له أن يتفضل بما شاء على من يشاء فيما شاء من الأعمال، لا معقب لحكمه، ولا رادَّ لفضله.
ومما ينبغي التنبيه إليه أنّ من أراد الحج وحجِّ فالسنّة له أن لا يضحي ولا يُوكل أحدًا يضحي عنه في بلده، ويكتفي الحاجُ بذبح الهدي في مكة، وإذا لم يحجَّ فالسنّة له أن يُضحّي. ومن عزم على الأضحية فالسنة له أن يُمسك عن حلق شعره وتقليم ظفره تشبهًا بالمحرمين.
هذا، وصلوا وسلموا على من بلغ الرسالة...
(1/5567)
الاستغفار: فضائل وأسرار
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الدعاء والذكر
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
4/7/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخطأ من طبيعة البشر. 2- سعة رحمة الله وقبوله توبة عباده. 3- حال النبي مع الاستغفار. 4- ثمرات الاستغفار. 6- حقيقة الاستغفار. 7- نماذج من استغفار النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، وتقربوا إليه جل وعلا بصالح الأعمال وكثرة التوبة والاستغفار، فإن الله تعالى ـ وهو اللطيف الخبير ـ قد علم ما في الخلق من ضعف، وما هم عليه من قصور ونقص، قد يحملهم على ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي، ففتح لهم سبحانه باب الأمل والرجاء في العفو والمغفرة، وأمرهم أن يلجؤوا إلى ساحات كرمه وخزائن فضله، فهو سبحانه رحيم بمن رجاه، قريب ممن دعاه، والخطأ والتقصير مما جبل عليه البشر، والسلامة من ذلك مما لا مطمع فيه لأحد، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم)) [1].
وإن شأن الكمّل من أهل التقوى وأرباب الهدى أنهم إذا أذنبوا استغفروا، وإذا أخطؤوا تابوا، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما [2].
وإن من واسع فضل الله على العباد أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يغفر الذنوب كلها، فعلى العبد أن لا يقنط من رحمة ربه وإن عظمت ذنوبه وكثرت آثامه، فقد قال عز وجل: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ?لضَّآلُّونَ [الحجر: 56].
وروى الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيك بقرابها مغفرة)) [3].
ولقد أمر الله تعالى رسوله ـ وهو أتقى الخلق ـ بإخلاص الدين وإدامة الاستغفار، فقال عز وجل: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ [محمد: 19]، فكان ملازمًا للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، حتى قال عن نفسه : ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري في صحيحه [4] ، وروى أبو داود والترمذي وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: ((ربِّ اغفر لي وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم)) [5].
وهكذا شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجؤون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، صادقين مخلصين، غير يائسين ولا مصرين، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم، ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْمُنفِقِينَ وَ?لْمُسْتَغْفِرِينَ بِ?لأسْحَارِ [آل عمران: 16، 17]. أولئك هم العارفون المتقون، يؤدون الفرائض، ويكثرون من الطاعات والنوافل، ثم يسارعون إلى الاستغفار خشية التقصير أو الإخلال فيما قدموا من صالح الأعمال، كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17، 18].
ورسول الله بعد أن فرغ من تبليغ رسالة ربه وبلغ البلاغ المبين أمره ربه أن يكثر من الذكر والاستغفار فقال سبحانه: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جًا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]. وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من صلاته بادر إلى الاستغفار، وحجاج بيت الله الحرام مأمورون بالاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والمشعر الحرام، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ?لنَّاسُ وَ?سْتَغْفِرُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 199].
عباد الله، إن من رحمة الله بكم ومزيد فضله عليكم ما رتب على الاستغفار من عظيم الجزاء وسابغ الفضل والعطاء، فإن كثرة الاستغفار والتوبة من أسباب تنزل الرحمات الإلهية والألطاف الربانية والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل: 46]، وقال عز وجل: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
وإذا كثر الاستغفار في الأمة وعم أفرادها وصدر عن قلوب موقنة مخلصة دفع الله به عن العباد والبلاد ضروبًا من البلاء والنقم وصنوفًا من الرزايا والمحن، كما قال عز وجل: وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33].
وإن من آثار الاستغفار أنه سبب لنزول الغيث المدرار وحصول البركة في الأرزاق والثمار وكثرة النسل والنماء، كما قال سبحانه حكاية عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12].
والمستغفرون يمتعهم ربهم متاعًا حسنًا، فيهنؤون بحياة طيبة، ويسبغ عليهم سبحانه مزيدًا من فضله وإنعامه، وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3].
وفي ملازمة الاستغفار تفريج الكرب والهموم والمخرج من ضائقات الأمور وحصول الرزق من حيث لا يحتسب العبد، ففي الحديث عند الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجه: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [6].
فهذه ـ يا عباد الله ـ بعض فضائل الاستغفار ومنافعه، جلاّها لنا ربنا في كتابه، وأفصح عنها رسوله فيما صح من خبره، تحمل أهل الإيمان وأرباب التقوى على البدار بالتوبة وكثرة الاستغفار، غير أن هذه المنح الإلهية والفضائل الربانية إنما تحصل للمستغفرين الله تعالى حقًا وصدقًا، إذ الاستغفار ليس بأقوال ترددها الألسن وعبارات تكرر بين الحين والآخر فحسب، وإنما الاستغفار الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان، وندم صاحبه على ما بدر منه من ذنوب وآثام، وعزم أن لا يعود على اقتراف شيء من ذلك، إذ هذه أركان التوبة النصوح التي أمر الله تعالى بها العباد، ووعد عليها تكفير الخطيئات والفوز بنعيم الجنات، فقال عز شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ [التحريم: 8]. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، وليس التلفظ بمجرد اللسان، فمن استغفر بلسانه وقلبه مصرّ على معصيته فاستغفارُه يحتاج إلى استغفار" [7] ، وقال بعض العلماء: "من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه".
فاتقوا الله عباد الله، وتذكروا أن في حوادث الزمان وفجائع الأيام ما يحمل أولي الألباب والنهى وذوي الإيمان والتقى على الاعتبار والادِّكار والعودة إلى الله الواحد القهار والاعتصام بهدي القرآن واقتفاء هدي سيد الأنام والإقبال على طاعة الله ومرضاته وكثرة التوبة والاستغفار، فإن ذلك من أعظم الأسباب لحلول الأمن في البلاد وإضفاء الطمأنينة في نفوس العباد، وهو وحده الكفيل بحفظ أمة الإسلام في كافة بلادها ومختلف مجتمعاتها من كل ما تخشى وتحاذر.
فأقبلوا على ربكم وأطيعوه، واستغفروه وتوبوا إليه، فقد قال عز شأنه: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [الزمر: 53، 54].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب التوبة (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (13049)، والترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، والدارمي (2727) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "غريب"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "على لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[3] أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات (3540)، وقال: "حديث حسن غريب"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (127).
[4] أخرجه البخاري في الدعوات (6307) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (4726)، والبخاري في الأدب المفرد (618)، وأبو داود في الصلاة (1516)، والترمذي في الدعوات (3434)، وابن ماجه في الأدب (3814)، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (927)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (556).
[6] أخرجه أحمد (2234)، وأبو داود في الصلاة (1518)، وابن ماجه في الأدب (3819) من طريق الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وليس عند ابن ماجه: "عن أبيه".، وصححه الحاكم (4/291)، وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه جهالة"، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (705).
[7] الجامع لأحكام القرآن (4/210).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتذكروا أنه لن يخرج أحد من هذه الحياة الدنيا حتى يرى الحسن من عمله والسيئ منه، وإنما الأعمال بالخواتيم، وما الليل والنهار إلا مطيتان، فأحسنوا السير فيهما إلى الآخرة، ولتحذروا التسويف والتفريط، ولا تكونوا ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، فإن الآجال مغيبة، والموت يأتي بغتة، فلا يغترنّ أحدكم بحلم الله عز وجل؛ فإن الله يمهل ولا يهمل، وإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله.
وإن من نفاذ البصيرة وصدق الإيمان كثرة التوبة والاستغفار على الدوام، فذلك هدي رسول الهدى مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول أبو هريرة : ما رأيت أكثر استغفارًا من رسول الله [1].
وإن مما صح عنه عليه الصلاة والسلام من جوامع أدعية الاستغفار ومما وجه الأمة إليه ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقنًا فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)) [2] ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؛ غفرت ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزحف)) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه [3] ، وفي الصحيحين أنه كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) [4] , وروى مسلم في صحيحه أن من آخر ما كان يقول في صلاته قبل التسليم: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر, لا إله إلا أنت)) [5].
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالتوبة، ولازموا الاستغفار، وتعرضوا لنفحات ربكم في الجهر والإسرار.
وصلوا وسلموا على سيد المستغفرين وخاتم النبيين...
[1] أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (39)، والراوي عن أبي هريرة مبهم.
[2] أخرجه البخاري في الدعوات (6306).
[3] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة (1517)، والترمذي في الدعوات (3577) من طريق بلال بن يسار بن زيد عن أبيه عن جده، وقال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وبلال وأبوه كل منهما مقبول كما في التقريب. وأخرجه الحاكم (1/692) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصححه.
[4] أخرجه البخاري في الأذان (817)، ومسلم في الصلاة (484) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(1/5568)
منابع الفكر التكفيري
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, فرق منتسبة
يوسف بن أحمد القاسم
الرياض
جامع الشيخ عبد العزيز الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن. 2- جهود الدولة المباركة في مقاومة الفئة الضالة. 3- الردّ على المصطادين في الماء العكر. 4- الإرهاب عام في الملل والنحل. 5- أخطر أسباب الإرهاب والتطرف. 6- ضرورة تجنيد الطاقات لمكافحة الإرهاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى.
أيها الإخوة في الله، الأمن والغذاء هما شريان الحياة, ولهذا حين أمر الله تعالى المؤمنين بالعبادة في قوله: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش: 3] ذكّرهم بما امتنّ عليهم بقوله: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4]، ودولة لا تنعم بالأمن والاستقرار فإنها تعيش في قلق دائم وفي انزعاج مستمر.
والغريب حقًا أن يسعى بعض أبناء جلدتنا لزعزعة الأمن في بلادنا! ومع هذا لم تزل قواتنا الأمنية ببلادنا المباركة تحقق نجاحات متتابعة بأسلوب مثير للإعجاب في تمشيط معاقل الفئة الضالة ـ وهي التسمية الشرعية لهذه الفئة ـ، والمثير أن الدولة تقوم بهذا الإنجاز العظيم وبصمت! إلا أن الغريب حقًا هو عدم صمت بعض الكتاب والمثقفين وأنصاف المتعلمين ممن يستغلّ هذه الأحداث لتصفية بعض الحسابات الفكرية مع هذا الفكر أو ذاك! فانظر ـ أخي الكريم ـ إلى هذه المعادلة: دولة تعمل بصمت لمقاومة هذه الفئة الضالة, وتجند كلّ قواها لمواجهتها بالقوة, وبمقارعة الفكر بالفكر من خلال برامج المناصحة المختلفة, وكتّاب ومثقفون لا يصمتون عن استغلال الحدث استغلالاً مقيتًا, ولا يجيدون إلا لغة الهمز واللمز, فيجيّرون هذه الأفكار التكفيرية للنيل من مناهجنا الدراسية ومن المراكز الصيفية ومن حلقات تحفيظ القرآن الكريم! وفي تقديري أن هذا التجيير غير مقبول ولا منطقي بكل المقاييس, والوقائع تقاس بأشباهها كما عند علماء أصول الفقه, بل وعند عقلاء العالم, وهنا أقول:
لنأخذ مثالاً بسيطًا لدولة مجاورة عانت من التنظيمات المتطرفة سنوات عديدة وهي مصر, فقد أثقل كاهلها بالعديد من عمليات الاغتيال وتفجير المنشآت واستهداف الآمنين, ولا يخفى على مطّلع أن مصر لم تكن تحفل بالمراكز الصيفية, ولا بحلقات تحفيظ القرآن الكريم, ولا بالدروس والمحاضرات في المساجد... إلخ, بل كان كثير من هذه البرامج الدينية والعلمية المختلفة من الأنشطة المحظورة إبان تلك الحقبة المشحونة بالتنظيمات المتطرفة، ومع هذا فقد عانى أهل مصر ما عانوا, إذًا فهل يليق ببعض مثقفينا أن يعلقوا هذا التنظيم الضالّ على شماعة البرامج الدينية؟!
أيها الإخوة في الله، إن الإرهاب ليس له مذهب ولا دين, وإلا فماذا نقول عن تفجير أو إحراق بعض العناصر اليهودية أو النصرانية أو الوثنية أو غيرها لبعض المراكز التجارية أو المعابد الدينية في البلاد الشرقية أو الغربية التي يتوارى فيها الدين تحت هيمنة الفجور وفوضى العري؟! كتفجير مركز التجارة الدولية بنيويورك عام 1993م, وتفجير المبنى الفدرالي بأوكلاهوما والذي اتهم فيه الإسلاميون بعملية التفجير, ثم ظهر المجرم الحقيقيّ, وأنه نصراني متطرف أمريكي، وكحادث الحريق الذي نفذته عناصر يهودية متطرفة في المسجد الأقصى, وكحادث غاز السارين السام في أنفاق مترو طوكيو، والذي ساهمت في تنفيذه جماعة "أوم شينريكيو" اليابانية، والذي أدى إلى وفاة واختناق الكثيرين، وكحوادث القتل والتمثيل التي نفذتها عناصر كثيرة من الصرب ضدّ مسلمي البوسنة والهرسك، وتطرف وإرهاب السيخ والهندوس ضد مسلمي الهند وكشمير، وتطرف وإرهاب الشيوعيين ضد كل من يظهر المخالفة أو يبيّتها في ولايات الاتحاد السوفيتي في عصر الشيوعية الحمراء، كل هذا يدل على أنه لا هوية للإرهاب, والتطرف الصهيوني اليوم في فلسطين المحتلة خير شاهد على الصور الإرهابية البشعة التي تمارسها عصابة يهودية وبرعاية غربية.
ومن هنا فإنه يجب علينا أن ننظر في أسباب وجود هذه الفئة الضالة بيننا, وبشكل منصف ومحايد, بعيدًا عن تصفية الحسابات.
أيها الإخوة في الله، وإذا أردنا أن نسلط الضوء على أخطر هذه الأسباب فهو فيما جاء في تقرير رسمي نُشر في الجريدة الاقتصادية قبل أيام على لسان الاستخبارات السعودية, بأن عدد المواقع الإلكترونية التي تنشر الفكر التكفيري أكثر من سبعة عشر ألف موقع، كلها تصدّر الفكر التكفيري من أقصى الدنيا إلى أقصاها, فتتسلّل إلى كل بيت, وتطرق كلّ باب, ويقع في شراكها من لا يرد يد لامس، ولا ريبَ أنه يقف وراء هذه المواقع التي تبثّ هذا الفكر السام ويمولها من لا يريد الخير لشبابنا, وهنا نتساءل: من هؤلاء؟ إنهم بكل بساطة من لا يريد الخير لشبابنا وبلادنا، ومن هنا فإنه يجب أن تجنّد الطاقات الفكرية المعتدلة لمقارعة هذا الفكر الضال, وهذا مما يحسب للجهات المسؤولة التي أعطت هذا الموضوع جانبًا من الرعاية والاهتمام, ولذا أصبحنا نسمع عن تراجع أعداد كبيرة من أصحاب هذا الفكر الضال, وفي تقديري أن من لديه وطنية حقيقية يفرح بهذا الإنجاز ويسعد به, أما من لا يؤمن إلا بلغة السلاح وصوت الذخيرة فهذا من وجهة نظري تطرف فكري يحتاج هو الآخر إلى معالجة.
إن المحاضن التربوية يجب أن تلعب دورًا مهمًا في هذا المجال, بدءًا بالبيت والأسرة والمسجد, ومرورًا بوسائل الإعلام المحلية والفضائية, وبالشخصيات العلمية والثقافية النزيهة والمؤثرة, وانتهاءً بالمحاضن التعليمية والتربوية.
فمحيط الأسرة له أثره الكبير في تربية الابن وتوجيهه الوجهة التربوية السليمة, لا سيما إذا كانت الأسرة مستقرة وأجواؤها مطمئنة, يملؤها الجو العاطفي والحنان الأبوي وحضن الأم الدافئ, ويمثلها القدوة الحسنة في الأب والأم, وحينئذ يستقر الابن وتطمئن نفسه وتهدأ جوارحه, ويملأ البيت جوانحه بالأنس والسرور والسعادة, ولا يفتش خارج المنزل أو تحت كواليس الإنترنت عن صديق يسد فراغًا عاطفيًا في نفسه, ولا ينقب عن صاحب يلمم جراحاته ويكفكف دموعه وآهاته. ومن المعلوم أن الولد الذي يُربى بالقسوة والعنف ويعيش في بيت يكتنفه الغلظة والجفاء لا ينشأ إلا عاقًّا, ينتظر الفرصة للانتقام من مجتمعه أو من مربيه.
أما وسائل الإعلام المختلفة فقد دخلت كل بيت, وملأت كل زاوية, وتسللت إلى كل قلب, وتوظيفها في مقارعة الفكر المتطرف بكل صراحة وموضوعية بعيدًا عن التجريح والإسفاف له دوره الكبير والفعال أيضًا.
أما الشخصيات العلمية والثقافية فعليهم واجب آخر بما يحملونه من علم وثقافة, سواء باللسان أو بالقلم, كل بما يستطيع, والعلماء وطلاب العلم والمثقفون الشرفاء ممن عرفوا بالصدق والنزاهة والوطنية هم أجدر بالقيام بهذا الدور الهام؛ لأنه من أبسط الحقوق الذي يفرضه الواجب الديني, ويمليه الحس الوطني, ولئلا يوظف هذا الموضوع من قبل من يتشدق بالوطنية لأغراض وأهواء داخلية أو أجندة خارجية, فيساوم على الوطنية أو يجيد اختطافها متى سنحت له الفرصة بذلك.
أما المحاضن التعليمية والتربوية الحكومية منها والأهلية على المستوى الجامعي وما دونه فهذه أيضًا عليها دور هام جدًا, وذلك من خلال تدريس المواد الشرعية والتربوية التي تغرس في نفوس الطلاب بعض المعاني الإسلامية الوسطية السامية, والتي تحث المسلم على فعل المعروف, بدءًا بحقوق المسلم على أخيه المسلم, سواء كان أمًا أو أبًا أو زوجًا أو قريبًا, وسواء الراعي والرعية, ومرورًا بحق الإنسان, أيًا كان مسلمًا أو غير مسلم, بإماطة الأذى عن الطريق, وإعانة الضعيف, والإحسان إلى الجار والفقير وما إلى ذلك، وانتهاء بحق الحيوان, وعرض نماذجه الحية في الإسلام, كما في سقي الكلب الذي أدخل البغي الجنة, وحبس القط الذي أدخل المرأة النار, فغرس هذه المعاني السامية التي تحث على فعل المعروف بالمسلم والإنسان والحيوان والمعاني الأخرى التي تمنع من المنكر وتحذر منه كالنصوص الشرعية التي جاءت بتحريم قتل النفس المعصومة وإثم ترويع الآمنين ونحو ذلك مما حذر منه الإسلام, غرس هذه المعاني له أثره الكبير والعميق, لا سيما إذا كان التعليم على أيدٍ مؤهّلة, تحمل هم الدين, وتكرس معنى الوسطية, وتشعر بعمق الانتماء لهذا الوطن.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5569)
عرفة والعيد
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن راشد الرشيدي
خيبر
جامع التقوى بالثمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عشر ذي الحجة. 2- فضل يوم عرفة وما يشرع فيه. 3- فضل يوم العيد. 4- الترغيب في الأضحية. 5- شروط الأضحية. 6- آداب الأضاحي. 7- من آداب العيد وأحكامه.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لا نزال نتقلّب في هذه الأيام المباركة التي عظّم الله شأنها ورفع مكانتها، ألا وهي أيام عشر ذي الحجة، تلك الأيام الفاضلة التي أخبر النبي أن العمل الصالح فيها يضاعف إلى أضعاف كثيرة، قال : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر)) ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) ، وقد مضى نصف هذه الأيام، فمن كان فيها محسنًا فليزدد من الإحسان وليسأل الله القبول، ومن كان فيها مقصرًا ومفرطًا فليتدارك ما بقي منها، فقد بقي منها أفضل أيّامها وأكرمها على الله تعالى، هذا اليوم هو يوم عرفة، ذلك اليوم العظيم الذي أكمَل الله فيه الدين وأتم علينا به النعمة وأنزل فيه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3].
يوم عرفة الذي هو أساس الحج وركنه العظيم، ومن لم يقف بعرفة فلا حج له، يوم عرفة الذي تغفر فيه الزلات وتكفر فيه السيئات ويعتق الله به عباده من النار، قال : ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة)) ، وقال : ((إذا كان يوم عرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا ضاحين من كلّ فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم)).
يشرع فيه للحجاج كثرة الدعاء وقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، قال : ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).
أما من لم يكن حاجا فإنه يشرع له صيام يوم عرفة، ففي ذلك الأجر العظيم، فقد قال عندما سئل عن صيام يوم عرفة قال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والباقية)). والصيام في عرفة وغيرها له أجر عظيم قال : ((من صام يوما في سبيل الله باعده الله من جهنم مسيرة سبعين خريفا)).
ويشرع في يوم عرفة التكبير المقيد الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة، فيكبر المسلمون بعد الصلاة ويرفعون أصواتهم به، وصفته أن يقول: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر لله الحمد".
عباد الله، ولقد بقي من هذه الأيام المباركة يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله تعالى، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وأقسم به في كتابه الكريم، وسماه: يوم الحج الأكبر، وجعله عيدًا للمسلمين حجاجًا ومقيمين، فبه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى، ويفرح المسلمون به في شتى بقاع الأرض.
في هذا اليوم العظيم يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم اتباعا لسنة الخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فالأضاحي ـ عباد الله ـ شعيرة عظيمة وسنة قويمة قد ورد الفضل العظيم لمن أحياها، فقد روي عن النبي أنه قال: ((ما عمل ابن ادم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم ، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفة حسنة، فطيبوا بها نفسًا)) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ولقد حذر النبي من التفريط بها لمن كان مستطيعًا، فقال : ((من وجد سعة فلم يضحِّ فلا يقربنّ مصلانا)).
واعلموا ـ عباد الله ـ أن للأضاحي شروطًا وأحكامًا لا بد أن تستكملها حتى تكون مقبولة تامة، فمن شروط الأضاحي: أن تبلغ السن المعتبرة شرعًا، فمن الإبل ما تم له خمس سنوات، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن المعز ما تم له سنة كاملة، ومن الضأن ما تم له ستة أشهر. ومن شروط الأضاحي: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء، وقد بينها النبي بقوله: ((أربع لا تجزئ في الأضاحي: العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) ، ومعنى العجفاء أي: الهزيلة التي لا مخّ فيها. ويقاس على هذه العيوب ما كان مساويًا لها أو أعظم منها، مثل مقطوعة الرجل والعمياء. ومن شروط الأضاحي: أن تذبح الأضحية في الوقت المحدد شرعًا، ويبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة العيد، قال : ((من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمّ نسكه وأصاب سنة المسلمين)). ويمتد وقت ذبح الأضحية إلى غياب الشمس من ثالث أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة، وعلى هذا فيكون وقت ذبح الأضحية أربعة أيام: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهي أيام التشريق.
والأفضل أن تذبح نهارًا، ويجوز ذبحها ليلاً، وتجزئ الشاة في الأضحية عن الرجل وأهل بيته، وأما الإبل والبقر فتجزئ عن سبعة أشخاص. وينبغي للمسلم أن يختار الأكمل من الأضاحي في جميع صفاتها، وأن تكون من مال طيّب، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
ومن آداب الأضاحي التي ينبغي للمسلم أن يراعيها عند ذبح أضحيته: التسمية والتكبير عند الذبح، والإحسان بالذبح بحدّ الشفرة وراحة الذبيحة والرفق بها، وإضجاعها على جنبها الأيسر متجهة إلى القبلة. والأفضل في توزيع الأضاحي أن تكون أثلاثا: يأكل ثلثًا، ويتصدق بثلث، ويهدي ثلثًا.
فلا تحرموا أنفسكم ثواب الله وأجره في هذه الأيام المباركة، فاستكثروا من الطاعات والأعمال الصالحات، وسلوا الله القبول والتمام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم لجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، صلى الله عليه على آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، بعد أيام قليلة تحتفل الأمة الإسلامية بحلول عيد الأضحى المبارك، جعله الله يوم نصر وعز للإسلام والمسلمين.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن للعيد آدابًا وأحكامًا ينبغي للمسلم أن يراعيها ويتأدب بها، منها: المحافظة على صلاة العيد مع الجماعة، فقد أمر النبي بالخروج إليها، ولازم النبي عليها، ولم يتركها في عيد من الأعياد، حتى أمر بخروج النساء والعواتق وذوات الخدور والحيَّض، وأمر الحيَّض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، فينبغي للمسلم أن يحافظ عليها ولا يفرط فيها، فيشهد الصلاة والخير ودعوة المسلمين.
ومن آداب العيد: أن يخرج إلى صلاة العيد على أحسن هيئه متطيبًا لابسًا أحسن الثياب تأسيًا بالنبي ، أما النساء فيخرجن إلى صلاة العيد بغير زينة ولا طيب.
ومن آداب العيد: أن يخرج إلى صلاة العيد ماشيًا، ويخرج من طريق ويرجع مع طريق آخر.
ومن آداب العيد: أن يكثر من التكبير في يوم العيد، قال الإمام الزهري رحمه الله: كان الناس يكبّرون بالعيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا إلى المصلى، وحتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام سكتوا، فإذا كبَر كبَروا.
ومن آداب عيد الأضحى خاصةً: أن لا يأكل شيئًا حتى يصلي العيد، فقد كان النبي لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي.
من آداب العيد: صلة الأرحام وزيارة الأقارب والأصدقاء، فإن صلة الأرحام من أجلّ الأعمال وأفضلها، وقد أخبر النبي أن الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله، وقال : ((من زار أخًا له في الله قيل له: طبت وطاب ممشاك وتبوّأت من الجنة نزلاً)).
وينبغي للمسلم وهو يعيش فرحة العيد مع أهله وأقاربه أن لا ينسى اليتامى والمساكين الذين فقدوا حنان الأبوة وعطفها، فيرعى اليتامى ويعطف على المساكين ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ألا وصلوا على النبي المصطفى والحبيب المرتضى، فقد أمرنا الله بذلك فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا))...
(1/5570)
الهمة
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
خالد بن صالح باجحزر
مكة المكرمة
جامع السندي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين العزة والجد والعمل. 2- معنى علو الهمة. 3- فضل علو الهمة. 4- الحث على علو الهمة. 5- مواقف لأصحاب الهمم العالية. 6- أسباب علو الهمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فالإسلام دين العزة والمجد، دين المحبة والجد، فلا كسل ولا خمول ولا ذلة في الإسلام، ومن هنا فإنّ ديننا الحنيف يحثّ على علوّ الهمة ورفعة العزيمة وقوة الإرادة، ففي الحديث الصحيح عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول : ((إن الله تعالى يحبّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)) رواه الطبراني في الكبير. هذا الحديث فيه إعلاء لهمم المسلمين لكي يتّصفوا بما يحبّه ربُنا عز وجل من معالي الأمور؛ حتى تزكو النفوس، وترتقي إلى الدرجات العلا، وتبتعد عن سفاسف الأمور وسيّئِ الأخلاق، قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7 -10].
ولا بد للمرء أن يتعرف على هذا الخلق الجميل، ألا وهو علو الهمة، فما الهمة إذًا؟ جاء في لسان العرب لابن منظور: "الهمة واحدة الهمم، والمهمات من الأمور: الشدائد المحرقة"، وقال الفيروزآبادي في القاموس المحيط: "الهمة ما هُمّ به من أمر ليُفعل".
أخي الغالي، معالي الأمور لا يبلغها إلا أصحاب الهمم العالية والعزائم القوية، فالجنة محفوفة بالمكارة، قال ابن القيم رحمه الله: "كمال الإنسان بهمة ترقّيه وعلمٍ يبّصره ويهديه، فمراتب السعادة والفلاح تتحقّق للعبدِ من هاتين الجهتين".
وأعلى الناس همة وأرفعهم قدرا من لذتهم في معرفةِ الله تعالى ومحبته والشوق إلى لقائه، قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
فالهمة العالية خُلقٌ سام ومسلك رائع، تحبه النفوس، وتهفو إليه القلوب، وكما أن الطائر يطير بجناحيه كذلك يطير المرء بهمته، فتحلقُ به إلى أعلى الأفاق.
على قدرِ أهلِ العزمِ تأتِي العزائم وتأتِي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
وتكبر في عينِ الصغير صغارُها وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ
إن عالي الهمة يجودُ بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارمَ منوطة بالمكارة، وأن المصالحَ والخيراتِ واللذاتِ والكمالات كلها لا تُنال إلاّ بالمشقة، ولا يُعبر عليها إلا على جسرٍ من التعب، قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أجمع عقلاء كُلّ أمةٍ أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، فلا فرحةَ لمن لا همّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا راحةَ لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تَحمّل مشقةَ الصبر ساعة قادته لحياةِ الأبد، وكل ما فيه أهلُ النعيم المقيم فهو صبر ساعة".
أحبتي، قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: متى يجدُ العبدُ طعم الراحة؟ فقال: عند أولِ قدمٍ في الجنة.
أحزانُ قلبي لا تزولْ حتى أُبشّرَ بالقبولْ
وأرى كتابي باليمينْ وتُسَرّ عيني بالرسول
وديننا الحنيف يدعوُ المؤمنين إلى علو الهمة، فمن أسمائه سبحانه وتعالى العليّ، قال ابن الأثير رحمه الله: "العليّ الذي ليس فوقه شيءٌ في الرتبة".
أخي الحبيب، لقد علَّم الرسول صحابته الكرام علوّ الهمة في كل شيء حتى في الدعاء، جاء في الحديث يقول رسول الله : ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)) رواه البخاري. ويوجه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام سؤاله لربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه: ((سل يا ربيعة؟)) فلم تكن همّة ربيعة لتنصرف إلى سقط الأرض ومتاع الدنيا الدنيء، بل كانت همته أعلى ومقاصده أسمى، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة. رواه مسلم.
وذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابهِ صيدُ الخاطر: "من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدونِ دنيّ". ومن أجمل ما قيل في فضل الهمة ما جاء في كتابِ الفوائد لابن القيم رحمه الله قال: "النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العليَّة لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك، والنفوس الحقيرة بالضد من ذلك"، يقول أيضا رحمه الله: "الحياة الطيبة إنما تُنالُ بالهمةِ العالية والمحبةِ الصادقة والإرادةِ الخالصة، فعلى قَدْرِ ذلك تكونُ سعادةُ المرء". قال بعض السلف رضوان الله عليهم: قدر الرجل على قدر همته، فمن الناس من همته في الثرى يعني التراب، ومنهم من همته في الثريا يعنى أعالي الأمور.
إذا أظمأتك أكفُ الرجالِ كفتك القناعةُ شبعًا وريّا
فكن رَجُلاً رِجْلُه في الثرى وهامةُ همَّته في الثريَّا
ولذلك كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يردّد هذه الأبيات الجميلة ويقول:
إذا ما ماتَ ذو علمٍ وتَقوْى فقد ثلمتْ من الإسلامِ ثُلمه
وموتُ الحاكم العدلِ المولَّى بِحكمِ الأرض منقصةٌ ونقمه
وموتُ فتًى كثيرُ الجودِ محلٌ فإنّ بقاءه خصبٌ ونعمه
وموتُ العابدِ القوَّام ليلاً يناجي ربه في كلِ ظلمه
وموتُ الفارسِ الضّرغامِ هدمٌ تشهدُ له بالنصرِ عزمه
فحسبك خَمسةٌ يُبكى عليهم وباقي الناس تَخفيفٌ ورحمه
وباقي الْخلق هَمجٌ رُعاعٌ وفي إيجادهم للهِ حِكمه
وإليك أخي الحبيب بعض المواقفِ لأصحاب الهمم العالية ملؤوا حياتهم بجلائلِ الأعمال، فشهدتْ لهم الأمة بعلو الهمة، وسجَّل لهم التاريخ تلك المآثر: فهذا نوح عليه السلام عالي الهمة بقدر ما بينته الآياتُ في كتابِ الله تعالى، يقول الحق سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 14]، فقد مكث يدعو قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم ييأس ولم يتعب، حتى إن بعضَ أهلِ التفسير ذكروا أنه لم يستجب له إلا في حدود المائتين على أكثر تقدير، وقال بعضهم: الذين استجابوا لدعوته ثمانون شخصا، وإذا قلنا: إن الذين استجابوا له مائتا فرد فإن نوحًا عليه السلام يكون قد أمضى خمسَ سنوات مع كلِ فرد منهم حتى يستجيب لدينِ الله تعالى. وأما الإمام الشافعي رحمه الله فقد سُئل يوما: كيف طلبتَ العلم؟ فقال: طَلبُ المرأةِ المضلّة ولدها ليس لها غيره.
معشر الكرام، صاحبُ الهمة العالية يتطلع إلى جنة وارفة الظلال، ويأمل في قبرٍ يكون له روضةً من رياضِ الجنان؛ لذا فهو في عبادة لا تنقطع، صلاةٌ خاشعة، وعينٌ دامعة، وقراءةٌ للقرآن دائمة. أصحاب الهمم يترفعون عن سفاسف الأمور، قال بعض الحكماء: "الهمةُ راية الجد".
أحبتي، أختم حديثي بذكر بعض الأسباب التي تساعد على كسب علو الهمة نذكر منها:
أولاً: قوةُ الإيمان باللهِ عز وجل وسلامة العقيدة.
ثانيًا: تلاوةُ القرآن الكريم بتدبرٍ وتعقل.
ثالثًا: قراءةُ سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأفضل ذلك سيرة الحبيب الكريم صلوات ربي وسلامه عليه.
رابعًا: حضورُ مجالس العلم وحلقات الذكر.
خامسًا: الدعاءُ والتضرع إلى الله بأن يرزقه همةً عالية.
سادسًا: البعدُ عن الترف والنعيم الذي يلهى المرء عن طاعة ربه عز وجل.
سابعًا: قبولُ النقد البنَّاء والنصيحةِ الهادفة.
ثامنًا: حُسنُ النية وإخلاصُ العمل لله تعالى.
تاسعًا: البذلُ والسخاء.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الهمم العالية، وأن يصلح قلوبنا ويتقبل منا، ويتجاوز عنّا بعفوه وكرمه وجوده.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5571)
عيد الأضحى 1428هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, مواعظ عامة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
10/12/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية الله لعباده. 2- آثار الذنوب والمعاصي. 3- الحث على التوبة والإصلاح. 4- العيد الحقيقي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَإِنَّ اللهَ الذِي خَلَقَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَهُوَ أَعلَمُ بما يُصلِحُ شُؤُونَهُم وَتَستَقِيمُ به أَحوَالُهُم قَد أَمَرَهُم وَأَوصَاهُم وَحَذَّرَهُم وَنَهَاهُم، أَوصَاهُم بِوَصَايَا جَامِعَةٍ وَأَمَرَهُم بِأَوَامِرَ نَافِعَةٍ، لَوِ امتَثَلُوهَا وَاتَّبَعُوهَا لَنَالُوا خَيرَيِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَحَذَّرَهُم مِن سَبَبِ كُلِّ بَلاءٍ، وَنَهَاهُم عَن مَنشَأِ كُلِّ دَاءٍ، ممَّا لَوِ اجتَنَبُوهُ وَتَجَافَوا عَنهُ وَهَجَرُوهُ لَسَعِدُوا في دُنيَاهُم وَفَازُوا في أُخرَاهُم، قَالَ سُبحَانَهُ: وَللهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِن تَكفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا. مَا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ مِن خَيرٍ وَلا صَلاحٍ وَلا مَتَاعٍ حَسَنٍ وَلا أَمنٍ ولا سَعَةٍ إِلاَّ وَطَرِيقُهَا التَّقوَى وَالإِيمَانُ وَسَبِيلُهَا الطَّاعَةُ وَالعَمَلُ الصَّالحُ، وَمَا فِيهِمَا مِن شَرٍّ وَلا فَسَادٍ وَلا بَلاءٍ وَلا فِتنَةٍ وَلا خَوفٍ ولا ضِيقٍ إِلاَّ وَسَبَبُهَا الكُفرُ فَمَا دُونَهُ مِنَ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، وَمَا أَنعَمَ اللهُ عَلَى قَومٍ نِعمَةً فَنَزَعَهَا مِنهُم وَغَيَّرَهَا عَلَيهِم إِلاَّ بِكُفرِهِم نِعمَةَ رَبِّهِم وَجُحُودِهِم فَضلَهُ وَفُسُوقِهِم عَن أَمرِهِ وَتَكذِيبِهِم رُسُلَهُ وَنَقضِهِم العَهدَ مَعَهُ وَتَغيِيرِهِم مَا بِأَنفُسِهِم، وَمَا عَادَ إِلَيهِم مَا نُزِعَ عَنهُم إِلاَّ بِتَوبَةٍ صَادِقَةٍ وَرُجُوعٍ حَقِيقِيٍّ، قَالَ تَعَالى: وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، وَقَالَ تَعَالى: وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُّهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا ، وَقَالَ تَعَالى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ كَبِيرٍ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا عَن يُونُسَ عَلَيهِ السَّلامُ: فَالتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَولا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ في بَطنِهِ إِلى يَومِ يُبعَثُونَ ، وَقَالَ تَعَالى عَن قَومِهِ: فَلَولاَ كَانَت قَريَةٌ آمَنَت فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَومَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفنَا عَنهُم عَذَابَ الخِزيِ في الحَيَاةَ الدُّنيَا وَمَتَّعنَاهُم إِلى حِينٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مَا يُرَى في العَالمِ اليَومَ مِن غَلاءٍ فَاحِشٍ في أَسعَارِ المَوَادِّ الأَسَاسِيَّةِ وَالضَّرُورِيَّاتِ وَارتِفَاعٍ كَبِيرٍ في قِيَمِ السِّلَعِ وَالحَاجَاتِ وَانخِفَاضٍ في القِيمَةِ الشِّرَائِيَّةِ لِلعُملاتِ وَانحِبَاسٍ لِلأَمطَارِ وَقِلَّةٍ في البَرَكَاتِ فَضلاً عَن تَسَلُّطِ الأَعدَاءِ وَضَعفِ كَلِمَةِ المُسلِمِينَ، إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لأَثَرٌ مِن آثَارِ ابتِعَادِ العِبَادِ عَن رَبِّهِم وَكُفرِهِم بِنِعَمِهِ وَغَفلَتِهِم عَمَّا خُلِقُوا لَهُ مِن عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَانشِغَالِهِم بما كُفُوا مَؤُونَتَهُ مِن طَلَبِ مَا زَادَ عَنِ الكَفَافِ وَعِمَارَتِهِم الدُّنيَا عِمَارَةَ مَن يَخلُدُ فِيهَا وَيَبقَى وَتَهَاوُنِهِم بِالآخِرَة تَهَاوُنَ مَن هُوَ بها مُكَذِّبٌ غَيرُ مُوقِنٍ، وَلَو يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُم إِلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا. وَإِنَّهُ وَاللهِ لا مُخَلِّصَ لِلعِبَادِ ممَّا هُم فِيهِ وَلا مُنجِيَ لهم ممَّا أَصَابَهُم إِلاَّ التَّوبَةُ الصَّادِقَةُ إِلى اللهِ وَالرُّجُوعُ الحَقِيقِيُّ إِلى حِمَاهُ وَالتَّخَلُّصُ مِن أَسبَابِ الغَضَبِ وَمُوجِبَاتِ العَذَابِ وَالعَمَلُ بما يَجلِبُ الرَّحمَةَ وَتُستَنزَلُ بِهِ البَرَكَةُ، وَإِنَّ مِن رَحمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ المُؤمِنِينَ وَلُطفِهِ بهم وَإِرَادَتِهِ الخَيرَ لهم أَنْ يَبتَلِيَهُم بِأَنوَاعِ المَصَائِبِ وَالابتِلاءَاتِ؛ مِن تَأَخُّرِ الغَيثِ وَفَسَادِ الثَّمَرَاتِ وَغَلاءِ الأَسعَارِ وَنَزعِ البَرَكَاتِ وَظُهُورِ الأَمرَاضِ وَالأَوبِئَةِ وَالآفاتِ وَتَسَلُّطِ الظَّلَمَةِ وَالمُنَغِّصَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ تَذكِيرًا لهم وَتَنبِيهًا؛ لِئَلاَّ يَتَمَادَوا في عِصيَانِهِم وَيستَرسِلُوا في غَيِّهِم، وَإِلاَّ فَلَو شَاءَ سُبحَانَهُ لَمَدَّ لهم وَأَمهَلَهُم وَوَسَّعَ عَلَيهِم، لِيَتَمَادَوا في طُغيَانِهِم وَيَلَجُّوا في عِصيَانِهِم، ظَنًّا مِنهُم أَنَّ ذَلِكَ عَن رِضًا مِنهُ عَنهُم، حَتى إِذَا فَرِحُوا أَخَذَهُم عَلَى غِرَّةٍ وَأَهلَكَهُم عَلَى حِينِ غَفلَةٍ، كَمَا فَعَلَ سُبحَانَهُ بِمَن لم يَتَذَكَّرْ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَالتي أَخبَرَنَا سُبحَانَهُ عَن أَحوَالِهِم في كِتَابِهِ لِنَعتَبِرَ وَنَتَّعِظَ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: وَلَقَد أَرسَلنَا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُم بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ فَلَولا إِذْ جَاءهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَت قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَمَا أَرسَلنَا في قَريَةٍ مِن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَد مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذنَاهُم بَغتَةً وَهُم لاَ يَشعُرُونَ وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللهِ فَلاَ يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ أَوَلم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرضَ مِن بَعدِ أَهلِهَا أَنْ لَو نَشَاءُ أَصَبنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَنَطبَعُ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لاَ يَسمَعُونَ.
نَعَمْ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مَا أَصَابَنَا وَيُصِيبُنَا مِن تَغَيُّرٍ وَفَسَادٍ وَمَا يَتَوَالى عَلَينَا مِن مِحَنٍ وَابتِلاءَاتٍ إِنَّمَا هُوَ تَذكِيرٌ لَنَا لِنَتَنَبَّهَ وَنَرجِعَ وَنَتُوبَ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: وَبَلَونَاهُم بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ، وَقَالَ تَعَالى: وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ العَذَابِ الأَدنى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَلَقَد أَهلَكنَا مَا حَولَكُم مِنَ القُرَى وَصَرَّفنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ، وَقَالَ تَعَالى: وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فِرعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقصٍ مِن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ ، وَقَالَ في شَأنِ المَطَرِ: وَلَقَد صَرَّفنَاهُ بَينَهُم لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ، فَهَل نحنُ بما جَرَى لِغَيرِنَا مُعتَبِرُونَ؟ هَل نحنُ بما أَصَابَ مَن حَولَنَا مُتَّعِظُونَ؟ هَل نحنُ بما ذُكِّرْنَا بِهِ مُتَذَكِّرُونَ؟ هَل مِن تَوبَةٍ عَمَلِيَّةٍ صَادِقَةٍ شَامِلَةٍ، نُرَاجِعُ فِيهَا أَنفُسَنَا، وَنُدَقِّقُ النَّظَرَ في حِسَابَاتِنَا، وَنَتَذَكَّرُ مَا مَضَى مِن مُخَالَفَاتِنَا، فَنُصَحِّحَ الطَّرِيقَ وَنُعَدِّلَ المَسَارَ وَنُسَارِعَ بِالرُّجُوعِ وَنُبَادِرَ بِالانكِسَارِ؟ هَل نَفعَلُ ذَلِكَ وَنَجأَرُ إِلى اللهِ قَائِلِينَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لم تَغفِرْ لَنَا وَتَرحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ، أَمْ نَفعَلُ كَفِعلِ مَن قَسَت قُلُوبُهُم مِنَ المُنَافِقِينَ، فَلَم يَتَّعِظُوا بما يَرونَهُ مِنَ أَنوَاعِ العَذَابِ التي تُصَبُّ عَلَى مَن حَولَهُم، قَالَ سُبحَانَهُ في حَالِ أُولَئِكَ الظَّالمِينَ: أَوَلاَ يَرَونَ أَنَّهُم يُفتَنُونَ في كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَو مَرَّتَينِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُم يَذَّكَّرُونَ.
أَلا فَلنَتَّقِ اللهَ أُمَّةَ الإِسلامِ، وَلْنَبدَأْ بِأَنفُسِنَا وَلْنُحَاسِبْهَا، فَإِنَّ كُلاًّ مِنَّا أَدرَى بِنَفسِهِ وَأَبصَرُ بِعَيبِهِ، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ. ثم لْنُصلِحْ أُسَرَنَا وَمُجتَمَعَاتِنَا وَمَن حَولَنَا، يُصلِحِ اللهُ شَأنَنَا وَيَحفَظْ أَمنَنَا وَيَزِدْنَا وَيُبَارِكْ لَنَا. إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا، وَإِنَّ مَعَ الضِّيقِ مَخرَجًا، وإِنَّ مَعَ الكَرْبِ تنفيسًا وَمَعَ الهَمِّ فَرَجًا، لَكِنَّ فِينَا مَن لم يَزَلْ يَتمَادَى وَيَزدَادُ بُعدًا، فِينَا مَن يُرِيدُ العَودَةَ بِالأُمَّةِ إِلى جَهَالاتِهَا وَضَلالاتِهَا بَعدَ إِذْ أَنقَذَهَا اللهُ مِنهَا، فِينَا مَن يَسعَى لإِحيَاءِ القَومِيَّةِ وَالعَصَبِيَّةِ وَالنَّفخِ في رُوحِ القَبَلِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، فِينَا مَن يُرِيدُ لِلنَّاسِ الاجتِمَاعَ عَلَى غَيرِ ذِكرِ اللهِ وَالصَّلاةِ، فِينَا مَن يَوَدُّ لَو تَفَرَّقَ النَّاسُ شِيَعًا وَأَحزَابًا، مِنَّا مَن تَرَكَ الصَّلاةَ وَتَهَاوَنَ بها، مِنَّا مَن مَنَعَ الزَّكَاةَ وَبَخِلَ بها، مِنَّا مَن يُعطِي وَيُنفِقُ وَيَتَكَرَّمُ لا لِوَجهِ اللهِ، فَإِذَا جَاءَ أَمرٌ للهِ وَفي سَبِيلِهِ بَخِلَ وَاستَغنى، مِنَّا القَاطِعُ لِرَحِمِهِ الهَاجِرُ لأَقَارِبِهِ المُصَارِمُ لإِخوَانِهِ، أَكَلنَا الرِّبَا وَتَهَاوَنَّا بِالمُعَامَلاتِ المَشبُوهَةِ، وَقَعنَا في محارِمِ اللهِ وَتَعَدَّينَا حُدُودَهُ بِأَدنى الحِيَلِ، طَلَبنَا الدُّنيَا بِالآخِرَةِ، تَعَالَجنَا بِالسِّحرِ وَأَتَينَا الكَهَنَةَ وَالعَرَّافِينَ، رَفَعنَا أَطبَاقَ الشَّرِّ فَوقَ مَنَازِلِنَا، تَسَمَّرنَا أَمَامَ فَاسِدِ القَنَوَاتِ، وَتَشَبَّعنَا بما يُلقَى فِيهَا مِن شُبُهَاتِ وَضَلالاتٍ، وَتَشَرَّبنَا مَا تَعرِضُهُ مِن فَوَاحِشَ وَشَهَوَاتٍ وَمُنكَرَاتٍ، فَإِلى مَتى الغَفلَةُ وَالتَّنَاسِي؟! وَإِلى مَتى الإِعرَاضُ وعَدَمُ العَمَلِ بِالعِلمِ؟! أَلم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ.
إِنَّنَا وَاللهِ عَلَى خَطَرٍ مِن مَوتِ القُلُوبِ إِذَا نحنُ لم نُفِقْ مِن غَفلَتِنَا وَنَنتَبِهْ مِن سَكرَتِنَا وَنَعمَلْ بما عُلِّمْنَا وَنَفعَلْ مَا بِهِ وُعِظْنَا، قَالَ : ((تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ عَرضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ، حَتى يَصِيرَ القَلبُ أَبيَضَ مِثلَ الصَّفَا لا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السُّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، وَالآخَرُ أَسوَدَ مُربَدًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ)) ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا وَإِذًا لآتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ رَبِّكُم وَسُنَّةِ نَبِيِّكُم، اِعرِفُوا حَقِيقَةَ الدُّنيَا وَلا تَغتَرُّوا بها، وَاطلُبُوا الآخِرَةَ وَكُونُوا مِن أَهلِهَا، لا تُلهِيَنَّكُمُ الفَانِيَةُ عَنِ البَاقِيَةِ، اللهَ اللهَ في طَاعَةِ اللهِ وَالصَّلاةِ مَعَ الجَمَاعةِ، فَإِنَّهَا نِعْمَ الذُّخرُ وَحَسُنَتِ البِضَاعَةُ، أَدُّوا الزَّكَاةَ وَأَنفِقُوا لِوَجهِ اللهِ، وَارحَمُوا مَن في الأَرضِ يَرحَمْكُم مَن في السَّمَاءِ، مُرُوا بِالمَعرُوفِ أَمرًا حَلِيمًا رَفِيقًا، وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ نَهيًا حَكِيمًا رَقِيقًا، اِحفَظُوا أَقدَارَ وُلاةِ الأَمرِ وَالعُلَمَاءِ، وَصُونُوا أَعرَاضَ أَهلِ الحِسبَةِ وَالدُّعَاةِ الفُضَلاءِ، أَطِيعُوا مَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَكُم، وَاحذَرُوا التَّفَرُّقَ وَالتَّشَرذُمَ، وَتَجَنَّبُوا مَوَاقِعَ الفِتَنِ وَمُصَاحَبَةَ المَفتُونِينَ، وَأَحيُوا رُوحَ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ وَمَحَبَّةَ الخَيرِ لِلآخَرِينَ، وَأَمِيتُوا التَّعَصُّبَ وَالأَثَرَةَ وَحُبَّ الذَّاتِ وَالحَسَدَ، بَرُّوا وَالِدِيكُم وَصِلُوا أَرحَامَكُم، تَرَاحَمُوا وَتَلاحَمُوا، وَتَصَالَحُوا وَتَسَامَحُوا، وَلا تَقَاطَعُوا وَلا تَهَاجَرُوا، عَلَيكُم بِالصِّدقِ وَالوَفَاءِ وَالحَيَاءِ، وَاجتَنِبُوا الكَذِبَ وَالغَدرَ وَالجَفَاءَ، أَدُّوا الأَمَانَةَ وَاحذَرُوا الخِيَانَةَ، وَأَلزِمُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم الحِشمَةَ وَالصِّيَانَةَ، اِحفَظُوا العُهُودَ وَأَوفُوا بِالعُقُودِ، اِحذَرُوا الغِشَّ وَالفُحشَ وَقَولَ الزُّورِ، وَإِيَّاكُم وَالغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ وَالشَّائِعَاتِ، وَاتَّقُوا الظُّلمَ وَالبُهتَانَ وَالتَّسُاهُلَ في حُقُوقِ العِبَادِ، وَلا تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ وَالزِّنَا، وَاحذَرَوا الرِّشوَةَ وَالرِّبَا، وَاجتَنِبُوا المُسكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَاتِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهدِيهِم رَبُّهُم بِإِيمَانِهِم تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهَارُ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَو يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ استِعجَالَهُم بِالخَيرِ لَقُضِيَ إِلَيهِم أَجَلُهُم فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا في طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَو قَاعِدًا أَو قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفنَا عَنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لم يَدعُنَا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلمُسرِفِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ وَلَقَد أَهلَكنَا القُرُونَ مِن قَبلِكُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤمِنُوا كَذَلِكَ نَجزِي القَومَ المُجرِمِينَ ثُمَّ جَعَلنَاكُم خَلاَئِفَ في الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعَالى حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِصَالحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن شَهِدتُم هَذَا العِيدَ السَّعِيدَ، اِعلَمُوا أَنَّهُ لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن خَافَ رَبَّهُ وَتَابَ مِن ذَنبِهِ، لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن أَعطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسنى، لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن طَهَّرَ قَلبَهُ وَأَصلَحَ قَالَبَهُ، لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن وَصَلَ رَحِمَهُ وَأَحسَنَ إِلى أَقَارِبِهُ. إِنَّكُم في يَومٍ عَظِيمٍ سَمَّاهُ اللهُ يَومَ الحَجِّ الأَكبرِ، تَتلُوهُ أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ عَظِيمَةٌ، فَعَظِّمُوهَا بِطَاعَةِ اللهِ وَذِكرِهِ، وَأَكثِرُوا مِن حَمدِهِ وَشُكرِهِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ. ضَحُّوا وَطيبُوا نَفسًا بِضَحَايَاكُم، وَاذكُرُوا اللهَ عَلَى مَا رَزَقَكُم وَأَنْ هَدَاكُم، فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ اللهُ في يَومِ النَّحرِ بِمِثلِ إِرَاقَةِ دَمِ الأَضَاحِي، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبلَ أَن يَقَعَ عَلَى الأَرضِ، فَاحرِصُوا عَلَى الأَخذِ بِأَسبَابِ القُبُولِ؛ مِنَ الإِخلاصِ للهِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَاستِشرَافِ الضَّحَايَا وَاستِسمَانِهَا وَاختِيَارِ أَطيَبِهَا، وَاحذَرُوا مَا يُحبِطُ الأَعمَالَ مِنَ الشِّركِ وَالرِّيَاءِ وَالبِدَعِ، أَو مَا يَمنَعُ الإِجزَاءَ أَو يُنقِصُ الأَجرَ مِنَ العُيُوبِ، وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَأَنَّهُ لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ الذَّبحَ مُمتَدٌّ إِلى غُرُوبِ الشَّمسِ مِن ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشرِيقِ، وَأَنَّهُ يُشرَعُ في هَذِهِ الأَيَّامِ التَّكبِيرُ وَلا سِيَّمَا في أَدبَارِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ، فَكَبِّرُوا وَارفَعُوا بِهِ أَصوَاتَكُم، وَأَحيُوا سُنَّةَ نَبِيِّكُم في خَلَوَاتِكُم وَجَلَوَاتِكُم.
ثم صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَن أُمِرتُم بِالصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَيهِ...
(1/5572)
صفات الفرقة الناجية
أديان وفرق ومذاهب
الفرقة الناجية
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
19/12/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين وتمام النعمة. 2- فضل الصحابة وتبليغهم لدين الله تعالى. 3- الأمر بلزوم ما كان عليه السلف الصالح. 4- افتراق الأمة. 5- صفات الفرقة الناجية. 6- أصناف أهل البدع. 7- التحذير من الفتن والفرقة والاختلاف. 8- التحذير من القنوات الضالة المضلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله أيّها المسلمون، وأطيعُوا الله ورسولَه لعلَّكم تفلِحون.
عبادَ الله، إنَّ ربكم جلَّت عظمتُه وتقدَّست أسماؤُه بَعَث صفِيَّه محمّدًا عَلَى فَترةٍ من الرّسُل، وأنزل عليه الكتابَ والحِكمة، ودعَا إلى ربِّه على بَصيرةٍ، فعلِم الناسُ من القرآن، وعلِموا من السّنّة، وفَقهوا في دين الله تعالى، ومَا لحِق رَسولُ الله بِالرّفيقِ الأعلَى حتى ترَك أمّتَه عَلَى المِنهاجِ الواضِح والصّراطِ المستقيم، قال اللهُ تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]، وقَالَ : ((تركتُكم على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلا هالك)) [1].
فبيَّن الله تعالى أصولَ الإيمان وصِفاتِ المؤمِنِينَ، فَقَالَ جَلّ ذِكرُه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]. وبيَّنَ الرَّسولُ مَرَاتِبَ الدِّينِ في الحديثِ لمّا سَأَلَه جِبريلُ عليه الصّلاة والسلامُ، وهي الإسلام والإيمان والإحسان [2] ، وسنَّ عليه الصَّلاة والسَّلام السّنَن، وشرَع الأحكام، وفصّل الحلال والحرَام، وبيَّن مسائل العقيدةِ أكمَلَ بَيان، وحقَّق عليه الصَّلاة والسَّلام مقامَاتِ العبوديَّةِ كلِّها لربِّه، وكَفَى نَبِيَّنا شَرَفًا وقَدرًا ثناءُ الله تعالى عليه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
والصّحابةُ رَضِي الله عَنهم تَربِيَةُ رسول الله ونَقَلَةُ الشَّريعةِ والمجاهِدون في سبيلِ الله، اختَارَهم الله لصُحبةِ نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام، ووصَفَهم الربُّ تبارك وتعالى بالإيمان الكامِل والسَّبقِ إلى الخيراتِ وفِعلِ الصّالحات فقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74]، وقال تَبَارَك وتَعَالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]، وأثنى عَلَيهِم رسولُ الله في قَولِه: ((خَيرُكم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) [3].
فالسّلفُ الصّالح حقَّقوا الحياةَ العَمَلِيّة للإسلام، وعَمِلوا بالدِّين في حياتهم الخاصَّةِ والعامّة، وطبَّقوه التطبيقَ الكامل، وهم القُدوَةُ في العَمَل بِتعَاليمِ الإسلامِ لمن أتى بَعدَهم، فكانت سِيرَتهم منارًا للأجيالِ بَعدَهم في العِلمِ والعَمَل، فمن اتَّبع طَرِيقَهم اهتدَى وفاز بجنّاتِ النَّعيم، ومن خالفهم ضلَّ وغوَى وكَانَ مِنَ الخاسِرين.
ولمَّا كان السلف رضيَ الله عنهم أكملَ النَّاس عِلمًا وعملاً وأشدَّ النَّاسِ اقتداءً بالنبيِّ رَغَّب عليه الصَّلاةُ والسَّلام في لزومِ ما كانَ عَلَيه هو وَصَحابتُه، وأمَر بالتمسّك بما كانوا عَلَيه منَ الهُدَى، وأَخبر أنّ الفِرقةَ الناجيَة المتمسِّكةَ بالحقِّ عندَ اختلافِ الأمّة هي ما كان عليه الرسولُ وأصحابُه، فقالَ : ((افتَرَقَتِ اليهودُ على إحدَى وسبعين فِرقَة، وافترقتِ النصارى على اثنتَين وسَبعين فِرقَة، وستفترِق هذه الأمّة على ثَلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النَّارِ إلا واحدة)) ، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مِثلِ ما أنا عليه وأصحابي)) [4]. وقوله : ((كلُّها في النّار)) هذا مِنَ الوعيدِ المعلوم عند السَّلَف تَفسِيرُه، وهذه الزيادةُ وهي قوله : ((مَن كَانَ عَلَى مِثل ما أنا عَلَيه وأصحابي)) رواها الآجريّ وغيرُه من طُرق [5] ، ولا شكَّ في صحَّة معناها.
وقد وقع ما أخبرَ به النبيُّ من الاختلافِ والفُرقةِ، ولَكنَّنا كُلِّفنا بالاعتصامِ بالكِتابِ والسّنَّة ونَبذِ الخِلافِ والفُرقةِ، وأُمِرنا أن نكونَ من الفِرقةِ النّاجيَة المتمسِّكة بالحقّ التي علِمت الحقَّ وعمِلت به، قال الله تَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
وَكلُّ فِرقة مِنَ الفرَق الإسلاميّة تزعُم أنها على الحقِّ وغيرها على الباطِل، ولكن ليس للدّعاوَى وزنٌ عند الله ما لم يكُن لها بيِّناتٌ من العِلم النافِع والعمَل الصّالح، وقد بيَّن الله تعالى في كتابِه صِفاتِ هذهِ الفرقةِ النّاجيَةِ، وجلَّى أمرَها رسولُ الله ؛ لِيكونَ المسلمُ على بَصيرةٍ من دينهِ وعلى نُورٍ من ربِّه، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40].
فمِن صِفاتِ هذهِ الفِرقة الناجية الاتِّباعُ بِإحسانٍ لسَلَف الأمّةِ السابِقين رَضِي الله عنهم، قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
والاتِّباعُ هو الاقتِداءُ بهِم في توحيدِ العبادَةِ لله تعالى، وإثباتِ صفات الله عزّ وجلّ التي وصَف بها نفسَه ووصَفَه بها رسوله إِثباتَ مَعنى، لاَ إثباتَ كَيفيّة، وتنزيهِ الربّ تبارَكَ وتعالى عن كلِّ ما لا يَليق به، فإنَّ السلف رضي الله عنهم كانَت مَعاني صفاتِ الله تعالى أَظهرَ عندهم من مَعَاني الأحكامِ العمَليّة، ولذلك لم يَسأَلوا عن معانيها كَمَا سَأَلوا في الأحكامِ، والوُقوفِ حيث انتهَوا إليه في أمورِ العبادةِ وأحكامِ الدّين.
ومِن صفاتِ فِرقةِ الحقّ الناجِية الاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسُنّة رَسولِه ورَدُّ التنازُع والاختلافِ إلى ذلك، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وقال سُبحانَه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء: 59].
ومن صِفاتِ هذِه الفرقةِ الناجية تَأويلُ القُرآن وتَفسيره بالقرآنِ وتفسيره بالسنة وبأقوال الصَّحابةِ والتابعين، فإنَّ الله تَعالى ذمَّ مَنِ اتَّبع المتشابِهَ وأوَّل بالرّأي وخالف طريقَ السلف في تفسير القرآن والسنة، ومدح الرّاسخين في العلم المتّبِعين غير المبتدِعين، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7].
ومِن صفات فرقةِ الحقِّ الناجية التمسُّكُ بما أجمع عليه السلفُ وما أجمَع عليهِ عُلماءُ الأمّة وعدَمُ المشاقَّة لله ورسولِه، قال اللهُ تَعَالى: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].
ومِن صفاتِ هذهِ الفِرقةِ الناجيةِ تعظيمُ قولِ رسولِ الله وسنّتِه والعنايةُ بآثارِه والرضَا بتحكيمِها، قال الله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51]، وَقَالَ تَعَالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]، وَرَوَى الآجُرّي بسندِه عن عمرانَ بنِ حصين رضي الله عنه أنّه قال لِرجلٍ يقول: لا أَعمَل إلا بما في كتابِ الله: (إنّك أحمَق، أَتَجِدُ في كتاب الله عزّ وجلّ الظهرَ أربعًا لاَ يُجهَر فيها بالقراءَة؟!) ثم عدَّد عليه الصلاةَ والزَّكاة ونحوهما، ثم قال: (أتّجِد هذا في كتاب الله عزّ وجلّ مفَسَّرًا؟! إنَّ كتابَ الله جلّ وعلا أَحكَمَ ذلك، وإنّ السنَّةَ تفسِّر ذلك) [6] ، وروَى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال في الواشمة والمستوشمة والمتنَمّصة: (مَا لي لا ألعنُ من لعَن رسول الله وهو في كتابِ الله: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]؟!) [7].
ومِن صِفات فِرقةِ الحقّ الناجية بذلُ الجهدِ في معرفةِ الحقّ ودَلائله وعَدمُ الرِّضا بأقوالِ الرجل في دين الله تعالى ممّا لا يؤيِّده كتابٌ ولا سنّة، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 18]، وَقَالَ تَعَالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 3].
ومِن صِفاتِ هَذِه الفِرقةِ الناجية محبّةُ المؤمنين ورَحمةُ المسلمين ونُصحُهم وكفُّ الأذى والشرِّ عنهم، قال الله تَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]، وقال : ((المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدّ بعضه بعضًا)) [8] ، وقال : ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطُفِهم كمَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائِرُ الجسَد بالسَّهَر والحمَّى)) [9].
وَمِن صِفاتِ هَذِه الفِرقةِ الناجيَةِ سَلامةُ قُلوبهم لسلفِ الأمّة رضي الله عنهم ومحبّتُهم، قالَ الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10]. وهذا بخلافِ ما عَلَيه طَوائفُ مِنَ الفِرَق الإسلاميَّة مِن سبِّهم لخِيار الأمّةِ وساداتِ الأولياء الذين هم أفضل الناس بعد النبيّين رضي الله عنهم.
وَمِن صفات هذه الفرقةِ الناجيَة القيامُ بالدِّين عمَلاً بِه ودعوةً إليه وإِقامةً للحجَّة على المخالفين وجِهادًا في سبيله، قال الله تَعَالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة: 54]، وَرَوَى مسلمٌ أنَّ النبيَّ قال: ((لا تَزالُ طائفة من أمتي ظاهرين على الحقِّ، لا يَضرّهم من خالَفهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك)) [10].
ومِن صفاتِ هذه الفرقةِ الناجيَة النصيحةُ لله ولكِتابِه ولِرَسولِه ولأئمَّة المسلمِين وعامّتِهم، وطاعةُ وُلاة الأمر وأمرُهم بالمعرُوف ونهيُهم عن المنكر بالحكمة والصّواب، وطاعتُهم في المعروف وعَدَمُ الخروج عليهم ما لم يكن كفرٌ بواحٌ فيه من الله برهان، بخلاف بِدعةِ الخوارج الذين يستَحِلّون دماءَ المسلمين وأموالهم، ويرَونَ الخروجَ على الأئمّة.
ثم إنَّ أهلَ البدعِ قسمان: أئمّةٌ وأتباع، والأئمّة من أهلِ البدَع مِنهم من انتحَلَ مَذهبَه بسوءِ قَصدٍ وكيد للإسلام، ومنهم من انتحَلَه بحسنِ نيَّةٍ ولكنّه ضالّ هالكٌ، وكلٌّ هالك ضالّ إلاّ أن يتوبوا ويكونوا مع المؤمِنين، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران: 7].
أيّها المسلمون، تمسّكوا بما كان عليه سلفُ الأمّة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكونوا ممن اتَّبعهم بإحسان، وَوَعدَهم الله الجنّة، وشهد لهم بالإيمانِ الكامِل، وعُضَّ ـ أيها المسلم ـ على ذلك بالنواجِذ، ولا تغترَّ بكثرةِ الهالكين، ولا تستوحِش من قلّةِ السالكين.
ومِن صِفاتِ هذه الفرقةِ الناجية الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكَر والدّعوةُ إلى دينِ الله بالحِكمةِ والموعظة الحسنة وتبليغُ الحقِّ للناس، قالَ الله تَعَالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، ويَقولُ : ((مَن رأى مِنكم مُنكرًا فليغيِّره بيَدِه، فإن لم يستطع فبِلسانه، فإن لم يستطِع فبِقَلبه، وذلك أضعفُ الإيمان)) رواه مسلم [11] ، والتّغييرُ باليَدِ للسّلطانِ ونُوَّابِه.
هذه صفاتُ الفرقةِ الناجية مِنَ الفِرق الإسلاميّة التي تسير على نهجِ سلف الأمَّة من الصحابة والتابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، وقد حذّر رسولُ الله من مخالفةِ هديِه وهديِ أصحابه الأخيارِ، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ بدعةٍ ضلالة)) [12] ، قال تَعَالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 12].
بارَكَ الله لي ولَكُم في القرآنِ العَظيم، ونفَعَني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكرِ الحكيم، ونفعَنا بِهديِ سيّد المرسلين وقولهِ القويم، أقول قولِي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ، فاستغفروه إنه هو الغَفُور الرَّحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/126)، وابن ماجه في مقدمة السنن (43)، وابن أبي عاصم في السنة (48)، والطبراني في الكبير (18/257) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (331)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/47)، وهو في السلسلة الصحيحة (937).
[2] حديث سؤال جبريل عليه السلام للنبي عن الإسلام والإيمان والإحسان أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 10) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضا في الإيمان (8) من حديث عمر رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الشهادات (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة (2535) عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2129). وفي الباب عن عدد من الصحابة.
[5] الشريعة (23، 24، 25).
[6] الشريعة (104).
[7] مسند أحمد (1/433).
[8] رواه البخاري في كتاب المظالم، باب: نصر المظلوم (2314)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[9] رواه البخاري في كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (5665)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[10] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1920) عن ثوبان رضي الله عنه.
[11] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49) عن أبي سعيد رضي الله عنه.
[12] جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المشهور، أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله علاّمِ الغيوبِ غَفّار الذُّنوبِ، يُفرِّج الكروبَ ويَهدِي القلوب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأثني عليه الخيرَ كلَّه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ نبيّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله، خيرتُه من خَلقِه، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد وعلَى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله وأطيعُوه، فمن تمسَّك بتقواه فاز بالأجرِ العظيم ونُجِّيَ من عذابٍ أليمٍ.
أيُّها المسلمون، لقد حَذَّر الله تعالى من الفِتَن، ونهى عن الفُرقة والخِلاف، وأمرَ بالاجتماعِ والتَّعاون على الخيرِ والائتلاف، فقَالَ تَعَالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103].
وتحذيرُ القرآنِ والسنّةِ مِنَ الفِتنِ لأنّها تَذهَب بالدِّين كلِّه أو تُضعِفُه أو تُنتَهَك فيها الحرُمات والأعراض أو تَذهَب بالأموال وتفسِد الحياةَ، وفي الحديث: ((إيّاكم والفتنَ)) [1].
ومِن الفِتن في هذا الزَّمان القَنَواتُ التي تهدِم الدِّينَ والأخلاقَ وتدعو إلى الانحرافِ، وكذلك المواقِعُ الضَّارّة في شَبَكةِ المعلوماتِ وما أكثرَها، فإنها تدعو إلى كلِّ شرٍّ وتصُدُّ عن كلِّ خَير، وتحسِّن محَاكاةَ الأمَمِ غيرِ الإسلامية في كلّ شيء، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((لتتبعُنَّ سَنن من كان قبلَكم حذوَ القُذّة بالقذّةِ حتى لو دخَلوا جُحرَ ضبٍّ لدخلتُموه)) رواه البخاري ومسلم [2] ، وإخبارُه بِذَلك لتحذيرِ أمّتِه من التشبّه بهم.
فحصِّنوا أنفسَكم ـ أيُّها المسلمون ـ بمعرفةِ الحقِّ والعمَلِ به، وحصِّنوا أجيالَكم بتعليمِ الحقِّ وحملِهِم علَيه، فإنّ الله تبارك وتعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قَالَ : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدَة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسَلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...
[1] رواه ابن ماجه في الفتن (3968)، وابن عدي في الكامل (6/177) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده مسلسل بالضعفاء، ولذا قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (860): "ضعيف جدا".
[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7320)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2669) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه.
(1/5573)
التشويق إلى الحج
الإيمان
الجن والشياطين
حسان بن إبراهيم السيف
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تتابع مواسم الخيرات. 2- تعظيم الله تعالى لموسم الحج. 3- ركنية الحج. 4- مظاهر الحج المبرور. 5- التحذير من مفسدات الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لقد أكرم الله هذه الأمة بتتابع مواسم الخيرات عليها، وبتعاقب أيام الرحمات وتعدّد أسباب الفوزِ بالجنات، وها هي الأيام تمضي متسارِعة، يحدوها شوقها المتوقِّد إلى الموسم العظيم والمحفل الكبير الذي شرّفه الله وعظّمه، بل جعل تعظيم شعائره من أعلى مراتب التقوى وأزكاها، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
ومن تعظيم الله لهذا الموسم الذي أقبلت علينا أيامه وتشوّفت نفوس المؤمنين لتفيّؤوا ظلاله أنه قد اختصه الله عز وجل من دون ما سواه من المواسم أنه لم يوكّلَ شرف إعلام الناس به ودعوتهم إليه إلاّ إلى خليله وصفيّه وخيرة خلقه بعد نبيِّنا محمد أبينا إبراهيم عليه السلام، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 26، 27].
حجّ بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام العظام، فرضه الله على من استطاع إليه سبيلا من عباده مرة في العمر، لا ليستكثر بهم من قلّة، ولا ليستعزّ بهم من ذلة، فهو الغنيّ الحميد، وإنما ليمنّ عليهم بنعمته، وليتفضل عليهم برحته، فمن أطاعه رشد، ومن كفر فلن يضرّ إلا نفسه ولا يضرّ الله شيئا، وقد روي أن رسول الله قرأ قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 87] فقام رجل فقال: يا رسول الله، من تركه كفر؟ فقال : ((من تركه لا يخاف عقوبتَه ومن حجَّ لا يرجو ثوابه فهو ذاك)) ، وقال عمر الفاروق رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كلّ من كان له جِدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين)، وقال رضي الله عنه: (من استطاع الحج ولم يحجّ فسواء عليه يهوديًا مات أو نصرانيًا)، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (ومن مات وهو موسر ولم يحجّ جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر).
أيها المسلمون، الحج بالنسبة للمسلم رحلة لا ككلّ الرحلات، وسفر لا يماثله سفر، بل قد يفوز الحاج بحجّه ذاك بجنة عرضها الأرض والسموات، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال : ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) رواه مسلم. والحج المبرور ـ عباد الله ـ هو الذي يكون صاحبه قد أخلَصه لله عز وجل وتابع فيه نبيه محمد.
ولعلنا ـ عباد الله ـ نستعرض بعضًا من مظاهر الحجّ المبرور كما جاءت عن نبينا ؛ علّنا نقتفي أثره ونسلك سبيلك، فنحظى بشفاعته ونفوز بطاعته.
فمن أعظم تلك المظاهر هي إعلان التوحيد لله عز وجل في الحج والقيام به ظاهرًا وباطنًا قولاً وعملاً؛ ولذلك ابتهل النبي في بادئ حجه إلى ربه جل وعلا قائلاً: ((اللهم حجّة لا رياء فيها ولا سمعة)) ، وأهلّ بالتوحيد قائلاً: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) ، وجعل ذلك شعارًا للحاجّ حتى يرمي جمرة العقبة؛ ليستحضر الحاجّ توحيد الله عز وجل قاعدًا وقائمًا ماشيًا وراكبًا. ولما أقبل على الصفا جهر بشهادة التوحيد مرة أخرى قائلاً: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)).
ومن أعظم مظاهر الحجّ المبرور الإكثار من الدّعاء والابتهال والتضرّع إلى الله عز وجل وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، والدعاء نوعان لا يكمل أحدهما إلا بالآخر: فالأول: الثناء على الله عز وجل بما هو أهله من أسماءه الحسنى وصفاته العليا، والثاني: سؤال العبد حاجته من ربه عز وجل وإظهار الافتقار إليه والخضوع والخشوع له سبحانه.
وقد ألحّ النبيّ على ربّه بالدعاء والتضرّع في مواطن عدة في حجه: على الصفا، وعلى المروة، وفي عرفة، وعلى المشعر الحرام في مزدلفة، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى في سائر أيام التشريق، وقال : ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
ومن أعظم تلك المظاهر متابعته في حجه والاقتداء به في كلّ ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدع ويترك، وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، فلما أذن الرسول بالحج في السنة العاشرة من الهجرة قدم المدينة بَشرٌ كثير، ولم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم، كلّهم يلتمس أن يأتمّ به ويعمل مثل عمله. رواه مسلم. ويصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ذلك المشهد العجيب والموكب النبويّ المهيب حين استوت بالنبي ناقته على البيداء قائلا: فنظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله بين أظهرنا، والقرآن ينزل، وهو يقول : ((لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) ، قال جابر: وما عمل بشيء إلا عملنا به. رواه مسلم. ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم إذا أمرهم الرسول بشيء يسألونه: أواجب هذا أم سنة؟ أو إذا نهاهم عن شيء يقولون: أمحرم هذا أم مكروه؟ بل كانوا يمتثلون أمره وينتَهون بنهيِه.
اللّهمّ إنّا نسألك حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وتجارة لا تبور يا عزيز يا غفور، اللهم اغفر لنا وللسامعين، واجمعنا بهم في جنات النعيم، إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: أيها المسلمون، إن من أعظم مظاهر الحج المبرور وأشرف مقاصده ذكر الله عز وجل، ويلحظ المتدبّر لآيات الحجّ تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل أثناء المناسك وعقيبها، قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 198-200]. وقال : ((إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله في الأرض)) رواه الترمذي، وقال ((أفضل الحجّ العجّ والثجّ)) ، وقال له جبريل عليه السلام: ((كن عجاجا ثجاجا)) رواه أحمد. والعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجّ: إهراق دم الهدي.
ثم إن من عزم على حج بيت الله الحرام واقتفى سبيل الرسل عليهم الصلاة والسلام فليحذر من مفسدات الحج ومن محظوراته ومنكراته، وقد جمعها الله عز وجل في قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]. والرفث: هو الجماع وكلّ ما يتعلّق به من مقدّماته من قول أو فعل أو حديث عنه، والفسوق: كل معصية ومنكر، والجدال: أن تجادل صاحبك وتراجعه في الكلام فيما لا حاجة إليه ولا فائدة منه حتى تغضبه ويغضبك. قال : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه أحمد.
اللهم إنا نسألك حجا مبرورا لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال، نفوز فيه بطاعتك، وتغشانا فيه برحمتك، وتدخلنا به جنتك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
هذا، وصلوا وسلموا ـ عباد الله ـ على النعمة المهداة والرحمة المسداة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/5574)
أبواب المغفرة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
حسان بن إبراهيم السيف
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الافتقار إلى الله تعالى. 2- الله غفور ودود. 3- دعاء الله ورجاؤه. 4- فضل الاستغفار. 5- فضل التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة، إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبّة الله والإنابة إليه ودوام ذكرِه وصدق الإخلاص له، ولو أعطِي العبد الدنيا وما فيها لم تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا.
فليتك تَحلو والْحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بينِي وبينك عامر وبيني وبين العالَمين خراب
إذا صحّ منك الود فالكل هين فكلّ الذي فوق التراب تراب
قال ابن سعدي رحمه في تفسير قوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ : "هو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب، وهو الودود الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء، فكما أنه لا يشبهه شيء في صفات الجلال والجمال فمحبته في قلوب خواص خلقه لا يشبهها شيء من أنواع المحاب".
ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهو تعالى الودود الوادُّ لأحبابه، والمودّة هي المحبة الصافية، وفي هذا سرّ لطيف حيث قرنَ الودود بالغفور ليدل ذلك على أن أهلَ الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا غفَر لهم ذنوبهم وأحبَّهم، فلله الحمد والثناء وصفو الوداد، ما أعظمَ برَّه وأكثر خيرَه وأغزرَ إحسانه وأوسعَ امتنانَه، وسعت رحمته كلَّ شيء، وعمّ بفضله كلَّ حيّ.
أيها المسلمون، عن أنس بن مالك رضي عنه قال سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح ".
هذه ثلاثة من أبواب المغفرة فتحها من يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار:
أولها قوله عز وجل: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)) ، وأعظم ما يسأل العبد ربه أن يسأله مغفرة ذنوبه؛ ولذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيّ ليلة ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ فقال : ((قولي: اللهم إنك عفوّ تحبّ العفوَ فاعف عني)). وقال أبو مسلم الخولاني: ما عرضت لي دعوة فذكرت النارَ إلا صرفتها إلى الاستعاذة منها، ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبد يدعوه بحاجه من الدنيا فيصرفها عنه ويعوّضه خيرًا منها؛ إما أن يصرف عنه بذلك سوءًا، أو يدّخرها له في الآخرة، أو يغفر له بها ذنبا، فعن أبي سعيد عن النبي قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يغفر له بها ذنبًا قد سلف)) ، قالوا: إذا نكثر؟ قال: ((الله أكثر)) رواه الطبراني.
ومن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبا أن يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله ولا يأخذ بها غيره، فلا يرجو مغفرته من غير ربه، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا قال: ((يأتي الله بالمؤمن يوم القامة فيقربه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق، فيقول له: اقرأ، فيعرّفه ذنوبه ذنبًا ذنبا، يقول: أتعرف أتعرف؟ فيقول: نعم نعم، حتى يظن العبد أنه قد هلك، فيقول الله تعالى: لا بأس عليك يا عبدي، أنت في ستري من جميع خلقي، ليس بيني وبينك اليوم أحد يطّلع على ذنوبك غيري، إني سترتها عليك في الدنيا وغفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به، قال: ما هو يا رب؟ قال: كنت لا ترجو العفو من أحد غيري)).
يا ربِّ إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علِمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا مُحسن فمن ذا الذي يدعو ويرجو المجرم؟!
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجَميل عفوك ثم أني مسلم
عباد الله، الباب الثاني من أبواب المغفرة قوله جل وعلا: ((يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك...)) ، وقد امتدح الله عز وجل عباده المتقين بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون. وهذا الاستغفار هو المقرون بالعزم على ترك الذنب وعدم الإصرار عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)، فإذا أقلع العبد عن الذنب وعزم على عدم العود إليه واستغفر الله عز وجل غفر الله له؛ ولهذا في حديث أبي بكر الصديق عن النبي قال: ((ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)) خرجه أبو داود والترمذي.
وأفضل أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث شداد بن أوس عن النبي قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) خرجه البخاري.
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: عباد الله، أعظم أبواب مغفرة الذنوب هو ما ختم الله عز وجل به أسباب المغفرة بقوله: ((يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)). التوحيد أعظم أسباب مغفرة الذنوب، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]. فمن حقق كلمة التوحيد في قلبه وصدّق ذلك بقوله وفعله أخرجت منه كلَّ ما سوى الله محبّة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية ورجاء وتوكّلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلّها ولو كانت مثل زبد البحر، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرّة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات، قال : ((إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول :لا يا رب، فيقول الله جل وعلا: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله جل وعلا: بلى، إنّ لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول الله جل وعلا لعبده: احضر وزنك، فيقول العبد: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول الله جل وعلا: إنك لا تظلم، قال فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)).
اللهم إنا قد أطعنا في أعظم ما أمرتنا به وهو عبادتك وحدك، وانتهينا عن أعظم ما نهيتنا عنه وهو أن نعبد معك غيرك، اللهم فاغفر لنا ما بين ذلك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، فإن الله وملائكته يصلّون على النبي...
(1/5575)
وقفة مع نهاية العام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
علي بن سالم الرشيدي
خيبر
26/12/1428
جامع الرحبة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكر في تعاقب الليالي والأيام. 2- اغتنام فترة الشباب. 3- الرحلة إلى الموت. 4- دعوة للمحاسبة. 5- أهمية الوقت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى كما أمركم بتقواه، وراقبوه في السر والعلن، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيّها المسلمون، تفكّروا في هذه الليالي والأيام، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، حتى تنتهوا إلى آخر أسفاركم، وكل يوم يمرّ بكم فإنما يباعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة. فطوبى لعبدٍ اغتَنَمها بما يقرّبه إلى مولاه، وطوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنّب فعل السيئات، وطوبى لعبد اتّعظ بما فيها من تقلّبات الأمور والأحوال، قال تعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44]. فكم سمعنا من حي داهمه الموت! وكم سمعنا عن غني هجم عليه الفقر! وكم سمعنا عن صحيح معافى باغته المرض! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعظ النبيّ رجلا فقال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). فيا شباب الإسلام، إن الشباب قوّة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة، وفترت العزيمة، فاحفظوا جوارِحَكم وقتَ الشباب تحفظ لكم عند الكبر. وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحطّ نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال. أسأل الله أن يحفظنا بحفظه، وأن يمنّ علينا بالتوبة النصوحة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله، ألم تروا إلى هذه الشمس كلّ يوم تطلع من مشرقها وتغرب من مغربها، وإن في ذلك أعظم الاعتبار، فإن طلوعها ثمّ غيابها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي طلوع ثم غياب وزوال. ألم تروا إلى هذه الشهور تهلّ فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال، ثم تنمو رويدا رويدا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموّها أخذت بالنقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان سواء بسواء، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدّد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمرّ به الأيام سراعا، فينصرم العام كلَمح البصر فإذا هو في آخره، وهكذا عُمر الإنسان يتطلّع متى يكبر وينمو ويكون له شأن في الحياة، فما يلبث إلا وهو في آخر عمره كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19].
أيها المسلمون، إنكم في هذه الأيام تودّعون عاما قد انصرمت أيامه وانقضت لياليه، فهو شاهد لكم أو عليكم، فلنقف ـ عباد الله ـ وقفة صادقة ونحاسب أنفسنا قبل أن تحاسب، فمن كان مسيئا فيما مضى فعليه الإنابة والإحسان فيما بقي، فباب التوبة مفتوح، وربنا غفور رحيم، وفوق ذلك يفرح بتوبة عبده وهو الغني الحميد. ومن تفكر في أحوالنا اليوم وجد أن كثيرا منّا لاهٍ غافل، وكأنهم يعيشون أبدًا ولا يموتون، وكأنهم وإن ماتوا لا يحاسبون.
روي عن عثمان رضي الله عنه أنه إذا وقف على شفير القبر بكى حتى تبتلّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وإذا ذكرت القبر بكيت! قال رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله يقول: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه)).
فيا من أسرفت على نفسك في المعاصي وما تركت بابًا من أبواب العصيان إلا طرقته، إلى متى والأعوام شاهدة عليك؟! إلى متى تبقى على هذه الحال؟! ألم يأن الأوان إلى أن ترجع إلى ربك وتتوب إليه لعلّه أن يقبلك ويبدّل سيئاتك إلى حسنات إنه جواد كريم؟!
عباد الله، ومن كان فيما مضى محسنا فليحمد الله على ذلك، وليعلم أنه مطلوب منه الكثير في حقّ الله تعالى وفي حقّ الناس، فعليهم النصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم.
فيا من كنت من أهل الاستقامة والطاعة، احذر كلَّ الحذر من الغرور والكبرياء، فإن القلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء، والفتن عظمت في هذا الزمن، فتمسكوا بكتاب الله، وتعلموا سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، ووقروها، وارفعوا قدرها وشأنها، وانشروها بين إخوانكم.
عباد الله، في الحديث عن النبي أنه قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن جسمه: فيم أبلاه؟ وعن عمره: فيم أفناه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه: ما عمل به؟)) وإن كثيرا من الناس اليوم قد تلاعب بوقته وضيّعه في الشهوات والغفلات وإضاعة الصلوات؛ يسهرون معظم الليل ثم إذا جاء وقت السحر والنزول الإلهي وقرب وقت صلاة الفجر ناموا بعد سهرهم الآثم، وختموه بترك صلاة الفجر، ولا يزال هذا صنيعهم صيفا وشتاء، لا يتوبون ولا هم يذكرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أين هؤلاء من الذين قال الله فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة: 16]؟! وأين هم من الذين قال الله تعالى عنهم: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17، 18]؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. القول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، جعل الدنيا مزرعة للآخرة، ووفق من شاء لاغتنام أوقاتها قبل فواتها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله وصفوته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستغلوا أوقاتكم فيما ينفعكم في الدار الآخرة، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].
واعلموا أن الوقت ثمين، وأن كل لحظة تمر في غير عمل صالح فستخسرونها وتتحسّرون عليها، قال عز وجل: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]. فقد أقسم الله تعالى أن جميع الناس خاسرين إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح وتواصوا بالحق والصبر، أي: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله، وصبروا على أقدار الله.
عباد الله، إن من واجبات المسلم في بداية هذا العام أن يحمد الله على نعمه ويشكره على فضله، فإن الإسلام نعمة والأمن نعمة والعافية نعمه لا يعلمها إلا الله.
فاشتغلوا ـ عباد الله ـ بطاعة الله، ولا تلهكم الدنيا عن ذكر الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9-11].
(1/5576)
لعلهم يتضرعون
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
سليمان بن محمد الشتوي
المذنب
12/12/1428
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكفر والمعاصي سبب الشرور. 2- انتشار المصائب والكوارث في هذا الزمان. 3- مظاهر المنكر في هذا الزمان. 4- الحكمة من الابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حقَّ تقواه، فما من خير في الدنيا والآخرة ولا صلاح ولا متاع حسن ولا أمن وسَعة إلا وطريقها التقوى، هي وصية الله للأولين والآخرين: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء: 131]. بالتقوى تفتح أبواب السماء بالرزق والخير والبركات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
عباد الله، إخوة الدين والإيمان والعقيدة، إنه ما من شر ولا بلاء ولا فتنة ولا نقص في الأموال أو الأرزاق والثمرات أو المصائب ولا ضيق إلا وسببه الكفر فما دونه من المعاصي والذنوب، وما أنعم الله على قوم نعمة فنزعها منهم وغيّرها عليهم إلا بتغيُّرهم وكفرهم هذه النعم وجحودهم فضلَ النعم وخروجهم على أمره ومخالفتهم رسله، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53].
يضرب الله لنا الأمثال في القرآن عظة وعبرة، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، بما كسبت جوارحهم وعملت أيديهم.
عباد الله، إن ما نراه اليومَ في العالم من غلاءِ الأسعار وارتفاعٍ كبير في قيمة السّلع والحاجيات وانخفاض في القيمة الشرائية للعملات وانحباس الأمطار والجدب وقلّة البركات وانتشار للأمراض وللأوبئة وانهيار في الأسواق المالية وتتابع البلاء فضلا عن تسلّط أعداء الدين وضَعف كلمة المسلمين، إن ذلك كله أثر من آثار ابتعاد العباد عن ربهم، وكفرهم بنعمته، وغفلتهم عما خلقوا له من عبادة الله وطاعته، وانشغالهم بما كفوا مؤنته من طلب ما زاد عن الكفاف، وعمارتهم للدنيا عمارة من يخلد فيها، وتهاونهم بالآخرة تهاون من هو بها مكذب غير موقن، تفاخروا بالأحساب، وطعنوا بالأنساب، وأحيوا النعرات الجاهلية، ونفثوا بالقبلية، وهي من عادات الجاهلي، إسرافٌ وتبذير وتعالي، وبذل للأموال الطائلة في اجتماعات واحتفالات على غير طاعة، وبذل للأموال في مسابقات ولهو ولعب فيها الخسارة بلا شكّ في أوقات فاضلة، في وقتٍ بلادُنا الحبيبة ومكّة وطيبة يجتمع فيها ضيوف الرحمن، في جموع تغشاها الرحمة ويجلّلها الغفران، يجتمع الألوف من الشباب على كثبان الرمال على غير هدى وبلا هدف نبيل، وتصرف لهم الأعطيات والأموال والجوائز الهائلة الطائلة، في مقابل ذلك تئنّ المشاريع الخيرية والبرامج الدعوية من قلّة ذات اليد والتقصير في دعمها من أصحاب الأموال والثروات. لقد انتشرت الأطباق الفضائية، وعلت الأبنيةَ في البيوت والاستراحات، تسمّرت فيها الأعين، وشبعت الأفكار بما تلقيه من شبه، ومرضت القلوب بما يلقي فيها من شبهات وشهوات، وتشرّبت النفوس ما يعرض من فواحش ومنكرات. ولقد ولغ كثير من الناس الربا وأكل أموال الناس بالباطل، تهاونوا بحدود الله، وتجاوزوها بأدنى الحيَل، واسترخصوا لكلّ ذلِكم الفتاوى، قال سبحانه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168].
والله سبحانه يغار على حرماته، وهو يمهل ولا يهمل، حتى إذا أخذ فإنّ أخذه شديد وعقابه أليم، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأشهد أن لا إله إلا الله التواب الرحيم وحده لا شريك له في ملكه ولا في أمره وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبيّنا محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله تعالى رحيم بعباده، لطيف بهم، عليم بما يصلحهم، ومن رحمته سبحانه بعبادة المؤمنين وإرادته الخير لهم ولطفه بهم أن يبتليهم بأنواع المصائب والابتلاءات؛ من تأخّر الغيث وفساد الثمار وغلاء الأسعار ونزع البركات وغير ذلك من المصائب؛ عظة وتذكيرا لهم وتنبيهًا لئلا يتمادوا في عصيانهم ويلجّوا في طغيانهم.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض الناس بالنعم
وإن الله بحكمته البالغة يبتلي عباده ليبتهلوا إليه، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43]. إنّ ربنا جل شأنه يريد منا أن نتضرّع إليه ونبتهل وننكسر بين يديه.
إن تأخّر المطر والنقص في الأرزاق رحمةٌ من الله بعباده؛ حتى يرجعوا إليه ويتوبوا ويتضرّعوا ولا يطغوا، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف: 94].
إن بسط الرزق على العباد قد يورثهم البغي والطغيان، قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى: 27]، أي: لغفلوا عن طاعة الله، وأقبلوا على التمتّع بشهوات الدنيا، ويطغى بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا. قال سبحانه: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]، قال قتادة: "خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك"، ما لا يلهيك بطلبه، ولا يطغيك بكثرته.
والله أرسل لنا النذر والآيات تخويفًا وتنبيهًا؛ لنرجع إليه ونتوب. إننا منذ سنين نرى الآيات والنذر من حولنا وتحلّ قريبا من دارنا ثم هي قد نزلت بنا وربّنا يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف: 27]، وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130] بالقحط وقلة الأمطار، أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126] أي: يمتحنون ويختبرون.
انهارت سوق الأسهم والأسواق المالية في دوَل الخليج وكثير من الدول العربية، وجاءتنا رياح شديدة وعواصف مظلمة مخيفة وبرد شديد، أجدبت الأرض وغلت الأسعار وتأخرت الأمطار، وكلها نذر، هذه وغيرها نذر من الله عز وجل؛ لنتوب وتخشع القلوب ونتضرّع ونرجع إليه، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16].
إننا على خطر عظيم حين نصل إلى أعظم العقوبات وهي عدم الشعور بالعقوبة وعدم الاكتراث بالذنب، حينها تموت القلوب وقد تبسط علينا الدنيا استدراجًا، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 43، 44].
إنّ ربنا قد يبسط الرزق على الناس استدراجًا لهم حتى إذا أخذهم أخذَهم بعزّة واقتدار، وهو سريع الحساب أليم العقاب شديد العذاب.
نسأله أن يعاملنا برحمته ولطفه...
(1/5577)
الفتنة الواقعة بين المسلمين: الأسباب والآثار المترتبة عليها
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
إياد بن محمد الشامي
غزة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأخوة الإيمانية. 2- التحذير من العصبيات الجاهلية. 3- الولاء والبراء في الإسلام. 4- مفاسد التحزب. 5- التحذير من ذرائع القتل. 6- واجب المسلم تجاه الفتن. 7- حرمة دم المسلم. 8- وعيد القاتل.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن أخوة الإيمان أقوى من أخوة النسب، وأقوى من أخوة الحزب وأخوة الحركة، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].
فليس لمسلم عصبية للَون أو لجنس أو لقبيلة أو لبلد، بل كل ذلك من أمور الجاهلية، وإنما الولاء للمؤمنين كلهم بلا تفريق بينهم، قال الله تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4].
ومعنى الولاء: الحب والنصرة والطاعة والمتابعة والنصح والصداقة وتولي الأمور بالإصلاح، ويستلزم ذلك إظهار المودة والتشبه بمن تواليهم واستئمانهم على الأسرار ونحو ذلك. والبراء عكس ذلك، فكل هذه الأمور يجب أن تكون للمؤمنين، ولا يجوز أن تكون للكافرين.
واعلم ـ يا أخي ـ أن الله لم يرض لعباده أن يجتمعوا على راية إلا راية العقيدة والدين، فالناس إما مؤمن تقي وإما كافر شقيّ، لا فرق بين عربي وعجمي وأبيض وأسود إلا بالتقوى، وأما كل الدعاوى الأخرى التي يتعصّب لها الناس كانتمائهم إلى قبيلة واحدة أو إلى وطن واحد أو إلى قومية واحدة أو إلى حركة أو حزب واحد بحيث يصير الإنسان يحبّ ويبغض ويوالي ويعادي بناء عليها فإنها دعوى الجاهلية. قال النبي لما تشاجر بعض المهاجرين والأنصار فقال المهاجرون: يا للمهاجرين، وقال الأنصار: يا للأنصار، قال : ((أبِدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)) متفق عليه.
إن التحزب قد أعمى كثيرًا من الناس، فأصبحوا يوالون ويعادون في حزبهم وإن كان الشخص المعادى من أتقى الأتقياء، فبمجرد أنه من خارج الحزب فقد وجبت معاداته، ولقد سمعتُ أحدهم يقول مقولة ما سمعت أخطرَ منها: "من ليس من حركتنا فهو ضدّنا".
إن الفتنة بين المسلمين من أبناء شعبنا المسلم في فلسطين ليندَى لها الجبين، ويحتار فيها الحليم، لكن من الواجب أن نبين ما هو المخرج. وقبل ذلك نبين موقف المسلم من هذه الفتنة والاقتتال بين المسلمين:
إنَّ النَّبيَّ كان يحذِّر أمته من الأمور التي تدعو الإنسان إلى أنْ يقتل مسلمًا أو أنْ يجرح مسلمًا، ومن ذلك أنَّ النَّبيَّ نهى أنْ يمرّ المسلم ومعه السهام في أسواق المسلمين أو في مساجد المسلمين أو في أي مكان من أماكن تجمعهم، إلا أن يكون النصل مغطّى حتى لا يجرح به مسلمًا وهو لا يشعر. فقد صحَّ عنه كما عند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنَّه قال: ((إذا مَرَّ أحدكم بمسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك عن نصالها بكفه؛ لا يعقر مسلمًا)).
ومن تلك الأمور التي حذّر منها النبي أنَّه نهى عن الإشارة إلى المسلم بأي شيء يحتمل أنْ يقتله أو يجرحه، نهى عن ذلك وأخبر أنّ من فعل ذلك فإنَّه ربما نال اللعنة والوعيد الشديد، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال النَّبيُّ : ((لا يُشِرْ أحدُكم على أخيه بالسلاح؛ فإنَّه لا يدري لعل الشيطان ينزع يده فيقع في حفرة من النار)) ، وكما جاء عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإنَّ الملائكة تلعنه وإنْ كان أخاه لأبيه وأمه)) ، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان وصححه الألباني أنَّه نهى أنْ يُتعاطَى السيف مسلولاً.
إن كل هذا الاحتراز فيه البيان الكافي لشدة حرمة المسلم على المسلم، فنهى النبي عن ذلك خشية أنْ يكون هناك خطأ فيقع السيف ويجرحك أو يؤذيك أو يقع على أخيك.
لقد حرم ذلك وقد كانت الأسلحة في القديم أقلّ بطشًا وخطرًا من الأسلحة الحديثة، حيث إن هذه الأسلحة قد تقتل من مكان بعيد جدًا، فتصبح الحرمة أشدّ تأكيدًا؛ لأنَّ الضرر أعظم والخطر أكبر، والعلة تدور مع الحكم وجودًا وعدمًا.
انظر كيف حذّر النبيّ من دم المسلم، وأكد على حرمة دمه، وقد أكّد أيضًا على خطورة الفتن التي تقع في المسلمين، وحذّر من الدخول فيها، وما ذلك إلا لئلا يقع المسلم في دماء المسلمين؛ لخطورة الأمر وشدته، فالفتن إذا سعّرت وابتدأت يصعب إطفاؤها والسيطرة عليها.
سؤال يطرح نفسه: ما واجب المسلم تجاه الفتن؟
إن نبيك المصطفى حذّر أمته من هذه الفتن، وبيّن أنَّها ستحدث وستكون في هذه الأمة، فكما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تَشرّف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأً أو معاذًا فليعذ به)). فالمخرج إذا هو الهروب قدر الاستطاعة كما بيّن لنا النَّبيُّ.
ومن أخطار الفتن أنها تُلبس على المسلم فيرى الباطل حقًا والحق باطلا، فالفتنةُ قد تُريكَ الحقَ باطلاً والباطلَ حقًا، وقد تعميك وتصمّك وأنت لا تشعر، كما عند الترمذي وأبي داود وصححه الألباني من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النَّبيُّ أخبر أنَّ الفتن ستقع في أمته فقال: ((إذا وضع السيف في أمتي لم يرتفع عنها إلى يوم القيامة)).
وأخبر النَّبيُّ أنه ستأتي فتن في آخر الزمان يكثر فيها القتل وتكثر فيها الفتن حتى إنه من شدة الفتن يمرّ الرجل على القبر ويتمرّغ عليه ويقول: يا ليتني صاحب هذا القبر؛ من شدّة ما يرى من الفتن والأمور العظيمة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ قال: ((لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيقول: يا ليتني مكانه)).
ومن أخطارها أن من وقع في هذه الفتن ضاع عقله كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يدري المقتولُ على أيِّ شيءٍ قُتِلَ)) ، وفي رواية أخرى عند مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يومٌ لا يدري القاتل فيم قَتَلَ ولا المقتول فيم قُتِلَ)) ، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: ((الهرج، القاتل والمقتول في النار)).
لقد ذكر لك النبي ليحذرك من أن تكون من أولئك أو من أن تشارك في سفك تلك الدماء أو أن تتلطّخ فيها أو أن تلقى الله بها. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((يَتقاربُ الزمانُ، ويُقبَضُ العلمُ، ويُلقَى الشحُّ، ويَكثرُ الهرجُ)) ، فقيل: وما الهرجُ؟ قال: ((القتل)).
وقد يستطيل من وقع في هذه الفتنة في الظلم فيقتل أقرب الناس إليه لأنه يفقد عقله، وقال أيضًا كما عند ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وصححه الألباني: ((إنَّ بين يدي الساعة لهرجًا)) ، قال: قلت: يا رسول الله، ما الهرج؟ قال: ((القتل)) ، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا، فقال رسول الله : ((ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته)) ، فقال بعض القوم: يا رسول الله، ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟! فقال رسول الله : ((لا، تنزع عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم)).
فتبين لنا من أحاديث رسول الله أنه من الواجب على المسلم وقت الفتن أن يبتعد عنها كل البعد؛ لأنَّ النَّبيَّ أرشد أمته إذا أدركوا الفتن أو أحسوا بالفتن أنْ يبتعدوا عنها كلّ البعد، وأنْ يهربوا منها كل الهرب؛ لأنَّ الفرار من الفتنة من الدين، فقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه: "باب: من الدين الفرار من الفتن".
ولقد آثرتُ أن أذكر الأسباب التي من شأنها أن توقع الفتنة بين المسلمين وهي التعصب للأحزاب.
أخي المسلم الكريم، إنَّ منبر رسول الله يجب أن لا يكون منبرًا للدعوة إلى التهجّم على المسلمين والسبّ والشتم كما يفعل الكثيرون من الخطباء، بل وقد يجعل منه البعض ملاذًا للفتنة متجاهلاً قول النبي كما عند الإمام مسلم وعند أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)). وبيّن أن المسلم ليس من خلُقه اللعان والسباب والشتم قائلاً: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) رواه أحمد وابن حبان وغيرهما من حديث عبد الله ابن مسعود وصححه الألباني في الجامع والمشكاة والسلسلة.
لتعلم ـ أخي المؤمن ـ كما قال الشيخ الألباني: فإن الإسلام يحارب هذا التفرقَ الذي ينافي التكتل، ولكن التكتل ينافي التحزب أيضًا، لأن التحزب يعني التعصب لطائفة من الطوائف الإسلامية ضد الطوائف الأخرى، ولو كانوا على الحق فيما هم سائرون فيه. وبين شيخنا أن من شرور التحزب معاداة من لا ينتمي للحزب قائلاً: إن من آثار سلبيات التعصب للطوائف والأحزاب أنهم يعادون من لم يكن في تكتلهم وفي منهجهم ولو كان أخًا مسلمًا صالحًا، فهم يعادونه لأنه لم ينضم لهذا التكتل الخاص أو التحزب الخاص.
إن من واجب من ينتمي لتلك الأحزاب أن يقدّم النصح لإخوانه في الحزب أنه يجب أن يكون الولاء والبراء ليس على الحزب وإنما في الله، ولو كان هذا واقعًا ما رأينا أن جدران المساجد قد قسّمت بينهم كل حزب له مساحة من المساجد وقد قال الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ، ليس لحزب دون آخر، وليس لجماعة دون أخرى، بل وتقرأ على هذه الجدران ما يهيّج النفوس ويستفزّ المشاعر ويزيد من الحقد بين المسلمين، فيصبح من واجب القائمين على المساجد أن لا يسمحوا بتعليق هذه الملصقات التي هي منبع للفتنة، وأن يكون الخطيب مصلحًا لا مهيّجًا، ذا خلق عظيم وليس ممن هم ذوو ألسنة سليطة حادة على المؤمنين.
_________
الخطبة الثانية
_________
بين علماء الأمة أن حرمة دم المسلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، وإن هذه الحرمة لا تنتزع ولا ترفع عنه إلا بإحدى ثلاث كما ثبت عند أبي داود وغيره بسند صحيح من حديث عثمان بن عفان حيث قال: قال رسول الله : ((لا يَحلُّ دمُ امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: كَفَرَ بعدَ إسلامهِ، أو زَنَى بعد إحصانهِ، أو قَتَلَ نفسًا بغير نفس)). أما عدا ذلك فحرمة المسلم أعظم عند الله من الدنيا أجمع كما ثبت عند النسائي من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)). أما يكفي هذا الحديث لبيان عظيم حرمة دم المسلم؟!.
وأما حكم القاتل في الشرع فقال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]: "يقول الله تعالى: ليس لمؤمنٍ أنْ يقتل أخاه بوجه من الوجوه، وكما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود أنَّ رسول الله قال: ((لا يحلُ دم امرئ مسلم يشهد أنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ". وقال ابن كثير في تفسير نفس الآية: "وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول الله سبحانه في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ الآية [الفرقان: 68]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا إلى أن قال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151]، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًا". وكما عند البخاري من حديث أنس : ((فإذا شهدوا أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمدًا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حُرّمتْ علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم)).
فاعلم أن لأخيك المسلم الذي ينطق بأعظم كلمة ألا وهي "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" حرمة وحصنًا تحول بينك وبينه إلا بالاستثناءات المذكورة في الحديث آنفًا.
جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيتَ رجلاً قتل رجلاً متعمدًا؟ قال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا، قال: أُنزِلتْ في آخر ما نزل، ما نسخها شيءٌ حتى قُبضَ رسولُ الله ، قال: أرأيتَ إنْ تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له التوبة، وقد سمعتُ رسولَ الله يقول: ((ثكلتْهُ أُمُه رجلٌ قتلَ رجلاً متعمدًا، يجيء يومَ القيامة آخذًا قاتله بيمينه أو بيساره وآخذًا رأسه بيمينه أو شماله تشخبُ أوداجه دمًا في قبل العرش يقول: يا رب، سَلْ عبدك فيم قتلني؟)) أخرجه الحميدي وأحمد وعبد بن حميد، وفي الحديث الصحيح الذي يرويه النسائي في المجتبى عن معاوية عن رسول الله ـ قال: سمعته يخطب ـ يقول: ((كلُّ ذنبٍ عسى اللهُ أنْ يغفره إلاّ الرجلُ يقتلُ المؤمنَ متعمدًا أو الرجل يموتُ كافرًا)).
فأيُّ خطر هذا؟! وأي مهلكة يقدم عليها المرء ويجازف بها؟! حياةٌ لا ممات فيها، وخلودٌ في مستقرّ لا تَقَرُّ به عينٌ ولا تُرفعُ به عقيرةٌ فخرًا وزهوًا، وغَضَبٌ من الله وعذابٌ عظيم وخزي في الدنيا والآخرة، مع مكث ولبث طويلين لا يعلم أمدهما إلاّ الله جل في علاه، نسأل الله السلامة لنا ولمن اتعظ واتّبع.
ثم تبصّرْ ـ أخي المسلم الكريم ـ الحديث جيدًا لتنظر كيف أنَّ النَّبيَّ قد قرن بين قتل المؤمن والشرك بالله تعالى وجعلهما مشتركين في استبعاد الغفران.
واعلم ـ أخي المسلم ـ أنَّ أول ما يُقضَى يوم القيامة بين العباد في الدماء، ففي ذلك يقول الرسول : ((أولُ ما يُحاسَبُ به العبدُ الصلاةُ، وأولُ ما يُقضَى بينَ الناسِ الدماءُ)) أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود دون الشطر الأول، وما ذلك إلا لعظم خطرها يوم القيامة، فاستعد للموقف العظيم والسؤال الصعب الذي ما بعده إلا جنة أو نار. وكل الذنوب يُرجَى معها العفو والصفح إلاّ الشرك ومظالم العباد، ولا رَيبَ أنَّ سَفْكَ دماء المسلمين وهَتْكَ حرماتهم لَمِنْ أعظم المظالم في حق العباد، فعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : ((ليس من عبد يلقَى اللهَ لا يشرك به شيئًا ولم يتندّ بدم حرام إلاّ دخل من أي أبواب الجنة شاء)) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم. وقوله: ((ولم يتند)) أي: لم يصب منه شيئًا أو لم ينل منه شيئًا. ويقول الرسول الأعظم في حديث رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي : ((أبغض الناس إلى الله ثلاث: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)) ، وعن جندب عن النَّبيِّ قال: ((من سَمّعَ سَمّعَ اللهُ به يوم القيامة)) ، قال: ((ومن يشاقق يشقق الله عليه يوم القيامة)) ، فقالوا: أوصنا، فقال: ((إنَّ أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاعَ أنْ لا يأكل إلاّ طيبًا فليفعل، ومن استطاع أنْ لا يحال بينه وبين الجنة ملء كف منْ دم أهراقه فليفعل)) رواه البخاري، وعن عبادة بن الصامت عن النَّبيِّ قال: ((من قتل مؤمنًا فاغتبط [1] بقتله لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً)) أخرجه أبو داود.
وإياك إياك ـ أخي المسلم ـ أنْ تُضيع على نفسك فرصة النجاة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النَّبيِّ : ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا)) أخرجه البخاري.
أخي المسلم الكريم، هل أنت على استعداد أنْ تفوّت على نفسك فرصة النجاة العظيمة من النار؟! وقد روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله عن النبي أنه قال: ((ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)).
ثم اجعل دائمًا ـ أخي المسلم ـ نُصْبَ عينيك أنَّ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، ولا تحلّ إلا بإذن الله ورسوله.
[1] هم الذين يقتتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر الله منه أبدًا. مسند الشاميين (2/266).
(1/5578)
عاشوراء وشهر الله الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
4/1/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفضيل بعض الأزمنة على بعض. 2- فضل شهر الله المحرم. 3- فضل الصيام في الشهر المحرم. 4- فضل يوم عاشوراء والحث على صيامه. 5- شرط تكفير السيئات. 6- مراتب صيام عاشوراء. 7- التحذير من بدع عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن من اتّقى الله وقاه وكفاه عذابَ آخرته وفتن دنياه.
عباد الله، إن من نعم الله على عباده أن اختصَّ بعض الأزمنة والأمكنة بمزيد عناية وفضل، ليزداد من اغتنمها ورعى حرمتها إحسانا، ويبوء من غفل عنها وأهملها خيبة ونقصانا.
ألا وإن من تلك الأزمنة الفاضلة التي أنعم الله بها على أمة محمد شهر الله الحرام، ذلك الشهر الذي أقسم الله به في كتابه في أول سورة الفجر، هو فجر أوّل يوم من المحرم تنفجر منه السنة.
شهر الله المحرم شهر عظيم من شهور العام، وهو أحد الأشهر الحرم التي نهانا فيها مولانا أن نظلم فيهن أنفسنا؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها. قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ : (اختصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرامًا، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم).
عباد الله، لقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر المحرم شهر الله الأصمّ لشدة تحريمه، قال عثمان الهندي: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم". قال ابن رجب رحمه الله: "من صام من ذي الحجة وصام من المحرم ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلّها طاعة، فإن من كان أوّل عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العمَلين".
عباد الله، ومن فضائل شهر الله المحرم أنه يستحب الإكثار فيه من صيام النافلة، ففي الحديث عن النبي : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) رواه مسلم. قال ابن رجب رحمه الله: "سمى النبي هذا الشهر شهر الله المحرم، فاختصه بإضافته إلى الله، وإضافته إلى الله تدلّ على شرفه وفضله، ولما كان هذا الشهر مختصًّا بإضافته إلى الله تعالى وكان الصيام من بين الأعمال مختصًّا بإضافته إلى الله ناسب أن يختصّ هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختصّ به وهو الصوم".
عباد الله، ومما اختصّ الله به شهر المحرم يومه العاشر وهو عاشوراء، هذا اليوم الذي احتسب النبي على الله أن يكفّر لمن صامه السنة التي قبله، عن أبي قتادة رضي اله عنه أن رجلاً سأل النبي عن صيام عاشوراء فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم.
وقد صامه النبي تعظيمًا لهذا اليوم، وهو يوم مبارك معظم منذ القدم، فاليهود أتباع موسى عليه السلام كانوا يعظمونه ويصومونه ويتخذونه عيدًا، وذلك لأنه اليوم الذي نجّى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح نجّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. أخرجه البخاري. وكذلك النصارى كان لهم حظّ من تعظيم هذا اليوم، بل قريش على وثنيتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه، تقول عائشة رضي الله عنها: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية.
وبعد: عباد الله، فنحن أحقّ بصيام هذا اليوم من أولئك، فهو يوم نجى الله فيه موسى، فنحن أحق بموسى منهم، فنصومه تعظيمًا له كما قال النبي.
عباد الله، صوم عاشوراء وإن لم يعد واجبًا باتفاق جمهور العلماء فهو من المستحبات التي ينبغي الحرص عليها وذلك لما يأتي:
1- أن صيامه يكفر السنة الماضية كما ورد في الحديث.
2- تحري رسول الله صيام هذا اليوم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي يتحرّى صوم يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء. أخرجه البخاري.
3- وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه.
4- حرص الصحابة رضوان الله عليهم على تصويم صبيانهم ذلك اليوم تعويدًا لهم على الفضل، فعن الربيِّع بنت معوِّذ قالت: أرسل النبيّ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرًا فليتمّ بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم)) ، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.
5- كان بعض السلف يصومون عاشوراء في السفر، ومنهم ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي والزهري، وكان الزهري يقول: "رمضان له عدّة من أيّام أخر، وعاشوراء يفوت"، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر.
عباد الله، إن من فضل الله علينا أن وهبنا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، وهذه الذنوب التي يكفرها صيام يوم عاشوراء هي الذنوب الصغائر فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة وقبولها كما أشار إلى ذلك العلماء المحققون كابن تيمية وغيره رحمة الله على الجميع.
واستمعوا ـ عباد الله ـ إلى الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله وهو يحذّر ممن يتصوّر أن صيام عرفة وعاشوراء كافٍ في النجاة والمغفرة حيث يقول رحمه الله: "لم يدر هذا المغتر أنّ صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجلّ من صيام يوم عرفة وعاشوراء، وهي إنما تكفّر ما بينها إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر، ومن المغرورين من يظنّ أن طاعته أكثر من معاصيه؛ لأنه لا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقّد ذنوبه، وإذا عمل طاعته حفظها واعتبرها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزّق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبدًا يتأمّل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك من محض غرور" انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، وأما مراتب صيام عاشوراء فقد ثبت أن النبي صام يوم عاشوراء، وثبت عنه أنه قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع)) ، والحديثان في صحيح مسلم، فصام عليه السلام اليوم العاشر فعلاً، وهمَّ بصيام التاسع، والهمّ هنا يأتي يحاكي الفعل، فهاتان مرتبتان ثابتتان في السنة: صيام التاسع والعاشر، ففي صيام العاشر إدراك للفضل، وفي صيام التاسع معه تحقيق آكد لمخالفة اليهود. وذهب بعض العلماء إلى أن مراتب صيام يوم عاشوراء ثلاث مراتب: صيام التاسع والعاشر، أو صيام العاشر والحادي عشر، أو صيام التاسع والعاشر والحادي عشر، وذهب فريق من العلماء إلى زيادة مرتبة رابعة وهي صيام العاشر وحده.
وهنا أمر يكثر السؤال عنه وهو: ما العمل إذا اشتبه أوّل الشهر فلم يدر أيّ يوم هو العاشر أو التاسع؟ فيقال ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: "فإن اشتبه عليه أوّل الشهر صام ثلاث أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر، فمن لم يعرف دخول هلال المحرم وأراد الاحتياط للعاشر بنى على ذي الحجة ثلاثين كما هي القاعدة ثم صام التاسع والعاشر".
عباد الله، ومما يتعلق بيوم عاشوراء ما أحدثه بعض الناس من البدع فيه، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عما يفعله بعض الناس بيوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك، فهل في ذلك عن النبي حديث صحيح؟ وإذا لم يرد في ذلك حديث صحيح فهل يكون فعل ذلك بدعة؟ وهل لفعل الطائفة الأخرى من المآتم والحزن والعطش وغير ذلك من الندب والنياحة وشقّ الجيوب هل لذلك أصل أم لا؟ فأجاب رحمه الله: "لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي ولا عن أصحابه، ولا استحبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا، لا عن النبي ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، لا صحيحًا ولا ضعيفًا"، ثم ذكر رحمه الله ملخّصًا لما مرّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه يوم عاشوراء، وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك، فقال رحمه الله: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتغزي بغزاء الجاهلية ـ يشير إلى فعل الروافض ـ، فكان ما زيّنه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا وما يصنعون فيه من الندب والنياحة وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد للحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين"، ثم ختم كلامه رحمه الله بهذه الكلمة: "وشر هؤلاء ـ يعني الروافض ـ وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام".
عباد الله، وأما سائر الأمور مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة أو تجديد لباس وتوسيع نفقه أو شراء حوائج العام ذلك اليوم أو فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به أو قصد الذبح أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب أو الاكتحال أو الاختضاب أو الاغتسال أو التصافح أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك، فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنّها رسول الله ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين.
اللهم اجعلنا من أهل سنة نبيّك محمد ، وأحينا على الإسلام، وأمتنا عليه...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5579)
يوم عاشوراء – الرحلات البرية
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, فضائل الأزمنة والأمكنة
راشد بن عبد الرحمن البداح
الزلفي
5/1/1427
جامع ابن عثيمين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المنة بالنبي. 2- فضل صيام المحرم وعاشوراء. 3- اجتماع فرحتين. 4- من دروس عاشوراء. 5- آداب النزهة والرحلات البرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ولا نزال ننتشي فرحة الانتصار لسيّد الأبرار على أعدائنا الكفار، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ ، فصلى الله وسلم على من كان مِنَّةً بل مِنَنًا يفيض الله به علينا، وتمتد المِنَنُ من ربنا المنَّان برسوله حتى وإن أوذي بعد مماته، فكيف بتشريعاته؟! حقًا؛ ما أطيبه حيًّا وميّتًا!
وإن من الفيوض التي مَنَّ ربنا علينا بها عن طريق رسوله الكريم أن هيأ لنا مواسم، مع تواليها تتوالى خلالها رحمات مولانا لمغفرة ما سلف من ذنوبنا السالفات في أيامنا الخاليات؛ فهذا شهر الله المحرم يُقبل، فيدعو النبي المسلمين للصيام حيث يقول: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)). وأما صيام عاشوراء فسئل عنه فقال: ((يكفِّر السنة الماضية)) ، وفي رواية: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)). وتكفير صيام عاشوراء للسيئات بحسب كمال الصيام ونقصانه. وأما قول من قال: فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كلَّ سنة لمن صام يوم عرفة ويوم عاشوراء؟ فهذا إشكال قد أحسن الجواب عنه ابن القيم رحمه الله فقال في الوابل الصيب: "ويا لله العجب! فليت العبد إذا أتى بهذه المكفّرات كلِّها أن تكفَّر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض... وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره وفقد الإخلاص الذي هو روحه فأي شيء يكفر هذا؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه".
وفي الوقت الذي يذكِّرنا فيه هذا الشهر بهجرة المصطفى بداية ظهور الدعوة وقيام دولة الإسلام نجد فيه يومًا يذكِّرنا بانتصار نبي آخر هو موسى عليه الصلاة والسلام، ذلكم هو يوم العاشر من المحرم. إذًا فنحن نعيش الفرحة فرحتين؛ فبينما يبتهج المؤمنون بهذه المقاطعة العارمة التي ظهرت آثارها على الكفار بالبوار، وعلى المؤمنين بأن يَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وبأن يَشْفِيَ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبَ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، بينما نعيش هذا الإجماع من عامة الأمة وولاة أمرهم ـ وفقهم الله ـ على محبة رسوله إذ بنا نوافق معها ذكرى فرحة بانتصار آخر؛ ألا وهو نصرة الله لكليم الرحمن موسى على وليّ الشيطان فرعون؛ فكما نصر الله رسولاً من عنده في شهر الله المحرم فالله ينصر أفضل رسله وهو في الرفيق الأعلى، ويجعل كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فاليوم إذًا موسويّ ومحمدي، وبالرغم من هاتين الفرحتين المتزامنتين بقدر الله الكوني فلا يحسن أن نقيم احتفالاً بالفرح ولا حتى بالحزن، خلافًا لما يفعله الشيعة من إظهار الحزن لمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد كان أبوه أفضلَ منه وقُتل، بل مات سيد الخلق ولم يتخذوا موتهما مأتمًا. قال ابن رجب: "ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتمًا، فكيف بمن دونهم؟!".
معاشر المسلمين، في عاشوراء عشر دروس وعبر فمنها:
1- أنه حدث تاريخي ونقطة تحول في حرب الإيمان مع الكفر، ولذلك كانت حتى الأمة الجاهلية والكتابية تصومه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية. رواه البخاري ومسلم.
2- يوم عاشوراء ربط بين أهل الإيمان ولو اختلفت أنسابهم ولغاتهم، فأصله ارتبط بموسى ومن معه من المؤمنين، ثم امتدّ لكل مؤمن، وإلا فإن أهل الكتاب أقرب لموسى عليه السلام من حيث النسب.
3- يوم عاشوراء يدلّ على أن الأنبياء بعضهم أولى ببعض؛ ففي رواية: ((أنا أولى بموسى منكم)) ، وهذه الولاية لاتحادهم في الدين والرسالة.
4- صيام عاشوراء يدل أنّ أمتنا هذه أولى بأنبياء الأمم من قومهم الذين كذبوهم، ويدل عليه قوله : ((أنتم أحق بموسى منهم)) ، وهذه ميزة لهذه الأمة، فإنهم يكونون شهداء على تبليغ الأنبياء دينَهم يوم القيامة.
5- يوم عاشوراء تذكير لأهل الأرض عامّة بنصرة الله لأوليائه، وهذا يجدّد في النفس كلّ سنة البحث عن هذه النصرة وأسبابها، كما أنه يجدد في النفس الأمل ويبعث التفاؤل بهزيمة الله لأعدائه.
6- في عاشوراء دليل على تنوّع النصر بالنسبة للمسلمين، فقد لا يكون النصر على الأعداء بهزيمتهم والغنيمة منهم، بل قد يكون النصر عليهم بتضررهم اقتصاديًا، وقد يكون بهلاكهم وكفاية المسلمين شرّهم كما حدث مع موسى عليه السلام، وكما حدث مع النبي في الخندق.
7- يوم عاشوراء تأكيد على وجوب مخالفة هدي المشركين حتى في العبادة، ويدل لهذه المخالفة أن اليهود والنصارى اتخذوه عيدًا، فأمرهم بصيامه كما حثّ أن يصام التاسع معه.
8- صيام عاشوراء دليل على عظم كرم الله سبحانه، وأنه يعطي الجزاء الأوفى على العمل القليل؛ فتكفير سنة كاملة يكون بصيام يوم واحد.
9- في عاشوراء دليل على أنه ينبغي إظهار شعائر الدّين حتى عند الصغار؛ لينمو الانتماء لديهم لدينهم، وفيه التربية الجادة على التحمل والصبر حتى للصبيان، فقد قالت الربيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها: كنا نصومه ونصوِّم صبياننا، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه اللعبة من العهن.
10- وأما الدرس العاشر في عاشوراء فقد قال : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)) ؛ ولذا قال ابن سيرين وأحمد: "من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر، إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام".
_________
الخطبة الثانية
_________
ففي هذه الإجازة التي بدأت يخرج الناس في رحلاتٍ عديدة، منها ما تكون للصيد، ومنها ما تكونُ للاستجمام والراحة والمبيت في البر، وهي نوع محبَّب إلى النفس. وكما أن فيها ترويحًا كبيرًا وإنعاشًا للنفس فهي فرصة سانحة لأن يتأمّل المسلمُ ملكوتَ السموات والأرض، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ.
وثمةَ توجيهات مهمّة للخارجين لهذه الرحلات البرية فمنها:
أنه يجب عليهم الحرصُ على الاستيقاظِ لصلاة الفجر، فإن الغالب على من يخرج إلى مثل هذه الأماكن السهرُ الطويل الذي يفوِّتُ عليهم أداءها في وقتها.
وعليهم معرفة دخول الوقت والحرص على الصلاة في وقتها، لما صح عنه عندما سئل عن أفضل الأعمال قال: ((الصلاة على وقتها)). ومما يبشَّر به من خرج للبر أن في محافظته على الصلاة في ترحاله أجرًا عظيمًا، فقد قال رسول الله : ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحدة خمسًا وعشرين درجة، فإذا صلاها بأرض فلاة فأتم وضوءها وركوعها وسجودها بلغت صلاته خمسين درجة)) رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وابن حجر وحسنه ابن مفلح. وكذا الأذان في الفلاة لقوله : ((فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) رواه البخاري.
ومن المسائل المهمة التأكد من القبلة والاجتهاد في ذلك، فإن اجتهد وصلّى وتحرّى القبلة فصلاته صحيحة، ولو اكتشف بعد الانتهاء من الصلاة أنه صلّى إلى غير القبلة فلا يعيد وصلاته صحيحة.
ومما ينبغي مراعاته في البر عدم تقذير الأماكن التي يرتادها الناس من ظلّ أو عشب، لقوله : ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل)) رواه أبو داود بسند صحيح. ويقاس على ذلك رمي مخلّفات الأكل الورقية والبلاستيكية. وأقبح منه ما تفعله بعض النساء من رمي حفائظ الأطفال. وما أحسن إحراق هذه المخلفات قبل الارتحال من المكان ليسلم من أذاها من أتاها من إنسان أو حيوان.
ومن تلك الآداب عدم إيذاء الناس، وخصوصًا ما يقع من بعض الشباب ـ هداهم الله ـ من التفحيط والتطعيس والمرور أمام النساء في البر والتعرّض لهن فجأة، والله يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، ورسول الله يقول: ((من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)).
وعلى المرأة المسلمة إذا خرجت للبر الاحتشام وحفظ حيائها ومراقبة ربها وعدم تبرجها بحضرة الرجال الأجانب، فالحجاب لا يرتبط بمكان أو زمان معين؛ بل هو أمرٌ من الله سبحانه وتعالى لإمائه أن يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ.
ومن الآداب ذِكْرُ الدعاء عند النزول وتعويد الأطفال عليه، فقد روى مسلم وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي : إن فلانا لدغته عقرب فلم ينم ليلته، فقال: ((أما إنه لو قال حين أمسى: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ما ضره لَدْغُ عقربٍ حتى يصبح)) ، لكن هذا الدعاء لا يعني تركَ الأخذ بالأسباب الواقية من الأذى، ومِن أخذ الأسباب عند المبيت والنزول أن يحذر الأماكن الخطرة كأماكن جريان السيول، وأما الذين يخاطرون بالذهاب لمواقع تنقطع فيها أسباب النجاة أو تَقِلُّ فهم آثمون.
(1/5580)
بين المدح والقدح والنصح
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
3/1/1429
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حتمية مخالطة الناس. 2- أصناف الناس المخالطين. 3- الصنف المادح. 4- الصنف القادح. 5- الصنف الناصح.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمدُ للهِ الواحدِ الأحَدِ، الفَردِ الصّمَدِ، الّذي لم يلِد ولم يولَد، ولم يَكُن لَه كفوًا أحَد، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستَغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له، وأشهد أن محمّدًا عبد الله ورسوله وصفِيّه وخليله وخيرت من خلقه، بلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَح الأمّةَ، وتَرَكَنا على المحجّة البَيضاء، ليلُها كنهارها، لاَ يزيغ عنها إلاَّ هالِك، فصلوات الله وسلامه عَليه، وعلى آلهِ الطيِّبين الطَّاهِرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامِين، وعلى التَّابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أمّا بعد: فأوصِيكم ـ أيّهَا النّاس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانَه والعَضِّ عليهَا بالنواجذ إبَّانَ هذه الفتن العمياء، وعَلَيكم بالاستقامةِ عَلَى دِينِه والثباتِ عَلَيه للنَّجاةِ مِن أيِّ دَاهيةٍ دَهياء، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3].
أيّها النّاس، إنَّ حاجَةَ المرءِ في هذهِ الحياةِ تَؤُزُّه إِلى الخَوضِ في غمارِها أزًّا ويُدَعَّى إلى مخالطةِ بَني جِنسِه دَعًّا، وإنه كَادِحٌ إلى ربِّه كَدحًا فمُلاقيه، ثمَّ هو خِلال ذَلك كلِّه إمّا أن يتذوَّق حُلوَ الحياة فيَهنَأ فيها أو أن يُلسَعَ بلهيبِ مُرِّها فيَتَكدِّر وهو يَتَجرّعها ولا يَكَاد يُسيغُها، غيرَ أنَّه يستجلِب المراغمَةَ والمصابَرَةَ بخَيلِه ورَجِلِه، وهو مع هذه المُراغَمَةِ في نَوَاحي الحياة خيرٌ ممَّن زَوَى نفسَه وقضَى عَلَيهَا بالعزلةِ في زاويةٍ ضيِّقَة خَسِيسَةٍ لا يَرَى فيها إلا نَفسَه؛ لينأى بها عن مُكابَدةِ الحياة ومُخالطةِ أهلِها، وقد قال النَّبيُّ : ((المؤمنُ الذي يخالِط الناسَ ويَصبر على أذاهم خيرٌ من الّذي لا يخالط الناسَ ولا يصبر على أذاهم)) رواه أحمد.
وفي خِضَمّ مُنافَسةِ هذهِ الحياةِ وضُروبها يجِدُ المرءُ نَفسَه بالضَّرورةِ مُحاطًا بالنّاس في غيرِ ما سَبِيل؛ في بيتِه وسوقِه وعمَله، وهَيهاتَ هيهاتَ أَن تكونَ سِماتُ المخالِطين لَه على حدٍّ سَواء، بل إنهم سَيمثُلون أمامَه على ثلاثةِ أصنافٍ: صِنفٌ مادِح له، وَصِنفٌ قادِح لَه، وصِنفٌ ناصِح لَه، وخَيرُ هذه الثلاثةِ آخِرُها.
أمّا المَدحُ ـ عبادَ الله ـ فهوَ سِلاحٌ خطيرٌ ومحَكٌّ دقيق في عِفَّة اللِّسانِ وحُسنِ القَصد، وغالبًا ما يؤَدِّي بالممدوحِ إلى الغُرور والبَطَر، وبالمادِح إلى المبالَغةِ والتّصنُّع والإغراءِ والنِّفاقِ؛ لأنَّ مَن نظَر إلى صاحِبِه بعينِ الرضا في كلّ شيءٍ كلَّت عينه عن عُيوبِه، ولربَّما اشتدَّ الإفراطُ به في المدحِ حتى يُصبِح سُلَّمًا للمَادِح عند الممدوح لبلوغِ مَأربٍ دُنيويّ، فيكثُر مَدحُه ويَقِلّ صِدقُه ويحسُن لِسانُه ويخيبُ قلبُه، أو يمادِح صِنوَه طلَبًا للودِّ ظاهِرًا وسِهامُه تَنطلِق غَيظًا إذا غَابَ عنه.
والمحزِنُ ـ عباد الله ـ أنَّ الناسَ مِن هذا الصِّنف ليسوا قلِيلاً، دَيدَنُ الواحِدِ منهم المدحُ والإطراءُ بحقٍّ وبغيرِ حَقّ، لهم وَلَعٌ بالإغرَاءِ وبقَلب السَّيِّئات حَسَناتٍ، يحمِل أحدُهم عن الممدوحِ القَبَائحَ ويحسِّن لَه الأخطاءَ ويسوِّغُ لَه الحقَّ باطِلاً والبَاطلَ حقًّا، حتى يألَفَ الممدوحُ ذلِك، فيغيبُ وعيُه عن حقيقةِ نفسِه، ويتَعاظَم عَن عيبِ ذاته؛ ثُمَّتَ يدمِن الثناءَ والإطراءَ حتى يواليَ ويُعاديَ على ذَلك؛ فصديقُه الحمِيم هو المادِح، وعدوُّه اللّدودُ هو المكاشِف الصَّادق.
ثمّ إنّه بذيوعِ مثلِ ذَلكم يكثُر الغشُّ وتضيعُ الحقوقُ وتَذوب ثقة المرءِ بنفسِه وتضمحِلّ منفعتُه ويضمُر إخلاصه، فلا ينبِض قلبُه إلا بالمَدح، ولا يتنفَّس إلا بالمَدح، ولا يجالِس إلاّ المدّاحين، وحينئذٍ لن يكونَ للعقَلاء عندَه محلٌّ للاستِشارةِ، ولا للمُخلِصين طريقٌ للاستنارة؛ حيث ذهب به حبُّ المدح والإطراءِ كلَّ مذهب، فصدَّه عن استبصارِ المصلحةِ والنفع المَعلوم.
ولذا ـ عبادَ الله ـ لم يأتِ المدحُ والإطراءُ في وَجهِ الممدُوح مذمومًا على هَذهِ الصفة إلاّ لما يُفضي إليه من الغرورِ والإعجَابِ القاضِيَينِ بِالبعدِ عن الأصلَح وتَضيِيعِ الأنفع وكسرِ الهِمَم عن بلوغِ المعالي، فقد سمِع النبيُّ رجلاً يمدَحُ صاحبَه أَمامَه فقالَ : ((ويحَك، قطعتَ عُنُقَ صاحِبِك)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((إذا رأيتُم المدَّاحين فاحثُوا في وجوهِهم التّرابَ)) رواه مسلم، وقال : ((إيّاكم والتّمادُحَ؛ فإنّه الذَّبحُ)) رواه أحمد وابن ماجه.
وهذا كلُّه ـ عِبادَ الله ـ لا يمنَع إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وإنزالَ الأمورِ منازلَها من خِلال الشّكرِ للمحسِن حَقِيقةً والتَّشجيعِ لصاحبِ الهِمّةِ بالثناء المنصفِ المعتَدِل؛ لأنَّ ذلكم خُلُقٌ من أخلاقِ الإسلامِ الرَّفيعة، ومن لا يشكرُ الناسَ لا يَشكُر الله، وقد أثنى النَّبيّ في وجوهِ عَددٍ من الصحابة على وجهِ الحقيقةِ والقَصدِ مع أمنِ الافتتانِ والغرورِ.
والحذَرَ الحذَر ـ عبادَ الله ـ مِن حُبِّ المَرءِ أن يُمدَح بما لَيس فيه أَو بما لم يَفعَله، فَقَد قالَ جلّ شأنه: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 188].
أمّا الصِّنفُ الثاني ـ عبادَ الله ـ فهو ذَلكم الرّجلُ القَادِح المنطَلِقُ قَدحُه مِن خِسَّة طبعِه ولُؤم نَفسِه وقَذارةِ لِسانه، فهوَ لاَ يُرَى إلاّ طعَّانًا لَعّانًا فَاحِشًا بَذيئًا، لِسانُه كَمَا الذّباب لاَ يقَع إلاّ عَلى الأَذَى، لا يَعرِف طريقًا إلى الإنصافِ، ويعذِّبه السُّكوتُ، لسانُه كالعَقرَبِ وقَلَمُه كالعَقور، يَقرِض الأعراضَ، ويَتَطَاوَل عَلَى الكِرام واللِّئامِ على حدٍّ سواء، لاَ يُعجِبه فعلُ أحَد، ولا يستسيغ الإنصافَ، يُدمِن النَّقدَ، ويكنِز العَدلَ، ويُنفِق القدحَ، يحبّ أن يخالِفَ ليذكَر، وأن يُبَلبِل ليُشكَر، يتَقَحَّم في الغَمَرات والمزلاَّت والخوضِ في الكلامِ عَلى غير هُدى، وربما لا تَلَذُّ نفسُه إلا حِين يَكون قدحُه ذائعًا في الملأ شائِعًا بين الأصحاب، يرَى الناس كلَّهم خطّائين وأنّه هو المصيبُ وحدَه، إن تحدَّث عن الماضِي فكأنه مطَّلِعٌ عن الخَبايا، وإن تحدَّث عن المستَقبَل فكأنّه حديثُ مَن سَيرى ويَسمَع، يرى نفسَه فقيهًا وحاكمًا وطبيبًا ومهندسًا ومعلِّمًا، لا يُعجِبه العَجَب، ولا تتوق نفسُه لحُسنِ الأدَب، وإنما يَلوكُ لسانَه فيغتابُ ويَبهتُ، جاعِلاً لسانَه كالمِقراض، يقلَع هنا ويجرح هناك، فلِلَّه ما أشبهَ حالَه بِلاحِسِ المبرَد؛ كلّما ازداد لَحسُه ازدَادَ دمُه على المِبرد.
وأمثالُ هؤلاء آفةٌ عَلى المجتمعاتِ، وهم شِرار الخَلق الّذين قال عَنهم النَّبيُّ : ((إنَّ شرَّ النَّاس منزلةً عند الله يومَ القيامةِ من تَركَه النَّاسُ اتِّقاءَ فُحشِه)) رواه أبو داودَ والترمذيّ، وفي الصّحيح قولُ النَّبيِّ : ((المسلمُ من سَلِم المسلِمون من لِسانه ويدِه)).
ثم إنّه قد يَشتدّ الأمرُ بلاءً إذا كان القَدح مُصوَّبًا في نحورِ ذَوي الهيئاتِ والمكانة الرفيعةِ كالسُّلطان والعالِم؛ حيث إنَّ لهما من الإجلال والتقديرِ ما يقبُح مَعَه التشهيرُ بهما أو التَّعيِير لهما، يقول ابن عبدِ البرّ رحمه الله: "أحقُّ الناسِ بالإجلال ثلاثةٌ: العُلماءُ والإخوان والسّلطان، فمَن استخفَّ بالعلماء أفسَد مُروءتَه، ومن استَخَفَّ بالسلطان أفسَد دُنياه، والعاقلُ لا يستخِفّ بأحد".
وممّا يزيد الأمرَ تأكيدًا وتَوثيقًا ـ عبادَ الله ـ حينما يكون الخوضُ فيما قالَ الله أو قَالَ رسولُه ، فلَيسَ ذلك إلاّ للعُلماء، فهم وَرَثة الأنبياء ومَصابيحُ الدُّجى؛ ولذَلِك قال سفيانُ الثوريُّ رحمه الله: "ما كُفِيتَ عن المسألةِ والفُتيا فاغتَنِم ذلك ولا تُنافِس، وإيّاك أن تكونَ ممّن يحبُّ أن يُعمَل بقوله أو يُنشَر قوله أو يُسمَع قولُه، وإيّاك وحبَّ الشهرةِ؛ فإنَّ الرجلَ يكون حبُّ الشهرة أحبَّ إليه من الذّهبِ والفضّة، وهو بابٌ غامِض لا يبصِره إلا العلماءُ السّماسِرة".
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء: 36].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه هو كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن لاَ نَبيَّ بَعدَه.
وبَعدُ: فقد مرّ مَعَنا ـ عبادَ الله ـ ذِكرُ صِنفين من النّاسِ مَذمومَين، وهَا نحنُ نَذكُرُ ثالثَ الأصنافِ الخيارَ الوسَط، وهو الصِّنفُ النَّاصحُ منَ النّاس، وهو الذي يَصدُق في نصحِه ويُخلِص في قصدِه، إن مدَح مدَح بوجهٍ مشروع، وإن قدَح وجرَح فعلَى وجهِ الإصلاحِ وحُسن المقصِد، بأسلوبِ الحكيم وصورةِ المعرِّضِ لا المصرِّح، إن راجَع خَطأَ أحدٍ مَا فإنما يُرَاجِعه في لَبَاقةٍ وبَرَاعةٍ؛ ليحملَ المخطِئَ على الخير ويَصدَّه عن الشرّ، وهو في الوقتِ نفسِه يَتَجنَّبُ النّصحَ المعلَنَ بَينَ النّاس؛ لأنّه لونٌ مِن التوبيخِ المؤَدِّي إلى التّعيير.
ولا جرَمَ أنَّ تبادُلَ النُّصحِ الخَالِص الصَّادقِ الأمِين هوَ سُلّمُ الفلاح وهو طَريقُ النجاة، وهو لونٌ من ألوان التَّعاونِ على البرِّ والتقوى، وهو الصِّبغةُ الأصيلة التي أمَر بها الباري جلّ شأنه في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، وقد أمَرَ بها النبيُّ في قَولِه: ((الدِّينُ النصيحة)) قالها ثلاثا، قالوا: لمن يَا رسولَ الله؟ قال: ((لله ولِكتابِه ولِرسولِه ولأئمّةِ المسلِمين وعامَّتِهم)) رواه مسلم.
فالواجبُ على المسلِمِ ـ عبادَ الله ـ لُزومُ النصيحةِ للمسلمين كافّة وتركُ الخيانة لهم بالإضمارِ والقَول والفِعل معًا؛ إِذ إنَّ المصطفى كانَ يَشترِطُ على من يُبايِعه من أصحابِه النُّصحَ لكلِّ مسلم. متفق عليه.
ثم إنَّ خيرَ النّاس أشدُّهم مُبالغةً في النَّصيحةِ الصادِقة، ومِن هنا يَصير تَوبيخُ النّاصِح خَيرًا مِن تحيّةِ الشَّانِئ.
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
هذا وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكَى البَشريّة محمّد بن عبد الله صاحِبِ الحوضِ والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدَأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكتِه المسبِّحة بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر...
(1/5581)
سورة التكوير
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, اليوم الآخر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
15/6/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل سورة التكوير والانفطار والانشقاق. 2- أحداث وأهوال يوم القيامة. 3- علم النفوس بالسيئات والحسنات في ذلك اليوم. 4- الجواري الخنس. 5- نزول القرآن من عند الله تعالى. 6- مشيئة العبد تحت مشيئة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَنْ سَرَّهُ أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رَأْيُ عَيْنٍ فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت)) رواه الترمذي والحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
ففي سورة التكوير تسير الأحداث الكونية الضخمة جميعها إلى هذا الكون الذي نعهده، وهو الكون المنسق الجميل، المتين الصفة، المضبوط النسبة، المبني بِأَيْدٍ وإِحْكَامٍ، سوف ينفرط عقد نظامه وتتناثر أجزاؤه، وتذهب عنه صفاته التي قام بها في الحياة الدنيا، وعندها تنتهي الخلائق وتقوم القيامة بعد الأحداث التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله وكان الإخبار بوقوعها في آخر الحياة الدنيا، ثم تأتي الأحداث التي تقع في الآخرة، ومنها ما ورد في سورة التكوير: تكويرُ الشمس بِلَفِّهَا وذهاب ضوئها ونورها، وانكدارُ النجوم بانقضائها وسقوطها وانتثارها، وتَسْيِيرُ الجبال بذهابها عن وجه الأرض وتَحَوُّلِهَا إلى هباء كما قال عز وجل في آيات أخرى: وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات: 10] ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه: 105] ، وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5، 6] ، وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة: 5].
ومنها أيضًا: تعطيلُ العِشَار، وهي النُّوقُ الحوَامِلُ، فلا تحْلَبُ ولا ترْكَبُ ولا ترعى لما أصاب أهلَها من الهول والفزع، وقد كانت أفضل أموال العرب وأحبها إلى نفوسهم، وورد في الحديث أن من علامات الساعة أن تُتْرَكَ القلاص فلا يسعى عليها ولا تركب، والْقِلاَصُ هي صغار الإبل: ((ولتُتْرَكَنَّ الْقِلاص فلا يُسْعَى عليها)).
وحَشْرُ الوحوش وموتُها وهي دواب الأرض قاطبة، والوحوش النافرة قد هالها الرعب ونسيت مخاوفها وفرائسها، وهالها ذلك اليوم العصيب. وتسجيرُ البحار باشتعالها نارًا حيث تخرج النار من باطن الأرض، وقد أقسم الله عز وجل بالبحر المسجور في سورة الطور فقال عز وجل: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور: 1-12]. وقد عُلِمَ بتقدم العلوم الحديثة أن باطن الأرض عبارة عن كتلة نارية ملتهبة، فها هي البراكين التي نشاهدها عيانًا بيانًا تشهد بذلك، وها هو تدفق البترول يندفع من باطن الأرض إلى أعلاها عبر الأنابيب والفتحات نتيجة الضغط والحرارة العالية مع سَمَاكَةِ كُتْلَتِهِ وثِقَلِ مَوَادِّهِ المتماسكة قبل فصلها مع بقاء الثقل لبعضها بعد الاستخراج، فمن أخبر النبي محمدًا بأنَّ باطنَ الأرضِ نارٌ تَتَأَجَّجُ، وبأنها سوف تُخْرِجُ أثْقَالَهَا؟! ومن أخبره عن هذه الأهوال العِظَام وغيرها من أمور الدنيا الأخرى؟! إنه الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذو العزة والجبروت؛ ليتبيَّنَ للناسِ جميعِهم مؤمنِهم وكافرِهم وخاصة الكفار أن ذلك هو الحق من الله رب العالمين ويُصَدِّقُون بنبوة ورسالة محمد.
ومما يقع يوم القيامة يوم الجزاء والحساب: تَزْويجُ النفوس بأنْ تُقْرَنَ كل نفس بجسدها بعد خلق الأجساد لها وإعادتها كأول مرة خُلِقَتْ تُحْشَرُ إلى الله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44].
ومنها: سؤالُ الموءودة عن ذنبها الذي قُتِلَتْ به ومن أجله، وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وَأْدِ البنات خوفًا من العار أو من الفقر أو منهما معًا حيث كانت البنت تدفن حية، وتأتي الفضيحة لبعض الخلق والسعادة لآخرين، نسأل الله الجنة ونعوذ بالله من النار.
نَشْرُ الصحف والأعمال وكشفها ومعرفتها، فلا تعود خافية ولا غامضة، وهذه العلنية أشدُّ على النفوس وأنْكى، فكم من عيب وسيئة مستورة يخجل صاحبها من ذكرها ويرجف ويذوب فؤاده من كشفها، فإذا بها في ذلك اليوم الرهيب منشورة للخلائق أجمعين حيث يُكشف المخبوءُ ويَظهر المستورُ ويَفْتَضِحُ المكْنُونُ في الصدور، إلا من شاء الله أن يستر عليه من عباده كما سبق في الآيات، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 18-32] ، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
وأيضًا: كَشْطُ السَّماء وتَسْعِيرُ النار بتأجيجها وتقويتها وازدياد لهيبها ووهجها وحرارتها، وإِزْلافُ الجنَّة وتَقْرِيبُها لأهلها أهلِ الإيمان والصلاح والتقوى في الحياة الدنيا الذين حبسوا أنفسهم وحجزوها عن محارم الله فلم ينتهكوها، وألزموا أنفسهم طاعة ربهم باتباع أوامره عز وجل، فالجنة مقربة لهم سهلة الولوج والدخول إليها على من يسرها الله له، نسأل الله من فضله.
وبعد هذه الإقسامات من العزيز الجبار باثني عشر قسمًا يأتي جواب الشرط لهذه الأحداث وهو قول الله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] ، عندئذٍ لا يبقى لدى النفوس شَكٌّ في حقيقة ما عملت من حسنات فتصير بها إلى الجنة أو سيئات فتصير بها إلى النار، كل نفس تعلم في هذا اليوم الهائل ما تزودت به وما حملت معها للعرض الأكبر على الله على رؤوس الخلائق، وما أحضرت للحساب، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1، 2]. تعلم كل نفس هذا الهول الذي يحيط بها ويغمرها، وهي لا تملك أن تغير شيئًا مما أحضرت ولا تزيد عليه ولا تنقص منه، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30]. يوم يتمنى أهل النار أن يعودوا للحياة الدنيا ليعملوا صالحًا فيقال لهم: اخسؤوا فيها، قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون: 101-111].
ثم يأتي القسم بالخنّس الجواري الكنّس، وهي الكواكب التي تخنس في النهار حيث لا ترى وتختفي فلا تظهر للرائي مع أنها موجودة، وهي في دورتها الفلكية المحكمة، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير: 17] أي: إذا أظلم وأقبل أو أدبر، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] أي: امتدَّ حتى يصير نهارًا بيِّنًا واضحًا، فمن واجب المسلمين أن يستفيدوا من كل كلمة في القرآن في دينهم ودنياهم، ويعلموا أن ورودها في ذلك الموضع لأمر يهمُّ الإنسانَ في صحته ومأكله ومشربه ونومه ويقظته، وليس في أمر العبادة فقط، فالإشارة هنا إلى الجوِّ ونقائه وصفائه بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس الذي استفاد منه أعداء الإسلام مع أن كثيرًا من المسلمين يَغُطُّونَ في نومٍ عميق سواء من قام منهم لصلاة الفجر أو المواصلون للنوم. والحديث عن النوم وما ورد عنه في آيات أخرى يأتي الكلام عنه في حينه إن شاء الله تعالى.
ثم يأتي جواب القسم بتلك الأشياء بأن القرآن نزل به جبريل عليه السلام على الرسول محمد ، وجبريل ذو قوة لا يقدر إِنْسٌ ولا جِنٌّ على انتزاع ما عنده من الوحي ولا على زيادة فيه ولا نقص منه، وهو ذو مكانة ومنزلة عند ذي العرش سبحانه وتعالى، مطاعٍ في السماوات، أمين على الوحي، هذا بالنسبة لجبريل عليه السلام، أما عن نبينا محمد فالواو حرف عطف على ما قبلها من جواب القسم أي: أن محمدًا ما هو بمجنون، فلقد رأى جبريل عليه السلام رأي العين في الأفق على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح وقَدْ سَدَّ الأفق كله، وما محمد بمظنونٍ فيه التهمة بأن يزيد فيه أو ينقص منه أو يبدل فيه أو يغير، وليس هذا القرآن بقول شيطان رجيم ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى أوليائهم من الإنس فيخلطون فيه ويكذبون: إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير: 27] أي: ما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين من الإنس والجن يذكرون به خالقهم ورازقهم الذي يحييهم ويميتهم، وما له سبحانه وتعالى من حق العبادة وواجب الشكر، فيتَّعِظُون بهذا القرآن ويخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائضه عليهم ولا بارتكاب ما حرمه عليهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فبعد أن ذكَّرَنَا رَبُّ العزة والجلال بأن القرآن الكريم ما هو إلا تذكير وذكر للعالمين ليتخذَ العبادُ السبيلَ والطريقَ المستقيمَ إلى الله عز وجل إن شاؤوا وأرادوا لأنفسهم الخير بيّن لنا أنّ هذه المشيئة والإرادة التي أعطانا الله إِيَّاها لا تخرج عن مشيئته سبحانه وتعالى، فمشيئته عز وجل سابقة ومحيطة أيضًا لمشيئة العبد المسكين، ولكن ليعلم المكذبون بالقضاء والقدر أو الْفِرَقُ الضَّالَّةُ التي وُجِدَتْ من زمن طويل ولا زالت تَبُثُّ الشكوكَ والأوهام والتضليلات حول العقيدة الصحيحة لِيُضِلُّوا عباد الله عن الطريق المستقيم، لِيَعْلَم أولئك بأنَّ للعبدِ مَشِيئَةً وإِرَادَةً واختيارًا لطريق الخير أو الشر من قيامٍ بالعبادة أو الانحراف عنها، فله مشيئة وإرادة واختيار في القيام بالصلاة أو عدمها أو الزكاة أو أي نوع من أنواع العبادة، وكذلك الأمور المعيشية الأخرى من أكل وشرب ونوم وعمل وكلام وضحك وغير ذلك من الأمور الإرادية التي يستطيع أن يعملها أو لا يعملها، فهو مختارٌ فيها غيرُ مُجبَرٍ، وله مشيئةٌ وإرادةٌ في ذلك أعطاه الله إياها، ولكنَّ تلك المشيئةَ والإرادةَ للإنسان لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته وقدرته وعلمه وإحاطته سبحانه بكل شيء.
والآيات في القرآن الكريم كثيرة جدًا لإثبات تلك الحقائق، أما في الأمورِ الْمُقَدَّرَةِ على الإنسان والتي لا مشيئةَ له فيها ولا إرادةَ بل هي بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته عز وجل فَمِثْلُ: خلق الإنسان واختيار صورته ولونه وطوله وعرضه ومرضه وموته وما يجري له من الحوادث والنكبات والمصائب، وفي أي أرض يموت العبد، وفي أي يوم وفي أي ساعة، ورزقه وأجله وسعادته، وما هو داخل جسم الإنسان من نَفَسٍ وهضم للطعام وإخراج له وإفراز ونبضات قلب ودورة دم وأجهزة لا إرادة للعبد في عملها وليست تحت اختياره في عملها العادي دون بعض الحالات عند العمليات وتحت التخدير فهذه غير تلك، وقد يكون للعبد اختيار في البداية قبل تلك الأعمال وليس له ذلك بعد وصولها إلى تلك الأجزاء مثل الأكل والشرب، له الاختيار والإرادة والمشيئة في الأكل من عدمه وإيصاله إلى فمه ومضغه أو الشرب حتى يصل إلى ما بَعْد الْبَلْعِ والْحُلْقُومِ، ثم لا يكون له أيُّ تَدَخُّلٍ في عملية الهضم وإيصال الطعام إلى جميع أنحاء الجسم، ومِنْ ثَمَّ الإفراز النهائي أو إفراز الغدد اللعابية أو عصارات الهضم للطعام في المعدة والإثنى عشر وغير ذلك، حتى تتم عملية الهضم والامتصاص ثم الإخراج. فهذه الأعضاء الداخلية في الجسم ليس للإنسان أي تدخل في عملها ولا إرادة له فيها ولا مشيئة، وإرادته الأولى كلها هي وهذه وغيرها لا تخرج عن مشيئة الله المطلقة وإرادته وقضائه وقدره عز وجل، فهذه وغيرها من الأمور التي ليست من اختيار العبد، بل هي مقدرة عليه قد ورد ما يدل عليها في عدد من آيات القرآن الكريم وفي سنة رسول الله.
ولا نريد الدخول في التفاصيل إنما هو التلميح والتذكير بين فترة وأخرى لمن دخله الشك أو ابتعد عن القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولنستمع إلى آيات عدة لإثبات المشيئة للعبد التي هي تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 27-29] ، وقال عز وجل: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 29-31] ، وقال سبحانه: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [المزمل: 19] ، وقال عز وجل: كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 32-37] ، فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا [النبأ: 39] ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام: 112]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99].
والآيات كثيرة في إثبات المشيئة للعبد والإرادة والاختيار في أفعاله والتي لا تخرج عن مشيئة الله المطلقة، التي يحتج بها ضعاف الإيمان أو المنحرفون، ولا يتسع المقام لذكرها ولكن على من وسوس له شياطين الإنس والجن حول عقيدته أن يصححها ويسأل عنها ليعرف الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله تبارك وتعالى.
وسوف تكون الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى عن القضاء والقدر؛ لأهمية الموضوع وما يتعلق به لتوضيح المقصود بأسلوبٍ مُجْمَلٍ مُيَسَّرٍ مفهومٍ، بعيدٍ عن كثير من التفريعات والجزئيات للوصول إلى المطلوب بإذن الله، والله ولي التوفيق.
(1/5582)
القضاء والقدر
الإيمان
القضاء والقدر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
6/7/1407
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الإيمان بالقضاء والقدر. 2- الرضا بقضاء الله وقدره. 3- كل شيء يجري وفق مشيئة الله القدرية. 4- عبارات منكرة شاعت بين الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فما تزال العقيدة الإسلامية منذ إحداثها ذلك الانقلاب العظيم في العالم وهزتها العنيفة لأركانه المتداعية وخلخلتها للكيان البشري المهزوز، منذ أطاح الإسلام بصروح الباطل ودكّ عرش الشر والكفر والفساد ما تزال العقيدة الإسلامية تُستهدف للطعن الشديد، وتتعرض للنقد القاسي المرير من خصومها الألِدَّاء، وأعدائها الأشِدَّاء من يهود ونصارى ومجوس وملحدين على حد سواء، ولم يبرح أولئك الخصوم يشككون في العقيدة الإسلامية ويطعنون حتى زلزلوها في نفوس أكثر المسلمين، وسار على نهجهم الفرق الضالة التي تدّعي الإسلام، ومن ذلك عقيدة القضاء والقدر التي هي ركن من أركان الإيمان وأحد أجزاء العقيدة الإسلامية التي يجب أن يعتقدها كل مسلم ومسلمة. فالقضاء والقدر عِلْمُ الله تعالى الأزَلِيُّ بكل ما أراد إيجاده من العوالم والخلائق والأحداث والأشياء، وتقدير ذلك الخلق وكتابته في الذكر الذي هو اللوح المحفوظ كما هو حين قضى بوجوده في كميته وكيفيته وصفته وزمانه ومكانه وأسبابه ومقدماته ونتائجه بحيث لا يتأخر شيء من ذلك عن وقته وزمانه الذي يوجد فيه الشيء، فلا يتقدم عما حُدِّد له من زمان، ولا يتبدل في كميته بزيادة أو نقصان، ولا يتغير في هيئة ولا صفة بحال من الأحوال إلا أن يشاء الله ذلك التبديل والتغيير، وذلك لسعة علم الله تعالى الذي عَلِمَ ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وعظيم قدرته عز وجل التي لا يحدها شيء، ولا يحجزها آخر، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولربطه تعالى الوجود كله بقانون السنن الذي يحكم كل أجزاء الكون علويه وسفليه على حد سواء، قال تعالى: يَمْحُو ?للَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ [الرعد: 39]. هذان هما القضاء والقدر في تعريفٍ مُقَرَّبٍ للأذهان. ولنستمع إلى كلام الله الخلاق العليم العزيز الحكيم قيوم السماوات والأرض خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير وهو يخبر تعالى عن قدرته وحكمته في القضاء والقدر ومشيئته له وقضائه به، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى? مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـ?كُمْ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23]، وقال سبحانه: وَ?لأرْضَ مَدَدْنَـ?هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَو?سِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ?يِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِر?زِقِينَ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ [الحجر: 19-21]، وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وقال جل شأنه: وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، وقال عز وجل: وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8]، وقال سبحانه: وَكَانَ أَمْرُ ?للَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: 38]، وقال عز وجل: سَبِّحِ ?سْمَ رَبّكَ ?لأعْلَى? ?لَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى? وَ?لَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى? [الأعلى: 1-3]، وقال تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى? قَدَرٍ ي?مُوسَى? [طه: 40]، وقال تعالى: عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [سبأ: 3]، وقال تعالى: لّتَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق: 12] ؛ لذلك ينبغي أنْ نعرف أنَّ القَدَرَ حسب إيمان المسلمين والمؤمنين به قَدَرَانِ، قَدَرٌ مُسَلَّمٌ به وآمن به كل المؤمنين بالله تعالى، ولم ينكره أحد ولم يجادل فيه مجادل من المشركين عدا الشيوعيين الملحدين الذين ينكرون وجود الله أساسًا. وهذا النوع من القدر مثل خلق العالم وما فيه من سنن، وما يجري فيه من حياة وموت وقحط وجدب، وما ينزل بالإنسان من مصائب لم يتسبب هو فيها ولم يكن له قدرة بحال على دفعها، وذلك كَكَوْنِهِ يُولَدُ جميلاً أو دميمًا، طويلاً أو قصيرًا، ذكرًا أو أنثى، حُرًّا أو عبدًا وفي زمن كذا دون غيره من الأزمنة، وفي بلد كذا دون غيره من البلاد مثلاً، وككون القضاء مضى بسعادة المرء أو شقائه، كما مضى بتحديد رزقه وأجله، فهذا النوع من القدر هو من مراد قوله تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]. وقول الرسول لابن عباس رضي الله عنهما: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
وهذا النوع من القدر كما يجب الإيمان به، يجب الرضا به، والتسليم لله تعالى فيه، فإنه على وفق رضا الله تعالى، وبناء على مشيئته وحكمته، وواقع على أساس تدبيره لملكه وخلقه، وإنه ما من حادثة تحدث في الكون إلا ولله تعالى فيها حكمة عالية مقصودة، ومن هنا قَبُحَ بالمرء أن يَتبَرَّمَ من هذه الأحداث المقدرة له من خير وشر، كما جَمُلَ به أن يقابلها بكامل الرضا ومطلق التسليم ويتذكر قول الله عز وجل: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51]. والحديث المروي عن رسول الله ومنه: ((لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود.
وللرضا بهذا القضاء نتائج سارة، وثمرات طيبة متى التزم المؤمن ذلك، وخاصة عندما تنزل به مصيبة أو يصرفها الله عنه، فمن تلك الثمرات الطيبة والنتائج السارة للرضا بالقضاء أنه يكسب صاحبه قوَّةَ الشَّكِيمَةِ ومَضَاءَ العزيمة، فمن اطمأنت نفسه إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه خلت جميع أعماله من الحيرة والتردد، وانتفى من حياته القلق والاضطراب، لأنه بمجرد ما يترجح لديه الإقدام على أمر ما أقدم عليه من غير خوف ولا هيبة ولا تردد، ومن هنا فإنه لا يحزن على ماضٍٍ، ولا يغتمَّ لحاضر ولا يؤلمه هَمُّ المستقبل، وبذلك يكون أسعدَ الناس حالاً، وأطيبَهم نفسًا، وأصلحَهم بالاً، وأهدأَهم خاطرًا، ويكون أيضًا من أشجع الناس عقلاً وقلبًا، وأكرمهم قولاً ونفسًا، والمثال الحي في واقعنا المعاصر هو ما نشاهده ونسمعه عن واقع المؤمنين بالله وواقع الكفار من يهود ونصارى وغيرهم من الكفار في جميع بقاع الأرض، فعندما تنزل نازلة بأحد الكفار عندها تضيق الحياة في وجهه ويتبرَّم منها وتضيق به الأرضُ بما رَحُبَتْ ويسارع إلى التخلص من حياته بالانتحار في أي صورة من صُوَرِهِ ليتخلص من هذه الحياة وهذه النازلة والضائقة التي نزلت به، بينما نجد على العكس من ذلك في المؤمن بالله تعالى حينما ينزل به شيء من ذلك يتلقاه بالرضا والقبول والطمأنينة ويعلم أن ذلك من قضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن الله قد كتب عليه ذلك فلا بُدَّ أن يَنْفُذَ ذلك القدر، فما على المؤمن بعد ذلك إلا الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله وقدره، فهو مع ذلك مرتاح البال والضمير، ويعلم تمام الآيتين التي ذكر الله بأنه يجب على المؤمن ألا يحزن على ما فاته وألا يفرح بما آتاه الله، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى? مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـ?كُمْ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23] ، وحال أعداء الإسلام بدأ يفشو في واقع المسلمين اليوم حينما بعدوا عن تدبر كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد وعن العمل بهما، لذلك قَلَّ من يرضى ويسلم بالقضاء والقدر ويطبقهما في واقعه، وقَلَّ من يفهمهما الفهم الحقيقي، كما ضل بسببهما أقوام في القديم والحديث، فيجب علينا أن نفهم معناهما فهمًا صحيحًا ونطبقهما في واقعنا لنحيا حياة سعيدة هانئة ولأنهما من صميم عقيدتنا وأركان إيماننا وإسلامنا. وقد سبق الكلام بأن القدر قدران: القدر العام الذي يشمل الكون كله وما يجري فيه من أحداث لا حِيلة للإنسان فيها ولا قدرة له على دفعها أو تغييرها إِذْ هي جارية على نظام السنن التي يقول الله تعالى فيها: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43]، وقال سبحانه وبحمده: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 62]، وهذا القدر العام لم يوجد بين المسلمين من ينكره ويجادل فيه، بل هم مؤمنون به، ولكن الخطورة في القدر الخاص المتعلق بأفعال العباد حسنها وسيئها، صالحها وفاسدها. لذلك يجب على المسلم أن يعتقد أن الله جل جلاله خالق للإنسان خالق لأفعاله، وأن الإنسان فاعل لأفعاله وليس خالقًا لها، وأن له إرادة ومشيئة وفق إرادة الله ومشيئته وعلمه وقدرته وإحاطته بكل شيء، فعلى المسلم أن يعتقد بأن العبد له قدرة على عمله وله مشيئة، والله تعالى هو الذي خلقه وخلق قدرته ومشيئته وإرادته وأعماله وأقواله، وهو عز وجل الذي منح العبد إياها وأقدره عليها وجعلها قائمة بالعبد مضافةً إليه حقيقة، وبحسبها تم تكليف العبد، وعليها يثاب ويعاقب، ولم يحمِّلِ اللهُ العبدَ فوق طاقته ولم يكلفه إلا وُسْعَهُ، فالعبد لا يقدر إلا على ما أقدره الله تعالى عليه، ولا يشاء إلا أن يشاء الله، وعلى المسلم أن يعتقد بأن ذلك القضاء والقدر الذي حصل له أو عمله أو فعله بفعله الاختياري هو مقدّر عليه ومكتوب في اللوح المحفوظ ولن يخرج عما هو ميسّرٌ له ومقدَّر ومقضيٌّ عليه، ولنْ يَحِيدَ عن الخط المرسوم له سواء في الأفعال الاختيارية والتي له فيها إرادة ومشيئة أو في الأمور المقدرة عليه ولا اختيارَ له فيها ولا مشيئةَ ولا إرادةَ، فمشيئته وإرادته في أفعاله تلك لا تخرج عن إرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره وعلمه وإحاطته بكل شيء.
فعلى المسلم أن يفرق بين المصائب وغيرها من الأمور المقدرة عليه والتي لا اختيار له فيها ولا مشيئة مثل: زمنه ومكانه الذي يولد فيه ورزقه وأجله وعمره وطوله أو قصره ودمامته أو جماله وضخامته أو نحافته وفقد بصره أو إبصاره، وطلاقة لسانه أو عدمه، وعلمه أو جهله، وذكائه أو ضعفه، ومرضه أو صحته، وزواجه ممن يريد أو لا، وعقمه أو تقدير ما يشاء من الأولاد بنين أو بنات. وما يصيبه من حوادث سيارات أو هدم أو غرق أموال في البحار أو الأنهار أو الآبار، أو ما يصيبه في نفسه وماله وأهله وأولاده إلى غير ذلك من المصائب التي لا إرادة له فيها ولا مشيئة ولا اختيار يفرق بين ذلك وأشباهه وبين الأمور الاختيارية في أمور الطاعات والمعاصي وغيرها من أمور الحياة من أكل وشرب أو عدمهما، ونوم ويقظة أو عكسهما، وقيام وقعود أو عكسهما، وكلام أو عدمه، والإقدام على فعل طاعة وعبادة من العبادات أو عدم القيام بها، والإقدام على معصية من المعاصي أو الابتعاد عنها، كل ذلك لا يخرج عن مشيئة الله تعالى وقدرته وإرادته وهدايته سبحانه، قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَـ?هُ ?لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3]، وَهَدَيْنَـ?هُ ?لنَّجْدَينِ [البلد: 10]، وكما قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [التكوير: 28-29]، وقوله عز وجل: إِنَّ هَـ?ذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ سَبِيلاً [المزمل: 19]، وكما قال عز وجل: إِنَّ هَـ?ذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَ?لظَّـ?لِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 29-31]، وقوله عز وجل: لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر [المدثر: 27]، وقال تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25]، وقال عز وجل: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ?لدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ?لآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران: 145]، وقال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ ?لْعَـ?جِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [الإسراء: 18]، وقال تعالى: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ?لآخِرَةَ [آل عمران: 152]، وقال عز وجل: تُرِيدُونَ عَرَضَ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ يُرِيدُ ?لآخِرَةَ [الأنفال: 67]، وقال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى: 20]، وقال تعالى: وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفًا [النساء: 27، 28]، وقال تعالى: يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة: 185]، وقال تعالى: وَقُلِ ?لْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29].
والآيات التي تثبت مشيئة العبد وإرادته التي لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته كثيرة، ولم أورد منها إلا الشيء اليسير؛ لذلك يجب على المسلم أن يفقه هذه المسائل المهمة في دينه لأنها من أركان عقيدته التي لا تقبل التجزئة والإيمان ببعض والكفر ببعض كما هو حال أهل الكتاب، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 85].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن مما يؤسف له ونسمع عنه بين الحين والآخر وفي مجتمع المسلمين اليوم ومع انتشار العلم هو تخلخل العقيدة والتلفظ بألفاظ تقدح في عقيدة قائلها وتنافي التوحيد الواجب أو كماله، وما ذلك إلا لقلة التأمل وابتعادنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح فيما بيننا وعدم القبول ممن هو واقِعٌ منه ذلك. وإن صدرت بقصد أو بغيره فالواجب التخلي عما ينافي التوحيد قولاً أو فعلاً أو اعتقادًا، أقول بأنَّ ألفاظًا تَرِدُ على ألسنة المسلمين اليوم، طالب العلم والجاهل والصغير والكبير والرجل والمرأة والأولاد من بنين وبنات على حد سواء قلّ من يتنبه لها أو ينكرها، ومنها قولهم: الصُّدْفَةُ: صُدْفَةً لقيتُ فلانًا، بالصدفة التقيت مع فلان، صدفة قلت كذا، صدفة عملت كذا ولم أعمل كذا، بالصدفة نَجَّاني الله من أمر كذا، الصدفة وحدها أنقذت فلانًا من حادث مُرَوِّعٍ، الصدفة وحدها لعبت دورها في إنقاذ فلان من حادث كذا، بمحض الصدفة تَمَّتْ نجاةُ فلان من حادث كذا، إلى غير ذلك من الألفاظ التي نسمعها في باب الصدفة، مع تفصيلٍ في ذلك حول الكلمة نفسها، وأسوأ ما قرأت في الصحافة وبأقلام الصحفيين عبارات وكلمات من هذا القبيل يندى لها الجبين عندما تصدر من أبناء هذه البلاد ويقرؤها الملايين من المسلمين أو تنتشر بينهم بناءً على أنها صادرة من بلد التوحيد ولا مُنْكِرَ عليهم، عبارات لا يصدقها مسلم أنها تصدر من متعلم درس التوحيد في هذا البلد ولكنها تَرِدُ يوميًا عبر الصحف بأقلام أغبياء الصحفيين المرتزقة الذين يتشدقون بعبارات وجمل يشطحون بها ويقلدهم غيرهم ممن يظنون أن من يكتب في الصحف السيارة قد بلغ من العلم مبلغًا، ولو علموا عن حال أكثرهم عن قرب وعن أهدافهم لبطل العجب والاستغراب، ومنها تعبير أحدهم ووصفه لحادثٍ ما كما ذكرنا عن الصدفة: لعبت الصدفة دورها في النجاة من الحادث الفلاني، تدخلت العناية الإلهية، تدخلت يد القدر أو المشيئة، وأخيرًا تدخلت المشيئة الإلهية، شاءت العناية الإلهية في إنقاذ فلان أو شاءت عناية الله، شاءت إرادة الله، أو أخيرًا تدخلت العناية الإلهية، الإنسان مسيّر غير مخيّر، وقولهم: شاءت الأقدار وسار كذا، شاءت الظروف وأصبح لي كذا، أو لفلان، حكمت الأقدار عليَّ أو على فلان من الناس بكذا، حكمت الظروف بكذا، أقول هذه الألفاظ وما شابهها في بابها مما نسمعه يجب على كل مسلم ومؤمن يؤمن بقضاء الله وقدره يجب ألا ترد على لسانه هذه الألفاظ وأن يطهر لسانه منها سواء قالها بقصد أو بغيره ويستغفر الله تعالى منها، وعلى كل مسلم أن ينصح من يسمعه يتلفظ بذلك لأن انتشارها أصبح فظيعًا ومخيفًا حتى بين طلبة العلم الذين يجب أن يكونوا هم القدوة الحسنة لغيرهم قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ و?حِدَةٌ كَلَمْحٍ بِ?لْبَصَرِ [القمر: 49، 50] ؛ لذلك يجب أن نعلم أنه لا يقع شيء في الكون مهما كان بالصدفة وإنما هو بقضاء الله وقدره على تفصيل في ذلك كما أسلفنا، وإنْ كان لابدَّ فلْيَقُلْ حَصَلَ كذا مُوَافَقَةً أو اتَّفَقَ أنْ لَقِيتُ فلانًا أو قُدِّر أن لقيت فلانًا وحصل كذا، ونعلم كذلك أنَّ الإنسانَ مُسَيَّرٌ ومُخَيَّرٌ لا أنْ تقول مُسَيرًا وليس بِمُخَيَّرٍٍ، فالإنسان مُسَيَّرٌ فيما لا إرادة له فيه ولا مشيئة وما يصيبه من مصائب أو حوادث وغير ذلك مما سبق إيضاح بعضه، وفي الوقت نفسه هو مُخَيَّرٌ في أفعاله من أكل وشرب وكلام وابتداء نوم واستمرار بعض اليقظة وعبادة واختيار طريق الخير بفعل الطاعات أو اختيار طريق الشر بارتكاب المعاصي والآثام، وقد سبق توضيح بعضه وهو لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته وقضائه وقدره المكتوب في اللوح المحفوظ.
كذلك الأمر بالنسبة لشاءت الظروف، أو شاءت الأقدار أو حكمت الظروف أو حكمت الأقدار، على المسلم أن يُرجع ذلك إلى الله عز وجل ويقول: شاءَ الله، أو قَدَّرَ الله كذا وما شابههما مما لا يقدح في التوحيد أو كماله، ونسمع ألفاظًا من هذا القبيل خاصة عندما يصيب الإنسانَ حادثُ سيارة سواء كان صغيرًا أو كبيرًا أو حريقٌ أو غرقٌ أو غيرُ ذلك من الحوادث أو أي مصيبة أو أي أمر من الأمور التي تمر على صاحبها في حينها ويردد هذه الألفاظ. ومنها قولهم: لو ما فعلتُ كذا لانقلبت السيارة، أو لوما عملتُ كذا وتداركتُ الموقفَ لحصل كذا، أو لو لم أربط حزام الأمان لحصل كذا وكذا كما هو معبر به عبر الصحف في هذه الأيام، أو لو لم يفعل فلان كذا لما حصل كذا، إلى غير ذلك مما هو وارد من هذا القبيل وفيه إِخْبَارٌ عن الماضي وليس عن المستقبل الذي لا اعتراض فيه على قدر، فعلى المسلم أن يقول: قدَّر الله وما شاء فعل، أو لو لا الله لما نَجَا فلان أو لحصل كذا وغير ذلك من الألفاظ الصحيحة والتي تُفَرِّقُ بين الماضي والمستقبل في أي أمر من الأمور. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لَوْ تفتح عمل الشيطان)) رواه مسلم.
ومن العبارات الخاطئة عندما يدعو الشخص بقول: اللهم إني لا أسألك رَدَّ القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، وهذا خطأٌ واضحٌ منافٍ للأحاديث الواردة في ذلك، ومنها: قول رسول الله : ((لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا الْبِرُّ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يذنبه)) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له وقال: "صحيح الإسناد"، وقال : ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن غريب"، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)) رواه البزار والطبراني والحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، يعتلجان أي: يتصارعان ويتدافعان، وفي رواية أخرى للحاكم والترمذي: ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)) ، وقول الله تعالى: يَمْحُو ?للَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ [لرعد: 39].
والخوض في أمر القدر دون علم ودراية وأ َ خْذٍ له من أهل العلم يوصل العبد إلى متاهات ومفازات قد لا يخرج منها إلا أن يشاء الله له الهداية والسلامة والعودة إلى الطريق الصحيح، وقد كان الخوض في ذلك في الأزمنة الماضية ولم يزل وقد ضل خلق كثير بسبب عدم الإلمام بعلم الشريعة ممن كان قائدًا لهم إلى طريق الغواية، فعلى المسلم أن لا يدخل في ذلك إلا بعلم، والعلم يكون عن طريق العلماء الموحدين الذين يسلكون طريق السلف الصالح في فهم الشريعة على ما جاء في كتاب الله وصحيح سنة رسول الله ، قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لرُّوحِ قُلِ ?لرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85]، وقال تعالى: عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [سبأ: 3]، وقال تعالى: لّتَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق: 12].
وما ذُكِرَ سابقًا إنما هو مساهمة في هذا الأمر المهم وتقريب لمعناه إلى أذهان عامة الناس وتبسيط لمضمون القضاء والقدر والمشيئة والإرادة وغيرها مما تم التعرض له دون الدخول في بعض التفاصيل، وواجب المسلم الإيمان بقضاء الله وقدره والرضا والتسليم واحتساب الأجر والثواب على أقدار الله المؤلمة، قال الله جل جلاله وتعالى سلطانه: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء: 115، 116].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
(1/5583)
الخوف والرجاء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
14/1/1425
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة الخوف من الله. 2- خوف الصالحين من الله. 3- أهمية الرجاء فيما عند الله. 4- حال المسلم بين الخوف والرجاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن مما يجب على المسلم أن يعلمه ويعمل به ويكون مقترنًا بعباداته وجميع تصرفاته نوعين من أنواع العبادة القلبية بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، وهما: الخوف والرجاء ومعهما أيضًا المحبة لله عز وجل، الخوف من الله جل جلاله ومن أليم عقابه، والرجاء والطمع فيما عند الله من المغفرة والرحمة وحسن المثوبة، فجاء الإسلام مرغبًا في الخوف من الله ودعا إليه لما له من آثار طيبة وثمار حسنة في حياة الفرد والجماعة، فهو يبعث في الإنسان المسلم روح الشجاعة ويدفعه إلى الجهر بالحق وإنكار المنكر دون تهيّبٍ من أحد أو خوف من مخلوق بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا من أعظم الفضائل وأكرم الغايات، ومن آثار الخوف من الله: أنه يمنع المسلم من الاسترسال في المعاصي والآثام ويجنبه الوقوع في الفسوق ويحجزه عن محارم الله لأنه يستشعر عظمة الله ومراقبته له في السر والعلن، فالمسلم متى رُزِقَ الخوفَ من الله كَفَّ لسانه عن الْهُجْر والكذب والغيبة والنميمة والسخرية والهمز واللمز، وطهّر قلبه من الغل والحسد والفسق والكبر والرياء والنفاق وسائر الصفات الذميمة التي يبغضها الله ويمقتها.
لقد دعا الإسلام إلى الخوف من الله وأثنى على الخائفين في عدد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
قال الله تعالى: فَ?للَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ [التوبة: 13]، وقال عز وجل: وَإِيَّـ?ىَ فَ?رْهَبُونِ [البقرة: 40]، وقال سبحانه: وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175] إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
وأما الأحاديث فمنها ما يلي: روى الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، قول الله تعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل الله منه)) ، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إني أرى ما لا ترون، أطّت السماء وحُقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومَلَكٌ واضعٌ جبهتَه ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصَّعُدَات تَجْأَرُونَ إلى الله تعالى)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) ، وعن أبي أمامة الباهلي أن النبي قال: ((ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهْرَاقُ في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله)).
وكلما كانت المعرفة والعلم أتمَّ كان الإنسان المسلم أشدَّ لله خوفًا وأعظمَ خشية، وفي أعلى مراتب الخوف والخائفين من الله بعد الرسول وبعد الصحابة رضي الله عنهم وعلى مرِّ القرون المفضلة وحتى قيام الساعة هم العلماء العاملون المخلصون لله عز وجل، قال الله عنهم: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر: 28].
وبمناسبة ذكر هذه الآية فأذكر معناها لأنّ بعض المسلمين لا يعرف الفاعل من المفعول، فيقرأ الآية خطأً ويفهم المعنى خطأً عياذًا بالله من ذلك، ويتصور أن الله يخشى من العلماء، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ولكن المعنى واضح حيث تقدَّمَ المفعولُ وهو لفظ الجلالة على الفاعل وهم العلماء، وأصبح المعنى أن العلماءَ بالله حقًا هم الذين يخشون الله ويخافونه لما لديهم من العلم والمعرفة بالله وبما عنده في الآخرة من وعد ووعيد.
وأشد الناس خوفًا من الله هو رسولنا محمد حيث قال: ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) ، وفي رواية: ((خوفًا)) ، وكان يصلي ولقلبه وصدره أَزِيزٌ كأزيز المِرْجَلِ من البكاء.
إن المؤمن حقًا هو الذي يخاف ربه ويرجو رحمته وعفوه، فالخوف من الله هو اللِّجَامُ القَامِعُ عن المعاصي، فالمؤمن يَكْبَحُ جِمَاحَ نفسه ولا يُتْبع نفسه هواها لأن النار حُفَّتْ بالشهوات، والجنة حُفَّت بالمكاره، وسبب خوف المؤمن هو معرفة شدة عذاب الله، ويسمى ذلك الخوف خشية ورهبة وتقوى، فالمؤمن يخاف من ذنوبه ويخشى الخاتمة السيئة ويخاف من سوابقه فنجده شديد الخوف من الله إن هو عصاه أو اقترف المعصية أو قارب منها.
فالخوف من الله يظهر على المسلم في الانكسار لله والتواضع لعباد الله والعفاف واتقاء الشبهات والبكاء الحقيقي غير المصطنع؛ لأن بعض الناس يحاول أن يبكي ويُسمَّى متباكيًا، وقد يكون ذلك بإخلاص وقد يكون رياءً وسمعةً، فليحذر المتباكي من الوقوع في الرياء والسمعة، وليخلص العمل والعبادة لله عز وجل لئلا يحبط عمله وعبادته، أما البكاء حقًا فهو يكون دفعة واحدة في كثير من الأحيان دون سابق إنذار وتَهَيُّؤٍ له عندما يَمُرُّ المسلمُ بآية من آيات القرآن الكريم يقرؤها أو يسمعها أو حديث من أحاديث رسول الله عن الجنة أو النار أو عن سيرته وسيرة أصحابه رضي الله عنهم وما حصل لهم من مواقف مع المشركين والكفار إلى غير ذلك من المواقف المُؤَثِّرَةِ التي معها تدمع عينُ المسلمِ من خلال ذلك الشعور الذي يَنْتَابُهُ في مواقف كثيرة ويحصل على الأجر من الله عليها متى أخلص النية لله رب العالمين وابتعد عن كل ما يحبط عمله ويفسده خاصة الرياء والسمعة.
ولقد وصف الله سبحانه الخائفين من سَطْوَتِهِ وعقوبته في عدة آيات من كتابه الكريم، فمنها قوله سبحانه: وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ عَلَى? مَا أَصَابَهُمْ وَ?لْمُقِيمِى ?لصَّلَو?ةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [الحج: 34، 35]، وقال عز وجل: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ أُوْلئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَـ?تٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال2-4].
وهذان المعنيان وهما: طمأنينةُ القلب ثِقَةً بما عند الله من الرحمة والعفو والتجاوز، والفزعُ من عذاب الله عندما يذكر المؤمن غضب الله وانتقامه من العصاة، هذان المعنيان نجدهما في قوله تعالى: ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?بًا مُّتَشَـ?بِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] أي: تقشعر وتضطرب وتتحرك بالخوف لما في القرآن من الوعيد والتخويف، وتلين وتسكن عند سماع آيات الرحمة والمغفرة. ورد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في حديث يرفعه إلى رسول الله قال رسول الله : ((إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تَحَاتَّتْ عنه ذنوبُه كما يَتَحَاتّ عن الشجرة اليابسة ورقُها)).
وقد وعد الله في كتابه العزيز أهل الخشية والخوف والمراقبة بالمغفرة والنعيم الدائم والرحمة الشاملة، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِ?لْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك: 12]، وقال سبحانه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات: 40، 41]. قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى: أَفَمِنْ هَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ [النجم: 59، 60] قال أهل الصفة: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي بكاءهم بكى معهم، فبكينا لبكائه، فقال : ((لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصرٌّ على معصية)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه هذه الآية: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم: 6] تلاها رسول الله ذات يوم على أصحابه، فَخَرَّ فتى مغشيًا عليه، فوضع النبي يده على فؤاده فإذا هو يتحرك، فقال رسول الله : ((يا فتى، قل: لا إله إلا الله)) فقالها، فبشره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله، أَمِنْ بيننا؟ قال: ((أوَما سمعتم قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14] )) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة، وإذا أَمِنَنِي في الدنيا أَخَفْتُهُ في الآخرة)).
قال تعالى: أُولَئِكَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى? رَبّهِمُ ?لْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـ?فُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57]، وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ?لَّيْلِ سَـ?جِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ ?لاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر: 9].
ألا ما أجمل الخوف من الله حينما يتحلى به العبد المؤمن، وألا ما أروعه من خُلَّةٍ وصفة يتَّصِفُ بها المؤمن بين العباد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فكما أسلفنا لا بد من ارتباط الخوف بالرجاء مع المحبة أيضًا لله تعالى ولرسوله ، الرجاء الذي يسمى طمعًا ورغبة فيما عند الله من النعيم والثواب والرحمة الواسعة، فيجب أن يكون الخوف والرجاء معتدلين، فلا إفراط ولا تفريط، فإن الخوف إذا أفرط صاحبه فيه قد يجره إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، وهو حرام، وإذا أفرط المسلم في الرجاء في رحمة الله فقد يجره إلى الأمن والغرور، وهو حرام أيضًا، وهذا حال أكثر المسلمين اليوم، فعلى كل مؤمن أن يعرف أين هو من الخوف والرجاء، وأن يعيش بين الخوف والرجاء والمحبة لله سبحانه وتعالى.
والإنسان المسلم لم يُخْلَقْ مَلَكًا مُطَهَّرًا ولا بشرًا معصومًا، وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر، وتتقلب عليه حياته الروحية أحيانًا فتسمو نفسه وترتفع، وأحيانًا أخرى تتغلب عليه شهوات الجسد فَتُخْلِدُه وتُلْصِقُهُ بالأرض وتردُّه إلى أسفل سافلين، وعلى المسلم أن يصحح أخطاءه إذا أخطأ، ويعالج أمراض نفسه إذا مرضت، ويغسل نفسه من أدران الذنوب التي قد رانت على عقله وقلبه، ويستأنف السير من جديد، قال رسول الله : ((كل ابن آدم خَطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوَّابون)).
ولقد فتح الله باب الأمل والرجاء ودعا العصاة إلى التوبة والاستغفار، وأنه سبحانه يغفر لهم إذا دَعَوْهُ ورَجَوْهُ مهما عَظُمَ الجُرْمُ وكَبُرَ الإثمُ إن هم صدقوا وعزموا على التوبة الصادقة، وها هي أرجى آية في القرآن الكريم فيها دعوةٌ للمسرفين على أنفسهم والواقعين في الذنوب والمعاصي مهما عَظُمَتْ، الدعوةُ إلى عدم القنوط واليأس من رحمة الله، يدعوهم رب العزة والجلال وينادي المسرفين والغارقين في الآثام إلى الإقبال والدخول من باب التوبة الواسع أمامهم للعودة والأوْبَةِ والرجوع إلى الله الغفور الرحيم؛ ليغفر لهم ذنوبهم مهما كانت وفي أي اتجاه كان، هذه الآية التي قال فيها رسول الله : ((ما أُحِبُّ أنَّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر: 53] )).
وأورد بعض الآيات الأخرى والأحاديث حول التوبة والرجاء فيما عند الله تبارك وتعالى، قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ?للَّهَ يَجِدِ ?للَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 110]، وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [آل عمرن: 135، 136]، وقال عز وجل: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 54]، وقال سبحانه وبحمده: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ?لسُّوء بِجَهَـ?لَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 119]، وقال تبارك اسمه: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 70].
وفي الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبَالِي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عَنَانَ السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تُشْرِكُ بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن غريب". العنان بفتح العين: هو السحاب، وقراب الأرض بضم القاف: ما يقارب مَلأَهَا. وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156].
وقال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون الله تعالى فيغفر لهم)). فالله جل جلاله سَتْرُهُ واسعٌ، وعَفْوُهُ عظيمٌ، ورحمتُه وسعتْ كلَّ شيء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه ـ أي: ستره ورحمته ـ فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف، فيقول الله تعالى: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته)) ؛ لذلك يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْتُرَ الإنسانُ نَفْسَهُ في الدنيا فلا يَجْهَر بما يفعل من سيئات، فإنَّ إظهارَ الفاحشة فاحشة أخرى، لأنا نسمع من يتبجح بفعل المنكرات، ويقول أحدهم في المجالس مفتخرًا: فعلت كذا وكذا في يوم كذا من الأفعال المنكرة، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((اجتنبوا هذه القاذوارت التي نهى الله عنها، فَمَنْ أَلَمَّ بشيء منها فليسْتَتِرْ بِسَتْرِ الله)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإنَّ مِنَ المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله تعالى عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه)).
فعلينا أن لا ننسى أن الله سريع العقاب وأنه غفور رحيم، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 165]، غَافِرِ ?لذَّنبِ وَقَابِلِ ?لتَّوْبِ شَدِيدِ ?لْعِقَابِ ذِى ?لطَّوْلِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [غافر: 3]، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف: 167]، وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49، 50]، وقال عز وجل: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء: 90]، وقال سبحانه: إَنَّ ?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?طْمَأَنُّواْ بِهَا وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ?لأنْهَـ?رُ فِي جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس: 7-10].
إن بعض المسلمين يفهم خطأً ويخلط بين الخوف الجبلي العادي الطبيعي من المخلوقات وبين الخوف من الله ومن أليم عقابه، وبين الرجاء فيما عند الله من الخير والمثوبة وحسن العاقبة وبين رجاء الحصول على بعض الأمور عن طريق المخلوقين، فالخوف من النمر والأسد والفيل والثعبان والعقرب وغيرها من الدواب وركوب البحر أو الصعود للأماكن الشاهقة أو حتى ظلام الليل لبعض الناس، هذا الخوف من الأمور العادية، وكذلك الخوف والخشية من عواقب ونتائج بعض الأمور لما يقدم عليه الشخص ويخاف من بعض النتائج العكسية، هذه الأنواع من الخوف لا تنافي التوحيد ولا كماله، وليست من الشرك في شيء ولا علاقة لها بالأمور التعبدية إلا ما كان في بعض الأمور التفصيلية التي كان الكلام عنها أخيرًا ولا يتسع المقام لتوضيحها أكثر من ذلك.
وكذلك الحال بالنسبة للرجاء فيما عند الله عز وجل وبين رجاء الحصول على بعض الأشياء المعيشية عن طريق المخلوقين ولا علاقة لها بالعبادة، فليتنبه المسلم للفرق بين هذه الأمور ولا يخلط فيها وبينها فعندها يقع في متاهات وتفسيرات بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام وليست من العبادة في شيء، وإنما هو تَنَطُّعٌ وخَلْطٌ وفَهْمٌ في غير موضعه، وحيث نسمع من يفتي ويتكلم في هذا وغيره بغير علم، لذا وجب التنبيه بإجمال دون الدخول في التفاصيل لعدم مناسبة المقام للتوسع في ذلك، وإنما هو التذكير والذكرى التي ينتفع بها المؤمنون كما قال تعالى: وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، وكما قال تعالى: فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ ?لذّكْرَى? سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى? وَيَتَجَنَّبُهَا ?لأشْقَى [الأعلى: 9-11].
وأخيرًا، فلنضع الآيات التالية نصْبَ أعيننا عند كل قول أو فعل أو اعتقاد، وإن كان المقام لا يتسع للأحاديث حول الإخلاص لله رب العالمين والصواب والاتباع لسنة رسول الله ، قال الله جل جلاله وتعالى سلطانه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، وقال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]، وقال عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك: 2]، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود: 7]، وقال عز شأنه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف: 7]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 29-32]، وقال سبحانه وبحمده: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165]، وقال عز شأنه: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]، وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، وقال جل وعلا: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وقال جل شأنه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [النور: 36].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله، وارْضَ اللهمَّ عن صحابة رسولك محمد، واحشرنا في زمرتهم، وارزقنا مرافقة نبينا وحبيبنا ورسولنا محمد في الجنة يا أرحم الراحمين.
(1/5584)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
26/9/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوبة رحمة من الله تعالى. 2- الحث على التوبة وبيان فضلها. 3- وقت التوبة. 4- فرح الله تعالى بتوبة عبده. 5- شروط التوبة. 6- توبة القاتل. 7- التحذير من اليأس والقنوط. 8- أسئلة متكررة. 9- مفاهيم خاطئة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، وعن ثوبان مولى رسول الله قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما أُحبُّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ )).
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل العصاة والمذنبين مهما عملوا من المعاصي والذنوب والكبائر والآثام، مهما كانت وعظمت حتى ولو كانت شركًا وكفرًا، إنها الدعوة للأوبة والرجوع إلى رحمة الله وإلى طريقه المستقيم. في هذه الآية دعوة للعصاة المسرفين الشاردين في تيه الضلال، تدعوهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله، وأن الله رحيم بعباده يعلم ضعفهم وعجزهم، ويعلم العوامل المسلَّطة عليهم من داخل أنفسهم ومن خارجها، ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كلَّ مَرْصَدٍ ويسدُّ عليهم طرقَ الخير ويُصَعِّبُها عليهم ويعظِّمُها في أعينهم ويَجْلِبُ عليهم بخَيْلِهِ ورَجِلِهِ، ويعلم سبحانه وتعالى أن هذا المخلوق الإنساني الضعيف الذي ركَّبَ فيه الميولَ والشهواتِ والوظائفَ الأخرى سَرْعَانَ ما ينحرف عن التوازن فيشطُّ ويخرج عن الطريق هنا أو هناك، يعلم سبحانه ذلك فأمدَّه بالعون ووسَّع له باب الرحمة وفتح له باب التوبة ويقبل التوبة منه ولا يأخذه بمعصيته، بل يبدلها حسنات متى صدق التوبة ورجع إلى الله جل جلاله، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
ففي هذه الآية دلالة على أن تلك السيئات الماضية تُبَدَّلُ حسناتٍ بعد التوبة النصوح والخالصة، وبذلك ثبتت السنة وصحَّت بها الآثارُ المَرْوِيَّةُ عن السلف رضي الله عنهم، فعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نَحُّوا عنه كبارَ ذنوبِه وسََلُوهُ عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا كذا وكذا؟ وعملت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا، فيقال له: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ها هنا)) ، قال: فضحك رسول الله حتى بَدَتْ نَوَاجِذَهُ. وروى البزار والطبراني واللفظ له والبغوي أن رجلاً أتى النبي طويلٌ شَطْبٌ فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ قال: ((فهل أسلمت؟)) قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: ((تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيراتٍ كُلَّهُنَّ)) ، قال: وغَدَرَاتِي وفَجَرَاتِي؟ قال: ((نعم)) ، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى.
ألا ما أحلم الله وألطفه بعباده! ألا ما أكرمه سبحانه وأرحمه! ألا ما أوسع فضله ورحمته! فتح باب التوبة أمام عباده ليتوبوا، ولم يغلقه سبحانه في وجه أحد، وذلك حتى تطلع الشمس من مغربها وما لم تطلع روح الشخص، فإنه إذا مات أي إنسان فقد قامت قيامته ولا تنفعه توبته ما لم تكن قبل الموت، فإذا كانت حال خروج الروح فإنها لا تقبل، قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 17، 18]، وقال رسول الله : ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ)) رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد والحاكم وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح".
ويجب على المسلم أن يعرف أن له ربًّا توابًا رحيمًا ودودًا عليمًا حكيمًا لطيفًا بعباده لا إله إلا هو العزيز الحكيم، يفرح بتوبة عبده ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، لا إله إلا هو الغني الحليم الحي القيوم ذو الجلال والإكرام، قال رسول الله : ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم والنسائي، وقال رسول الهدى محمد : ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه، فَأَيِسَ منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) رواه مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، من يحول بينك وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق فأتاه ملك الموت ـ وفي رواية: أتاه الموت ـ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قِيسُوا ما بين الأرضين، فإلى أيَّتِهِمَا كان أدْنى فهو لها، فَقَاسُوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) ، وفي رواية: ((فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر، فجعل من أهلها)) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة بنحوه.
فها هي آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول تدعو العباد إلى التوبة والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه تعالى، وفيها التصريح بأن الله يغفر الذنوب مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، وفوق ذلك كلّه لو طال عمر الإنسان في المعاصي ورجع إلى ذي العزة والجبروت ذي الجلال والإكرام لو رجع ذلك العبد الآبق والغارق في المعاصي والآثام قبل الموت لوجد العفو والغفران وإبدال السيئات بحسنات، فما عليه إلا أن يطرق هذا الباب المفتوح على مصراعيه باب التوبة ويدخل معه بدون واسطة ولا رسوم مادية ولا تدخلات بشرية ولا ساعة معينة دون غيرها ولا في مكان مخصص دون غيره، فما عليه إلا أن يدخل من هذا الباب الواسع في أي لحظة ويغتنم ما بقي من حياته ويثق ويوقن بأن الله سوف يقبل توبته ويغفر زلته إن هو صدق، ويعقد العزم بأن يقلع عن المعاصي، ويندم على فعلها، ولا يعود إليها أبدًا حتى تقْبَلَ توبتُه، وليبرأ من حقوق الناس بِرَدِّهَا إليهم إن كانت أموالاً أو نحوها، وليستحِلَّها منهم إن كانت غيبة أو نميمة أو بهتانًا وقدر على ذلك وعلم بأنه لن تحصل بالإخبار مفسدة أعظم، وإلا فَلْيذكُرْ من اغتابه أو قذفه بما يعلم عنه من الخير والصلاح في المجالس التي ذكر أخاه المسلم بغير ذلك مما يكره ويدعو له بالمغفرة والرحمة؛ لعل ذلك يكفر عنه ما وقع فيه من الغيبة والنميمة والبهتان.
هذا في حقوق الآدميين فيما دون قتل المؤمن عمدًا، تلك الكبيرة العظيمة التي ترتعد لها فَرَائِصُ المؤمن من شدة الوعيد الشديد لمن يقدم عليها، والتي يتعلق بمن أقدم عليها ثلاثة حقوق:
1- حق لله تبارك وتعالى فيكون بالتوبة لعموم الأدلة التي سوف ترد إن شاء الله.
2- وحق أولياء المقتول فيسقط بالقصاص أو الدية أو العفو.
3- أما حق المقتول فلا سبيل إلى الخلاص منه في الدنيا؛ لأن المقتول قد فارق الحياة ولا أحد يملك عنه من البشر حق التنازل للقاتل فيما أقدم عليه، وإنما يكون القضاء فيه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة يوم الجزاء والحساب حيث يكون أول ما يقضى فيه بين الناس في الدماء كما ورد بذلك الحديث عن رسول الله.
وفي خطب قتل النفس التي حرم الله والقصاص يكون التوضيح والبيان الشافي لهذا الموضوع بإذن الله عز وجل.
فعلى المسلم أن يبرأَ ويتخلَّصَ مما يتعلق بحقوق البشر في هذه الحياة الدنيا؛ لئلا يكون مفلسًا في الآخرة عندما يأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته جزاء ما اقترفه في حقهم وظلمهم بأي نوع من أنواع الظلم، لأن حقوق الآدميين مبنية على المُشَاحَّة، فخير وأولى وأفضل للمؤمن أن يبرأ من حقوق البشر في الدنيا في زمن المهلة لأنه يستطيع التخلص من ذلك، أما في الآخرة فليس هناك إلا الحسنات والسيئات، أما حق الله عز وجل فهو مَبْنِيٌّ على العفو والمغفرة والرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء فهو يغفر الذنوب والمعاصي مهما بلغت في أعين الناس وإن بلغت عنان السماء، فما على العبد إلا أن يقلع عن كل ما يغضب الله جل جلاله ويندم على ذلك ويعقد العزم على عدم العودة، وإن عاد مرارًا وتكرارًا فإن عليه أيضًا أن يقلع ويعاود التوبة ويرجع إلى ربه ولا ييأس من رحمة الله ويطرق هذا الباب الواسع باب التوبة والرحمة والمغفرة ويتوب إلى الله توبة نصوحًا.
قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8]، وليتذكر قول الله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 104]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110]، إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان70]، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منَّ علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرِّب إليه من صالح الأعمال، والحمد لله الذي أنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الخطايا والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وزكّى وحج وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليمًا.
أما بعد: فتدور أسئلة كثيرة في أذهان كثير من الناس، ومنها: هل يقبل الله توبة إنسان يتسمى بالإسلام ولكنه يشرك بالله تعالى أو يترك الصلوات أو يحافظ على بعضها ويترك بعضها أو لا يصلي إلا يوم الجمعة أو لا يصلي ولا يصوم إلا في رمضان أو لا يؤدي الزكاة أو يصوم بعض أيام رمضان ويفطر بعضها، أو هو مرتكب للزنا أو السرقة أو استعمال المخدرات والخمور بأنواعها أو قاتل أو محارب لله ورسوله أو يأكل الربا أو يتعامل به أو يساعد عليه أو يشهد به، أو هو عاق لوالديه أو أحدهما، أو منان، أو مسبل، أو متكبر ومختال، أو نمام، أو مفسد، أو ظالم إلى آخر ما نعلم من كبائر الذنوب، فإذا كان يرتكب هذه الذنوب والآثام مجتمعة أو بعضها أو واحدة منها، فهل له من توبة؟ وسؤال آخر يتكرر من بعض الناس: هل تقبل توبة إنسان يرتكب الكبائر أو بعضها وقد وصل عمره ستين سنة أو أكثر أو فوق الأربعين، أو يتوب ويرجع إلى المعصية أو عدد من المعاصي هل له من توبة؟ وهذه الأسئلة وأمثالها مما يوسوس بها الشيطان للعصاة الواقعين في الكبائر من الرجال والنساء ليبعدهم عن الطريق المستقيم ويقنطهم من رحمة الله.
هذه الوسوسة من شياطين الإنس والجن جميعهم وخاصة العدو المبين الذي حذرنا الله تعالى منه وأمرنا بأن نتخذه عدوًا، ألا وهو الشيطان الرجيم الذي لا يريد لأحد هداية، بل يسعى بخيله ورجله لغواية البشر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكذلك شياطين الإنس، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 26-28].
وأورد آيات تدل على قبول توبة التائبين من كبائر الذنوب والمعاصي بعينها ومن الشرك والكفر والنفاق أيضًا إلا من مات مشركًا أو كافرًا أو منافقًا نفاقًا اعتقاديًا من غير توبة وقبل أن تطلع روحه من جسده.
فعن تاركي الصلاة ومضيِّعيها ومانعي الزكاة وأن الله يغفر لهم وهم إخوان لنا في الدين إذا تابوا، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 59-63]، وقال عز وجل عن المشركين: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 5]، إلى أن قال عز وجل بعد خمس آيات أيضًا عنهم في سورة التوبة: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة: 11]، وقال عز وجل عن قبول توبة المنافقين نفاقًا اعتقاديًا بعد أن عدَّد أوصافهم وأخلاقهم الذميمة: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 145-147]، وقال سبحانه عن المحاربين له عز وجل ولرسوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 33، 34]، وبعدها بآيات عن قبول توبة السارق والسارقة قال عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 38-40].
وعن قبول توبة الكافر والمشرك والمرتدّ عن الإسلام إن لم يموتوا على ذلك وعن التائب عن الزنا والقتل للنفس التي حرم الله، قال الله تبارك وتعالى في عدد من الآيات التي نذكر سياقها القرآني الذي يوضح الصورة كاملة كما جاءت في القرآن الكريم: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 85 - 91].
وعن قبول توبة الذين يأتون فاحشة الزنا ويعملون السوء بجهالة ويتوبون قبل الغرغرة وحضور الموت أو الموت على الكفر في سياق قرآني مترابط كما فسرته أحاديث رسول الله ، قال تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 16-18]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 68-71].
وعن قبول توبة الذي يقذف المحصنات بالفاحشة قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 4، 5].
وعن غض البصر والتزام المرأة المسلمة بالحجاب الشرعي وتغطية وجهها وسترها عن الأجانب عنها بعد أن ذكر الله عز وجل من يجوز لها أن تكشف عنه أمامهم وليس هو سفور المرأة وكشفها عن وجهها الذي كثر دعاة الضلالة إليه اليوم في القنوات الفضائية، وبعد ذكر الرجال الذين يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف عن وجهها أمامهم قال عز وجل موجهًا الخطاب للرجال والنساء في نهاية الآية : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيُستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيُستشهد)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وعن توبة المرأة التي زنت وأُقيم عليها حدُّ الرجم وصلى عليها رسول الله قال رسول الله : ((لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟َ)) رواه مسلم رحمه الله.
وبعد أن ذكر تحريم فتنة المؤمنين والمؤمنات وإذا لم يكفَّ الشخص عن ذلك ويتوب إلى الله فالعذاب الأليم أمامه قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [سورة الأحزاب: 58]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10]، وقال عز وجل عن قبول توبة التائبين عمومًا: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 104]، وقال سبحانه وبحمده: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25].
وعن قبول توبة الذين يكتمون العلم وما أنزله الله من البينات والهدى، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160].
وعن السخرية والاستهزاء واللمز والتنابز بالألقاب واجتناب كثير من الظن والتجسس والغيبة قال تعالى آمرًا باجتنابها وداعيًا إلى التوبة منها وأنه تواب رحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 11، 12].
أيها المسلمون، كلنا خطّاء، وخير الخطائين التوابون، كما قال رسول الله : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم، ويشفع رسول الله يوم القيامة للمذنبين الخطائين من المتأخرين من أمته عليه الصلاة والسلام كما هي للمتقدمين منهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((خُيِّرْتُ بين الشفاعة أو يدخل نصفُ أمتي الجنةَ فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعمُّ وأكفى، أما إنها ليست للمؤمنين المتقدمين، ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوّثين)) رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناده جيد، ورواه ابن ماجة من حديث أبي موسى الأشعري بنحوه.
وعلينا مع ذلك أن لا نأمن عقاب الله إذا لم نقلع عن الذنوب والمعاصي، وقد تُعَجَّلُ لنا العقوبةُ في الدنيا وهذا خير لنا إن عجلت العقوبة، وعلينا أن نسارع إلى التوبة في أي ساعة من ليل أو نهار ونطرق باب التوبة الواسع حتى يغفر الله لنا، قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49، 50]، وقال عز وجل: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر: 3]، وقال : ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم)) رواه الإمام مسلم وغيره رحمهم الله.
ويجب على المذنب أن يستتر بستر الله إذا اقترف ذنبًا ولا يجاهر به ولا يصر على اقتراف الذنوب والمعاصي حتى ولو عاد إلى الذنب نفسه مرة أخرى، فإن ذلك هو ظاهر الآيات والأحاديث، وليس كما يفهمه بعض المسلمين خاصة المرجئة، وقد سلك طريقهم مَنْ ليس منهم خاصة في هذا الأمر وإنْ لم يكونوا على علم بمنهجهم، ففي هذه المسألة كان الفهم الخاطئ للآية وللحديث الوارد في سبب نزولها، وكذلك الحديث التالي وأحاديث أخرى حيث يرتكبون كبائر الذنوب ويُصِرُّون على الاستمرار فيها وقد يموت أحدهم وهو مرتكب لتلك الكبائر محتجًا بهذه الأحاديث وفهمه الخاطئ لها وللآية التالي ذكرها بعد هذين الحديثين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((إن عبدًا أصاب ذنبًا، فقال: يا رب إني أذنبت ذنبًا فاغفره، فقال له ربه: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا آخر ـ وربما قال: ثم أذنب نبًا آخر ـ فقال: يا رب إني أذنبت ذنبًا آخر فاغفره لي، قال ربه: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له)) ، إلى أن قال: ((فقال ربه: غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)) رواه البخاري ومسلم. فمعنى الحديث والله أعلم وكما هو واضح من الحديث أنه أصاب ذنبًا ثم تاب منه، ثم أصاب ذنبًا آخر وليس الأول، فالذي يفعل هذا ليس كمن يعاود الذنب نفسه، فهذه توبة الكذابين وقد قيل: "لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار"، قال رسول الله : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل العبد عملاً بالليل يبيت يستره الله، فيصبح يكشف ستر الله عليه، يقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا)).
قال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114]، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى [النجم: 31، 32]، وقال عز جل: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 132-136]، وقال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31].
وعليه نقول ونكرر بأن باب التوبة مفتوح لمن ارتكب بعض هذه الذنوب أو كلها مهما بلغت أو كان كبيرًا في السن أو شابًا ذكرًا كان أو أنثى، فإن الله يقبل توبته ما لم تطلع روحه ويدْنُ أجلُه ويُغَرْغِرْ وما دام في فسحة من أجله وأمره، وما لم يكن ممن تقوم عليهم الساعة وتطلع الشمس من مغربها، وفوق ذلك كله فضل عظيم لا يتوقعه إنسان ولا يتصوره، ألا وهو إبدال السيئات الماضية مهما كانت بحسنات فوق التوبة التي قبلها الله منه، وإن زنا وإن سرق وشرب الخمور أو ارتكب جميع الموبقات فإن الله ذا الجلال والإكرام يقبل التوبة منه ويكفر السيئات ويبدله عن تلك السيئات حسنات، وقد أوردت سابقًا من الآيات والأحاديث ما فيه الكفاية، فالمبادرةَ المبادرةَ بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الرب الكريم التواب الحليم الغفور الرحيم لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
فاللهم اغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منّا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ورسولنا محمد وآله.
(1/5585)
وبالوالدين إحسانا
الأسرة والمجتمع
الوالدان
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
23/3/1419
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الموضوع. 2- بر إبراهيم عليه السلام بأبيه. 3- النهي عن الاستغفار للكافرين. 4- وجوب بر الوالدين والإحسان إليهما. 5- فضل بر الوالدين. 6- التحذير من العقوق. 7- انتشار العقوق في هذا الزمان. 8- عقوبة العقوق معجلة. 9- تقديم الأم في البر. 10- دعوة الوالدين. 11- صلة أهل ود الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد رأيت الحديث اليوم عن موضوع مُهِمٍّ في حياة المسلمين وإدخاله بين الخطب المتسلسلة والمتصلة ببعضها كالجملة الاعتراضية المفيدة بيانًا وتوضيحًا في حينها، ولعلنا نصل بذلك إلى الفائدة المرجوة بإذن الله عز وجل، والموضوع هو بِرُّ الوالدين والإحسان إليهما، وحيثيات الاختيار للموضوع في هذا الوقت متعددة الجوانب، ومن أهمها بعد أن تمّ في الخطبة السابقة ذكر موقف أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أبيه آزر هو كيفية تعامل الابن البارّ مع الأب المشرك بالله، وشفقته عليه الصلاة والسلام وعطفه وحنانه على أبيه وخوفه عليه من المصير المؤلم والعاقبة الأليمة في الآخرة، وكيفية المحاورة الهادئة وإلقاء السلام الموحي بالأمن والطمأنينة والشفقة والرحمة بعد أن ظل يدعوه إلى توحيد الله جل جلاله، ومع هذا فهو يدعو الله له بالهداية والمغفرة، ولكن بعدما تبيّنت عداوته لدينه وملته الحنيفية تبرأ منه، وتلك البراءة في الدين والمفارقة لم تمنعه من الرفق به وبرّه والإحسان إليه كما أوجب ذلك رب العزة والجلال على الأولاد نحو والِدِيهِمْ وإن كانوا مشركين بالله وكفارًا.
ولنستمع إلى هذه الآيات الكريمة، قال الله جل جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 41-50].
لقد كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام يستغفر لأبيه ويدعو الله له بالهداية، ووعده بالاستمرار في ذلك حتى تبيَّنَ موقفُه وإصرارُه على عدم اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، عندها اتخذ موقف البراءة منه في هذا الجانب من ناحية الدين. أما بخصوص قيامه بواجبه الشرعي نحوه فلم يُقَصِّرْ فيه بل قام به أحسنَ قيام، وأوردت الآيات السابقة وكذلك اللاحقة نظرًا لما نسمعه ونلحظه من بعض الملتزمين الذين لم يأخذوا العلم الشرعي عن العلماء المخلصين الموثوق بعلمهم، وإنما اكتفوا بقراءتهم وفهمهم السقيم حول تعاليم الإسلام، وأخذوا يهجرون ويقاطعون الناس بدون وجه حق، ومنهم قراباتهم وأقرب الناس لهم ومن كان سببًا في وجودهم والحرص عليهم ورعايتهم وهم آباؤهم وأمهاتهم، يهجرونهم من أجل معصية من المعاصي هم واقعون فيها مع عدم انتفاء الإسلام والإيمان عنهم.
ولنتأمل الآيات التالية والسابق ذكرها أيضًا من سورة مريم والتي توضح إصرار آزر أبي إبراهيم على الشرك وعدم اتباع ملة ابنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، واستعمال إبراهيم مع أبيه الحوار الهادئ وأسلوب الشفقة والرحمة والخوف على أبيه من العاقبة الأليمة، وملازمته الاستغفار له والدعاء إلى آخر لحظة تبيّنت له بأنه لا فائدة من ذلك، ولكنه قام بالواجب نحوه من ناحية البر والإحسان، فقد قال له في ذلك الموقف كما جاء في القرآن الكريم في سورة مريم: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47]. واستمر على ذلك كما جاء في دعائه في سورة الشعراء: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 83-89]. وقد دعا لنفسه ولأبيه وأمه وللمؤمنين كما جاء ذلك في سورة إبراهيم: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41].
وقد وضّح الله جل جلاله سبب استغفار إبراهيم لأبيه بأنه الوعد والالتزام منه بملازمة الدعاء له بالمغفرة كما جاء في الآية السابقة: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ، وفي سورة الممتحنة: إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4].
وقد جاء هذا السبب وملابساته في القرآن الكريم حتى لا يتخذه حجة أولئك الذين يتعلقون بمن مات على الكفر والشرك مهما كانت صلتهم وقراباتهم، وقد اتخذهم فعلاً في هذا الزمان بعض الفرق المنتسبة للإسلام وتركوا كلام الله عز وجل وراء ظهورهم مع الوضوح الكامل للاستفسارات التي ترد على أذهانهم وقلوبهم، وقد جاء ذلك في سورة التوبة في قول الله جل جلاله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة: 113-116]. وقد ذكرتُ الآيتين الأخيرتين مع أن مكان الشاهد في الآيتين السابقتين لهما ولكن لنرى ترابط القرآن الكريم في الآيات المتعلقة بالهداية وما يتعلق بها، ولولا ضيق المقام لذكرت الآيات السابقة واللاحقة وهي متعلقة بها أيضًا في التوبة وصفات التائبين الصادقين.
وأخيرًا أذكِّر بهذه الآية في سورة الممتحنة مع أنه ينبغي لكل مسلم أن يقرأ السورة كاملة ويطلع على تفسيرها، ففيها الجواب الكافي الشافي لكثير من الأسئلة التي يثيرها شياطين الإنس والجن مع الذين لا يستطيعون الجمع بين النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة: 4].
وإلى الآن لم أدخل في موضوع البِرِّ والآيات والأحاديث المتعلقة بذلك لأني أردت التقديم والتوطئة بهذا لما رأيته من عقوق أولاد المسلمين بنين وبنات لآبائهم وأمهاتهم وإن كان من الأبناء أكثر، وإن كانت هناك ـ ولله الحمد والمنة ـ نماذج طيبة للأبناء والبنات البارّين بوالِدِيهِمْ، ولكن المؤمل أن نسعى للالتزام بتعاليم الإسلام في هذا وغيره لننال سعادة الدارين بإذن الله عز وجل، ولو أردنا ضرب الأمثلة من الواقع لهذه الأصناف لطال بنا المقام ولكن الأمثلة الحية أمامنا كافية.
فيجب على المسلم أن يبرَّ والِدَيْهِ وإن كانا مُشْرِكَيْنِ أو يَدْعُوَانِهِ إلى الشرك، ويصاحبهما بالمعروف، ويقوم بواجبه نحوهما، فضلاً عما إذا كانا مسلميْن ولكنهما يرتكبان بعض الآثام والمعاصي، فيجب عليه القيام بالواجب عليه وشكرهما والإحسان إليهما إلى جانب الاشتراك في الدين الإسلامي الذي لم يَخْرُجَا منه بسبب ذنب أو معصية، وهذا هو المنصوص عليه في القرآن الكريم والمأمور به في آيات القرآن الكريم، فالله يأمرنا ويوصينا بالإحسان إلى الوالدين مع الشكر لهما المقرون بشكر الله حتى ولو أَمَرَاهُ بالإشراك بالله جل جلاله وبَذَلا كل ما في وسعهما لئلا يُسلم لله رب العالمين، فالواجب عليه أن لا يطيعهما في هذه المعصية ولا في غيرها من المعاصي؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكنَّ الواجب عليه أن يصاحبهما بالمعروف في هذه الدنيا، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 8]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14، 15].
وقد جاء الأمر بالإحسان إليهما والوصية بهما من الله جل جلاله في عدد من الآيات، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23، 24]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 15-19].
وقد ذكرت الآيات كاملة ولم أقتصر على مكان الشاهد من أجل الاستفادة والعمل بما ورد فيها، أما في الآيات التالية فأذكر بدايتها إلى مكان الشاهد لمعرفة وجوب الإحسان إلى الوالدين، قال الله عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36]، وقال عز وجل: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151].
فعلى كل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يبر والديه ليبره أولاده، وعلينا أن نعلم بأن سخط الله في سخط الوالدين ورضاه سبحانه في رضا الوالدين ما داما على قيد الحياة وما لم يأمرا بما يسخط الله تبارك وتعالى، قال رسول الله : ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) رواه الحاكم والترمذي وصححه الألباني، وفي رواية البزار: ((رضا الرب تبارك وتعالى في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين)). ولا شيء يزيد في العمر ويبارك فيه وفي الرزق مثل برّ الوالدين وصلة الأرحام، قال رسول الله : ((من سرّه أن يُمَدَّ له في عمره ويُزَادَ في رزقه فلْيبرَّ والديه وليصل رحمه)) رواه أحمد.
لقد أمرنا الله تبارك وتعالى بما تخلّق به كل نبي بالنسبة لبر الوالدين كما ورد ذلك في القرآن الكريم، قال الله عزّ وجل: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًَا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم: 12-14]، وكما ورد في القرآن الكريم حين قال عيسى ابن مريم عليه السلام لقومه: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم: 30، 32]، وقال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47]. وجاء في دعائه في سورة الشعراء: وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86]، وطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين كما جاء في سورة إبراهيم: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41]، وقال نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28]، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله فاستأذنه في الجهاد، فقال: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أربعة نفر حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم ظلمًا، والعاق لوالديه، إلا أن يتوبوا)) رواه الحاكم. فمن عقَّ أحدَ والديه عقَّه أولادُه، وكما تدين تُدَان، ولا تُجازى على الشرّ إلا بمثله.
فيا أيها المؤمنون بالله المصدقّون بثوابه وفضله وعقابه وعدله، هلا فكرنا في طول عناء الأمهات من الحمل والوضع والرضاع والحضانة والسهر مع العناية في كل ذلك وغيره، وهلا امتثلنا أمر ربنا تبارك وتعالى بالوالدين حيث، قال عز وجل: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف: 15]، وكذلك قول رسول الله : ((إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات ووَأْدَ البنات ومنعًا وهات، وكَرِهَ لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) رواه البخاري وغيره. وكيف يعامل المسلم أمه بالعقوق وقد حملته تسعة أشهر حملاً ثقيلاً، وحين ولادتها قاست بوضعه ألمًا شديدًا وعذابًا وبيلاً؟! فكيف يعاملها بالعقوق وقد أرضعته حولين كاملين وكان صبرها عليه صبرًا جميلاً؟! فهي تجوعُ لِيَشْبَعَ ولدُها ذكرًا كان أو أنثى، وتسهر لينام، وتتعب ليستريح ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وطعامُه درُّها من لبنها الخالص الذي أعده الله له دافئًا وقت البرد، باردًا وقت الحرّ في درجة حرارة مناسبة لحاله، وتضمّه إلى صدرها وإلى حجرها ليكون بيتًا له يَأنس ويَطمئن بضمّ أمّه له، وظهرها مركب له، تتأَلَّم لبكائه وتَحِنّ إليه وتهواه وتحيطه وترعاه بحنانها وعطفها، وإذا غاب عنها تكره ما عداه وتشغل قلبها به وتجعل الله عليه حافظًا ووكيلاً، وذلك منها لجميع أولادها مهما كَبِروا لأن الحنان والعطف والشفقة من الوالد تبقى مدة الحياة ولا تنقضي عند حدٍّ معين إلا أنها تزيد من شخص لآخر، ولذلك فإن الله تعالى لم يُوصِ الوالدين بالأولاد نظرًا لما أودعه في قلوبهما وفي فطرتهما وغريزتهما نحو الأولاد، ولكنه أوصى سبحانه وتعالى الأولاد بالوالدين نظرًا لما يتشاغلون به عنهما من الزوجات والأولاد والأموال وينسون أو يتناسون فضلهما.
فيا أيها المسلمون، علينا أن لاَّ نَعُقَّ أمهاتنا ونضيّع حقوقهن فنكون من الخاسرين في الحياة الدنيا ويوم توفى كل نفس ما كسبت، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14].
ألا وإن من أشراط الساعة وعلاماتها التي أخبر بها الرسول محمد أنْ يطيعَ الرجلُ زوجتَه ويعقَّ أمَّه، ويبرَّ صديقه ويجفوَ أباه. ومما نسمعه بين حين وآخر عقوق الأبناء لآبائهم وأمهاتهم، وأقول: الأبناء لا البنات لأن البنات مطيعات في الغالب، ونادرًا مَنْ تكون منهن عاقة لوالديها. ومما يقع في بعض البيوت تهديد الابن لأبيه وأمه بالضرب فضلاً عن الشتم والكلام القبيح الذي لا يليق بأبناء المسلمين، وما ذلك إلا من الشقاوة التي تكون سببًا للعنة وغضب الرب وسخطه على هذا الصنف من الأشقياء، ولا غرابة في حصول ذلك وأمثاله مما نسمعه أو نراه فإنه مصداق حديث رسول الله حين أخبر عن علامات القيامة: ((يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدكم جِرْوَ كلبٍ أحبّ إليه من أنْ يربِّيَ ولدًا لِصُلْبِهِ)). فحين نرى ونسمع ما هو حاصل من عقوق بعض الأبناء لآبائهم وأمهاتهم وتهجمهم عليهم وطغيانهم الزائد وعدم طاعتهم وسماعهم لما يؤمرون به من الوالدين، وحين لا يجد الوالدُ بُدًّا أمام هؤلاء الأشقياء من أبنائهم إلا أن يستسلموا ويبقوا أَذِلَّةً حائرين في أمرهم.
وهذه بلية عظيمة يُصَابُ بها الوالد في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن والمحن؛ لهذا لا نملك إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. ونجد صدق خبر الرسول الذي لا ينطق عن الهوى بأن تربية الكلاب خير وأحب من تربية هؤلاء الأشقياء العاقين لهم عند بعض الناس، مع أن الحديث له تفسير أيضًا وواقع في حياة الناس اليوم خاصة من الكفار من تربية بعضهم للكلاب وتوريثهم لها من ممتلكاتهم بعد موتهم وسَرَتْ عاداتُ الكفار إلى بلاد المسلمين وديارهم حتى تخلَّق بعض المسلمين بأخلاقهم وقلَّدوهم فيما هَبَّ ودَبَّ، ومنها تربية الكلاب والإنفاق عليها، ونجدها في مدننا وأحيائنا الراقية بين الفلل والعمارات، ولو وقف على أحدهم فقيرٌ لما مَدَّ له بريال واحد فقط أو خمسة أو عشرة ريالات، لا أقول ذلك جزافًا بل هو واقع نعيشه هذه الأيام.
ألا وإن من شقاوة المرء أن يحسن إلى أعدائه ويسيء إلى من يحبه ويهواه، ولا منّة لأحدٍ كمنّة الوالد على الولد الذي كان سببًا في وجوده وتربيته، فبعطفه وحنانه عليه ربّاه وأطعمه وأسقاه، فإذا ترعرع الطفل وشبّ تمنّى لوالديه الموت وهما يتمنّيان له الحياة، ولم يتذكر أنهما كانا يحملان أذاه في صغره راجين له الحياة وخاصة الأم، وهو إن حمل أذاهما في الكبر وعند المرض يتمنى لهما الموت، وقليل من يحمل ويفعل ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأشكره يوفق من يشاء لطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد قال : ((كل الذنوب يؤخّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد". يعني: العقوبة في الحياة الدنيا قبل يوم القيامة.
وكثير من الآباء والأمهات في هذا الزمن يرضون من البرّ بكفّ الأذى عنهم، ويسألون ربهم كل خير لأولادهم الذين لا يُرضونهم بشيء غير السكوت والابتسام إنْ وُجِدَ ذلك. ورُبَّ أمٍّ صابرة على قلة ذات يدها وموت زوجها وكفالة الأيتام أو قد يكون حيًا كما هو حاصل الآن بين ظهرانينا من وجود الخادمات حيث يعشن بعيدًا عن أولادهن الصغار وأزواجهن وعن أوطانهن ساعيات في تحصيل المعيشة وطلب الرزق وما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والملابس، نسأل الله تعالى أن يديم علينا هذه النعمة ولا يغير علينا ما نحن فيه من نعم متتالية، ونسأله سبحانه ألا يُلجئَنا إلى ما هم فيه من حال مشتتة وأسرٍ مفككة تذوب لها القلوب حين يتذكرها المؤمن، ونسأله تعالى أن يرزقنا الإحسان إليهم؛ لذلك نجد الأمهات منهن من قد رضيت أن تعيش خادمة لغسل الثياب وطيِّ الفراش وكنس المرافق والحمامات، فإذا بلغ الولد من أولادها أَشُدَّهُ واستوى ماذا يكون حاله؟ إنه التكبر عليها والإعراض عنها والتنكر لصنيعها، ثم يذهب بزوجته بعيدًا عنها في السكن لئلا تعكّر عليه الحياة مع زوجته، ويا ليته سافر لطلب الرزق فيُعذر في ذلك، ولكنه قريب في مسكنه بعيدٌ في برّه وإحسانه ولم يتذكر ماضيه وما قامت به ولاقته منه عندما كان صغيرًا. فعلى المسلم أن يعلم أن والديه سَعَيَا عليه وعَالاه صغيرًا وكبيرًا، فيجب عليه أن لا يهينهما ولا يهملهما لأنهما يأملان برّه وينتظران منه الجزاء الحسن، فعليه أن لا يتركهما وشأنهما وينشغل بالأموال والأولاد والزوجات عنهما وبعدم المبالاة بحقهما.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدَهما ثم لم يدخل الجنة)) رواه الإمام مسلم، وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صعد النبي المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين)) ، قال: ((أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد، من أدرك أحد أبويه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) إلى آخر الحديث الذي رواه الطبراني بإسناد حسن، كما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه إلا أنه قال فيه: ((ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرّهما فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) الحديث، أي: بسبب عدم برّهما ورعايتهما والقيام بحقوقهما. وقال رسول الله : ((الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس)) رواه البخاري، وفي الحديث الآخر: ((وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق، والفرار يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم)) رواه ابن حبان في صحيحه.
فيجب علينا أن لا نتناسى ونتغافل عن حقوق الوالدين وبرهما والإحسان إليهما، ونتذكر تَحَمُّلَ أمهاتنا لنا تسعة أشهر ومكابدتَهن عند الوضع الذي يُذِيبُ المُهَجَ، وإرضاعَهن وجميعَ إحسانهن إلينا، وكذلك الأب الذي يكدح ويمشي في مناكب الأرض يلتمس الرزق لإطعام وكسوة أولاده وجميع من يعول، فيجب علينا أن نقابلَ هذه الأياديَ بالإحسان وعدم النسيان والتأفف، بل المعاملة الحسنة والعطف والشفقة والحنان وخفض الجناح لننال من الله أعلى الدرجات والرضوان، قال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 25].
إن برّ الوالدين شأنه عظيم، فهو مقدم على الجهاد في سبيل الله، ويُترك الجهاد لبر الوالدين وصحبتهما، ومقدم كذلك على رضا الزوجة. إنَّ الأولاد بنين وبنات من الأعمال الصالحة والكسب الطيب ومن خير ما يخلف الإنسان بعده إذا صلحوا، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((بِرُّ الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله يستأذنه في الجهاد، فقال: ((أحَيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
والأم مقدمة على الأب، وحقها أعظم، جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) رواه البخاري ومسلم، وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك من أمٍّ؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها)) رواه ابن ماجة والنسائي واللفظ له والحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، ورواه الطبراني بإسناد جيد ولفظه: قال: أتيت النبي أستشيره في الجهاد، فقال النبي : ((ألك والدان؟)) قلت: نعم، قال: ((الزمهما، فإن الجنة تحت أرجلهما)) ، وقال رسول الله : ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفُّوا تعفُّ نساؤُكم)) رواه الطبراني والحاكم.
ودعوة الوالدين على الولد أو له مستجابة، فليحذر الأولاد من التعرض للدعاء عليهم من الوالدين أو أحدهما، وليحذر الآباء والأمهات من الدعاء على أولادهم بنين وبنات أو أحدهم لئلا توافق ساعة استجابة فيندم الجميع على ذلك، وعليهم عدم التسرع في الدعاء عليهم عند الغضب، بل عليهم الدعاء لأولادهم بدلاً من الدعاء عليهم، قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ثلاث دعوات لا تردّ: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر)) ، وزاد في الحديث الآخر: ((ودعوة المظلوم)).
ولضيق المقام أورد أحاديث متعلقة بالبر وكذلك العقوق، قال رسول الله : ((لا يجزي ولدٌ والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)) رواه مسلم، وقال : ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) ، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟! قال: ((يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه)) رواه البخاري ومسلم. وورد أن أعرابيًا أتى النبي فقال: إن لي مالاً وولدًا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: ((أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم)) رواه أبو داود وابن ماجة، وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده)) ، وإنه كان بين أبي عمر وأبيك إِخَاءٌ وَوُدٌّ فأحببتُ أنْ أَصِلَ ذاك. رواه ابن حبان في صحيحه. إخوان أبيه أي: أصحابه. وفي حديث آخر أن رجلاً لقي عبد الله بن عمر بطريق في مكة فسلّم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير! فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إنَّ أبَرَّ البرَّ أنْ يصلَ الولدُ أهلَ وُدَّ أبيه)) رواه مسلم، وعن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: فيما نحن عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والحاكم رحمهم الله تعالى. ومعنى الصلاة عليهما أي: الدعاء لهما، وقال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه.
(1/5586)