حماة السفينة: رجال الحسبة
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
19/2/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل القائم على حدود الله. 2- ولاية الحسبة. 3- أضرار ترك الأمر بالمعروف والنهي المنكر. 4- بعض إنجازات الهيئة. 5- تنادي بعض الدول بإقامة جهاز حسبة. 6- الرد على الطاعنين في الهيئة. 7- مفهوم خاطئ للحرية. 8- كلمات لرجال الهيئات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي قال: ((مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضُهم في أعلاها، وبعضُهم في أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
عباد الله، إن المحافظة على حُرمة الإسلام وصونَ المجتمع المسلم من أن تخلخله وتقوضه البدع والخرافات والمعاصي والمنكرات، إن حمايته من أمواج الشر الهائجة وآثار الفتن المائجة أصل عظيم من أصول الشريعة وركن مشيد من أركانها المنيعة، وهذا الأصل والركن يتمثل في ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك المهمة العظمى والأمانة الكبرى التي هي حفاظ المجتمعات وسياج الآداب والكمالات، بها صلاح أمرها واستتباب أمنها وقوة تماسكها، ما فُقدت في أمة إلا زاغت عقائدهم وفسدت أوضاعهم وتغيرت طِباعهم، وما ضعُفت في قومٍ إلا بدت فيه مظاهر الانحلال وفشت فيه ظواهر الاختلال.
عباد الله، إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال والوباء القتال الذي به خراب المجتمعات وهلاكها، وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها سبب من أسباب حلول العقاب ونزول العذاب، فعن أم المؤمنين زينبَ بنتِ جحشٍ رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعًا وهو يقول: ((لا اله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب! فتحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه)) وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال : ((نعم إذا كثرُ الخبث)) متفق عليه. والخبث هو: الفسق والفجور. وقال : ((ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) رواه أبو داود وغيرهُ. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض عمالهِ: "أما بعد: فإنهُ لم يظهر المنكر في قومٍ قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدي من يشاء من عبادهِ، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قمع أهل الباطل واسُتخفي فيهم بالمحارم".
عباد الله، ألا وإن من نعم الله علينا في بلادنا أن هيأ لنا حماة لسفينة البلاد، يدرؤون عنها العقاب بجهدهم وتفانيهم، إنهم ـ يا عباد الله ـ رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أولئك القوم الذين يسهرون ونحن نائمون في فرشنا، ويعملون ونحن منشغلون بدنيانا، يجاهدون للحفاظ على محارمنا وأعراضنا، ويصدون الباطل ويقاومون الفساد ويمنعون وقوع المنكرات، كم من جريمةٍ ضبطوها! وكم من مصانع للخمور أزالوها! كم من شقق للخنا والدعارة أغلقوها! كم من منحرف دلوه! وكم من عاص ستروه،! كم من فتاة أنقذوها! وكم من طفل استرجعوه إلى والديه!
عباد الله، إنها جهود لا تنكر، وبذل وعطاء من كل أسف لا يشكر.
يا هيئة الإرشاد وجهُك مشرقُ والمكرماتُ روائح وغواديِ
أمرٌ بمعروف ونهي صادقُ عن منكر وتَحلل وفسادِ
عباد الله، وحتى تتضح مكانة هذه الطائفة ويُعلم فضلها وجهودها الجبارة في المحافظة على أمن المجتمع وسلامة أعراض الناس وأديانهم إليكم بعض الأرقام وهي لعام واحد فقط: أكثرُ من مائتين وثمانية وثلاثين ألف قضية تتعلق بالتخلف عن صلاة الجماعة والمتأخرين في إغلاق المحلات بعد الآذان وقضايا القمار والإفطار في نهار رمضان، أما القضايا الأخلاقية من معاكسات وخلوة واختطاف ونحوها فقد بلغ ما تم ضبطه من قبل رجال الهيئة أكثر من أحدى وأربعين ألف حالة خلال عام واحد فقط.
عباد الله، هذا جزء يسير من جهود أولئك الأبطال، ويحق لنا أن نتساءل: يا ترى، كم عدد الذين عملوا كل هذه الأعمال الجليلة وحققوا هذه الإنجازات الباهرة وكفوا المجتمع من شرور كانت ستحصل ومفاسد أوشكت أن تقع؟ إن خلف كل تلك الإنجازات أعدادًا لا تتجاوز بضعة آلاف في كل أنحاء البلاد المترامية، وبإمكانات متواضعة ومحدودة.
هيئاتنا تاج على هاماتنا أخشى بدونهم بأن لا نُمطرَا
يا من إذا نِمنا بثوب أمننا فتحوا العيون الناعسات لتسهرَا
عباد الله، لقد عانت بعض الدول المجاورة من أوضاعها الأخلاقية، وتنادت بالاحتذاء بمثل هذه المؤسسات المباركة نظرًا لإنجازاتها العظيمة. لقد ظلموا أنفسهم بتركهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذا انظروا كيف يعانون، ومن تحت الأنقاض يصرخون، يبحثون عن الأمن الأخلاقي ولا أمن، يطالبون بصون الأعراض ولا مجيب، والنجاة لهم هو في امتثال أمر لله سبحانه. فاحمدوا الله ـ عباد الله ـ على أن قيض لكم فئةً تبذل الغالي والنفيس من أجل راحتكم ومدافعة الباطل في أرضكم وبلادكم.
عباد الله، إنا لنعجب والله بعد كل ما سبق ممن يتناول رجال الهيئات سبًا وتأثيمًا، ويتعرض لهم قذفًا وتلفيقًا، سيل من السهام وزحام من الأقلام تترقب كل حدث فتلصقه بحماة السفينة حتى ولو كانوا منها براء، إنهم يهذون بما لا يدرون ويهرفون بما لا يعرفون.
عباد الله، إن أرباب أولئك الأقلام والأفهام الجائرة والصحافة الحائرة يدَّعون المصداقية وقول الحقيقة مهما كلف الثمن، لقد نصبوا أقلامهم وصحافتهم محامية عن حقوق المجتمع ومدافعة عن قضايا الأمة ومعالجةً لمشكلاتهم، لقد تصوروا مفاهيم معكوسة ثم تدافعوا إلى بثها وتسابقوا إلى نشرها عند أدنى حدث ولو كان كذبًا مختلقًا في إسقاطات كاذبةً وممارسات خطيرة، فهم يصدق عليهم قول القائل:
إن يسمعوا سبةً طاروا بِها فرحًا هذا وما سمعوه من صالح دفنوا
لكن بحمد الله انكشف عند الكثيرين أمرهم وظهر غباؤهم وكذبهم.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده من توهّمِ
عباد الله، ومع كل ذلك فإنا لا ندعي العصمة لرجال الهيئة، ولا ننفي الخطأ والتجاوز عن أهل الحسبة، فالخطأ طبيعة بني آدم، ولو حصل أن أحدهم أخطأ في تصرف أو سلوك فهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر الناس، يصيبون ويخطئون، يزيدون وينقصون، ينشطون ويكسلون، لكن لماذا هفوة أحدهم تصبح حديث المجالس وكأن الأخطاء لا تقع إلا منهم؟! أين من يعدّد وينقب عن أخطاء رجال المرور أو الشرطة ممن يقدمون خدمات عامة للمجتمع؟! أين الإعلام عن أخطاء بعض الأطباء وتجاوزاتهم؟! وأين الصحافة عن تكاسل بعض رجالات الإطفاء وتقصيرهم؟! أو أن أولئك جميعًا لا يخطئون ولا يقصرون ودائمًا معصومون!
عباد الله، إن ضعف أي دائرة حكومية يعالج بالدعم والتطوير وزيادة الكفاءات وتوفير المعدات ووسائل التقنية، إلى جانب تلافي السلبيات الموجودة، أما أن يكون العلاج بتعطيل شعيرة من شعائر الدين وإيقاف أعمالها فهذا هو الظلم في المعالجة والاصطياد في الماء العكر والحل الذي لا يمكن تطبيقه في دائرة حكومية أخرى.
يا ربّ زلزل من يريد بِجمعهم سوءا وشل يَمينه والمنخرا
هم للورى ركب النجاة تقدمًا وبدونهم تمضي الركاب إلى الوَرا
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ المهمة التي يقوم بها رجل الهيئة ـ ليست فضولاً أو تدخلاً في خصوصيات الآخرين وحرياتهم الشخصية، وإنما هو قيام بواجب أوجبه الله تعالى على عباده وبشعيرة من أعظم شعائر الدين. أي حرية ينادون بها في التعدي على حدود الله ومحارمه؟! أي حرية في التعرض لأعراض المسلمين وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين؟! أي حرية في إضاعة حقوق الله تعالى والتعدي على محارمه؟!
عباد الله، إن الحرية الشخصية ليست سلَّمًا يرقى بها البعض إلى شهواته ونزواته، بل لها حدود مقيدة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه وأعراف الناس وأوطانهم، قال : ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
عباد الله، إن إيذاء المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداء عليهم أو الطعن فيهم أو تضخيم أخطائهم بغير حق وبث الإشاعات الكاذبة عنهم لهو جرم عظيم وذنب كبير، تصيب المرءَ مغبّتُه ومعرّته ولو بعد حين. ولقد قرن الله سبحانه في كتابه محاربة هذه الفئة بالكفر به وقتل رسله حيث قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 21، 22].
وأخيرًا يا رجال الهيئة، اعلموا أن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء ومتاعب لا يقدر عليها ويصبر على لأوائها إلا الكمَّل من الرجال، وأنتم كذلك إن شاء الله تعالى. إنما ـ يا حماة السفينة ـ مهمَّة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتهم وكبريائهم، ولا بد أن ينالكم شيء من الاعتداء والأذى، وصبرًا صبرا يا رجال الحسبة، تحلوا بالصبر، وأبشروا بالأجر، فقد حفّت الجنة بالمكاره، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127].
حسبكم ـ يا رجال الهيئات ـ دعوة أمٍّ لكم بالسداد بعد أن أنقذتم ابنتها من براثن الفساد، ودعوة أب استخرجتم ابنه من غائلة الانحلال، حسبكم دعوات أسرة سرتم بأيديهم إلى بر النجاة. والله، لا يضيع أجر من أحسن عملا، قال الله سبحانه: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
يا خيرنا يا ذخرنا يا فخرنا حقّ علي بمثلكم أن أفخرا
كم من فتاة قد حفظتم عرضها تصونونها باللين أن تتسترا
كم غافل أرشدتموه إلَى الهدى إذ عاد من بعد الضلالة مبصرا
(1/5404)
الغيرة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, خصال الإيمان
وائل بن عبد الله باجروان
جدة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية خلق الغيرة. 2- تعريف الغيرة. 3- الغيرة تكريم للمرأة. 4- فضل الغيرة على المحارم. 5- غيرة الرسول وصحابته الكرام. 6- أسباب ضعف الغيرة. 7- الغيرة المذمومة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله هي المنجية من المهالك والمعاصي، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله، إن من الأخلاق الحميدة خلقًا عظيمًا وطبعا جميلا يحمل الرجل على حفظ نسائه وأهل بيته من كل فاجر وغادر، تزيد في الرجال بقدر إيمانهم وشهامتهم وكرامة أنفسهم، ذلك الخلق ذو أهمية كبيرة خاصة في هذه الأيام التي كثر فيها الفساد، والتي سعى فيها أعداء الإسلام لإفساد المرأة المسلمة بشتى الوسائل.
أيها الإخوة المؤمنون، إن خلق الغيرة خلق عظيم، ركّبه الله عز وجل في فطر الرجال، قال العلامة بكر أبو زيد في كتباه القيم (حراسة الفضيلة): "الغيرة هي ما ركّبه الله في العبد من قوة روحية تحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر".
الغيرة غريزة فطرية وصفة ربانية وسجية نبوية وخلق محمود وصفة حسنة، والغيرة كانت موجودة في الجاهلية قبل الإسلام حتى قال شاعرهم يبين حماية الرجل لمحارمه:
منعَّمة ما يستطاع كلامها على بابها من أن تزار رقيب
وقد أقر الإسلام هذا الخلق وهذبه، وضبطه بضوابط الشرع.
والغيرة تكريم للمرأة وحفظ لها من العابثين المفسدين، لا كما تظن بعض النساء أنه تضييق عليها وتحكّم في تصرفاتها، بل هو من حقوق الزوجة على زوجها أن يغار عليها وأن يحميها، وذلك دليل على صدق حبه لها، يقول أحد الرجال في بيان شدة غيرته على زوجته:
أغار عليك من عيني ومني ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبّأتك فِي عيونِي إلَى يوم القيامة ما كفانِي
إن الأعراض غالية ثمينة عند أصحابها أهل الغيرة والعفة، فهم يبذلون الغالي والنفيس في الحفاظ على أعراضهم، بل قد يبذلون أرواحهم، حتى عده رسول الله في عداد الشهداء، قال الحبيب : ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
والغيرة صفة من صفات الله تعالى، وهي كذلك صفة من صفات المؤمن الصادق، قال رسول الله : ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)).
إن غيرة الرجل على نسائه دليل على قوة إيمانه وعلوّ همته، ومجتمع يُحفظ فيه النساء مجتمع طهر وعفاف، قال في الإحياء: "كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها"، قال المناوي في الفيض: "أشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة".
أيها الأحبة في الله، إن الله عز وجل أشدّ غيرة، ورسول الله أشد خلق الله غيرة، قال رسول الله : ((ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش)) ، وقال : ((يا أمّة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته)) ، وقال النبي : ((أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني)).
وكما كان رسول الله أشد الخلق غيرة كان أصحابه رضوان الله عليهم أشد الناس غيرة، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يروي عنه أنه لما رأى الأسواق يزدحم فيها الرجال والنساء قال غيرة على نساء المسلمين: (لا تستحيون؟! لا تغارون أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج)، وهم الرجال الفحول من الأعاجم. وهذا سعد بن عبادة سيد الخزرج كان مشهورا بشدة غيرته، قال سعد رضي الله عنه: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله فقال: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني)).
أيها المسلمون، إن الغيرة سجية من سجايا النفس وغريزة من غرائزها الفطرية، وتضعف هذه الغيرة في النفس، ومن أسباب ضعف الغيرة في النفوس ضعف الإيمان، فكلما كان العبد أقوى إيمانا كان أشد حفظا لنفسه ولأهله من أي شيء يلوث سمعتهم أو يقتل حياءهم ودينهم، ولا يضعف الإيمانَ إلا الذنوب، وإذا ضعف الإيمان هان على العبد مخالفة الدين والفطرة السليمة.
ومن أسباب ضعف الغيرة البعد عن تعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، فالإسلام جاء بمكارم الأخلاق، والتي منها الغيرة على المحارم.
ومن أسباب ضعف الغيرة الجهل بخطورة موت الغيرة، فعلى المسلم أن يعلم أهمية الغيرة على الأعراض، وأن ضدّ الغيرة الدياثة، وضد الغيور الديوث، وهو الذي يقر الفحش في أهله ولا غيرة له عليهم، قال رسول الله : ((ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث)) ، والخبث: الفاحشة.
ومن أسباب ضعف الغيرة الجهل بعظم المسؤولية تجاه الأهل، فإن الرجل مسؤول يوم القيامة عن رعيته ومن تحت رعايته من بنت وزوجة وغيرها من إناث وذكور، فهم أمانة في عنقه، فيجب عليه تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وأن يحميهم من الأقوال البذيئة والأفعال القبيحة والسلوكيات الخاطئة.
ومن أسباب ضعف الغيرة جلساء السوء، فللجلساء تأثير على الشخص، إن كانوا أهل صلاح وحياء وغيرة كانوا سببا في صلاحه، وإن كانوا أهل فساد وقلة غيرة كانوا سببا في فساده والتأثير عليه.
ومن أسباب ضعف الغيرة الغلو في الثقة بالأهل إلى حد التعامي عن أمور واضحة بيّنة تخدش الشرف والعفاف، بحيث يتساهل في خروج أهله ودخولهن متى شاؤوا وكيف شاؤوا، فهو يتعامى عنهم باسم الثقة. ويقابل الغلو في الثقة انعدام الثقة عند بعض الرجال، فدائما ينظر إلى أهله بعين الريبة، يشك فيهم بل يتهمهم، يعيش في أوهام وظنون ليس لها أصل من الصحة، وكلا الأمرين مذموم: الثقة الزائدة وانعدام الثقة.
ومن أسباب ضعف الغيرة الإعلام الفاسد بوسائله المختلفة، ذلك أن للإعلام دورا مهما في تشكيل عقول متابعيه وأفكارهم وسلوكهم، فينقل لنا السلوكيات الشاذة عن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف عبر البرامج المنحرفة والأغاني الهابطة والمسلسلات الخليعة والمفاهيم السقيمة الدخيلة علينا.
ومن أسباب ضعف الغيرة التأثر بحضارة الغرب وتقدمه التقني والاقتصادي، فيظن الرجل ضعيف الإيمان أنه لا بد من تقليدهم في اللباس والهيئة والسلوك حتى نتقدم ونتحضر مثلهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة المسلمون، إن الغيرة نوعان:
غيرة محمودة، وهي المعتدلة الشرعية التي تجعل صاحبها يحمي محارمه من الوقوع في المنكر ومن اختلاطهن بالرجال الأجانب، وهو ما تحدثنا عنه في بداية الخطبة الأولى.
والنوع الثاني: غيرة مذمومة، وهي أن يشك الرجل في أهله ويتجسس عليهم ويظن بهم السوء وهم بعيدون عنه كل البعد، وكم انهارت من الأسر بسبب هذا الظن السيئ من غير دليل ولا بيان، إنها الشك والوسوسة، وهذه الغيرة يبغضها الله تعالى، قال رسول الله : ((إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة)).
عباد الله، ولو كانت الغيرةُ ما سمعنا من يتحدث عن تحرير المرأة والمطالبة بخروجها من بيتها والمطالبة بمساواتها بالرجل في أشياء تختص بالرجال وغير ذلك من الدعاوى.
فالله الله ـ يا عبد الله ـ في نسائك وأهل بيتك، احفظهم وصنهم فهم أمانة لديك، وتذكر أن الغيرة صفة رجولية محمودة، اتصف بها سيد الخلق وأصحابه، فسر على خطاهم وانهج نهجهم واسلك سبيلهم.
اللهم إنا نسألك السلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، ونسألك اللهم أن تحفظ أعراضنا وأموالنا ودماءنا من كل كافر حاقد ومجرم عابث، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان يا رب العالمين...
(1/5405)
تحريم القتل بغير حق وأنه من المهلكات
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد الله بن حمد السكاكر
بريدة
جامع الذربان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض. 2- سفك الدم الحرام من أكبر الكبائر. 3- القتل بغير حق إفساد في الأرض. 4- وعيد قتل الأنفس المعصومة. 5- هل للقاتل توبة؟ 6- تحريم الوسائل المؤدية للقتل بغير حق.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: خافوا الله ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
عباد الله، إن الله تعالى هو خالقنا ورازقنا ومدبرُ أمورنا، وهو سبحانه ربنا ومولانا ومالكنا، الملك ملكه، والأمر أمره، خلق فسوى وقدر فهدى.
استخلفنا في هذه الأرض لنقيم فيها شرعَهُ ونطيع أمره، استعمرنا في ملكه لنعمره بطاعته والانقياد لشرائعه. فنحن ـ إخوة الإيمان ـ عبيد مملوكون، وسرُّ سعادة العبد أن يطيعَ مولاه وينقادَ لسيده فيما أحب وفيما كره، فيما عَقَل وفيما لم يعقل. فمن عصى مولاه كان جديرًا بالعقوبة خليقًا بالأدب، ومن استعمل عقله أو هواه في ردّ ما جاء عن سيده فقد نازع سيده الحكم والأمر، فما أبأسه وأشقاه.
عباد الله، إن سفك الدم الحرام الذي حرمه الله تعالى إما لإسلامه أو لأنّ له عهدًا أو ذمةً أو أمانًا، إن سفك هذا الدم الحرام بغير حق من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم، حتى إن الله سبحانه وتعالى قرنه بالشرك الذي هو أعظم ذنب عصي الله به، قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68].
إن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق إفساد في الأرض وإشاعة للخوف، قال سبحانه وتعالى لملائكته قبل أن يخلق آدم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30].
واسمعوا إلى ما قصه الله تعالى عن موسى عليه السلام حين ابتُليَ بهذا الأمر، قال سبحانه وتعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ [القصص: 15-19].
وفي قصة أخرى لموسى عليه السلام حيث أراد أن يصحب ذلك الرجلَ الصالح ليتعلم منه، فشرط عليه أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا، فالتزم موسى بذلك، لكنه رأى منه منكرًا لا يسعه السكوتُ عليه، لقد رآه يقتل غلامًا زكيًا لم يذنب بعد، فأنكر عليه ذلك، قال سبحانه: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74]، أي: ظاهر النكارة عظيم الجرم.
إن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق من أعظم الهلاك والخسران، قال سبحانه وتعالى عن ابني آدم وقد همّ أحدهما أن يقتل أخاه فقال الآخر: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 28-30].
إن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق من أعظم أسباب الفلس والبوار، روى مسلم في صحيحه (2581) أن رسول الله قال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
إن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ضيق وحرج وتعسير لأسباب الفكاك والنجاة، روى البخاري في صحيحه (6355) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)) ، وفي رواية لأبي داود (3724) قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ)) ، يعني: فإذا أصاب دمًا حرامًا ضاقت عليه مسالك النجاة وعجز عن أسبابها.
إن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ورطة ومهلكة، روى البخاري في صحيحه (6356) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: (إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ). اللهم اكتبنا برحمتك في الصالحين، وأعذنا بفضلك من حال الخاسرين.
روى أبو داود (1723) بسند صحيح عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ حَاجًّا فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَمَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا، فَكَانَ يَقُولُ: ((لا حَرَجَ لا حَرَجَ إِلا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَذَلِكَ الَّذِي حَرِجَ وَهَلَكَ)). عباد الله، هذا فيمن اغتاب مسلمًا أو بهته، فكيف بمن سفك دمه؟! اللهم لا تحرجنا، ولا تهلكنا، واكتبنا برحمتك في الناجين.
إن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق آثامٌ عظيمة وعذابٌ مضاعف وخلود في نار جهنم وهوان على الله، قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: 68، 69].
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك ولو حرصنا، أنت كما أثنيت على نفسك. اللهم إنا نعوذ بك أن نقول زورا، أو نغشى فجورا.
قول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، واعتصموا بحبله لعلكم ترحمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفوته من خلقه أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين وصحابته المصطَفَين.
ثم أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أكرم عباده المؤمنين، وأعلى شأنهم، وحرّم دماءهم، وجعل الجرأة عليها من أعظم الكبائر وأشد الموبقات، ففي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) رواه الترمذي (1315) والنسائي (3922) وابن ماجة (2609)، وفي الحديث الآخر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: ((لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ)) رواه الترمذي (1318) وقال: "حديث غريب"، وروى ابن ماجة (2610) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) ) وضعفه البوصيري.
عباد الله، انظروا إلى ما توعد الله تعالى به مَنْ قتل مؤمنًا متعمدًا، ثم انظروا هل يجدُ القاتل لنفسه بعد ذلك من فسحة؟! قال سبحان الله وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
إخوة الإيمان، قال ابنُ عباسٍ وزيدُ بنُ ثابتٍ وأبو هريرةَ وعبدُ الله بنُ عمرَ وأبو سلمةَ بنُ عبد الرحمنِ وعبيدُ بنُ عمير والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ بنُ مزاحم: لا توبة لمن يقتل مؤمنًا متعمدًا. قال سالم بن أبي الجعد: كنا عند ابن عباس بعدما كُفَّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضبَ الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا، قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمِل صالحًا ثم اهتدى؟! قال ابن عباس: ثكلتْه أمه! وأنَّى له التوبة والهدى؟! فوالذي نفسي بيده، لقد سمعت نبيَّكم يقول: ((ثكلته أمه! رجل قتل رجلا متعمدًا جاء يوم القيامة آخذًا بيمينه أو بشماله، تَشْخَبُ أوداجه دمًا، في قُبُل عرش الرحمن، يَلزم قاتلَه بيده الأخرى يقول: سلْ هذا فيم قتلني؟)) ووالذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قُبض نبيّكم ، وما نزل بعدها من برهان. رواه الإمام أحمد (2551) والنسائي (3934) والطبري (10188) واللفظ له وصححه الألباني.
ورغم أن الراجح من أقوال أهل العلم أن للقاتل توبة، إلا أن اختلافهم في قبول توبته دليل على عظم الذنب وفحشه، فإن الشرك أعظم الذنوب ومع ذلك لا يختلفون أن للمشرك توبة إذا تاب.
إخوة الإيمان، إن عِظم قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق جَعَل الوسائل المفضية إليها من الكبائر، ففي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ)) ، وفي رواية لمسلم (4741): ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)).
إخوة الإيمان، الملائكة تلعن من يشير بالسلاح مازحًا، فكيف بمن يسفكُ به الدمَ الحرامَ مستهينًا؟! روى أبو داود (3724) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلاً)) ، قَالَ خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الْغَسَّانِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: ((اعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ)) قَالَ: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي الْفِتْنَةِ، فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ فَيَرَى أَنَّهُ عَلَى هُدًى لا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ.
إن إرهاب المؤمنين وقتل المستأمنين واستباحة الدماء التي حرمها الله تعالى بأدنى شبهة والاستهانةَ بأرواح المسلمين من الإفساد في الأرض الذي لا يحبه الله تعالى، وهو أمارة شر وخذلان لمن تغشاه. دخل إبراهيم الحصري وكان رجلاً صالحًا على الإمام أحمد فقال: إن أمي رأت لك منامًا هو كذا وكذا وذكرت الجنة، فقال الإمامُ أحمدُ: يا أخي، إن سهلَ بنَ سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا ـ يعني بمناماتٍ صالحة ـ وخرج إلى سفك الدماء، ثم قال: الرؤيا تسرّ المؤمن ولا تغرّه. اهـ.
عباد الله، إن من وقع من أبناء المسلمين في تكفير المسلمين واستباحة دمائهم أو أخفر ذمة المسلمين وقتل المستأمنين قد أتى مُهلِكة من المهلكات وعظيمة من العظائم، نسأل الله أن ينقذه منها.
إن شباب الأمة هم أغلى مقدراتها وأعظمُ كنوزها، وإن استقامتهم والمحافظة على عقولهم واستصلاح من انحرف منهم والوقوف ضد صائلهم مسؤوليةُ الجميع، فالوالد والمعلم والمربي والمدير والمسؤول عن الأمن في المسؤولية سواء، ولا يصح أن يتقاعس أحد عن حمالته، ليلقي بالمسؤولية على غيره، ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) متفق عليه من حديث ابن عمر.
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما وبطن، اللهم إنا نعوذ بك أن نقول زورا أو نغشى فجورا أو أن يكون أحدٌ منا ظهيرًا للمجرمين، اللهم أصلح شباب المسلمين وردهم إليك ردًا جميلاً...
(1/5406)
إعصار غونو: عظة وعبرة قوة وقدرة
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
يوسف بن حمود السويلم
المنقف
22/5/1428
مسجد المنيس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدرة الله تعالى. 2- جنود الله تعالى. 3- نصرة الله تعالى لأوليائه. 4- نظرة خاطئة لمثل هذه الأحداث الكونية.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عباد الله، إن أحداث إعصار غونو عظة وعبرة وقوة وقدرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
عباد الله، من القهار؟! من الجبار؟! من المحيي؟! من المميت؟! من القوي؟! من القابض؟! من الباسط؟! من الواحد؟! فلا إله إلا الله، تمر بنا الأحداث حدَث بعد آخر، ولا نأخذ العبر، ولا نتعظ، ولا نتدبر، يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2].
إن ما حدث هذه الأيام هي قدرة الله، هي أمر الله، أمر الجنود فتحركت، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31]. الأمواج جند الله، البحار جند الله، الجبال جند الله، الأرض والسموات كلها جنود، تتحرك بأمر الله، وتسكن بأمره، فلا إله إلا الله، يأمر فتكون الزلازل والبراكين والأعاصير التي تدمر كل شيء بأمر ربها، كل يوم مع هذا العالم في شأن، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، يقول المفسرون: يحيي هذا، ويميت هذا، يعطي الملك لهذا، ويزيل عن هذا، يغني هذا، ويفقر هذا. نعم، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ، يقوي هذا، ويضعف هذا، يسلب الصحة من هذا، ويعافي هذا، يعطي هذا، ويأخذ من هذا، يحزن هذا، ويفرح هذا، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. نعم، من يوقف ظلم الظالم؟! ومن ينصر المسكين والضعيف؟! من نصر نوح لما قال: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10]، دعا بكلمة، رجع إلى صاحب الملك، إلى من يغير بلحظة ما بين طرفة عين وانتباهها، يغير الله من حال إلى حال، فلا إله إلا الله. فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ، ركن إلى عظيم، لجأ إلى قوي عزيز جبار متكبّر قهار لا يهزم، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ.
ماذا حدث؟ أمر بالإعصار فأهلك الجميع إلا من كان معه، أباد الجميع إلا من كان معه، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر: 11-14].
فاشدد يديك بِحبل الله معتصما إنه الركن إن خانتك أركان
فنلجأ يمنة ويسرة فلا نجدةَ ولا نصرة، فنتوجه للواحد القهار فتنزل النصرة من حيث لا نشعر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بيده كل شيء، هو قادر على كل شيء، وغيره عاجز عن كل شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
وبعد: هناك خلل في العقيدة عند حدوث مثل هذه الحوادث، قد يكون عن كفر وإلحاد أو تقليد أعمى للغرب أو جهل واضح في نسبة هذه الحوادث إلى أمر الله وأنها عظة وعبرة ودليل قوة وقدرة، فيخرج علينا بعضهم وينسب ذلك إلى الطبيعة وأنه حدث هذا قبل 70 عام ورجع مرة أخرى، كأنه يعرف حدوثه هذه السنة ولا حول ولا قوة إلا بالله. فعلينا أخذ الحذر ممن حذرنا في كتابه: وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28].
اللهمّ إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك...
(1/5407)
ماذا ينقمون من الهيئة؟!
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمة القائمة على حدود الله. 2- النجاة للأمة المصلحة. 3- التحذير من التهاون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- أهمية الصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- فضل رجال الحسبة. 6- الرد على الطاعنين والمستهزئين برجال الهيئة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إن الأمّة الّتي يقع فيها الفساد أيًّا كان نوعه وفي أيّ صورة من صوره ثم يوجد في تلك الأمّة من ينهض لدفعه أمّةٌ ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتّدمير، ولا يحل عليها السخط والغضب، قال تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اْلقُرَىْ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُوْنَ [هود: 117]. وإنّ البلاد الّتي لا يزال المصلحون ينهون فيها عن الفساد لهي بلاد محميّة مأمونة من عذاب الله، ومأمونة من أذى المجرمين بفضل الله ثم بفضل دعوة المصلحين من العلماء والدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الذين يجعلون بدعوتهم وتذكيرهم في قلب كل مسلم حارسا يحرس القلب من الهم بكلّ خطيئة من قتل أو سرقة أو منكر أو أذى. أتدرون من الحارس؟! إنه الإيمان، نعم الإيمان الذي يمنع المرء من الإخلال بأمن البلاد والعباد خوفا من الله وعقابه ونيل عذابه.
ولا عجب ولا غرابة اليوم حين نجد بلادنا وبشهادة الأعداء أنها أقلّ بلاد العالم في الجريمة وفشو المنكر، كل ذلك سببه بعد الله تعالى الإيمان الذي يوقد من وقت لآخر في قلوب المؤمنين المنتفعين بالذكرى على يد المصلحين من العلماء والدعاة، قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ اْلقُرُوْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوْا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اْلفَسَادِ فِيْ اْلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّنْ أنَجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مَا أُتْرِفُوْا فِيْهِ وَكَانُوْا مُجْرِمِيْنَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اْلقُرَىْ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُوْنَ [هود: 116، 117].
في هذه الآية الكريمة يبين جلّ جلاله أن النّجاة عند نزول العذاب هي من حقّ الأمة الآمرة بالمعروف والنّاهية عن المنكر فقط، أمّا من عداهم فهو هالك، سواءٌ فاعل الذنب أو السّاكت عنه، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوْا مَا ذُكِّرُوْا بِهِ أَنْجَيْنَا اْلَّذِيْنَ يَنْهَوْنَ عَنِ اْلسُّوْءِ وَأَخَذْنَا اْلَّذِيْنَ ظََلَمُوْا بِعَذَابٍ بَئِيْسٍ بِمَا كَانُوْا يَفْسُقُوْنَ [الأعراف: 165].
ويحذّرنا المعصوم من التّهاون في هذا الأمر فيقول: ((كلا واللهِ، لتأمرنّ بالمعروفِ ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكرِ ولَتَأْخُذُنَّ على يدِ السّفيه وَلَتَأْطِرُنَّه على الحقِّ أَطْرًا أو ليضربنّ الله قلوبكم بقلوب بعضٍ، ثمّ ليلعنكم كما لعن بني إسرائيل)) ، وفي المسندِ وغيره قوله: ((يا أيّها النّاس، إنّ الله يقول: لتأمُرنَّ بالمعروف وَلَتَنْهَوُنَّ عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم)).
فالدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تكليفٌ ليس بالهيّن ولا باليسير إذا نظرنا إلى طبيعته واصطدامه بشهوات النّفس، ففي النّاس المنحرفُ الّذي يكره الاستقامة، وفيهم الّذين ينكرون المعروف ويعرفون المنكر، فلا بد إذًا من وجود جماعةٍ تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذا ما يدلّ عليه النّصُّ القرآنيّ الكريم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى اْلخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِاْلمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَأُلَئِكَ هُمُ اْلمُفْلِحُوْنَ [آل عمران: 104]، ومتى ما حقَّق العباد عبادةَ الله وقاموا بها خيرَ قيام أمَّنَهم الله من المخاوف، وحقَّق لهم الأمنَ في الدنيا والأمن في الآخرة، قال تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، ويقول سبحانه: وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ [النمل: 89].
والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر موصوفون في كتاب الله بأنهم المفلحون، وما أعظمها من كرامة والله، قال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
من هنا نقول: أيها المحتسبون من رجال الهيئة، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اصبروا وصابروا ورابطوا، واحتسبوا الأجر عند الله، وأبشروا بالعاقبة الحميدة إن شاء الله تعالى، قال تعالى على لسان لقمان حين وعظ ابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17]. ونقول لكم: هنيئا لكم المكافأة التي وهبها لكم الله، فقال سبحانه: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [التوبة: 88]، وهنيئا لكم المكافأة التي وعدكم بها رسول الله فقال: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)).
عباد الله، كم نسمع في هذه الأيام وكم نقرأ ما يُنشر مِن سخريّة بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وحطٍّ من قدرهم ونيل من أعراضهم، وقد يخرجهم هذا من الإسلام وهم لا يشعرون، قال تعالى: أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2]. ونحن نقول لهؤلاء المنحرفين: ألم يكن محمد داعيا إلى الله آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر؟! لماذا لا تتأسّون به طالما تدَّعون أنه رسولكم ونبيكم؟! ألم يقل الله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157]، فأين أنتم من هذه الآية، أم ترون أن في اتباعه رجوعا عن اتباع أسيادكم من اليهود والنصارى؟! هل تريدون أن تنزع الأمة لباس حيائها لتعيش عيشة البهائم التي يركب بعضها بعضا؟! لماذا تنازعوننا في لباس حيائنا وقيمنا وتمسكنا بديننا؟! أين أنتم من التوبيخ الإلهي الذي يقول الله فيه: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 49]؟! أين أنتم من قول النبي : ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) رواه البخاري؟! والحرب من الله قد تكون في نفسك وأهلك ومالك.
أيها المسلمون، كان في عهد النبي جماعة من المنافقين سخروا من النبي وأصحابه، فأنزل الله قوله سبحانه: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]. أفلا يتّقي الله عزّ وجلّ هؤلاء ويقولون قولاً سديدًا ويعلمون أنّهم غدًا مُحاسبون على ما قدّمت أيديهم وكَتَبَتْه وما تلفّظت به ألسنتهم ونطقت به؟! فليكتبوا ما شاؤوا، وليقولوا ما شاؤوا، فسيقفون بين يدي خالقهم، وليس ثم إلا الجنة أو النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27]، ويقول سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29].
فيا أيها اللامز، اليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، فاعمل ما شئت فإنّك به مُدان، قال تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79].
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى مَا فِيْ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِيْ الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيْهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالْنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة: 204، 205].
أخيرا، هذه نصيحة من قلب صادق ناصح لهؤلاء المستهزئين بشعائر الله، أقول: عجبًا لكم! أما وجدتم ما تفترون وتستهزئون به إلا رجال الحسبة؟! أما وجدتم إلا هؤلاء الرجال الأبطال والجنود المجهولين الذين واصلوا سهر الليل بالنهار، وأبت عليهم هموم الأمة ومصائب المجتمع وحراسة الفضيلة التمتع بما يتمتع به غيرهم من إجازات صيفية وسياحة وبرية بل وصلوات رمضانية وتهجدات ليلية، قلوبهم تتقطع حسرة وهم يرون الوفود تتجه في العشر الأواخر من رمضان إلى بيوت الله مصلية عاكفة داعية وهم يجوبون الأسواق والمجمّعات يحفظون أعراض المسلمين، ثم يأتي متكئ على أريكته يتنعم بنعمة الأمن التي حفظها الله علينا ودفع ضدها بفضله ثم بجهود أولئك الأخيار فلا يجد له عملاً ولا شغلاً إلا التندّر برجال الحسبة، نقول لهؤلاء: اخسئوا فلن تعدوا قدركم، وقد فضح الله أمركم، وبان عواركم، وصدق الباري سبحانه: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِيْنَ سَبِيْلُ الْمُجْرِمِيْنَ [الأنعام: 55]، ففي استبانة سُبُل المجرمين إيضاحٌ لسُبُل المهتدين ونجاه للمؤمنين المتقين.
فاللهم عليك بدعاة الفساد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، اللهم عليك بهم وبمن يؤيدهم، اللهم وأنزل عليهم بلاء يشغلهم وفتنة تفتك بهم، اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أسعد المؤمنين وأفرحهم بهلاك الظالمين يا رب العالمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5408)
حكم السفر إلى بلاد الكفر
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
السياحة والسفر, قضايا المجتمع
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهافت الناس على الأسفار في الإجازة. 2- وجوب الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام. 3- النهي من الإقامة بين أظهر المشركين. 4- الخلط في مفهوم الولاء والبراء. 5- الحكمة في تحريم السفر إلى ديار الكفر. 6- مفاسد السفر إلى بلاد الكفر والفجور.
_________
الخطبة الأولى
_________
في هذه الأيام وفي بداية الإجازة من كل عام يبتلى البعض بما يسمونه بالسياحة الخارجية ومفارقة ديار الإسلام والذهاب لقضاء الإجازة إلى بلاد يقل فيها الالتزام أو ينعدم، وكلّ يذهب إلى ما يريد، وكل يختار من البقاع والأماكن ما يهوى، ويذهب إلى أيّ مكان شاء، وعلى قدر ماله، وعلى قدر رغبته. وإن العاقل المتّزن هو الذي لا يخطو خطوة إلا ويعلم ما بعدها، ولا يقدم عليها إلا وقد نظر هل تنفعه أم تضره؟
لقد أوجب الله على المؤمنين الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، ولم يستثن أحدًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، بدءًا بالهجرة من مكة عندما كانت دار كفر إلى المدينة، وانتهاء بأي بلد كافر حتى قيام الساعة؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكيف يأمر الله سبحانه بالهجرة إليه ثم ترَى بعض المسلمين اليوم يهاجرون إلى غير بلاد المسلمين لغير مسوّغ شرعي؛ إما لسياحة أو لمشاهدة بلاد الكفار أو لأسباب تافهة لا يعذرون بها بين يدي الله سبحانه، يقول الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 97-100]. وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يُعمل فيها بالمعاصي، فكل من يعيش في بلاد لا يستطيع فيها القيام بشعائر الإسلام وبما أوجبه الله عليه فلا يحل له البقاء فيها مع توفر بلاد أخرى يستطيع فيها القيام بذلك، ويتحتم ذلك على من يتبدل الخير بالشر والبلاد المسلمة بالبلاد الكافرة.
وحول تفسير الآية السابقة يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع". فهؤلاء توعدهم الله سبحانه ولم يعذر سبحانه وتعالى إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، أما من يذهب إليهم ويعيش معهم وهو ليس ممن استثناهم الله فيخشَى عليه أن يكون ممن توعدهم سبحانه.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قام يومًا خطيبًا فكان مما قال: أما بعد، قال رسول الله : ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)) رواه أبو داود (2787)، وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله بعث سرية إلى خَثْعَم فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي فأمر لهم بنصف العَقل وقال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) ، قالوا: يا رسول الله، ولِمَ؟ قال: ((لا تتراءى ناراهما)) صحيح الترمذي (1307) وصحيح أبي داود (2377).
وقد أجمعت الأمة على وجوب الهجرة على المسلم من ديار الكفار إلى ديار الإسلام، ولم يستثن من ذلك إلا العاجزين عنها من الرجال والنساء والولدان، وفي هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا وعظمت فيه الفتن والرزايا ما عُذرُ من يسافر إلى بلاد الكفار وهو يطلب منه أن يفر منها إلى الله؟! يقول سبحانه وتعالى: فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات: 50].
وقد روى أشهب عن مالك: "لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق"، قال في العارضة: "فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك؟ قلنا: يختار المرء أقلها إثمًا، مثل أن يكون بلد فيه كفر وبلد فيه جور خير منه". وهذا إنما هو خاص بوجوب الهجرة على من طرأ عليه الإسلام وهو في بلاد الكفر، حيث يجب عليه وجوبًا عينيًا أن يهجرها إلى ديار الإسلام إلا إذا غُلب على أمره، أما أن يسافر المسلم من ديار الإسلام إلى ديار الكفر فهي من البدع الحادثة؛ ولذلك لم يتحدّث عنها فقهاء الإسلام السابقون، إذ كيف يدور بخلد أحد من السلف الصالح أن يسافر المسلم عن طواعية واختيار ـ بل ويسابق وينافس في ذلك ـ من ديار الإسلام التي يشتهر فيها الإسلام ويُعلن فيها الأذان وتُوصل فيها الأرحام ويُؤمر فيها بالمعروف ويُنهى فيها عن المنكر إلى ديار الكفر حيث يُدَّعى فيها بالتثليث وتُضرب فيها النواقيس ويُعبد فيها الشيطان ويُكفر فيها علنًا بالرحمن وتنتشر فيها الرذيلة وتنعدم فيها الفضيلة بدعوى التنزه والسياحة؟!
ترى أحدهم يعيش في بلد الإسلام وأهله، بلد يقيم شعائر الإسلام، ويبصر ويسمع شرائع الإسلام تطبق ويحكم بها، ثم يهرب من هذا الجو الإيماني ويتنكر لتلك النعمة العظيمة، ليعيش وذووه حقبة من الزمن بين المشركين الأنجاس، يبصر الكنائس عالية شامخة، يرى الخمور تباع علنا والمخالفات والمنكرات في دينه هي العرف السائد هناك.
إن الناظر لحال الناس اليوم يرى الخلط الواضح والحكم الجائر في تحقيق مفهوم الولاء والبراء فهمًا وعلما وعملا، لماذا اختل ذلكم المفهوم وتزعزت تلكم العقيدة في قلوب فئام من بني جلدتنا فأصبحت هشة ضعيفة؟! مع الكفار يؤاكلهم ويشاربهم، يجالسهم، يأنس بالحديث معهم، يتمتع برؤية دورهم وبلادهم، ويعجب بأخلاقهم وروعة تعاملهم، وهو في المقابل هشّ ضعيف في ولائه للمؤمنين، يتتبع السقطات والزلات، كلما جلس في مجلس سمعت منه عبارات السخرية وألفاظ التهكم والازدراء لحال المسلمين في تعاملهم وسير مجتمعهم، ويشيد ويفتخر بأنه خرج لتلك البلاد، ويرى أنهم أحسن منا حالاً. ومثل هذا في الغالب لا يقدم لدينه ووطنه وزن شعيرة من خدمة ونصرة، بل هو وبال على أمته. ويشير إلى حضارة الغرب وتقدمهم أما نحن فمتخلفون، فتراهم في حديثهم وكلامهم علقوا الحضارة الغربية بخروج المرأة وبسفورها، والغرب أنفسهم يضحكون عليهم يوم أخذوا رجيع أفكارهم، فلم يزيدوا الأمة علما، ولم يسعوا لرفعة وطنهم وبلدهم. هذا إلى جانب صور التبذير والبذخ والتفنن في إهدار الأموال وتضييع الثروات، فلا تسل أين يسكنون؟ وماذا يأكلون ويشربون؟ ماذا يلبسون؟ وبكم يشترون ويتسوقون؟ هذا فضلا عما يصرف للهو والعبث والتسلية كما زعموا.
إن العلة الكبرى والحكمة العظمى في تحريم السفر إلى ديار الكفار ووجوب الهجرة منها المحافظة على الدين، إنه رأس مال المسلم، فيجب الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه؛ إذ به نجاة الإنسان الأبدية وسعادته الأخروية، وضياعه من أعظم الخسران؛ إذ لا يساويه ضياع النفس والمال والأهل والولدان.
إذا الإيمان ضاع فلا حياة ولا دنيا لمن لم يشر دينا
ويقول الآخر:
الدين رأس الْمال فاستمسك به فضياعه من أعظم الخسران
أما عن أبنائه وبناته وذويه ممن يصطحبهم معه في سفره إلى بلاد الكفار فحدث ولا حرج عن صور التهتك والسفور وتضييع شعائر الدين، وعند إقلاع الطائرة مودّعة أرض التوحيد والإيمان ولم تغادر بعد سماء الحرمين الشريفين تخلع المرأة غطاءها وتكشف وجهها وتزيّن شعرها، ووالدها يسارقها النظرات، معطّرة بابتسامة الرضا والقبول، بل والراحة والاطمئنان. عجبًا لهم! هل أوجب الله الحجاب في بلاد دون بلاد؟! ناهيك عن تلك الملابس المخزية التي ترتديها بنات المسلمين هناك، حتى غدت في بعض الأحايين بنات الكفار أكثر حشمة وحياء من بناتنا، ولقد نقل الكثيرون عبارات التعجب والاستغراب من الكفار أنفسهم لما يرون من حال بعض المسلمين في بلادهم، هذا مع إهمال كثير من أولئك الآباء أبناءهم، بعد أن كانوا في المساجد وفي حلقات التحفيظ أصبحوا في بلاد الكفر والفساد، يتركون فيسمعون ويقرؤون ويشاهدون ما شاؤوا، فيرجع الأبناء يحملون لأولئك الكفرة وبلادهم من الإعجاب والتبعية ما الله به عليم، فيضحى قدوته وقدوتها مغنّ أو ممثل فاسق، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].
ألا يخشى من يسافر إلى بلاد الكفار أن يكون سببًا في ردة ابنه عن دين الإسلام؟! قال : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)). ألا يخشى الذي يساكن هؤلاء الكفار أو يعاشرهم أن يتهوَّد أو يتنصَّر أو يشرك أحدُ أبنائه ويتأثر بالكفار ويقلّدهم حتى في عباداتهم؟! أما يدري أنه سيحاسب على ذلك حسابًا عسيرًا؟! يقول : ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) متفق عليه. أي غيرة يحملها من يرى بنته تلبس البنطال الضيق أو القصير وتعبث بشعرها وتزين وجهها يراها الغادي والرائح؟! أين الغيرة عند من يتنقل بأبنائه وبناته بين المسارح والمراقص ودور السينما ليروا العري والمجون سلعة تباع وسجية تحمد؟! ثم يرجعون إلى بلاد المسلمين يتباهون ويفتخرون بما فعلوا، وبئس ما فعلوا، لينشروا دعاية لتلك البلاد الفاسقة الفاجرة، وهم بذلك يحرّضون ويحثون غيرهم من المسلمين للسفر لتلك البلاد تصريحًا أو تلميحًا بما ينشرونه من ثناء ومدح على تلك البلاد، ليَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [النحل: 25]، قال : ((من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا)) رواه مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، كم في السفر إلى بلاد يقل فيها الالتزام من مفاسد عظيمة، خاصة إذا اصطحب الشخص معه عائلته من نساء ومراهقين ومراهقات.
ومن مفاسد هذه الأسفار أن فيها من المعاصي ما الله به عليم، إن أغلب تلك البلاد التي يصطاف بها الناس بلاد تتعرى بها الأجساد المحرمة على الشواطئ وغيرها، وتشرب فيها الخمور كالماء، وينتشر فيها الزنا انتشار النار في الهشيم، هذا كله فضلا عن الجو المادي الذي تقسو به القلوب، ناهيك عن الشبهات العقدية والانحرافات السلوكية، ناهيك أيضا عما ينتشر بين أولئك في تلك البلاد من أمراض معدية قذرة وأوبئة مستعصية مهلكة، ثم ينطلق المراهقون والمراهقات من الصغار والكبار غير مصدقين ما هم فيه من فوضى وإباحية، لا سيما وقد اعتادوا في بلادهم جو المحافظة وقطع الشهوات. إضافة إلى اعتياد الأطفال على رؤية النساء العاريات وسماع المعازف المحرمة، وتدرب المرأة على مخالطة الرجال والجلوس في المطاعم والتسوق بكل حرية والاحتكاك بالأجانب. فيا للعجب! كيف يخلعون الكرامة وينسلخون من الحياء؟! قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
ومن مفاسد السفر إلى تلك البلاد الكافرة أن المسلم لا يستطيع أن يظهر دينه كما أمره الله؛ لأنه ضعيف الشخصية أصلا، ومن يذهب إلى هناك هل لديه شعور بأنه يحمل دينا عظيما يشتمل على كل معاني الخير؛ صحة في الاعتقاد، ونزاهة في العرض، واستقامة في السلوك، وصدقًا في المعاملة، وترفعًا عن الدنايا، وكمالاً في الأخلاق؟! هل من يسافر إلى هناك لديه شعور بأن ما عدا الإسلام انحطاط وهبوط ونزول وسفول إلى مهاوي الرذيلة ومواطن الهلاك، أم أن الغالب يذهب بشعور الإعجاب بالغرب والانبهار بما عندهم؟! لذا تجده من هنا يغير ملابسه، ويتشبه بهم حتى لا يعرف هناك بأنه مسلم، والأمَرّ من هذا أنه يجبر نساءه بالتكشف، نعوذ بالله من الخذلان.
إن بعض من يسافر لتلك البلاد يخجل أن يقيم شعيرة الصلاة أمام الآخرين، بل يستحي أن يقول: هو مسلم، ويخجل أن يقول: هو مؤمن، أو يخجل أن يقيم صلاته وغيره ينظر إليه، لماذا؟ لأنه لم يتمكن الإيمان من قلبه، ويرى أنه إذا فارق ديار الإسلام فلا التزام بصلاة، ولا التزام بأخلاق، ولا محافظة على كرامة، ولا قيام بالواجب.
إنه من العار على المسلمين أن يكونوا في بلاد أعداء الإسلام متجردين من أخلاقهم وقيمهم وفضائلهم وكرامتهم, إن عزة المسلم تكمن في تمسكه بدينه وليس في تقليده للغرب الكافر، فدين الإسلام دين العزة والكرامة، أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [النساء: 139]، ويقول سبحانه: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10]، وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8].
إن المسلم في أي أرض الله متمسك بدينه ثابت عليه، لا يزداد مع رؤية المغريات إلا ثباتا على دينه وتمسكا بهذا الإسلام وشكرا لله على نعمة الهداية، إذا رأى ضلال من ضل وانحطاط من انحط عن الأخلاق ورأى تلك المجتمعات المنحلة في أخلاقها وقيمها المشبهين لبهائم الأنعام حمد الله على أن هداه للإسلام ومن عليه بالإسلام وجعله مؤمنا حقًّا.
(1/5409)
النهي عن سفر المرأة بغير محرم
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
السياحة والسفر, المرأة
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة سفر المرأة بلا محرم. 2- أحاديث في النهي عن سفر المرأة بغير محرم. 3- تفنيد بعض الشبهات في هذه المسألة. 4- صفة المحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن مما انتشر هذه الأيام وكثر في أوساط الناس وتساهلوا به ظاهرة سفر المرأة بغير محرم، فقد نهى الشرع المطهر عن سفر المرأة بغير محرم وشدد في ذلك؛ لما يترتب على ذلك من الفتنة لها ولمن حولها من الرجال، ولما في ذلك من المفاسد العظيمة. ويشهد على ذلك العقل والنقل، لا يشك في ذلك من له أدنى غيرة.
والأحاديث الواردة في ذلك صحيحة لا مجال لتوهِينها ولا لتأويلها، فقد روى الشيخان وغيرهما أن أبا هريرة قال: قال النبي : ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم)) ، وفي لفظ مسلم: ((لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافر امرأة إلا ومعها محرم)) , فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجَت امرأتي حاجة؟ قال: ((اذهب فحج مع امرأتك)).
وكما هو واضح فإن النهي صريح في منع المرأة من السفر مسيرة يوم وليلة بدون محرم لها؛ زوجها أو أبوها أو ابنها أو أخوها ونحوهم من محارمها، بل إن أمر النبي الرجلَ الذي اكتتب في الغزو أن يلحق بأهله الذين خرجوا للحج لهو أبلغ دليل على تحريم سفر المرأة بدون محرم حتى ولو كان سفرها لطاعة وعبادة.
ويتردد على ألسنة بعض الناس أن سفر المرأة وحدها في هذا العصر ضرورة لا بد منها، فظروف العصر تقتضي ذلك، ويحتجون بأن الخلوة تنتفي بسفرها بالطائرة أو القطار ونحوهما، وقد يقول قائلهم: ما المانع إذا أوصلت زوجتي أو قريبتي إلى المطار وتأكدت من ركوبها الطائرة ثم استقبلها أخوها أو قريبها في البلد الآخر؟! والجواب على مثل هذه الشبهة من أوجه:
أولاً: فتنة النساء من أعظم الفتن التي تبتلى بها الأمم، يقول النبي : ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)). في هذا دلالة على أن أعظم فتنة يبتلى بها الرجال هي فتنة النساء، يعني أنها أعظم فتنة من الفتن التي يبتلى بها الناس من بعد وفاة النبي. وقد حذرنا من هذه الفتنة فقال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)). فإذا تركت المرأة تسافر لوحدها وبدون محرم وتعمل مع الرجال جنبًا إلى جنب وتتولى المناصب القيادية فإنّ ذلك نذير أن يصيبنا مثل ما أصاب بني إسرائيل.
ثانياً: إن نظرة فاحصة صادقة في حقيقة المرأة تبين أن المرأة ضعيفة سريعة التأثر سريعة الانجذاب، تحتاج إلى رجل يحميها ويحوطها ويقوم بشؤونها، فإذا انضاف إلى ذلك ضعف الإيمان والوازع الديني في قلوب كثير من الرجال والنساء خاصة في هذا الزمن ازداد الأمر خطورة وعظمت الفتنة، فالذين في قلوبهم مرض كثير، وأصحاب العيون الخائنة أكثر، وفوق ذلك لا رقيب عليها من محارمها ولا حسيب. ومن قال: إن الفتنة تنتفي بركوب الطائرة ونحوها مما يكون النقل فيه جماعيا فقوله مردود بمعارضته للأدلة الشرعية الصحيحة، ولا يخفى هذا على ذي لب، وقد يوجد من بعض ضعاف الإيمان من يستغلون مثل هؤلاء النساء في معاكسات وغيرها مما لا يرضي الله جل وعلا؛ ولهذا جاءت الشريعة بسد الذرائع التي تؤدي إلى هذه الأمور، فنهت عن التبرج، ونهت عن الخلوة، وعن سفر المرأة بلا محرم.
وقد استُغِلت المرأة في كل زمان لاصطياد الرجال؛ ولهذا جاء في الأثر: "إن النساء حبائل الشيطان يصطاد بها الرجال"؛ لأن الرجل أضعف ما يكون أمام المرأة إذا انساق مع هواه ومع شهوته، ولهذا يقول سبحانه وتعالى بعدما ذكر المحرمات: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ، وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن وجوب وجود المحرم مع المرأة حال السفر لأنها ضعيفة في عقلها لينة في طبعها تنساق وراء الكلمات والمظاهر البراقة وتؤثر فيها ويتلاعب بها أشباه الرجال، حتى وإن أنكرت ذلك بعض المسترجلات في هذا الزمن فهي في ذاتها تعرف حقيقة نفسها وتعرف مقدار ضعفها، وهذه سنة الله سبحانه التي لا تتبدل، ولكنها تخشى أن تتهم بالرجعية والتخلف، فحتى تواكب الحضارةَ وتصبح كالمرأة الغربية المتحضرة لا بد أن تسافر وحدها مثلهم وتلبس كلبسهم وتعمل إلى جنب الرجال، وإن لم تفعل ذلك اتهمت بالتخلف.
وأما من يُركبها وسيلة السفر لوحدها كالطائرة مثلاً ويستقبلها قريبها في البلد الآخر فإنه يقال لهذا وأمثاله: إن في هذا تعريضا لها للفتنة ما لا يخفى على عاقل، وما يدريك لو اضطرت الطائرة إلى النزول في بلد آخر غير المكان المقصود إما للتزويد بوقود أو خلل أو غيره، وأكبر من ذلك لو اضطر المسافرون إلى البقاء يوما أو يومين في هذا البلد، فأين المحرم؟! وأين من يباشر إجراءات السكن والأكل والشرب؟!
إن سفر المرأة بغير محرم فيه مخالفة شرعية ومفسدة عظيمة، لأن المرأة فتنة وانفرادها سبب للمحظور، لأن الشيطان يجد السبيل بانفرادها فيغري بها ويدعو إليها.
وكل ما يسمى سفرًا سواء كان طويلاً أو قصيراً فإنه لا يجوز للمرأة أن تسافر فيه وحدها, والأصل بقاء النصوص على ما دلت عليه، وليس لأحد أن يخصّص ويستثني ما لم يخصّصه الشرع, والضرورات تقدر بقدرها، وليس لمعرفة هذه الضرورات إلا العلماء الراسخون، وليس لكل عامي جاهل أن يقول: هذا من الضرورات التي يبيحها الشرع، والأحاديث في ذلك واضحة لا تحتمل، والنهي عام لكل امرأة صغيرة أو كبيرة في كل ما يسمى سفرًا، سواء طويلاً أو قصيراً، سواء بطائرة أو سيارة، والعبرة بالسفر لا بوسيلة السفر، قال : ((لا يخلونّ أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما)). ومن هذا المنطلق ربط الإسلام سفر المرأة بمحرم يصون عرضها ويحمي شرفها ويغار عليها ويحقق رغباتها ويخفف عنها عناءها سفرًا وحضرًا.
والمحرم يشترط فيه أن يكون قد بلغ مبلغ الرجال، فالصبي لا يصلح أن يكون محرمًا؛ لأنه بذاته يحتاج لمن يحميه من الغَير، ومع هذا يوجد من الناس من يتساهل في هذا الأمر، ومع كثرة الحِيَل وعظيم الزّلل وقلة الحياء وكثرة المتساهلين في هذا الأمر، فإن الحكم باق لا يتغير مهما تغيرت المفاهيم والأعراف والعقول.
(1/5410)
الأعاصير
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
إبراهيم بن صالح العجلان
الرياض
22/5/1428
جامع الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلاة النبي لكسوف الشمس. 2- موقف النبي من الظواهر الكونية. 3- الريح والأعاصير رسل إنذار. 4- الريح من جنود الله تعالى. 5- ظاهرة الأعاصير. 6- أخذ الدروس والعبر من هذه الأعاصير. 7- خطورة الاقتصار على التحليل المادي لهذه الظواهر. 8- من أحكام الريح. 9- دعوة للتوبة وإنكار المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقو الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، واعلموا أن تقوى الله الملك الرحمن هي العصمة من البلايا والمنعة من الرزايا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
معاشر المسلمين، ويخرج المصطفى من بيته إلى المسجد مسرعا، يجرّ إزاره خلفه قلقا فزعا، ويأمر المنادي فينادي: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة. ما الذي أفزعه ؟ ما الأمر؟ ما الخبر؟ لقد حدث شيء غريب في هذا الكون، انكسفت الشمس، تغير شكلها، ذهب ضيائها. ويجتمع الصحابة رضي الله عنهم في المسجد ويصطفون خلف نبيهم في صلاة خاشعة، أطال فيها القيام والركوع والسجود، حتى إذا قضى النبي صلاته التفت إلى أصحابه فقال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا)) ، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله؛ أن يزني عبده أو أن تزني أمته. يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)).
عباد الله، هذه إحدى الظواهر الكونية التي وقعت في زمن النبي ، وها هو موقفه عليه الصلاة والسلام في التعامل معها، لم يتعامل معها تعاملا جامدا وتحليلا ماديا، بل ربط ذلك بالخالق وتدبيره في هذا الكون، ثم حذَّر الناس مع هذه التغيرات الكونية من عصيان ربهم وانتهاك محارمه. وهكذا أهل الإيمان، ينبغي أن تكون نظرتهم تجاه هذه الظواهر الكونية تختلف عن غيرهم؛ لأن لهم إيمانًا يربطهم بالله تعالى، ولأن لهم عقيدة تخبرهم بما يجري في هذا الكون كلِّه بقدر الله، فلا يخرج شيء عن إرادته، ولا يجري شيء بدون مشيئته.
ومن الظواهر الكونية التي تستحق أن نقف معها وقفة تأمل وادِّكار وعظة واعتبار ظاهرة الريح والإعصار.
إخوة الإيمان، الريح والإعصار رسل نذر وإنذار من الملك الجبار وآية من آيات الواحد القهار، وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. خوَّف العظيم الجليل عباده بالريح العاتية وأنذرهم بالأعاصير القاصفة، قال تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء: 68، 69]. ولعظمة الريح وعظم شأنها أقسم بها ربها فقال جل في علاه: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات: 1-3]، وجعلها الله تعالى برهانًا دالاً على ربوبيته وألوهيته، قال تعالى: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5]. وحينما سأل نبي الله سليمان ربه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده استجاب الله لطلبه وسخَّر له الريح طائعة لأمره، قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء: 81]، وقال سبحانه: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ: 12]، قال قتادة: "تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار".
هذه الرياح جند طائع لله تعالى، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31]، فإذا شاء الله صيرها رحمة، فجعلها رخاءً ولقاحًا للسحاب، فكانت مبشرات بين يدي رحمته ونزول نعمته، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم: 46]، وإذا شاء الله جعل هذه الرياح نقمة ونكالا، فكانت صرصرا عاصفا وعذابا عقيما، قال تعالى عن قوم عاد لما كفروا واستكبروا: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42].
هذه الريح جعلها الله سلاما لنصرة أوليائه، فحينما زلزل المؤمنون يوم الخندق زلزالا شديدا وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر نصر الله نبيه وأولياءه، فأرسل على أعدائهم ريحا عاتية قلعت خيامهم وأطفأت نارهم وكفأت قدورهم، فارتحلوا بعد ذلك صاغرين متفرقين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9]، وفي هذا يقول النبي : ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)) متفق عليه. والصبا: هي الريح الشرقية، والدبور: الريح الغربية.
إخوة الإيمان، إن ظاهرة الأعاصير حدث مهيب ومنظر مهول، يوجل القلوب ويدهش العقول، فحينما الناس في دنياهم غافلون أو في لهوهم سادرون إذ أذن الله لجند من جنوده أن يتحرك، أذن للهواء الساكن أن يضطرب ويهيج ويموج ويثور ويزمجر، ثم يتوجه كالغضبان إلى اليابسة يجرّ معه الأمواج العالية والسحب المفرقة، لا يقف أمامه شيء إلا ابتلعه، ولا شجر إلا اقتلعه، ولا شاخص إلا صرعه ورماه في مكان سحيق، عروش مبعثرة، وبنايات متناثرة، وأشلاء ممزقة، وجثث متحلّلة هنا وهناك.
يقف الناس مع لجة الإعصار مكلومين مشدوهين نازحين، لا بيوت تنجيهم، ولا أبراج تؤويهم، فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [الأنبياء: 12، 13].
يحدث هذا الدمار كله وذاك الخراب في لحظات سريعة خاطفة، فلا إله إلا الله، ما أعظم قدرة الجبار! مدن عامرة تدب في أرجائها الحياة لجمالها وصفاتها، وفي غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، فأضحت أوطانا موحشة وديارا خاوية وأطلالا بالية، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102].
ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! فهذه الأعاصير يوم تعصف عاصفتها كأنما تخاطب أهل الأرض، تخاطبهم بعظمة الخالق وعجز المخلوق وضعفه، تخاطبهم بأن الأمر لله من قبل ومن بعد، وأن المخلوق مهما طغى وبغى ومهما أوتي من قوة وتقدم فليس بمعجز الله في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير. لقد أصابت هذه الأعاصير دولا عظمى فما أغنت عنهم قوتهم من شيء لما جاء أمر ربك. نعم، نجحت البشرية في رصد هذه الأعاصير وكشف وجهتها وسرعتها، لكنها عجزت مع قوتها العسكرية وأجهزتها العلمية وترسانتها الحربية عجزت عن مواجهة هذا الجندي الإلهي أو تغيير وجهته وتقليل خسائره، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد: 11].
إخوة الإيمان، ومن الحقائق الثابتة التي نطق بها القرآن أن هذه المصائب العامة التي تنزل بالبلاد والعباد إنما هي حصائد ذنوبهم وجزاء ما كسبت أيديهم، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، ويقول الله بعد أن ذكر مصارع الأمم: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40]، ويقول تعالى: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59]. ولما كثرت المعاصي في هذا الزمن وتنوعت كثرت بذلكم المصائب وتسارعت، ولا زلنا بين فترة وأخرى نسمع عن زلازل وبراكين وفيضانات وأعاصير وأوجاع وأمراض.
عباد الله، ومع هذا كله تأبى نفوس أعرضت عن الله وتعامت عن شريعته أن تأخذ من هذه الأعاصير آية وعبرة ومدّكرا، فينسبون هذه الأعاصير إلى ظواهر طبيعية وأسباب مادية، ولا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، ولسان حالهم كما قال من سبقهم: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف: 95]. ويعظم الخطب حينما تكون هذه التحاليل المادية والنظرة اللادينية هو الصوت الأغلب للإعلام في ديار المسلمين، فتشكّك عقول الناس وتغرّر بمفاهيمهم حول هذه النظرة الخاطئة، فيضعف بذلك اتعاظ العباد، ويقل اعتبارهم، يقول الله تعالى ذاما وموبخا من لا يتّعظ بالآيات والمثلات: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43].
نعم، لهذه الأعاصير أسباب وظواهر علمية، ولكن هذا لا يعني التعلق بهذه الأسباب ونسيان خالقها ومسببها، فإن الله تعالى إذا أراد شيئا أوجد سببه ورتب عليه نتيجته كما قال سبحانه: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]. فهذه الأعاصير وغيرها من الكوارث هي من أقدار الله، لا تسيّر نفسها، وإنما تسير بأمر الله ولشيء أراده الله.
إخوة الإيمان، إن هذه الكوارث التي تنذر البشرية لتؤكد لنا بجلاء ووضوح أن حياة الإنسان رهن مشيئة الله، وأن الآجال محجوبة خلف ستار الغيب، وأن كل واحد منا في أي لحظة عرضة للقاء ربه، فلا يدري عبد متى تأتيه منيته أو يحين حينه، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله، وكان للنبي مع هذه الرياح شأن آخر وحال مغايرة، كان إذا رأى مقدّماتها تغير وجهه وقلقت نفسه وتبدّلت حاله، ولا غرو في ذلك فهو عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بربه وأخبر الخلق بأسباب العقوبات والكوارث.
تصوّر لنا أم المؤمنين عائشة حاله بقولها: كان الرسول إذا تخيّلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، إذا أمطرت سرّي عنه، فعرفت ذلك في وجهه، فسألته فقال: ((لعله ـ يا عائشة ـ كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] )).
ومن الأحكام الشرعية مع الريح والأعاصير أنه لا يجوز سبها أو لعنها، قال : ((لا تسبوا الريح، فإنها تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله خيرها وتعوذوا من شرها)) رواه الإمام أحمد بسند حسن.
ومن الأحكام أيضا دعاء الله تعالى عند هبوبها، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن شر ما أرسلت به)) رواه مسلم في صحيحه.
إخوة الإيمان، حري بنا ونحن نرى نذر الجبار هنا وهناك أن تستيقظ نفوسنا من غفلتها وتلين قلوبنا من قسوتها وتجري مدامعنا تعظيما وإجلالا لله تعالى، حري بنا ونحن نرى هذه الفواجع أن نتوب من خطايانا ونصحح مسارنا ونستغفر ربنا، وأن نذكّر أنفسنا ونذكّر الآخرين بعقوبة الجبار وشدة بأسه وغيرته على محارمه. وقعت زلزلة في زمن الخليفة الصالح العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فكتب إلى عماله بالأمصار يأمرهم بالتوبة ويحضّهم على الضراعة لربهم والاستغفار من ذنوبهم.
عباد الله، ومن أهم الأسباب التي تستدفع بها الأمة الكوارث عنها إزالة رايات الفساد والإفساد المستعلنة وإنكار المنكر والأخذ على أيدي السفهاء الذين يخرِقون سفينة مجتمعنا بمسامير الشهوات أو بمطارق الشبهات، الأخذ على أيديهم ومنع فسادهم وإفسادهم حلقة من حلقات الإصلاح وصمام أمان من العقوبات الإلهيه، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]. أما إذا علت المنكرات وكثر سوقها وصلُب عودها ولم يوجد النكير فإن العقوبة عامة سيهلك الأخيار بجريرة الفجار. تسأل زينب بنت جحش رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)).
فاتقوا الله أيها المسلمون، وانظروا إلى هذه الحوادث بعين البصر والبصيرة والعقل والتعقل، لا بعين الشماتة أو التزكية للنفس، فقد يصرف الله العقوبات عمن هو أفجر وأفسق إمهالا ومكرًا بهم، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99].
ولست تأمن عند الصحو فاجئةً من العواصف فيها الخوف والهلع
عباد الله، صلوا بعد ذلك على الهادي البشير والسراج المنير.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد...
(1/5411)
النشاط الصيفي
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, قضايا المجتمع
صالح بن عبد العزيز التويجري
بريدة
13/5/1427
جامع الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات عن اغتنام الإجازة. 2- معالجة مشكلة الفراغ. 3- ضرورة مساهمة الجميع في مشاريع الإجازة. 4- التعامل الصحيح مع أخطاء المشاريع. 5- أهمية الاستماع لوجهات النظر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، إذا كان الحديث يطيب ويطول عن الوقت وأهميته فلأنَّ الله أقسم به ليلا ونهارا صباحا وضحى، ولأنه حياتنا، فماذا يقال عن الوقت في الإجازة حين تغلق المدارس وتفتح كل الأبواب؟! ومن المستفيد من فوضى البرنامج الصيفي؟! تساؤلات كثيرة ملِحّة تحتاج إجابة صادقة وواقعية، فإلى أي شيء يتطلع جمهور الشباب ذكورا وإناثا راشدين ومراهقين وأطفالاً؟ وماذا يدور في مخيلة الأولياء؟ وما البرامج التي تشرف عليها المؤسسات وتسهم بها في استصلاح الشباب واستثمار الفراغ؟ وهل تفي وسائل الإعلام بتقديم برامج مفيدة لتحصين الشباب من التيارات الوافدة المنحرفة في العقيدة والأخلاق؟ ما الوسائل المشروعة والممنوعة؟ وهل الترفيه مقصور على فئة محدودة ورسم البرامج على ضوء مراداتها، أم المجتمع بكل شرائحه يستحقّ العناية بمطالبه وطموحاته المشروعة؟ سل نفسك وفكر في هذه الإجازة وما نصيب الآخرة؟ وكيف تقضى الأوقات وتُنفق الأموال وتحفظ الأوقات؟ فهي أمانة وسوف تسألون.
عباد الله، وماذا عن طول الإجازة وملل النفوس؟! تحدُث المشكِلة ويكمُن الدّاء حين تتّسع أوقاتُ الفراغ في المجتمعاتِ، لا سيما شريحة الطلاب والطالبات، حتّى صارت عبئًا ثقيلاً ومَنفذًا لإهدارِ كثيرٍ مِن المجهودات والطّاقات المثمِرة. إنّ غيابَ الضّبط والتّحليل والتّرشيد لهذه الظاهرة ليمثِّل دليلا بارزًا على وجود شرخٍ في المشروع الحضاريّ، وغير بعيدٍ أن تؤتَى الأمّة المسلمة من قبله، وإنّ عدمَ وعينا بخطورة هذا المسلك تجاهَ أوقات الفراغ وعدَم العناية بالمادّة المناسبَة لشغل تلك الأوقات في استغلال العمليّات التنمويّة والفكريّة والاقتصاديّة البنَّاءة لجديرٌ بأن يقلِبَ صورتَه إلى مِعوَل هدم يضاف إلى غيره من المعاول، من حيثُ نشعر أو لا نشعر.
عباد الله، إن معالجتنا لمشكلة الفراغ في الصيف ينبغي أن تنطلق من مسلَّمَتين أساسيتين وهما: أنّ هذا الوقت هام بالنسبة للشباب، وأن الشباب في حاجة إلى اكتساب مهارات أساسية في هذا الوقت بالذات لأن الأوقات الأخرى مليئة بمسؤولياتها.
إنَّ تحديدَ المنطلق سيلزمنا بتغيير تصوّراتنا وتصورات شبابنا حول الصيف والفراغ، وذلك لن يكون أمرًا سهلا يعالج من خلال مقالة في الصحف أو خطبة منبر، ولكنه يحتاج إلى جهود منظمة تبدأ من تحديد تصور واضح، وترحل الهموم إلى الشباب ليتفاعل معها ويستوعبها ويصحح تصوراته السابقة، ومن ثم توضع الإجراءات العملية لعلاج المشكلة، وذلك بإعادة تنظيم برامج الأنشطة الصيفية القائمة، ونصبح كلنا مستفيدين، أما أن نقوم بالتفكير نيابة عنهم ونتولى عناء الإقناع وفي النهاية هم لا يشكرون حين فرضت عليهم الوصاية وشلّت قواهم الفكرية والعضلية عن المشاركة في مرادهم فهذا لا يجدي. وكما ندعم الغذاء البدني يجب علينا دعم الغذاء الروحي، فالعالم بعلمه والمدرس برأيه والغني بماله، وسينعم أهل كل حي بالهدوء والسكينة، وتختفي التجمعات الفارغة والعبث الذي يزعج المارة، ولكل جهة من الجهات الأمنية والتربوية والاجتماعية انتهاءً بأولياء الأمور نصيب في تحمل مسؤوليته وأداء دوره وحضوره الفعّال.
عباد الله، ليس الشأن أن نحسن جمع الناس على أي شيء ولو على العبث، ولكن ماذا ستعطي وتقدم؟ وكيف يكون تفريقهم؟ لأن جمع الشتات بلا توجيه تقاربٌ بين جوانب الضعف بين الناس، ولو تولى كل قوم سفهاءَهم لكان خيرًا من جمع بعضهم إلى بعض فتفقد السيطرة وتلقح المفاسد بعضها.
يا ولي الأمر، إذا كان أولادك صلحاء فلماذا تتصور صلاح الآخرين؟! وإذا كنت قويًا حاضرًا فطنًا فهل كل الآباء بهذا المستوى؟! نعم، لا يكفي أن توافق على المشاركة في أي نشاط؛ بل كن على تواصل معه واطلاع على مجرياته وبرامجه، بداية من حلق التحفيظ إلى المراكز ومرورًا بالمهرجانات الصيفية بعامة، فليس الأولاد عبئًا تضعه عن كاهلك أو يبلى به الآخرون وفي النهاية يلامُ العاملون. وإذا كانت الحيطة والضوابط لا تعني الشك والريبة فإن الثقة لا تعني الفوضى والاتكالية، وكلنا معنيّ بهذا الأمر وإن اختلفت مواقع التأثير ومقدار المشاركة.
عباد الله، الخطأ في أي مشروع لا يعني إغلاقه؛ لأن باب سد الذرائع واسع بمفهوم وضيق بمفهوم، وقد يصل إلى تعطيل الحركة، ولأن تقليل النوافذ يضيق مجالات التنفس الطبيعي، وتعطيل المنافذ يربي في النفوس كسر الحواجز، وقد تحقق حين تمنح الثقة الواعية من المكاسب أضعافُ ما تصرف من تكاليف الرقابة.
عذرًا أيها الناقدون، نسمع ونقرأ بين فينة وأخرى أقلامًا وألسنة حدادًا تهرش في كل جهد، وتحاكم إلى الصور المثلى، وتبغي أعلى نسب النجاح، وليس هذا فحسب؛ بل ترى أن الخطوة الأولى والحل السريع للتخلص من تبعات المناصحة المسارعة إلى الإيقاف والإجهاض. وهذا نوع من ضيق الأفق، وفقد آلة التحاور مع الآخرين، وهي غالبًا بضاعة المتفرجين وأصحاب الفرضيات، أما الذين باشروا الأعمال في الميدان وكانت لهم سابقة في معالجة الناس فهم قبل هذا ومعه يقدرون لكل عامل جهدَه ويتفهّمون الخطأ بملابساته ويتيحون فرصًا للمعاذير والمعالجة، وفي النهاية يتحول الجميع إلى أصحاب همٍّ ومشاركة فاعلة ومشروع متنوع العطاءات، وتستقر الرؤى على أرضية مشتركة.
نعم، هناك أخطاء، وتوجد ثغرات وتجاوزات في كل عمل بشري، ولكن المعوّل على القصد والهدف مع كثرة الصواب، والنائم وحده هو الذي لا يتعثر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المشرفون على الأنشطة والمتنفّذون في كل مجالات الأمة، أنتم لا تعملون لصالحكم فحسب، ولستم أغنياء عن مناصحة الأمناء؛ ولهذا من حقكم على أفراد المجتمع التواصل بالرأي والمشورة والتقويم الهادف، وأن يتحملوا معكم جزءًا من المسؤولية ويستمتعوا معكم بلذة النجاح، ومن حقهم عليكم أن تسمعوا صوتهم وأن تتفهموا وجهات نظرهم وأن تعذروهم في أسلوبهم ما دام القصد متفقًا عليه، فليس المجتمع بأجمعه مثقفًا أو معنيًا بتنميق عبارات الانتقاد، هم آباؤنا وإخواننا ومن مولدات ثقافتنا المحلية، فلِمَ العتب والإقصاء لمجرد خشونة التعبير أو غيرة ظاهرة في نبرة العبارة؟! إنّ من كمالات المسؤول أن يستوعب المخالف ويستصحب وقوعه في الخطأ.
أيها العاملون في الميدان، أعانكم الله وسددكم وأجركم على الله، فلا تتقاضوا على أعمالكم من الناس شكورًا.
إن استماع وجهات النظر لا يعني وجوب الأخذ بها بقدر ما يعني شراكة الآخرين في تحمل المسؤولية وتوليد الفكرة الناضجة من مخاض الحوار والمناقشة. إنك حين ترفض أن تسمع وتبذل الجهد في تصميت الناس وتنطلق من رأيك الفردي أو حرفية النظام لا روحه وفحواه ومغزاه تكون أحادي النظرة ردي الرؤية سلبي التواصل ضيق العطن، وقد يقال عنك: عنيد متسلط. وعندها تخسر الآخرين وما لديهم من عطاءات بل وتحوّلهم إلى خصوم يفتّشون عن بقية عيوبك فهل تتسع صدورنا لبعضنا ونحسن الظن بمقاصد إخواننا وأهلنا ونفترض الخطأ قبل الاتهام بالسوء ونشتغل بالفكرة عن المفكّر ونفرح بالنقد كما نفرح بالثناء والإطراء ونخلص إلى نتائج عملية وتوصيات واقعية بدلاً من القصف الفوريّ والمصادرة العاصفة والتهوين من الغير واحتكار الحقيقة؟!
إن الأنشطة الصيفية والمهرجانات الربيعية وكل نشاط لا منهجيّ يجب أن لا يكون وليد اللحظة الحاضرة، ولا نتعامل معه بأسلوب إدارة الأزمات، بل يجب أن يحال إلى مراكز الدراسات والبحوث والاستشارات لتقديم دراسات مستوفية تخضع لنظام الاستبيان ورصد الرؤى وتحديد المشكلة وطرح الحلول والبناء التراكمي واستهداف الشرائح الاجتماعية كلها وإعفاء المجتمع من معرَّة الطفرات والارتجال والمجازفة بمصير الناس ماليًا واجتماعيًا وأخلاقيًا مما يفقد الثقة ويبدّد الجهود ويفتّ في العضد.
يا كلَّنا رعاةً ورعية عاملين ومتفرجين وأجراء ومحتسبين، نحن في النهاية فئة من المسلمين الذين يتحدث عنهم الناس في الدنيا، فنحن الذين تكتب عنا التقارير في مؤتمرات العالم أجمع، ونحن الذين نقابل أمم الأرض من حيث كونهم على ضلال ونحن على هدى، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]، ونحن أمة الإجابة والبقية أمّة دعوة، ونحن أصحاب أكبر مشروع حضاري على وجه الأرض ولا فخر، مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [الأنعام: 38]. فلم التطاحن ونحن في قارب واحد؟! ولم التعارض ونحن في اتجاه واحد؟! ولئن كانت الكعبة بناءة واحدة محدودة فإن القبلة ما بين المشرق والمغرب، وهي ما بين الشمال والجنوب، فلم الضيق والتضييق؟! ولم الإسقاط والالتقاط؟!
يا نحن جميعًا، لا مشاحة في الاصطلاح، ولا مضايقة لمشاهدة القمر، فكل الطرق تؤدي إلى مكة، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148]، ولا تثريب على أحد فيما يحسن ويستطيع، والسواد الأعظم من المسلمين من القاع إلى القمة في الحراسة وفي الرئاسة، لا غنى بنا عن بعضنا، فلنكن أمة واحدة كما أمر الله.
اللهم صل على السراج المنير وعلى آله وصحابته والتابعين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك واخذل المشركين، وأبطل حيل المفسدين، وارزقنا البصيرة في الدين. اللهم توفنا على الإسلام والسنة غير مغيرين ولا مبدلين، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا، وألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واجعلنا من عبادك الصالحين...
(1/5412)
رجال الحسبة وإرجاف المرتابين
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
29/5/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بداية الإسلام. 2- انتشار الإسلام وعزته. 3- نابتة النفاق والخيانة. 4- طعن مرتزقة الصحافة في جهاز الهيئة. 5- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضله. 6- من إنجازات رجال الحسبة. 7- الكيل بمكيالين. 8- مفاسد ترك الحسبة. 9- سبيل النصح والإصلاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنها وَصِيَّتُهُ تَعَالى لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ: وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِن تَكفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، رَوَى الإمَامُ مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((بَدَأَ الإِسلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبى لِلغُرَبَاءِ)).
وَكَمَا أَخبرَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَقَد بَدَأَ الإِسلامُ في مَكَّةَ غَرِيبًا، وَاستقبَلَتهُ قُرَيشٌ بِالاستِغرَابِ وَالاستِنكَارِ، وَاتَّهَمُوا صَاحِبَ الرِّسَالَةِ وَسَخِرُوا مِنهُ وَتَهَكَّمُوا بِهِ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنُونٌ ، وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ، بَل قَالُوا أَضغَاثُ أَحلاَمٍ بَلِ افتَرَاهُ بَل هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرسِلَ الأَوَّلُونَ ، وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُكُم وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفكٌ مُفتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلحَقِّ لَمَّا جَاءهُم إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحرٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ.
وَهَكَذَا ظَلَّ أُولَئِكَ القَومُ يَستَهزِئُونَ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَى المُسلِمِينَ وَيُشَدِّدُونَ، حتى قَيَّضَ اللهُ لِلدِّينِ مَن آزَرَهُ وَنَشَرَهُ، وَبَعَثَ لِنَبِيِّهِ مَن آوَاهُ وَنَصَرَهُ، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانيَ اثنَينِ إِذْ هُمَا في الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وَظَلَّ الإِسلامُ بَعدَ ذَلِكَ قُرُونًا وَهُوَ شَامِخٌ مَنصُورٌ، وَتَوَالَت دُوَلُهُ عَزِيزَةً دَولَةً بَعدَ أُخرَى، وَتَتَابَعَ رِجَالُهُ وَنَاصِرُوهُ وَالمُجَاهِدُونَ دُونَهُ، حتى قَامَتِ الدَّولَةُ السُّعُودِيَّةُ مُنذُ قِيَامِهَا وَالدِّينُ دُستُورُهَا، فَعَمِلَ مُلُوكُهَا وَعُلَمَاؤُهَا عَلَى مُنَاصَرَةِ الدِّينِ، وَأَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَشرَهُ وَالذَّبَّ عَنهُ وَالدَّعوَةَ إِلى سَبِيلِهِ، وَأَلزَمُوا النَّاسَ بِهِ وَعَامَلُوهُم بِأَحكَامِهِ، حتى صَارَ قَدرُهُ في القُلُوبِ عَالِيًا، وَشَأنُهُ في الصُّدُورِ قَوِيًّا، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَسِيرُونَ عَلَى ذَلِكَ عن رِضًا وَيَقِينٍ، مُسلِمِينَ مُستَسلِمِينَ، مُؤمِنِينَ بِأَنْ لا أَحسَنَ مِنَ اللهِ حُكمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ، لا يُمَارُونَ في حُسنِ الشَّرِيعَةِ وَلا يُجَادِلُونَ في كَمَالِهَا، حتى ظَهَرَت عَلَى السَّاحَةِ شَرَاذِمُ مِنَ الضَّالِّينَ الجَهَلَةِ وَالمُنَافِقِينَ الخَوَنَةِ، وَلا سِيَّمَا ممَّن تَوَلَّوا زِمَامَ الصَّحَافَةِ وَتَسَلَّمُوا أَقلامَ الكِتَابَةِ، فَجَعَلُوا يَستَنكِرُونَ عَلَى المُسلِمِينَ أُمُورًا عَلِمُوهَا مِن دِينِهِم بِالضَّرُورَةِ، وَأَخَذُوا يَعِيبُونَ عَلَيهِم تَمَسُّكَهُم بِسُنَنٍ مَشهُورَةٍ، وَشَرَعُوا يُسَفِّهُونَ أَحلامَ القَابِضِينَ عَلَى دِينِهِم وَيسخَرُونَ مِنهُم، وَتَوَسَّعُوا في نَقدِ الثَّابِتِينَ عَلَى قِيَمِهِم بِلا وَازِعٍ مِن دِينٍ وَلا رَادِعٍ مِن حَيَاءٍ، حتى عَادَ الإِسلامُ غَرِيبًا عِندَ بَعضِ النَّاسِ كَمَا بَدَأَ، وَصَارَ بَعضُهُم يَنظُرُ إِلى مَن يَتَمَسَّكُ بِهِ نَظرَةً خَائِنَةً، أَو يَضَعُ حَولَهُ عَلامَاتِ الاستِفهَامِ وَيَتَّهِمُهُ، أَو يَصِمُهُ بِالإِرهَابِ وَيَستَنكِرُ مِنهُ مَا يَفعَلُهُ، مِن غَيرِ نَظَرٍ إِلى مَدَى شَرعِيَّةِ مَا يَفعَلُهُ، أَو تَأَكُّدٍ مِن كَونِهِ ممَّا جَاءَ في الشَّرعِ أَو لا.
وَإِنَّ ممَّا كَثُرَ الخَوضُ فِيهِ مِن مُرتَزِقَةِ الصَّحَافَةِ في الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ وَشَرَّقُوا فِيهِ وَغَرَّبُوا وَتَكَلَّمُوا فِيهِ عَن غَيرِ عِلمٍ وَتَعَرَّضُوا لَهُ بِلا بَصِيرَةٍ فَرِيضَةَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وِالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ، تِلكَ الشَّعِيرَةُ العَظِيمَةُ وَالسُّنَّةُ الكَرِيمَةُ التي جَاءَ في كِتَابِ اللهِ مَدحُ الأُمَّةِ بها، وَوَصفُهَا بِالخَيرِيَّةِ بِقِيَامِهَا بها، وَرُتِّبَ عَلَى قِيَامِهَا بها نَجَاحُهَا وَفَلاحُهَا، وَوُعِدَت إِذَا هِيَ قَامَت بها بِالرَّحمَةِ وَالنَّصرِ وَالتَّمكِينِ، وَبُشِّرَ القَائِمُونَ بها بِالجَنَّةِ، بَل جَاءَ الأَمرُ بها صَرِيحًا مُحكَمًا، قال سُبحَانَهُ: وَلْتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ، وقال جل وعلا: كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم مِنهُمُ المُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ ، وقال تعالى: وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وقال جل وعلا في وَصفِ المُؤمِنِينَ وَقَد بَشَّرَهُم بِالجَنَّةِ: التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ ، وقال سُبحَانَهُ: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فإِنَّ ممَّا زَادَ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ عُلُوًّا وَشَرَفًا وَرَفَعَهَا مَكَانَةً وَقَدرًا أَنَّ اللهَ جل وعلا وَصَفَ بها أَشرَفَ خَلقِهِ وَأَكرَمَ رُسُلِهِ، وَجَعَلَهَا مِن كَبِيرِ وَظَائِفِهِ وَجَلِيلِ أَعمَالِهِ، قال سُبحَانَهُ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ.
أَيَّهُا المُسلِمُونَ، إِنَّ شَعِيرَةً كَهَذِهِ الشَّعِيرَةِ العَظِيمَةِ التي نَزَلَ وُجُوبُهَا في القُرآنِ صَرِيحًا وَوُفِّيَ أَهلُهَا مِن رَبِّهِم ثَنَاءً وَمَدِيحًا وَوُصِفَ بها محمدُ بنُ عَبدِ اللهِ، إِنها لَجَدِيرَةٌ بِأَن يُفتَخَرَ بها ويُتَشَرَّفَ، وَأَن يَرفَعَ أَهلُ هَذِهِ البِلادِ رُؤُوسَهُم بِوُجُودِ جِهَازٍ مُستَقِلٍّ يَقُومُ بها، لا أَن يَفتَحَ النَّاعِقُونَ أَفوَاهَهُم في التَّقلِيلِ مِنهَا أَوِ التَّشكِيكِ في أَهمِيَّتِهَا، أَو يَجعَلُوا مَا يَقَعُ مِنَ القَائِمِينَ عَلَيهَا مِن أَخطَاءٍ بَشَرِيَّةٍ مَادَّةً لِتَهَكُّمِهِم وَتَنَدُّرِهِم، أَو مُنطَلَقًا لِشَنِّ حَربٍ كَلامِيَّةٍ عَقِيمَةٍ وَمُجَادَلاتٍ لِسَانِيَّةٍ سَلِيطَةٍ، تُلقَى فِيهَا التُّهَمُ عَلَى رِجَالِ الحِسبَةِ جُزَافًا، وَتُكَالُ لهم الشَّتَائِمُ اعتِبَاطًا، وَيُرَكَّبُ عَلَيهِم مَا فَعَلُوهُ وَمَا لم يَفعَلُوهُ، ثم يُنَادَى بِحَلِّ هَذَا الجِهَازِ أَو إِلغَائِهِ أَو تَحجِيمِ عَمَلِهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، كَم نَقرَأُ في الصُّحُفِ وَنُطَالِعُ في وَسَائِلِ الإِعلامِ مِن وَكرِ دَعَارَةٍ حَطَّمَتهُ الهَيئَةُ، أَو إِركَابٍ غَيرِ مَشرُوعٍ كَشَفَتهُ الهَيئَةُ، أَو عَمَلِيَّةِ اختِطَافٍ أَحبَطَتهَا الهَيئَةُ! كَم مِن مَصنَعِ خُمُورٍ أُبطِلَ! وَكَم مِن شَرِيطِ فَسَادٍ صُودِرَ! كَم يَأمُرُ رِجَالُ الحِسبَةِ بِالصَّلاةِ! وَكَم يُرَاقِبُونَ الأَسوَاقَ عَنِ الفََسَادِ! وَوَاللهِ، لَو أُنصِفُوا وَأُعطُوا مِن حَقِّهِم جُزءًا لَحُمِلُوا فَوقَ الرُّؤُوسِ تَبجِيلاً وَتَقدِيرًا، وَلَتَوَالَت عَلَيهِم شَهَادَاتُ الشُّكرِ دَعمًا وَتَشجِيعًا، لَكِنَّهُم لَمَّا حَالُوا بَينَ أَهلِ الشَّهَوَاتِ وَشَهَوَاتِهِم وَمَنَعُوا مُرَوِّجِي الفَسَادِ مِن إِفسَادِهِم وَوَقَفُوا في وُجُوهِ العُصَاةِ وَالمُنَافِقِينَ حُورِبُوا مِن أَجلِ ذَلِكَ وَعُودُوا، وَكُرِهُوا بِسَبَبِهِ وَأُبغِضُوا، وَصَدَقَ اللهُ تعالى: وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا.
وَاللهِ، مَا يُرِيدُ أَصحَابُ الشَّهَوَاتِ إِلاَّ أَن يُفتَحَ لهم البَابُ عَلَى مِصرَاعَيهِ، وَيُترَكَ لهم الشَّأنُ لِيَعِيثُوا في البِلادِ فَسَادًا، وَإِلاَّ لَو كَانُوا صَادِقِينَ وَلأُمَّتِهِم نَاصِحِينَ لَبَذَلُوا النَّصِيحَةَ لِلقَائِمِينَ على جِهَازِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ سِرًّا، وَلَكَاتَبُوهُم وَخَاطَبُوهُم بِمَا يَرونَهُ، أَمَّا أَن يُعَمِّمُوا وَقَائِعَ عَينٍ وَأَخطَاءً يَسِيرَةً وَيَنفُخُوا فِيهَا وَيُكَبِّرُوهَا وَيُسَلِّطُوا الضَّوءَ عَلَيهَا ثم يُطَالِبُوا بِسَبَبِهَا بِحَلِّ جِهَازِ الهَيئَةِ وَإِلغَائِهِ فَتِلكَ خَدِيعَةٌ مَا بَعدَهَا خَدِيعَةٌ، بَل هِيَ حَربٌ مُعلَنَةٌ وَمَكرٌ ظَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَمَتى كَانَ خَطَأُ طَبِيبٍ دَاعِيًا لإِلغَاءِ وِزَارَةِ الصِّحَّةِ مَثَلاً؟! وَهَل سَمِعنَا بِمَن يَدعُو لإِلغَاءِ وِزَارَةِ التَّعلِيمِ لأَنَّ مُعَلِّمًا أَخطَأَ؟! وَمَن الذِي يَجرُؤُ عَلَى المُطَالَبَةِ بِحَلِّ إِدَارَةِ الأَمنِ لِخَطَأِ جُندِيٍّ أَو تَجَاوُزِ ضَابِطٍ أَو إِخلالِ أَيِّ فَردٍ بِعَمَلِهِ؟! لَكِنَّهَا انتِقَائِيَّةٌ بَغِيضَةٌ مَقِيتَةٌ، لَكِنَّهُ اتِّبَاعُ الهَوَى لِتَحقِيقِ الشَّهَوَاتِ، لَكِنَّهَا الحَربُ عَلَى الخَيرِ وَأَهلِهِ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِن دُنيًا مُؤْثَرَةٍ وَهَوًى مُتَّبَعٍ وَمِن إِعجَابِ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُم وَاللهُ يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ إِنَّ اللهَ يَعلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَاحذَرُوا أَسبَابَ سَخَطِ رَبِّكُم جَلَّ وعلا، فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ عَدَمَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ وَالرِّضَا بِالمُنكَرَاتِ وَالسَّمَاح لها بِالانتِشَارِ وَغَضَّ النَّظَرِ عَنهَا وَطَأطَأَةَ الرُّؤُوسِ لها مَا هُوَ إِلاَّ سُمٌّ تُمَاتُ بِهِ القُلُوبُ المُؤمِنَةُ الحَيَّةُ، حتى تَحُلَّ مَكَانَهَا في الصُّدُورِ قُلُوبٌ مُنَافِقَةٌ مَيِّتَةٌ، تَتَّبِعُ أَهوَاءَها بِغَيرِ عِلمٍ، وَتَبحَثُ عَن شَهَوَاتِهَا دُونَ عَقلٍ، وَتَستَمِيتُ في حَربِ مَن حَالَ بَينَهَا وَبَينَ شَهَواتِهَا دُونَ تَفكِيرٍ. شَاهِدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسلِمٌ عَن حُذَيفَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمعِتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ، حتى تَصِيرَ عَلَى قَلبَينِ: عَلَى أَبيَضَ مِثلِ الصَّفَا، فَلا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، وَالآخَرُ أَسوَدُ مُربَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ)).
إِنَّنَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ يَجِبُ أَن لاَّ نُضِيفَ إِلى تَقصِيرِنَا في وَاجِبِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ مُنكَرًا آخَرَ بِمُحَارَبَةِ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ أَو بُغضِهِم أَو تَصدِيقِ مَا يُلَفَّقُ ضِدَّ رِجَالِ الحِسبَةِ أَو تَعمِيمِ مَا يَقَعُ فِيهِ بَعضُهُم مِن أَخطَاءٍ أَو تَجَاوُزَاتٍ أَو حُبٍّ لانتِشَارِ المُنكَرِ وَفَرَحٍ بِغِيَابِ المعرُوفِ، وَإِنَّنَا إِنْ فَعَلنَا ذَلِكَ فَقَد شَارَكنَا أَهلَ المُنكَرَاتِ في مُنكَرَاتِهِم وَإِنْ لم نَحضُرْهَا بِأَبدَانِنَا، قال : ((إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ في الأَرضِ كَانَ مَن شَهِدَهَا وَكَرِهَهَا كَمَن غَابَ عَنهَا، وَمَن غَابَ عَنهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَن شَهِدَهَا)) ، وقال عليه الصلاة والسَّلامُ: ((المَرءُ مَعَ مَن أَحَبَّ)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ قَضِيَّةَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ لَيسَت قَضِيَّةً سَهلَة، إِنها تَعني نجَاةَ الأُمَّةِ أَو هَلاكَهَا. إِنَّ القِيَامَ بِالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ مُؤَشِّرٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ وَعُلُوِّ قَدرِ الدِّينِ في القُلُوبِ، وَإِنَّ تَركَهُ لَدَلِيلٌ عَلَى ضَعفِ الإِيمَانِ وَرِقَّةِ الدِّينِ في النُّفُوسِ، قال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ)) ، وقال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَصَارَ بَعضُهُم أَعلاهَا وَبَعضُهُم أَسفَلَهَا، فَكَانَ الذين في أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَن فَوقَهُم فَقَالُوا: لَو أَنَّا خَرَقنَا في نَصِيبِنَا خَرقًا وَلم نُؤذِ مَن فَوقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِن أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا)) ، وقال : ((وَالذي نَفسِي بِيَدِهِ، لَتَأمُرُنَّ بِالمَعرُوفِ وَلَتَنهَوُنَّ عَنِ المُنكَرِ أَو لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِنهُ، ثم تَدعُونَهُ فَلا يَستَجِيبُ لَكُم)) ، وقال عليه الصلاة والسَّلامُ: ((مَا مِن رَجُلٍ يَكُونُ في قَومٍ يُعمَلُ فِيهِم بِالمَعَاصِي يَقدِرُونَ عَلَى أَن يُغَيِّرُوا عَلَيهِ وَلا يُغَيِّرُونَ إِلاَّ أَصابَهُمُ اللهُ مِنهُ بِعِقَابٍ قَبلَ أَن يَمُوتُوا)).
وَأَخِيرًا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، فَإِنَّه وَإِن كان رِجَالُ الحِسبَةِ بَشَرًا يُصِيبُونَ وَيُخطِئُونَ وَيَقَعُونُ فِيمَا يَقَعُونَ فِيهِ وَيَتَجَاوَزُونَ فَإِنَّ الجَرَائِدَ وَالصُّحُفَ لَيسَت هِيَ المَكَانَ المُنَاسِبَ لِتَصحِيحِ أَخطَائِهِم، لا وَاللهِ وَكَلاَّ، فَمَرَاكِزُهُم مَعرُوفَةٌ، وَأَبوَابُ مَسؤُولِيهِم مَفتُوحَةٌ، وَالنَّصِيحَةُ لهم وَاجِبَةٌ، قال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)). فَرَحِمَ اللهُ امرَأً أَعَانَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ أَو سَكَتَ عَنهُم وَتَرَكَهُم في شَأنِهِم، قال : ((وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَسْكُتْ)) ، وقال أَحَدُ السَّلَفِ: "لِيَكُنْ حَظُّ المُؤمِنِ مِنكَ ثَلاثًا: إِنْ لم تَنفَعْهُ فَلا تَضُرَّهُ، وَإِنْ لم تُفرِحْهُ فَلا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لم تَمدَحْهُ فَلا تَذُمَّهُ".
(1/5413)
الدين النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, قضايا دعوية
عامر بن عيسى اللهو
الدمام
5/2/1428
جامع الأندلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مبايعة النبي أصحابه على النصيحة. 2- أهمية النصيحة ومنزلتها. 3- وجوب النصيحة وتحريم الغش. 4- معنى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. 5- آداب الصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، لما بعث الله محمدًا وآمن به من آمن وصدقوه وأطاعوه كان أول ما يفعله الصحابة الأجلاء هو البيعة، والبيعة هي المعاقدة والمعاهدة على السمع والطاعة والاتباع. وإن من الأمور التي بايع النبي أصحابه عليها وأخذ عليهم العهد فيها النصيحة للمسلمين، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. متفقٌ عليه. وعنه رضي الله عنه أنه قال لمن معه: إني أتيت النبي قلت: أُبايعك على الإسلام، فشرط عليَّ: ((والنصح لكل مسلم)) ، فبايعته على ذلك ثم قال: ورب هذا المسجد، إني لناصح لكم. متفق عليه.
بل إن النبي قد عد النصيحة هي الدين كما جاء في حديث تميم الداري المشهور أن النبي قال: ((الدين النصيحة)). قال الإمام أبو داود رحمه الله صاحب السنن: "إن هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه". قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل عليه السلام، وسمى ذلك كله دينًا" اهـ.
كما أن النبي جعل النصيحة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((حق المسلم على المسلم ست)) ، وذكر منها: ((وإذا استنصحك فانصح له)) رواه مسلم.
فالنصيحة واجبة لكل مسلم، فهي التي يعز الله بها الحق ويخذل بها الباطل وينصر بها المظلوم ويزال بها المنكر ويُدعى بها إلى الخير، فحري بنا ـ معشر المسلمين ـ أن نتمثل هذا الخلق الرفيع والهدي الإسلامي العظيم في وقت قد كثر فيه الغش والخداع والنصب والاحتيال والأثرة وحب الذات على حساب الآخرين، بل لقد تطاول الأمر إلى أبعد من ذلك حتى صار الناصح الأمين يوصف بالسفاهة والحمق، وهذا يذكرنا باتّهام عاد لنبيهم هودٍ عليه السلام حيث قالوا له: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 66-68].
فهذا الغش والخداع ليس من منهج الإسلام في شيء، فحق أخيك ـ أيها المسلم ـ عليك أن تمحض له النصح وتجتهد في إصابة الصواب، وكل على حسبه في النصح، فعلى التاجر النصح لعميله ومن يتعامل معه، فلا يغشّه ولا يخدعه أو يبيعه سلعة معيبة، كما أن على الموظف أن ينصح في التعامل مع مراجعيه، فيسهل أمورهم ويرشدهم إلى ما يحتاجون لإنهاء معاملاتهم، ولا يؤثر أحدًا على حساب أحد، وهكذا المعلم عليه أن ينصح في تعليمه، فلا يدخر وسعًا في إيصال المعلومات إلى الطلاب، وأن لا يتبرم من استشكال أو عدم فهم من بعض الطلاب، وأن يتقي الله فيما أسند إليه من منهج فلا يقصر في أدائه والقيام به على الوجه الأكمل.
وإذا أتينا إلى الوالدين فإن الأمر يعظم في شأن النصيحة إلى الأبناء، فأولى الناس بنصحك ـ أيها الأب ـ وبنصحكِ ـ أيتها الأم ـ هم فلذات الأكباد، فلا ينبغي أن تعرف خيرًا إلاّ وتدلهم عليه وتحثهم إلى المسارعة إليه، ولا شرًا إلا وتحذرهم منه وتمنعهم عنه. وأولى النصائح ما كان مقرّبًا إلى الله تعالى ومحببًا في فعل الخير، قال الحسن رحمه الله عن بعض أصحاب النبي : (إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحبّبون الله إلى عباده ويحبّبون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة). فهل من النصح للأبناء والبنات أن يُحضِر الأب إليهم ما يكون سببًا في غوايتهم وانحرافهم وبعدهم عن الله وعن فعل الخير عن طريق أطباق فضائية دون مراقبة ومتابعة ومنع للشر؟! إن هذا ـ والله ـ يُخشى أن يكون من الغشّ للرعية، وقد جاء عن النبي التحذير من غش الرعية، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله علي الجنة)) متفقٌ عليه، ولفظ البخاري: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة)).
عباد الله، ولو تأملنا في حديث تميم المتقدّم وهو قول النبي : ((الدين النصيحة)) ، فقال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) لوجدنا أنه يحمل معانيَ عظيمة في شأن النصيحة، قال الإمام الخطابي رحمه الله في شرح الحديث: "وأصل النصح في اللغة الخلوص، يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، فمعنى النصيحة لله صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته، والنصيحة لكتابه الإيمان به والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته وبذلُ الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم"، وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: "النصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحقّ وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف ومجانبةُ الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحثّ الأغيار على ذلك" اهـ.
فما ظنكم ـ يا عباد الله ـ بالمجتمع إذا سادت فيه هذه المعاني العظيمة؟! لا شك أنه سيكون مجتمعًا مرحومًا، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، ومع أن النصيحة من أعظم الدين ويجب القيام بها إلا أن لها آدابًا لا بد منها لتقع من المنصوح موقع القبول، فمن ذلك:
1- أن يقصد الناصح بنصيحته وجه الله؛ إذ بهذا القصد يستحق الثواب من الله عز وجل والقبول لنصحه.
2- أن لا يقصد بالنصيحة التشهير بالمنصوح، فإن التشهير أدعى لرد النصيحة، بل يكون الأمر في السر، قال الحافظ ابن رجب: "كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًا"، ومن ذلك بيتا الشافعي المشهوران:
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعه
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
3- ومن الآداب أيضًا في النصيحة أن تكون بلطف وأدب ورفق، فإن هذا مما يزين النصيحة، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم. فانظر إلى من نَصَح بشدة وغلظة كم من باب للخير قد أغلق! وكم من الصدور قد أوغر!
4- ومن ذلك اختيار الوقت المناسب للنصيحة؛ لأن المنصوح قد لا يكون في كل وقت مستعدًا لقبول النصيحة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان رسول الله يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا. متفقٌ عليه. ولا شك أن للقلوب إقبالا وإدبارًا.
وعلى كل حال فعلى الناصح أن يجعل همه كيف يوصل الخير إلى عباد الله فيعملوا به ويناله من الأجر مثلُ أجورهم، لا أن يجعل النصيحة كأنها صخرة على كاهله يريد أن يلقيها ويستريح. فنسأل الله أن يجعلنا هادين مهديين صالحين مصلحين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5414)
وصية للمسافرين
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
أحاديث مشروحة, السياحة والسفر
عامر بن عيسى اللهو
الدمام
29/5/1428
جامع الأندلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص النبي على أمته. 2- وصية النبي للمسافرين. 3- فضل معاذ بن جبل. 4- تقوى الله تعالى في السفر. 5- إتباع السيئة بالحسنة. 6- معاملة الناس بالأخلاق الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله جل وعلا في كتابه الكريم واصفًا رسوله : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، فرسول الله لا يألو جهدًا في نصح أمته والسعي في مصالحهم، بل إنه ـ بأبي هو وأمي ـ يشقّ عليه الأمر الذي يشقّ على أمته ويوقعهم في الحرج والضيق، كيف لا وقد حُفظ عنه عليه الصلاة والسلام في أحاديث متنوعة قوله: ((لولا أن أشق على أمتي...)) ، كما أنه يحبّ لأمته الخير ويسعى جهده في إيصاله إليهم ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان ويكره لهم الشر ويسعى في تنفيرهم عنه، كما أنه شديد الرأفة والرحمة بهم، فهو أرحم بنا من والدينا ومن كل رحيم في هذه الدنيا.
عباد الله، ومن مظاهر رأفته ورحمته بأمته وحرصه على دلالتهم على الخير أنه كان يتعاهدهم بالوصية، فكان يوصيهم ابتداء ويوصيهم إذا طلبوا منه الوصية؛ لأن التواصيَ بالحق من صفات المؤمنين الناجين من الخسارة في الدنيا والآخرة، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 2، 3].
ومن جملة وصاياه وصيته لمن أراد السفر، نذكر ذلك ونحن على أبواب إجازة تكثر فيها الأسفار وتتعدد وجهات المسافرين، فما أحوجنا إلى التمسك بوصية نبينا محمد في أسفار.
وبين أيدينا وصية عظيمة وصّى بها النبيّ معاذ بن جبل رضي الله عنه لما أراد أن يسافر إلى اليمن، وكان معاذ رضي الله عنه من النبي بمنزلة عظيمة، فإنه قال له: ((يا معاذ، والله إني لأحبك)) ، وكان يردفه وراءه، وقال فيه: ((إنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وإنه يحشر قبل العلماء برتوة)) أي: بخطوة. رواه الحاكم. ومن فضله رضي الله عنه أن النبي جعله مفتيا وداعيا وحاكما في أهل اليمن، وكان يشبهه بإبراهيم الخليل، وإبراهيم عليه السلام إمام الناس. فعُلم من ذلك أن هذه الوصية وصيةٌ جامعة مانعة قد حوت الخير كله، فما هذه الوصية؟
روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي قال لمعاذ بن جبل لما بعثه على اليمن: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)). قال ابن رجب رحمه الله: "هذه الوصية جامعة لحقوق الله وحقوق عباده".
نعم يا عباد الله، ما أحوجنا أن نقف مع هذه الوصية ونحن نحزم أمتعتنا ونعزم على السفر حتى يكون سفرُنا مبرورا، فإن كثيرًا من المسافرين يتزود لسفره بالتزود المعتاد المتعارف عليه من تهيئة وسيلة النقل وترتيب الأمتعة وأخذ الأموال، وربما غفلوا عن الزاد الحقيقي كما نبّه الله تعالى المسافرين إلى الحج لهذه القضية المهمة فقال سبحانه وبحمده: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، فالزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه هو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجلّ نعيم.
وهذا ما عناه النبي في هذه الوصية فقال: ((اتق الله حيثما كنت)). التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه، والتقوى من أعظم حقوق الله على العبد. وقد كان النبي إذا بعث أميرًا على سريّة أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله. رواه مسلم. وكان من دعائه في السفر: ((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى)) رواه مسلم.
ولما كان حال معاذ رضي الله عنه حالَ انتقال من مكان إلى مكان أرشده النبي إلى لزوم التقوى على كل حاله فقال: ((اتق الله حيثما كنت)) ، فليست التقوى في بلد دون بلد أو حال دون حال، فكم من الناس من لا تتعدى تقواه حدود بلده، فإذا تجاوز حدود بلده تجاوز معها حدود التقوى، وكم من امرأة تتقي ربها ما دامت بين أهلها ومجتمعها، فإذا حلّقت في الفضاء نزعت حجابها وهتكت سترها نازعة قبل ذلك تقوى الله من قلبها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال : ((تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) متفق عليه. فما أجرأ الخلقَ على ربهم إذا تركوا التقوى، أيظنون أن الله لا يراهم؟!
كتب ابن السمّاك الواعظ إلى أخٍ له فقال: "أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبُك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كلّ حالك في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربِه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرُك، وليكثر منه وجلك، والسلام".
إن العجيب ـ يا عباد الله ـ أن بعض المسافرين ليس لهم قصد من السفر إلا تغيير جوّ الحر اللافح إلى الجوّ البارد العليل، ونسوا أنهم بتركهم لتقوى الله قد عرّضوا أنفسهم لحر شديد لا يطيقونه، قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81].
فالبدار البدار ـ يا عباد الله ـ إلى تحقيق التقوى والتمسك بها، فتقوى الله عوض من كلّ خلف، ليس من تقوى الله خلف.
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، لما كان العبد مأمورًا بالتقوى في السرّ والعلانية مع ما عنده من ضعف في الإرادة وتفريط في التقوى إمّا بترك بعض المأمورات أو بارتكاب بعض المحظورات جاءت الوصية الثانية من النبي لمعاذ رضي الله عنه بقوله: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، فإذا وقع المسافر أو غيره في مخالفة لأمر الله فعليه بالعودةِ والرجوع مباشرة إلى الله تعالى، فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون؛ لذلك قال الرحمن الرحيم في كتابه العزيز: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114].
وقد ذكر العلماء أن الذنوب يزول موجبها بأشياء، منها التوبة والاستغفار، ومنها الأعمال الصالحة من الحسنات الماحية أو الكفارات المقدرة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "اعلم أن العناية بهذا ـ أي: إتباع الحسنات للسيئات ـ من أشدّ ما بالإنسان الحاجة إليه، فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلّص النفوس بإتباع السيئات الحسنات، والحسنات ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيّين من الأعمال والأخلاق والصفات" اهـ.
عباد الله، ثم لما بيّن النبي في هاتين العبارتين حق الله تعالى وضّح حق الناس فقال: ((وخالق الناس بخلق حسن)) ، فالمسافر لا بد أن يختلط مع أناس، ربما لا يعرف أطباعهم وعاداتهم، فعليه أن يعاملهم بالحسنى، وأن يسعهم منه بسط الوجه وكف الأذى.
وليعلم المسافر أنه كالسّفير لبلده في سفره، فالناس يرون في أخلاقه أخلاق البلد الذي جاء منه؛ لذلك كانت التبعة كبيرةً على من سافر من بلاد الحرمين الشريفين ومهبط الوحي أن يُمثّل صورة ناصعة عن بلده بامتثال الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الله تعالى على قدر الطاقة بالعلم والموعظة الحسنة وتوضيح صورة الإسلام بالفعل قبل القول، والله وحده المسؤول أن يحفظ المسلمين في حِلّهم وترحالهم وظعنهم وإقامتهم.
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5415)
السفر: أحكام وآداب
موضوعات عامة
السياحة والسفر
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
11/6/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعداد الناس للسفر. 2- حقيقة السفر. 3- السفر بين القديم والحديث. 4- من فوائد السفر. 5- أصناف المسافرين. 6- شروط السفر إلى بلاد الكفر. 7- التذكير بالسفر إلى الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، مع شدة حر الصيف ولأواء الشمس وهجيرها ومع سخونة الأجواء التي يتصبّب منها الجبين عرقًا يستعدّ كثير من الناس للرحيل والسفر، حجوزات تؤكَّد وتذاكر تقطع، حقائِب تجهّز وأموال ترصد، ييمِّم الأكثر وجوهَهم قِبَل المصائف والبلدان المعتدلة والباردة من أجل التنعّم بأجوائها والاستمتاع بأمطارها والتخفّف من مشاغل الحياة ومتاعبها. وهذا السفر ـ عباد الله ـ وذاك التنقّل في البلدان هو فِطرة فطر الله تعالى النفس البشرية عليها، ففِئة تسافر لتتاجِر، وأخرى لتجاهد، وثالِثة للتعلّم، ورابعة من أجل أداء واجب كحجّ وعمرة وصِلة رحم أو دعوة إلى الله تعالى، ولقد كان العرب في الجاهلية يسافرون ويسيحون في الأرض، فجاء الإسلام فزكّى مبدأ السياحة وقوّاه، بل امتنَّ به على قريش حين ذكّرهم بأنه هيّأ لهم أسباب رِحلتين عظيمتين منتظِمتين: إلى اليمن تارة، وإلى الشام تارة أخرى، فقال سبحانه: لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش: 1، 2].
أيها المسلمون، السّفر هو قطع المسافات والمراحل بنيّة السفر، وسمّي سفرًا لأنّه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان منها خافيًا، روى ابن أبي الدنيا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يثني على رجل فقال: أسافرت معه؟ قال: لا، قال أخالطته؟ قال: لا، قال عمر رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو ما تعرفه.
عباد الله، لقد كان آباؤنا في القديم وأهل الجاهلية من قبلهم مع حاجتهم إلى السفر واضطرارهم إليه أحيانًا يعانون في سلوك سبيله المتاعبَ ويتجرّعون الغصص نظرًا لقلة الإمكانيات وانعدام الأمن وطول المسافات، هذا فضلاً عن مفارقة الأهل والأبناء والأصحاب؛ ولذا قال المصطفى : ((إن السفر قطعة من العذاب)). والعذاب هنا هو الألم الناشئ عن المشقّة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف كما ابن حجر رحمه الله تعالى، ولقد سئل إمام الحرمين: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأنه فيه فرقة الأحباب.
أيها المسلمون، ومع العذاب الذي يصاحب السفر غالبًا إلا أن السفر في هذه الأزمان يختلف عن السفر في قرون مضت، فقد مهّدت الطرق، وجرت عليها الآلات بشتى أنواعها، فهي تسير بهم على الأرض أن شاؤوا، أو تقلّهم الطائرات إن رغبوا، أو تحملهم الفلك في البحر إن أرادوا، مما يؤكّد أهمية شكر الله تعالى على هذه المصنوعات السائرة وتلك الوسائل الباهرة، قال تعالى: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل: 5-8].
عباد الله، ومع عذاب السفر في فرقة الأوطان والبعد عن الأهل والخلان إلا أن فوائدَ السفر ومنافعه تخفّف جزءًا من ذلك العذاب والألم، ولقد أجمل الأوّل بعضًا من تلك المنافع فقال:
تغرّب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خَمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
أيها المسلمون، إن من أعظم فوائد السفر وأكثرها تعلّقًا بالله تعالى معرفة عظمته وقدرته بالنظر إلى ما أبدعه جل وعلا في هذا الكون من حيوان وموات وساكن وذي حركات، يقول الثعالبي رحمه الله تعالى: "من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى ويدعوه شكرًا على نعمه".
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريكَ بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا لروائع الآيات والآثار
عباد الله، ينقسم الناس في السفر إلى قسمين وفسطاطين: قسم أراد بسفره الخروج من الملَل والسآمة والضيق والكآبة، فساح في الأرض تأمّلاً في خلق الله أو تزوّدًا من عِلم رسول الله ، أو قصد بسفره صلة قريب أو أخ في الله تعالى، فهنيئًا لهؤلاء جميعًا تلك الخطوات، وبوركت تلك الرحلات. وقسم آخر اتخذ من السفر سبيلاً للمحرمات والتنكّر للأعراف والعادات، فعاد لبلده بالأوزار والسيئات وغضب ربِّ الأرض والسماوات.
أيها المسلمون، إلى أين الرحيل؟! ولماذا السفر؟! أفي طاعة الله أسفاركم، أم إلى معصية الله ارتحالكم؟ إن كان سفركم إلى طاعة الله وفي منأى عما يسخط الله فامضوا على بركة الله تكلأكم عناية الله، وأمّا إن كان ارتحالكم إلى معصية الله وفي غير طاعة الله ورضاه فاتقوا الله واستحيوا من الإله، واعلموا أن الله كان عليكم رقيبًا.
أيها المسافرون، إن المسلم العاقل هو من أعمل فكره وأخذ من حوادث الناس عبرة، فكم من أناس سافروا طلبًا لاقتراف الحرام وبحثًا عن المعاصي والآثام فكان جزاؤهم الخيبة والخسران؛ أصابتهم الأمراض المعدية، وانتقلت إليهم الجراثيم المستعصية؛ بما كسبت أيديهم وبما اقترفوا من معصية باريهم.
أيها المسلمون، من الناس من يطلق لنفسه وأسرته العنان في السفر إلى بلاد موبوءة ومناطق مشبوهة، ليفتن نفسه بالشهوات المحرّمة والأفعال الآثمة، في مواخير الفجور والزنا وحانات الغيّ والخنا. فيا من أخفيت نواياك في سفرك عن البشر وقصدت مكانًا لا تقع فيه تحت عين ونظر، ألا تخشى سطوة ربّ البشر وأنت تعامله بالقبائح وتبارزه بالفضائح؟!
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
عباد الله، لقد أصبح السفر إلى الخارج مصيبة تضاف إلى رصيد الأمة التي تتابعت عليها المصائب، وليت الأمر يتوقّف عند ذهاب الأولياء فقط، بل وصل الأمر ببعض الأولياء أن يرسلوا إلى تلك الديار البائسة فلذات أكبادهم ومهَج نفوسهم، وكأنهم بمعزل عما يجري ويحدث في تلك البلدان من سيّئ الأعمال وقبيح الخصال. ولقد أوضح علماء الإسلام شروطَ إباحة سفر المرء إلى بلاد غير المسلمين: فأولها: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، وثانيها: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، وثالثها: الضرورة الشرعية كعلاج ونحوه.
فيا أيها الآباء والأولياء، الله الله في رعاية الأبناء وحفظ من تحت أيديكم من النساء، واعلموا أنهم أمانة عندكم سوف تسألون عنها، يقول : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
عباد الله، نحن في بلادِ الحرمين لنا خصوصيّة تميّزنا عن غيرنا، فسلوكياتنا محلّ نظر وتقدير العالم كلّه،؛ لذا كما ينبغي أن تتميّز فعالنا، فكذلك ينبغي أن تتميّز سياحتنا عن سياحة الآخرين، وإذا صرفنا الناس عن السفر للخارج فذلك أمر مرغوب ومحمود، لكن شريطة أن لا نقع في المحظور بحجة جذب الناس للسياحة الداخلية، فالحكم الشرعي في الأمر المحرم واحد وإن اختلف الزمان والمكان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد عني الإسلام بالسفر عناية فائقة، فجعل له أحكاما تخصّه من سنن وآداب وواجبات ومحرمات ومكروهات، ينبغي أن لا يغفل عنها كلّ مسافر ولا ينساها كلّ راحل ومهاجر.
أيها المسلمون، حقّ على كل عاقل أن يتذكّر أنه في هذه الدنيا يقطع سفرًا إلى الآخرة، وأن محطة الوصول بعد سفر الدنيا هي الجنة أو النار، وزاد هذا السفر هو التقوى التي هي ثمرة الأعمال الصالحة، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
عباد الله، لقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5416)
منكرات الأفراح
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
20/5/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح بكثرة الزواجات. 2- التحذير من الإسراف والتبذير. 3- تحريم الغناء والمعازف. 4- الغناء المباح في العرس. 5- التحذير من التصوير. 6- منكر اختلاط الرجال بالنساء. 7- تبرج النساء في الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، تسر العين وينشرح القلب وتطيب النفس عندما نرى ونسمع ذلك البناء العظيم الذي سيبدأ بنيانه وأهله يعدون العدة لإقامته وإتيانه، وكيف لا يكون عظيمًا والمولى سبحانه تفضل به منة وإنعامًا ونبيه وجه إليه وحث عليه صيانة للإنسانية وإكراما؟! به يقطع الشر ويشيع الطهر ويحفظ الفرج ويغض البصر، إنه الزواج، آية من آيات الله، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
عباد الله، في أيام الإجازات تكثر الزيجات ولله الحمد والمنة، لكن حال كثير من الأنام في مثل هذه الأيام يتوجب العظة والذكرى نصحًا وإرشادًا لأولي الأحلام والنهى.
إن فرحة الإنسان وسروره بالأفراح التي تعود على الشباب بالعفاف لا تلبث أن تضمحل أو تزول بالكلية نظرًا لما نشاهده بأعيننا وتصل أخباره إلى أسماعنا وربما صنعته أيدينا وأهلينا من منكرات وخطيئات تعج بها أفراحنا وتمحق بركة أعراسنا، فتعالوا ـ عباد الله ـ نلقي الضوء على بعض المخالفات والمنكرات التي تنغّض على أهل الأفراح أفراحهم وربما قلبت الأفراح إلى أتراح والعياذ بالله، فيقال:
المنكر الأول من منكرات الأفراح: الإسراف والتبذير الذي يحصل في كثير من الأفراح، ولقد تعددت صور الإسراف والتبذير وتنوعت مع تقلب السنين والأعوام، ابتداءً من بطاقات الدعوة والمغالاة فيها شكلاً ومضمونًا وعددًا وطباعة، وانتهاءً بقصور الأفراح والمباهاة فيها، بل تطوّر الأمر ببعضهم إلى إقامة حفلات الزفاف بالفنادق بمبالغ طائلة، وهذا كله يهون أمام الإسراف في المطاعم والمشارب حيث لم يعد يكتفَى وخاصّة عند النساء بطعام الوليمة بل هناك ما قبلها وما بعدها أيضًا من لذائذ الأطعمة والحلويات والمشروبات التي لا يكفيها أحيانًا آلاف الريالات.
عباد الله، لقد غدا الزواج عند الشباب مطلبًا عزيزًا، بل أصبح شبحًا مخيفًا، يهابه ولا يجرؤ على القرب منه، يتمناه ولا يكاد يحصّله، حتى إذا طال عليه الأمد وعبثت به الشهوة ورأى الأقران يستسلمون لهذا الواقع المر واحدًا تلو الآخر عقد العزم على اللحاق بهم والاستمتاع بما أحله الله، فلا يجد مناصًا من الوقوع في الديون الباهظة، ولا محيد عن مسالك الإسراف المفتعلة، يتجرع مرارة الإسراف ولا يكاد يسيغها، ويتحمل مؤونة التبذير دينًا على عاتقه يستمر به سنوات وسنوات، ينغّض عليه عيشه وحياته، ويكره معه الزوجة وأهل الزوجة بل والمجتمع من حوله، حيث كانوا سببًا في إذلاله وإهانته وضياع حاضره ومستقبله.
والسؤال أيها المسلمون: من الذي اضطره إلى ذلك وأجبره عليه؟ من الذي أرغمه على الإسراف ودعاه إليه؟ إنه أنا وأنت والمجتمع بأسره حين جعلنا الزواج مجالاً للمفاخرة وميدانًا للمكاثرة، ثم لا نبالي بعد ذلك بمصير النّعم ولا أين يذهب بها، أفي البطون أم إلى القمامات؟ أأَكلها الناس أم أكلتها السباع والعوافي؟ أوزِّعت على المحتاجين أم على صناديق النفايات؟
عباد الله، إن المصيبة كل المصيبة حين لا يكون الإسراف إلا ممن جرب الفاقة وعايش الحاجة وأصابه الفقر وباء بالمسكنة، قد مسّته البأساء والضراء، ثم لما كثر ماله وحسنت حاله تكبر وتجبر وتطاول وتعاظم، لا يقنع بقليل ولا يملأ عينه كثير، وكأنه تناسى أن المنعِم عليه قادر على إعادته إلى حاله الأولى بين غمضة عين وانتباهتها، إنه على كل شيء قدير.
عباد الله، لقد أمرنا رسولنا بالوليمة للعرسِ فقال عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه: ((أولم ولو بشاة)) أخرجه الشيخان، لكن هل يعني ذلك أن نصل إلى ما وصل إليه الحال اليوم من البذخ والإسراف وضياع الأموال؟! كلا، لقد أخبرنا المولى سبحانه في كتابه عن عاقبة الإسراف وبين حال أهله وما لهم فقال سبحانه: يَا بَنِبي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وقال سبحانه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27]، وقال : ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة)).
ثم لنتذكر جميعًا ـ أيها المسلمون ـ إخوةً لنا في الإسلام لا يجدون كسرة الخبز ولا شربة الماء، ولتتذكر النساء كذلك أخواتهن المسلمات اللاتي يبحثن في بيوت النمل عن حبّة القمح ليأكلنها. أين أموالنا عن هؤلاء؟! وبماذا سنجيب ربنا عنهم؟! أم أنه يهون علينا أن ننفق الأموال في سبيل المظاهر الكاذبة ومجاراة الآخرين بينما لا يهون أن ننفقها في سبيل الله تعالى.
دبر العيش بالقليل ليبقى فبقاء القليل بالتدبير
لا تبذر وإن ملكت كثيرًا فزوال الكثير بالتبذير
المنكر الثاني من منكرات الأفراح: إحياء ليلة الزفاف بالغناء الماجن المصاحب لآلات العزف المحرمة، ويستقدم البعض فرقًا غنائية لأجل ذلك، يزعمون أنها إحياء تلك الليلة، وهي في الحقيقة إماتة؛ إذ كيف يمكن أن تحيا الليلة بمعصية الله وبالحرام. إنه والله البلاء والشقاء أن تبدأ أول ليلة في الحياة الزوجية بمعصية الله عز وجل ومخالفة أمر رسوله ، فماذا نتوقع لزواج كانت أول لياليه محاداة لله ولرسوله ؟!
إن تلك الأغنيات تحمل أغلبها الكلمات الماجنة والعبارات الساقطة، بل إنها دعوات مبطّنة للرذيلة وإخلال على رؤوس الأشهاد بالفضيلة، مكبرات الأصوات تَسمع صوتها يخرق الجدران ويدوي في الآذان بكلمات الهوى والحب وما يمليه الشيطان، لقد أقسم ابن مسعود رضي الله عنه بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن لهو الحديث المذكور في قوله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان: 6] أنه الغناء، وقال النبي : ((ليكونون من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) أخرج البخاري. فانظر ـ بارك الله فيك ـ كيف قرن النبي المحرمّات العظيمة الزنا ولبس الحرير على الرجال وشرب الخمر بالمعازف، وبين أنها تُستحَلّ في آخر الزمان كما هو الواقع اليوم والله المستعان، وهذا دليل عظيم على شدة تحريم الغناء وآلات اللهو والمعازف بشتى ألوانها وأشكالها.
عباد الله، إن الذي أباحه الإسلام في الزواج هو الضرب بالدف للنساء فقط مع الغناء المعتاد الحسن الذي ليس فيه دعوة إلى محرم ولا مدح لمحرم ولا مصاحبة لآلات اللهو المحرمة، وذلك مشروط بشروط شرعية أهمها أن يكون بين النساء خاصة، وأن يكون بمعزل عن الرجال، وأن لا تكون أصواتهن عالية، لما في ذلك من الفتنة بصوت المرأة، قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "الغناء في العرس والدف في العرس أمر جائز بل مستحب إذا كان لا يفضي إلى شر، لكن بين النساء خاصة في وقت من الليل، ثم ينتهي بغير سهر أو مكبر صوت، بل بالأغاني المعتادة التي بها مدح للعروس ومدح للزوج بالحق أو أهل العروس أو ما أشبه ذلك من الكلمات التي ليس فيها شر، ويكون بين النساء خاصة ليس معهن أحد من الرجال، ويكون بغير مكبر، هذه لا بأس بها كالعادة المتبعة في عهد النبي وعهد الصحابة، وأما التفاخر بالمطربات وبالأموال الجزيلة للمطربات فهذا منكر لا يجوز، وهكذا بالمكبرات لأنه يحصل به إيذاء للناس" انتهى كلامه رحمه الله.
المنكر الثالث من منكرات الأفراح: التصوير إما التصوير الفوتوغرافي أو الفيديو، حيث يصور الحفل وتصور النساء وهن في أبهى حلة، بل ويحتفظ أهل الحفل بالفلم أو بالصور وفيه صور النساء اللاتي حضرن الحفل والزفاف، وقد تنتقل تلك الصور إلى أرباب الفساد ودعاة الرذيلة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فيستخدمونها في أغراضهم الدنيئة ويستغلونها للتشفي من بعض من يكرهونهم، وقد ينشرونها في مواقع الإنترنت الفاسدة، فما شعورك ـ أيها الأب أو الزوج أو الأخ ـ إذا التقط هؤلاء السفهاء الذين يحملون آلات التصوير صورة لابنتك أو زوجتك أو أمك أو إحدى قريباتك ثم انتشرت تلك الصورة وتلقّفتها الأيدي فأصبحت مثارًا للفتنة والعياذ بالله؟!
عباد الله، كم حصل بهذا المنكر ألا وهو التصوير في الأفراح من فضائح ومفاسد، وكم تهدّمت به من أسر وتفرق به من أزواج، بل كم سفك به من دماء واغتيل به من كرامات، كم ظلم بسببه العديد من النساء المؤمنات الغافلات عما يراد بهن وما يحاك لهن من قبل المفسدين الذين قال الله عنهم: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19].
لا يعجبنك من يصون ثيابه حذر الغبار وعرضه مبذول
ولربما افتقر الفتَى فرأيته دنس الثياب وعرضه مغسول
المنكر الرابع عباد الله: دخول الأزواج واختلاط الرجال والنساء حيث يدخل الزوج على النساء ويجلس بجوار زوجته على ما يسمّى بالمنصّة، فيشاهد النساءَ ويشاهدنه وكلٌّ في أبهى زينته، وفي ذلك من الفتنة ما لا يخفى، حيث يرى الزوج النساء وهن متبرجات متزيّنات، وقد يكون بينهن من هي أفضل وأجمل من زوجته، مما يؤدي إلى ضعف منزلتها في نفسه وتلاعب الشيطان بقلبه وعقله، وكذلك النساء يَرينَ الزوج وهو في أبهى زينَته وجماله، فتقع الفتنة به والعياذ بالله، ناهيكم عما يحدث في بعض قصور الأفراح من دخول المراهقين والمميّزين بحجة صِغَر سنهم وعدم إدراكهم، تقول فاطمة رضي الله عنها: (خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يا عباد الله، إن من أبرز المنكرات التي تقع في الأفراح ما يقع من النساء في هذه الليلة من مخالفات وتجاوزات يعجز المتحدث عن تعدادها وحصرها نظرًا لتنوعها وتجددها يومًا بعد يوم، ومن أبرز ما يقع منهن في ليلة الفرح لبس غير الساتر من الثياب، حتى إن الداخل لأسواقنا ليرى ألبسة عجيبة يستنكر العقلاء فضلاً عن ذوي الإيمان أن تلبسها النساء، ثياب رقيقة، وأخرى عارية تبدي جزءًا من المرأة، وكذا القصيرة والمفتوحة والضيقة التي تصف حجم الأعضاء، والحجة عند النساء أن ذلك هو الموجود في الأسواق ونحن أمام النساء فلا حرج في ذلك، وقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء لمن تلبس ما شاءت وتحتج أنها أمام النساء: قد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في الكشف فعلاوة على أنه لم يدل دليل على جوازه فهو طريق لفتنة المرأة وتشبّه بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) اهـ.
ومن منكرات النساء في يوم الزواج الذهاب إلى محلات تصفيف الشعر ووضع المساحيق وهي تسمى بالكوافيرة، فتدخل المرأة في مكان لا يؤمن عليها فيه، بل قد تصور وهي لا تعلم، وبعضهن تبدي من جسدها ما لا يحل بحجة التنظيف والله المستعان.
عباد الله، إن من المنكرات التي تصاحب الأفراح غالبًا خروج النساء من بيوتهن متطيبات متبرجات وهن في أكمل زينتهن وأبهى حلتهن، ومرورهن على الرجال الأجانب عنهن، بل خلوتهن أحيانًا مع السائقين الأجانب عنهن أدهى من ذلك وأمر، وقد قال المصطفى : ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)) رواه احمد وغيره.
أيها القوم، كم يحدث عند انصراف النساء من تلك القصور من منكرات تتفطر لها الأكباد وترتعد لها الفرائص من هول ما ترى، حين تخرج المرأة حاسرة ذراعيها مبدية لعينيها كاشفة وجهها، أو تخرج بتلك العباءات المطرزة المفتوحة ورائحة العطور تعج منها أمام مرأى ومسمع من الرجال الذين ينتظرون نساءهم على أبواب القصر.
ألا فليتق الله امرؤ من أب أو أخ أو زوج ونحوهم ممّن ولاه الله أمر امرأة أن يتركها تنحرف عن الحشمة والفضيلة والحياء والأدب، ولتتق الله الأمهات فإنهن مسؤولات ولبناتهن ملاصقات ولملابسهن مشاهدات وعليهن الدور الأكبر والحمل الأعظم.
لحد الركبتين تشمرينا بربك أيّ نَهر تعبرينا؟!
فإن الثوب ظل فِي صباح يزيد تقلّصا حينا فحينا
تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربَّما لا تشعرينا
عباد الله، صلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال عز من قائل سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها أولها وآخرها علانيتها وسرها...
(1/5417)
الأعاصير والاختبارات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
محمد بن خالد الخضير
الثقبة
22/5/1428
مسجد ابن حجر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة المصائب والفتن. 2- جنود الله تعالى. 3- قدرة الله تعالى وعظمته. 4- تخويف الله تعالى لعباده بالآيات المرسلة. 5- هدي النبي مع الآيات الكونية. 6- خطر الركون إلى التفسيرات المادية لهذه الآيات. 7- وقفات تربوية بمناسبة الامتحانات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، إن في هذه الدنيا مصائب وفتنًا ومحنًا وزلازل مدمّرة وأعاصير مهلكة وفيضانات مفرّقة، آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورِث الخوفَ والجزع، كم ترَى من شاكٍ، وكم تسمع من لوّام، وكم تبصر من مبتلى.
إن الله سبحانه وتعالى يُري عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا، فالسعيد من تنبه وتاب، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات.
كم نسمع من الحوادث ونشاهد من العبر، حروب في البلاد المجاورة أتلفت أممًا كثيرة وشردت البقية عن ديارهم، يتمت أطفالاً ورمّلت نساءً، وأفقرت أغنياء وأذلت أعزاء، ولا تزال تتوقد نارها ويتطاير شرارها على من حولهم، وغير الحروب هناك كوارث ينزلها الله بالناس، كالعواصف والأعاصير التي تجتاح الأقاليم والمراكب في البحار، والفيضانات التي تغرق القرى والزروع، وهناك حوادث السير في البر والبحر والجو، والتي ينجم عنها موت الجماعات من الناس في لحظة واحدة، وهناك الأمراض الفتاكة المستعصية التي تهدد البشر، وهناك الزلازل، كل ذلك يخوف الله به عباده، ويريهم بعض قوته وقدرته عليهم، ويعرفهم بضعفهم، ويذكرهم بذنوبهم، فهل اعتبرنا؟! هل تذكرنا؟! هل غيرنا من أحوالنا؟!
جنودٌ غير متناهِيَة؛ لأنَّ قدرةَ الله غير متناهية، فالكون كلُّه بإنسِه وجنّه وأرضِه وسمائه وهوائه ومائِه وبَرّه وبحره وكواكبه ونجومِه وكلِّ مخلوقاته ما علِمنا منه وما لم نعلَم كلُّها مسخَّرة بأمرِه، سبحانه يمسك ما يشاء عمّن يشاء، ويرسل ما يشاء إلى من يشاء، وكيف لا تُدرَك عظمةُ الجبار جلّ جلاله وضَعف جبابرة الأرض مهما أوتُوا من قوّة؟! كيف لا تدلُّ على عظمَةِ الجبّار ومنها ما يهلِك أممًا ويدمِّر ديارًا في ثوانٍ وأجزاء من الثواني، ومنها ما ينتقِل عبرَ الماء، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يُرى، ومنها ما لا يُرى؟! نُذُر وآيات وعقوباتٌ وتخوِيفات لا تدفعها القوى، ولا تطيقها الطّاقات، ولا تقدر عليها القدرات، ولا تتمكَّن منها الإمكانات، ولا تفيد فيها الرّاصِدات ولا التنبّؤَات، ولا تصِل إليها المضادّاتُ ولا المُصِدّات، من حيث يحتسِبون ولا يحتَسِبون، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45-47]، أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً.
عبادَ الله، إنها آياتُ الله وأيّامه، تظهر فيها عظمةُ ذي الجلال وقُدرته وقوّته وعظيم سُلطانِه وعِزّته وتمامُ ملكه وأمرِه وتدبيره. إنَّ هذه الحوادثَ والقوارع توقِظ قلوبًا غافلة لتراجعَ توحيدها وإخلاصَها، فلا تشرِك معه في قوَّتِه وقدرته وسلطانِه أحدًا، ويُفيق بعض من غرَّتهم قوّتهم فيتذكَّرون أنَّ الله الذي خلَقَهم هو أشدّ منهم قوّةً.
أيّها المسلِمون، ومن مواقفِ العِبَر والادِّكار في هذهِ الآياتِ والنّذُر ما يرسِل الله فيها من التخويفِ والتّحذير كما قال سبحانه: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]، وقوله في كسوفِ الشمس وخسوفِ القمر: ((إنهما آيتَانِ من آيات الله، يخوِّف الله بهما عباده)).
فكَم من إنسانٍ يرَى آحادَ الناسِ مِن حولِه يُتَخَطّفون ويُقتَلون ويَقرَأ آياتِ الله لكنّه لا يعتبر، فإذا ما رأى مِن هذه الآياتِ الكِبار المخوِّفات تذكَّر وادَّكر، فهي ذِكرى لمن كان له قلب، يستوي في ذلك من حضَرها ومَن شاهدَها ومن وَقع فيها ومن نَجا منها ومن سَمِع بها؛ أعاصيرُ وزلازل وفيضانات وانهيارات وأوبِئة وأمراض من آيات الله وجنودِه، تذكِّر الغافلين وتنذِر الظالمين وتوقِظ المستكبرين ويَعتَبر بها المؤمنون ويرجِع بها المذنبون.
انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى هدي نبيِّكم محمّد وخوفه من ربِّه مع أن الله سبحانه وتعالى قد جعَله أمَنَةً لأصحابه، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33]، ومع هذا كان إذا هبّت الريح الشديدةُ عرِف ذلك في وجهِه، وحين ينعقد الغَمام في السماء ويكون السّحابُ ركامًا يُرَى عليه الصلاة والسلام يقبِل ويُدبِر ويدخل البيتَ ويخرج، فتقول عائشة رضي الله عنها: ما بك يا رسول الله؟! فيقول: ((ما يؤمِّنُني أن يكونَ عذابًا، إنَّ قومًا رأوا ذلك فقالوا: هذا عارِضٌ ممطرنا، فقال الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] )) حتَّى إذا نزَل المطر سرِّيَ عنه.
أيّها المسلمون، وهذه الآيات والحوادث والكوارثُ ولو عُرِفت أسبابها المادّيّة وتفسيراتها العِلمية فلا ينبغي أن يُظَنَّ أن هذا صارفٌ عن كونها آياتٍ وتخويفات والنّظر فيما وراء الأسبابِ والتعليلات من أقدارِ الله وحُكمِه وحِكمَته، فهي آيات الله ومَقَادِره، يقدِّرها متى شاء، ويرسلها كيف شاء، ويمسِكها عمّن يشاء، يعجزُ الخلق عن دفعها ورفعها مهما كانت علومهم ومعارِفهم وقواهم واحتياطاتهُم واستعداداتهم.
عبادَ الله، وإنَّ مما يُخشَى أن يكونَ الركونُ إلى التفسير المادّيّ والاستكانةُ إلى التحرير العِلميّ والبعد عن العِظَة والذكرى من تزيينِ الشيطان، كما في قوله سبحانه: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43]. عياذًا بالله عبادَ الله، تهتزّ البِحار وتتصدَّع الجبال ولا تهتزّ القلوب؟! وترتجف الدّيار ولا ترتجف الأفئدة؟! وتعصِف الرياح ولا تعصِف النفوس؟! وتتزلزَل الأرض ولا يتزلزل ابنُ آدم المخذول؟! يبتَلَون ويفتَنون في كلِّ عام مرّة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تكونوا كأصحابِ نفوسٍ قست قلوبها وغلُظت أكبادها وعظُم عن آياتِ الله حجابها، فلا تعتبر ولا تدّكِر، لا تكونوا من أقوامٍ جاءتهم آياتُ ربهم فكانوا منها يضحَكون، وتأتيهم الآيةُ وهي أكبر مِن أختها فكانوا عنها معرضين.
إنَّ من تأمَّل أحوالَ بعض الناس ومواقفَهم ومسالكهم رأى أمورًا مخيفة؛ فيهم جرأةٌ على حرماتِ الله شديدة، وانتهاك لحرمات الله عظيمة، وتَضييع لأوامره، وتجاوزٌ لحدوده، وتفريطٌ في المسؤوليات في العباداتِ والمعاملات وإضاعةِ الحقوق، فالحذَرَ الحذر ـ رحمكم الله ـ مِن مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى صحابته الأبرار، وآل بيته الطيبين الأطهار، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحشر والقرار.
أما بعد: أيها الناس، في هذه الأيام تشتعل العزائم وتتوقد الهمم وتتضافر الجهود استعدادًا للامتحانات، تتهيأ المدارس والمؤسسات العلمية بجميع مرافقها وأعضائها، ويهتمّ الآباء بتوجيه أبنائهم وتشجيعهم، وينشط الطلاب للمذاكرة سهرًا وجدًا واجتهادًا.
كل عام يتكرر هذا الموقف وهذا المشهد، مشهد دخول الطلاب والطالبات إلى قاعات الامتحانات، هذا المشهد لا بد من الوقوف معه وقفات تربوية مع أبنائنا الطلاب.
أيها الطالب، احرص على بر والديك وطلب الدعاء منهم، واحرص على النوم مبكرًا، واعط نفسك قسطًا من الراحة، وإياك والقلق وعدم الثقة بنفسك، ولا تجعل لوساوس الشيطان عليك سبيلا أو الخواطر السيئة على قلبك، مثل التفكير المستمر بالفشل وعدم النجاح ونحو ذلك، وليكن التفاؤل حاديك في كل أعمالك.
واحذر من مصاحبة البطالين والكسالى، واربأ بنفسك عن مجالستهم، وخاصة أهل المعاصي والموبقات، واعلم أنّ من أقلّ أضرار المعصية عدم التوفيق في أمورك كلها.
واحذر من الغش، واعلم أنها حيلة العاجزين وطريق الفاشلين وصفة قبيحة لا تليق بالمؤمنين، كيف لا والنبي يقول: ((من غشنا فليس منا)) ؟! كيف ترجو السداد والنجاح ونبيك يتبرأ منك نسأل الله السلامة والعافية؟!
وأخيرا، إذا دخلت صالة الامتحان فأكثر من ذكر الله والتبرؤ من حولك وقوتك، ولا تغتر بحافظتك أو جهدك، وتوكل على ربك، واقرأ الأسئلة بهدوء ودون عجلة، ولا تفكر فقط بأن تنهي الأسئلة، بل عليك بالتؤدة والهدوء والمراجعة، فإنها من أهم الأسباب في إتقان الإجابة.
اللهم إنا نسألك التيسير، اللهم يسر أمورنا واشرح صدورنا، ووفق أبناءنا وبناتنا، اللهم اجعلهم مشاعل نور وهداية، وخذ بهم إلى سبيل الرضا والولاية يا أرحم الراحمين
هذا وصلّوا وسلّموا على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله النبيّ الأمّيّ.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/5418)
اغتنام الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
7/6/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوقت. 2- المحاسبة على الأوقات. 3- التحذير من تضييع أوقات الإجازة. 4- الوصية بالرفقة الصالحة. 5- تذكير الآباء والأمهات بمسؤوليتهم. 6- الترفيه المشروع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيَا أيّها الناسُ، اتّقوا الله، فمن اتَّقاه وَقاه وأسعَدَه ولا أشقَاه.
أخِي المسلم، وقتُك هو مزرعَتُك التي تَجني منها الثمارَ، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24].
الوقتُ هو الحياةُ والعُمر الذي هوَ أَغلَى مِن كلّ نفيس، الفلاحُ والسعادةُ في إعمارِ الليالي والأيام بالأعمال الصالحة والطّاعات المتنوّعة، والشقاءُ والخسارةُ في تضييعِ الأوقاتِ وإهمالِ الواجباتِ وإِهدارِ الفَرائِض، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر: 1-3].
أيها المسلمون، حياتُكم عزيزةٌ وأعمارُكم غاليَة ثمينَة، فَالحَذرَ الحذرَ مِن تَضييعِها سُدًى أو تَفوِيتِها في غيرِ هُدى. صَحَّ عن رسولِنا أنه قَالَ: ((لاَ تزول قدَمَا عَبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَل عن أربَع: عن عمرِه فيم أَفناه؟ وعن جِسمِه فيم أَبلاه؟ وعن مالِه مِن أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفَقه؟ وعن عِلمه ماذا عمِل به؟)). يقول الحسنُ البصريّ رحمه الله: "لقد أَدركتُ أقوامًا كانوا أشدَّ حِرصًا على أَوقاتهم من حِرصِكم على دَراهمكم ودنانيركم".
إخوةَ الإسلام، ونحنُ على مَشارفِ إجازةٍ دِراسيّة فإنّه يحسُنُ أن نُذكِّر أنفسَنا بنعمةِ الله ومنَّته علينا وأبناؤُنا وبَناتُنا يعيشون فرحةَ النَّجاح بحَمدِ الله وفضلِه، فلنَكُن حاملين لرسَالتِنا الخالِدَة بتحقِيقِ العبوديّة لله عزّ شأنه، وتطويع النفوس والرَّغبات والشَّهوات للرّزّاق سبحانه، وغَرس القِيَم العالِيَة والأخلاقِ الطَّاهرة في نفوسِنا وواقعِ حَياتنا، ولْنحذَر من حياةِ اللّهو الباطل ومِن حياةِ الذين هم في الرَّذائل غارِقون وللفضائل تاركون.
أيُّها الشبابُ، أَنتم عُنصرُ الأمّة ودليل حيَويَّتها وسبيل نهضَتِها، فمِن الخذلانِ أن تُستَغَلَّ هذه الإجازة في تضييع الأوقاتِ سُدى وإهدارِ اللَّيالي والأيّام في الأمور التّافِهَة والأفعالِ السَّاقطة، فسيِّدُنا ونبيُّنا محَمّد يقول: ((نِعمَتانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ من النَّاس: الصّحّةُ والفَراغ)) رواه البخاري، وابن مَسعود يقول: (مَا نَدِمتُ على شيءٍ نَدَمي على يومٍ غَربَت شمسُه نَقَص فيه أجلي ولم يزدَد فيه عملي).
المسلمُ يغتَنِم وَقتَه في الخَيراتِ ويَعمُرُه بالقُرُبات، فَرَسولنا يَقول: ((اغتَنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: حَيَاتَك قبل موتِك، وصحَّتك قبل سقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وشَبابَك قبل هَرمِك، وغِناك قبلَ فَقرِك)) صحَّحه الحاكم ووافقَه الذهبيّ.
إنَّ هذه الإجازةَ وقتٌ ثمين يجِبُ على الشَّبابِ أن يستغلُّوها فيما يقودُهم إلى علوِّ الهمّة وقوَّة العزيمة؛ في اقتِناص الخيراتِ والمفيدِ من أمور الدّين والدّنيا، وبما يَنفَع أنفسَهم وأمَّتَهم ومجتَمَعاتِهم، وبما يحفَظُ لهم وَسائلَ معاشِهِم وتَدبير شؤونهم؛ حتى تَنالَ الأمّةُ عزَّها ويَعودَ لها مجدُها، وفي سِيَر أسلافِنا عِبَر وعبَرٌ.
أيُّها الطلاب والطّالِبات، في الإجازةِ فرصةٌ عظيمة لتَحقيقِ الأهداف النبِيلة والغاياتِ الطيِّبة دُنيا وأخرى، فاللهَ الله في القرناءِ الصالحين الذين إذا رَأوكَ في قبيحٍ صَدّوك، وإن أبصَروك على جميلٍ أيّدوك وأمدّوك، وليحذرِ الآباءُ والأمّهات أن يجِدوا من هذه الإجازةِ فرصَةً لفتحِ الباب على مِصرَاعَيه لأبنائِهم في تَركِ الواجِبَات وفِعل المحرَّمات أو السّفَر لبلادِ الكفرِ والفجور، وليَحذَر كلُّ مَن استَرعاه الله جلّ وعلا مِن إعانةِ مَن تحتَ رِعَايَتِه في تمهيدِ أسبابِ الانغماس في أوحالِ الضَّلالةِ والأخلاقِ المنحطَّة والسّلوكيّات المنعَوِجَة والتردّي في أوكارِ السّفالة والوقوعِ في مكامِن الإثمِ والبَوار ومَواقِع الفِسق والخَسَار؛ لما ثَبَت في الوَاقعِ خَطرُها وثبَتَ لدَى كلّ غيورٍ شرُّها وضرَرُها بما يدعُو للرّذائل ويُزيِّن الجرائِمَ، فربُّنا جلّ وعلا يخاطِبنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، قال أهل التفسير: "أي: علِّموهم ورَبّوهم وأدّبوهم بما يكون وقايةً لهم من عذابِ الله"، ورسولُنا يقول: ((كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) رواه البخاري.
أيُّها الآباء، احذَروا من الخيانةِ في الأمانةِ بالانسياقِ وراءَ طلباتِ الأبناء دونَ سُؤالٍ عن حلالٍ أو حرام ودونَ رقيب أو حَسيب، وانهَجوا نهجَ نبيِّكم محمّد حينما رسَمَ مَنهجًا واضحًا في عنايتِه بِشبابِ الأمّة حينَما قال لابنِ عمِّه الغُلامِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: ((يَا غُلام، إني أعلِّمك كلمات: احفَظِ الله يحفَظْك، احفَظِ الله تجدْه تجاهَك)). وما أجملَ منهجَ السّلَفِ إذ يقول إبراهيم بن أدهَم رحمه الله: قال لي أبي: يا بنيَّ، اطلب الحديث، فكلما سمعتَ حديثا وحفظتَه فلك دِرهم، قال: فطلبتُ الحديث على هذا.
إخوةَ الإيمان، ولا بأسَ في ديننا من راحةٍ للبدن واستجمامٍ للنفوس في أمورٍ مباحة وسياحَةٍ بريئَة، تدفَع الكلَلَ والملل وتزيل الهمَّ وينفَرِج معها الغمُّ، ولكن حسبَ مَنهجٍ عدلٍ ومسلك وسَط وفقَ قَاعدة: ((القصدَ القصدَ تبلغوا)) ، مِن غيرِ أن يكونَ اللهوُ غايةً كبرى واللعِبُ والمزاح هدفًا عظيمًا؛ بما يعودُ بالتالي إلى مفاسِدَ كبيرةٍ وشرورٍ عظيمة، وإنما يكون ذلك وفقَ ما يحفَظ الطاقاتِ ويضبط المسالِك، من دون أن يكونَ ذلك جالبًا للعجزِ والكسَل والانتكاس في الدَّعَة والإهمال، وإنما لترويحِ القلوب الواعية والألسنة الذاكرة والجوارح العاملة، وبما يحمِي المرءَ مِن عِلَل البطالة ولوثاتِ الفراغ القاتِل، وعلى أَن يحافِظَ الشبابُ على حُسنِ التنظيم، فلا يطغى غيرُ المهمّ على المهمّ، ولا المهمّ على الأهمّ.
فاحفظوا لحظاتِ العمر، واستغلّوا الوقتَ بما ينفَع في العاجِل والآجل، فالنّفسُ ـ كما قال الشّافعيّ رحمه الله ـ إن لم تَشغَلها بالحقِّ أشغَلَتك بالبَاطِل.
أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ، فاستَغفِروه إنّه هوَ الغفور الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ لَه إلهُ الأولين والآخِرين، وأشهَد أنَّ سَيِّدَنا ونَبِيَّنا محَمّدًا عَبده ورسولُه أفضل الأنبياء والمرسَلين، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعَلَى آلِه وأصحابِه أجمعين.
أمّا بعد: فيَا أيّها الناس، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله جلّ وعلا، فهي وصيّةُ الله للأوَّلين والآخِرين.
أيّها الشباب، الشبابُ تيّارٌ مُتدفّق وطاقةٌ متوقِّدة، فالموفَّق مَن ضحَّى بشبابِه مِن أجلِ رِضا خالقِه وبَذَل النّفيسَ في القربِ مِنه ما دامَ شابًّا قويًّا في عمرِ الزهور واكتمالِ القوَى، قال أحَد الشيوخ لشابٍّ: اعمَل قبلَ أن لا تستطيعَ أن تعملَ، فأنا أريد أن أعمل فلا أستطيعُ، إنما في العمل في الشباب؛ ولهذا جاء في السبعةِ الذين يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله: ((وشاب نشأَ في طاعةِ الله)) متفق عليه.
ثمّ إن الله جلّ وعلا أمرنا بأمر عظيمٍ فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/5419)
الإجازة رأس مال فمن يستثمره؟
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
14/6/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي الإجازات الصيفية وأماني الناس. 2- ضرورة استغلال الإجازة الصيفية. 3- نعمة الصحة والفراغ. 4- فرصة الإجازة. 5- رأس مال المسلم. 6- التحذير من منكرات الإجازة الصيفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ الذِي لا عِزَّ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ وَلا نجاةَ إِلاَّ بِتَقوَاهُ، وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، تَذهَبُ إِجَازَةٌ وَتجيءُ أُخرَى، وَتَنتَهِي عُطلَةٌ وَتَبدَأُ ثَانِيَةٌ، وَعِندَ إِقبَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ يُمَنِّي المَرءُ نَفسَهُ بِأَمَانِيَّ كَثِيرَةٍ، وَيَعِدُهَا بِمَوَاعِيدَ مُختَلِفَةٍ، ذَاكَ يَأمَلُ حِفظَ القُرآنِ أَو مَا تَيَسَّرَ مِنهُ، وَهَذَا يَضَعُ في بَرنَامجِهِ أَن يَقرَأَ كِتَابًا أَو يَستَمِعَ لِدُرُوسٍ في أَشرِطَةٍ، وفي النَّاسِ مَن يُخَطِّطُ لِحُضُورِ دَورَاتٍ شَرعِيَّةٍ أَو عِلمِيَّةٍ أَو مَهَارِيَّةٍ، وَفِيهِم مَن يُسَافِرُ بِخَيَالِهِ قَبلَ بَدَنِهِ، وَيُمَتِّعُ خَاطِرَهُ بِقَضَاءِ سَفَرٍ دَاخِلِيٍّ أَو خَارِجِيٍّ، وَيُعِدُّ العُدَّةَ وَيَجمَعُ المَالَ وَيَعِدُ الرِّفَاقَ، وَتَبدَأُ الإِجَازَةُ وَتَستَمِرُّ، وَيَتَوَالى مُرُورُ أَيَّامِهَا يَومًا بَعدَ يَومٍ، وَيَتَتَابَعُ تَصَرُّمُ لَيالِيهَا لَيلَةً بَعدَ أُخرَى، فَإِذَا بِالأَهدَافِ التي وُضِعَت تَتَبَدَّدُ، وَإِذَا بِالأَمانيِّ التي عُقِدَت تَتَنَاثَرُ، وَتَنقَضِي الإِجَازَةُ وَمَا قَضَى مُرِيدٌ مُرَادَهُ، وَتَضِيعُ وَمَا حَصَّلَ مُتَمَنٍّ مَا تَمَنَّى، أَفَلَم يُفَكِّرْ أَحَدُنَا بِجِدٍّ في هَذَا الوَاقِعِ المُرِّ مَرَّةً وَيُسَائِلُ نَفسَهُ: لماذا لا يَتَغَيَّرُ وَاقِعِي مِن سَيِّئٍ إِلى حَسَنٍ وَمِن حَسَنٍ إِلى أَحسَنَ؟! لماذا لا أَستَفِيدُ مِنَ الإِجَازَةِ وَأَستَثمِرُ فَرَاغِي؟! لماذا تَضِيعُ الأَيَّامُ عَلَيَّ سُدًى وَيَذهَب وَقتي هَدَرًا؟!
إِنْ كَانَ قَد طَرَأَ عَلَيكَ مِثلُ هَذِهِ التَّسَاؤُلاتِ ـ أَخي المُسلِمَ ـ فَاعلَمْ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ بِدَايَةٍ لِسَيرِكَ في الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَإِن لم تُفَكِّرْ يَومًا مِثلَ هَذَا التَّفكِيرِ فَاعلَمْ أَنَّ قَلبَكَ مَيِّتٌ فَاسأَلِ اللهَ أَن يَبعَثَهُ، أَو مَرِيضٌ فَادعُ اللهَ أَن يَشفِيَهُ. قال : ((خَيرُ النَّاسِ مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَن طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)) ، وقال عليه الصلاةُ وَالسَّلامُ: ((اِغتَنِمْ خمسًا قَبلَ خمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ)).
أَلَيسَ مِنَ الخُسرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا تَمُرُّ بِلا نَفعٍ وَتُحسَبُ مِن عُمرِي
أَيُّها الإِخوَةُ، إِنَّ لاستِغلالِ الإِجَازَةِ طُرُقًا وَأَسَالِيبَ كَثِيرَةً، وَلِضَيَاعِهَا أَسبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمَن سَلَكَ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ وَاتَّبَعَ الأَسَالِيبَ المُثلَى وَاستَقبَلَ وَقتَهُ بِالجِدِّ مِن أَوَّلِهِ وَبَكَّرَ وَبَادَرَ أَوشَكَ أَن يَستَفِيدَ وَيَصِلَ إِلى مُرَادِهِ، وَمَن أَخَذَ بِأَسبَابِ الضَّيَاعِ وَسَوَّفَ وَأَجَّلَ وَتَقَاعَسَ وَتَأَخَّرَ فَلَن يَجنيَ إِلاَّ الضَّيَاعَ.
إِذَا أَنتَ لم تَستَقبِلِ الأَمرَ لم تَجِدْ بِكَفَّيكَ في إِدبَارِهِ مُتَعَلَّقا
إِنَّ الوَقتَ لا يَتَوَقَّفُ، وَإِنَّ العُمرَ في ازدِيَادٍ، وَإِنَّ الأَجَلَ يَقرُبُ وَيَدنُو، وَالمَوتُ بِالمِرصَادِ لا يغفلُ، قُلْ إِنَّ المَوتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ أَبنَاءَنَا في الإِجَازَةِ يَعِيشُونَ فَرَاغًا كَبِيرًا، وَيَتَقَلَّبُونَ سَاعَاتٍ طِوَالاً لا يَجِدُونَ فِيهَا مَا يَشغَلُهُم، وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن نَعلَمَ أَنَّ هَذَا الفَرَاغَ جُزءٌ مِن أَعمَارِهِم وَحَجَرٌ في بِنَاءِ ثَقَافَتِهِم، إِنْ لم يُستَثمَرْ فِيمَا يَنفَعُهُم وَيَعُودُ عَلَيهِم بِالفَائِدَةِ في دُنيَاهُم وَآخِرَتِهِم فَإِنهم سَيَقضُونَهُ فِيمَا يَضُرُّهُم في دِينِهِم وَأَخلاقِهِم، وَقَد صَحَّ عنه أَنَّهُ قال: ((نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ)) ، وَمَعنى كَونِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَغبُونِينَ في هَاتَينِ النِّعمَتَينِ أَنهم لا يُحسِنُونَ استِعمَالَهُمَا فِيمَا يَنبَغِي، وَلا يَشكُرُونَ اللهَ جل وعلا عَلَيهِمَا الشُّكرَ الوَاجِبَ، ذَلِكَ أَنَّ الإِنسَانَ قَد يَكُونُ صَحِيحًا وَلَكِنَّهُ مَشغُولٌ، وَقَد يَكُونُ فَارِغًا لَكِنَّهُ مَرِيضٌ، وَأَمَّا إِذَا اجتَمَعَ لَهُ الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ فَقَد جمع نِعمَتَينِ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ التي يَستَعِينُ بها العَبدُ على العَمَلِ لآخِرَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ لِرَبِّهِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيهِ الكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالحَالُ هَذِهِ أَو استَعمَلَ تِلكَ النِّعمَتَينِ في المَعصِيَةِ وَالضَّيَاعِ فَهُوَ المَغبُونُ حَقًّا؛ لأَنَّ الفَرَاغَ يَعقُبُهُ الشُّغلُ، وَالصِّحَّةُ يَعقُبُهَا السَّقَمَ أُوِ الهَرَمُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لا يَحسُنُ بِمَن مَطِيَّتُهُ الأَيَّامُ أَن يَنَامَ، ذَلِكَ أَنها سَائِرَةٌ بِهِ وَإِنْ لم يَسِرْ، مُتَحَرِّكَةٌ وَإِن هُوَ تَوَقَّفَ، وَمِن هُنَا كَانَ لِزَامًا عَلَى المَرءِ أَن يجعَلَ لِكُلِّ يَومٍ عَمَلاً يُنجِزُهُ، وَأَن يُخَصِّصَ لِكُلِّ سَاعَةٍ مُهِمَّةً يَقضِيهَا، وَإِلاَّ ضَاعَت عَلَيهِ الغَنَائِمُ وَالفُرَصُ، وَتَجَرَّعَ الآلامَ وَالغُصَصَ، وَإِنَّهُ مَا آفَةٌ تَأكُلُ الوَقتَ وَتُذهِبُهُ في غَيرِ فَائِدَةٍ مِثلُ آفَةِ التَّسوِيفِ وَالتَّأجِيلِ، حَيثُ يُؤَجِّلُ المَرءُ عَمَلَ اليَومِ إِلى الغَدِ، فَإِذَا جَاءَ الغَدُ اجتَمَعَ عَلَيهِ عَمَلانِ أَو أَكثَرُ، فَإِنْ هُوَ بَدَأَ بِأَحَدِهِمَا فَقَد يَكِلُّ وَيَمَلُّ قَبلَ أَن يَأتيَ دَورُ الآخَرِ، وَإِذَا هُوَ تَحَامَلَ عَلَى نَفسِهِ وَجَمَعَ عَلَيهَا العَمَلَينِ أَرهَقَهَا، فَطَلَبَتِ الرَّاحَةَ في اليَومِ الذِي بَعدَهُ، فَأَضَاعَ عَمَلَ ذَلِكَ اليَومِ، وَمِن هُنَا كَانَ عَلَيهِ تَرتِيبُ وَقتِهِ وَإِشغَالُ نَفسِهِ وَمُصَاحَبَةُ مَن يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَجَنُّبُ الفَارِغِينَ البَطَّالِينَ الذِينَ لا يُؤَدُّونَ وَاجِبًا وَلا يَحفَظُونَ وَقتًا.
إِنَّ في الإِجَازَةِ لَفُرَصًا لِمَن أَرَادَ لأَبنَائِهِ الخَيرَ، فَهُنَاكَ النَّوَادِي الصَّيفِيَّةُ في بَعضِ المَدَارِسِ، وَهُنَاكَ الدَّورَاتُ المُكَثَّفَةُ لِحِفظِ القُرآنِ في بَعضِ الجَوَامِعِ وَالمَسَاجِدِ، وَثَمَّةَ دَورَاتٌ عِلمِيَّةٌ شَرعِيَّةٌ وَمُلتَقَيَاتٌ شَبَابِيَّةٌ دَعَوِيَّةٌ، وَمَكَاتِبُ الدَّعوَةِ وَالجَمعِيَّاتُ الخَيرِيَّةُ مُفَتَّحَةُ الأَبوَابِ لِمَن أَرَادَ التَّعَاوَنَ مَعَهَا في مَنَاشِطِهَا، وَفَضَلاً عَن هَذَا فَإِنَّ في الأَعمَالِ الدُّنيَوِيَّةِ المُبَاحَةِ مِن تِجَارَةٍ أَو زِرَاعَةٍ أَو صِنَاعَةٍ أَو مِهَنٍ أَو حِرَفٍ أَو تِقنِيَاتٍ، إِنَّ فِيهَا لَمَندُوحَةً عَنِ البَطَالَةِ وَالكَسَلِ، فَمَا عَلَى الأَبِ إِلاَّ أَن يَلتَفِتَ يَمنَةً أَو يَسرَةً وَيَطلُبَ لابنِهِ مَا يُنَاسِبُهُ وَيُلحِقَهُ بِعَمَلٍ يَنفَعُهُ وَيَشغَلُ وَقتَهُ عَمَّا يَضُرُّهُ وَيُفسِدُهُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَالعَصرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الذِي أَنتُم إِلَيهِ صَائِرُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم، أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لِكُلِّ تَاجِرٍ رَأسُ مَالٍ هُوَ في حِرصٍ دَائِمٍ عَلَى تَنمِيَتِهِ وَرَفعِهِ، فَإِذَا لم يَستَطِعْ أَو حَالَت دُونَ ذَلِكَ ظُرُوفٌ حَاوَلَ أَن يُبقِيَ عَلَى ذَلِكَ المَالِ، وَبَذَلَ جُهدَهُ لِئَلاَّ يَلحَقَهُ نَقصٌ، وَالمُسلِمُ وَهُوَ يَسِيرُ إِلى الآخِرَةِ لَهُ رَأسُ مَالٍ لا يجوزُ لَهُ أَن يُفَرِّطَ فِيهِ بِحَالٍ، مُقِيمًا كَانَ أَو مُسَافِرًا، مَشغُولاً أَو فَارِغًا، في عَمَلٍ كَانَ أَو في عُطلَةٍ. وَإِنَّ مِنَ المُسلِمِينَ أُنَاسًا إِذَا فَرَغَ أَبنَاؤُهُم مِنَ الدِّرَاسَةِ وَكَانُوا في عُطلَةٍ أَفسَدُوا مِن أُمُورِهِم مَا صَلَحَ، وَبَدَّدُوا مِن شَأنِهِم مَا اجتَمَعَ، وَنَقَضُوا مَا أَبرَمُوا وَهَدَّمُوا مَا بَنَوا، حَيثُ يجعلُونَ اللَّيلَ سَهَرًا عَلَى اللَّهوِ وَاللَّعِبِ، وَالنَّهَارَ نَومًا عَنِ الصَّلاةِ وَالعَمَلِ، فَلَيتَ شِعرِي أَيُّ رَأسِ مَالٍ بَقِيَ لِهَؤُلاءِ وَقَد أَضَاعُوا الصَّلاةَ؟! وَأَيُّ فَائِدَةٍ استَفَادُوهَا وَقَد أَسقَطُوا عَمُودَ الإِسلامِ؟! إِنَّهُ لا أَحَدَ يَجهَلُ أَنَّ الصَّلاةَ أَهَمُّ أَركَانِ الإِسلامِ بَعدَ الشَّهَادَتَينِ، وَأَنَّهُ لا حَظَّ في الإِسلامِ لِمَن تَرَكَ الصَّلاةَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ كان يَكرَهُ النَّومَ قَبلَ صَلاةِ العِشَاءِ وَالسَّهَرَ بَعدَهَا، كُلُّ ذَلِكَ خَوفًا مِن أَن تَفُوتَهُ صَلاةُ الفَجرِ التي هِيَ مِنَ الصَّلَوَاتِ بِمَنزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، ولها في حَيَاةِ المُسلِمِ مَكَانَةٌ كَبِيرَةٌ، لا يُحَافِظُ عَلَيهَا إِلاَّ المُؤمِنُونَ، وَلا يَستَثقِلُهَا إِلاَّ المُنَافِقُونَ.
فَلْيَحذَرِ المُسلِمُونَ وَقَد أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم بِنِعمَةِ الفَرَاغِ مِن أَن يَملَؤُوهُ بما يُغضِبُ اللهُ، أَو يَقضُوهُ فِيمَا يَشغَلُ عَن طَاعَةِ اللهِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.
وَفِئَةٌ أُخرَى لها رَأسُ مَالٍ غَالٍ وَثَمِينٌ، وَلَكِنَّهَا تُفَرِّطُ فِيهِ في هَذِهِ الإِجَازَةِ وَتُعَرِّضُهُ لِلُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ، أُولَئِكُم هُم قَومٌ اعتَادُوا السَّفَرَ في كُلِّ عَامٍ مَعَ رفقَةٍ لهم خَارِجَ هَذِهِ البِلادِ، تَارِكِينَ وَرَاءَهُم بُيُوتًا تَمُوجُ بِالمُرَاهِقِينَ مِن أَبنَائِهِم وَبَنَاتِهِم، لا يَدرُونَ في غِيَابِهِم مَاذَا يَفعَلُونَ، وَلا في أَيِّ دَربٍ يَمضُونَ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَيَّ قُلُوبٍ يَحمِلُ هَؤُلاءِ؟! وَأَيَّ تَربِيَةٍ يُقَدِّمُونَ لأَبنَائِهِم؟! وَوَاللهِ، لَو فَكَّرَ أَحَدُهُم وَتَأَمَّلَ لَعَلِمَ أَنَّ مَا يَتَشَرَّبُهُ أَبنَاؤُهُ وَبَنَاتُهُ مِنَ الشَّرِّ في غِيَابِهِ عَنهُم هَذِهِ المُدَّةَ اليَسِيرَةَ يَعدِلُ مَا قَد يَتَسَلَّلُ إِلَيهِم وَهُوَ حَاضِرٌ في شُهُورٍ كَثِيرَةٍ.
فَيَا أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأَولِيَاءُ، يَا مَن تَعَوَّدتمُ السَّفَرَ وَلَكُم أَبنَاءُ مُرَاهِقُونَ، اتَّقُوا اللهَ في أَبنَائِكُم، وَاستَبدِلُوا بِسَفَرِكُم الخَارِجِيِّ سَفَرًا دَاخِلِيًّا تَصطَحِبُونَ فِيهِ أَبنَاءَكُم، لِتُرَبُّوهُم وَتَصنَعُوهُم عَلَى أَعيُنِكُم، فِجَاجُ الأَرضِ وَاسِعَةٌ، وَفي بِلادِكُم مُتَّسَعٌ لِلنُّزهَةِ، وَفَُرَصُ إِمتَاعِ النَّفسِ فِيهَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَكَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُضيعَ مَن يَقُوتُ، قال : ((كُلُّكُم رَاعٍ، وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ)).
كَم يُقَدِّمُ الأَبُ لأَبنَائِهِ بَل وَلِمُجتَمَعِهِ مِن الإِصلاحِ حِينَ يَحتَسِبُ وَقتَهُ لِتَربِيَتِهِم وَالقِيَامِ بما يُصلِحُهُم! كَم يَكفِي نَفسَهُ وَوَلََدَهُ مِنَ الشَّرِّ حِينَ يَحُوطُهُم بِرِعَايَتِهِ وَتَلحَظُهُم عِنَايَتُهُ! مَا أَجَلَّهَا مِن رِحلَةٍ يَصطَحِبُ الوَالِدُ فِيهَا أَولادَهُ إِلى بَيتِ اللهِ الحَرَامِ لِيُؤَدُّوا العُمرَةَ وَيُصَلُّوا في أَفضَلِ البِقَاعِ! مَا أَجملَهَا مِن زِيَارَةٍ تَكُونُ لِمَسجِدِ رَسُولِ اللهِ لِيرَاهُ الأَبنَاءُ وَيُصَلُّوا فِيهِ! مَا أَبرَكَهَا مِن زِيَارَةٍ تَكُونُ صِلَةً لِلرَّحِمِ وَأَدَاءً لِحَقِّ القَرَابَةِ! مَا أَحَلَّهَا مِن رِحلَةٍ تَكُونُ لِلنُّزهَةِ البَرِيئَةِ وَالتَّمشِيَةِ المُفِيدَةِ!
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الآبَاءُ مَا استَطَعتُم، وَابذُلُوا جُهدَكُم يُهَيِّئْ لَكُم رَبُّكُم مِن أَمرِكُم رَشَدًا ويُصلِحْ لكم، أَمَّا أَن يَبذُرَ الرَّجُلُ ثم لا يَسقِيَ وَيَغرِسَ وَلا يَعتَنيَ فَمَا أَشَدَّ خَسَارَتَهُ وَلَو بَعدَ حِينٍ!
وَمَن بَذَرَ البُذُورَ وَمَا سَقَاهَا تَأَوَّهَ نَادِمًا يَومَ الحَصَادِ
(1/5420)
رفع الريبة عن جهاز الحسبة
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
14/6/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التآمر والتناهي من ضرورات التعايش. 2- مثل القائمين على حدود الله تعالى. 3- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- أهمية جهاز الهيئة. 5- شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلاد الحرمين. 6- إنجازات الهيئة. 7- الموقف الشرعي من أخطاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. 8- التحذير من الإرجاف والكتابات السيئة عن جهاز الهيئة. 9- الإشادة بموقف ترشيد مسيرة الهيئة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رَحمكم الله، وخُذوا حِذركم وأُهبَتَكم، فكَم رَأيتُم في هذه الدنيا مَن أصبح وما أمسَى، وكم استفاد مِنها الحازمون عِبرًا ودرسًا، كم يَعِد الإنسان بالتوبة وكم يماطل، وكم يمنِّي الشيطان ويسوّف وينصِب الحبائِل، وكم نقَبَ الموت من منزلٍ وهَدَم من مشيد، وكم فارَقتم من صديق وودّعتم من فقيد، كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21]، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].
أيّها المسلمون، الإنسانُ مدنيّ بطبعه، وصلاحُ معاشِ الناس بالتعاون والتوافُق والتناصح والتشاوُر والائتمار والتناهي، ولقَد قال أهل الحكمة والمعرِفة: إنّ مِن لوازِمِ وجودِ بني آدَمَ أنهم يَأمرونَ ويُؤمَرون ويَنهَونَ ويتَنَاهَون، وقالوا: إنَّ مِن طبائع النفوسِ والجماعات أنها تُريد أن تجرَّ الناس إلى اهتمامِها ورغبَاتها وتحِبُّ منها أن توافقَها في مُيُولها ومُشتَهَيَاتها، ولقَد جعَل الله النَّاسَ بَعضهم لبعضٍ فتنةً، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان: 20]، وفي التنزيل العزيزِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ [التوبة: 71]، وقال سبحانه: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67]، وقال سبحَانَه: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27].
أيّها الإخوةُ الأحِبّة، هذه الحقائقُ الشرعِيَّة والمدنيّة والاجتماعيّة تُوَضِّح أنَّ المجتَمعَ بكلِّ فئاتِه وأطيافِه شُركاءُ في العمَل وشُرَكاءُ في المسؤوليّة وشركاء في النَّتيجة، الصُّلَحَاء وغيرُ الصّلَحاء، ويَهلك الصّالحون إذا كثُر الخبَثُ، وفي محكم التنزيل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، والسَّفينةُ إذا غَرقت غرق رُكّابها أجمعون. تِلكم هي المسؤوليّة المشتَرَكَة التي جسّدها من أُوتِيَ جوامعَ الكَلِم نبيُّنا محمّد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم حين ضرَب السفينةَ مثلاً للمجتمَع حين تقوم فيه فِئةٌ على حدودِ الله وهم في أعلى السَّفينة، وتقصِّر فئةٌ أخرى وهم الّذين في أسفَلِها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء مَرّوا على من فَوقَهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبِنا خَرقًا ولم نؤذِ مَن فَوقَنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا.
معاشِرَ المسلمين، هذا هو الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر يؤكّد أن المجتمَعَ لُحمَةٌ واحِدة وكيَانٌ واحد يكمِّل بعضه بعضًا ويؤثِّر بعضُه في بعض صَلاحًا وفسادًا ونجاةً وهَلَكَة. بالأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ يكون الناس بأنفسِهم حماةً للأخلاقِ حماةً للجَمَاعة وحُرّاسًا للنظامِ مِنَ الانحراف والشذوذ. شعيرةٌ عظيمة تحقِّق للأمّة والدولةِ الاستقرارَ والاستمرارَ في مساندةٍ حكيمة وفاعِلة من أجلِ ضبطٍ دينيٍّ وأمنيٍّ واجتماعيّ. جُهدٌ بشريٌّ جماعيّ منظَّم لمن ينشُد الأمنَ النَّفسيّ والأمنَ الاجتماعي والأمن الفكريَّ وينشد سعادة الدارين، وفي لغةٍ معاصِرَة: في هذه الشّعيرة العظيمة الأمّةُ أفرادًا وجماعاتٍ مُلزَمون وملتَزِمون بالتعاوُن على إقرارِ النظام ومراقبَةِ الالتزامِ به. هي الأداةُ الشّعبيّة ليصلِحَ المجتمَع بعضُه بعضًا وينظّفَ نفسَه بنفسِه، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [التوبة: 71]، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وفي الحديث الصحيح: ((من رَأى مِنكم منكرًا فليغيِّره بِيَده، فإن لم يستَطِع فبِلسانه، فإن لم يستَطِع فبقَلبِه)) ؛ ومِن أجل هذا فلا يسُوغ لمسلمٍ أن يسُلَّ نفسَه من شَرفِ القيام بهذا الواجبِ العظيم والمسؤوليّة الاجتماعيّة؛ يرى تقصيرًا في معروفٍ ثم لا يسعَى في حفظه ونشرِه، ويرَى منكرًا ثم يتجاهَلُه وكأنّه لا يعنِيه، والأشدُّ والأنكَى أن لا يحتَفِيَ بمن يحمِل شرفَ هذا العمل ويتحمَّل عِبء هذا الإسهام، ناهيكم بمن ينتَقِصه أو يرى أنه تدخُّلٌ فيما لا يعني أو تَدخُّلٌ في خصوصيّات الآخرين وحرّيّاتهم.
معاشِرَ المسلمين، خَيريَّةُ الأمّةِ مُرتبِطَةٌ بشعيرةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والأمَّةُ ليست محصورَةً في جهازٍ واحد أو إدارة واحدةٍ أو مؤسَّسَة واحِدَة، ولكنَّ فروضَ الكفايات ـ كما يقول أهلُ العلم ـ يقوم [بها] أكفاءٌ من الأمَّةِ، ومن هُنا جاءَ قولُ الله عزّ وجلّ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
نعَم أيُّها الإخوَةُ، ولأهمّيَّة هَذهِ الوظِيفةِ ومَكانتِها وأثَرِها جاءَ هذا التَّوجيهُ الشرعيّ لينضَمَّ إلى المسؤوليّةِ الفرديّة والجماعيّة إيجادُ طائفةٍ وتَكوينُ مجموعَةٍ من الأمّةِ تنبري وتختَصّ لتكونَ ذات اهتِمام خاصٍّ ومسؤوليّة مركَّزة، إنها طائفةٌ من الأمة وجهازٌ من أجهِزتها، رَمزٌ للأمة التي تعظّم شعائرَ الله وحرماتِه، إنها جهاز مَفخرةٍ والذي لاَ خِيار للأمّة في تبنِّيه والمحَافظةِ عليه، وظيفةٌ عظيمَة ومُهِمَّةٌ مُهِمّة لو ضَعُفت أو اضمَحَلّت لتعاظَمَت رَغَباتُ أهلِ الأهواء والشَّهوات مِن صَرعَى المخدِّراتِ والمحرَّمات والممنوعاتِ والسِّحر والشعوذَةِ والكِهانات.
وبلادُ الحرمين الشريفين القائمةُ على كتاب الله وسنّةِ رسولِه محمّدٍ تسجِّل في مفاخِرِها وتُدوِّن في دستورِها ونظامِها أنَّ من وظائفِ الدولة فيها الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، وهي إحدَى وظائف الدولةِ المسلمة الكبرى وإحدَى أركانها وثوابتها. وتجسيدًا لهذه الوظيفة وقيامًا بالمسؤولية وتديُّنًا لله وقربةً فقد كان من أحد أجهزتها ودواوين دولتِها جهازُ الحسبة هيئَة الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ديوانٌ من دواوينِ الدولة وأجهزتها للإصلاح الدينيِّ والاجتماعيّ، يعكِس وعيًا اجتماعيًّا على مستوَى الدولة والمواطِن، يعزِّز قِيَمَ المجتمَع من أجلِ حياةٍ تسودُها الفضيلةُ في عصرٍ متقدِّم وأجواء تقدّميّة، هذا الجهاز يُرشِّد عمليّةَ التقدّم ويعمَل على سدِّ الفجوة التي يمكن أن تنتجَ عن التفاوُت بين الجوانبِ المادّية والروحيّة في هذا العصر بوافِداته الصناعيَّة والتجاريّة والثقافية والتقنيَّة والإعلاميّة، جهازٌ كريم همُّه همُّ الأمَّة وهدفُه الحفاظُ على الحرُمات، يَنشرُون الفضائلَ ويحرسونها، ويحاربون الرذائلَ ويضيِّقون دائِرَتَها، كم هي محاسِنُهم على الناسِ في بيوتهم وأسَرِهم وأسواقِهم ومرافِقِهم ومتنَزَّهاتهم، حصنٌ منيع وسدٌّ عالٍ، حماةُ الدين والعِرض والعقل، بهم تقوم الحجّةُ وتستنيرُ البصِيرة، كم ستَر الله بهم من عِرضٍ، وكم أنجى الله بهم من هَلَكة وحفِظ بهم من حُرمة وأعزَّ بهم من شعيرةٍ، كم صَدّوا عن الأمّة من وافدِ المسكرات والمخدّرات، كم هي رأفَتهم وحَدَبُهم على من تتخطّفهم شياطين السَّحَرة وحبائل الكهّان، أهلُ علمٍ وفضل وديانةٍ وسيرة حسَنَة وسلوك معتَدِل، وأهلُ حكمة ورويّة وأناةٍ وعدلٍ وإِحسان، يتمتّعون بمصداقيّة ورِضا في المجتمع وثِقَة واحترامٍ كبير، ونحسَب أنهم من المفلحين إن شاءَ الله، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آ عمران: 104].
معاشرَ الإخوة، هذا الثناءُ الذي في محلِّه لا يَعني العصمةَ ولا السلامةَ من الخطأ ولا البراءةَ من الأخطاء، والذين لا يخطِئون هم الخامِلون والقاعدونَ والذين لا يعملون، وإخوانُهم ونظراؤُهم في الأجهزة الأخرى يخطِئون لأنهم يعملون. هذا الثناءُ وهذا الاعتذارُ لا يعني السكوتَ عن الأخطاء أو التسويغَ لها فضلاً عن أن يكونَ وقوفًا معها أو قبولاً لها، معاذَ الله وحاشا وكلاّ. هذا الجهازُ وأمثاله أعمالُه وأخطاؤه ليست مقصورةً على نفسِه، بل هي متعدّية إلى الآخرين، فلا بدَّ من محاسبة المخطِئ وحفظ حقوقِ مَن وقع عليه الخطَأ وأصابَه الضّرر، كما يجِب على كلِّ عاملٍ في ميدان الحِسبة ورجالها قبولُ النقد وإحسانُ الظن، بل إنَّ الشعور بالمسؤوليّة يوجب على المسؤولِ أن لا يغضَبَ من النقدِ المنصِف والنصيحة المخلِصة، فلدَى بعض الأفرادِ أخطاءٌ وفي بعض التصرُّفات تجاوُزات، نقدٌ منصِف ينبّه إلى الخطأ ويُرشِّد المسيرةَ ويهدي إلى الصَّواب، يجب أن يزيدوا ما بينهم وبين الناس من تواصُل وفتح أبواب الاستماع وتقبُّل الملاحظات والشكاوى والتواصل الفكريّ والإعلامي والإرشاديّ، يجب بذل مزيدٍ من الحرصِ في اختيار الأكفاء ورفعِ درجة العاملين بالتدريب وحسنِ التعامل ومسالك الرفقِ واللّين والوعظ الحسَن والأمر بالمعروف والإعراض عن اللغو وعن الجاهلين، لا تردُّدَ في المطالبة بمزيدٍ من التطوير والتحديثِ وإنماء الفاعليّة وإيجاد مجالات جديدةٍ يتمكّن بها أهل الحسبة من فهمِ المتغيِّرات والتكيُّف مع المستجدّات مقدِّرين طبائعَ البشر وتفاوُتهم وتبايُنَ أحوالهم وظروفهم.
معاشِرَ الإخوة، وفي هذا السياقِ كتَب كاتبون وخاضَ خائضون ونقَد ناقدون، وهذا بابٌ حسَن ومَسار مفتوحٌ، فالنقد والنُّصح والتعاوُنُ على البرِّ والتقوى واستئناف الإصلاحِ والدِّلالة على مواطنِ الضعف والخلَل كلُّ ذلك أمرٌ مستَحسَن ومقصدٌ عظيم من مقاصد الكتابةِ والنقد، بل من أعظم مقاصِدِ النصيحةِ في الدين، وإنَّ المزيد من المساحةِ في حرّيّة الرأي أمرٌ مطلوب مع تحرِّي الحقّ والعدلِ والإحسان والرحمة بالخلقِ.
ومعَ هذا الخيرِ الكثيرِ والمسَالكِ المحمودة فقد وُجِدت كتاباتٌ وطروحات ورُدودٌ ذاتُ تشنُّجٍ وتشدُّد وذاتُ بُعدٍ عن الإنصافِ والحياديّة، وهذا ولا شَكَّ يورِث خللاً في مسَار العلمِ واستقامةِ الدِّيانة ونزاهةِ الطَّرح، ومِن ثَمَّ عدمُ تحقيقِ الغايَة المنشودَة من الإصلاح والنّصح، بل قد ينقلِب المقصودُ وينحرِف المسار وتتولّد الاتهاماتُ والنزاع والقطيعةُ المكايَدَة والتجهِيل والغلوُّ التطرّف والجفاء.
وبعد: فإنّ المحبَّ المشفِق والمراقب الناصحَ ليتوَجّس خيفةً وهو يتابع بعضَ الكتاباتِ وصخَب المنتدَيات في شبكاتِ المعلومات جرَّاءَ تناول هذا الموضوع وأمثالِه، إنّه يورث احتقانًا، بل إنه يهيِّئ أجواء مظلِمَة مكفهِرّة لمن يبتغي الاستغلالَ السيِّئ لهذه الطّروحات المتشنِّجة، فيفرّق الأمّة وينشُر قالَةَ السوءِ ويُضعِف الدِّيانَة ويشكّك في الأمانةِ والمسؤوليّة، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أعوذُ بالله مِنَ الشيطان الرَّجيم، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15].
نفَعَني الله وإيَّاكم بالقُرآنِ العظيم وبهَديِ محمّد ، وأقول قَولي هذا، وأستغفِر الله لي ولَكم وَلِسائر المسلِمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغَفور الرَّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أهلِ الحمد والثناء، والشكرُ له على جزيلِ النعماء، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له ربّ الأرض والسماء، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيِّد المرسلين وخاتم الأنبياء، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله السادة الأصفياء، وأصحابه البررةِ الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين فأحسن الاتِّباعَ والاقتداء.
أمّا بعد: فإنَّ من المصلحةِ والنصيحَةِ الحرصَ التامَّ على الرُّشد في الطّرح والأناة في التناوُل وبَذلَ مزيد من التحرّي حين الكتابةِ والإثارة والنّقد؛ ذلكم أنّه إذا ما شاعت أجواءُ التعجّل بين أهلِ العلم والثقافة والرأي ولا سيما من أهل هذا البلدِ المسلم فإنها سوفَ تسمح لأهل التطرُّف لينالوا مِن البلد وأهلِه وقيادته وأجهزته، ويوظِّفوا مثلَ هذه الكِتابات والتناوُلات لِيَجعَلوها مطايا وذرائِع لاتِّهام الأمّة في تديُّنها ومصداقيّتها وتمسُّكها، ومِن ثَمَّ جرأةُ أعدائها عليها وتطاولُ المتربّصين بها.
ولعلَّ هذا التوجّسَ هو الذي دعا أحدَ أصحاب القرارِ وهو مسؤول يقِف على جهازٍ يصِل إلى المعلومات بطرقٍ أدقّ وأوثَق، دعاه هذا الأمرُ ليتدخَّل لترشيدِ المسيرة والتنبيهِ إلى ما ينبغي أن يكونَ ولتكون فيصَلاً في الموقف من الدولة وأجهزتها. لقد كان هذا الموقفُ تنبيهًا إلى ما يجب من التمسُّك بالحقائقِ وتصريحًا بالثقة بِالجهاز نفسِه وتقديرِ رجاله ومعرفَتهم لمسؤولياتهم وواجباتهم والتأكيد على أنه جهاز مسؤول ليس في دائرة الاتهام، لقد كان موقفًا راشِدا مُرَشِّدًا من دولة راشِدة تزيل كلَّ قَلَق وتقطَع دابرَ القيل والقال ومداخل الشغب.
وبعد: فإنّ النصيحةَ والمصلحَة والبعدَ عن أيِّ أسلوب يورِث بلبلةً أو تشويشًا والاشتغال بما هو أجدى وأنفع حماية للدين وحبًّا للأمّة وجمعًا للكلمة، مواقفُ واعية وكتابات منصِفة وردود رشيدة تسهِم في تجفيف مسارَي الغلوِّ والجفاءِ في الخطاب والمواقف، إنها المسؤوليةُ التي نحفَظ بها أهلَنا وشبابنا وصغارَ العقول من الخائضين منّا.
ألا فاتَّقوا الله جميعا رحمكم الله، ثمّ صلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المسداة والنِّعمة المهداةِ نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك المولى جلَّ في علاه، فقال عزَّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد النبيّ الأمّيّ المصطفى الهادي الأمين...
(1/5421)
وقفة اعتبار مع حرارة الصيف
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, مخلوقات الله
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
21/6/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبرة بتقلب الزمان. 2- التذكير بحرّ الآخرة. 3- الاعتبار بحرّ الدنيا وبردها. 4- اعتبار السلف عند دخول الحمام. 5- الحث على اغتنام الدنيا لسعادة الآخرة. 6- التذكير باليوم الآخر. 7- التذكير بحر الشمس في موقف الحساب. 8- اغتنام السلف لأوقاتهم. 9- كلمة عما يسمى بالاحتباس الحراري. 10- إهلاك الله تعالى لقوم شعيب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيَا أيّها المسلِمون، أوصيكم ونَفسِي بتقوَى الله جلّ وعلا، فيا سَعادةَ مَن اتَّقاه، ويَا فوزَ من أطاعَ ربَّه ومَولاه.
مَعاشرَ المسلمين، في اختِلافِ اللَّيل والنّهار عِبرٌ، وفي تَقلُّبِ الزَّمان مدَّكر، في تلوُّن الزمان من شتاءٍ وصَيف ما يبهر المتعقّلين ويُنبِّه المتذكّرين ويجذِب أفئدةَ الصّادقين إلى الدّلالات الواضِحَة والبراهين البيِّنَة على عَظَمَة الخالق وبديعِ الرّازق وعلى وحدانيَّتِه وقدرته سبحانه، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].
إخوةَ الإيمان، في تقلُّبِ الزَّمان مِن وَصفٍ إلى وَصفٍ وتحوُّلٍ مِن حال إلى حالٍ ما يجعل ذوِي البصائر النيِّرَة والعقول النافذة في نَظَر وتفكُّر واعتبارٍ وتدبُّر في عظمةِ الباري وسَعَة سُلطانه ونُفوذِ مَشيئَتِه وعمومِ عِلمه وقدرته وشمول مُلكِه، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44]. في هَذا التقلُّبِ وذلك التحوُّل بِنظامٍ دقيقٍ دلالةٌ تسوقُنا إلى شُكر الله جلّ وعلا على آلائِه وحَمدِه على نعمائه، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62].
إِخوةَ الإسلام، في زَمَن الحَرِّ يتذكَّر المؤمِن شِدَّةَ حرِّ النّار غيرِ المتَناهي أبَدَ الآبدين ودَهرَ الدّاهرين، فيُقبِل حينئذٍ بكلِّيتِه على العزيز الغفَّار ويَفِرّ من سَخَط الجبَّار، وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81]. المؤمِنونَ الموقِنون بوَعدِ الله ووعيدِه خَائفون وَجِلون من عذابِ السَّموم، عامِلون مسارِعون بما يقرِّبهم للربِّ الرحيم، عاملون بطاعته تارِكون معصيَتَه، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 25-28].
عِبادَ الله، يقول بعض المحقِّقين: دارُ الآخرة إمّا دار نعيمٍ مَحضٍ لا يشوبه ألم، وهذا للموحِّدين الطائعين، وإمّا دار عذابٍ مَحضٍ لا يشوبه رَاحةٌ، وهذا للمشركين، وأما هذه الدار الفانِية فممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها مِن النعيم يذكِّر بنعيمِ الجنّة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار.
وإنَّ ممّا يُذكّر بالنّار المعَدَّة لمن أشرك بالله جلّ وعلا وكفَر ولمن عصَى رُسُلَه وتجبَّر ما جَعَله الله في هذه الدّارِ من شدّةِ الحرّ وشِدّة البرد، فحرُّ الدنيا يذكِّر بحَرِّ جهنَّمَ وسمومها، وبردُها يذكِّر بزَمهَرِيرِها، قال تعالى في صِفَة الجنّة: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13]، فنفى عنهم شِدّةَ الحرّ والبردِ، قال قتادة رحمه الله: "عَلِم الله أنّ شدَّةَ الحر تؤذي، وشدّة البرد تؤذ، فوقاه أذاهما جميعًا".
ويذكِّرُنا بهذه الحقيقةِ فيقول كما جَاءَ في الصحيحَين من حديث أبي هريرة عنِ النبيِّ أنه قال: ((اشتَكَت النار إلى ربها فقالت: يا ربِّ، أكل بعضي بعضًا، فأذِن لها بنفَسَين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فأشَدُّ ما تجِدون من الحرّ من سموم جهنم، وأشدّ ما تجدون من البرد من زمهرِير جهنّم)) ، وروى الجماعة أيضًا عن النبيِّ أنه قال: ((إذا اشتدَّ الحرُّ فأبرِدوا بالصلاةِ ـ أي: صلاةِ الظهر ـ فإنَّ شدّةَ الحرِّ من فَيح جهنّم)).
وهذا التذكُّرُ ـ أيّها المؤمنون ـ يسوقُ أولي الأبصارِ إلى الطاعةِ والإقبال إلى الله جلّ وعلا، ويَحدُو بأهلِ التعقّل للإعداد بالأعمَال الصالحة؛ ولهذا كان السّلَف يذكُرون النارَ بدخول الحمّام، وهو مكانٌ يُجمع فيه ماءٌ حارّ على كيفيّة معيّنَة، فيحدِث لهم هذا التذكّرُ عبادةً وتطوُّعًا وتقرُّبًا للمَولى جلّ وعلا، قال أبو هريرةَ رضي الله عنه: (نِعمَ البيتُ الحمام؛ يدخله المؤمنُ فيزِيل به الدَّرَن ويستعِيذ بالله من النار)، ودَخَل ابن وَهبٍ الحمّامَ فسمِع تاليًا يتلو: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر: 47] فغُشِي عليه، وكان بعضُ السّلَف إذا أصابه كربُ الحرِّ قال: "يا بَرُّ يا رحيم، مُنَّ علينا وقِنَا عذابَ السموم"، وصَبَّ بعضُ الصّالحين على رأسِه ماءً، فوَجَدَه شَديدَ الحرِّ فبَكى وقال: ذكَرتُ قولَه جلّ وعلا: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ [الحج: 19].
فهَكَذا هم، يَرَون أنَّ كلَّ ما في الدنيا يَدلُّ على صانِعِه ويُذكِّر به ويَدلُّ على عظمَتِه وسَعةِ صِفاتِه، فما فيها من نعيمٍ وراحةٍ يدلّ على كَرَم خالقِه وفضلِه وإحسانه وجودِه ولُطفِه، وما فيها مِن نِقمةٍ وشِدّة وعَذابٍ يَدلّ على شِدّة بأسِه عَزّ شَأنُه وعَظيمِ بَطشِه وقهرهِ وانتِقامِه، قال الحسن في كلامٍ له طويل: "كانوا ـ يَعني الصحابةَ رضي الله عنهم ـ يقولون: الحمد لله الرفيق الذي إذا شاءَ جاءَ بِبردٍ يقَرقِفُ الناسَ ـ أي: يَرعَد الناسُ من البرد ـ، وإذا شاء ذهَبَ بذلك وجاءَ بحرٍّ يأخذ بأنفاس الناس؛ ليعلمَ الناسُ أنَّ لهذا الخَلقِ ربًّا هو يحادِثُه بما تَرَونَ من الآيات، كذلك إذا شاءَ ذهَب بهذه الدّنيا وجاء بِالآخرةِ.
إخوةَ الإِسلام، في الزّمَان وتقلُّبه دلائلُ، وفي تحوُّلِه بصائرُ، قال ابنُ رجب رحمه الله: "واختلافُ أحوالِ الدّنيا من حرٍّ وبَرد وليلٍ ونهار وغَيرِ ذَلك يَدلّ على انقِضائِها وزَوالها" انتهى. فالسَّعيدُ من اغتَنَمها فيما يُقرِّبه مِن خالِقِه ويباعِدُه مِن سَخَط إلهِهِ وربِّه، قال أحد العُبّاد الزّهَّاد وَهوَ يَتَحدَّث عن تفَكُّر المؤمنين في تقلُّب اللّيل والنهار ومجيءِ الشِّتاء والصيفِ: "فوالله، ما زالَ المؤمِنون يتفكّرون فيما خلق لهم ربُّهم حتى أيقَنَت قلوبهم حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيتِه، وما رأى العارفون شيئًا من الدنيا إلاّ تذكّروا بِه مَا وَعَد الله به مِن جِنسه في الآخرة". كان عمر يقول: (أَكثِروا ذِكرَ النّار؛ فإنَّ حَرَّها شَديد، وإنَّ قعرَها بَعيد، وإنَّ مَقامِعَها حَديد)، وكان بَعضُ السَّلف إذا رجَع من الجُمُعة في حرِّ الظهيرةِ يذكر انصرافَ الناسِ مِن موقف الحسابِ إلى الجنّة أو النار، فإنَّ السَّاعةَ تقوم يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِف ذلك النهار حتى يَقيل أهلُ الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النار، ثم تلا: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان: 24].
إِخوةَ الإسلامِ، ومِن مَواقفِ العِبرِ في زَمنِ الحرِّ تذكُّر حرِّ الشَّمس في الموقِفِ العظيم، فإنَّ الشمسَ تَدنو من رؤوسِ العِباد يومَ القيامَةِ ويُزاد في حَرِّها، قال قتادَة وقد ذَكَر شَرابَ أهل الجنّة: "فهَل لكم بهذا يَدان، أم لَكم عليه صَبرٌ؟! طاعةُ الله أهونُ عليكم يا قوم، فأطيعوا اللهَ ورسوله". وصدَق القائل:
نسيتَ لظَى عند ارتِكابِك للهوى وأنت توَقَّى حرَّ شَمس الْهواجر
معاشرَ المؤمنين، في سِيَر السَّلَفِ عندَ تقلُّب الأزمانِ وفي مسَارَعتِهم إلى الخيراتِ سائرَ الأزمان قُدوةٌ لمن تدبَّر واعتبرَ، روي أنّ أبا بكرٍ كان يَصوم في الصَّيف ويُفطِر في الشتاء، ووَصّى عمرُ رضي الله عنه ابنَه عبدَ الله فقال: (عليك بخصال الإيمان)، وسمَّى منها الصومَ في شدّةِ الحرِّ في الصيفِ، وكان معاذُ بن جبل يَتَأسَّف عِند موتِه على ما يَفوتُه مِن ظمَأ الهواجِرِ وقِيام لَيلِ الشِّتاء، وكان أَبو الدَّرداء يقول: (صُومُوا يومًا شَديدًا حرُّه لحرِّ يوم النّشور، وصَلُّوا ركعَتَين في ظُلمةِ اللّيل لظُلمةِ القُبور).
وَفَّقَ الله الجميعَ للأعمَالِ الصَّالحة والأقوالِ الطيِّبة في سَائرِ الأزمانِ والأوقات.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلّ ذَنبٍ، فاستَغفِروه إنّه هوَ الغفورُ الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله العليِّ الأعلى، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ لَه جلّ وعلا، وأشهَد أنَّ نَبِيَّنا محَمّدًا عَبده ورسولُه أفضل الأنبيا، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعَلَى آلِه وأصحابِه النُّجبا.
أمّا بعد: فيَا أيّها المسلِمون، أوصيكم ونفسِي بتقوَى الله جلّ وعلا، فمَن اتَّقَاه وقَاه وأسعَدَه ولا أشقاه.
إخوةَ الإسلام، عَالَم اليومِ يتحدَّثون عَمّا يُسمَّى بالاحتِباسِ الحرَارِيّ في الأرض، ويَنسَى هؤلاءِ أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ وبيدِه يُقلِّبه كيف يَشاء، فعلى العباد أن يعلَموا أنَّ الأَرضَ اليومَ تعُجُّ بمعاصِي العِباد وبمخالَفَتهم لمنهجِ الله، وأنَّ الظلمَ قد سَادَ كَثيرًا من مواطن الخَلقِ، وكثُر الهرجُ والمرج، واستُهينَ بِالدِّماء، واستُبيحَت الأعراضُ، وهُتِكت المقدَّرات من أقوياءِ الخَلق على ضُعفائهم. فعلى الخلق أن يعودوا إلى الله، وأَن تعلَمَ البشريّةُ أنها عِبادٌ مِن عِبادِ الله، ارتَضَى الله لها الإسلامَ دينًا ومحَمّدًا نبيًّا ورسولاً، ولا يُصلِح فسادَ مَعَاشِهم وآخِرَتهم إلاّ هذا الدينُ الذي جاءَ بِه النبيُّ الأكرم محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام، وإلاّ فلتَعلَم البشريّةُ أنَّ سنّةَ الله ماضِيةٌ، وقدرتَه شامِلَة، وانتقامَه شديد.
ذَكَر المفسّرون في قصّة قوم شعَيب عن ابنِ عباس رضي الله عنهما عند قولِهِ تَعَالى: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 189] قال: أرسَلَ الله إليهم سَمومًا من جَهنّمَ، فأَطافَ بهم سبعةَ أيّام حتى أنضَجَهمُ الحرُّ، فحَمِيَت بيوتهم وغَلَت مياههم في الآبار والعيون، فخَرَجوا من منازلهم هارِبين والسَّموم معهم، فسلَّط الله عليهم الشَّمسَ من فوقِ رؤوسهم فغَشِيَتهم، وسلَّط الله عليهم الرَّمضاءَ مِن تحتِ أرجُلِهم حتى تساقَطَت لحومُ أرجُلِهم، ثم نَشَأت لهم ظُلّة كالسّحابة السوداءِ، فلمّا رَأَوها ابتَدَروها يستغيثونَ بظلِّها، فوجَدوا لها بردًا ولذّةً، حتى إذا كانوا جميعًا تحتَها أطبقَت عَلَيهم وأمطَرَت عليهم نارًا فهلَكوا، ونجّى الله شعيبًا والذين آمنوا مَعَه. وذلك مرويٌّ أيضا عن ابن عمرو رضي الله عنهما.
والله جلّ وعلا ذكَر صفَةَ إهلاكهم في ثلاثَةِ مواطن، كلّ مَوطِن بصفَةٍ تناسب السِّياقَ، يقول بعضُ مفسِّرِي السلف: إنَّ أهلَ مَديَن عُذِّبوا بثلاثةِ أصناف منَ العذاب: أخَذتهم الرجفةُ في دورِهِم حَتى خَرَجوا مِنها، فَلمَّا خرَجوا مِنها أصابَهم فَزَعٌ شديدٌ، ففَرَقوا أن يدخُلوا إلى البيوتِ فتَسقُطَ علَيهم، فأرسَلَ الله عليهم الظّلّةَ، فدَخَل تحتها رجلٌ فقال: مَا رأيتُ كاليومِ ظِلاًّ أطيَبَ ولا أبرَدَ من هذا، هَلُمُّوا أيّها الناس، فدخلوا جميعًا تحتَ الظلّةِ، فصاح بهم صيحةً واحدة، فماتوا جميعًا.
أيّها المسلمون، من أفضَلِ الأعمال وأزكاها عند ربِّنا جلّ وعلا الإكثَارُ من الصّلاة والسّلام على النبيِّ الكريم.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/5422)
همّ الفراغ وفقه الترويح
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
28/6/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشواغل في حياة الناس. 2- من أضرار الحضارة الغربية. 3- مشكلة الفراغ. 4- مراعاة الإسلام لمطالب الفطرة البشرية. 5- الترويح في واقعنا. 6- الترويح في واقع السلف. 7- التحذير من التوسع في الترويح. 8- بيان خطر كثير من المسابقات الثقافية. 9- وسطية الإسلام وتوازنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، واعلَمُوا أنّ أَصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشَرَّ الأمور محدَثاتها، وكلّ محدثةٍ بِدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمينَ، فإنّ يدَ الله على الجماعَةِ، ومَن شذَّ عنهم فماتَ فميتتُه جاهليّة.
أيّها المسلِمون، إنّ حياةَ النّاسِ بِعامّة مَليئة بالشّواغِلِ والصّوارفِ المتضخِّمة، والتي تفتقِر من حيث الممارساتُ المتنوِّعة إلى شيءٍ من الفرز والتّرتِيب لقائمة الأولَويّات منها، مَع عدمِ إغفال النّظر حَولَ تَقديم ما هو أنفع على ما هو نافعٌ فحَسب. ثمّ إنّ الضغوطَ النفسيّة والاجتماعيّة الكبيرة الناتجةَ عَن هذا التَّضخّم ربّما ولَّدَت شيئًا من النّهَم واللّهَثِ غيرِ المعتاد تجاهَ البحثِ عمّا يبرِد غلّةَ هذه الرَّواسب المترَاكِمَة ويطفِئ أوارَها [1].
إنّ الحضارةَ العالميّةَ اليومَ قد عُنيت بإشعالِ السِّلاح ورفعِ الصّناعة وعَولمةِ بقاعِ الأرض، تلكمُ الحضارة التي حوَّلت الإنسانَ إلى شِبه آلةٍ تعمَل مُعظمَ النهار ـ إن هي عَمِلت ـ ليكون ساهرًا أو سادرًا [2] أو خَامدًا ليلَه كلَّه، هذه هي الثمرة الحاصلةُ، ليس إلاّ.
إنّ تِلكم الحضارةَ برُمَّتها لم تَكُن كَفيلةً في إيجادِ الإنسانِ العاقِلِ الإنسانِ المدرِك الإنسانِ الموقِن بِقيمةِ وجودِه في هذهِ الحياةِ وحِكمةِ خلقِ الله له، بَل إنَّ ما فيها من آلياتٍ متطوِّرة وتقنيّات كان سببًا بصورةٍ ما في إيجاد شيءٍ من الفراغِ في الحياةِ العامّة، ممّا ولَّد المناداةَ في عالَم الغرب بما يُسمَّى: "عِلم اجتماع الفراغ"، وإن لم يكن هذا الفراغُ فراغَ وقتٍ على أقلّ تقدير فهو فراغُ نفس وفراغ قلبٍ وفراغُ روح وأهدافٍ جادّة ومقاصدَ خاليةٍ من الشّوائب. يأَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق: 6]، لاَ أُقْسِمُ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى كَبَدٍ [البلد: 1-4].
إنّ الحضارةَ العالميّة حينَمَا توفِّر للبشَر بالتقدُّم العِلميّ والجهدِ الصناعيّ قوّةَ الإنسان ونشاطَه، وتوفّر له مزيدًا من الوقتِ، ثمّ يكون في نَفسِه وقلبِه وروحِه ذلكَ الفراغ، فهنا تحدُث المشكِلة ويَكمُن الدّاء الذي يجعَل أوقاتَ الفراغ في المجتمعاتِ تعيش اتَّساعًا خطيرًا، حتّى صارَت عبئًا ثقيلاً على حَرَكتِها وأَمنِها الفِكريّ والذّاتيّ، ومَنفذًا لإهدَارِ كثيرٍ مِن المجهودَات والطّاقات المثمِرة.
إنّ غِيابَ الضَّبط والتّحلِيلِ والتّرشيدِ للظّاهرةِ الحضاريّة الجديدةِ المنشِئةِ أوقاتَ الفراغِ ليمثِّل دليلاً بارزًا على وجود شَرخٍ في المشروع الحضارِيّ والعولمَة الحرّة، غَيرَ بعيدٍ أن تؤتَى الأمّة المسلِمة من قِبَله. وإنّ عدمَ وِعيِنَا التامّ بخطورةِ هذا المسلَك تجاهَ أوقاتِ الفراغ وعدَمَ وعيِنا التامّ بالمادّة المناسبَة لشَغل تلك الأوقات في استغلالِ العمليّات التنمويّة والفكريّة والاقتصاديّة البنَّاءة لجديرٌ بأَن يقلِبَ صورَتَه إلى مِعوَل هدمٍ يُضاف إلى غيره من المعاوِل من حيثُ نشعر أو لا نشعر، والتي ما فَتِئ الأجنبيّ عنّا يبثُّها ليلَ نهار لنَسفِ حضارة المسلمين على كافّة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا وَرَسول الله يقول: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)) رواه البخاري [3].
إنّ الإسلامَ دينٌ صَالح للوَاقِع والحَياة، يعامِل الناسَ عَلَى أنّهم بَشَر، لهم أشواقُهُم القلبيّة وحظوظُهم النفسيّة، فهو لم يَفتَرض فيهم أن يكونَ كلُّ كلامِهم ذكرًا وكلّ شرودِهم فكرًا وكلّ تأمّلاتهم عِبرةً وكلّ فراغِهم عِبادة، كلاّ ليس الأمر كذَلك، وإنّما وسَّع الإسلامُ التّعاملَ مَعَ كلّ ما تتطلَّبه الفِطَرُ البشريّة السّليمة من فرحٍ وتَرح وضَحكٍ وبكاء ولهو ومرَح، في حدود ما شرعه الله، محكومًا بآداب الإسلام وحدودِه.
عبادَ الله، إنّ قضيّةَ شَغلِ الفَراغ باللّهو واللّعِب والفَرَح لهيَ قضيّة لها صِبغةٌ واقعيّة على مِضمار الحياة اليوميّة، لا يمكن تجاهلُها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتدُّ الأمر ويزداد عِند وجودِ موجِبات الفراغ كالعُطَل ونحوِها، حتّى أصبَحت عند البَعضِ منهم مصنَّفةً ضِمنَ البرامِج المنظّمة في الحياة اليوميّة العَامّة، وهي غالبًا ما تكون غَوغَائيّة تلقائيّة ارتجاليّة، ينقُصُها الهدفُ السّليم، لا تحكمُها ضوابِطُ زمانيّة ولا مكانيّة، فضلا عن الضّوابِطِ الشرعيّة وما يَحسُن من اللّهو وما يقبُح.
التّرويح والتّرفيه ـ عبادَ الله ـ هو إدخالُ السّرور على النفس والتنفيس عنها وتجديد نشاطِها وزمُّها عن السّآمة والمَلل، وواقعُ النبيّ إبَّانَ حياتِه يؤكِّد أحقِّيةَ هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سِماك بن حَرب: قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله ؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابُه يتنَاشَدون الشعرَ عنده، ويَذكرون أشياء مِن أمر الجاهليّة، ويضحكون فيَبتَسمُ النبيّ معهم إذا ضَحِكوا. رواه مسلم [4]. وأخرج البخاريّ في الأدَبِ المفرد عن أبي سلمَةَ بن عبد الرحمن قال: لم يَكن أصحابُ رسول الله مُنحَرِفين ولا متَماوتِين، وكانوا يتناشدون الأشعارَ في مجالِسِهم ويذكرون أمرَ جاهليَّتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليق [5] عينَيه [6]. وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدَّرداء أنّه قال: (إنّي لأستَجِمّ نفسي بالشيءِ من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ) [7]. وذكر ابن أبي نجيح عن أبيه قال: قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنّي ليُعجبُني أن يكونَ الرّجل في أهلِه مثلَ الصَّبيّ، فإذا بُغِي منه حاجة وُجِد رجلا) [8]. وذكر ابن عبد البرّ عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: (أجمّوا هذه القلوبَ، والتمِسوا لها طَرائفَ الحِكمة، فإنّها تملّ كما تملّ الأبدان) [9].
يقول ابن الجوزِيّ: "ولقد رأيتُ الإنسانَ قد حُمِّل مِنَ التكاليف أمورًا صَعبَة، ومِن أثقَلِ ما حُمّل مداراةُ نفسِه وتكلِيفُها الصبرَ عمَّا تحبّ وعلى ما تَكرَه، فرأيتُ الصّوابَ قطعَ طريق الصّبر بالتسلية والتلطّف للنّفس". وبِمثل هذا تحدّث أبو الوفاء بن عقِيل فقال: "العاقلُ إذا خَلاَ بزَوجاتِه وإمائه لاعَبَ ومازح وهازَلَ، يعطي للزوجة والنَّفسِ حقَّهما، وإن خلا بأطفَالِه خرجَ في صورَةِ طِفلٍ وهَجَر الجِدَّ في بعضِ الوقت".
هَذِه بَعضُ الشّذراتِ ـ عبادَ الله ـ حولَ مَفهومِ اللّهو والتّسلية والتَّرويح، يُؤكَّد من خِلالِه أنّ الإسلامَ قد عُني بهذا الجانبِ حقَّ العناية، غيرَ أنّنا نَوَدّ أن نبيّن هنا وجهَ الهُوّة بَين مفهومِ الإسلام للتّرويح والتّسلية وبين اللّهو والمرَح في عَصرِنا الحاضر، والذي هو بِطبِيعَتِه يحتاج إلى دراساتٍ موسَّعة تَقتنِص الهدفَ للوصول إلى طريقةٍ مثلى للإفادَةِ منها في الإطار المشروع.
فينبغي دراسةُ الأنشطةِ التروِيحيّة الإيجابيّة مِنها والسّلبيّة، والرّبطُ بينها وبين الخلفيّة الشرعيّة والاجتماعيّة للطبقَة الممارِسَة لهذا النشاط، ومدَى الإفادَة مِن الترويح والإبداع في الوُصول إلى ما يقرِّب المصالحَ لا ما يبعِّدها، وإلى ما يُرضي الله لا إلى ما يسخطه، وتحليل الفِعل وردود الفِعل بين معطيات المتطلّبات الشرعيّة والاجتماعيّة وبين متطلّبات الرَّغبات الشخصيّة المشبوهة، وأثرِ تلك المشارَكاتِ في إذكاءِ الطاقاتِ والكفاءات الإنتاجيّة العائدة للأسَر والمجتَمَعات بالنّفع في دِينِهم ودنيَاهم.
إنّ علينا جميعًا كمسلمين أن نَشدَّ عزائمَنا لصيانَتِها ما أَمكنَ من أيِّ ضياعٍ في مَرَحٍ أو لهوٍ غَيرِ سَليم وغير مباحٍ، أو ممّا إثمه أكبرُ من نَفعِه، فلا ينبغي للمسلِمين أن يطلِقوا لأنفسِهم العِنانَ في التّرويح، بحيث يزاحِم آفاقَ العمل الجادّ واليقَظَة المستَهدفة، ولا أن يشغلَ عن الواجباتِ أو تضِيع بسببِ الانغماس فيه الفرائضُ والحقوق والواجبات، إذ لَيست إباحةُ التّرويح وسطَ رُكام الجدّ إلا ضربًا من ضُروب العَون وشَحذِ الهمّة على تحمّل أعباءِ الحقّ والصبر على تكاليفه والإحساس بأنّ ما للجدّ أولى بالتّقديم ممّا للَّهو والتّرويح، وبهذا يُفهَم قول النبيّ لحنظَلةَ بنِ عامر وقد شكا إليه تخلُّلَ بعض أوقاتِه بشيءٍ من الملاطفة للصّبيان والنّساء، فقال له : ((ولكن ساعة وساعة)) [10].
أمّا أن يُصبِحَ التّرويح للنَّفس طابعَ الحياة في الغدوِّ والآصالِ والخَلوة والجَلوة وهمًّا أساسًا في الحياة فهو خروجٌ به عَن مقصده وطبيعته واتّجاهٌ بالحياة إلى العَبَث والضّياع، والإنسانُ الجادّ عَلَيه أن يجعلَ من اللّهوِ والترويح له ولمن يعوله وقتًا، ويجعَل للعمل والجدّ أوقاتًا، لا العكس، لاَ سِيّما ونحن نعيش في عَصرٍ استَهوَت معظمُ النّفوسِ فيه كلّ جديد وطريف، حتّى صارت أكثرَ انجذابًا إلى احتِضَان واعتناقِ ما هو وافِدٌ عليها في ميدان اللّهو والمرَح، ولا غروَ في ذلكم عبادَ الله، فإنّ الاسترخاءَ الفكرِيّ وهَشاشةَ الضابِط القِيمِيّ لدى البَعضِ منّا هما أنسبُ الأوقات والأسباب لنَفَاذ الطَّرائف والبَدائع إلى النفوس، وهنا تكمن الخطورةُ ويستفحِل الداء.
فاللهوُ المنفتِح ـ عبادَ الله ـ والذي لا يضبَط بالقيودِ الواعيّة، إنّه ولا شكّ يتهدَّد الأصالةَ الإسلاميّة، لتصبح سَبَهللاً بين خَطَرين:
أحدهما: خطرٌ في المفاهيم، إن كان هناك شيءٌ مِن بعض المسابقات تُدعَى ثقافيّةً، تقوم في الغالِبِ على جمعٍ للتضادِّ الفكريّ، أو تنمية الصراع الثقافي، أو تصديع الثوابتِ المعلوماتيّة لدى المسلمين، بِقطعِ النظر عن التفسير الماديّ للتأريخ والحياةِ، أو على أقلِّ تقدير الإكثار مِن طرحِ ما عِلمُه لا يحتاج إليه الذَّكيّ ولا يستفيد منه البليد.
والخطر الثاني عباد الله: تلك التي تُعَدّ وسائلَ للتَّرويح والتسليةِ عَبرَ القنوات المرئيّة التي تُنتِج مفاهيمَ مضلِّلة، عبرَ طرقٍ جالِبة للثّقافاتِ والشهوات؛ لاسترقاق الفِكر من خلالِ فنونٍ أو أسَاطيرَ أو عروضٍ لما يَفتِن أو للسِّحر والشَّعوذة وما شاكلها.
ونِتاجُ الخطرين ولا شكَّ تمزُّق خطير، متمثِّلٌ في سوءِ عِشرة زوجية، أو تبايُن أفرادِ أسرةٍ إسلامية، ناهيكم عن القتل والخطفِ والانتحار والاغتصاب والتآمر والمخدّرات والمسكِرات، وهلُمّ جرًّا. وما حالُ من يقَع في مثل هذا الترويحِ إلاّ كقول من يقول: وداوني بالتي كانت هي الداء [11] ، أو كما يتداوَى شاربُ الخَمرِ بالخمر، فلَرُبَّ لَهوٍ بمرّةٍ واحدة يَقضِي على بُرج مشيَّد من العِلم والتّعليم للنَّفس، ويا لله كم من لذّةِ ساعةٍ واحدة أورثت حزنًا طويلا، وإِنَّمَا عِنْدَ ?للَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 95، 96].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فِيهِ من الآياتِ والذِّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] الأوار: حرّ النار والشمس.
[2] السادر: المتحيّر.
[3] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] صحيح مسلم: كتاب المساجد (670) بنحوه، واللفظ الذي ذكره الخطيب في خطبته هو لفظ أحمد (5/86، 88).
[5] حماليق العين: هو ما يسوده الكحل من باطن أجفان العين، وهو كناية عن فتح العينين، والنظر الشديد.
[6] الأدب المفرد (81)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في المصنف (5/278)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/540)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (432).
[7] بهجة المجالس (ص115)، وذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص274)، والبغوي في شرح السنة (13/184)، والذهبي في السير (5/421).
[8] أخرجه البيهقي في الشعب (6/292).
[9] جامع بيان العلم (659)، وأخرجه أيضًا الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص68) من طريق النجيب بن السري عن علي، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص424-425).
[10] أخرجه مسلم في كتاب التوبة (2750) عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه.
[11] شطر بيت لأبي نواس، وشطره الأول: دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ، وهو في ديوانه (1/21), وانظر: نهاية الأرب (3/83).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحدِ الأحَد، الفردِ الصمَد، الذي لم يلِد ولم يولد. وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبدُه ورسوله، صلوات الله وسَلامُه عليه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها النّاس.
واعلموا أنّ شريعةَ الإسلامِ شَريعة غرّاء، جاءَت بالتّكامل والتّوازُن والتّوسُّط، ففي حِين إنّ فيها إِعطاءَ النّفس حقَّها مِن التّرويحِ والتسلية، فإنّ فيها كَذَلِك ما يدلّ على أنّ مِنه النافعَ ومنه دونَ ذلك. فقد صحَّ عند النسائيّ وغيره أنّ النبيَّ قال: ((كلّ لَهوٍ باطلٌ غيرَ تأديبِ الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بسهمه)) الحديث [1].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلِّقًا على هذا الحديث: "والباطلُ مِن الأعمال هنا ما لَيس فيه منفعةٌ ولم يكن محرّمًا، فهَذا يُرخَّص فيه للنفوس التي لا تَصبِر على ما ينفع، وهذا الحقّ في القَدر الذي يُحتاج إليه في الأوقات التي تقتَضي ذلك، كالأعيادِ والأعراس وقدومِ الغائِب ونحوِ ذلك" [2] ، ويقول ابن العربي رحمه الله عن هذا الحديث: "ليس مرادُه بقوله: ((باطل)) أي: أنّه حرام، وإنّما يُريدُ أنّه عَارٍ من الثَّواب، وأنّه للدّنيَا محضٌ، لا تعلُّقَ له بالآخرة، والمباحُ منه [بَاطل]" [3].
هذا في اللَّهوِ المُباح عبادَ الله، وأمّا اللّهو المحرّمُ أو اللهوُ المباح الذي قد يُفضي إلى محرَّم فاستَمِعوا ـ يا رَعاكم الله ـ إلى كَلام الإمام البخاريّ رحمه الله في صَحيحِه حيث يقول: "بابٌ: كلّ لهوٍ باطل إذا أشغَلَه عن طاعة الله" [4]. يُعلِّق الحافظ ابن حجر على هذا الحديث فيقول: "أي: كَمَن التَهَى بشيء من الأشياء مطلقًا، سواء كان مأذونًا في فعله أو منهيًّا عنه، كمن اشتَغَل بصلاةِ نافلة أو بتلاوة أو ذكرٍ أو تفكّرٍ في معاني القرآن مثلا حتّى خرج وقتُ الصلاة المفروضة عمدًا، فإنّه يدخُلُ تحت هذا الضابِطِ، وإذا كان هذا في الأشياءِ المرغَّب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها؟!" [5].
فالحاصِل ـ أيّها المسلمون ـ أنَّ الترويحَ والفَرَحَ ينبغي أن يخضَعَا للضوابِط الشرعيّة، وأن لا يبغيَ بعضها على حدود الله، والله جل وعلاَ يقول: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229].
ألاَ وإنّ مَن أرادَ أن يَفرَحَ ويَلهوَ فَليكُن فرَحَ الأقوياء الأتقياء، وهو في نَفسِ الوَقتِ لا يزيغ ولا يَبغِي، بل يتّقي الأهازيجَ والضّجيج التي تُقلِق الذاكرَ وتكسِر قلبَ الشاكر، ولله ما أَحسنَ كلامًا لحكيمٍ من حُكماء السّلف يصِف فيه الباغين في اللّهو العابّين منه كما الهيم [6] ، دونَ رسمٍ للحقّ أو رعايةٍ للحدود، حيث يقول عن مرَحهم: "إنّه من مُشوِّشات القلب إلاّ في حَقِّ الأقوياء، فقد استَخَفّوا عقولَهم وأَديانهم من حيث لم يكن قصدُهم إلاّ الرياء والسّمعة وانتِشار الصّيت، فلم يَكن لهم قصدٌ نافع ولا تَأديب نافذ، فلبِسوا المرقّعات، واتّخذوا المتنزّهات، فيَظنّون بأنفسهم خيرًا، ويحسبون أنّهم يحسنون صُنعًا، ويعتقدون أنّ كلَّ سَودَاء تمرة، فَمَا أغزر حماقةَ من لا يميِّز بينَ الشّحم والورم، فإنّ الله تعالى يُبغِض الشبابَ الفارغ، ولم يحمِلهم على ذلكَ إلاّ الشباب والفراغ" [7].
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـ?رَةً أَوْ لَهْوًا ?نفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ ?للَّهِ خَيْرٌ مّنَ ?للَّهْوِ وَمِنَ ?لتّجَـ?رَةِ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لرازِقِينَ [الجمعة: 11].
هذا وَصَلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خَيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمرَكم الله بأمر بَدَأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلّم وزِد وبارك على عبدِك ورسولك محمّد صاحِبِ الوجه الأنوَر والجبين الأزهَر، وارضَ اللّهمّ عَن خلفائه الأربعة...
[1] سنن النسائي: كتاب الخيل (3578) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، ولفظه: ((وليس اللهو إلا في ثلاثة....)) ، وأخرجه أيضًا أحمد (4/148)، وأبو داود في كتاب الجهاد (2513)، وصححه الحاكم (2/95)، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (821).
[2] الاستقامة (1/277).
[3] انظر: فيض القدير (5/402).
[4] صحيح البخاري: كتاب الاستئذان.
[5] فتح الباري (11/91).
[6] الهيم: هي الإبل العطاش.
[7] إحياء علوم الدين (2/ 250) بتصرف.
(1/5423)
البيت المسلم
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
28/6/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أغلى أماني الشباب والشابات. 2- نعمة البيت السعيد. 3- أساس البيت المسلم الزوجان. 4- البيت النبوي أسوة البيوت كلها. 5- سمة البيت المسلم الذي أقامه الرعيل الأول. 6- أهمية تربية الأولاد على الدين. 7- التربية بالقدوة الحسنة. 8- خطورة غياب البيت المسلم. 9- تسليم البيت المسلم لأمر الله. 10- البيت المسلم بيت الذكر والعبودية لله. 11- البيت المسلم بيت التعاون والتناصح. 12- أهمية العلم والعمل للبيت المسلم. 13- من سمات البيت المسلم الحياء. 14- حفظ الأسرار وإخفاء الخلافات. 15- علاقة البيت المسلم بالمجتمع. 16- التعاون في أداء الأعمال المنزلية. 17- كيف تتحقق السعادة؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بِتَقوى الله، قال تَعَالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
في مثلِ هذِه الأيّام من كلِّ عامٍ تكثُرُ مناسبات الزّواج التي يتحقَّق بها أغلَى أمنياتِ الشباب من البنين والبنات في إقامةِ بَيتٍ مسلم سعيد، يجِدون فيه المأوَى الكريم والراحةَ النفسية والحلم السعيد، فيتَرعرَع في كنَف هذا البيت ويَنشَأ بين جنَباتِه جيلٌ صالح فريد، في ظلِّ أبوَّةٍ حادِبة وأمومةٍ حانية. هذا البيتُ، ما هي سماته؟ وما منهجُه؟ وكيف تتحقَّق سعادته؟ قال تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
البيتُ نعمةٌ لا يَعرِف قِيمتَه وفضلَه إلاَّ مَن فَقَدَه فعاشَ في ملجَأ مُوحش أو ظلُماتِ سجن أو تائه في شارع أو فلاة، قال تعالى: وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل: 80]، قال ابنُ كثير رحمه الله: "يَذكُر تبارك وتعالى تمامَ نِعمَتِه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستتِرون فيها، وينتَفِعون بها سائرَ وُجوهِ الانتفاع" [1].
البيتُ المسلم أمانةٌ يحمِلها الزوجان، وهما أساسُ بنيانه ودِعامة أركانه، وبهما يُحدِّد البَيتُ مسَارَه، فإذا استَقاما على منهجِ الله قولاً وعملاً وتزيَّنا بتقوَى الله ظاهرًا وباطنًا وتجمَّلا بحسنِ الخلق والسيرةِ الطيبة غدَا البيتُ مأوى النورِ وإشعاعَ الفضيلة، وسَطع في دنيا الناس ليصبح منطلَق بناءِ جِيلٍ صالح وصناعة مجتمعٍ كريم وأمَّة عظيمةٍ.
أيّها الزوجان، بيتُكما قلعةٌ من قلاع هذا الدّين، وكلٌّ منكما يَقِف على ثغرةٍ حتى لا ينفذَ إليها الأعداء. كلاكما حارسٌ للقلعة، وصاحبُ القوامةِ هو الزَّوج، وطاعتُهُ واجِبَة، قال رسول الله : ((كلكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيَّته)) ، وقال: ((والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها)) [2].
إنَّ البيتَ النبويَّ ومن فيه من أمهات المؤمِنين هو أسوة البيوت كلِّها على ظهرِ الأرض، فهو بيتٌ نبويٌّ ترفَّع على الرفاهيَّةِ والترَف، وداوم الذِّكرَ والتلاوة، رَسَم لحياته معالمَ واضحة، وضرَب لنفسهِ أروعَ الأمثلَة في حياةِ الزهد والقناعةِ والرضا. خيَّر رسولُ الله نِساءَه دونَ إكراهٍ بعد أن أعَدّهنَّ إعدادًا يؤهِّلهنَّ لحياةِ المثُل العُليا والميادين الخالدة. نَزَلت آية التخيير تُخيِّر زوجاتِ النبي بين الحياةِ الدنيا وزينتِها وبين الله ورسوله والدارِ الآخرة، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأَزْو?جِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ فَإِنَّ ?للَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـ?تِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 28، 29]، قالَت عائِشَةُ وكُلُّ زوجاتِه رضي الله عنهنّ كلّهن قالَت: نختَار الله ورسولَه والدارَ الآخرة [3].
إنَّ البيت المسلم الذي أقامَه الرَّعيل الأوّلُ جعل منهجَه الإسلام قولاً وعملا، صبَغ حياتَه بنور الإيمان، ونهَل من أخلاقِ القرآن، فتخرَّج من أكنافه نماذجُ إسلاميّةٌ فريدة، كتبت أروعَ صفحات التاريخ وأشدَّها سطوعًا. خرّج البيت المسلِمُ آنذاك للحياة الأبطالَ الشّجعان والعلماءَ الأفذاذ والعبَّادَ الزهاد والقادَةَ المخلصين والأولاد البررة والنساءَ العابدات، هكذا هي البيوت المسلمة لمّا بُنِيت على أساسِ الإيمان والهدايةِ واستنارَت بنور الإيمان.
إنَّ البيتَ المسلِمَ التقيَّ النقيَّ حَصانةٌ للفطرَةِ مِن الانحرافِ، قالَ : ((ما مِن مولودٍ إلاّ يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)) أخرجه البخاريّ [4]. يقول ابن القيِّم رحمه الله: "وأكثر الأولادِ إنما جاءَ فسادُهم من قِبَل الآباء وإهمالهم لهم وتَركِ تعليمهم فرائضَ الدّين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتَفِعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا" [5].
ما أجمَلَ أن يجمَع سيّدُ البَيت أولادَه فيَقرَأ عَليهم شيئًا من القرآن، ويسرُد عليهم من قصَصِ الأنبياء، ويغرِسَ في قلبهم وسلوكِهِم الآدابَ العالِية.
من أَولى أولويّات البيتِ المسلم وأسمى رِسالةٍ يقدِّمها للمجتَمَع تربِية الأولاد وتكوينُ جيل صالحٍ قويّ. لا قيمةَ للتربِية ولا أثرَ للنصيحة إلا بتحقيقِ القدوة الحسنة في الوالدين؛ القدوة في العبادة والأخلاق، القدوةِ في الأقوال والأعمالِ، القدوة في المخبر والمظهَر، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]، وتَدبَّر دعوةَ إبراهيمَ عليه السلام: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم: 40]، وقالَ تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه: 132].
في غيابِ البيتِ المسلِمِ المستقيم الهادِئ الهانئ يَنمُو الانحرافُ وتَفشُو المخدِّرات وترتَفِع نسبةُ الجريمة. إنَّ البيت الذي لا يغرس الإيمانَ ولا يستقيم على نهج القرآنِ ولا يعيش في ألفةٍ ووئام يُنجب عناصرَ تعيش التمزُّقَ النفسي والضياعَ الفكري والفسادَ الأخلاق، هذا العقوق الذي نجِده من بعض الأولادِ والعلاقاتُ الخاسِرة بَين الشبابِ والتخلّي عن المسؤُوليّة والإعراض عن الله والتّمرُّد على القِيَم والمبادِئ الذي يَعصِف بفريقٍ من أبناءِ أمّتنا اليوم نتيجةٌ حتميّة لبيتٍ غَفَل عن التزكية وأهمل التربية وفقد القدوة وتشتَّت شملُه.
البيتُ المسلِم من سماتِه الأصيلة أنّه يَردُّ أمرَه إلى الله ورَسولِه عند كلِّ أمرٍ وفي كلِّ خِلاف مهما كان صغيرًا، وكلُّ مَن فيه يَرضَى ويسلِّم بحكمِ الله، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36].
حياةُ البيتِ المسلم وسَعادَتُه وأُنسه ولذَّتُه في ذكر الله، فعَن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((مَثَل البيتِ الذي يُذكَر الله فيه والبيتِ الذي لا يُذكر الله فيه مثلُ الحيِّ والميِّت)) أخرجه المسلم [6] ، وعَنِ ابنِ عمَر رضي الله عَنهما عن النبيِّ قال: ((اجعَلُوا مِن صَلاتِكم في بيوتِكم ولا تتَّخذوهَا قُبورًا)) [7] ، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله : ((لا تجعَلوا بيوتَكم مقابر، إنَّ الشيطان ينفر من البيتِ الذي تقرأ فيه سورَة البقرة)) [8] ، وقال: ((علَيكم بالصلاة في بيوتكم، فإنَّ خير صلاة المرء في بيتِه إلا الصلاة المكتوبة)) أخرجه البخاري ومسلم [9].
هذه الأحاديثُ وغيرُها تَدلّ على مَشروعيّة إِحياءِ بيوت المسلِمين وتنويرِها بذكر الله منَ التّهليل والتّسبيح والتّكبير وغيرِ ذلك من أنواع الذكر، إحياؤها بالإكثارِ من صلاة النافلة، وإذا خَلَتِ البيوت من الصلاة والذّكر صارَت قبورًا موحشة وأطلالاً خرِبة ولو كانت قصورًا مشيدة. بدون ذكرِ الله والقرآن تغدو البيوتُ خامِلة ومرتعًا للشيطان، سُكَّانها موتى القلوب وإن كانوا أحياءَ الأجسادِ.
مِن سماتِ البيتِ المسلم تعاونُ أفراده على الطاعةِ والعبادة، فضَعْفُ إيمانِ الزوجة يقوِّيه الزوجُ، واعوجاج سلوك الزوجة يقوِّمه الزوج، تكاملٌ وتعاضُد ونصيحة وتناصر، قالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله يصلِّي من اللّيل، فإذا أوتَرَ قال: ((قُومي فأَوتِري يا عائِشة)) أخرجه مسلم [10] ، وقال: ((رَحِم الله رجلاً قام من الليل فصلّى وأيقظ امرأتَه، فإن أبَت نضح في وجهِها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من اللّيل فصلَّت وأيقظَت زوجها، فإن أبى نَضَحَت في وجهِه الماء)) أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [11]. يدلُّ الحَديثان على أنَّ لِكلٍّ من الرّجل والمرأة دورًا في إصلاحِ صاحبه وحثِّه على طاعة الله عزّ وجلّ.
يُؤسَّس البيتُ المسلم على عِلمٍ وعمَل، علمٍ يدلّه على الصِّراط المستقيم ويُبصِّر بسُبُل الجحيم، علمٍ بآداب الطهارة وأحكام الصّلاة وآداب الاستئذان والحلالِ والحرام، لا يجهَل أهلُ البيت أحكامَ الدين، فهم ينهَلون من علم الشريعة في حَلقةِ علمٍ بين الفينة والأخرى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6]. هذه الآيةُ أصلٌ في تعليم أهل البيت وتربيتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وحقٌّ على المسلم أن يعلّم أهلَه كما قال عليٌّ : (علِّموهم وأدِّبوهم). قال القرطبيّ رحمه الله: "فعلينا تعليمُ أولادِنا وأهلينا الدينَ والخيرَ وما لا يُستَغنى عنه من الأدبِ".
من سمات البيتِ المسلم الحياء، وبه يُحصِّن البيتُ كيانَه من سِهام الفتك ووسائل الشرّ التي تدَع الديار بلاقِع. لا يليقُ ببيتٍ أُسِّس علَى التَّقوى أن يُهتَك سِتره ويُلفظَ حَياؤه ويُلوَّث هواؤه بما يخدش الحياءَ.
مِن سماتِ البيت المسلم أنَّ أسرارَه محفوظة وخِلافاته مستورة، لا تُفشى ولا تُستقصَى، قال : ((إنَّ مِن أشرِّ الناس عندَ الله منزلةً يومَ القيامة الرجل يُفضِي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سِرَّها)) أخرَجَه مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ [12].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستَغفِروه، إنه هو الغَفور الرّحيم.
[1] تفسير القرآن العظيم (2/581).
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في التفسير (4786)، ومسلم في الطلاق (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجنائز (1358) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في القدر (2658).
[5] تحفة المودود (ص229).
[6] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (779)، وهو عند البخاري في الدعوات (6407) بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في الصلاة (432)، ومسلم في صلاة المسافرين (777).
[8] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (780).
[9] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6113)، صحيح مسلم: صلاة المسافرين (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[10] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (744)، وأخرجه البخاري في الصلاة (512).
[11] سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: قيام الليل (1113)، وأخرجه أيضًا أحمد (2/250)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الترغيب في قيام الليل (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1326)، وصححه ابن خزيمة (3/183-1148)، وابن حبان (6/307-3567)، والحاكم (1/309)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1287).
[12] صحيح مسلم: كتاب النكاح (1437).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كلِّ حال، ونسأله سبحانه العافيةَ والمعافاة الدائمةَ في الحال والمآل، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تفرّد بالعظمة والجلال، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبده ورسولُه أكرَمَه الله بأفضلِ الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
البيتُ المسلِم يُقيم عَلاقاتِه معَ المجتمع على أساسِ الإيمان، إنّه يزداد نورًا بزيَارَة أهل الصّلاح، فالمؤمن كحاملِ المسك؛ إما أن يعطيَك، وإما أن تشتريَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيّبة، رَّبّ ?غْفِرْ لِى وَلِو?لِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَلاَ تَزِدِ ?لظَّـ?لِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا [نوح: 28].
لا يدخُلُ البيتَ المسلم من لاَ يُرضَى دينُه، فدخول المفسِدِ فسَاد، وولوجُ المشبُوه خطرٌ على فلَذَات الأكباد، بهؤلاء فسدَت الأخلاق في البيوت، وفشَا السِّحر، وحَدَثت السرقات، وانقلبت الأفراح أتراحًا، بل إنهم معاوِلُ هدم للبيتِ السّعيد.
البيتُ المسلم تتعمّق صلاتُه وتَزداد رسوخًا بإحياءِ مَعاني التعاوُن في مهمات البيتِ وأعماله، ولنا في رَسول الله أسوةٌ حَسَنة، لمّا سئِلت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يعمَل في بيتِه؟ فأجابَت: كان بشَرًا من البشَر؛ يفلي ثوبَه، ويحلِب شاتَه، ويخدم نفسَه. أخرجه أحمد [1]. وفي روايَة: كان يكون في مهنَة أهله ـ تعني خدمةَ أهله ـ، فإذا حضرت الصلاة خَرَج إلى الصلاة. أخرجه البخاري [2].
لو طُلب من أَحدِنا أن يتَمنّى في الدنيا لكان مأمولُه وعظيمُ مطلوبه أن يعيش في كنَف السعادة، وتغمرَ حقيقتُها أرجاءَ البيت. هذه السعادة في البيتِ المسلم لا تتحقَّق بتَوَافر المسكنِ الفاخر والأثاثِ الفاخر والملابس الفاخِرة، السعادة في البيتِ المسلم تتوفَّر بتحقيقِ تقوى الله عند كلٍّ من الزّوجين ومراقبتِه في السرّ والعَلَن وفي الغَيبِ والشهادة، تتحقَّق السعادة بأن يَنظُر كلٌّ من الزوجين إلى الزّواج على أنه عبادةٌ يَتَقرّب كلٌّ منهما إلى الله بحُسنِ أداء واجباتِه الزوجيّة بإخلاصٍ وإتقان.
في ظلِّ هذه المعاني يَقوم البيتُ المسلم السعيد عَامرًا بالصّلاة والقرآن، تظلِّله المحبَّةَ والوئام، وتَنشَأ الذريّة الصالحة فتكون قرَّةَ عَين للوالدين ومَصدرَ خيرٍ لهما في الدّنيا والآخرة، قال تَعَالى: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
ألاَ وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذَلك في كِتَابِه فَقَال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عَبدِك ورَسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خُلفائه الأربعة الرَّاشِدين...
[1] مسند أحمد (6/256)، وأخرجه أيضًا البخاري في الأدب المفرد (541)، والترمذي في الشمائل (343)، وأبو يعلى (4873)، وأبو نعيم في الحلية (8/331)، وصححه ابن حبان (5675)، وقال الذهبي في السير (7/158): "هذا حديث صالح الإسناد"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (671).
[2] صحيح البخاري: كتاب الأذان (676).
(1/5424)
وكونوا مع الصادقين
الإيمان
خصال الإيمان
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفهوم الصدق. 2- حقيقة الصادق. 3- صدق السلف الصالح. 4- فضل الصدق. 5- انعدام الصدق في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
وَاعلَمُوا أَنَّ الصِّدقَ لَيسَ خَاصًّا بِالقَولِ كَمَا يَفهَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ خُلُقٌ يَتَّسِعُ لِيَكُونَ عَمَلاً قَلبِيًّا يَتعلَّقُ بِالنِّيَّاتِ وَالمَقَاصِدِ، وَجَسَدِيًّا يَظهَرُ على الأَعضَاءِ وَالجَوَارِحِ، حَيثُ يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ بِالصِّدقِ في النِّيَّةِ وَالمَقصِدِ وَالصِّدقِ في القَولِ وَالصِّدقِ في العَمَلِ، فَلا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِلحَقِيقَةِ في قَولِهِ، وَلا مُتَحَدِّثًا بما يَعلَمُ أَنَّ الوَاقِعَ خِلافُهُ، وَلا تَجِدُهُ مُخَالِفًا في عَمَلِهِ لِمَا يَقُولُ وَيَعتَقِدُ، وَلا قَائِلاً بما لا يَستَطِيعُ فِعلَهُ، وَتَرَاهُ إِذَا حَصَّلَ عِلمًا عَمِلَ بِهِ، وَلَزِمَ ذَلِكَ العَمَلَ وَاستَقَامَ عَلَيهِ مَا بَقِيَ حَيًّا، وَالصِّدقُ عَلَى هَذَا مُرَادِفٌ لِلاستِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ، وَالصَّادِقُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ مُستَقِيمٌ عَلَى الأَمرِ وَالنَّهيِ، لا يَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعالِبِ يَمنَةً وَيَسرَةً، قال سُبحَانَهُ: لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ، قال ابنُ كَثِيرٍ رحمه اللهُ: " أُولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا أَيْ: هَؤُلاءِ الذين اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الذين صَدَقُوا في إِيمَانِهِم؛ لأَنهم حَقَّقُوا الإِيمَانَ القَلبيَّ بِالأَقوَالِ وَالأَفعَالِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الذِينَ صَدَقُوا، وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ؛ لأَنَّهُمُ اتَّقُوا المَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ".
وقال سُبحَانَهُ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ، قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "فَالفِتنَةُ قَسَّمَتِ النَّاسَ إِلى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ وَمُؤمِنٍ وَمُنَافِقٍ وَطَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، فَمَن صَبرَ عَلَيهَا كَانَت رَحمَةً في حَقِّهِ وَنجا بِصَبرِهِ مِن فِتنَةٍ أَعظَمَ مِنهَا، وَمَن لم يَصبرْ عَلَيهَا وَقَعَ في فِتنَةٍ أَشَدَّ مِنهَا". وقال رحمه اللهُ: "فَالنَّاسُ إِذَا أُرسِلَ إِلَيهِمُ الرُّسُلُ بَينَ أَمرَينِ: إِمَّا أَن يَقُولَ أَحَدُهُم: آمَنتُ، أَو لا يُؤمِنُ بَل يَستَمِرُّ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالكُفرِ، وَلا بُدَّ مِنِ امتِحَانِ هَذَا وَهَذَا، فَأَمَّا مَن قَالَ: آمَنتُ فَلا بُدَّ أَن يَمتَحِنَهُ الرَّبُّ وَيَبتَلِيَهُ؛ لِيَتَبَيَّنَ هَل هُوَ صَادِقٌ في قَولِهِ: آمَنتُ أَو كَاذِبٌ، فَإِن كَانَ كَاذِبًا رَجَعَ عَلَى عَقِبَيهِ وَفَرَّ مِنَ الامتِحَانِ كَمَا يَفِرُّ مِن عَذَابِ اللهِ، وَإِن كَانَ صَادِقًا ثَبَتَ عَلَى قَولِهِ وَلم يَزِدْهُ الابتِلاءُ وَالامتِحَانُ إِلاَّ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِ، قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى المُؤمِنُونَ الأَحزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُم إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسلِيمًا ، وَأَمَّا مَن لم يُؤمِنْ فَإِنَّهُ يُمتَحَنُ في الآخِرَةِ بِالعَذَابِ وَيُفتَنُ بِهِ، وَهِيَ أَعظَمُ المِحنَتَينِ، هَذَا إِن سَلِمَ مِنِ امتِحَانِهِ بِعَذَابِ الدُّنيَا وَمَصَائِبِهَا وَعُقُوبَتِهَا التي أَوقَعَهَا اللهُ بِمَن لم يَتَّبِعْ رُسُلَهُ وَعَصَاهُم، فَلا بُدَّ مِنَ المِحنَةِ في هَذِهِ الدَّارِ وفي البَرزَخِ وَفي القِيَامَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ المُؤمِنَ أَخَفُّ مِحنَةً وَأَسهَلُ بَلَيَّةً، فَإِنَّ اللهَ يَدفَعُ عَنهُ بِالإِيمَانِ وَيَحمِلُ عَنهُ بِه، وَيَرزُقُهُ مِنَ الصَّبرِ وَالثَّبَاتِ وَالرِّضَا وَالتَّسلِيمِ مَا يُهَوِّنُ بِهِ عَلَيهِ مِحنَتَهُ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُ وَالفَاجِرُ فَتَشتَدُّ مِحنَتُهُ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا بَلَغَ مَن بَلَغَ مِن مُتَقَدِّمِي هَذِهِ الأُمَّةِ وَلا امتُدِحُوا وَفَازُوا وَأَفلَحُوا إِلاَّ بِصِدقِهِم مَعَ رَبِّهِم وَوَفَائِهِم بما عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ، قال تعالى: مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ، وقال سُبحَانَهُ مُمتَدِحًا المُهَاجِرِينَ رضي اللهُ عنهم: لِلفُقَرَاء المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيارِهِم وَأَموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، قال ابنُ كَثِيرٍ رحمه اللهُ: "أَيْ: هَؤُلاءِ الذِينَ صَدَّقُوا قَولَهُم بِفِعلِهِم، وَهَؤُلاءِ هُم سَادَاتُ المُهَاجِرِينَ، وَلَمَّا ادَّعَى قَومٌ الإِيمانَ وَكَأَنَّهُم يَمُنُّونَ بِهِ قال تعالى مُوَضِّحًا حَقِيقَةَ الإِيمَانِ الكَامِلِ: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، وَأَمَّا المُنَافِقُونَ الذِينَ هُم في الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُم مَا خُذِلُوا وَلا خَسِرُوا وَلا خَابُوا وَلا ذُمُّوا بِمِثلِ تَقَلُّبِهِم وَتَلَوُّنِهِم وَكَذِبِهِم عَلَى رَبِّهِم وَعَدَمِ صِدقِهِم في عُهُودِهِم، قال سُبحَانَهُ: وَجَاء المُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعرَابِ لِيُؤذَنَ لَهُم وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وقال تعالى: إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيمَانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لا يَفقَهُونَ وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِن يَقُولُوا تَسمَع لِقَولِهِم كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ عَلَيهِم هُمُ العَدُوُّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَستَغفِرْ لَكُم رَسُولُ اللهِ لَوَّوا رُؤُوسَهُم وَرَأَيتَهُم يَصُدُّونَ وَهُم مُستَكبِرُونَ سَوَاء عَلَيهِم أَستَغفَرتَ لَهُم أَم لم تَستَغفِرْ لَهُم لَن يَغفِرَ اللهُ لَهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ ، وقال جل وعلا: إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُم وَإِذَا قَامُوا إِلى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُذَبذَبِينَ بَينَ ذَلِكَ لاَ إِلى هَؤُلاء وَلاَ إِلى هَؤُلاء وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ لا نجاةَ وَلا فَوزَ في يَومِ الدِّينِ وَلا فَلاحَ ولا تَوفِيقَ إِلاَّ لِلصَّادِقِينَ، وَالصِّدقُ خَيرٌ لِلمُتَّقِينَ، قال جل وعلا: طَاعَةٌ وَقَولٌ مَعرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمرُ فَلَو صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيرًا لَهُم ، وقال سُبحَانَهُ: قَالَ اللهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لهم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ ، وقال سُبحَانَهُ: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ، وَأَخرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ رضي اللهُ عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللهِ مِن أَهلِ نَجدٍ ثَائِرَ الرَّأسِ يُسمَعُ دَوَيُّ صَوتِهِ وَلا يُفقَهُ مَا يَقُولُ، حتى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسأَلُ عَنِ الإِسلامِ، فقال رَسُولُ اللهِ : ((خمسُ صَلَواتٍ في اليَومِ وَاللَّيلَةِ)) ، فقال: هَل عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قال: ((لا إِلاَّ أَن تَطوعَ)) ، قال رَسُولُ اللهِ : ((وَصِيَامُ رَمَضَانَ)) ، قال: هَل عَلَيَّ غَيرُهُ؟ قال: ((لا إِلاَّ أَن تَطوعَ)) ، قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ الزَّكَاةَ، قال: هَل عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قال: ((لا إِلاَّ أَن تَطوعَ)) ، قال: فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنقُصُ، قال رَسُولُ اللهِ : ((أَفلَحَ إِن صَدَقَ)) ، بَل إِنَّ الصَّادِقَ مَعَ اللهِ لا يُخَيِّبُهُ اللهُ فِيمَا رَجَاهُ، فَقَد رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعرَابِ جَاءَ إِلى النَّبيِّ فَآمَنَ بِهِ واتَّبَعَهُ، ثم قال: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوصَى بِهِ النَّبيُّ بَعضَ أَصحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَت غَزَاتُهُ غَنِمَ النَّبيُّ فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعطَى أَصحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرعَى ظَهرَهُم، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيهِ، فقال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قَسمٌ قَسَمَهَ لَكَ النَّبيُّ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلى النَّبيِّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قال: ((قَسَمتُهُ لَكَ)) ، قَال: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعتُكَ، وَلَكِنِ اتَّبَعتُكَ عَلَى أَن أُرمَى إِلى هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلى حَلقِهِ بِسَهمٍ فَأَمُوتَ فَأَدخُلَ الجَنَّةَ، فقال: ((إِن تَصدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ)) ، فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثم نَهَضُوا إِلى قِتَالِ العَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ إِلى النَّبيِّ يُحمَلُ قَد أَصَابَهُ سَهمٌ حَيثُ أَشَارَ، فقال النَّبيُّ : ((أَهُوَ هُوَ؟)) قَالُوا: نَعَمْ، قال: ((صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ)) ، بَل إِنَّ جَزَاءَ الصَّادِقِ لَيَتَجَاوَزُ ذَلِكَ بِفَضلِ اللهِ وَرَحمَتِهِ، حتى إِنَّهُ تعالى لَيَمُنُّ عَلَى العَبدِ بِصِدقِ نِيَّتِهِ فَيُؤتِيهِ أَجرَ العَامِلِ وَلَو لم يَعمَلْ، قال : ((مَن سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ مِن قَلبِهِ صَادِقًا بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِن مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)).
أَمَّا كَلِمَةُ التَّوحِيدِ فَإِنَّ لها مَعَ الصِّدقِ شَأنًا عَظِيمًا، قال : ((مَن مَاتَ وَهُوَ يَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِن قَلبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ)) ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَا مِن نَفسٍ تَمُوتُ وَهِي تَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَني رَسُولُ اللهِ يَرجِعُ ذَلِكَ إِلى قَلبٍ مُوقِنٍ إِلاَّ غَفَرَ اللهُ لها)).
وَالمُؤمِنُ لا بُدَّ أَن يَقَعَ في الذُّنُوبِ، وَلَكِنَّهُ متى صَدَقَ في التَّوبَةِ وَاستَغفَرَ رَبَّهُ بِيَقِينٍ لم يَكُنْ لَهُ دُونَ الجَنَّةِ جَزَاءٌ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((سَيِّدُ الاستِغفَارِ أَن تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ، خَلَقتَني وَأَنا عَبدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهدِكَ وَوَعدِكَ مَا استَطَعتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنبي، فَاغفِرْ لي فَإِنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنتَ)) ، قَالَ: ((وَمَن قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بها فَمَاتَ مِن يَومِهِ قَبلَ أَن يُمسِيَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ، وَمَن قَالَهَا مِنَ اللَّيلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبلَ أَن يُصبِحَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ)).
بَل حتى الدُّنيَا وَمَا فِيهَا مِنَ التَّعامُلِ فَإِنَّهُ لا يَستَقِيمُ حَالُهَا إِلاَّ لِمَن صَدَقَ، قال : ((البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيعِهِمَا، وَإِن كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَت بَرَكَةُ بَيعِهِمَا)) ، بَل إِنَّهُ مَا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ مِن خَيرٍ وَلا بِرٍّ إِلاَّ وَمَنشَؤُهُ الصِّدقُ، وَمَا مِن شَرٍّ وَلا فُجُورٍ إِلاَّ وَبِدَايَتُهُ الكَذِبُ، شَاهِدُ ذَلِكَ مَا صَحَّ عنه عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّهُ قال: ((عَلَيكُم بِالصِّدقِ؛ فَإِنَّ الصِّدقَ يَهدِي إِلى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهدِي إِلى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُم وَالكَذِبَ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ يَهدِي إِلى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا))، قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "فَكُلُّ عَمَلٍ صالحٍ ظاهرٍ أو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الصِّدقُ، وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الكَذِبُ، وَاللهُ تعالى يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بِأَن يُقعِدَهُ وَيثَبِّطَهُ عَن مَصَالحِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بِأَن يُوَفِّقَهُ لِلقِيَامِ بمصالحِ دُنيَاهُ وَآخِرَتِهِ، فَمَا استُجلِبَت مَصَالحُ الدُّنيا وَالآخِرَةِ بِمِثلِ الصِّدقِ، وَلا مَفَاسِدُهما وَمَضَارُّهما بِمِثلِ الكَذِبِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.
ثم اعلَمُوا أَنَّ الصِّدقَ كَمَا أَسلَفنَا خُلُقٌ شَامِلٌ، يَدخُلُ فِيهِ الصِّدقُ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ وَالأَحوَالِ، قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "فَالصِّدقُ في الأَقوَالِ استِوَاءُ اللِّسَانِ على الأَقوَالِ كاستِوَاءِ السُّنبُلَةِ على سَاقِهَا، وَالصِّدقُ في الأَعمَالِ استِوَاءُ الأَفعَالِ على الأَمرِ وَالمُتَابَعَةِ كاستِوَاءِ الرَّأسِ على الجَسَدِ، وَالصِّدقُ في الأَحوَالِ استِوَاءُ أَعمَالِ القَلبِ وَالجَوَارِحِ على الإِخلاصِ وَاستِفرَاغِ الوُسعِ وَبَذلِ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ العَبدُ مِنَ الذِينَ جَاؤُوا بِالصِّدقِ، وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ أَمرَ الصِّدقِ عَظِيمٌ وَشَأنَهُ جَلِيلٌ، وَإِنَّ الأُمَّةَ لم تُؤتَ في مَاضٍ وَلا حَاضِرٍ إِلاَّ مِن قِبَلِ عَدَمِ صِدقِهَا مَعَ رَبِّهَا، لَكِنَّهَا لم تُبتَلَ بِعَدَمِ الصِّدقِ بِمِثلِ مَا بُلِيَت بِهِ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ التي كَثُرَ فِيهَا الدَّجَّالُونَ وَالأَفَّاكُونَ، وَوُجِدَ فِيهَا المُتَكَلِّمُونَ المُتَفيهِقُونَ، وَلا سِيَّمَا مِنَ الصَّحَفِيِّينَ وَالإِعلامِيِّينَ، الذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ، وَيَتَحَدَّثُونَ فِيمَا لا يَعلَمُونَ، وَيُدخِلُونَ أَنفُسَهُم فِيمَا يُحسِنُونَ وَمَا لا يُحسِنُونَ، وَيُنَصِّبُونَ أَنفُسَهُم لِلتَّحكِيمِ في شُؤُونِ الأُمَّةِ وَأُمُورِ المُسلِمِينَ، حتى على المَعلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، فَضلاً عَنِ القِيَمِ وَالمَبَادِئِ وَالأَخلاقِ، وَصَدَقَ المَصدُوقُ حَيثُ قال: ((إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ)) ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيبِضَةُ؟ قال: ((المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ)). وَإِنَّ المُتَابِعَ لِمَا يُكتَبُ في صَحَافَتِنَا اليَومَ لَيَعلَمُ مَدَى انطِبَاقِ هَذَا الحَدِيثِ عَلَى الصَّحَافَةِ وَأَهلِهَا، فَكَم مِن صَادِقٍ كَذَّبُوهُ وَظَلَمُوهُ! وَكَم مِن كَاذِبٍ صَدَّقُوهُ وَأَظهَرُوهُ! وَكَم مِن حَقَائِقَ قَلَبُوهَا وَغَيَّرُوهَا! وَصَغَائِرَ كَبَّرُوهَا وَضَخَّمُوهَا!
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَقوَالِهِم، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَعمَالِهِم، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَحوَالِهِم، اُصدُقُوا اللهَ يَصدُقْكُم، اُصدُقُوا مَعَ أَنفُسِكُم وَإِخوَانِكُم، اُصدُقُوا في بَيعِكُم وَشِرَائِكُم وَمُعَامَلاتِكُم، اُصدُقُوا في أَخذِكُم شَرَائِعَ دِينِكُم، لا تُكُونُوا ممَّن يُؤمِنُ بِبَعضٍ وَيَكفُرُ بِبَعضٍ، بَل خُذُوا مَا أُوتِيتُم بِقَوَّةٍ وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلا تَتَرَدَّدُوا وَلا تَرتَابُوا، إِنَّ اللهَ أَكرَمُ مِن أَن يُخَيِّبَ صَادِقًا، إِنَّ اللهَ أَجوَدُ مِن أن يَرُدَّ صَادِقًا، وَوَاللهِ لَو صَدَقَ المُسلِمُونَ لانتَصَرُوا وَقَادُوا العَالمَ، وَاللهِ لَو صَدَقَ النَّاسُ بَعضُهُم بَعضًا مَا احتَاجُوا مَحكَمَةً وَلا قَاضِيًا، وَاللهِ لَو صَدَقَ بَعضُنَا بَعضًا لََتَلاشَتِ المُنكَرَاتُ وَاختَفَتِ المُخَالَفَاتُ، وَاللهِ لَو صَدَقَ بَعضُنَا بَعضًا لَطَابَت لنا الحَيَاةُ، وَلَذَهَبتِ الهُمُومُ وَقُضِيَت الحَاجَاتُ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ الثَّبَاتَ في الأَمرِ وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرَّشدِ، وَنَسأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحمتِكَ وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِكَ، وَنَسأَلُكَ شُكرَ نِعمَتِكَ وَحُسنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسأَلُكَ قُلُوبًا سَلِيمَةً وَأَلسِنَةً صَادِقَةً، وَنَسأَلُكَ مِن خَيرِ مَا تَعلَمُ وَنَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا تَعلَمُ، وَنَستَغفِرُكَ لِمَا تَعلَمُ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ...
(1/5425)
لئلا تكون من الخاسرين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, مواعظ عامة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
21/6/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الحياة الدنيا. 2- التحذير من الغفلة وطول الأمل. 3- ضلال أكثر الناس. 4- أركان النجاة والفوز. 5- فضل سورة العصر. 6- آثار الذنوب والمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها الناسُ ـ ونفسي بِتَقوَى اللهِ عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، الدُّنيا مَتَاعٌ زَائِلٌ وَلَذَّةٌ فَانِيَةٌ، وَالإِنسَانُ مخلُوقٌ ضَعِيفٌ وَعُمُرُهُ لحظَاتٌ، وَكُلٌّ يَغدُو فَبَائِعٌ نَفسَهُ فَمُعتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا، فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاستَغنَى وَكَذَّبَ بِالحُسنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسرَى وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ، يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ. عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ رضي اللهُ عنه قال: جَاءَ جِبرِيلُ إلى النبيِّ فقال: يَا محمدُ، عِشْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعمَلْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ، وَأَحبِبْ مَن شِئتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ.
نَعَمْ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نَعِيشُ في هَذِهِ الدُّنيَا مُسَافِرِينَ، وَنَخرُجُ مِنهَا غَيرَ مُخَيَّرِينَ، وَنُدفَنُ مِن كُلِّ مَا اكتَسَبنَاهُ فِيهَا مُجَرَّدِينَ، وَالمُوَفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ فَعَمِلَ صَالحًا وَدَعَا إِلى اللهِ وَكَانَ مِنَ المُسلِمِينَ، وَإِنَّ مِنَ الخَسَارَةِ وَالغَبنِ أَن يُوجَدَ أُنَاسٌ في هَذِهِ الحَيَاةِ ثم يَخرُجُونَ مِنهَا وَمَا عَرَفُوا وَظِيفَتَهُم وَمَا فَقِهُوا مُهِمَّتَهُم، يَعِيشُونَ لِيَأكُلُوا وَيَأكُلُونَ لِيَعِيشُوا، يَبنُونَ القُصُورَ وَيَعمُرُونَ الدُّورَ، وَيَتَزَوَّجُونَ الحَسنَاوَاتِ وَيَفرَحُونَ بِالبَنِينَ وَالبَنَاتِ، وَيحرِصُونَ على جمعِ الدُّنيَا وَيُنَافِسُونَ عَلَى حُطامِها، وَيُغرِقُونَ في طَلَبِ كَمَالِيَّاتِهَا وَتُلهِيهِم مُلهِيَاتُهَا، ثم لا يُفَاجَأُ أَحَدُهُم إِلاَّ بِالمَوتِ يختَطِفُهُ على غِرَّةٍ، وَإِذَا هَاذِمُ اللَّذَّاتِ يَنتَزِعُ رُوحَهُ على غَفلَةٍ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ لَعَلِّي أَعمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرزَخٌ إِلى يَومِ يُبعَثُونَ. وَإِذَا كَانَ النَّاسُ في تَعَامُلاتِهِمُ الدُّنيَوِيَّةِ يَخسَرُونَ ثم يَربَحُونَ فَإِنَّ خَسَارَةَ الدِّينَ وَخَسَارَةَ النَّفسِ في الآخِرَةِ هِيَ الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ التي مَا بَعدَهَا رِبحٌ، وَهِيَ المُصِيبَةُ العُظمَى وَالطَّامَّةُ الكُبرَى وَالكَسرُ الذي لا يُجبَرُ وَالجُرحُ الذي لا يَبرَأُ، قال سُبحَانَهُ: قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ ، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ.
وَإِنَّهُ لَمِن سُوءِ حَظِّ الإِنسَانِ أَنَّهُ خَاسِرٌ في الأَغلَبِ إِلاَّ مَن رَحِمَهُ اللهُ، ضَالٌّ في الأَعَمِّ إِلاَّ مَن هَدَاهُ اللهُ، قال سُبحَانَهُ: وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنِينَ ، وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكثَرَ مَن في الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ ، وقال جل وعلا: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ، وَلَكِنَّ اللهَ قَد جَعَلَ بِرَحمَتِهِ مِن ذَلِكَ الخُسرَانِ فَرَجًا، وَفَتَحَ بِمَنِّهِ مِن تِلكَ الضَّلالَةِ طَرِيقًا وَمَخرَجًا، قال جل وعلا: إِنَّا خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن نُطفَةٍ أَمشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ، وقال سُبحَانَهُ: وَالعَصرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ ، فَاستَثنى مِن جِنسِ الخُسرَانِ الذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِم، فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُون، قال سُبحَانَهُ: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ، وقال جل وعلا: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُم رَبُّهُم في رَحمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ المُبِينُ ، وقال تعالى: وَمَن يُؤمِن بِاللهِ وَيَعمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ ، وقال سُبحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ ذَلِكَ الفَوزُ الكَبِيرُ.
إِنَّهُ الإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالحُ، إِنها الدَّعوَةُ إِلى اللهِ وَالصَّبرُ عَلَى الأَذَى، ذَلِكُم هُوَ طَرِيقُ فَوزِ الإِنسانِ وَرِبحِهِ وَمخرَجُ نَجَاتِهِ مِنَ الخَسَارَةِ، ذَلِكُم هُوَ مَنهَجُ المُسلِمِ في حَيَاتِهِ، وَتِلكُم هِيَ أَركَانُ عيشِهِ الحَقِيقِيَّةُ، إِيمَانٌ بِكُلِّ مَا يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ ممَّا جَاءَ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، إِيمَانًا يُقِرُّ بِهِ القَلبُ وَيَنطِقُ بِهِ اللِّسَانُ وَتَعمَلُ بِهِ الأَركَانُ وَيَظهَرُ عَلَى الجَوَارِحِ وَيُصَدِّقُهُ عَمَلٌ صَالحٌ، وَلا يَكُونُ العَمَلُ صَالحًا إِلاَّ بِشَرطَينِ: أَن يَكُونَ خَالِصًا لِوَجهِ اللهِ، مُتَابَعًا فِيهِ رَسُولُ اللهِ، فَمَن أَشرَكَ أَو رَاءَى أو سَمَّعَ بِعَمَلِهِ فَلا أَجرَ لَهُ وَلا ثَوَابَ، بَل هُوَ عَلَى خَطَرٍ مِنَ الذَّنبِ وَالعِقَابِ، وَمَنِ ابتَدَعَ شَيئًا لم يَأتِ بِهِ رَسُولُ اللهِ أَو استَحسَنَ عَمَلاً لَيسَ مِن سُنَّتِهِ فَهُوَ مَردُودٌ عَلَيهِ غيرُ مَقبُولٍ منه، قال سُبحَانَهُ: فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاء رَبِّهِ فَليَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ، وقال سُبحَانَهُ: الَّذِي خَلَقَ المَوتَ وَالحَيَاةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ، قَالَ الفُضَيلُ بنُ عِيَاضٍ: "إِنَّ العَمَلَ إِذَا كان خَالِصًا ولم يَكُنَ صَوَابًا لم يُقبَلْ، وَإِذَا كان صَوَابًا وَلم يَكُنْ خَالِصًا لم يُقبَلْ، حتى يَكُونَ خَالِصًا وَصَوَابًا"، قال: "وَالخَالِصُ إِذَا كان للهِ عز وجل، وَالصَّوَابُ إِذَا كان على السُّنَّةِ". وعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ : ((قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغنى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلاً أَشرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيرِي تَرَكتُهُ وَشِركَهُ)) ، وقال : ((إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمُ الشِّركُ الأَصغَرُ)) ، قالوا: وَمَا الشِّركُ الأَصغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ((الرِّيَاءُ)) ، وقال سُبحَانَهُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ، وقال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) ، وَعَنِ العِربَاضِ بنِ سَارِيَةَ رضي اللهُ عنه قال: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ مَوعِظَةً وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ وَذَرَفَت مِنهَا العُيُونُ، فَقُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوصِنَا، قال: ((أُوصِيكُم بِتَقوَى اللهِ وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيكُم عَبدٌ، وَإِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ)) ، وَعَن أَنسٍ رضي اللهُ عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ : ((مَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِنِّي)).
وَبَعدَ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ يَأتي التَّواصِي بِالحَقِّ وَالصَّبرِ عَلَيهِ، قال ابنُ كثيرٍ رحمه اللهُ: " وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَهُوَ أَدَاءُ الطَّاعَاتِ وَتَركُ المُحَرَّمَاتِ، وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ أَيْ: عَلَى المَصَائِبِ وَالأَقدَارِ وَأَذَى مَن يُؤذِي ممَّن يَأمُرُونَهُ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَهُ عَنِ المُنكَرِ". وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ: "وَأَقسَمَ سُبحَانَهُ في هَذِهِ السُّورَةِ بِالعَصرِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ في خُسرٍ، إِلاَّ الذِينَ آمَنُوا وَهُمُ الذِينَ عَرَفُوا الحَقَّ وَصَدَّقُوا بِهِ، فَهَذِهِ مَرتَبَةٌ، وَعَمِلُوا الصَّالحاتِ وَهُمُ الذِينَ عَمِلُوا بما عَلِمُوهُ مِنَ الحَقِّ، فَهَذِهِ مَرتَبَةٌ أُخرَى، وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَصَّى بِهِ بَعضُهُم بَعضًا تَعلِيمًا وَإِرشَادًا، فَهَذِهِ مَرتَبَةٌ ثَالِثَةٌ، وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ صَبرُوا عَلَى الحَقِّ وَوَصَّى بَعضُهُم بَعضًا بِالصَّبرِ عَلَيهِ وَالثَّبَاتِ، فَهَذِهِ مَرتَبَةٌ رَابِعَةٌ، وَهَذَا نِهَايَةُ الكَمَالِ، فَإِنَّ الكَمَالَ أَن يَكُونَ الشَّخصُ كَامِلاً في نَفسِهِ مُكَمِّلاً لِغَيرِهِ، وَكَمَالُهُ بِإِصلاحِ قُوَّتَيهِ العِلمِيَّةِ وَالعَمَلِيَّةِ، فَصَلاحُ القُوَّةِ العِلمِيَّةِ بِالإِيمَانِ، وَصَلاحُ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ بِعَمَلِ الصَّالحاتِ، وَتَكمِيلُهُ غَيرَهُ بِتَعلِيمِهِ إِيَّاهُ وَصَبرِهِ عَلَيهِ وَتَوصِيَتِهِ بِالصَّبرِ عَلَى العِلمِ وَالعَمَلِ، فَهَذِهِ السُّورَةُ عَلَى اختِصَارِهَا هِيَ مِن أَجمَعِ سُوَرِ القُرآنِ لِلخَيرِ بِحَذَافِيرِهِ، وَالحَمدُ للهِ الذِي جَعَلَ كِتَابَهُ كَافِيًا عَن كُلِّ مَا سِوَاهُ، شَافِيًا مِن كُلِّ دَاءٍ، هَادِيًا إِلى كُلِّ خَيرٍ" انتهى كلامُهُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلبَابِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ سَورَةَ العَصرِ مَنهَجٌ كَامِلٌ لِمَن أَرَادَ أَن يحيا الحيَاةَ التي أَرادَهَا اللهُ مِنهُ حِينَ خَلَقَهُ، حَيثُ قال سُبحَانَهُ: وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ. وَوَاللهِ، لَو عَمِلَ المُسلِمُونَ بِهَذِهِ الأَركَانِ الأَربعَةِ لِلحَيَاةِ لَوَجَدُوا لِحَيَاتِهِم طَعمًا وَلِعَيشِهِم مَعنًى، ذَلِكَ أَنَّهُ لا حَيَاةَ مُنَعَّمَةً وَلا عَيشَ صَافِيًا إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ وَالدَّعوَةِ إِلى اللهِ وَالصَّبرِ وَاليَقِينِ، قال سُبحَانَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ ، وقال سُبحَانَهُ: وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى ، وقال تعالى: وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخوَةُ، لَو آمَنَ النَّاسُ إِيمَانًا صَادِقًا جَازِمًا يُخلِصُونَ فِيهِ للهِ وَيَسِيرُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ، لَوِ اتَّقُوا رَبَّهُم بِفِعلِ أَوَامِرِهِ وَتَركِ نَوَاهِيهِ، لَو تَآمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَتَنَاهَوا عَنِ المُنكَرِ وَنَصَحَ بَعضُهُم بَعضًا لَوَجَدُوا بَرَكَةَ ذَلِكَ في أنَفُسِهِم وَأَولادِهِم وَأَموالِهِم وَأَرزَاقِهِم، وَلَكِنَّ الوَاقِعَ يَشهَدُ بِضَعفٍ في الإِيمَانِ وَخَلَلٍ في العَقِيدَةِ وَتَهَاوُنٍ في صَالحِ الأَعمَالِ وَتَغَافُلٍ عَنِ الدَّعوَةِ إِلى اللهِ وَتساهُلٍ في الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ وَقِلَّةٍ في الصَّبرِ وَضَعفٍ في اليَقِينِ، وَمَن يُقَلِّبْ بَصَرَهُ فِيمَن حَولَهُ يَعلَمْ ذَلِكَ وَيَجِدْهُ وَيَلمَسْهُ، وَِإلاَّ فَمَا الذِي جَعَلَ لِلسِّحرِ في هَذَا الزَّمَانِ انتِشَارًا وَلِقَنَوَاتِهِ قَبُولاً، إِنْ لم يَكُنِ السَّبَبُ هو ضَعفَ الإِيمَانِ وَضُمُورَ التَّوحِيدِ وَقِلَّةَ التَّوَكُّلِ وَالاعتِمَادِ عَلَى اللهِ فَمَا هُوَ إِذًا؟! لماذا يُستَهزَأُ بِشَرَائِعِ الدِّينِ في القَنَوَاتِ وَالجَرَائِدِ وَالمَجَلاَّتِ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَعَامَلُ مَعَهَا النَّاسُ؛ يَشتَرُونها بِأَموَالِهِم وَيُذهِبُونَ في مُطَالَعَتِهَا أَوقَاتَهُم وَيُرخِصُونَ في مُتَابَعَتِهَا مَاءَ أَعيُنِهِم وَيُسَمِّمُونَ بِغُثَائِهَا قُلُوبَهُم؟! مَا الذِي جَعَلَ المُسلِمِينَ يَقِلُّونَ في صلاةِ الجَمَاعَةِ وَخَاصَّةً صَلاتَيِ الفَجرِ وَالعَصرِ؟! لماذا يَتَعَدَّى النَّاسُ حُدُودَ اللهِ في زِيجَاتِهِم وَأَفرَاحِهِم وَمُنَاسَبَاتِهِم؟! لماذا يَسمَحُونَ لِنِسَائِهِم بِالتَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ؟! لماذا يُحضِرُ بَعضُهُم المُغَنِّينَ وَالمُغَنِّيَاتِ بِآلافِ الرَّيَالاتِ؟! لماذا يُسرِفُونَ في الوَلائِمِ وَيُبَالِغُونَ في المُهُورِ؟! تَضيِيعُ الأَمَانَةِ وَتَركُ الحَبلِ على الغَارِبِ لِلأَبنَاءِ وَالبَنَاتِ وَالزَّوجَاتِ، وَالسَّفَرُ لِلخَارِجِ في الإِجَازَاتِ لاقتِرَافِ الكَبَائِرِ وَالمُنكَرَاتِ، الصُّوَرُ الفَاضِحَةُ وَالمَقَاطِعُ الفَاحِشَةُ التي تُتَنَاقَلُ في الجَوَّالاتِ، التَّهَاجُرُ وَالتَّقَاطُعُ وَالتَّنَافُسُ على حُطَامِ الدُّنيَا، التَّحَايُلُ وَالكَذِبُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالتَّعَامُلُ بِالرُّشوَةِ، الغَدرُ في العُهُودِ وَعَدَمُ الوَفَاءِ بِالعُقُودِ، أَكلُ الرِّبَا وَالإِغرَاقُ في المُسَاهمَاتِ المَشبُوهَةِ، كُلُّ هَذِهِ المُنكَرَاتِ وَغَيرُهَا مَا الذِي سَهَّلَهَا وَهَوَّنَ عَلَى النَّاسِ فِعلَهَا؟! إِنَّهُ ضَعفُ الإِيمَانِ، إِنَّهُ ضُمُورُ التَّوحِيدِ، إِنَّهُ الجَهلُ بِالشَّرعِ، إِنَّهُ تَركُ الدَّعوُةِ إِلى اللهِ وَعَدَمُ التَّآمُرِ بِالمَعرُوفِ وَالتَّنَاهيِ عَنِ المُنكَرِ، إِنَّهُ استِعجَالُ اللَّذَائِذِ الدُّنيَوِيَّةِ الفَانِيَةِ وَقِلَّةُ الصَّبرِ عَلَى الطَّاعَةِ وَطَلَبِ البَاقِيَةِ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَآمِنُوا بِهِ، وَاعمَلُوا صَالحًا يُنجِيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ، يَا قَومَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغفِرْ لَكُم مِن ذُنُوبِكُم وَيُجِرْكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيسَ بِمُعجِزٍ في الأَرضِ وَلَيسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ. آمِنُوا بِاللهِ وَاعمَلُوا صَالحًا، وَادعُوا غَيرَكُم بِأَلسِنَتِكُم وَبِأَموَالِكُم، كُونُوا قُدُواتٍ حَسَنَةً لِغَيرِكُم، وَاصبِرُوا على ما تَلقَونَهُ في سَبِيلِ أَمرِكُم بِالمَعرُوفِ وَنَهيِكُم عَنِ المُنكَرِ، حَافِظُوا عَلى تَرَابُطِ المُجتَمَعِ وَوَحدَةِ صَفِّهِ، شَارِكُوا في كُلِّ مَا فِيهِ نَفعٌ لِلمُسلِمِينَ أَو تَفرِيجٌ لِكُرُبَاتِ المَكرُوبِينَ أَو دَعوَةٌ لِلجَاهِلِينَ وَتَذكِيرٌ لِلغَافِلِينَ، اِدعَمُوا الدُّعَاةَ وَمُعَلِّمِي القُرآنِ، سَاهِمُوا في دَعمِ مَكَاتِبِ الدَّعوَةِ وَالجَمعِيَّاتِ الخَيرِيَّةِ، اِعمَلُوا على نَشرِ حَلَقاتِ التَّحفِيظِ وَدُورِ التَّحفِيظِ النِّسَائِيَّةِ، تَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى، لِيُقَدِّمِ المَرءُ لِنَفسِهِ وَلَو قَلِيلاً يَجِدْهُ عِندَ رَبِّهِ كَثِيرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوا عَنهُ وَأَنتُم تَسمَعُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعنَا وَهُم لاَ يَسمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ البُكمُ الَّذِينَ لاَ يَعقِلُونَ وَلَو عَلِمَ اللهُ فِيهِم خَيرًا لأسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا وَهُم مُعرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لما يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَاذكُرُوا إِذْ أَنتُم قَلِيلٌ مُستَضعَفُونَ في الأَرضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُم وَأَيَّدَكُم بِنَصرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
(1/5426)
وامتنع الحبيب من دخول بيته
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
28/6/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب امتناع النبي من دخول هذا البيت. 2- أحاديث في النهي عن التصوير. 3- انتشار الصور في هذا العصر. 4- التحذير من التصوير في الأعراس. 5- احتجاج بعض الناس بفتاوى بعض العلماء المجيزين للتصوير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ جَلَّ وعلا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، تَصَوَّرُوا ـ رحمكم اللهُ ـ لَو أَنَّ نَبيَّ اللهِ محمدًا صَلَوَاتُ رَبي وَسَلامُهُ عليه جَاءَ إِلى بَيتِ أَحَدِكُم زَائِرًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلى البَابِ تَوَقَّفَ وَامتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ؛ لأَنَّهُ رَأَى شيئًا يَكرَهُهُ، فَمَاذَا عَسَى صَاحِبُ البَيتِ وَالحَالُ تِلكَ فَاعِلاً؟! وما تُرَاهُ وَهَذا هُوَ الوَاقِعُ قَائِلاً؟! إنه سَيَسأَلُ عَن سَبَبِ الامتِنَاعِ وَمَنشَأِ الكَرَاهِيَةِ، فَإِذَا عَرَفَهُ بَذَلَ جُهدَهُ في إِصلاحِ شَأنِهِ لِيَحظَى بِدُخُولِ الحَبِيبِ إِلى بَيتِهِ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ هُنَاكَ مُنكَرًا عَظِيمًا تَهَاوَنَّا بِهِ جمِيعًا إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ، وَتَساهَلْنَا فِيهِ إِلاَّ قِلَّةٌ لا تَكَادُ تُذكَرُ، مُنكَرٌ امتَنَعَ بِسَبَبِهِ الحَبِيبُ مِن دُخُولِ بَيتِهِ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، بل وَأَخبرَ أَنَّهُ مَانِعٌ مِن دُخُولِ المَلائِكَةِ لِلبَيتِ، وَمَعَ ذَلِكَ لا تَكَادُ تَجِدُ بَيتًا مِن بُيُوتِنَا اليَومَ إِلاَّ دَخَلَهُ ذَلِكَ المُنكَرُ وَعَشَّشَ فِيهِ وَفَرَّخَ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، مَا حَالُ بُيُوتٍ لا تَدخُلُهَا مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ؟! أَتُرَونَهَا بُيُوتًا مُبَارَكَةً طَيَّبَةً؟! أَتَظُنُّونَهَا مُستَقِرَّةً مُطمَئِنَّةً؟! أَتحسِبُونَ أَنَّ لِلخَيرِ فِيهَا نَصِيبًا كَبِيرًا؟! اللهُ وَحدَهُ يَعلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ الخَبِيرُ بِهِ، وَلَكِنْ تَعَالَوا بِنَا لِنَتَأَمَّلَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً صَرِيحَةً، لَعَلَّنَا نُرَاجِعُ بَعدَهَا أَنفُسَنَا وَنَتَرَاجَعُ عَن ذَنبِنَا.
رَوَى البُخَارِيُّ عَن أُمِّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها أَنها اشتَرَت نُمرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ قَامَ على البَابِ فَلَم يَدخُلْ، فَعَرَفَتْ في وَجهِهِ الكَرَاهِيَةَ، قَالَت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُوبُ إِلى اللهِ وَإِلى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذنَبتُ؟! قال: ((مَا بَالُ هَذِهِ النُّمرُقَةِ؟)) فَقَالَت: اشتَرَيتُهَا لِتَقعُدَ عَلَيهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((إِنَّ أَصحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَومَ القِيَامَةِ، وَيُقَالُ لهم: أَحيُوا مَا خَلَقتُم)) ، وَقَالَ: ((إِنَّ البَيتَ الذِي فِيهِ الصُّوَرُ لا تَدخُلُهُ المَلائِكَةُ)) ، وَرَوَى مُسلِمٌ عَنهَا رضي اللهُ عنها أَنها قَالَت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ وَقَدْ سَتَرتُ سَهْوَةً لي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ هَتَكَهُ وَتَلَوَّنَ وَجهُهُ وَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِندَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلقِ اللهِ)) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَعنَاهُ فَجَعَلنَا مِنهُ وِسَادَةً أَو وِسَادَتَينِ.
أَعَرَفتُمُ الآنَ ذَلِكُمُ المُنكَرَ العَظِيمَ الذِي كَرِهَهُ رَسُولُ اللهِ وَتَغَيَّرَ لَهُ وَجهُهُ؟ أَعلِمتُم السَّبَبَ الذِي امتَنَعَ بِهِ النَّبيُّ مِن دُخُولِ بَيتِهِ؟ إِنها الصُّوَرُ، نَعَمْ، إِنها الصُّوَرُ، تِلكَ البَلِيَّةُ التي انتَشَرَتِ اليَومَ في كُلِّ نَاحِيَةٍ وَعَمَّت وَطَمَّت، وَكَثُرَ تَعلِيقُهَا عَلَى جُدرَانِ بَعضِ البُيُوتِ، وَامتَلأَت بها كَثِيرٌ مِنَ الجَوَّالاتِ، وَاستُهِينَ بها في الأَعرَاسِ وَالحَفَلاتِ، وَبُدِئَت بها حَيَاةُ الأَزوَاجِ وَالزَّوجَاتِ، وَاحتَفَظَ بها النَّاسُ في مُجَلَّدَاتٍ وَسِجِلاَّتٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِم يَقُولُ: لا تَصدِيقَ لِمَا صَحَّ مِنَ النَّهيِ عَنِ التَّصوِيرِ، أَو كَأَنَّهُم يَقُولُونَ: نَعلَمُ ذَلِكَ وَنحنُ بِهِ مُؤمِنُونَ مُصَدِّقُونَ، وَلَكِنْ لا حَاجَةَ لِبُيُوتِنَا أَن تَدخُلَهَا المَلائِكَةُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ التَّصوِيرَ كَبِيرَةٌ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، مُتَوَعَّدٌ فَاعِلُهَا بِالنَّارِ وَشَدِيدِ العَذَابِ عَلَى لِسَانِ محمدِ بنِ عَبدِ اللهِ، روى مُسلِمٌ رحمه اللهُ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلى ابنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعتُ مِن رَسُولِ اللهِ ، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((كُلُّ مُصَوِّرٍ في النَّارِ، يَجعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفسًا فَتُعَذِّبُهُ في جَهَنَّمَ)) ، وقال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً في الدُّنيَا كُلِّفَ يَومَ القِيَامَةِ أَن يَنفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيسَ بِنَافِخٍ)) ، وقال عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ)). قال الإِمَامُ الذَّهبيُّ رحمه اللهُ في كِتَابِهِ الكَبَائِرِ: "وَأَمَّا الصُّوَرُ فَهِيَ كُلُّ مُصَوَّرٍ مِن ذَوَاتِ الأَروَاحِ، سَوَاءٌ كَانَت لها أَشخَاصٌ مُنتَصِبَةٌ، أَو كَانت مَنقُوشَةً في سَقفٍ أَو جِدَارٍ، أَو مَوضُوعَةً في نَمَطٍ أَو مَنسُوجَةً في ثَوبٍ أَو مَكَانٍ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ العُمُومِ تَأتي عَلَيهِ فَلْيُجتَنَبْ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَمَعَ عِظَمِ أَمرِ التَّصوِيرِ فَقَد عَادَ لَدَى كَثِيرٍ مِنَّا اليَومَ أَسهَلَ مِن شُربِ المَاءِ، وَلَو أَنَّنَا تَصَوَّرنَا مَوقِفَ الرَّسُولِ وَهُوَ يَمتَنِعُ مِن دُخُولِ البَيتِ لأَجلِ الصُّوَرِ، لَو أَنَّنَا تَصَوَّرنَا بُيُوتَنَا وَمَلائِكَةُ الرَّحمَةِ لا تَدخُلُهَا، ثم تَسَاءَلنَا مِن بَعدِ ذَلِكَ: مَنِ الذِي يَدخُلُ بُيُوتًا لا تَدخُلُهَا مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ؟ لَو تَصَوَّرنَا ذَلِكَ حَقَّ التَّصوُّرِ، لَو فَكَّرنَا فِيهِ بِعَينِ البَصِيرَةِ وَالتَّدَيُّنِ لَعَرَفنَا أَنَّنَا قَدِ اجتَرَأنَا على مَعصِيَةٍ فَادِحَةٍ وَأَتَينَا مُنكَرًا عَظِيمًا.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَلْنَتُبْ إِلى اللهِ مِن هَذَا المُنكَرِ العَظِيمَ، فَمَن كَانَ عِندَهُ صُوَرٌ لِذَوَاتِ الأَروَاحِ فَلْيُزِلْهَا، وَمَن كَانَت عِندَهُ مُجَسَّمَاتٌ لِذَوَاتِ الأَروَاحِ فَلْيَتَخَلَّصْ مِنهَا، وَمَن بُلِيَ مِنَ الشَّبَابِ في جَوَّالِهِ بِهَذِهِ الصُّوَرِ أَو تِلكَ المَقَاطِعِ فَلْيُبَادِرْ بِمَسحِهَا، فَإِنَّ الأَمرَ عَظِيمٌ وَالوَعِيدَ شَدِيدٌ، وَبِإِزَالَةِ التَّصَاوِيرِ وَالتَّمَاثِيلِ أَمَرَ الحَبِيبُ ، رَوَى مُسلِمٌ رحمه اللهُ عَن أَبي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ قال: قال لي عَليُّ بنُ أبي طَالِبٍ: أَلا أَبعَثُكَ على مَا بَعَثَني عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ ؟ أَن لاَّ تَدَعَ تِمثَالاً إِلاَّ طَمَستَهُ، وَلا قَبرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيتَهُ. وفي روايةِ النَّسَائِيِّ: لا تَدَعَنَّ قَبرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيتَهُ، وَلا صُورَةً في بَيتٍ إِلاَّ طََمَستَهَا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَنحنُ نَعِيشُ هَذِهِ الإِجَازَةَ التي اعتَدنَا عَلَى تَزوِيجِ أَبنَائِنَا وَبَنَاتِنَا فِيهَا، فَإِنَّ مِنَ المُنكَرَاتِ التي تهاوَنَ بها بَعضُنا وَاستَسهَلَهَا في حَفَلاتِ الزَّوَاجِ مُنكَرَ التَّصوِيرِ، قَالَ الشَّيخُ محمدُ بنُ صالحٍ العُثِيمِين رحمه اللهُ: "سَمِعنَا أَنَّهُ يَحصُلُ في بَعضِ الزَّوَاجَاتِ دُخُولُ بَعضِ السُّفَهَاءِ مَعَ النَّسَاءِ لالتِقَاطِ صُورَةِ اللِّقَاءِ بَينَ الزَّوجَينِ، وَسَمِعنَا أَنَّ بَعضَ النِّسَاءِ أَيضًا يَحمِلْنَ آلاتِ التَّصوِيرِ لِتَصوِيرِ الحَفلِ وَاللِّقَاءِ بَينَ الزَّوجِ وَزَوجَتِهِ، فَيَا سُبحَانَ اللهِ! مَا أَدرِي كَيفَ بَلَغَ الأَمرُ بِهَؤُلاءِ إِلى هَذَا التَّدَهوُرِ، وَكَيفَ انحدَرُوا إِلى الهَاوِيَةِ بِهَذِهِ السُّرعَةِ، كَيفَ خَرَجُوا عَنِ الحُدُودِ الشَّرعِيَّةِ وَالمُرُوءَاتِ المَرعِيَّةِ إِلى عَادَاتٍ أَخَذُوهَا مِنَ الكُفَّارِ أَو مِن مُقَلِّدِي الكُفَّارِ، كَيفَ يَدَعُ هَؤُلاءِ مَا يَأمُرُهُم بِهِ دِينُهُم وَمَا عَلَيهِ مُجتَمَعُهُم مِنَ الحَيَاءِ وَالحِشمَةِ وَالبُعْدِ عَن أَسبَابِ الفِتنَةِ إِلى مَا كَانَت عَلَيهِ المُجتَمَعَاتُ الفَاسِدَةُ التي عَثَا بها الشَّرُّ وَالفَسَادُ فَيُقَلِّدُونَهُم ذَلِكَ التَّقلِيدَ الأَعمَى، فَمَثَلُهُم كَمَثَلِ الذِي يَنعِقُ بما لا يَسمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً، صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَعقِلُونَ"، إِلى أَن قَالَ رحمه اللهُ: "وَتَصَوَّرُوا عِظَمَ الفِتنَةِ وَفَدَاحَتَهَا حِينَمَا تُلتَقَطُ هَذِهِ الصُّوَرُ في تِلكَ الحَالِ؛ لِتَكُونَ بِأَيدِي النَّاسِ يَعرِضُونها على مَن شَاؤُوا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِالنَّظَرِ إِلى الجَمِيلِ مِنهَا متى شَاؤُوا، وَيَشمَتُونَ بِالقَبِيحِ مِنهَا متى شَاؤُوا، هَل يَرضَى أَحَدٌ مِنكُم أَن تَكُونَ صُورَةُ ابنَتِهِ أَو أُختِهِ أَو زَوجَتِهِ بِأَيدِي النَّاسِ يَنظُرُونَ إِلَيهَا كيف شَاؤُوا؟! هَل يَرضَى عَاقِلٌ أَن تَكُونَ صُورَتُهُ في أَوَّلِ لِقَاءٍ بَيَنَهُ وَبَينَ زَوجَتِهِ مَعرُوضَةً يَتَدَاوَلُهَا النَّاسُ بَينَهُم؟! إِنَّ هَذَا ممَّا تُنكِرُهُ الفِطَرُ وَتُسَفِّهُهُ العُقُولُ، فَارجِعُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِلى فِطَرِكُم وَعُقُولِكُم، وَتَفَكَّروا هَل لِهَذَا العَمَلِ المُنكَرِ مَا يُبَرِّرُهُ، إِنَّ هَذَا العَمَلَ لا يَزِيدُ الزَّوجَينِ إِلفَةً في القُلُوبِ، ولا صِحَّةً في الأَجسَامِ، وَلا سَعَةً في الرِّزقِ، وَلا حَمدًا بَينَ النَّاسِ، بَل هُوَ شَرٌّ وَفِتنَةٌ لا خَيرَ فِيهِ" انتهى كَلامُهُ.
وَصَدَقَ رحمه اللهُ، فَإِنَّ التَّصوِيرَ لا يُوجِدُ المَحَبَّةَ وَلا يَزِيدُ الإِلفَةَ بَينَ الزَّوجَينِ، وَلا يُكسِبُهُمَا خَيرًا لا في الدُّنيَا ولا في الآخِرَةِ، بَل إِنَّ الوَاقِعَ لَيَشهَدُ أَنَّ مِنَ العِلاقَاتِ الأُسْرِيَّةِ مَا فَسَدَ بِسَبَبِ صُورَةٍ انتَشَرَت أَو مَقطَعٍ تَدَاوَلَهُ النَّاسُ بَينَهُم، اِلتَقَطَهُ سَفِيهٌ على غِرَّةٍ، أَو ظَفِرَت بِهِ فَاجِرَةٌ في حِينِ غَفلَةٍ، فَصَارَ بِسَبَبِ التِّقنِيَةِ وَأَجهِزَةِ الاتِّصَالاتِ وَالشَّبَكَاتِ عُرضَةً لِلأَعيُنِ الخَائِنَةِ وَالقُلُوبِ المَرِيضَةِ؛ ممَّا أَسقَطَ الزَّوجَةَ مِن عَينِ زَوجِهَا وَأَخرَجَ حُبَّهَا مِن قَلبِهِ، فَطَلَّقَهَا وَاستَبدَلَ بها أُخرَى لم يَرَهَا غَيرُهُ.
أَلا فَلْنَحذَرْ مِنَ التَّصوِيرِ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَلْنُحَذِّرْ نِسَاءَنَا وَبَنَاتِنَا مِنهُ؛ سِترًا لأَنفُسِنَا وَحِفظًا لِعَورَاتِنَا وَصِيَانَةً لِبُيُوتِنَا وَاستِدَامَةً لِعِلاقَاتِنَا وَطَاعَةً لِمَولانَا وَحَذَرًا مِن عِقَابِهِ وَإِرغَامًا لِلشَّيطَانِ وَأَعوَانِهِ وَأَتبَاعِهِ وَرَدًّا لِكَيدِهُم في نُحُورِهِم.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَقَد يَتَعَلَّلُ بَعضُ مَن بُلُوا بِالتَّصوِيرِ بِفَتَاوَى بَعضِ العُلَمَاءِ الذِينَ رَأَوا أَنَّ الصُّوَرَ التي تُلتَقَطُ بِالآلاتِ لَيسَت مُحَرَّمَةً، فَنَقُولُ: وَإِنْ كان مِنَ العُلَمَاءِ مَن يَرَى هَذَا الرَّأيَ فَإِنَّ أَحَادِيثَ الوَعِيدِ التي وَرَدَت عَن إِمَامِ المُفتِينَ وَسَيِّدِ العُلَمَاءِ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَافِيَةٌ لِزَجرِ المُسلِمِ عَنِ التَّصوِيرِ وَالحَذرِ مِنهُ، وَلَو مِن بَابِ قَولِهِ : ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلى مَا لا يَرِيبُكَ)) ، وَلا شَكَّ أَنَّ مَنِ استَهَانَ بِالتَّصوِيرِ بِالآلاتِ وَاستَبَاحَهُ وَأَكثَرَ مِنهُ على خَطَرٍ مِنَ الوُقُوعِ فِيمَا تَحرِيمُهُ ظَاهِرٌ مِنَ الرَّسمِ بِاليَدِ أَوِ التَّمَاثِيلِ المُجَسَّمَةِ، قال : ((مَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرعَى حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أَن يَقَعَ فِيهِ)).
وَأَمْرٌ آخَرُ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَهُوَ أَنَّهُ وَحَتى وَإِن كَانَتِ الصُّوَرُ التي تُلتَقَطُ بِالآلاتِ مُبَاحَةً عِندَ بَعضِ العُلَمَاءِ فَإِنَّهُ مَا مِنهُم مَن يُبِيحُهَا إِذَا كَانَ فِيهَا مَحذُورٌ شَرعِيٌّ في الحَالِ أَو أَدَّت إِلى ما لا يُحمَدُ المُستَقبَلِ، فَإِنَّ الأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا وَغَايَاتِهَا، وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الصُّوَرِ التي تُلتَقَطُ اليَومَ في الأَعرَاسِ وَالمُنَاسَبَاتِ أَو تِلكَ التي يَتَبَادَلُهَا الشَّبَابُ في الجَوَّالاتِ لَيَجِدُ فِيهَا مَحَاذِيرَ عَدِيدَةً وَلَيسَ مَحذُورًا وَاحِدًا، وَلَو صَدَقَ كَثِيرٌ مِنهُم مَعَ رَبِّهِم ثم مَعَ أَنفُسِهِم لَعَلِمُوا أَنهم لا يَجرُؤُونَ على إِطلاعِ النَّاسِ عَلَى مَا في جَوَّالاتِهِم، فَعَلامَ يَدُلُّ هَذَا؟! إِنَّهُ وَاللهِ عَينُ الإِثمِ وَمَحَضُ المُنكَرِ، فقد روى الإِمامُ مُسلِمٌ رحمه اللهُ عنِ النَّوَّاسِ بنِ سِمعَانَ رضي اللهُ عنه قال: سَأَلتُ رَسُولَ اللهِ عَنِ البِرِّ وَالإِثمِ، فقال: ((البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، وَالإِثمُ مَا حَاكَ في صَدرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ)).
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَالأَمرُ لِلشَّبَابِ خَاصَّةً، لِنَتَّقِ اللهَ وَلْنُطَهِّرْ جَوَّالاتِنَا وَغُرَفَنَا وَبُيُوتَنَا مِنَ الصُّوَرِ التي نَكرَهُ أَن يَطَّلِعَ عَلَيهَا النَّاسُ، فَإِنَّهُ وَإِنِ استَطَعنَا حِفظَهَا في جَوَّالاتِنَا بِكَلِمَةِ سِرٍّ لا يَعرِفُهَا إِلاَّ نحنُ أَو جَعَلنَاهَا في مَكَانٍ لا يَصِلُ إِلَيهِ إِلاَّ نحنُ فَإِنها عِندَ اللهِ لَيسَت بِسِرٍّ، وَهُوَ سُبحَانَهُ القَائِلُ: إِن تُبدُوا شَيئًا أَو تُخفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا ، فَاللهَ اللهَ أَن يَأتيَ أَحَدَكُم الموتُ وَقَدِ امتَلأَ بَيتُهُ أَو جَوَّالُهُ أَو جَيبُهُ بِصُوَرِ نِسَاءِ المُسلِمِينَ وَمَشَاهِدِ عَورَاتِهِم، وَالحَذرَ الحَذرَ مِن تَبَادُلِ الصُّوَرِ أَوِ المَقَاطِعِ التي فِيهَا شَيءٌ مِن إِشَاعَةِ الفَاحِشَةِ، فَإِنَّ الأَمرَ عَظِيمٌ وَالوَعِيدَ شَدِيدٌ، وَالمَوتَ قَادِمٌ وَالفِرَارَ مُستَحِيلٌ، قال سُبحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمُونَ.
إِنَّهُ لا أَحمَقَ وَلا أَجهَلَ وَلا أَخسَرَ مِن رَجُلٍ يُعَرِّضُ نَفسَهُ لِلوَعِيدِ الشَّدِيدِ مِن أَجلِ صُورَةٍ في يَدِهِ أَو في جَوَّالِهِ، يُقَلِّبُ نَاظِرَيهِ فِيهَا بَينَ حِينٍ وَآخَرَ، لِيَطعَنَ بها قَلبَهُ ويُحرِقَ فُؤادَهُ، فَلا هُوَ الذِي حَصَّلَ لَذَّتَهَا وَلا ذَاقَهَا، وَلا هُوَ بِالذِي سَلِمَ مِن تَبِعَتِهَا وَثَقِيلِ وِزرِهَا وَسَيِّئِ أَثَرِهَا، فَالتَّوبَةَ التَّوبَةَ قَبلَ النَّدَمِ، وَلْنُحِبَّ لإِخوَانِنَا المُسلِمِينَ وَأَخوَاتِنَا المُسلِمَاتِ مَا نُحِبُّهُ لأَنفُسِنَا وَأَهلِينَا، فَإِنَّهُ ما مِنَّا مَن يَرضَى بِنَشرِ صُورَةِ أُمِّهِ أوِ ابنَتِهِ أَو أُختِهِ أَو زَوجَتِهِ أَو إِحدَى قَرِيبَاتِهِ، فَكَيفَ يَرضَاهُ لِلمُسلِمِينَ؟! وإنه لا يَكمُلُ إِيمَانٌ عَبدٍ دُونَ ذَلِكَ، قال : ((وَالذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤمِنُ عَبدٌ حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ مِنَ الخَيرِ)).
(1/5427)
أخوة الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/7/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أساس الدين الإسلامي. 2- مراتب المسلمين ودرجاتهم. 3- حقيقة الإسلام. 4- عِظَم رابطة أخوة الإسلام. 5- تجسيد الصحابة لأعظم معاني الأخوة. 6- مراتب أخوة الإسلام. 7- حقوق أخوة الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فاتَّقوا اللهَ تعالى وأطِيعوهُ، واحذَروا عِقابَه بأن لا تَعصوه.
عبادَ الله، إنَّ الدِّينَ الحَقَّ الّذِي ارتَضَاه الله لعِباده مَبنيٌّ على شهادةِ أن لا إلهَ إلاّ الله وأن محمّدًا رسول الله وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزّكاة وصيامِ رَمَضان وحجّ البيت الحرام. ولهَذا الدينِ حقوقٌ وواجباتٌ ومستَحَبّات، وفيه حدودٌ ومحرّمات ومَكرُوهات.
فمَن قامَ بأركانِ الإسلامِ وغيرها منَ الواجبات والمستحبَّاتِ وكَفَّ عن الحدود والمحرّمات والمكروهاتِ فهو بأفضلِ المنازِل عندَ ربّه، قد ارتقى درجةَ السابقين المقرّبين الّذين قال الله في جزائِهم: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 10-24].
ومن قامَ بأركانِ الإسلامِ وغَيرِها منَ الواجِبَاتِ وفعَل بعضَ المستحبَّات وكفَّ عنِ المحرّمات فهو على خيرٍ كثيرٍ وعلى سبيلِ نجاة، وعدَه الله جنَّاتِ النَّعيم، ونجّاه من عذابِ الجحيم، ولكنّه دون المقرّبين السَّابقين، وهؤلاء هم المقتصِدون في الطاعات أصحابُ اليمين، قالَ الله تَعَالى في جَزَائِهم: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة: 27-40].
ومَن قامَ بِأركانِ الإسلامِ وتَرَكَ بَعضَ الواجباتِ والحقوقِ ممّا لا يكون تَركُه كُفرًا وارتَكَب بعضَ المحرّمات مما لا يكون فعلُه كفرًا فأمرُه إلى اللهِ، إن شاء عفَا عَنه كما قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]، وإن شاءَ عَذَّبه في الدنيا بذنوبه بأنواعٍ منَ المصائب، فإن لم تطهِّره عقوبات الدّنيا عذَّبه الله في جهنَّم بقدرِ ذنوبه ثمّ أخرجَه بالتوحِيد بشفاعة الشافعين أو برحمة ربّ العالمين.
أيُّها المسلمون، ليس الإسلامُ بالدّعوَى باللسان من غير عملٍ صالح، إنما الإسلام قولٌ تُصدِّقه الأعمال الصّالحة، الإسلام فرائضُ وحقوق وواجبات وكَفٌّ عن المحرّمات.
ألاَ وَإنّ من الحقوق التي أمر الله بحفظها ورعايتها والقيام بها والعنايةِ بشأنها أخوّةَ الإسلامِ وروابطَ الإيمان، قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، وقَالَ النَّبيُّ : ((المسلِمُ أخو المسلِم)).
عبادَ الله، ولعظيمِ أَمرِ أُخوّةِ الإسلامِ كان مِن أوَّل أعمالِ رسولِ الله أنّه آخَى بين المسلِمينَ، فآخى بين المهاجرِين والأنصارِ أُخوّةً عامّة، ووثّق بينهم هذه الآصِرةَ، وقوّى هذهِ الرابطةَ أوّلَ قُدومِه المدينةَ، ثمّ آخَى بَينَهم أخوّةً خاصّة، فآخى بَين كلِّ مهاجرٍ وأَنصَاريّ، فجَعَل كلَّ اثنين أَخَوين؛ يتعاونان ويتوَاسَيَان، حتى إنهما يتوارَثَان وِراثةً مقدّمة على النَّسَب، حتى نسخَ الله هذا الحكمَ بقوله عزّ وجلّ: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 75].
ووجد المهاجرون من الأنصارِ الإيثارَ والمحبّةَ والمواساةَ، عن أنس قال: قالَ المهاجِرون: يا رسولَ الله، ما رَأَينَا مثلَ قومٍ قدِمنا عليهم أحسنَ مواساةً في قليلٍ، ولا أحسنَ بذلاً من كَثيرٍ، لقد كفَونا المؤونةَ، وأشركونا في المهنَةِ، حتى لقد خشِينا أن يذهَبوا بالأجر كلِّه، قال: ((لا؛ ما أثنيتُم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم)) رواه أحمد والترمذيّ.
ولكنّ المهاجرين تَكَرّموا أن يرزَؤوا الأنصارَ في أَموالهم، وعمِلوا لاكتِسابِ الرّزق، وحفظوا لإخوانهم مودّةَ القلوب، عن عبدِ الرحمن بنِ عوف أنَّ سعدَ بنَ الربيع قال لعبد الرحمن وقد آخى بينهما النبيُّ : يا أخِي، إنَّ لي مالاً كثيرًا، وإنّ لي زوجتين، فخُذ نصفَ مالي، واختَر أيَّ زوجتيَّ أنزِل لك عنها، فإذا حلَّت من عِدّتها فتزوّجها، فقال: بَارَك الله لك في أهلِك ومالِك، دُلّوني على السّوق، فباع واشترى، فأثرى. وهَذِه فترةٌ فريدَة في تاريخ الإسلام، ولكنّها تتكرّر كلَّما وقر الإيمانُ في القلوبِ وصدقتِ النياتُ والأعمال.
أخُوّة إسلام أمرُها عظيمٌ وشَأنها كبير، بها يتناصر المسلمون، وبها يترَاحمون، وبها يَتَوادّون، وبهَا يتَواسَون، وبها يتعَاطَفون، وبها يُقوِّي بَعضُهم بَعضًا ويتَرَابَطون، عنِ النُّعمَانِ بن بَشيرٍ رضي الله عنهما قال: قال رَسول الله : ((مثَلُ المؤمِنِين في توادِّهم وَتَراحمِهم وتَعَاطُفِهم مثَلُ الجسد؛ إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجَسَدِ بالسَّهَر والحمَّى)) رواه البخاريّ ومسلم، ويقول : ((المؤمِنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بَعضًا)) وشبّك بَين أصابِعِه. رواه البخاريّ ومسلم من حديث أبي موسَى.
وأُخوّةُ الإسلام أَدنَاهَا كَفُّ الأذَى عن المسلِمين، فلا يأخذ المسلمُ مالَ أخيه المسلمِ حرامًا، ولا يسفِك دمه، ولا يقَع في عِرضه، ولا يسبّه، ولا يَشتمه، ولا يضرِب بشرتَه، ولا يُدخِل عليه الضَّررَ في أيّ شيء، ولا يسخَرُ منه، ولا يحتَقِره، ولا يَتّبع عورَاتِه، ولا يخونُه في مالٍ أو غيرِه، فيَكفُّ شرَّه عنِ المسلِمين، ويَبذُلُ لهم من الخيرِ ما يَقدِر عليه، عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((لا تحَاسَدوا، ولاَ تَنَاجَشوا، ولا تَبَاغَضوا، ولا تَدَابَروا، ولا يَبِع بعضُكم على بَيعِ بَعض، وكونوا عِبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم؛ لا يَظلِمُه، ولا يحقِرُه، ولاَ يخذُلُه، التَّقوى ها هنا ـ ويشير إلى صَدرِه ثلاثَ مرّات ـ ، بحَسبِ امرِئٍ من الشّرِّ أن يحقرَ أخَاه المسلم، كلُّ المسلِمِ على المسلمِ حرَامٌ: دمُه ومالُه وعِرضُه)) رواه مسلِم، وعن أبي بكرةَ قال: قالَ رسول اللهِ في حجّة الوداع يومَ النَّحر: ((فإنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، وستلقون ربّكم فيسألكم عَن أعمالكم، ألاَ فلاَ تَرجِعوا بعدي كفّارًا يَضرِب بعضُكم رقابَ بعض، ألا فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ)) رواه البخاريّ ومسلم، وعن أبي هُريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ قالَ: ((أَتَدرُون ما الغِيبةُ؟)) قالوا: اللهُ ورَسوله أعلَم، قال: ((ذِكرُك أخاكَ بما يَكرَه)) ، قيل: أفَرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟! قال: ((إن كانَ فيه ما تَقول فقد اغتَبتَه، وإن لم يَكن فيه ما تقول فقد بهتَّه)) رواه مسلم.
وأوسَطُ مَراتِب أخوّةِ الإسلامِ أن يحبَّ المسلمُ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه، وذلك يسيرٌ على مَن كَانَ قَلبُه سليمًا ونُصحُه للمسلِمِين تامًّا، عن أنس قال: قال رسول اللهِ : ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يحِبَّ لأخيهِ مَا يحِبُّ لنفسِه)) رواه البخاريّ ومسلم.
وأعلَى مَراتِبِ أخوّةِ الإسلام الإيثارُ، وهو أن يُؤثرَ حاجةَ أخيهِ المسلم على حاجَته، وقد وصَفَ الله بهذه الصفةِ السلفَ الأوّلَ رضي الله عنهم من الصحابةِ، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
قال المؤرِّخون: إنّ ثَلاَثةً في مَعرَكةِ اليَرموكِ كانوا في آخرِ رَمَقٍ، فَجَاءَ قَرِيبٌ لأَحدِهِم بماءٍ، فعَرَضَه عَلَيه فَقالَ: أعطِه من بحِذائي فإنّه أَحوَجُ إليه منّي، فعرَضَه عَلَيه فقال: أعطِه من بجِواري فهو أحوَجُ إليه منّي، فلمّا جاءَ إلى الثالث وَجَدَه قضى، فرجع بالماءِ إلى الأوّل والثاني فوَجَدَهما قد ماتا، ولم يشرَب أحدٌ منهم قطرةً من الماء إيثارًا من الواحِدِ مِنهم على نفسِه. وهذا الإيثار لا يزال يتكرّر كلّما قوِيَ الإيمان.
فيا أيّها المسلِمون، أينَ تَعاليمُ الإسلام هذِهِ ممّن صمّ عنها أذنيه، وأطلق فيما يُغضب الله جوارحَه، وغرّته الدنيا، فلم يرحَم صغيرًا، ولم يوقِّر كبيرًا، ولم يراعِ لكلِّ ذي شيبةٍ حقَّه، ولم يُراعِ لكلّ ذي حقٍّ حقَّه، ولم يكفَّ عن دماءِ المسلمين جرأةً منه على الله عزّ وجلّ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففون: 4-6].
قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هَذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله الملِكُ الحقّ المُبين، وأَشهَد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسوله، اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى، فنِعمَ الزادُ ليوم المعاد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102، 103].
عن أبي هريرة قال: [قال رسول الله :] ((حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطَسَ فحمِد الله فشمّته، وإذا مرِض فعُده، وإذا ماتَ فاتّبِعه)) رواه مسلِم، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قالَ: قالَ رَسولُ الله : ((المسلِم مَن سَلِم المسلِمونَ مِن لسانِه ويده، والمهاجرُ من هجَر ما نهى الله عنه)) رواه البخاري ومسلم.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قَالَ : ((مَن صلَّى عليَّ واحدةً صلّى الله عليه بها عَشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأوّلين والآخِرين وإمامِ المرسَلِين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعَلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ إنّك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آلِ محمّد كمَا باركتَ عَلَى إبراهيم وعلَى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، اللّهم وارضَ عن الصحابة أجمعين...
(1/5428)
فتنة التباس الحقّ وغيابه
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
12/7/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غياب الحق ولبسه بالباطل من أعظم الفتن. 2- خطر تحريف الإسلام. 3- خطر الفرقة والاختلاف. 4- حقيقة المجتمع المسلم. 5- ذم كتمان الحق ولبسه بالباطل. 6- حقيقة التلبيس والتضليل. 7- طرق التدليس والتلبيس. 8- واجب المسلم. 9- ضرورة اللجوء إلى الله وطلب الهداية منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعدُ: فإنّ الوَصيَّةَ المبذولَةَ لي ولَكم ـ عِبادَ الله ـ هي تقوَى الله سُبحانَه ومُراقبتُه فيما نَأتي وفيمَا نذَر، فبالتَّقوى تحصُل الولايَةُ وتزَفُّ البُشرَى، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: 62-64].
أيّها المسلِمون، إنّ من أعظمِ الفِتن التي تُعاني منها جملةٌ مِنَ المجتمعاتِ المسلِمة في عَصرِنا الحَاضِر هِي فتنة غِيابِ الحقّ ولَبسه بالباطل وفقدان هيمَنَة المرجعيّة الصّريحة الصَّحيحة في إبداءِ الحقّ ونُصرَتِه أمامَ الباطلِ وإظهارِه على الوجهِ الذي أنزلَه الله على رسولِه دونَ فُتونٍ أو تردُّدٍ من إملاقٍ أو خَشية إملاقٍ أو تأويلاتٍ غلَبت عليهَا شُبهاتٌ طاغِيَة أو شَهَواتٌ دَاعَّة، مما يجعَلُها سببًا رئِيسًا في تعرُّضِ صُورةِ الإسلاَمِ وجَوهَرهِ في المجتَمَعاتِ لخطَرَين داهمين:
أحدهما: خطَر إفسادٍ لِلإسلامِ، يُشوِّش قِيَمه ومَفاهيمَه الثَّابتةَ بإدخال الزَّيفِ علَى الصَّحيح والغَريب الدخيل على المكِين الأصيل، حتى يُغلَبَ الناس على أمرِهم في هذَا الفهمِ المقلوبِ، ويبقَى الأمَل في نفوسِهم قائمًا في أَن تجيءَ فرصَةٌ سانحة تردّ الحقَّ إلى نصابه، وهُم في أثناءِ ذلك التَّرقُّب يكونون قد أُشرِبوا في قلوبهم الاعتقادَ الفاسدَ بأنّ ما يَفعَلونه من هذا البُعدِ والقصورِ في التديُّن والخَلط بين الزَّينِ والشَّين هو الإسلامُ بعَينِه، فإذا ما قامَت صَيحَاتٌ تصحِيحيّة تدعوهم إلى الرجوعِ إلى المنهج الحقّ والتمسُّك بالشِّرعة الخالدة كما أنزلها الله جلّ وعلا أنكَروا عليهم ما يدعون إليه، واتَّهَموا الناصِحِين بالرَّجعية والجمودِ والعَضِّ على ظاهِرِ النّصوص دون روحِها وأَغوارِها، كَذا يزعُمُ دعاةُ التلبيس والتَّدلِيس، ولسانُ حالهم عند نُصحِ النَّاصحين ينطق بقول الله جلّ وعلا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
ويؤكِّد كلامَنا هذا مَقولةُ ابنِ مَسعود رضي الله عنه التي يقول فيها: (كيفَ بِكم إذا لبِسَتكم فتنةٌ يربُو فيها الصغير، ويهرمُ فيها الكبير، وتُتَّخَذ سُنّة، فإن غُيِّرت يومًا قيل: هذا مُنكَر)، قالوا: ومتى ذلك؟ قال: (إذا قلَّت أمناؤكم، وكثُرت أُمراؤكم، وقلَّت فُقهاؤكم، وكثُرت قُرّاؤكم، وتُفُقِّه في غيرِ الدّين، والتُمِسَت الدنيا بعَمَل الآخرة) [1].
وأمّا الخطر الثاني ـ عبادَ الله ـ فهو أنَّ هذا التَّلبيسَ والتضليلَ ينتهي بالمسلمين إلى الفُرقةِ التي يَصعُب معها الاجتماع؛ إذ كلُّ طائفةٍ سَتزعم أنَّ لها منهجَها الخاصَّ بها، فتتنوَّع الانتماءات إلى الإسلام في صُورٍ يُغايِر بعضُها بعضًا كالخطوطِ الممتدّة المتوازيةِ التي يستحيل معها الالتِقاءُ، حتى إنَّنا لنَرى بسَبَبِ مثلِ ذلك إسلامًا شماليًّا وإسلامًا جنوبيًّا وإسلامًا شرقيًّا وآخر غربيًّا، وإنما الإسلام شِرعةٌ واحدةٌ وصِبغَة ما بعدَها صِبغة، ولكنّه التضليل والتلبيس الذي يفعَل بالمجتمعاتِ ما لا تَفعَلُه الجيوشُ العاتِيَة.
إنَّ المجتمعَ المسلِمَ التَّقيّ النَّقِيّ هو ذلكم المجتمَع الذِي تسود فيه أَجواءُ النّقاء في المنهَج والوُضوح في الهَدَف وسلامة السّريرة في الحكمِ والفتوَى والتربِيَة والتعليم والأحوال الشخصِيَّة والمعاملات والشُّموليّة في الالتزامِ بالإسلامِ على مَنأى وتخوُّفٍ مِن تهميش أيٍّ من جوانِبِه التي شَرعَها الله أو الزَّجِّ بها في رُكامِ الفوضَى والمساوَمَة والتَّندِيد.
وإنّ المتتبِّعَ لِسِيَر عُصورِ الخلافاتِ الرّاشِدَة عَبرَ التَّاريخِ لَيَقطَع باليَقين أنّ تلكَ العهودَ كانَت عرِيّةً عن مزالقِ التلبيس والتضليل والخِداع والمراوَغَة في التعامُلِ مَعَ الشَّريعةِ مِن كافّةِ جوانِبِها، ولذلك حصَل لهم ما حصَل من الشَّأو الرفيع والمُلك الواسع في الدنيا، وما ذلك إلاَّ بفضلِ الله عليهم ثم بما حبَوا به أنفسَهم من الصدقِ مع اللهِ في الباطِنِ والمخبر المتَرجَم في الواقع والمظهَر، وهم مع ذلك ليسُوا أنبياءَ ولا كانوا على شريعةٍ غيرِ شَريعتِنا، وليس لهم كتابٌ غير الكِتاب الذي نقرَأ، ولا سنّةٌ غير سنَّة المصطَفَى ، ولكنَّه إيمانٌ راسخ بالله وبرسولهِ ، صدَّقَه العملُ عَلَى أرضِ الواقِعِ واستِلهامُ العِبَر مِن كِتابِ رَبهم حينَ عابَ وذمَّ من جعَل من التلبيسِ والتضليل منهجَ حياة ليخدَع بِه ربَّه ويخدَع بِه السُّذَّجَ والرّعَاعَ من بني جِنسِه، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9].
إنّ كتابَ اللهِ جلّ وعلا مَليءٌ بالآياتِ الذامَّةِ لممتَهِني التضليل والتلبِيس، إمّا بنصِّ الكلِمة نفسِها أو بمشتقَّاتها ومعانيها، فقد عَابَ الباري سبحانه على بعضِ أهلِ الكتابِ مخادعةَ أقوامِهم وشُعوبهم حينما يدُسّون في شريعتِهم ما لَيسَ مِنها لتلقَى الرواجَ والانتشارَ في صفوفِهم، وليَظهَروا لهم بمظهَرِ المصحِّح المشفِق، وذلك حينما قالَ الله عَنهُم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 78، 79]، وَقَالَ في مَوضِعٍ آخَر: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 78]، ومِن ذلِكَ قولُ الله عَنهُم: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42]، ويُؤكِّد هَذَا الذَّمَّ بقَولِه في موضعٍ آخَر: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران: 71].
إنّه التَّدلِيسُ والمراوغةُ والتَّلبيسُ والخِداع الذي يُردِي بالمجتمعاتِ ويُهلِكها عِندما يدبُّ في صُفوفِها أو يموج فيها كمَوجِ البَحرِ، وذلك من صِفاتِ الأمّة الغضبيَّةِ والأمّة الضَّالّة.
أيّها المسلمون، التَّلبيسُ والتَّضليل هو إظهارُ الباطلِ في صورةِ الحقّ وجعلُ الشَّين زَينًا والشرِّ في صورةِ الخير، وإنَّ من المقَرَّر في هذا الأمرِ الخطير أنّ من يُعاقر لَبسَ الحقِّ بالباطلِ يجِد نفسَه مضطرًّا لأن يكتُمَ الحقَّ الذي يبيِّن أنه باطلٌ؛ إذ لَو بيَّنه لزالَ الباطل الذي كان يُعاقِرُه ويلبِس به الحقَّ، وهذا أمرٌ يَغيبُ عن أذهانِ كثيرٍ من النّاس في التعامُل مع المطَارَحاتِ التَّغريبيّة والمحاولات التسلُّليّة بدعوَى التجديد والتّصحيح والنهوضِ بالمجتَمَع إلى مستوَى مُسايرةِ الرَّكب واستِجلاب كلِّ ما يخدِم ذلك من تأويلاتٍ وشبهات ولَيٍّ لأعناقِ النّصوص الواضحات، يقول بعضُ السلف: "إنَّ الحقَّ إذا لُبس بالباطل يكون فاعلُه قد أظهَرَ الباطلَ في صورةِ الحقّ، وتكلّم بلفظٍ له مَعنَيَان: مَعنى صحيح ومعنى بَاطِل، فيتوهَّم السامعُ أنه أرادَ المعنى الصّحيح، ومُرادُه في الحقيقةِ هو المعنى الباطِل".
ثم اعلَموا ـ يا رَعَاكم الله ـ أنّ للتّدلِيسِ والتلبيس وسائلَ متعدِّدة، فإنّ مُواقِعي ذلكم لا يَلزَمون طريقًا واحدةً، كما أنهم في الوقتِ نفسِه ربما لا يُتقِنون كلّ طرُقِه، ولِذَلك قَد يلجَأ بعضُهم إلى التأويلِ الفاسدِ واتّباع المتشابِهِ مِنَ النّصوصِ الشرعيّة التي تخدِم مصالحَهم وتوجُّهاتهم، فيقعون في لبسِ الحقّ بالباطل، وقد ذمّ الله مَن هذه صفتُه بقولِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عِمرَان: 7].
وهَذا المسلَك الخطيرُ ـ عبادَ الله ـ لا يمايِز بين أهلِ الأهواءِ وأصحابِ الزّيغ والشبهات فحَسب، بل يمتدّ أثرُه إلى كلّ من آثرَ الدنيا على الآخرة في عِلمِه وحُكمه وتعامُله كائِنًا مَن كَانَ، يقولُ ابنُ القيِّم رحمه الله كلامًا مَفادُه أنّ من آثرَ الدنيا من أهلِ العِلمِ واستحبَّها فلا بدَّ أن يقولَ على الله غيرَ الحقِّ في فَتواه وحُكمِه وفي خبرِه وإلزامه؛ لأنّ أحكَامَ الربّ سبحانه كَثيرًا ما تأتي على خِلافِ أغراضِ النّاس، ولا سيَّما أهل الرّياسَة، فإذا كان العالم والحاكِم مُحبّين للرِّياسة متّبِعين للشّهوات لم يتمَّ لهما ذلك إلا بدَفعِ ما يضادّه من الحقِّ، ولا سيّما إذا قامَت له شبهةٌ، فتتَّفِق الشّبهة والشّهوةُ ويثور الهوَى، فيختَفي الصوابُ وينطمِسُ وجه الحقّ. انتهى كلامه رحمه الله [2].
فإذَا كان هذا الأثرُ يبلُغ بالعَالم والحاكِم هذا المبلَغَ فما ظنُّكم بالصَّحَفيّ والمفكِّر والسِّياسيّ والمنظِّر إذًا؟! ألاَ إنَّ الأثرَ أبلَغ والهوّة أشقّ، ولاَ حَولَ ولا قوّةَ إلا بالله.
ثم إنّ أهلَ التلبيس والتَّدليس قد يسلُكون مسلكًا آخَر هو من الخطورةِ بمكان، وذلك من خِلالِ كِتمانِ الحقِّ وإخفائه وعدَم إظهارِه للنَّاسِ وإن لم يَلبسوه بالباطل، ثم هُم يُسوِّغون الحجَجَ والشُبهَ لإخفائه وخطورة إظهاره، ويضخِّمون المفاسدَ المترتِّبةَ على إظهَاره في مقابلِ تهوينِ المصالحِ المترتّبة عَليه؛ لأنّ لَبس الحقِّ بالباطل وكتمانَ الحقّ أمران متلازِمان، يقول شيخ الإسلام ابن تَيمِية رحمه الله: "مَن كتم الحقَّ احتاجَ أن يقيمَ موضعَه باطلاً، فيلَبس الحقَّ بالباطل، ولهذا كان كلُّ من كَتَم من أهل الكتابِ ما أنزَلَ الله فلا بدَّ أن يُظهرَ باطلاً" [3].
وقد توعّدَ الله أصحابَ هذا المسلكِ بقولِه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة: 159]، وقد جاءَ في الصّحيحِ من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه قوله: (لولاَ آيةٌ في كِتابِ الله ما حَدّثتُ أحدًا شيئًا) وقرأ هذه الآية [4] ، وجَاءَ في المسنَدِ من طرقٍ متعدّدَة مرفوعًا إلى النبيِّ : ((من سُئلَ عن علمٍ فكتمَه أُلجم يومَ القيامة بلجامٍ من نار)) [5].
فالواجبُ علينا ـ عبادَ الله ـ التَّسليمُ بشريعةِ الله وأنها شَريعةٌ خالدة، لا لَبسَ فيها ولا زَيفَ، وهي صالحةٌ لكلِّ زمانٍ وَمَكان، وأن لاَ عِزّةَ للأمة إلاّ بها، وأنَّ الخذلاَنَ والخسارَ والبَوارَ مَرهون بمدَى بُعدِ المسلِمين عنها ونأيِهم عن سَبِيلِها.
وعلينا ـ معاشرَ المسلمين ـ أن لا نَغتَرَّ بالأطروحاتِ المزوّقةِ والتلبيسَاتِ المنمَّقة في تهميشِ الشَّريعة، كما أنه ينبَغِي أن يكونَ موقفُ المسلم أمامَ أعاصير التضليلِ وزوابعِ التلبيسِ والتّضليل أن يقول مَا امتدَحَ الله به الرّاسخين في العِلم الذين يقولون أمامَ هذه الفتنِ المضلِّلة والتشكيك بشريعةِ الله: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 7].
بارَكَ الله لي ولَكم في القُرآنِ العَظيم، ونَفَعَني وإيّاكُم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذّكر الحَكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] رواه عبد الرزاق (11/359)، وابن أبي شيبة (7/452)، والدارمي في المقدمة (185، 186)، والشاشي (613)، والحاكم (8570)، وابن حزم في الإحكام (6/315)، والبيهقي في الشعب (5/361)، وصححه الألباني في قيام رمضان (ص4).
[2] الفوائد (ص100).
[3] مجموع الفتاوى (7/172-173).
[4] صحيح البخاري: كتاب العلم (118)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2492).
[5] مسند أحمد (2/263) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضا أبو داود في العلم (3658)، والترمذي في العلم (2649)، وابن ماجه في المقدمة (266)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (95)، والحاكم (1/101)، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري في مختصر السنن (3511)، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة (223).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وَحدَه، والصَّلاةُ والسَّلام على مَن لاَ نَبيَّ بَعدَه.
وبَعدُ: فاعلَموا ـ يا رَعاكم الله ـ أنّ لبَعض المفسِّرين كلامًا لطيفًا عن قولِه تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42] بأنّ إِضلالَ الغيرِ والتّلبيسَ عليه لا يحصل إلا بطريقَتَين: فإن كان ذلك الغيرُ قد سمِع دلائلَ الحقِّ قبل ذلك فإنّ إضلالَه لا يتحقَّق إلا بتَشويشِ تلك الدَّلائل عليه، وإن كان لم يَسمَعها مِن قَبلُ فإنَّ إضلالَه إنما يَكمُن بإخفاءِ تلك الدلائل عنه ومَنعِه من الوصول إليها، فقولُه تَعَالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارةٌ إلى الطريق الأوّلى وهي تشويشُ الدّلائل، وقوله: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ إشارةٌ إلى الطريقِ الثانية وهي مَنعُه من الوصول إلى الدّلائل، وكِلتا الطريقَتَين بلاء عبادَ الله.
واللَّبسُ إنما يَقَع إذا غابَ العِلم بسبيل الحقّ وسبيلِ الباطل أو بأَحَدِهما كما قال الفاروقُ رضي الله عنه: (إنما تُنقَض عُرَى الإسلام عروةً عروة إذا نَشأ في الإسلام من لم يعرِف الجاهلية) [1]. ومِن هنا ذاعَت مقولتُه المشهورَة: (لستُ بخبٍّ ولا يخدَعني الخبّ) [2] ، والخبُّ هو اللئيم المخادِع.
فعلى المسلمِ أن يتّقيَ ربَّه سبحانه، وأن يكونَ في دِينِه على بصيرةٍ، فما فَصَّل له ربُّه الآياتِ إلاّ لتَستَبِين سبيلُ المجرمين، وإذا مَا كثُر اللغَط واللّبس ونطَقَتِ الرّويبِضة في أمر العامّة وخلَط الناس قولاً صالحًا وآخَرَ سيِّئًا فليس إلا اللّجُوء إلى الله سبحانه لاستِجلابِ الهِداية والوِقاية من اللّبس والتَّضليل، كما جاء عند مسلِمٍ في صحيحه في استفتاحِ النبيِّ صَلاَةَ الليل بقولِه: ((اللَّهمّ ربَّ جبريلَ وميكائيل، عالمَ الغيب والشهادةِ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِني لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدِي مَن تشاء إلى صراط مستقيم)) [3].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خَيرِ البريّة وأزكَى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشَّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكَتِه المسبِّحة بقدسِه، وأيَّهَ بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللَّهمّ صَلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد صاحِبِ الوجهِ الأنوَر والجبين الأزهَر، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة...
[1] انظر: مفتاح دار السعادة (1/295)، ومدارج السالكين (1/343)، والجواب الكافي (ص152).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (10/302)، وإعلام الموقعين (3/241)، والروح (244).
[3] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (770) عن عائشة رضي الله عنها.
(1/5429)
فضل المدينة وحرمتها
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
26/7/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة المدينة في الإسلام.2- فضائل المدينة. 3- فضل سكنى المدينة. 4- فضل الصلاة في المسجد النبوي. 5- فضل مسجد قباء. 6- فضل الصبر على سُكنى المدينة. 7- ما ينبغي أن يتحلّى به ساكن المدينة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، اتّقوا الله فإِنّ تقواه أفضَلُ مكتَسَب، وطاعته أَعلَى نسَب، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال: 29].
أيّها المسلِمون، تتفاوَتُ البلدان والأوطانُ شرفًا ومكَانَة وعُلوًّا وحُرمَة ومجدًا وتأريخًا، وتَأتي المدينة النبَويّةُ بلدُ المصطَفَى أَرضُ الهِجرَةِ ودَار الإيمان ومَوطِنُ السنّة في المكان الأعلى والموطن الأسنى، هي بعدَ مكّةَ سيِّدة البلدان, وثانِيَتها في الحرمة والإكرام والتعظيم والاحترام، فيها قامَت الدّولة النبويَّة والخلافَةُ الإسلاميّة، وبها ضَرَبَتا بعروقهما وسمقتا بفروعِهما، وصدَق رسول الهدى إذ يقول: ((أُمِرتُ بِقَريةٍ تأكُلُ القرى, يقولون: يثرِبُ، وهي المدينة)) متفق عليه [1].
دَارةُ المحاسِن ودائِرة الميامِن, طيبَةُ الغرّاء وطَابةُ الفَيحَاء، تُوسِع العينَ قُرّةً والنَّفسَ مَسَرّة، الفضائِلُ مجموعَةٌ فيها, والإيمان يَأرِز في نواحِيهَا، فعَن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رَسولُ الله : ((إنّ الإيمانَ ليَأرِز إلى المدينةِ كما تأرز الحيّةُ إلى جُحرها)) متفق عليه [2] ، وعن عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ الإسلامَ بدَأ غريبًا وسَيَعود غريبًا كما بدَأ، وهو يأرِز بين المسجِدين كما تأرِز الحيّة إلى جُحرها)) أخرجه مسلم [3] ، وعند الحاكِم والبَيهقيّ من حديثِ جابر رضي الله عنه أنّ رَسولَ الله قال: ((لَيَعودَنَّ كلُّ إيمانٍ إلى المدينةِ، حتى يكونَ كلّ إيمانٍ بالمدِينَة)) [4].
مُتنفَّسُ الخواطِر ومَرتَع النَّواظر، بلدةٌ معشوقَة السّكنى طيِّبةُ المثوَى، سكنُها مع الإيمان شَرَفٌ بالغ، واستيطانها مَعَ التّقوى عِزٌّ شامِخ، فعن عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما أنّ النَّبيّ قال: ((مَن استطاعَ أن يموتَ بالمدينة فَليَفعَل, فإني أشفَع لمن ماتَ بها)) أخرجَه أحمد [5] ، وعند النَّسائيّ من حديث صُمَيتَة: ((مَن مات بالمدينةِ كنتُ لَه شهيدًا أو شَفيعًا يومَ القِيامة)) [6]. وكان عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه يقول: (اللَّهمَّ ارزُقني شهادةً في سَبيلك, واجعَل مَوتي في بَلدِ رسولِك محمّد ) أخرجَه البخاريّ [7].
فيَا هناءَةَ سَاكنِيها، ويا سعادةَ قاطنيها، ويا فوزَ مَن لزِم الإقامةَ فيها حتى جاءَته المنيّة في أراضِيها.
في البُعدِ عنها يَهيجُ الشّوقُ إليها, ويَتَضاعَف الوَجدُ عليها، وكانَ رسولُ الله إذا قَدِم مِن سَفرٍ ونَظَر إلى جُدُراتها ودَوحَاتها ودَرَجاتها أوضَعَ راحِلته, وحرّكها واستَحَثّها, وأسرع بها لحبِّه لها [8] ، وكان يقول إذا أشرف عليها: ((هذه طابة، وهذا أحُدٌ، وهو جبلٌ يحبُّنا ونحبه)) ، فهي حبيبةُ المحبوبِ القائِلِ: ((اللَّهمَّ حبِّب إلينا المدينةَ كحبِّنا مكّةَ أو أشَدّ)) متفق عليه [9].
ولاَ غَروَ فهي دارُه ومُهاجَره، فيها نُصِب محرابُه ورُفع مِنبره، وفيها مَضجَعه ومنها مَبعَثه، بَلدُه البديع ودِرعه المنيع وحِصنه الرفيع، يقول : ((رأيتُ أَني في دِرعٍ حَصينةٍ، فأوَّلتُها المدِينة)) أخرجه أحمد [10].
بلدةٌ آمِنة، ومَدينة ساكِنَة، لا يُهرَاق فيها دَم, ولا يحمَل فيها سِلاحٌ لقِتال، فعن سَهلِ بنِ حنيف رضي الله عنه قال: أهوى رسولُ الله بيدِهِ إلى المدينةِ فقال: ((إنها حَرَمٌ آمِن)) أخرجَه مسلم [11].
لا يكيدُ أهلَ المدينة أحَدٌ أو يريدُهم بسوءٍ أو شرّ إلاَّ انْماع كما يَنمَاع المِلحُ في الماء، يقول رسول الهدَى : ((مَن أخاف أهلَ المدينةِ ظُلمًا أخافه الله عزّ وجلّ, وعليه لعنةُ الله والملائكةِ والناس أجمَعين، لا يقبَل الله منه يومَ القيامةِ صرفًا ولا عدلاً)) أخرجَه أحمد [12] ، ويقول عَلَيه الصَّلاة والسَّلام: ((مَن أخاف أهلَها فقد أخافَ ما بين هَذَين)) وأشارَ إلى ما بين جَنبَيه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامُه عليه. أخرجه ابن أبي شيبة [13].
ومِن منَاقِبِها المأثورَة وفضائِلها المشهورةِ أنها محفوظةٌ مَصونة محروسَة محفوفة، لا يدخُلُها رُعبُ الدّجال ولا فَزَعُه، ولا يرِدها ولا تَطَؤُها قدَمُه، محرَّمٌ عليه أن يدخل نِقابها أو يَلِج أبوابها، يُريدُها فلا يستَطِيعها، الملائكةُ على أنقابها وأَبوابها وطُرُقها ومحاجِّها صافّون بالسّيوفِ صَلتَةً, يحرسونها ويذبّونَ عنها، فعَن أبي هريرة رضي الله عَنه قال: قال رسول الله : ((عَلَى أَنقَابِ المدينةِ مَلائكةٌ، لا يدخُلُها الطاعونُ ولا الدَّجال)) متّفق عليه [14] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((يأتي المسيحُ من قِبَل المشرقِ همّتُه المدينةُ، حتى ينزل دُبُرَ أحُد, ثمّ تصرِف الملائكة وجهَه قِبَل الشام، وهنالِك يَهلِك)) أخرجه مسلم [15].
يَأتي الدجالُ سَبخَةَ الجُرف عندَ مجتَمَع السيول عند الضّرَيب الأحمر، فيضربُ رواقَه، وترجُفُ المدينة بأهلها ثلاثَ رجفات، فيَخرُج إليه كلّ منافقٍ ومنافقةٍ وكلُّ كافر وكافرة وكلّ مُشرِك ومشركةٍ، وصدق رسول الله : ((ولا تَقومُ السّاعة حتى تنفِيَ المدينة شِرارَها كما ينفِي الكيرُ خبثَ الحديد)) أخرجه مسلم [16].
هي حَرامٌ ما بين لابَتَيها وحرَّتَيها وَجبَلَيها ومَأزِمَيها، لا يُصادُ صَيدُها, ولا يُؤخَذ طَيرها, ولا يُعضَد شوكُها, ولا يخبَط شَجَرها, ولا يُقطع عِضاهُها، ولا يختَلَى خَلاها, ولا تؤخَذ لقطتُها إلا لمَن يُعرِّفها، يقول رسول الهدى : ((إنّ إِبراهيمَ حرّمَ مكّةَ, وإني حرّمتُ المدينة ما بين لابَتَيها, لا يُقطَع عِضاهُها, ولا يُصاد صَيدُها)) أخرجه مسلم [17] ، ويقول أبو هريرةَ رضي الله عنه: لو رأيتُ الظباءَ في المدينةِ ما ذَعَرتها، قال رسول الله : ((ما بَين لابتَيها حَرامٌ)) متَّفق عليه [18] ، ويقولُ عبد الرحمن بنُ أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه: كان أبو سعيدٍ يجِد أحدَنا في يدِه الطيرُ قد أخذَه، فيفكّه من يدِه ثمّ يُرسلِه. أخرجه مسلم [19].
ومَن أَظهرَ فيها بِدعةً أو حدَثًا أَو شِركًا أو آوَى زَانِيًا أو مُبتَدِعًا فقد عرّض نفسَه للوعيد الشديدِ واللّعن الأكيد، يقول رسولُ الهدَى : ((المدينةُ حرَم ما بَين عَير إلى ثورٍ, فمن أحدَثَ فيها حدثًا أو آوَى محدِثًا فعَلَيه لعنة الله والملائكةِ والنّاس أجمعين، لا يقبَلُ الله منه يومَ القيامةِ صرفًا ولا عَدلاً)) متَّفق عليه من حديثِ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه [20].
ومَن اعتقد جوازَ الطواف بالقبور أو التبرُّكِ بتربتِها أو الاستشفاءِ بها أو التوسِّلِ بأصحابها أو نِدائِها ودعاءِ أهلِها فقد اعتقَدَ باطلاً وأتى حَادِثًا مُنكرًا، ومَن اعتَقَد أنّ البركةَ إنما تحصُل بمسحِ جِدارٍ أو عَمودٍ أو بابٍ أو تَقبِيل مِنبرٍ ومحرابٍ فقَد جانَبَ الصّوابَ, وخالفَ السنّة والكتابَ، وعليه الكفُّ عن ذلك والتّوبةُ وعَدَم العودة.
أيّها المسلِمون، في سُكنى المدينةِ النبويّة مِنَ الفوائدِ الشرعيّة والعوائدِ الأُخرويّة والمصالح الدينيَّة والسعادة النفسيَّة ما يُستَحَقَر دونها كلّ عيش واسع ورغدٍ ورفاه في غيرها من البلدان والأوطان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ قال: ((يَأتي على النّاسِ زمانٌ يدعو الرجلُ ابنَ عمّه وقريبَه: هلُمَّ إلى الرخاءِ هَلمّ إلى الرخاء, والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يَعلَمون، والذي نفسِي بِيَدِه لا يخرُجُ منهم أحدٌ رغبةً عَنها إلاَّ أخلفَ الله فيها خيرًا منه)) أخرجه مسلم [21] ، ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لَيَسمعَنَّ ناسٌ برُخصٍ من أسعارٍ ورِزق فيتبعونه, والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يَعلَمون)) أخرجه البزّار والحاكم وصحّحه [22].
الصلاةُ في مسجدِها مضاعفةُ الجزاء فرضًا ونفلاً في أصحّ قَولَي العلماء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي قالَ: ((صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألفِ صَلاة فيما سواه, إلاّ المسجد الحرام)) متفق عليه [23]. ووَجهُ ذلك أنّ قولَه : ((صلاةٌ في مسجدِي هذا)) نكِرَة في سياقِ الإثبات في معرضِ الامتنان فتعمّ الفَرضَ والنافلةَ، إلاّ أنّ صلاةَ النَّافِلَة في البيتِ أفضلُ من صَلاتها في مسجدِ رسول الله حتى ولَو كانَت مُضاعَفة، لقولِه عليه الصلاة والسلام: ((صَلاةُ المرءِ في بيتِه أفضلُ من صَلاتِه في مَسجدِي هذا إلاّ المكتوبة)) أخرجه الشيخان وأبو داودَ واللّفظ له [24].
وفي هذا المسجِد المبارك بُقعةٌ هِي روضَة من رياض الجنّة، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((ما بَينَ بَيتي ومِنبرِي روضةٌ مِن رياض الجنَّة، ومِنبرِي على حَوضي)) متفق عليه [25] ، وعند أحمَدَ: ((ومنبري هذا عَلَى تُرعَةٍ من تُرَع الجنّة)) [26] ، وعند النَّسائيّ: ((إنّ قوائِمَ منبري هَذا رَواتِب في الجنّةِ)) [27] ، وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((لا يحلِفُ أحدٌ عند مِنبرِي هذا على يمين آثمةٍ ولو على سِواكٍ أخضَر إلاّ تَبَوّأ مقعدَه من النّار أو وجَبَت له النّار)) أخرجه أبو داود وابن ماجه [28].
وثبَت فضلُ الصلاة في مسجدِ قباء عن المبعوث في أمِّ القرى، فعن سهل بنِ حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن تَطَهّر في بيتِه ثم أتى مسجدَ قباء فصَلّى فيه صلاةً كان له كأجرِ عُمرة)) أخرجه ابن ماجه [29] ، ولا يُقصَد في أوقاتِ النّهي لكونها أوقاتًا يُنهى عن التَّنَفّل فيها.
ولا يُزار في المدينةِ النبويّة من المساجِد سِوى هذين المسجدين: مسجدِ رَسول الله ومسجد قُباء.
أيّها المسلمون، البرَكةُ في المدينةِ حالّة في صاعِها ومُدِّها ومِكيالها وثمرِها وقَليلِها وكثيرِها، دعا لها النبيُّ بالبركةِ وقال: ((اللَّهمّ اجعَل في المدينةِ ضِعفَي ما بمكّةَ من البركة)) متفق عليه [30] ، ((مَن تَصَبّح كلَّ يومٍ سبعَ تمراتٍ عَجوَةٍ لم يَضُرَّه في ذَلكَ اليومِ سمٌّ ولا سِحر)) [31].
قدِمَ رَسولُ الله المدِينةَ وهي أَرضُ وَباءٍ ومَرَض وبَلاءٍ، مُتغيّرةُ الماء، فاسِدَةُ الهواء، قتّالَة الغرَباء، كثيرة الأنداء، زائرُها محموم، وقاطِنُها موعوك ومَوخوم, أخذَتِ الحمَّى فيها أبا بكر وبلالا وعائِشةَ أمَّ الأفضال، فدَعا رسول الله ربَّه أن يُصَحِّحها وأن يَنقلَ حمّاها إلى الجُحفَةِ, فاستجاب الله منه الدّعاء وحقّق له النِّداء، فعَن عبد الله بنِ عمَرَ رضي الله عَنهُما أنّ النبيَّ قال: ((رَأَيتُ كأنّ امرأةً سوداءَ ثائرةَ الرَّأس خَرَجَت مِن المدينةِ حتى قامت بمهيَعة وهي الجُحفَة, فأوّلتُ أنّه وباء المدينة نُقِل إليها)) أخرجه البخاري [32]. قال ابن حجر: "فعادَت المدينة أصحَّ البلاد بعد أن كانت بخلاف ذلك" [33].
مَن صبر على لأوائِها وبلوائِها وغِمار شِدّتها وغَلوَائها نال السُّعودَ وتحقّق له الفضلُ الموعود، ألا وهو شَفاعةُ صاحبِ المقامِ المحمود والحوضِ المورودِ ، فعن عبدِ الله بنِ عمَرَ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((مَن صبر على لأوائها وشدَّتها كُنتُ له شهيدًا أو شَفيعًا يومَ القيامة)) أخرجه مسلم [34].
هذه هي المدينةُ، فضائلها لا تحصَى، وبَركاتها لا تُستَقصَى, فاغتنموا ـ يا رعاكم الله ـ فيها الأوقات، واستكثِروا من الصالحات والحسناتِ.
أقول ما تَسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرَّحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفي الناس (1871)، ومسلم: كتاب الحج (1382) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة (1876)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (147).
[3] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (146).
[4] مستدرك الحاكم (8400)، ودلائل النبوة (6/330-331)، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة"، وصححه الدكتور صالح الرفاعي في فضائل المدينة (ص196-197).
[5] مسند أحمد (2/74، 102)، وأخرجه أيضا الترمذي في كتاب المناقب، باب: ما جاء في فضل المدينة (3917)، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب: فضل المدينة (3112)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3741)، وحسنه البغوي في شرح السنة (7/324)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5437)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (3076).
[6] سنن النسائي الكبرى (2/488), وأخرجه الطبراني في الكبير (24/331), والبيهقي في الشعب (8/112-113)، وصححه ابن حبان (3742)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1194، 1195).
[7] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: كراهية النبي أن تعرى المدينة (1890).
[8] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب: المدينة تنفي الخبث (1886) عن أنس رضي الله عنه بمعناه.
[9] صحيح البخاري: كتاب المرضى، باب: عيادة النساء الرجال (5654) واللفظ له، ومسلم: كتاب الحج (1376) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[10] مسند أحمد (1/271) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا البيهقي في الكبرى (7/41)، وصححه الحاكم (2588)، وحسنه ابن حجر في الفتح (13/341)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3/91). وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (30489)، وأحمد (3/351)، والدارمي في الرؤيا، باب: في القمص والبئر واللبن والعسل والسمن (2159)، والنسائي في الكبرى (4/389)، وصححه ابن حجر في الفتح (7/377، 13/341).
[11] صحيح مسلم: كتاب الحج (1375).
[12] مسند أحمد (4/55، 56) من حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (4266)، والطبراني في الكبير (7/143، 169، 170)، وأبو نعيم في الحلية (1/372)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1215)، وانظر: السلسلة الصحيحة (351).
[13] مصنف ابن أبي شيبة (6/406) من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/354، 393)، قال المنذري في الترغيب (2/152) والهيثمي في المجمع (3/306): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1213).
[14] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة (1880)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1379).
[15] صحيح مسلم: كتاب الحج (1380) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[16] صحيح مسلم: كتاب الحج (1381) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] صحيح مسلم: كتاب الحج (1362) من حديث جابر رضي الله عنه.
[18] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: لابتي المدينة (1873)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1372).
[19] صحيح مسلم: كتاب الحج (1374).
[20] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: حرم المدينة (1867)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1370) واللفظ له.
[21] صحيح مسلم: كتاب الحج (1381).
[22] مستدرك الحاكم (8400) من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/341-342) بنحوه، والبيهقي في دلائل النبوة (6/330-331)، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1189)، والدكتور صالح الرفاعي في فضائل المدينة (ص196-197).
[23] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1190)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1394).
[24] صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب: صلاة الليل (731)، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (781)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: صلاة الرجل التطوع في بينه (1044) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[25] صحيح البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر (1196)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1391).
[26] مسند أحمد (2/360) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ورد عن غيره من الصحابة منهم: سهل بن سعد وجابر وأبو سعيد رضي الله عنهم، انظر: السلسلة الصحيحة (2363)، وفضائل المدينة للرفاعي (ص493).
[27] سنن النسائي: كتاب المساجد، باب: فضل مسجد النبي (696) عن أم سلمة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا عبد الرزاق (3/182)، وأحمد (6/289، 292، 318)، وأبو يعلى (6974)، والطبراني في الكبير (23/254)، وأبو نعيم في الحلية (7/248)، والبيهقي في الكبرى (5/248)، وصححه ابن حبان (3749)، وهو في صحيح سنن النسائي (672)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2050).
[28] سنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور، باب: ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي (3246)، سنن ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب: اليمين عند مقاطع الحقوق (2325)، وأخرجه أيضًا مالك في الأقضية، باب: ما جاء في الحنث على منبر النبي (1434)، وأحمد (3/375)، وصححه ابن الجارود في المنتقى (927)، وابن خزيمة كما في الفتح (5/285)، وابن حبان (4368)، والحاكم (7810) وغيرهم، وهو في صحيح سنن أبي داود (2782).
[29] سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء (1412)، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (32524، 32525)، وأحمد (3/487)، والنسائي في كتاب المساجد، باب: فضل مسجد قباء والصلاة فيه (699)، وصححه ابن حبان (1627)، والحاكم (3/12)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1180، 1181).
[30] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب: المدينة تنفي الخبث (1885)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1369) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[31] أخرجه البخاري في الأطعمة، باب: الهجرة (5445)، ومسلم في الأشربة (2047) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[32] صحيح البخاري: كتاب التعبير، باب: إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة... (7038).
[33] فتح الباري (10/191).
[34] صحيح مسلم: كتاب الحج (1377).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانِهِ، والشُّكرُ له على تَوفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رِضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وإِخوانِه، وسلّم تسلِيمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيَا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تَعصُوه, ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، يَنبَغي لساكنِ المدينة أن يُعرَف بحُسن سيرته وصلاحِ سريرَته وصفاءِ قلبه وطهارته وأمانتِه وعِفّته وصدقِ لسانِه وحديثه، مجافيًا مُستقبَح الفِعال، مجانبًا فاحشَ الأقوال، وعلى سَاكنيها أن يكونوا أوفياءَ لها أمناءَ عليها غَيارَى على حُرمتها، فلا يدنّسوها بقذَر المحرّمات ونَتنِ القنوات والفضائيات ودَنَس المخالفات، وعلى المجتَرِئين على حرمَتِها وقداستها ممّن أتَوا من الأخلاق قبائحَها وأظهروا من الأفعال فَضائحَها انتهاكًا لحقّ الحرم ومكانَتِه, واستِخفَافًا بِعَظَمتِه وحُرمته، واغتِرارًا بالمسامحة والتّجاوُز، ورَجاءَ العفو والمغفرة، عَليهم أن يتّقوا الله وأن يرَعَوُوا ويقصروا ويَتوبُوا ويَرجِعُوا، ويَستشعِروا أنهم في أرضٍ درَج عليها رسول الله وصَحابتُه الكرامُ، وعاشوا فيها بالهدَى والتّقى، فاللهَ اللهَ في اقتفاء آثارهم وسلوكِ مِنهاجِهم والسيرِ على طريقتهم.
رزقنا الله جميعًا فيها حُسنَ الأدب، وغفَر لنا جميعًا الخطَأَ والزّلل، وتجاوَزَ عنّا جميعًا بعفوِه ومَغفِرته.
ثمّ صلّوا ـ عبادَ الله ـ وسلّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورى، فمن صلّى عليه صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بها عَشرًا، للخَلقِ أُرسلَ رحمةً ورحيمًا، صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، صلّى الله عليه وسلّم تسليمًا كما كرّمه برسالته وخُلّته تكريمًا.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّ الرحمة صلاة وسلامًا ممتدّين دائمين إلى يوم القرار، اللهم وارض عن آله الأطهار وصحابته الأبرار المهاجرين منهم والأنصار.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، ودمّر أعداء الدين...
(1/5430)
وتوبوا إلى الله
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة
سعيد بن معيض القرشي
الباحة
جامع محوية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فقر العباد إلى الله تعالى. 2- نزول الغيث بيد الله وحده. 3- مفاسد ظهور المعاصي وانتشارها. 4- الحث على التوبة والاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 15-17]. وهو مع غناه يأمركم بدعائه ليستجيب لكم، وسؤاله ليعطيكم، واستغفاره ليغفر لكم، وأنتم مع فقركم وحاجتكم إليه تعرضون عنه وتعصونه، وأنتم تعلمون أن معصيته تسبب غضبَه عليكم وعقوبته لكم وجلب الهلاك إليكم.
عباد الله، أتشكون جدب الديار؟! أتشكون تأخر الأمطار؟! أتشكون ما لحق بالعباد والبلاد من الأضرار؟! أتشكون ما أصاب الأرض من اغبرار؟! أتشكون يبس الأعشاب والنباتات والأشجار؟! أتشكون تبدل الاخضرار إلى اصفرار؟! وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
والذي نفسي بيده، لا أحد يستطيع من الناس كلهم عالمهم وجاهلهم كبيرهم وصغيرهم غنيّهم وفقيرهم ملكهم وخادمهم، لا أحد يستطيع أن ينزل قطرة مطر، ولن يستطيع أبدا. إذًا من الذي ينزل المطر؟ إنّه الله سبحانه وتعالى، أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70].
أيها الإخوة، عندما تكثر الفواحش والمنكرات وتظهر في بلاد المسلمين من غير إنكار عليهم يوشك الله عز وجل أن يعمَّهم بالعذاب والأوجاع والفتن. نعم والله، لقد حل بالمسلمين أشياء كثيرة، فبدلا من توحد الصف في وجه العدوّ الصهيوني أصبح القتال بيننا، فالمسلم يقتل أخاه المسلم، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، والفتنة بين المسلمين أشد من القتل، فهذا لبنان أصبح نهر بارود حار، وفلسطين أصبحت بين سندان الفتنة ومطرقة إسرائيل، وهذا العراق يجري به نهران: نهرٌ من الدماء والطائفية ونهرٌ من الاغتصاب والعنجهية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله, إن منع الزكاة وارتكاب المعاصي من أهم أسباب منع القطر وحصول القحط، قال مجاهد: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدّت السنة وأمسك المطر, تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم"، وقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)).
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إلى ربكم، وخذوا على أيدي سفهائكم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح بين المسلمين من ضروريات الدين الإسلامي، كلٌ حسب طاقته وقدرته. إن الرضا بالمنكر والسكوت عليه يهدّد بالخطر المحدق الذي تنتظره أمتنا الإسلامية.
اللهم اجعلنا من المعتبرين، اللهم وكف عنا شرار الخلق واجعلنا مهتدين.
هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، محمد صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12].
أخي، يا عبد الله، إذا اقترفتَ معصية فعليك بالاستغفار والتوبة، فإنها تمحو الخطايا وتزيل الذنوب والرزايا. "أستغفر الله" سهلة في النطق كبيرة التأثير في حياة المسلم، فداوم على الاستغفار في كل وقت، في الرخاء وفي الشدة، في العافية وفي المرض، في الغنى وفي الفقر.
ولكي تتجنّب المعاصي والآثام عليك بالابتعاد عن أمور كثيرة، منها عدم صحبة أهل الهوى والمعاصي؛ فإن لهم تأثيرا كبيرا جدًا على حياة الإنسان، وإذا كان لديك قنوات فضائية كثيرة فبادر بإزالة القنوات الفاسدة الماجنة المارقة، وانتَقِ القنوات التي تتّبع النصح والدعوة إلى الخير، وابتعد ـ أخي ـ قدر المستطاع عن مجالس الغيبة والنميمة، فهي كثيرة جدا؛ فلهذا إذا جلسنا في مجلس علينا التحدث في أمور تفيدنا وترك الأمور التي لا حاجة لنا فيها.
عباد الله، هناك أمور كثيرة لا يسعنا الوقت للتحدث عنها؛ لذلك راقبوا الله في جميع أعمالكم، في السر والعلن لعلكم تفلحون.
(1/5431)
منكرات الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
سليمان الزوين المهزولي
تاكونيت
مسجد مولاي رشيد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار المنكرات في الأعراس. 2- الدين النصيحة. 3- من منكرات الزواج. 4- شؤم المعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد اعتاد كثير من الناس في زماننا هذا أن يقيموا أفراح الزواج بعيدًا عن شرع الله، وأن يقيموها حسب العادات التي تعارف عليها الناس اتباعًا لأهوائهم وصدودًا عن شرع الله، وإن الواجب على المسلم أن يسأل عن حكم دينه، ولا يقدم على شيء إلا بعد أن يعرف موقف الشرع منه، فإن كان مما يرضي الله عز وجل أقدم عليه، وإن كان مما يغضب الله ابتعد عنه.
وإذا كان المنكر لا يخلو منه مجتمع مهما بلغ المجتمع من الطهر والعفاف والالتزام بالدين، فإنه لا بد وأن يوجد مفسدون في الأرض، فإن واجب النصح يملي على المسلم أن يبين للناس ما هم واقعون فيه من المنكرات والمخالفات الشرعية، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي قال: ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم، وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. متفق عليه. وقد أمر رسول الله المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم ويذكّر بعضهم بعضًا، وأن يقوموا بتغيير المنكرات التي متى ما عمّت وفشت بين الناس فإن المسؤولية يتحملها الجميع، فعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم.
وإن الواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي تحدث في الأفراح والأعراس، وأن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على تغيير تلك المنكرات.
ومن هذه المنكرات العزوف عن ذاتِ الدين في الزواج، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه.
ومن منكرات الزواج أيضًا رفض تزويج صاحب الدين، وقد قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي بإسناد حسن.
ومن هذه المنكرات كذلك التي شاعت في الزواج مسألة الخطبة ونظر الخاطب إلى خطيبته، والناس في الخطبة طرفان ووسط، فالطرف الأول وهم الذين تعصبوا ومنعوا الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته مع أن النبي قال للمغيرة بن شعبة حين خطب امرأة: ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، والطرف الثاني وهم على النقيض من الطرف الأول، وهم الذين تركوا الحبل على الغارب للخاطب ومخطوبته، فيخلو بها ويتفسح معها وقد يقع المحذور الشرعي بعد ذلك، ورسول الله يقول: ((ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافرنَّ امرأة إلا مع ذي محرم)) متفق عليه.
ومن المنكرات أيضًا لبس الدبلة من الذهب من قِبل الرجال، والذهب زينة النساء، وهو حرام على ذكور أمة محمد ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله نظر إلى رجل وفي يده خاتم من ذهب فنزعه وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) ، فقيل للرجل: خذ خاتمك وانتفع به، فقال: والله، لا آخذ شيئًا وضعه رسول الله. رواه مسلم. وأما ما اعتاده الناس من أن يلبس الخاطب خطيبته الدبلة يوم إعلان الخطبة أو يوم إعلان النكاح أو الزواج فإنه من التشبه بالنصارى لعنهم الله، وقد أشار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني إلى ذلك في كتابه آداب الزفاف (ص212) فقال: "ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم، كان العريس يضع الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى ويقول: باسم الأب، ثم ينقله واضعًا له على رأس السبابة ويقول: باسم الابن، ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول: باسم الروح القدس، وعندما يقول: آمين ويضعه أخيرًا في الخنصر حيث يستقر". فهذه مع كونها بدعة خبيثة أحدثها الفساق بين المسلمين هي أيضًا تشبه بالكفار، وقد نهانا عن التشبه بهم في الاعتقادات والعبادات والعادات.
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ولا تتشبهوا بالكافرين في عاداتكم وتقاليدكم، والواجب عليكم أن تجعلوا العادات موافقة لشرع الله، واعلموا أن مخالفة شرع الله نذير شؤم على المسلمين، وما حلت المصائب بالمسلمين إلا لمخالفتهم شرع الله في كثير من أمور دينهم ودنياهم.
أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
أقول ما تسمعون، ادعوا الله واستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن من منكرات الأفراح كذلك ما سموه: إحياء الأفراح باستضافة المطربين والمطربات والمغنّين والمغنيات، ومن الناس من يتباهى بذلك، وقد عمت البلوى بالأغاني في هذا الزمان حتى صار ديدنَ كثير من الناس. ومن المعلوم شرعًا أن الأغاني حرام ولا يجوز سماعها، قال الله تبارك وتعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: 64]، قيل: هو الغناء، قال مجاهد: باللهو والغناء، أي: استخفّهم بذلك. وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان: 6]. فهذه الآية بيان لحال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قال: (هو والله الغناء)، وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة، وقال الحسن البصري: "نزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في الغناء والمزامير. فالغناء يورث النفاق في القلب، وهو بريد الزنا.
والواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي شاعت بينهم في هذه الأزمنة، فإنك لا تدخل محلا ولا بيتًا إلا وتسمع فيه الطرب واللهو والغناء. والعجب من هؤلاء الذين يستفتحون أول أيام حياتهم بمعصية الله، فيرضون الشيطان الرجيم، ويغضبون الرحمن الرحيم؛ ولذلك ما تفاقمت الشرور بين المسلمين إلا بسبب هذه المعاصي التي جاهروا بها، ولما كان الغناء والمزمار صوت الشيطان ترى انتشار حالات الطلاق بشكل مذهل، ومن أراد أن يعلم صدق ما أقول فلينظر إلى المحاكم والدعاوى المرفوعة فيها، فإن أكثرها في المنازعات الزوجية، وسبب ذلك كله يكمن في هذه المعاصي والمنكرات التي يستفتح بها الناس حياتهم الزوجية في أول ليلة من ليالي حياتهم.
فيا أيها المسلمون، احذروا هذه المنكرات، واتقوا الله في سركم وعلانيتكم، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى حرم عليكم الوقوع في المنكرات والمعاصي، فاقترافها وفعلها والمجاهرة بها سبب من أسباب الشقاء في الدارين، قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25].
(1/5432)
منزلة آل البيت عند أهل السنة والجماعة
قضايا في الاعتقاد
آل البيت
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
11/8/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شرف المعدن. 2- معرفة الأمة قدرَ آل البيت وشرفَهم. 3- التعريف بآل البيت وبيان فضلهم وحقهم. 4- رعاية الصحابة رضي الله عنهم لحقوق آل البيت. 5- تقرير علماء السنة لعقيدتهم في آل البيت. 6- تعظيم بلاد الحرمين لآل البيت. 7- الاستغلال السيئ لهذا الأصل العظيم. 8- ضرورة مبادرة العلماء وطلبة العلم إلى بيان هذا الأصل وتوضيحه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فوصيّةُ الله تعالى للأوَّلين والآخرين تقواه، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].
أيُّها المسلِمون، الشريفُ في ذاتِه يفيض بالشَّرف على من حَوله، والكريم في معدنِه يَسري كرمُه في المحيطِين به. انظُر إلى زجاجةِ العِطرِ كيف تبقى فوّاحةً بعد نفادِ ما فيها، تطلّعْ إلى جوارِ المصباح وكيف استحال هالَةً من نور وسوارًا من ضياء، وكذلك البشرُ تفيض بركةُ السعداءِ مِنهم وتتعدَّاهم إلى غيرهم، فكثيرٌ من سلالة إبراهيم الخليل غدَوا أنبياء، وأصحابُ عيسَى صاروا حواريِّين، ورِفاق محمّدٍ شرفوا بالصُّحبة، وأزواجُه أمّهات للمؤمِنين، ونسلُه استَحَقّوا وصفَ الشَّرَف والسِّيادة، كيفَ لا وفيهم من دِمائه دم، ومِن روحِه نَبض، ومِن نوره قَبَسٌ، ومِن شذاه عَبَقٌ، ومِن وجوده بَقِيّة، صلّى الله عليه، وصلّى على آلِه وأزواجِه، وصلّى على صحابَتِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، ولِكَرَم النبيِّ كرُمت ذرِّيّتُه، ولشرفه شَرُف آلُ بيتِه، وكانت مودَّتهم ومحبَّتهم جزءًا من شريعةِ المسلمين، رَعَوها على مرِّ الزمان كما رَعَوا باقي الشريعةِ، وأقاموها كما أقاموا بقيّةَ أحكام الدين، وقد يكون قصّر بعضُ المسلمين في هذا الجانِب في مراحلَ منَ التاريخ وفي وقائعَ دوِّنَت بمدادٍ من أسى، كما يقصّر بعض المسلمين في بعض واجِبَاتهم، فتُكتَب عليهم ذنبًا من الذنوب وخطيئَة من الخطايَا، إلاَّ أن الطابِعَ العامّ للأمَّة هو معرفةُ قدرِهم وبَذلُ المودَّةِ لهم ومحبّتُهم ومُوالاتهم، شهِدَت بذلك عقائدُهم المدَوَّنة وتفاسِيرهم المبسوطَة وشُروحات السنَن وكتُبُ الفقه، كيف لا وهم وصيَّةُ نبيِّنا محمّدٍ ؟! هم وصيَّتُه وهُم بقِيَّته إذ يقول: ((أذكِّركم اللهَ في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهلِ بيتي، أذكِّركم الله في أهل بَيتي)) رَواه مسلم.
وآلُ بيتِه هم أزواجُه وذرِّيَّته وقرابَتُه الذين حرُمت عليهم الصدقة، هم أشراف الناس، وقد قالَ النبيُّ : ((فاطِمَةُ سيِّدة نِساء أهلِ الجنّة)) رواه البخاري، وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ قال: ((فاطِمة بَضعة مِني، فمن أغضبها أغضَبَني)) ، وفي روايةٍ في الصحيحين أيضًا: ((فاطِمَة بَضعة مني، يريبني ما رابها، ويُؤذِيني ما آذاها)) ، وروى البخاريّ رحمه الله أنَّ النبيَّ قال لعليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: ((أنتَ مني وأنا منك)) ، كما قال النبيّ عن الحسنِ بنِ عليّ رضي الله عنه: ((إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعلّ الله أن يصلِحَ به بينَ فِئَتين من المسلِمِين)) رواه البخاريّ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال للحسن رضي الله عنه: ((اللهم إني أحبّه، فأحبَّه وأحبَّ مَن يحِبُّه)) متَّفق عليه. وقد قال الله عَزّ وجلَّ في كتابه الكريم وقُرآنه العظيم: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]، ومعلومٌ أنَّ هذه الآيَةَ نزلت في أزواج النبيِّ ؛ لأنَّ ما قبلها وما بعدَها كلُّه خطابٌ لهن رضي الله عنهنّ. وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ قال لأصحابه: ((قولوا: اللّهمّ صلّ على محمد وأزواجه وذريّتِه كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وأزواجه وذرّيّته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) ، وهذا يفسِّر اللفظ الآخرَ للحديث: ((اللّهمّ صَلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وبارك على محمّد وعلى آل محمد)) ، فالآل هنا همُ الأزواج والذرّيّة كما في الحدِيثِ الأول.
عبادَ الله، هذه بَعضُ فضائلِ آلِ بيتِ النبوّة كما حفِظتها كتُبُ السنّة، والتَزَمَها المسلِمون منذُ صدرِ الإسلام الأوّل، وأنزلوهم منازِلَهم اللائِقةَ مِن غير إفراطٍ ولا تفريط، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه قال: (ارقُبوا محمّدًا في أهل بَيتِه)، وفي الصحيحين أنَّ أبا بكرٍ رَضِي الله عَنه قال لِعَليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده، لَقَرابة رسولِ الله أحبُّ إليّ أن أصِلَ مِن قرابتي)، وفي صحيح البخاريّ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد بالرِّضا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه والسَّبق والفضل، ولمّا وضَع الدّيوان بَدَأ بأهلِ بَيت النبيِّ ، وكانَ يَقول للعبّاس رضي الله عنه: (والله، لإسلامُك أحبُّ إليّ مِن إسلام الخطّاب لحُبِّ النبيِّ لإسلامك)، كما استسقى بالعبّاس، وأكرم عبد الله بنَ عبّاس وأدخلَه مع الأشياخ، كلُّ ذلك في صحيح البخاريّ وغيره. وقد روى إمامُ أهلِ السنة الإمامُ أحمد بنُ حنبل رحمه الله في فضائلِ آل البيت وحَفِظ للأمّة أحاديثَ كثيرةً في ذلك، منها ما رواه عن عبد المطلب بن ربيعةَ رضي الله عنه أن النبيَّ قال لعمّه العباس: ((والله، لا يَدخلُ قلبَ مسلمٍ إيمانٌ حتى يحبَّكُم للهِ ولقَرابَتي)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن أصولِ أهل السنة والجماعة سلامةُ قلوبهم وألسنَتِهم لأصحاب رسول الله ، ويحبّون أهلَ بيت رسول الله ، ويتولَّونهم، ويحفظون وصيَّة رسول الله فيهم حيث قال يوم غدير خم: ((أذكِّرُكُم الله في أهل بيتي)) رواه مسلم"، وقال الطّحاويّ رحمه الله: "ونُبغِض من يبغِضُهم وبغَير الخيرِ يذكُرُهم، ولا نذكُرُهم إلا بخير، وحُبُّهم دين وإيمانٌ وإحسان، وبُغضُهم كفر ونِفاق وطغيان، ومَن أحسَنَ القولَ في أصحابِ رسول الله وأزواجِه الطَّاهِرات من كلِّ دَنَس وذُرّيّاته المقدَّسين من كلِّ رِجس فقد بَرِئ من النفاق".
عبادَ الله، إنَّ مما تُفاخر به هذه البلادُ المملَكةُ العربيّة السعوديّة مُنذ نشأتها بمراحِلِها الثلاث ـ حُكّامًا وعُلماءَ، رُعاةً ورَعِيّة ـ اتباعَ سنّةِ رسول الله وسنّةِ آل بيتِه وتعظيمهم ومحبّتهم واقتِفاء أثَرِهم والدّفاع عنهم وعن منهجِهِم ودينِهم الحقِّ، وقد اتخذَت ذلك دِينًا ومنهَجًا وقُربَةً إلى اللهِ عزّ وجلّ، وتحمَّلت في سبيلِ هذا المنهجِ العَدل طعونَ الطاعِنين ولمزَ الشانئين، ولا يزيدُها ذلك إلاَّ ثَباتًا على الحقّ وتمسُّكًا بمنهجِ الوَسَط واتِّباعًا لسنّة آلِ البيتِ حقًّا، ولَيس أحدٌ أتبَعَ لمنهَجِهم اليومَ مِن هذه البلاد وأهلِها وحكّامها وعُلَمائِها، قال الإمامُ المجدِّد محمّد بنُ عبدِ الوهّاب رحمه الله: "لآلِه حقٌّ لا يَشرَكُهم فيه غيرُهم، ويستحِقّون من زيادةِ المحبَّةِ والموالاة ما لا يستَحِقّه سائرُ قُرَيش، وقريشٌ يستَحِقّون ما لا يستَحِقّه غيرُهُم من القبَائِل"، وقال رحمه الله في موضع آخر: "وقد أوجَبَ الله لأهلِ بيتِ رَسولِ الله على النّاس حُقوقًا، فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يسقِطَ حقوقَهم ويظنّ أنّه منَ التّوحيد، بل هو مِنَ الغلُوِّ والجفاء، ونحن ما أنكَرنَا إلاّ ادِّعاء الألوهيّة فيهم وإكرامَ مُدَّعِي ذلك" انتهى كلامه رحمه الله. وقال الإمامُ في السنّة في زمانه الشيخُ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "والشيخُ محمّد رحمه الله ـ يعني ابنَ عبد الوهّاب ـ وأتباعُه الذين ناصَروا دعوتَه كلُّهم يحِبّون أهلَ بيت رسول الله الذين ساروا على نهجِه، ويَعرفون فضلَهم ويتقرَّبون إلى الله سبحانه بمحبَّتهم والدعاءِ لهم بالمغفرة والرحمة والرضا؛ كالعباس بنِ عبد المطلِّب رضي الله عنه عمِّ رسول الله ، وكالخليفَةِ الرابعِ الراشد عليّ بنِ أبي طالبٍ رَضي الله عنه وأبنائِه الحسنِ والحسَين ومحمّد رضي الله عنهم، ومَن سارَ على نهجِهم من أهلِ البيتِ" انتهى كلامُه رحمه الله.
أيُّها المسلمون، ولأنَّ آل بيتِ نبيِّنا محمّدٍ ومحبّتَهم أمرٌ تهفو إليه النّفوس وشعورٌ تجثو عنده العواطف وحِسٌّ يتحرَّك له الوجدان فقد نفَذ من هذا البابِ من استغلَّه وتاجر به واستخدَمَه من ادّعى خدمتَه منذ القرن الأوَّل من عُمر هذه الأمّة إلى أيّامنا هذه، وعلى مَرِّ ذلك التاريخ الطويل وتحتَ شِعار محبّة آل البيت والانتصار لهم برَزَت مطامعُ سياسيّة وأخرى ماديّة، وصُفِّيَت ثاراتٌ عِرقيّة عُنصريّة، واندسَّ موتورون بهذا الدين، شانِئون له، مبغضون لأهله، يهدمون أساسَه، ويَبغون اندِراسَه، حتى غُيِّرَت معالِمُ الدين، وشُوِّهَت الشريعة، وبُدِّلَت العَقيدة، ونَبَتَت الفُرقة، وثارَ غبارُ النزاع والشِّقاق، فطالوا أهَمَّ ما فيه وهو التوحيد، ثم كَرُّوا على أهمِّ مَسائل العقيدةِ فحرَّفوها، ثم أخذوا يعيثون فَسادًا في بقيَّة شرائع الدين، وأطاعوا شيوخَهم في التحليل والتحريم بلا هُدى؛ حتى صاروا كمَن قال الله فيهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31]. عظَّموا المشاهدَ، وعطَّلوا المساجِد، ناهيك عن أكلِ أموال الناسِ بالباطل واستحلالِ فروج الحرائر وتكفيرِ عموم الأمّة وكَنِّ العداوةِ والبغضاء للعَرَب الذين هم مادّةُ الإسلام وأصلُ الإسلام، كلُّ هذا يحدُث ويكون تحت لافِتات النصرةِ لآل البيت. ومُحَصِّلةُ الأمرِ كلِّه تمكُّن مُندَسّين في تغييرِ عقائدِ الإسلامِ الرّاسِخة وشرائِعِه الثابِتَة وشعائِرِه الظاهِرَة لدى جماعةٍ من المسلِمين باسمِ آل البيت ومحبَّة آل البيت.
وهنا أمران يستَدعِيان الوقوف ويلِحَّان في الطرح:
أوّلهما: أنَّ آلَ البيت الثابتةَ أنسابُهم هنا بِالحجازِ أو ممّن انتَشَر مِنهم في البلاد أو حَكَم جزءًا من بلادِنا الإسلاميّة اليومَ هم أبعدُ الناس عن تلكَ المذاهِب المستَحدَثَة، تشهَد بذلك عقائدُهم ومؤلَّفات العلماءِ وطلبة العلم منهم ومواقِعُهم على شبكة الاتصال العالمية، وكذا مواقِفُ الساسَةِ منهم والحكّامِ فيهم، فهل بعد هذا بصيرةٌ لمستَبصِر وذكرى لمستذكر؟!
الأمر الثاني: أنّه في الوقت الذي يُنكر فيه المعروفون من آل البيت تلكَ العقائدَ الدخيلة تَنشط في الوقت نفسِه عناصرُ ليسوا عربًا ولا من نَسل العرب، ينشطون في الحديثِ باسمِ آل البيت وتَكوينِ دِين يزعمون أنه مستقى من آل البيت، دينٌ لا يعرِفُه صاحبُ البيتِ، ولم يأتِ به جدُّ آلِ البَيت؛ بل ويُخالِف شريعةَ مؤسِّسِه ، بل إنَّ أولائِك العجمَ هم الرُّعاة لهذه العقائِدِ المستحدَثَة، الناشرونَ لها منذُ نَشَأت إلى يَومِنا هذا.
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرَّحمن الرَّحيم، مالِكِ يوم الدين، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك الحقّ المبين، وأشهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمَّا بعد: أيّها المسلمون، أَلم يأنِ أن يَتَساءَل العقلاءُ أو ممَّن تأثَّر بتلك الدعوات: لماذا لم تلقَ هذه العقائدُ قَبولاً في مَنازِلِ آلِ البيت وفي مهبط الوحي وموطن الرِّسالَة؟! ويقودُنا هذا إلى التَّأكيد على دورِ العلماء وطَلَبة العلم خاصّة من النسل الشريف وآل البيتِ المنيف ممّن جرَت في عروقهم الدماءُ الزكيّة أن يملِكوا زِمام المبادرة في الحفاظِ على عقيدة جدِّهم ، وأن لا يترُكوا الصوتَ العالي يذهب لغيرهم ممَّن يُتاجر باسمِهم ويَنتَفِع بالحديث عنهم مُفسِدًا أديانَ الناس وعقائِدَهم، [إنَّ عليهم وعلى عمومِ الأمّة مسؤوليةً عظمى لهدايَةِ النّاس وتَبصيرِهم بالدِّين الحقِّ الذي جاء به محمّدٌ واكتَمَل بوفاتِه، وتَنقية فِطَر المسلمين من لَوثاتِ الغُلُوّ والجفاء؛ لئلا تحيد بهم الأهواء عن صراط الله الذي قال فيه سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
ولقد وفّق الله هذه البلاد ومنذ أن قامت في دورها الأول بلزوم جماعة المسلمين والتمسُّك بالإسلام الذي جاء به نبيُّنا محمد عن ربِّ العالمين، وقَفَوا أثر آل البيت وعموم الصحابة والتابعين؛ مما جعل للإسلام في هذه الديار بقاءً بنَقَاء وهيمنةً بصفاء. إن الإسلام الذي تمسَّكت به هذه البلاد هو الإسلام الذي قبِلَتْه أجيال الأمة على مرِّ القرون، يُسْلِمُه سلَفُهم إلى خَلَفِهم وعُلَماؤهم إلى مُتَعَلميهم، نافين عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين، ولأجل هذا كانت هذه البلاد بحكّامها وعلمائها في مَرْمَى سهام المتربِّصين وإفك الكاذبين، لقد نال علماءَ هذه البلاد الكثيرُ من الطعن والتكفير كما نال حكّامَه صنوفٌ من اللمز والتشكيك في المواقف السياسيّة والمبادرات والقرارات، في محاولةٍ للحدّ من تأثيرها الإيجابيّ في العالم، ولإقصائها عن الرّيادة في أمور الدين وفضاءِ السياسة، وهو الأمر الذي هو قَدْرُها وقَدَرها، ويمليه عليها مكانها ومكانتها، وتتطلَّع إليه قلوب المستضعَفين قبل عيونهم أملاً في لملمة شملٍ وتطلُّعًا لمداواة جرح ورغبةً في سدّ حاجة، ومواقفُها وسيرَتها شاهدة على الجمعِ لا التفريق، ورأب الصدع لا شقِّ الصفوف، حفِظَها الله قائمةً بالإسلام منافِحَة عنه] [1].
ثم اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال جلَّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللَّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمِنا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حَسَنة وقِنا عَذاب النّار. سبحانَ ربِّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
[1] ما بين المعقوفين لم يلقه الخطيب من على المنبر لظرف صحيّ طارئ، وقد استفدناه من موقع "الإسلام اليوم" الذي يشرف عليه الدكتور سلمان بن فهد العودة، وقد ذكروا أنهم حصّلوا النص الكامل للخطبة بشكل خاصّ.
(1/5433)
قوا أنفسكم وأهليكم نارا
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
مصطفى بن سعيد إيتيم
بوزريعة
26/7/1428
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موعظة الحر. 2- نفس جهنم. 3- الاعتبار بحر الدنيا. 4- دنو الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة. 5- سبل الوقاية من حر الآخرة: التوحيد، الصيام، صنائع المعروف. 6- أصحاب الظل يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واسلكوا طريق الصادقين، واتبعوا سبيل المتّقين، كونوا على وجل من هجوم الأجل، ولا تُطغِكم الدنيا ولا يلهكم الأمل. الأيام تمرّ مرّ السحاب، وأعمارنا آخذة في الذهاب، وأعمالنا محفوظة في كتاب، والموعد يوم الحساب. كيف تأنس ـ أيها الإنسان ـ بالدنيا وأنت مفارِقُها، وكيف تأمَن النارَ وأنت وارِدُها، كيف يلهو من يقودُه عمره إلى حتفه، وكيف يغفَل من يسير برجليه إلى قبره، صحَّتُك ـ أيها الإنسان ـ تسوقك إلى سقَمِك، وحياتك تقودك إلى موتك، فالجدَّ الجدَّ ـ رحمكم الله ـ قبلَ حلولِ المنَايا، والتوبةَ التوبةَ مِن الذنوب والخطَايا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
أيها الإخوة المؤمنون، من أراد منكم موعظة فالموعظة ما تبصرون لا ما ترون، ومن أراد تذكرةً فالذكرى ما تَعون لا ما تسمعون، الآيات حولكم كثيرة، والبراهين بينكم مستنيرة، فاحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ.
لقد قام فينا واعظٌ منذ أيام بخطبة بليغة وموعظة عظيمة، سمعها الصمُّ، ورآها العميُ، خطبةٍ حضرها المصلّون وغيرُ المصلّين، لم يحتج فيها هذا الخطيب إلى منبر يرتقيه ولا عصا يتوكّأ عليها، يخطب كلَّ ساعة من غير ملل، بل يعظ كلَّ لحظة من غير كلل، أتدرون من هذا الخطيب يا عباد الله، إنه حرّ الصيف.
روى الإمام مالك والشيخان وغيرهم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إذا اشتد الحرّ فأبردوا بالصلاة، فإن شدّة الحرِّ من فيح جهنم، وإن النار اشتكت إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنَفَسين: نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف، فما وَجَدْتُمْ من بَرْدٍ أو زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وما وَجَدْتُمْ من حَرٍّ أو حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ)).
أيها الإخوة الأحبة في الله، إن من أعجب العجب أن يجتهد الناس في التخفيف من حرّ الدنيا الفانية ويبذلون في ذلك أموالهم وأوقاتهم، ولا يجتهدون في الوقاية من حر الآخرة الباقية أبدَ الآبدين إلا من رحم الله تعالى. فيا خيبة من عمَرَ دنياه وخرَب آخرتَه، ويا خسارةَ من عمل لظلِّ الدنيا ونعيمها وأهمل ظلّ الآخرة ونعيمَها.
أيها الأحبة في الله، إنّ حرّ الدنيا يذكِّر المؤمنين الصادقين المتّقين بحرّ الآخرة، وإن حرَّ الآخرة شديد، قال الله تعالى: وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ناركم هذه التي يوقِد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نارِ جهنّم)) ، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضِّلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلّهن مثل حرِّها)) ؛ ولذا كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتّعظون بما في الدنيا من الحرّ، صَبَّ بعضُ الصّالحين على رأسِه ماءً فوَجَدَه شَديدَ الحرِّ فبَكى وقال: ذكَرتُ قولَه جلّ وعلا عن عذاب أهل النار: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ.
عباد الله، إنّ هذه الشمسَ التي نفرّ منها وهي تبعُد عنّا ملايين الأميال ستدنو من رؤوسنا يوم القيامة وتكون منا على قدر مِيل واحد، فكيف بنا يومئذ ولا مهربَ ولا مفرّ؟! روى الإمام مسلم عن رسول الله أنه قال: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حَقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا)) ، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فمِه.
أيها المسلمون، لئن كنا نتَّقي حرَّ الدّنيا بأجهزةِ التكييف والماء البارد والسفر إلى المنتجعات والمصائف، وكل هذه نعمٌ من الله تعالى تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتدبّرنا كيف نتقي حرَّ الآخرة؟! ألا ينبغي أن نسأل عما يقينا من حر تلك الشمس التي سنقف تحت وهجها ليس ليوم أو يومين ولا لسنة أو سنتين، وإنما لخمسين ألف سنة؟! هل تفكّرنا كيف ندفع لفْحَ جهنّم وسمومَها عن وجوهنا وأجسادنا الضعيفة؟!
فحقٌ على كلّ عاقل وهو يتقي حرّ الدنيا أن يسأل نفسه: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها من الواقيات؟ هل سألت ـ أخي المصلي ـ عن الأعمال الصالحة التي تقيك من حرّ شمس يوم القيامة وتحفظك في ظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
عباد الله، اعلموا أنّ الواقي الأساس والحافظ الرئيس من حرّ الآخرة وعذاب النار هو تحقيق التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك، فلا نجاة يوم القيامة إلا لمن أخلص دينه لله، فلا ذبح لغير الله، ولا توكّل على غير الله، ولا استغاثة بغير الله، ولا خوف ولا رجاء ولا ذلّ ولا خضوع إلا لله وحده، ولا تصديق لكاهن ولا ساحر ولا مشعوذ، ولا طواف بقبر، ولا تعليق لتمائم وطلاسم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ، وقال النبي : ((قال الله تعالى: يا ابن آدَمَ، إِنَّكَ لو أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرض خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شيئا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
أيها المسلمون، الواقي الثاني من حرّ الآخرة وعذاب النار هو الإكثار من نوافل الطاعات، ومن ذلك صوم التطوّع، يقول : ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا)). فالصيام ومكابدة الجوع والعطش في الأيام الطويلة الشديدة الحرارة هو دأب الصالحين وسنة السابقين، يقول أبو الدرداء : (صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور). فلنغتنم ـ أيها المؤمنون ـ أيامنا القليلة بالطاعات، ولنستزِد فيها من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقَّة، ويوم القيامة يرى كلّ إنسان منّا ما قدّم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
أيها المسلمون، الواقي الثالث من شمس الآخرة وحرّ جهنّم صنائع المعروف والإحسان إلى الناس، وذلك كالصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ فقد قال رسول الله : ((الرجل في ظلِّ صدقته حتى يُقْضَى بين الناس)) ، فَحَرِيٌّ بكلّ مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظلّ بها في يومٍ شديد حرُّه عظيمٍ كرُبه.
ومن الإحسان إلى الناس العفو عن الدَّين أو العفو عن بعضه وكذا الصبر على المدين المعسِر، قال رسول الله : ((من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه)) ، وقال: ((إن أوّلَ من يستظلُّ في ظلّ الله يوم القيامة لرَجُلٌ أنظر معسرًا أو تصدَّق عنه)).
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على هذه الخلال العظيمة والأعمال الجليلة التي تنجيكم من حرّ يوم القيامة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى. من تأمّل خطوب الأيام استغنى عن خطَب الأنام، ومن سلك مسالك الاعتبار أضاءت له مصابيح الاستبصار. النعيم في هذه الدار لا يدوم، والموت فيها على الخلائق محتوم، فاحذروا الغفلة، فإن الموت على جميع الخلائق قد كُتب، والحسابُ عليهم قد وجب، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
لقد ذكرتُ لكم جملةً من الأعمال الصالحة التي تنجي أصحابها من كرب الإغراق يوم القيامة وتظلهم في ظل عرش الرحمن، ولا يزال هناك مزيدٌ من الأعمال التي تنتظر من يشتَريها ويعمل بها، روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبهُ معلَّقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتى يعودَ إليه، ورجلان تحابَّا في الله فاجْتَمَعا على ذلك وافْترقا عليه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلَم شِمالُه ما تنفق يمينُه)).
فحري بك أخي المسلم يا من تحرص على عدم التعرّض للهيب الشمس المحرِقة في الدنيا، وتوصي أبناءك بذلك؛ أن تحرص كل الحرص على أن تقي نفسك وأهلك حر هذه الشمس يوم القيامة؛ قال أبو موسى الأشعري : (الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظللهم وتصحبهم).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل...
(1/5434)
إكرام شعبان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, مواعظ عامة
مصطفى بن سعيد إيتيم
بوزريعة
4/8/1428
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سفير رمضان. 2- فضل الإكثار من الصيام في شعبان. 3- الحكمة من إكثار النبي الصيام في شعبان. 4- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 5- الحث على الإكثار من تلاوة القرآن الكريم. 6- الاستعداد لغنيمة رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، فمن خاف الوعيدَ قصُر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، الإيمان خير قائد، والعمل الصالح خير رائد، والإحسان إلى الناس خير عائد، وحسن الخلق خيرٌ زائد. أهل الدنيا في غفلة، تمرّ عليهم الجنائز، والموت فيهم واعد وناجز، وهم يبنون ما لا يسكنون، ويجمعون ما لا يأكلون، فيا سعادةَ من استعان بدنياه على آخرته، ويا فوزَ من شمّر لمرضاة ربّه وعمل على طاعته، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
أيها المسلمون، لقد جاءكم ووفَد عليكم سفيرٌ كريم بين يدَي ضيفٍ حبيب عظيم، فأكرموا سفيرَ حبيبكم، وقوموا بحقّ مبعوث ضيفِكم، إنه شهر شعبان، رسولُ رمضان وسفيره، ومبعوثه إليكم وبريدُه، فمن حقّ رمضان علينا ـ أيها المؤمنون ـ أن نصِل قريبه، وأن نكرمَ أخاه وقرينَه، ويكون ذلك بأمور يسيرةٍ لمن همُّه سعة قبره وضياؤه، وهدفه رحمة ربّه ورضاؤه.
أيها الإخوة الكرام، أوّلُ ما يكون به الإكرام لهذا الشهر الزائر الراحل هو الإكثار من الصيام فيه، فإنّ حبيبنا المصطفى كان يكثر من الصيام في شعبان، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ رسول الله استكمل صيامَ شهر إلاَّ رمضان، وما رأيته أكثرَ صياما منه في شعبان، وقالت رضي الله عنها: كان النبي يصوم شعبانَ كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً.
وقد بيّن نبيّنا سببَ إكثاره من الصيام في هذا الشهر المبارك، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لَم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟! فقال : ((ذاك شهر يغفَل الناس عنه، بين رجَبٍ ورمضان، وهو شهرٌ ترفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحبّ أن يُرفَع عَملي وأنا صائم)).
فذكر سببين اثنين: أولهما أن شهر شعبان شهرٌ يغفل الناس عنه لوقوعه بين شهرين عظيمين: شهرِ رجب وشهرِ رمضان، والأوقات التي يغفل فيها الناس عن العبادة تحسن فيها الطاعات وتعظم فيها الحسنات، فالمؤمن ينبغي له أن يزداد تشميره وحرصُه على الطاعة والعبادة والذكر حين أوقات الغفلة وفي أماكن الغفلة.
والسبب الثاني لإكثار المصطفى من الصيام في شعبان هو أن شعبانَ شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى, فأراد أن يرفع عمله وهو صائم، فلنحرص ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ على الاقتداء بنبينا وحبيبنا محمد.
ثم إن الصيام في شعبان ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ هو كالتّمرين على صيامِ رمضان، لئلا يدخل المسلم في صومِ رمضان على مشقّة وكُلفة، بل يكون قد تمرّن على الصيام واعتادَه، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوةَ الصيام ولذّته، فيدخل المسلم في صيام رمضان برغبَة وقوَّة ونشاط.
عباد الله، الإكرام الثاني الذي نكرم به شهر شعبان هو تطهير أنفسِنا من جميع الذنوب والمعاصي وتنقيةُ بيوتنا من جميع المنكرات والمخالفات، فالتوبةَ التوبةَ يا عباد الله، توبوا إلى لله تعالى توبةً نصوحًا، واصطَلِحوا مع خالقكم، وافتحوا صفحةً جديدة بيضاءَ لما تبقّى من حياتكم، وأَبشِروا بقَبول الله تعالى، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
احرص ـ أخي المسلم ـ على أن لا يدخلَ عليك رمضان إلاّ وأنت طاهِرٌ نقيّ، فإنّ رمضانَ عِطر، ولاَ يُعطَّرُ الثّوبُ حتى يُغسَل، وهذا زمنُ الغسل، فاغتسلوا ـ رحمني الله وإياكم ـ من درَن الذنوب والخطايا، وتوبوا إلى ربكم قبل حلول المنايا، اتّقوا الشركَ فإنه الذنب الذي لا يغفره الله لأصحابه، واتَّقوا الظلم فإنه الديوان الذي وكله الله لعباده، واتقوا الآثام فمن اتقاها فالمغفرة والرحمة أولى به.
يا من للناس عليك حقوقٌ، أدِّ الحقوقَ لأصحابها. أيها العاق لوالديه، ائت مرضاةَ الله من أبوابها، وإن رضا الله تعالى في رضا الوالدين، وسخطه تعالى في سخط الوالدين. أيها الشاب الواقع في المعاصي، اعلم أن الشيطان لن ينتصر عليك بإيقاعك في المعاصي، وإنما ينتصر عليك بتقنيطك وتيئيسك من رحمة أرحم الراحمين وبتسويف التوبة وطول الأمل.
أيها الإخوة الأحبة في الله، الإكرام الثالث الذي نكرم به سفير رمضان هو الإكثار من قراءة القرآن، فقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجدّون في شعبان، ويتهيّئون فيه لرمضان، قال سلمة بن كهيل رحمه الله: كان يقال: شهر شعبان شهرُ القراء، وكان عمرو بن قيس رحمه الله إذا دخل شهرُ شعبان أغلَقَ حانوتَه وتفرَّغ لقراءةِ القرآن.
فلنحرص ـ رحمني الله وإياكم ـ على الإكثار من الطاعات واجتناب السيئات، ولنغتنم فراغنا قبل شغلنا، وصحتنا قبل سقمنا، وحياتنا قبل موتنا، وغنانا قبل فقرنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أيها الناس، إنكم قادمون على ما قدّمتم، ومجزِيّون على ما أنجزتم، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فالسعيد من تدبّر أمرَه، وأخذ حِذرَه، واستعد ليوم لا تنفع فيه عَبرة. الناس يثقون بالدنيا وهي غدّارة، ويطمئنون إليها وهي مكّارة، ويأنسون بها وهي غرّارة، وهل لك ـ أيها الإنسان ـ من الدنيا إلا حفرة ضيّقة تَحويك وقبر مظلمٌ يُؤويك؟! ثمّ إما إلى نار تلظّى أبد الآبدين، وإما إلى نعيم مقيم أبد الآبدين، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ، نسأل الله تعالى أن يدخلنا الجنة وأن يعيذنا من النار بمنه وكرمه.
عباد الله، قال بعض العارفين: شهر رجَب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد، وقال: مثل شهر رجب كالرّيح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع في رجب ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!
فيا من تريد غنيمةَ رمضان، اعمل على تحقيق شروطها من الآن. يا من تبتغي جائزة العيد، قدّم عربونها من الآن. كيف يسعد برمضان من لم يطهّر ماله من الحرام؟! كيف يفرح برمضان من هو غارق في وحل المسكرات والمخدّرات والآثام؟! كيف يتلذّد بالقرآن في رمضان من أخذ أموال الناس وجحدها أو ماطل وتأخّر في ردّها بغير عذر؟! كيف تستفيد من رمضان من لم تطهّر لسانها من الغيبة والنميمة، وقلبَها من الحقد والغلّ والحسد؟!
فيا أخي المسلم، ويا أختي المسلمة، يا من أتيتم تستمعون الذكر، أنتم على خير عظيم، وعلى صراط مستقيم، فالثبات الثبات، الثبات الثبات حتى الممات، وليس الموت ببعيد.
مضى رجبٌ وما أحسنتَ فيه وهذا شهرُ شعبانَ المبارَك
فيا من ضيَّع الأوقات جهلاً بِحُرمتها أفِق واحذَر بَوارَك
فسوف تفارق اللّذاتِ قسرا ويُخلي الْموتُ قَهرا منكَ دارَك
تدارَك ما استطعتَ من الخطايا بتوبةِ مخلصٍ واجعل مدارَك
على طلبِ السلامةِ من جحيمٍ فخَير ذوي الجرائمِ من تدارَك
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبارك لنا في شعبان، وأن يبلغنا رمضان، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والرضوان والعتقَ من النيران، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها...
(1/5435)
السعادة الحقيقية
الإيمان
فضائل الإيمان
مصطفى بن سعيد إيتيم
بوزريعة
11/8/1428
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغبن الحقيقي. 2- مطلب الراحة النفسية. 3- آراء الناس في السعادة. 4- الطريق الصحيح لتحقيق السعادة. 5- الوصفة الربانية للسعادة النفسية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا الله رحمكم الله، فالجنّة غير مضمونة، والنارُ غيرُ مأمونة، ومَن عَزَمَ على السفر والرحيل تَزَوّد بالمؤونة، ومن صَحّت نيّتُه وأخذ بالأسباب جاءته من ربه المعونة، من خطب الجنّةَ بذلَ الصداق، ومن خاف النار جرت منه دموع الأحداق، الناس يبحثون عن الخلاص، وخلاصُهم في التقوى والإخلاص، قال الحقّ سبحانه: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
أيها المسلمون، إنّ المغبونين في هذه الدنيا كثيرون، فمن أقرض مالَه لسارق غير أمين فهو مغبون، ومن زوّج بنته لخائن غيرِ مستقيم فهو مغبون، ومن طلب العلمَ عند جاهل فهو مغبون، ولكن أتدرون من أغبنُ الناس أيها الإخوة الكرام؟! إنّ أشدَّ الناس غُبنًا وأفدَحهم خسارةً من بحث عن السعادةِ في غير مواطنها، أعظم الناس غبنًا ـ أيها المسلمون ـ من أخطأ طريقَ الطمأنينة والسعادة وراحة البال.
إنّ سعادة النفس وراحة البال وطمأنينة القلب مطلَبٌ عظيم يبحث عنه جميع الناس في هذه الدنيا، السعادةُ حلمٌ يعمل على تحقيقه جميع البشر، ولكن لا يوفَّق إليه إلاّ القليلُ من عباد الله.
أيها الإخوة الأحبة في الله، لقد تنوّعت وسائل الناس في تحقيق هذه الأمنية العظيمة وهي السعادة وراحة البال، فصنف من الناس يظنّ أنّ السعادة في الغنى وكثرة المال وسعة الرزق، ومن الناس من يرى أن السعادة في كثرة الأولاد واتّساع العشيرة، وصنف ثالث يرى السعادة في صحة الأبدان وقوّة الأجسام وسلامة الأعضاء، وآخرون يرون السعادة في المناصب والولايات والمسؤوليات، وأبشع منهم وأشنع من يرى السعادة وراحة النفس في ذهاب عقله بالمسكرات المخدرات، نسأل الله السلامة والعافية، وكلّ هؤلاء مغبونون لأنهم وثقوا فيمن لا أمان له، وتعلّقوا بمن يخونهم في أحلك الظروف ويتركهم في أشدّ الشدائد.
عباد الله، يا من تبحثون عن الراحة النفسية، اعلموا أنّ السعادة والطمأنينة وراحةَ البال في الدنيا إنما تكون بطاعة الله تعالى واجتناب معاصيه، السعادة في الدنيا تكون لمن اتّبع ما أنزله الله تعالى لعباده من البينات والهدى ودين الحق، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، الراحة النفسية إنما تكون لمن تخلّق بأخلاق القرآن الكريم وتأدّب بآدابه، طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ، انشراح الصدر في الدنيا يكون لمن يبدأ يومه بذكر الله ويختم يومه بذكر الله ويراقب الله تعالى في كلّ تصرفاته، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ ?لَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ طُوبَى? لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ ، راحة البال في الدنيا تكون بأداء الحقوق إلى أهلها، وأعظمُ حقوق الناس عليك ـ أيها المسلم ـ حق الوالدين وحق الأقارب وحقّ الجيران وحق الشركاء.
كيف يعيش سعيدًا ـ يا عباد الله ـ من لم يركع لخالقه ركعة ولم يسجد له سجدة؟! كيف ترتاح نفسه من اعتدى على أموال الناس أو أعراضهم أو دمائهم؟! كيف يطمئن قلبه من مطعمُه حرام ومشربُه حرام وملبسُه حرام وغذّي بالحرام؟! كيف يرتاح من قسا قلبه عن ذكر خالقه وبارئه ورازقه؟! كيف يسعد في الدنيا من عقّ والديه وقطع أقاربه وهجر أرحامه؟! كيف تقرُّ عينه من انسلخ من إنسانيته وارتمى في أوحال المسكرات والمخدّرات؟!
أيها الإخوة الأحبّة في الله، السعادة الحقيقيّة هي التي تكون معك حيثما كنت، وتدفن معك في قبرك، وتكون رفيقَك وأنيسك يوم القيامة، وليس ذلك إلا الإيمان والعمل الصالح، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أَنَسَ بن مَالِكٍ قال: قال رسول اللَّهِ : ((يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى معه وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ)).
أهلُك ـ أيها الإنسان ـ وأولادك هم أوّل من يهيل التراب عليك، جاهك ومنصبك وسلطانك لن يدفع ضمّة القبر حواليك، مالُك ـ يا عبد الله ـ لن يوقِد لك شمعةً واحدة في ظلمة القبر إلا ما أنفقتَ في سبيل الرحيم الرحمن، صحتك ـ أيها الشاب ـ وجمالكِ ـ أيتها الفتاة ـ إن لم تذهبه الأيام والزمان فستفسده الهوام والديدان.
فالسعادة إذًا ـ أيها الإخوة الأحبة في الله ـ ليست في وفرة المال ولا كثرة العيال ولا براعة الجمال، السعادة لذّة الرضا بالله يجدها المؤمن في قلبه، لا يستطيع بشر أن يعطيها، كما أنه لا يستطيع أحد أن ينتزعها ممن أوتيها. السعادة الحقيقية وراحة البال يجدها المؤمن رغم فقره وجوعه وقلّة ذات يده، السعادة الحقيقية وراحة البال يجدها المؤمن رغم مرضه وألمه وضعف بدنه، السعادة الحقيقية وراحة البال يجدها المؤمن رغم وحدته وغربته وخذلان أهله وعشيرته.
السعادة ـ أيها المسلمون ـ هي الرضا بالله والثقة به والتوكّل عليه، هي القناعة بعطاء الله واستمداد العون من الله، قال الحبيب المصطفى : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)). كتب عمر الفاروق إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما يقول له: (أما بعد، فإن الخير كلَّه في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، فحياة الإنسان في هذه الدنيا مراحل، والناس فيها ما بين مستعدٍّ للرحيل وراحل، الإنسان يسير إلى أجله، ودقّات قلبه تباعده عن أمله، فهنيئا لمن أحسن واستقام، والويل لمن أساء وارتكب الآثام، ويتوب الله على مَن تاب، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ.
عباد الله، روى مسلم في صحيحه عن رسول الهدى أنه قال: ((عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إلا لِلْمُؤْمِنِ؛ إن أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا له، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا له)). هكذا ينبغي أن يكون حال كلِّ واحد منا يا عباد الله، نحمد الله تعالى ونشكره في السراء، ونصبر على قضائه ونرضى بقدره في الضراء، ونستغفره ونتوب إليه من الذنوب والمعاصي، فبهذه الوصفة الربانية النبوية تجدون السعادة والراحة النفسية التي عبّر عنها من وجدها بقوله: "إننا نحس بسعادة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"، وقال آخر ممن ذاق طعم السعادة في الدنيا: "إنه لتمر عليّ ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذًا في عيش طيب".
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث...
(1/5436)
تنبيهات للمعتمرين وزوار المسجد النبوي
فقه
الحج والعمرة
علي بن صالح الجبر البطيّح
غير محدد
28/6/1428
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح بتوجه الناس لزيارة الحرمين الشريفين. 2- تنبيهات لزوار الحرمين الشريفين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ.
إخوة الإسلام، كم هو جميل في مثل هذا الوقت أن تيمِّم قوافل المسافرين وجوهها شطر المسجد الحرام ومسجد رسول الله بدلاً من التوجّه إلى أمكنة أخرى قد لا يسلم فيها دين المرء من النقصان ونحوه، أمّا الحرمان الشريفان فطاعة ونسكٌ وعبادة، فللّه الحمد والشكر على تيسير الوصول إليهما دون عناء ومشقّة.
يا زائر الحرمين الشريفين، بين يديّ أكثر من ثلاثين تنبيهًا تمّ رصدها, تتعلق بممارسات وأخلاقيات المعتمر وزائر مسجد رسول الله ، والتي يجمل ويحسن بك أن تضعَها نصب عينيك عند عزمك على شدّ الرحال إليهما:
1- استحضار النية الخالصة لله تعالى في كلّ عمل صالح، بعض الناس يعلن على الملأ أنه سيسافر إلى مكة والمدينة، ولا يزال يذكر ذلك حتى يعلم برحلته القاصي والداني، وربما داخَله عجب أو غرور، علمًا بأنه ينبغي له هنا أن يتكتّم على عمله الصالح رجاء الإخلاص والقبول والثواب. وبالمقابل سافر آخرون إلى البقاع الطاهرة ولم يعلم بهم أحد إلا خاصة أهلهم وذويهم لضرورةٍ رأوها، ولولا الحاجة لذلك لما علم بهم أحدٌ كائنًا من كان.
2- يحسن بقائد الرحلة ربّ الأسرة أو غيره أن يجمع أفراد الرحلة قبل السفر ويذكّرهم بالهدف من الرحلة وأنه سفر طاعة، ويقتضي ذلك التحلي بالصبر على ما يبدر من سلوكيات وأخلاق بعضهم، وأن السفر مدرسة كبرى.
3- نمر بطريقنا أثناء السفر ببعض الأماكن لقضاء حوائجنا كتعبئة الوقود مثلاً، فنغفل هنا عن إفشاء السلام على عامل المحطة والبقالة والبنشر والبشاشة في وجوههم رجاء الأجر والثواب وتحقيقًا للألفة والمحبة بين المسلمين مهما اختلفت جنسياتهم ولغاتهم.
4- أن نحسن التعامل مع موظفي الاستقبال في الفنادق والشقق المفروشة، حيث تبدر سلوكيات مشينة من بعض الناس بحجة أنه لم يسكن بالمجان ممّا سوّغ له العبث ببعض حاجيات الغرفة أو الشقق التي يسكن فيها، وقد رُئِيت أقفال مخلوعة وشبابيك مخلخلة وستائر ممزقة، ومما قاله بعض موظفي الاستقبال: أهذه أخلاق المعتمر؟! أهذه أخلاق زائر مسجد رسول الله ؟!
5- كذلك أيضًا أن نحسن التعامل مع الباعة، بعض الناس يبخس الباعة حقوقهم، ويسفه تسعيراتهم لبضائعهم، وربما أرغد وأزبد على هذا البائع الذي ربما كان ممن يعرض بضاعته على الأرصفة وفي الطرقات بحثًا عن ريال أو ريالين.
6- ربما احتاج بعض الناس عربة لمقعد أو معاق، وقد خصّصت عربات بالمجان من قبل الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف جزاهم الله خيرًا، ولا شك أن هذا من الخير والبر، لكن بعض الناس يسيء استخدامها حيث يتركها في أيدي الصبيان ليحملوا صبيانا مثلهم، فيجوبون المسعى طولاً وعرضًا لعبًا وأذية لعباد الله، وكم تضرّر بذلك من طائف وساعي، وقد رئي من عليه إحرامه قد أدميت عقباه في المسعى من قبل أحد الأطفال اتخذ العربة ألعوبة بيده وبيد إخوانه الصغار على غفلة ـ أو قل: تغافل ـ من ولي أمره.
7- موظفو أبواب الحرم على ثغر عظيم وكبير لحماية وحراسة الحرم عما يدنسه أو يخل بأمنه، ومع ذلك يغفل كثير من الناس عن إفشاء السلام عليهم والبشاشة في وجوههم فضلاً عن دعمهم معنويًا وتشجيعهم وتحفيزهم.
8- يتحايل بعض الناس على موظفي أبواب الحرم، وذلك بإدخال بعض الأطعمة الممنوع دخولها للحرم بأساليب ماكرة وطرق مختلفة, ويحدث من جرّاء التهريب أمور كثيرة لا تحمد عقباها، ومن أبرزها اتساخ الأمكنة الطاهرة وانبعاث بعض الروائح التي تضطر بعض المصلين إلى مغادرة المكان إلى آخر، وربما يوجد بجوار من أحضر طعامًا مما لذ وطاب وسال له اللعاب فقيرٌ ومسكين أو جائع يحتاج إلى مثله، فليتنبه لذلك.
9- الأطفال في مختلف الأعمار قد أسلمهم آباؤهم وأمهاتهم يفعلون ما يشاؤون داخل الحرم وخارجه؛ يعبثون بالمصاحف ويتصارعون ويتطاردون وتتعالى أصواتهم بالصراخ والبكاء ويتراشقون بماء زمزم ويفسدون على الآخرين جو العبادة؛ من صلاة ودعاء وذكر وقراءة للقرآن، أمام مرأى ومسمع من الأب والأم واللذين لا يحركان ساكنًا بحجة أنهم أطفال لا يفهمون شيئًا حيث عجزا عن إدارتهم ورعايتهم.
10- الزائر ما قطع المسافات الطويلة إلا لطلب ما عند الله بخشوع وانكسار وطمأنينة، لكن الملاحظ أن الزائر ينشغل وينصرف عن ذلك بأدنى صوت أو حدث غير مقصود أو حتى صوت مرور جهاز التنظيف في الحرم؛ لذا نجده يتوقف عن قراءة القرآن لقوة المثير الذي صرفه عن الانقطاع التام للعبادة، فأين الخشوع؟!
11- ربما يشاهد الزائر أحدًا من معارفه وأصحابه في الحرم فيرغب بلقياه والسلام عليه، وبحكم بعده عنه نجد أن وسيلة الاتصال هنا هي المناداة، وللأسف بصوت مرتفع يزعج المتعبدين، فأربك وأزعج وآذى.
12- يفترض في الزائر أن يستثمر وقته بالتفرغ للعبادة في الحرم، لكننا نجده بالمقابل يبالغ في التسوق والتجول في الأسواق المجاورة للحرم، بل ويمضي ساعات طويلة وليالي عديدة، وغيره ممن وفقه الله نجده في الحرم منطرحًا بين يدي الله عز وجل يطلب ما عنده.
13- يقلب بعض الزائرين بصره في الناس والمارّة داخل الحرم وفي ساحاته متحدّثًا عن هذا لامزًا ذاك ساخرًا بآخر ناقدًا وشامتًا، فلا همّ له إلا ذاك، ويا ليته انشغل بخاصة نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
14- يتندر بعض الناس بأخطاء الزائرين كمن يرى من يسعى أربعة عشر شوطًا عادًّا الانطلاق من الصفا إلى المروة والعكس شوطًا واحدًا، فهلا نصحته ووجهتَه ووضّحت له بدلاً من أن تتكلم عنه وتسخر منه، وكم يقع من الزائرين أخطاء ومخالفات، فهل تكتفي بالتندر والسخرية أم تنبه وتوضح وتوجه وترشد؟!
15- يوجد أحيانًا في ساحات الحرم من يدخن أو يلحظ عليه مخالفات شرعية، فهلا نصحته وذكرته بقدسية المكان الذي هو فيه، فكن آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، ولا تكن سلبيًا.
16- يقوم بعض الزائرين عند دخول الحرم بوضع أحذيته داخل كيس، لا يخلو هذا الكيس من تصاوير أو صلبان أو مخالفات شرعية عمومًا، وقد رئي شيء من ذلك.
17- الجوال وما أدراك ما الجوال؟! نغمات موسيقية شرقية وغربية في حرم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فضلاً عن المكالمات المطولة وبصوت مرتفع وبتفصيل مملّ عن الأحوال والأخبار والطقس وما إلى ذلك، ولكم أن تتصوّروا مكالمة بالجوال في المطاف طيلة الأشواط الثلاثة الأولى، وتتوقف برهة عند كلّ مرور بالحجر الأسود لأجل التكبير ثم يكمل حديثه.
18- اللباس، منهم من يأتي إلى الحرم بقميص النوم وخصوصًا صلاة الفجر، وقد رئي ذلك كثيرًا، ومنهم من يلبس أولاده ملابس فيها تصاوير أو كتابات بغير العربية لا يدرى ما تعني، ومنهن من تلبس بنياتها القصير لتزينها، وخصوصًا بنت الحادية عشرة والثانية عشرة، وكأنها ستذهب إلى مناسبة زواج فتقع فتنة بذلك، فضلاً عن ألبسة بعض النساء الفاتنة والعباءات المخالفة.
19- زادت في الآونة الأخيرة التجمعات على فنجال وعلوم رجال، وخصوصًا في سطح الحرم، يتجاذبون أطراف الحديث الذي لا يخلو أحيانًا من غيبة وهمز ولمز وسط ضحكات متعالية، فإذا مر بهم أحد نادوه بقولهم: تفضل تفضل، وكأنهم في بيوتهم واستراحاتهم والله المستعان، أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا ويسلك بنا سبيل الأبرار.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن التنبيهات التي تتعلق بممارسات وأخلاقيات المعتمر وزائر مسجد رسول الله والتي يجمل ويحسن بك أن تضعها نصب عينيك عند عزمك على شدّ الرحال إليهما:
20- الحذر من كثرة التجوال داخل الحرم للتسلية والنزهة، حتى إنه رئي أحد الأشخاص يكثر الترداد حول مكان معين، فسئل عن ذلك فأفاد بأنه يبحث عمن يوسّع صدره، وكأننا في منتديات ومقاهي واستراحات!
21- الغفلة عن متابعة المؤذن داخل الحرم والانشغال بشيء آخر أيًا كان هذا الشيء.
22- المرور بعدد من المعاقين أيًا كانت إعاقتهم دونما ذكر الأدب الوارد في ذلك: ((الحمد لله الذي مما عافاني مما ابتلاه به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)).
23- غض البصر مطلب شرعي يغفل عنه كثير من الناس في ظل وجود نساء ـ هداهن الله ـ يزاحمن الرجال كاشفات لوجوههن وأيديهن وأقدامهن.
24- العبث بعدد من الأشياء التي رتبت بعناية ولها أناس مسؤولون عنها في الحرم بتحريك وزحزحة لحظِّ نفسه على حساب الآخرين، كالذي يحدُث عند ماء زمزم والأكواب المعلقة بجانبه والفرش وما إلى ذلك.
25- ربما أقام الزائر فترة طويلة في الحرم لم يختم القرآن الكريم ولو مرة واحدة، ولا ندري بم يمضي وقته إذن.
26- بعض الزائرين يمر بنسائه مع أماكن الرجال وفي أوساطهم، علمًا بأنه بإمكانه أن يتحاشى ذلك ويسلك طريقًا آخر، وقد رئي عدد من النساء بصحبة وليهم يتخطّون رقاب الرجال.
27- لا يعتني كثير من الزائرين بنظافة أبدانهم حيث يأتي عدد منهم للحرم برائحة العرق والثوم والبصل والدخان ويؤذون الملائكة الكرام والناس أجمعين.
28- يوجد عدد من الفقراء والمساكين وبالأخصّ من النساء والأطفال تمرّ بهم في كلّ وقت بين منزلك والحرم، فلا تغفل عن إطعامهم والتنسيق مع مطعم مثلاً في تجهيز وجبات خفيفة توزعها من باب إطعام الطعام، ولك أجر عظيم.
29- التساهل في أداء صلاة الجنازة والعجلة في الخروج من الحرم ولم يكن ثمة أمر يلح عليك بالخروج، فلم تحرم نفسك قيراطًا؟!
30- مضايقة الناس وأذيّتهم في سبيل تقبيل الحجر الأسود أو لمس الركن اليماني.
31- يعمد بعض الزائرين حرصًا على أحذيته ـ أكرمكم الله وأعزكم ـ بوضعها أمام المصلين ضاربًا بالصناديق المخصّصة لها عرض الحائط، وربما كانت مبلّلة جدًا حيث كان حديث عهد بوضوء، وبهذا يؤذي غيره بها وبرائحتها.
32- دخول بعض الرجال في أماكن النساء كالذي يحدُث بين المغرب والعشاء ولتناول القهوة مع الوالدة والزوجة بقرب نساء أخريات، فيقعن في حرج كبير.
هذا ما تيسر رصده على عجالة، فليتفطن له أثناء زيارة الحرمين، أسأل الله تعالى أن يتقبّل منا ومنكم صالح العمل، وأن يجعله خالصًا لوجهه.
هذا وصلوا وسلّموا على خير خلق الله...
(1/5437)
شخصية المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق
طارق حاجي عطاء أحمد
مكة المكرمة
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فساد حال كثير من المسلمين. 2- شخصية المسلم في هذا العصر. 3- الشخصية التي أرادها الإسلام. 4- حال المسلم مع ربه. 5- شخصية المسلم مع نفسه. 6- شخصية المسلم مع والديه وزوجته وأبنائه. 7- شخصية المسلم مع أقاربه وجيرانه ورفاقه. 8- شهادة المجتمع للمسلم. 9- شخصية المسلم مع الطبيعة من حوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي الآثمة بتقوى الله عز وجل, اتقوا الله في السرّ والعلانية, في الظاهر والباطن، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. والتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية باتّباع الأوامر واجتناب النواهي, التقوى ـ يا عباد الله ـ وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]، ثم اعلم ـ رحمك الله ـ قول الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5].
معاشر المسلمين, إن المتأمّل في حال كثير من المسلمين ليتأسفُ كثيرًا, ويدهشُ ويُصاب بالأسى والحزن. يا للأسف, إن حالنا اليوم إفراط وتفريط وضرر وإضرار إلا من رحم الله.
تعال معي أيها السامع الكريم، تأمل في شخصية المسلم اليوم, إنّ شخصية كثير من المسلمين اليوم إما شخصية ضعيفة هزيلة مهتزةُ متأثرة، وإما شخصية شديدة جبارة ظالمة طاغية، فلا تعرف التوازن, ولا تقيم لمبادئها ودينها وزنا. إن الفرق شاسع وبعيد جدًا بين ما أرداه الإسلام لأبنائه وما أراده الأبناء لأنفسهم إلا قليلا ممن صفَت قلوبهم وصحت عقيدتهم وسمت نفوسهم ونشطت هممهم, فأقبَلوا على دينهم بصدق وشغف وحرارة، ينهلون من منبعه الصافي, ويزدادون كلّ يوم من هديِه السامي. ومن هنا يبدأ الإنسان كما أراده الله وأراده رسول الله, يكون إنسانًا اجتماعيًا راقيًا فذًّا, كوّنته مكارم الأخلاق, وصَنَعته سماحة الإسلام. وهنا وقفة مع شخصية المسلم, شخصية كما أرادها دينه أن تكون, كيف يكون المسلم مع ربه؟ وكيف يكون مع نفسه؟ وكيف يكون مع والديه؟ وكيف يكون مع زوجته وأولاده؟ وكيف يكون مع أقاربه وذوي رحمه وجيرانه؟ وكيف يكون مع مجتمعه؟ نقف وإياكم وقفات سريعة عاجلة؛ علّ الله أن ينفع بها.
فالمسلم مع ربه مؤمن به, وثيق الصلة به, دائم الذكر له, متوكّل عليه حق التوكل, واقف عند حدوده، ممتثل لأمره, منته عن نهيه, راضٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ بقضائه وقدره, يضع نصب عينيه قوله : ((عجبا لأمر المؤمن, إن أمره كله له خير, إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له, ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) ، فكل همه مرضاة ربه, يبغي بأعماله وجه الله, محقّق للهدف الذي وجد له وهو قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وإذا نظرت إلى المسلم مع نفسه تجده عاصيا للهوى, يقوّمها على الهدي القويم, فهو معتدل في طعامه وشرابه, نظيف المظهر, حسن الهيئة, من غير إسراف ولا مخيلة, يخفق بقلبه ومشاعره وأحاسيسه إلى عبادة الله وحده, يكثر من قول: لا إله إلا الله؛ لتجديد إيمانه كما أمر المصطفى بذلك, وتراه ملازما للصديق الصالح ومحافظا على مجالس الإيمان، يربي نفسه على كظم الغيظ والعفو عن الآخرين والتماس الأعذار للأصدقاء وحسن الظن بالآخرين.
وها هي شخصية المسلم تبرز أكثر مع والديه، فهو بار بهما, عارف قدرهما وما يجب عليه نحوهما, كثير الخوف من عقوقهما, فقلبه قابض بالحبّ لهما, يداه مبسوطتان بالبذل لهما, طيّب الكلام معهما, فهو يعرف أن رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما.
وتمتد شخصية المسلم إلى زوجته، فهو كيس فطن، يكمل نقصها، يعاشرها بالمعروف, فهو ملتزم هدي الإسلام في حياته الزوجية, محسن في التوفيق بين إرضاء الزوجة وبرّ الوالدة, يجعل زوجته صانعة الرجال ومربية الأبطال.
معاشر المؤمنين, ويظهر أثر شخصية المسلم على رجال الغد وهم أبناؤه، فقد رباهم أحسن تربية, وبأساليب دينية سليمة, فهم يحسّون بحبه لهم, وينفق عليهم بسخاء, لا يفرق بين أبنائه وبناته، فقد غرس في نفوسهم مكارم الأخلاق وأبعدهم عن سفاسِف الأمور ورذائلها.
والمسلم مع أقاربه يخاف من قطيعة رحمه, يعلم أن قطيعة الرحم تحجب الرحمة وترد الدعاء وتحبط العمل, متفهم لمعنى الرحمة بمعناها الواسع.
إذا نظرت إلى المسلم مع جاره تجده أحسنهم معاملةً, فهو سمح له, يفرح لفرحه، يحزن لحزنه, ولا يقابل إساءة الجار بمثلها, قال عليه الصلاة والسلام: ((أنا زعيم ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المسلمين، وها هي شخصيتكم تمتدّ بنا إلى رفاقه وإخوانه، فهي من أرفع الشخصيات, فهو محب لهم, يلقاهم بوجه طليق, ناصح لهم, طبعه البر والوفاء, لا يغتابهم, يجتَنِب معهم الجدال والمزاح المؤذي, ويدعو لهم بظهر الغيب, يلتَمس العذر لإخوانه في حال الغياب، يخالطهم لوجه الله حتى يظل تحت ظل عرش الله.
وها هو المجتمع شاهد للمسلم، فهو صادق مع كل الناس, لا يغشّ ولا يخدع ولا يغدر ولا يحسد, موف بالعهد, متّصف بالحياء, عفو متسامِح غفور, طليق الوجه, خفيف الظل, يجتنب السباب والفحش وبذيء الكلام, لا يرمي أحدا بفسق أو كفر بغير حقّ, لا يتدخل فيما لا يعنيه, بعيد عن غيبة الناس والمشي بالنميمة, يجتنب قول الزور وظن السوء, حافظ للسر, متواضع لا يتكبر ولا يسخر من أحد, يعاشر كرام الناس, يحرص على نفع الناس, يعود المريض, ويشهد الجنازة, يدلّ الناس على الخير, ولا يظلم, ولا ينافق, ولا يرائي, ينفّس على المعسر، يخضع عاداته كلّها لمقاييس الإسلام.
عباد الله، على مثل هذه الأخلاق وهذه الصفات والمكارم كان رسول الله وصحابته من بعده، فكونوا كما كانوا.
ولم تقتصر شخصية المسلم على هذا فحسب، بل تعداه إلى الطبيعة من حولِه وإلى كل كبد رطبة في هذا الكون, فلقد شخّص الإسلام المسلمين في جميع المجالات.
أيها المسلمون، تلك هي قطوف من الصور الوضاءة المشرقة لشخصية المسلم كما أرادها الله والرسول والدين الإسلامي, شخصية بناها رسول الله فأخذها الأجيال من بعده، وأما نحن فقد ضيّعنا الكثير, ونسينا وتناسينا الكثير, وما نشهده اليوم من تخلف وفرقة وشحناء وقطيعة بين صفوف المسلمين لهو دليل على بعد المسلمين عن عروة الله الوثقى، فنبتت فيهم المبادئ الأجنبية المستوردة، وتسربت إلى مجتمعات المسلمين سموم وآفات، فزُحزح كثير من المسلمين عن شخصيته الأصلية إلى أفكار غربية بغيضة. نعم، لقد نجح أعداء الله ورسوله في كثير مما خطّطوه، ولكن يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. إذًا فلا بد من نصرة دين الله كما وعد الله، فهل من عودة صادقة إلى مكارم الأخلاق؟! وهل من وقفةٍ حقيقيةٍ مع النفس بالمصارحة والاعتراف بالخطأ والتقصير؟!
عباد الله، لن تردَّ إلى شخصية المسلم قوتَها وأصالتَها إلا عودةٌ صادقة إلى منهج الله الخالد, فتمسكوا بدينكم, والتزموا به عقيدةً وعبادة, واجعلوا كتاب الله وسنة نبيه منهاجا لحياتكم الدنيا, وعندها فقط نكون أمة قويّة واحدة عزيزةً حرة, إنها أمّة الإيمان, وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47].
عباد الله، صلوا وسلموا على النبي الحليم الكريم...
(1/5438)
سلامة الصدور
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
18/8/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة سلامة الصدور. 2- فرح المؤمن بإخوانه وحزنه لما يصيبهم من بلاء. 3- القلب السليم. 4- عناية الإسلام بتطهير القلوب. 5- المجتمع المسلم الصّفيّ. 6- الحض على التراحم والتآلف. 7- فضل الانتقام لحرمات الله تعالى. 8- حاجة المجتمع اليوم إلى سلامة الصدور. 9- نماذج من سلامة الصدر عند السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناسُ ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانَه، ومِن ثَمَّ فاعلَموا أنَّه ليس أسعَدَ للمَرءِ ولا أشرَح لصدرِه ولا أهنَأ لروحِه من أَن يحيَا في مجتمَعِه بينَ النّاسِ صافيَ القَلبِ صفيَّ الروحِ سَليمَ الطِّباع مُنسلاًّ من وساوِس الضّغينة وسَورَة الحقدِ والحسد والبغضِ والتشفِّي وحبِّ الانتصارِ للذّات والانتقامِ منَ النّدِّ، لَه سُمُوُّ قلبٍ يُعلِي ذِكرَه ويرفَع قدرَه، ترونَ مِثلَه مُهنِّئًا رَضِيًّا حينَما يَرى النعمةَ تنساقُ إلى أحدٍ غيره، مُدرِكًا فضلَ الله فيها عَلى عبدِه، فتجِدون لِسانَ حاله يَلهَج بقولِ النّبيِّ فيما رواه أبو داودَ وغيرُه: ((اللّهمَّ ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خَلقِك فمنك وحدك لا شريكَ لَك، فلك الحمدُ والشّكر)) [1].
ولا عَجَبَ ـ عِبادَ الله ـ في أنَّ طهارةَ مثلِ هذا القلب وزكاتَه لا تقِف عند هذا الحدِّ فحَسب، بل إنّه مَتى رأى أذًى أو بَلاء يلحَق أَحدًا منَ المسلمين أو يحُلّ قريبًا من دارِه أسِفَ لحالِه وتمنَّى له الفرجَ والغفرانَ من اللهِ، ولم يَنسَ حينَها أهمِّيّةَ وأدِ الفرح بتَرَح الآخرين في مَهدِه، فلا يلبَث أن تُسارِعه سلامةُ قلبه، ولِسانُ حالها يقول ما رواه الترمذيّ عن النبيِّ فيما يَقولُه مَن رأَى مُبتَلى: ((الحمدُ لله الذي عافَاني مما ابتَلاه به، وفضَّلني على كثير ممَّن خلَق تفضيلاً)) [2].
إنَّ مثَلَ قلبٍ هذهِ حالُه كمثَل الإناءِ المصفَّح يَستَحيل تسرُّبُ السائل منه البَتَّة، وهذا هو القَلبُ التقيُّ النّقيّ المشرِق الذي يُبارِك الله فيه، فتَتَسارَع إليه الخيراتُ حَثيثةً من حيث لا يحتَسِب، وصاحِبُ هذا القلبِ هو الذي ينجُو مُكرَّمًا يومَ لا ينفَع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بِقلبٍ سليم. قال سعيدُ بن المسيّب رحمه الله: "القَلبُ السليم هو القَلبُ الصَّحيح، وهو قلبُ المؤمن" [3] ، وسئِل ابنُ سيرينَ رحمه الله: ما القلبُ السليم؟ قال: "الناصِحُ لله عزَّ وجلَّ في خَلقِه" [4] ، أي: لاَ غِلَّ ولا غَشَش.
أيّها المسلِمونَ، إنَّ دينَنَا الحنيفَ ليتَحَسَّس نُفوسَ الناسِ بَين الفينةِ والأخرى لِيغسِلَها بالماء الزُّلال من أدرانِ الغَشَش ودَخَنه، وليُذكِيَ فيها مشاعرَ الزّكاء والنقاءِ تجاهَ الناس والمجتَمَع، ومِن أعظمِ هذا التحسُّس المقرَّر هي تلكمُ المتابَعةُ المتكرِّرة في كلِّ أُسبوعٍ مرَّتين، والتي تجعَل منَ المرءِ حَكمًا على نفسِه؛ ليصحِّحَ ما به من خلَلٍ ويَتَداركَ ما بقِي أمامَه مِن شعور، يتمثَّل ذلِكم في قولِ النبيِّ : ((تُعرَض الأعمال في كلّ اثنين وخميس، فيغفِر الله عزّ وجلّ في ذلك اليومِ لكلِّ امرئٍ لا يُشرك بالله شيئًا إلا امرَأً كانت بينَه وبين أخيه شَحناء، فيقول: اترُكوا هذَين حتى يَصطلِحا)) رواه مسلم [5].
إنَّ المجتمعَ المسلِمَ الصّفيَّ هو ذلِكم المجتمعُ الذي يَقومُ على عَواطِفِ الحبِّ والتآلُف والبُعدِ عنِ الأَثَرةِ المُشاعَةِ بين أفراده، ولا مَكانَ فيه للفَرديّة المتسلِّطَة ولا الشحِّ الكَنود، بل حالُ بَنيه وأفرادِه تُحيي في نفسِ المؤمن استحضارَ قولِ الله تَعَالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [محمد: 29]، وقولِ الله تعالى مَادِحًا صفةَ قومٍ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]، ويستحضِر قولَه تَعَالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10].
إنَّ شَريعَتَنا الغرّاءَ قد جاءَت حَاضَّةً عَلَى التَّراحُم والتَّلاحم والعَدلِ والإنصاف ونبذِ التدابُرِ والتقاطُع والتباغُضِ والتحاسُد وبَذرِ الفِتَن وتَأجيجِ الفُرقة؛ لأنّ الإخلالَ بهذه المبادِئ يُنمِّي جُذورَ الخصومة ويضرِم أتّونَها ويُفرِّع أشواكَها ويُذبِل زَهرَ المجتمَع الغَضّ وينكَأ جراحَه، فينشَأ الحِقدُ والطّيشُ بالألباب والتَّعبِئة النفسيَّة الغوغائيّة التي تَتَدلَّى بمُواقِعِها إلى اقتِرَافِِ ما ضرُّه أكبرُ مِن نَفعِه، حَتى يَكثرَ السَّخَط واللَّغطُ، فتعمَى العينُ عن النَظَر إلى مِن زاويةٍ دَاكِنة، بل يذهَب بها عَضُّ الأنامِلِ منَ الغَيظ إلى التَّخيِيل وقَبولِ الأكاذيب والاعتِمادِ على خُيوطٍ من حِبال أطيَافِ التَّنازُع والصّراع والأمَل في الهَيمَنَة المثاليّة والوعودِ الواهِيَة، وذلك كلُّه ممّا يَنهَى عنه الإسلامُ ويزُمُّ المجتمعاتِ طُرًّا أن تقَعَ في هُوَّتِه.
إنَّ الفَظاظةَ التي كَرِه الإِسلامُ تَغلغُلَها في جَوفِ بني آدَم والانتقامَ الذي يجاذِب قَلبَه بين حدَثٍ وآخَر إنما هو فيما كانَ مُتَولِّدًا بسبَبِ الدّنيا أهوائها وسببِ الطّمَع وحظوظِ النفس ولَذائِذ الرياسةِ والاستِئثارِ بالعاجل على الآجل، أمّا إذا كانَ السّبَبُ غَضَبًا وبُغضًا للهِ وفي الله وإظهَارًا للحقِّ وغَيرةً على محارِم الله وهَيعَةً للشّرَفِ والدِّين والعَقلِ فهذا شأنٌ آخَر له منَ النّدبِ والتَّحضِيضِ في الشريعةِ ما لَه، غيرَ مَقطوعِ الصِّلةِ بالتذكير والتّأكيد على حُسنِ التَّفريق بين النَّصيحةِ والتّعيير وبين التَّصحِيحِ والتّشهير، والتَّحذير مِنَ الدَّعوةِ إلى الائتِلافِ بِأبواقِ الفُرقَةِ والتِمَاسِ الأمنِ من خِلال تَنفيرِ الصَّيدِ، والمسلمُ النّصوح لَيس عليهِ جُناحٌ إذا باشَرَ قلبَه حُبُّ النصحِ والتَّوجيه والإشفاق على أمّتِه ومجتَمَعِه، مُتجرِّدًا من أيِّ حظٍّ مشبوه أو لَوثة ممجوجَة. ولقد كان لنا في رسولِ الله أُسوَة حسنةٌ، إذ تصِفُه عائشةُ رضي الله عنها في مِثلِ ذلك فتَقول: ما انتقَمَ رَسولُ الله لنفسِه إلاَّ أن تُنتَهَك حُرمةُ الله، فينتَقِم لله بها. رواه البخاريّ ومسلم [6].
والحاصِلُ ـ عِبادَ الله ـ أنَّ سَلامةَ الصَّدرِ وَسَعتَه في التَّعامُلِ معَ الآخرين هوَ المِقبَضُ المفقود في أفئِدَةِ كثيرٍ من المجتمعات في هذا الزّمن إلاَّ مَن رحِم الله وقليلٌ ما هُم، فكم نحن بحاجةٍ إلى ذلِكم في رَدمِ هُوّةِ التجافي والشّحناء، وكم نحنُ بحاجةٍ إليه في تعامُلنا معَ نوايَا الآخرين وكَوامِنِهم، وفي تعامُلنا مع اجتهاداتِنا المطعَّمَة بالإخلاصِ ومُحاوَراتنا الناشِدةِ للحقّ، وكم تحتاجُ المجتمعاتُ إلى ذَلكم في تحديدِ مَعاييرِ التعامُلِ الآنيِّ واليَوميّ بين الفردِ والأسرة والأسرةِ والمجتمَع والنَّاصِحِ والمنصوح، وكم نحن بحاجةٍ مَاسّة إلى سَلامةِ الصّدر وسَعتِه في نظرةِ المرؤوس إلى رَئيسِه والمحكوم إلى حَاكِمِه والعَكس بالعَكس، معَ مُراعاةِ هيبةِ هذا الجانِبِ وخطورتِه وعِنايةِ الإسلام به؛ لِمَا في مُراعاتِه من تحقُّقٍ للمصالح ودرءٍ للمفاسِد.
إنّه بمثلِ هَذَا التَّوازُن ـ عبادَ الله ـ الذي يمليه على المرءِ سَلامةُ صَدرِه تجاهَ الآخرين لَيبرزُ الأفضَلِيَّة التي ذكرَها النبيُّ بقولِه حينما سُئِل: أيُّ الناس أفضل؟ قال: ((كلُّ مخمومِ القلبِ صَدوقِ اللِّسان)) ، قيل: صدوق اللسان نَعرِفه، فما مخمومُ القلب؟ قال: ((هُوَ التَّقيُّ النّقِيّ، لا إثمَ فيه ولاَ بَغيَ ولا غِلَّ ولاَ حَسَد)) رواه ابن ماجه [7].
ألاَ فاتّقوا اللهَ أيُّها المسلمون، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 54]، وأقيموا الصّلاةَ وآتوا الزكاةَ واتّقوه، وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحَكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، إن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفِرُ الله إنّه كان غفّارًا.
[1] سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح (5073) عن عبد الله بن غنام البياضي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2163)، والنسائي في الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة، باب: ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي... (9835)، وابن قانع في معجم الصحابة (499)، والطبراني في الدعاء (307)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (41)، والبيهقي في الشعب (4/89)، وجاء عند بعضهم عن ابن عباس، قال أبو نعيم في معرفة الصحابة: "هو تصحيف من بعض الرواة"، وصححه ابن حبان في كتاب الرقائق، باب: الأذكار (861)، وحسنه النووي في رياض الصالحين (110)، وابن القيم في الزاد (2/339)، وابن حجر في نتائج الأفكار (2/380)، وفي إسناده عبد الله بن عنبسة لم يوثقه غير ابن حبان (الثقات 5/53)، وقال الذهبي في الميزان (2/469): "لا يكاد يُعرف"، ولذا أورده الألباني في ضعيف الترغيب (385).
[2] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3432) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في الشكر، والطبراني في الدعاء (779، 780، 781)، وابن عدي في الكامل (4/143)، والبيهقي في الشعب (4/107، 5/507)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وحسنه المنذري في الترغيب (4/139)، وصححه ابن القيم في الزاد (2/418)، والألباني في السلسلة الصحيحة (602). وفي الباب عن عمر أو ابنه عبد الله رضي الله عنهما.
[3] انظر: تفسير القرطبي (13/114)، وتفسير ابن كثير (3/340).
[4] انظر: تفسير القرطبي (15/91).
[5] صحيح مسلم: كتاب البر (2565) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الحدود (6404، 6461)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2327، 2328).
[7] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4216) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا الطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1/183)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/127): "هذا حديث صحيح حسن"، وصحح سنده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في مصباح الزجاجة، وهو في صحيح الترغيب (2889).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وحدَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن لاَ نَبيَّ بعدَه.
وبَعدُ: فيا أيُّها النَّاسُ، إنّ مَن سَلِم قلبُه واتَّسَعَ صَدرُه للنّاس ونصَح لهم وأَشفقَ عليهم وكانَ مَظهَره سَببًا إلى مخبَرِه فإنّه سيُلقَى له القَبولُ عند النّاس، عَدوُّهم قبلَ صديقهم؛ لأنَّه لا يعرِف لحظِّ النفس سبيلاً، ولا للانتِقامِ وحبِّ الانتصار دَليلاً. ثم إنَّ للقَلبِ السّليم مذاقًا وحلاوةً لا يَعرِفها إلا مَن طعِمها، وشتّان ـ أيُّها المسلمون ـ بين قلبٍ سَليم وبين قلب مليءٍ بالغِلِّ والوَساوِس وإعمالِ الفِكر في إدراكِ الانتصار للذّات.
ولقد ضَرَب لنَا الرعيلُ الأوّل أروَعَ الأمثِلة في ذلكم، فهَذا الفاروقُ رضي الله عنه يتَحَدَّث بعباراتٍ أبدى من خِلالها الإنصَافَ من نفسِه، فقال: (اعلَموا أنَّ تِلكَ القَسوَةَ قد أُضعِفت، ولكنَّها إنما تكونُ على أهلِ الظّلم والتَّعدّي على المسلمين، فأمَّا أهلُ السَّلامة والدِّين والقَصدِ فأنا أليَنُ لهم من بَعضِهم البعض، ولَستُ أدعُ أحدًا يظلِم أحدًا أو يَعتَدِي عليه حتى أضَعَ خدَّه وأضَع قدَمِي على الخدِّ الآخر حتى يُذعِنَ للحَقّ، وإني بعدَ قَسوتي تلك أضَع خدِّي على الأرضِ لأهلِ العَفافِ وأهلِ الكَفافِ) [1].
وقد جاء في مسند أحمد من حديث أنَس في قصّةِ الرجلِ الذي قال عنه النبيُّ في مجلِسِه: ((يَطلع عليكم رجلٌ من أهلِ الجنَّة)) ، فطلع هذا الرجلُ وهو من الأنصارِ، وتكرّر قولُ النبيِّ عن هذا الرجُل ثلاثَ مرّات في ثلاثةِ أيّام، فبات عبد الله بن عمرو بنِ العاصِ عند ذلِك الرَّجلِ ليرى ما يفعَل من الطَّاعة، فلم يَر كبيرَ عمَلٍ، فسَأله: ما الذي بلَغَ بِك ما قال رسول الله ؟ فقال الرَّجل: ما هو إلاّ ما رَأيتَ، فقال عبدُ الله: فلمّا ولّيتُ دعاني فقال: ما هوَ إلاّ ما رأيتَ، غيرَ أني لا أجِد في نفسِي لأحدٍ منَ المسلمين عِشًّا ولاَ أحسدُ أحدًا على خيرٍ أعطَاه الله إيّاه، فقال عبد الله: هذه هي التي بلَغَت بك [2].
ويُسطِّر لنا شَيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله كَلِماتٍ ينبغِي أن تدوِّي في قَلبِ كلِّ مؤمنٍ ناصح، إذ يَتَحدَّث لأصحابهِ عن خُصومه وقد لاقى منهم ما لاَقَاه من الأذى والحسَد والمنازَعَة، فيقول: "تعلَمون ـ رضيَ الله عنكم جميعًا ـ أني لاَ أُحِبّ أن يُؤذَى أحدٌ من عُمومِ المسلمين، فَضلاً عن أصحابِنَا بشيءٍ أصلاً، لاَ باطِنًا ولا ظاهرًا، ولا أحِبّ أن يُنتَصَر مِن أحَدٍ بسَبَبِ كَذبِه عليَّ أو ظلمِه وعُدوانه، فإني قد أحلَلتُ كلَّ مُسلم، وأنا أحبّ الخيرَ لكلِّ المسلمين، وأُريد لكلِّ مؤمنٍ منَ الخير ما أُحِبّه لنفسي، والذِين كذَبوا وظلَموا منهم في حِلٍّ مِن جِهتي" انتهى كلامه رحمه الله [3].
فالله أكبر ما أعظمَ تلكَ القُلوب، واللهُ أكبَر مَا أعظمَ تِلك الأجساد التي تحمِلها، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: 62-64].
ألا فاتَّقوا الله مَعاشِر المسلِمين، وصلّوا وسلِّموا عَلَى الرحمة المهداة والنِّعمة المُسداة محمّد بن عبد الله، فقد أمركُم الله بأمرٍ بدأ فيه بِنفسِه، وثنَّى بملائكتِه المسبّحة بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهم صلِّ وسلّم على عبدِك ورسولِك محمّد صاحب الوجهِ الأنوَر والجبين الأزهَر، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص360-361) من طريق سعيد بن المسيب عن عمر بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (3/166)، والبيهقي في الشعب (6605)، وابن عبد البر في التمهيد (6/121-122) من طريق عبد الرزاق، وابن المبارك في الزهد (694)، ومن طريقه النسائي في اليوم والليلة (863) كلاهما عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه، هكذا رواية ابن المبارك، ورواية عبد الرزاق: "أخبرني أنس"، وقد أُعل هذا الطريق، قال حمزة الكناني كما في النكت الظراف (1/394 تحفة الأشراف): "لم يسمعه الزهري عن أنس"، وقال البيهقي: "هكذا قال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أنس، ورواه ابن المبارك عن معمر فقال: عن الزهري عن أنس، ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني من لا أتهم عن أنس... وكذلك رواه عقيل بن خالد عن الزهري"، ومشى المنذري في الترغيب (3/348) على ظاهر الإسناد فصححه على شرط الشيخين، وقال ابن كثير في تفسيره (4/339) بعدما ساق طريق أحمد: "ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، والله أعلم"، فأشار إلى العلة المذكورة، وأعله أيضا ابن حجر في النكت الظراف (1/394-395)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1728، 1729).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (28/55).
(1/5439)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
18/8/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد هذا الدين. 2- فضل حسن الخلق. 3- تعريف الخلق الحسن. 4- من خصال الخلق الحسن. 5- الكافر والخلق الحسن. 6- أمر الله ورسوله بالخلق الحسن. 7- ميزات الخلق الحسن. 8- ميزات سوء الخلق. 9- السلف الصالح وحسن الخلق. 10- خلق النبي. 11 – تربية النبي للأمة. 12- المداراة والمداهنة. 13- أكثر ما يدخل الناس الجنة وأكثر ما يدخلهم النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تَعالى وأطِيعوه، واحذَروا عِقابَه ولا تَعصوه.
أيُّها المسلِمون، اعلَموا أنَّ الإسلامَ جاءَ لِتحقيقِ غَايةٍ عظيمةٍ، وجاءَ لِيقومَ بمهمَّة جسيمَة، ألا وهي القيامُ بحقِّ الله تعالى وحُقوق الخَلق، لِقولِ الله عزّ وجلَّ: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء: 36]. وما سِوَى هذه الغايةِ مِن عُمرانِ الأرض وتشريع الحدودِ وكَفِّ الظلمِ ونحوِ ذلك فهو تابع للغايَة الكبرى التي هي الوفاءُ بحقِّ الله وحقوق الخلق ووسيلةٌ إلى هذه الغايةِ وتمهيد إِليها.
والخُلُق الحَسَن أساسُ القِيامِ بحقِّ الله تعالى وحقوقِ الخلق، والخُلُق الحسن بالإيمانِ أصلُ الوفاءِ بحقِّ الله وحقِّ العباد، وبذلك ترفَع الدرجات وتُكفَّر السيئات، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله يقول: ((إنَّ المؤمنَ ليُدرك بحسنِ خُلُقه درجةَ الصائم القائم)) رواه أبو داود [1] ، وعن أبي الدرداءِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((ما مِن شيءٍ أثقل في ميزانِ العبدِ المؤمنِ يومَ القيامة من حُسن الخلق، وإنَّ الله يبغِض الفاحشَ البذيء)) رواه التِّرمذِيّ وقال: "حديثٌ حَسَن صحيح" [2] ، فالخلُقُ الحسن جِماعُ الخيرِ كلِّه.
والخلُقُ الحسَن هو كلُّ صِفَةٍ حميدَة في الشَّرع والعقلِ المستقيم، وقال بَعضُ أهلِ العِلم: "الخلُقُ [الحسَن] بَذلُ الخيرِ وكفُّ الشر"، ويُقال: "الخلُقُ الحسَن بَذلُ النَّدى وكفُّ الأذَى".
والقولُ الجامِع للخُلُقِ الحسَن هو كلُّ ما أمَرَ الله به، وتركُ كلِّ ما نهى الله عنه، كالتَّقوى والإخلاصِ والصَّبر والحِلمِ والأناة والحياءِ والعِفَّة والغَيرَة وبِرّ الوالدين وصِلَة الأرحامِ والرَّحمة وإغاثةِ الملهوف والشَّجاعة والكرمِ والصِّدق وسلامة الصَّدر والرّفق والوفاء والأمر بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَر وحُسن الجِوار والتَّواضع والتحمُّل والسماحَة ومجانَبَةِ المكرِ والغَدرِ والخيانَة ومجانبة الخديعة والفواحش والمنكَرَات وخبائِثِ المشروبات وخبائِثِ المآكل والكَذِب والبهتان والشّحِّ والبخل والجُبن والرّياء والكبر والعُجب والظّلم والعدوان والحِقد والغِلِّ والحَسَد والبُعدِ عن التُّهَم ونحوِ ذلك.
والخُلُق الحَسَن ينفَعُ المؤمنَ في الدّنيا والآخِرةِ، ويَرفَع دَرجتَه عند ربِّه، وينتَفِع بخُلُقه البرّ والفاجر، وأمّا الكافرُ فإنما ينفَعُه خلُقُه في الدنيا، ويثيبُه الله عليه في العاجِلَة، وأمّا الآخرة فليس له فيها نَصيب، عن عائشةَ رَضِي الله عنها قالَت: يا رسولَ الله، أرأيتَ عبدَ الله بنَ جدعَان ـ وكان مُشركًا ـ فإنَّه كان يقرِي الضيفَ ويكسِب المعدوم ويُعين على نوائبِ الدَّهر، أينفعه ذلك؟ فقال النبيُّ : ((لا، إنَّه لم يقُل يومًا: ربِّ اغفِر لي خطيئَتي يومَ الدِّين)) [3].
وقد أمر الله تعالى في كتابِه العظيم بكلِّ خلُقٍ كريم، ونهى عن كلِّ خُلُق ذميم، وجاءت السنّةُ النبويّة كذلك، آمِرةً بكلِّ خَصلَة حميدةٍ، ناهيَةً عن كلِّ خَصلة خبيثة، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًا، وحَسبُنا في ذلك مثلُ قولِ الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151]، وقولِ الله تَعَالى: ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاءِ وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]، وقال تعالى: خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف: 199]، وقال تَعَالى: وَ?صْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِ?للَّهِ [النحل: 127]، وقول الله تعالى: وَلاَ تَسْتَوِى ?لْحَسَنَةُ وَلاَ ?لسَّيّئَةُ ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصِّلت: 34]، وقال تعالى: وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215]، وقال عزّ وجلّ: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]، وقال عزّ وجلّ: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـ?مًا وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان: 63-68]، وقال عزّ وجلّ: يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة: 1]، وقال عزّ وجلّ: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر: 7].
وفي الحديثِ عن النبيِّ أنَّه قال: ((أنا زَعيمٌ ـ أي: كَفيلٌ ـ بِبَيتٍ في أعلَى الجنَّةِ لمن حَسَّن خُلُقَه)) رَواه أبو داودَ بإسنادٍ صحيحٍ من حديثِ أبي أمامةَ رضي الله عنه [4]. وعن ابنِ مَسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ألا أُخبركم بمن يحرُم على النار، أو بمن تحرُم عليه النّار؟ تحرم النارُ على كلِّ قريب هيِّنٍ ليِّن سَهل)) رواه الترمذيّ وقال: "حديث حسن" [5]. وعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ الرفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانه)) رواه مسلم [6]. وعن النواسِ بنِ سمعان رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله عن البرِّ والإثم فقال: ((البرُّ حُسن الخلُق، والإثمُ ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطِّلعَ عليه الناس)) رواه مسلم [7].
الخُلُقُ الحسَن برَكةٌ على صاحبِه وعلى مجتَمَعِه، وخيرٌ ونماءٌ، ورِفعَة عند الله وسَنَاء، ومحبَّةٌ في قلوبِ الخَلقِ، وطُمأنينة وانشراحٌ في الصدر، وتَيسيرٌ في الأمورِ، وذِكرٌ حَسَن في الدّنيا والآخِرَةِ، وحُسن عاقِبَة في الأُخرَى. وسوءُ الخُلُق شؤمٌ ومحقُ بركةٍ، وبُغضٌ في الخَلق، وظُلمَةٌ في القلوب، وشَقَاء عاجِل، وشرٌّ آجِل.
أيّها المسلِمون، اقتَدوا بالسَّلَف الصالح الذين اتَّصفوا بمكارم الأخلاق، وشهد لهم بذلك العليم الخلاَّق في مثلِ قولِ الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح: 29]، وقَولِه تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران: 110]، فهُم خيرُ الناس للنّاس، وقوله تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]. فَكلُّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ رضِي الله عنهم أمّةٌ وَحدَه في مكارمِ الأخلاق والبُعدِ عَن سَفاسِفِ الأمور، يُعلَم هذا مِن تَفصِيلِ سِيَرهم وأحوَالهم.
والمثَلُ الأعلى في كلِّ خُلُق كريم وفي كلِّ وَصف حميدٍ عَظيم سَيِّدُ البشر سيِّدُنا محمّد ، فهو القُدوَةُ التامّة في كلِّ شَيءٍ، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، فقد أدَّبَه ربُّه فأحسَنَ تأديبَه.
واعتَنى أعظَمَ عِناية بتربيةِ الأمّة على كلِّ خُلُق حميد وفعلٍ رشيد، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنما بُعِثتُ لأتمِّم صَالحَ الأخلاق)) رواه أحمد [8].
وأثنى الله على نبيِّه عليه الصلاة والسلام أفضَلَ الثناء، ثناءً يتردَّدُ في سمعِ الوجود، ويتلوهُ الملأ الأعلَى والمؤمِنون من الجنِّ والإنس، ولا تُنسِيه سَرمديّة الزمانِ، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيدًا [الفتح: 28].
عن عائشةَ رضي الله عنها أنها سُئِلت عن خُلُق رسول الله : فقالت: كان خلقه القرآن [9]. قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "صار امتثالُ القرآنِ أمرًا ونهيًا سَجِيَّة له، وخُلقًا تطبّعَه، وتَرَك طبعَه الجِبلِّي، فمهما أمره القرآن فعَلَه، ومهما نهاه عَنه تركه، هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخُلُق العظيم؛ من الحياء والكرمِ والشجاعة والصَّفحِ والحِلم وكلِّ خُلُق جميل" انتهى كلامه [10].
وحتى قبلَ البِعثةِ لم يجِدوا عَلَيه سَقطَةً ولا عَيبًا يُذَمّ بِه، مَع كثرةِ أعدائه وتوافُرِ دواعيهم وحِرصِهم، ولما فَجَأه الوَحيُ قال لخديجةَ رضي الله عنها: ((لقَد خَشِيتُ على نفسِي)) فقالت: كلاّ والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنَّك لتصِل الرّحمَ، وتصدُق الحديثَ، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ. رواه البخاري ومسلم من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها [11]. فهذا بعضُ خُلُقِه الكريم قبلَ البعثة، فأتمَّ الله عليه النعمةَ والخلُقَ العظيم بعدَ البعثة.
فتأسَّوا ـ معشرَ المسلمين ـ بنبيِّكم بالتمسُّك بدينِه القيِّم والعَمَلِ بشريعته الغرّاء والتخلُّق بأخلاقه الكريمة بقدر ما يوفِّقُكم الله لذلك، واحمِلوا أنفسَكم على منهجه مخلصين لله تعالى، مُتَّبعين لسنَّته، غيرَ مبتَدِعين في دينه، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 21].
واعلَموا ـ عِبادَ الله ـ أنَّ المداراةَ من الخُلُق الحسن، والمداهَنَةَ مِنَ الخُلُق المذموم، فالمداراةُ هي دفعُ الشّرّ بالقولِ الحسَن أو الفِعل الحسَن وتبليغُ الحقِّ بأسلم وسيلَة، وتكون في بَعضِ الأحوالِ، والمداهنَةُ هي السّكوتُ عن الحقّ أو الموافَقَة في المعصيَةِ، قال الله تعالى: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعَني وإيّاكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستَغفِروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيمُ.
[1] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4798)، وأخرجه أيضا أحمد (6/90، 133)، وابن حبان (480 ـ الإحسان ـ)، وصححه الحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "صحيح". صحيح الترغيب والترهيب (2643).
[2] سنن الترمذي: كتاب البر والصلة (2002)، وأخرجه أيضا أحمد (6/442، 446، 448)، وأبو داود في الأدب (4799)، وابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (214).
[4] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4800)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648).
[5] سنن الترمذي: كتاب صفة يوم القيامة (2488)، وأخرجه أيضا أحمد (1/415)، وابن حبان (469 ـ الإحسان ـ)، والطبراني في الكبير (10/231)، وجوّد المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وخرجه في السلسلة الصحيحة (938).
[6] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2594).
[7] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2553).
[8] مسند أحمد (2/318)، ورواه أيضا البخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[9] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746) من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[10] تفسير القرآن العظيم (4/403).
[11] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (4)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (160).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وليّ المتَّقين، أحاطَ بكلِّ شيء عِلمًا، ووسِع كلَّ شيء رحمةً وحلمًا، أحمد ربي وأشكره على نِعَمِه التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إلَهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له له الأسماءُ الحسنى، وأَشهَد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمّدًا عبُده ورسولُه المصطفى، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى كما أمَر، وابتعدوا عما نهى عنه وزَجَر، فقد أمركم الله بقولِه: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، وهذه آيَةٌ جامعةٌ لكلِّ خُلُق كريم، ناهيةٌ عن كلِّ خلُق ذَميمٍ، كما ذَكَروا ونَقَلوا عن ابن مسعودٍ في هذِهِ الآيةِ.
وعَن معاذِ بنِ جبل رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي [1]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئِل رسول الله عن أكثَرِ ما يدخِل الناسَ الجنةَ، قال: ((تقوى الله وحُسن الخلق))، وسئل عن أكثرِ ما يدخل الناسَ النارَ، فقال: ((الفمُ والفرج)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [2].
فتمسَّكوا بأخلاقِ دينِكم، وحافِظوا على هَديِ نبيِّكم ، تَفوزُوا بخيرَيِ الدنيا والآخرة.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقَد قَالَ : ((مَن صلَّى عليّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيِّدِ الأولين والآخرين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] سنن الترمذي: كتاب البر والصلة (2004)، وفيه: "صحيح غريب", وأخرجه أيضًا أحمد في المسند (2/191، 442)، والبخاري في الأدب المفرد (289، 294)، والطيالسي في المسند (324)، وابن ماجه في الزهد (4246)، وابن حبان (476 ـ الإحسان ـ)، وصححه الحاكم (4/324)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1723).
(1/5440)
احذروا الابتداع في رجب
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
13/7/1428
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الابتداع في الدين. 2- خطوات الشيطان. 3- مفاسد البدع. 4- بدع رجب. 5- بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج. 6- تحذير النبي والصحابة الكرام من البدع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله عزّ وجلّ، فقد أمركم بذلك ربكم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. جعلني الله وإياكم من عباده المتقين.
أيها الإخوة المؤمنون، الابتداع في الدين ذنب عظيم ومعصية خطيرة، ما عصي الله عزّ وجلّ بمعصية بعد الشرك أعظم من الابتداع في الدين، ولذلك البدعة هي الخطوة التالية للشرك عند الشيطان، فالشيطان يحاول بالمسلم، يتنقل به من خطوة إلى خطوة، كما حذرنا الله عزّ وجلّ بقوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فالخبيث يتنقل بالمنقاد له خطوة خطوة حتى يصل به إلى الشرك؛ لأن الشرك هو الخطوة الأخيرة للشيطان، أما البدعة فهي الخطوة التي تقع قبل الشرك، بأن يجعل المسلم يتعبّد لله بشيء لم يشرعه له ولم يكلفه به ولم يفرضه عليه. ولك ـ أخي المسلم ـ أن تتصوّر حال ذلك المسكين الذي يعمل أعمالا يرجو ثوابها عند الله فتكون وبالا عليه، يقول النبي : ((من عمل عملا ليس عليها أمرنا فهو رد)) ، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، ومعنى ((فهو رد)) أي: مردود عليه ليس له حظ من القبول. فالابتداع في الدين أمره خطير، ويترتب عليه مفاسد عظيمة؛ ولهذا حذر الله منه فقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
نعم أيها الإخوة، الابتداع له أخطار ومفاسد عظيمة، من أبرزها القضاء على الدين الصحيح، فما من بدعة تقام إلا ويذهب مقابلها سنه، يقول النبي : ((ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها)). فهذه مفسدة من مفاسد البدع.
ومن مفاسد البدع أيضا إعادة المجتمع الذي تنتشر فيه إلى حياة الجاهلية، والذي من مميزاته وصفاته وسماته التفرق والتمزّق والاختلاف، فكل مبتدع يظنّ أنه على حق، فينتصر لبدعته، فتحصل الفرقة؛ ولذلك لا يمكن أن يكون الناس على كلمة واحدة إلاّ إذا كانوا أهل سنّة، ولذلك قال الله عزّ وجلّ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن البدع التي بليت بها الأمة ما يفعله بعضهم في مثل هذا الشهر شهر رجب من عبادات بدعية، حيث يخصونه بصيام بعض أيامه وبقيام بعض لياليه وبذبح الذبائح قربة إلى الله، وكذلك منهم من يخصه بعمرة، ومنهم من يخصه بغير ذلك. وشهر رجب كغيره من الشهور، إلا أنه من الأشهر الحرم، لا قتال فيه، أما تخصيصه بنوع من العبادة دون غيره من الشهور فلا شك أن ذلك بدعة.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن البدع المحدثة في مثل هذا الشهر بدعة الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، فالمبتدعة يحتفلون بهذه المناسبة في ليلة السابع والعشرين من رجب، إذ يجتمعون في المساجد، ويلقون ويستمعون الخطب والمحاضرات، ويعقدون الندوات، ويضيئون المصابيح. ولا شك ـ أيها الإخوة ـ أنّ الإسراء والمعراج من آيات الله، ذكرهما في كتابه، وأوجب الإيمان بهما على عباده، ولكنه لم يشرع لنا أن نحتفل بمناسبتهما، ولو كان ذلك مشروعا لفعله نبيه أو أصحاب نبيه رضي الله عنهم.
أيها الإخوة المؤمنون، وللمعلومة فإن ليلة الإسراء والمعراج هذه التي يحتفلون بها لم تثبت أنها ليلة السابع والعشرين، بل لم تثبت بأنها في شهر رجب ولا في غيره من الشهور، وفي تحديدها خلاف بين المؤرخين، فمنهم من قال: إنها في شهر ذي القعدة، ومنهم من قال: هي في ربيع الأول، وتحديدها متى هي وفي أي ليلة ليس من الأمور المهمة؛ لأنه لا يتوقف على تحديدها حكم شرعي ولا فائدة في تعيينها، وحتى لو عينت وثبت متى هي لم يجز لمسلم أن يحتفي بها، ولا أن يخصّها بعبادة، ولا أن يميزها بتعظيم؛ لأن النبي أحرص الناس وأتقاهم، ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك، وكذلك الصحابة الكرام، وكذلك أهل القرون المفضلة، ولو كان الاحتفال بها مشروعا لبيّنه النبي إما بقوله وإما بفعله.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا البدع وأهل البدع، تمسّكوا بكتاب ربكم، واعمَلوا بسنة نبيكم، ففيهما النجاة والفوز والفلاح والنجاح.
أسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أيها الإخوة المؤمنون، من الأمور الثابتة عن النبي تحذيره الشديد من البدع، فقد كان يقول في خطبه: ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)).
وأيضا أصحاب النبي رضي الله عنهم أجمعين تربوا على بغض البدع وأهل البدع، فكانوا يحذرون من البدع غاية الحذر. بلغ ابن مسعود أن عمرو بن عتبة في أصحاب له بَنوا مسجدا بظهر الكوفة، فأمر بذلك المسجد فهدم، ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا معلوما ويهللون ويكبرون، فقام ابن مسعود ولبس بُرنُسا ثم انطلق فجلس إليهم، فلما عرف ما يقولون وطريقة تسبيحهم وتهليلهم وتكبيرهم رفع البرنس عن رأسه، ثم قال: أنا أبو عبد الرحمن، ثم قال: لقد فضلتم أصحاب محمد علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما، فقام عمرو بن عتبه فقال: نستغفر الله ثلاث مرات، وقام رجل من بني تميم وقال: والله ما فضلنا أصحاب محمد علما ولا جئنا ببدعة ظلما، ولكنا قوم نذكر ربنا، فقال: بلى والذي نفس ابن مسعود بيده، لئن أخذتم آثار القوم لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن حدتم يمينا وشمالا لتضلّنّ ضلالا بعيدا.
أسأل الله أن يجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه سميع مجيب، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يا رب العالمين...
(1/5441)
الوسواس: تعريفه وأسبابه وأنواعه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الجن والشياطين
فيصل بن محمد العواسي
جدة
4/3/1428
مسجد بحلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداوة الشيطان للإنسان. 2- سلاح الوسوسة. 3- تعريف الوسوسة. 4- أسباب الوسواس. 5- أنواع الوساوس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله العظيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
معاشر المؤمنين، يقول ربنا جل في علاه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]. وإن أهم سلاح يستخدمه الشيطان في عداوته لأولياء الله هو سلاح الوسوسة، قال الله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:20-22].
أيها الإخوة الكرام، ولأهمية هذا الموضوع موضوع الوسواس فسنتحدث عنه بعون الله وتوفيقه في جمعتين، نبين فيهما أسبابه وأنواعه وآثاره، ومن ثم علاجها.
أما تعريف الوسوسة فهي مجموعة من الخواطر والهواجس تختلِف من إنسان لآخر في قوّتها وضعفها، تدور وتتكرّر في مخيّلته وعقله، فمن الناس من يجد صعوبة بالغة في مقاومتها والتخلّص منها، وربما لجأ بعضهم إلى الأدوية والعلاجات النفسية إذا كانت وساوس قهرية، ولا بأس في ذلك بعد التوكّل على الله ودعائه والتضرّع إليه ودوام ذكره وشكره.
أما سبب الوسوسة فهو عدة أسباب، ومن ذلك ما ذكره الإمام الجويني رحمه الله في كتابه (التبصرة في الوسوسة) قال: "إنّ للوسواس سببين: إما نقص في غريزة العقل، وإما جهل بأمور الشريعة الإسلامية".
إذًا السبب الأول هو نقص في غريزة العقل، وذلك أن كثيرا من الموسوسين في عقولهم ضَعف يتمكّن به الشيطان من التأثير على ذلك الإنسان، ومن الأمثلة على ذلك أنه جاء رجل إلى أحد علماء التابعين فقال له: يا إمام، إني أنغمس في الماء مرّة ومرتين وثلاثا ثم أخرج منه وما زلت أشكّ هل ارتفعت عني الجنابة أم، هل اغتسلت أم لا، فقال له العالم الإمام: اذهب فقد سقَطت عنك الصلاة، فلمّا ذهب الرجل قالوا للإمام العالم: كيف قلت لهذا الرجل ما قلت؟! فقال: إنه مجنون، فالذي ينغمس في الماء ثلاث مرات ثم يشكّ أغتسل أم لا فهو مجنون، وقد صح عن النبي أنه قال: ((رفع القلم عن ثلاث)) ، وذكر منهم: ((والمجنون حتى يفيق)) ، وهذا مجنون. والشاهد ـ أيها الكرام ـ من هذه القصة أنّ كثيرا ممن يصاب بالوسواس ويتعمّق فيه الوسواسُ باستسلامٍ من ذلك الإنسان يكون في عقلِه شيء من النقص والخفة.
أما السبب الثاني من أسباب الوسواس الذي ذكره الإمام الجويني فهو الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية، يجهلون مثلا أحكام الطهارة والوضوء، فيقعون في الوسوسة في ذلك.
أيها الأحبة في الله، وذكر ابن القيم رحمه الله أن من أسباب الوسواس ما يكون بسبب تأثيرات عضويّة في جسم الإنسان، فيوسوس المريض ويبالغ في تشخيص مرضه وخطورته: فربما يؤدي بي إلى كذا وإلى كذا، وربما إلى الموت. وذكر سببا رابعا وهو أن الوسواس قد يحدث بسبَب ضعف الإنسان وضعف إرادته، فنجد ونرى كثيرا من الموسوسين في شخصياتهم ضَعف وفي هممهم خوَر وضعف، وربما حتى في ملابسهم رَداءة واتّساخ، كل ذلك بسبب تسلُّط الشيطان عليهم، ونجد كثيرا من الموسوسين يبتلون بتكرير الكلام وتردِيده والتنطّع والمبالغة في بعض الأمور؛ مما يجعلهم ممقوتين عند الناس، نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الأحبة في الله، وذُكِر خامس من أسباب الوسواس وهو طبيعة المرحلة التي يعيش فيها الإنسان، فإن الوسواس ينتشر عند كثير من الشباب في مرحلة المراهقة ذكورا كانوا أو إناثا، ومن ذلك الوسواس في الأمور الإيمانية والغيبيّة، وأكثر المقبلين على الله الملتزمين بشَرعه يُبتَلَون في بداية طريقهم بهذا الوسواس، إلا أنه خفيف يسير، فيتجاوزونه بتوفيق الله عز وجل ثم بتوجيه المرشدين الصالحين.
معاشر المؤمنين، ونأتي للحديث عن أنواع الوسوسة بشيء من الإيجاز، وأنواع الوسوسة كثيرة، ومن أهمها وأكثرها خطورة على دين المسلم الوسواس في قضايا العقائد والإيمانيات، حيث يبالغ ويتنطّع كثير من الناس في التفكير في ذات الله وفي أسمائه وصفاته سبحانه، ويخطر في فكره وعقله خواطر وتصوّرات وظنون تشغل باله وتجعله يشكّ في نفسه ويشكّ في إيمانه، ولا يزال الشيطان يزيد في وساوسه لذلك العبد في أمور الغيبيّات والإيمانيّات حتى يصل به لدرجة الشكّ والقلق والاضطراب.
أما النوع الثاني من أنواع الوساوس فهو الوسواس في النية، فإن كثيرا من الناس يوسوسون في نياتهم ومقاصدهم، يوسوس في نيته إذا أراد الطهارة فيقول في نفسه: نويت رفع الحدث، ثم يعود ويقول: نويت إباحة الصلاة، ثم يبدأ في الوضوء فإذا كاد أن ينتهي قال: ربما أني لم أنو، فيعيد الوضوء أكثر من مرة، فإذا أراد أن يصلي جاءته الوساوس من كلّ حدب وصوب، فيقف للصلاة ويقول بصوت مسموع: نويت أن أصلّي هذا الفرض أربع ركعات لله تعالى مأموما مستقبلَ القبلة، وبعد ذلك يرفع رأسه وينصبه ويشدّ عروق رقبته ويرفع يديه بقوّة ويصرخ: الله أكبر، وكأنه يكبر في وجه عدوّ في ساعة حرب. ومن الطرائف أن أحد الموسوسين وقف ليصلي فرفع يديه للتكبير، وبدأ يردد هذه النية: نويت أن أصلي... إلى آخرها، وهو يتكلّف ويتنطّع في إخراج الحروف ويكرّرها، فبدل أن يقول: نويت أن أصلي صلاة الظهر أداء لله، نطق الدال ذالا فقال: أذاء لله، فقال له المصلي الذي بجواره وقد قطع صلاته: صدقت أذاء لله وأذاء لملائكته وأذاء لجماعة المصلين، يعني أنك آذيت غيرك بهذه البِدَع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
معشر الكرام، وهكذا يوسوس الواحد منهم في نيته في كل عمل، فإذا كبر للصلاة وانتصب فيها شكّ في أمر من الأمور: ربما أنني ما نويت، فيقطع الصلاة ويبدأ من جديد، ويصيبه في ذلك من المشقة والعنَت ما لا يحمد عليه في الدنيا ولا يؤجر عليه في الآخرة، فنسأل الله السلامة بمنه وكرمه.
وأقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام، ومن أنواع الوسواس الوسوسة في الطهارة والوضوء والمياه، فتجِد الموسوس إذا قضى حاجته تعِب في ذلك أشدّ التعب، فهو بعدما يتبوّل يريد أن يتأكّد من انقطاع البول تماما، فيبدأ بنثر عُضوه ونفضه ليخرج ما تبقى من بول، وربما أخذ بعضهم يقفز وينطط ويركض، وبعضهم يأخذ قطنا ويحشو به عضوه لئلا يخرج شيء من البول كما يظن، وربما عصبه بعصابة عياذا بالله. لم أذكر ذلك ـ أيها الكرام ـ من فراغ، إنما هي صور موجودة والله المستعان.
ثم إذا قضى حاجته على نحو ما سمعتم وأراد أن يتوضّأ وسوس في المياه ونجاستها، يشكّ هل وصل إليه قطرة من البول أو اغتسلت منه امرأة أو أن يكون كذا أو كذا، ويضع مئات الاحتمالات لهذا الماء الذي أمامه أن يكون تنجس أو تلوّث. ثم إذا اطمأن إلى الماء وبدأ في الوضوء استخدم ماء كثيرا يكفي العشرات من المتوضّئين، فيبدأ يتوضّأ ويعرك أعضاءه مرة بعد مرة بعد أخرى، حتى إن بعضهم ليجلس في الخلاء الساعة والساعتين في ذلك المكان الذي هو مأوى الشياطين عياذا بالله، ربما فاتته صلاة الجماعة إن كان رجلا، بل ربما خرج وقت الصلاة وهو على تلك الحال، ثم إذا توضّأ بعد العرك والفرك والدّلك والجهد الجهيد أتى للنوع الذي بعده وهو الوسوسة في الصلاة وفي العبادات، ففي العمرة والطواف مثلا يوسوس له بالزيادة أو النقصان، ولا أقصد بذلك النسيان الطبيعي، فكلنا معرّض للنسيان، لكنه التكلّف الظاهر على الموسوس، وكذلك في عدد الجمرات التي رمى بها في الحجّ، وكذلك في نيّة الصيام وإخراج الزكاة والصدقة وفي كل نوع من أنواع العبادات يحاول الشيطان إفسادها على المسلم وأن يحرمه من لذة العبادة فيها.
أيها الإخوة الكرام، وللحديث في هذا الموضوع بقية في الجمعة القادمة بمشيئة الله وتوفيقه.
نسأل الله جل وعلا أن يصلح أحوالنا، وأن يعصمنا من الشيطان الرجيم ومن نزغه ونفثه وهمسه، وأن يكلأنا برعايته، وأن يحفظنا بحفظه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله امتثالا لأمر الله...
(1/5442)
علاج الوسواس
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الجن والشياطين
فيصل بن محمد العواسي
جدة
11/3/1428
مسجد بحلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل داء دواء. 2- وسائل علاج مرض الوسواس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في الجمعة الماضية كما تذكرون عن الوسواس، عن تعريفه وأسبابه وأنواعه، ونتحدث في هذه الجمعة المباركة بعون الله وتوفيقه عن الجانب المهمّ في هذا الموضوع ألا وهو علاج الوسواس، وهو بيت القصيد.
أيها الإخوة الكرام، الوسواس مرض وداء، وفي الحديث: ((ما أنزل الله من داء إلا وله دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله)).
فيا من ابتلِيت بهذا الداء، عليك أن تكون شجاعا في مواجهة هذا الداء المستطير ومعالجته، وذلك من خلال الوسائل التالية:
أولا: اعلم أنّ الوسواس مرض يجب علاجه والتخلص منه؛ لأن الإنسان إذا لم يقتنع أنه مصاب بالمرض فِعلا فإنه لن يسعَى للعلاج، بل إنه قد يرمي ويتّهم غيره بأنهم مقصّرون ومفرِّطون لا يهتمّون بأي ماء توضؤوا ولا بأيّ مكان صلَّوا ولا بأي نية عمِلوا، وأنهم متساهلون في أمر العبادات، ولا شك أنّ العكس هو الصحيح، ودليل ذلك أن النبي توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: ((هذا الوضوء، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم)). إذًا الموسوس متعدّي، والله لا يحبّ المعتدين، سواء في العبادات أو في غيرها.
إذا اقتنع الموسوس بأنه مريض وبحاجة لأن يسعى للخلاص مما أصابه فإنه بذلك قد قطع مرحلة من العلاج مهمّة، ثم الأمر الثاني في علاج هذا الداء أن يعرف المبتلى أن الله عز وجل قال عن كيد الشيطان: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17]. لاحظ أنّ الشيطان ـ لعنه الله ـ أخذ على نفسه عهدا بإضلال المسلم، وأن يقف له من جميع الجهات؛ من الأمام ومن الخلف ومن اليمين ومن الشمال، إلا جهة واحدة ما ذكرها، ما قال: مِن فوقهم؛ لأن الشيطان لا يستطيع أن يحول بينهم وبين الله عز وجل وبينهم وبين رحمة الله ودعائه والتضرّع إليه، ترفع الدعوات إلى الله سبحانه وبحمده تخترِق السماوات السبع حتى تصل إليه جلّ في علاه، فيستحي الكريم سبحانه أن يردّ صاحبها صفر اليدين، فالمبتلى بالوسواس أو بأيّ داء غيره إذا سأل الله بصدق وإقبال وإخلاص فإنّ الله عز وجل لا يردّ مَن قرع بابه بصدق، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62].
إذا عُلِم ذلك ـ أيها الكرام ـ فليَعلم الموسوس أنّ ما هو فيه إنما هو من كيد الشيطان، ذُكر أن أحد علماء التابعين وهو الإمام أبو حازم دخل المسجد يوما ليصلّي، فجاءه الشيطان ليوسوس له وقال: ربما أنك تصلّي من غير وضوء، فماذا قال الإمام أبو حازم؟ هل قال له: أحسنت، أو شك في وضوئه، أو استجاب للوسواس؟ لا، بل قال للشيطان: ما بلغ بك النصح إلى هذا، ثم مضى في صلاته ولم يلتفت للوساوس.
أيها الأحبة في الله، أما الأمر الثالث لعلاج الوسواس فهو الاقتداء بالنبي الذي جعله الله أسوة وقدوة للمؤمنين الذين يتمنّون أن يرِدوا حوضه يوم القيامة وأن يحشروا تحت لوائه وفي زمرته ويرغبون أن تشملهم شفاعته يوم الدين، فكيف كان هدي النبي في العبادات؟
انظر إلى هدي النبي في قضايا العقائد والإيمانيات، بيّن لهم الدين سهلا يسيرا لا تعقيد فيه ولا إشكال، وحين جاء الصحابة يشتَكون إليه ما يجدون من وسوسة الشيطان لهم في إيمانهم بالله قال لهم كما في صحيح مسلم: ((أوَجدتموه؟)) قالوا: نعم، قال: ((ذاك صريح الإيمان، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة)). فبيّن لهم أن ما أصابهم هو بسبب إيمانهم؛ لأن الشيطان إنما يوسوس في القلب الذي فيه إيمان، واللّصّ لا يسطو على البيت الخرب، وإنما يسطو على البيت المليء بالحليّ والذهب.
ثم أرشدهم النبي إلى خطوة أخرى لمكافحة هذا الوسواس كما في حديث آخر: ((فليستعذ بالله، ولينتهِ)) ، وقال لهم : ((لا يزال الشيطان يسألكم: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فليقل المسلم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)). وأمر من يجد هذه الوسوسة بقراءة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص].
إذًا فالقضية سهلة وميسّرة، فعليك أن تغفل عن هذا الأمر، لا تعطِه اهتماما، تحصّن بالأدعية والأذكار، ولا تلتفت لهذا الأمر، فإنّ كثرة تفكيرك فيه وحرصك الشديد المبالغ فيه يجعل الأمر يزيد وينتشر في عقلك وقلبك، فإنّ الشيطان مثل الكلب؛ إذا التفتّ إليه ودافعته فإنه ينبَح ويركض وراءك، وإذا أعرضت عنه نبح مرة أو مرتين ثم ذهب وتركك.
أيها المسلم المبارك، تأمل بعد ذلك هدي النبي في انتقاض الوضوء الذي يبتَلَى به كثير من الموسوسين، يشك الواحد منهم هل خرج منه شيء فيعيد الوضوء مرات ومرات أو ربما قطع صلاته لمجرّد شكوك وأوهام لا صحّة لها وذهب لإعادة الوضوء، في الصحيحين: شكا رجل إلى النبي أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال : ((لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)). إذًا ـ يا عباد الله ـ الطهارة هي الأصل، والحدث طارئ عليها مشكوك فيه، فلا يقطع صلاتَه إلا بيقين وقطع، ولا ينبغي أن يشغل نفسه بالتفكير هل خرج منه شيء أم لا، لكن إذا علم بذلك بصوت أو ريح فحينئذ يعيد الوضوء.
ثم تأمل ـ أيها المسلم رعاك الله ـ تأمل في هديه في الصلاة، لم يكن يجهر بالنية ولا يعيد تكبيرة الإحرام ولا يعيد قراءة الفاتحة مرارا وتكرارا ولا يتنطّع في صلاته كما يفعل كثير من الموسوسين، بل كانت صلاته في غاية الخضوع والخشوع والطمأنينة، وكذلك هديه في سائر العبادات. فعليك ـ أيها المسلم المبارك ـ أن تدرك وتعلم أن هذا هو هديه، فلا يسعك إلا الاتباع، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31].
أيها الأحبة في الله، ومن وسائل علاج الوسواس العِلم، حيث إن من أسباب الوسواس الجهل بأمور الشريعة، إذًا فدفعه يكون بالعلم، العلم الصحيح بالعقائد والإيمانيات الذي يدفع كيد الشيطان ووساوسه، وكذلك العلم الصحيح بالأحكام الشرعيّة الفقهية، وخاصة أبواب المياه والطهارات والوضوء والغسل وغيرها؛ ليعبد المسلم ربه على بصيرة، ولا يقبل كيد الشيطان، ولا يتعلق ببعض الأقوال الفقهيّة الضعيفة التي ربما يجد فيها بعض الموسوسين مستمسكا لهم.
نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يشفي مرضانا، وأن يرفع الضر عن مبتلانا، وأن يحفظنا بحفظه ويكلأنا برعايته، وأن يستخدمنا في طاعته، هو ولي ذلك والقادر عليه.
وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر المؤمنين، ونختم حديثنا عن موضوع الوسواس وعلاجه بذكر وسيلة من أهمّ الوسائل المعينة على دفع الوسوسة بحول الله وقوته، وهي أن يكون لدى الإنسان عزيمة وإرادة على دفع الوسواس، وهذا السبب إذا فقِد ربما لا تنفع معظم الوسائل السابقة الذكر، يحتاج لأن يكون لدَيه قوة عزيمة، فيقول للشيطان: رغم أنفك، كما علمنا ذلك رسول الله ، ففي الحديث الصحيح: ((إذا جاء الشيطان لأحدكم في صلاته فقال له: إنك أحدثت فليقل له: كذبت)). بعض الموسوسين يقول للشيطان ذلك، فيردد بصوت مسموع: كذبت كذبت، لكنه للأسف يقول: كذبت ثم يذهب ليعيد الوضوء، فلا ينفعه ذلك.
يحتاج من ابتُلي بالوسواس لأن يمتلك قوة في عزيمته وقوة في إرادته تجعله لا يلتفت لتلك الوساوس، بل يصلّي صلاة معتدلة، وقبل ذلك يتوضأ وضوءا معتدلا، لا يعيد الوضوء، ولا يعيد الصلاة مهما أصابه من الهمّ والضيق، وليستمرّ على ذلك مصرّا على دحض الكيد الشيطانيّ، مستعينا بربه جل في علاه، فإنه سينجح ولا بد، وسيتخلّص من ذلك الداء والبلاء، وهذا أمر واقع ومحسوس. حاول وجرّب أن تترك جميع ما أنت فيه من الشكوك والأوهام والتكرار، وافعل كما يفعل غيرك ممن يلتزمون بسنة النبي ، ولا تتكلّف، ولا تتنطّع، وستجد أنك خلال أيام قليلة تخلّصت من تلك الوساوس بفضل الله، جرِّب، تحرّك، ابدأ خطوة للأمَام، جاهد نفسك، سيهديك الله لذلك الأمر، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
فاتقوا الله تعالى في أنفسكم، واعلموا أن أحدكم لو عاش عمر نوح عليه السلام ألف سنة وهو يبحث عن حديث واحد صحيح أو ضعيف أو حتى موضوع فيه أن النبي شكّ في وضوء فأعاده أو شكّ في صلاة فأعادها أو وسوس في أمر العبادات لم يجد ذلك، بل ولا حتى في صحابته الكرام.
فيا عباد الله، الحجة قائمة، والدين محفوظ، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها.
حمانا الله جميعا من كيد الشيطان ووساوسه، وثبتنا بالقول الثابت، وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، ورزقنا قوة التوكل عليه وحسن الإنابة إليه، هو ولي ذلك والقادر عليه...
(1/5443)
بين يدي عام دراسي جديد
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, العلم الشرعي, قضايا الأسرة
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
25/8/1428
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المحاسبة بعد الإجازة. 2- رسالة إلى أهل التربية والتعليم. 3- رسالة إلى الطلاب والطالبات. 4- رسالة إلى أولياء الأمور. 5- رسالة التعليم. 6- الحث على المساهمة في إعانة الفقراء والمحتاجين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ها هي الإجازة أوشكت على الرحيل، مضت أيامها وتصرمت ساعاتها، وكأنها ما كانت، غنم فيها قوم وخسر آخرون، ذاك يطوي صفحات من الحسنات في الصالحات الباقيات، في خطوات تقربه إلى روضات الجنان، وآخر يعب من السيئات في ارتكاب المحرمات والموبقات، في استدراج يدنيه من الدركات.
أيها المسلمون، ليعد كل منا بذاكرته إلى الوراء قليلاً، إلى بداية الإجازة، وليحاسب نفسه: ماذا جنى؟ وماذا قدم؟ هل تقدم في الخير أم تأخر؟ هل ازداد من الصالحات أم قصر؟ ماذا صنع هو وأهله وأولاده في تلك الإجازة؟ وكيف أمضوها؟ أفي خير ونفع أم في خسارة وضياع؟ تالله، ليسعدن أقوام يجدون ثمرة أعمالهم الخيرة في ميزان حسناتهم، وليندمن أقوام فرطوا في أيامهم الخالية فجنوا الندم والألم، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30].
عباد الله، غدًا تبدأ الدراسة، وتنطلق مسيرة العلم، وتفتح قلاع المعرفة، يبرق فجر غد والناس أمامه أصناف، والمستقبلون له ألوان؛ بين محب وكاره، ومتقدم ومحجم، ومتفائل ومتشائم، ومع هذه الإطلالة للعام الدراسي الجديد ها هنا بعض الرسائل والكلمات؛ علها تكون نذر خير وإصلاح وهداية للسبيل القويم.
الرسالة الأولى: إلى رعاة الجيل وأمنة التعليم، إلى حماة مشكاة النبوة والمؤتمنين على ميراث الرسالة في التعليم والتربية، إلى من تعقد عليهم الآمال، إلى المعلمين والمعلمات:
هنيئًا لكم ـ يا أهل التربية والتعليم ـ شرف الرسالة ونبل المهمة، ومهما عانيتم وقاسيتم ومهما جار البعض عليكم وهمش رسالتكم وقلل هيبتكم وغمطكم حقكم فيكفيكم ثناء ربكم جلّ وعلا ومدحُ نبيكم ، أخرج الترمذي وغيره أن رسول الله قال: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)). فهنيئًا لكم هذا الفضل العظيم والثناء الجسيم الذي لا ينتظر بعده معلم الناس جزاء ولا شكورا.
يا أهل التربية والتعليم، لقد ائتمنتكم الأمة على أعز ما تملك، على عقول فلذات أكبادها وثمرات فؤادها، يقضي الطالب شطر يومه في قلاع التعليم وحصون التربية، فماذا أعددتم لهم؟ وبماذا تستقبلونهم؟ وكيف؟ وماذا ستعلمونهم؟ إنهم أمانة في أعناقكم، فقدروا الكلمة التي تقولونها، وزنوا الحركة قبل أن تتحركوها، واعملوا أن من أهمّ ما تتصفون به هو جانب القدوة والتزام أخلاقيات هذه المهنة الجسيمة؛ لأن الطلاب والطالبات يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم، والبيان بالفعل أبلغ من البيان بالقول.
يا أهل التربية والتعليم، إن المنهج يظل حبرًا على ورق ما لم يتحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره مبادئ المنهج ومعانيه، إن ناشئ الفتيان فينا ينشأ على الصدق إذا لم تقع عينه على غش وتسمع أذنه كذبًا، ويتعلم الفضيلة إذا لم تلوّث بيئته بالرذيلة، ويتعلم الرحمة إذا لم يعامل بغلظة وقسوة، ويتربى على الأمانة إذا قطع المجتمع دابر الخيانة، فكونوا ـ معاشر أهل التربية والتعليم ـ خيرَ نموذج يتمثل الخير أمام الأجيال، وتذكروا عتاب ربكم في حال المخالفة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3].
يا أهل التربية والتعليم، إن التعليم المثمر هو الذي يسار فيه مع التربية جنبًا إلى جنب، ما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوبًا خؤونا؟! وما قيمة العلم إذا كان حامله ينقض مبادئ التربية عروة عروة بسلوكه وأخلاقه؟! قال ابن المبارك رحمه الله: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم"، وقال ابن سيرين رحمه الله عن السلف الصالح: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم".
يا أهل التربية والتعليم، لقد خلق الإنسان في كبد، والمرء في هذه الحياة ساع ـ ولا ريب ـ إلى مصدر رزقه، فإما أن يخرج بنية صالحة يعود من خلالها بالأجر والثواب، وإما أن يرجع من عمله بثواب الدنيا فقط، والموفق من وفقه الله.
يا قادة العلم هبوا وانشروا همما نطوي بِها جهلنا حقًا ونزدجر
هيا إلَى العلم والقرآن ننصره أليس بالعلم والقرآن ننتصر؟!
يا رب وفّق جميع المسلمين لِما فيه الصلاح وفيه الخير والظفر
الرسالة الثانية: إلى الطلاب والطالبات:
لقد عدتم إلى مقاعد الدراسة والعود أحمد إن شاء الله، اغتنموا أوقاتكم في طلب العلم وتحصيله، فأنتم في زمنه ووقته، لا تلهينكم المشاغل، وعليكم بإحسان النية في تحصيله، ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)). إن الناس إما عالم أو متعلم أو جاهل، والعلم شرف لا قدر له، إنه يرفع الوضيع، ويعز الذليل، ويجبر الكسير، به حياة القلوب وشفاء الصدور ولذة الأرواح.
تذكروا ـ معاشر الطلاب ـ أثناء سيركم في طريقكم قول المصطفى : ((من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطلاب العلم رضًا بما يصنع)).
يا طلب العلم، إن مما لا ينبغي أن يكون الهدف الأسمى من العلم الحصول على الشهادة، ولئن دعت الحاجة في الدنيا إلى الوظيفة والعمل، فالحاجة أدعى إلى تعلم العلم الذي به يصل المرء إلى المنازل العالية في الجنة.
يا طالب المدرسة، إن جهودًا كثيرة تستنفر من أجلك، جهودًا مالية وذهنية ووقتية، كل أولئك يتعاهدون سقاية نبتتك ورعايتها، حتى تؤتي أكلها بعد حين، فلتكن ثمارك يانعة، فالبيت يرجو منك ويؤمل، والمدرسة تبذل لك وتعلم، فكن عند حسن الظن بك خلقًا وعلما.
يا طالب العلم، اجعل في سويداء قلبك قول ربك وخالقك: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة: 282]، وجدّ واجتهد، ولا يغرنكم كثرة البطالين وتذكر أنّ من لم تكن له بداية محرِقة لم تكن له نهاية مشرقة.
أأبناء الْمدارس إن نفسي تؤمّل فيكم الأمل الكبيرا
فسقيًا للمدارس من رياض لنا قد أنبتت منكم زهورا
الرسالة الثالثة: إليكم يا معاشر الآباء والأولياء:
إنكم ـ أيها الكرام ـ شركاء للمدرسة في رسالتها، والبيت هو المدرسة الأولى التي يتربى فيها الأجيال وينشأ فيها الفتيان والفتيات.
إن مما يعاني منه الغيورون قلة الاتصال بين المدرسة والبيت، حيث يظن بعض الآباء أن بتوفير لوازم المدرسة وحاجياتها قد انتهى دوره وقام بواجبه دون متابعة أو سؤال، والبعض من الآباء آخر عهده بالمدرسة أو الكلية أو الجامعة عندما ألحق فلذة كبده بها، وهذا من القصور والتفريط الذي يسأل عنه الولي في الآخرة، ويجني عاقبته في الدنيا.
معاشر الأولياء، قولوا لي بربكم: هل أدى الأمانة من حرصه على استيقاظ ابنه للدراسة مقدم على حرصه على الصلاة وتحسّره على فوات الدراسة أشد من تحسره على فوت وقت الصلاة؟! إنها ممارسات يجد فيها الطلبة والطالبات نوعًا من التناقض بين ما درسوه في المدرسة وبين ما يجدونه في المنزل.
فعظموا ـ معاشر الأولياء ـ أمر الله في نفوس الناشئة، ((مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)). احرصوا ـ رحمكم الله ـ على تربية أبنائكم ومتابعتهم أثناء الدراسة، تخيروا لهم رفاقهم، واعرفوا أين يذهبون ومن يصاحبون وماذا يصنعون، وإياكم إياكم أن تهدموا في أبنائكم ما يربيه المخلصون في المدارس وقلاع العلم.
أيها الأب،
حرّض بنيك على الآداب في الصغر كيما تقرّ بِهم عيناك فِي الكبَر
فإنَّما مثل الآداب تجمعها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
وأصدق من ذلك قول المولى سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله خالق اللوح والقلم، أحمده سبحانه وأشكره على ما أسدى وأنعم، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الهادي إلى السبيل الأقوم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا عباد الله، إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها أن يحمل الطلاب على عواتقهم كمًّا من المقررات طيلة عام أو نحوه ثم يتخففون منها بأداء الامتحان، إن رسالة التعليم لم تبلغ غايتها إذا حفظ الطالب أو الطالبة نصوصًا في أهمية الصلاة وكيفيتها وشروطها وواجباتها وهو لا يصلي إلا قليلا أو يصلي على غير ما تعلم، إن رسالة التعليم لن تحقق هدفها إذا كان الطالب يقرأ في المدرسة موضوعًا في مادة المطالعة عن الصدق ثم يكذب على معلمه وزملائه، إن رسالة التعليم لن تسير إلى مقصدها إذا كان الطالب في المدرسة يكتب موضوعًا في الإنشاء عن بر الوالدين ثم يخرج من المدرسة ليرعد ويزبد على أمه أو يعرض عن أمر أبيه، إن رسالة التعليم تتمثل في ربط التعليم بواقع الطلاب والطالبات وتطبيق القيم العليا المبثوثة في مناهج التعليم.
عباد الله، بقيت همسة لطيفة أختم بها حديثي إليكم، ألا وهي ظروف الحياة في هذه الأيام تشتدّ على بعض الدارسين والدارسات، وقد يشق عليهم توفير ما يستطيع نظراؤهم توفيره، فهل يجد هؤلاء من المدرسة رعاية خاصة وبطريقة مناسبة لا تجرح شعورًا ولا تقلل قدرا؟! وهل يجد هؤلاء الضعفاء من الآباء مساهمة في عدم كسر قلوبهم حين لا يسرفون في تأمين الأدوات الدراسية لأبنائهم وإعطائهم من الأموال ما يفوق حاجتهم مراعاة لنفسيات أبناء الأسر الفقيرة من زملائهم؟!
أيها المسلمون، لو أسهم كل واحد منا في تخفيف الأعباء المدرسية عمن يحتاج من أقاربه وجيرانه لمسحنا دموعًا كثيرة وأرحنا همومًا عديدة ترزح على قلوب أولئك الضعفاء. وإن مما يوصى به في هذا المقام أن الجمعيات الخيرية تقوم بمشروع عظيم، ألا وهو توفير الحقائب المدرسية لأبناء الفقراء والمحتاجين، فأسهموا ـ عباد الله ـ بأموالكم في هذا الخير، ولا تحرموا أنفسكم بابًا ساقه الله إليكم، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].
(1/5444)
أقبل الضيف فأين العدة؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
25/8/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم رمضان. 2- نعمة الإسلام والتوفيق للطاعة. 3- أهمية معرفة فضل رمضان. 4- فضل الصدق والعزم على الخير. 5- عدة رمضان. 6- التحذير من الإعلام الفاسد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَو أَنَّ لأَحَدِنَا قَرِيبًا غَالِيًا أَو رَحِمًا عَزِيزًا أَو صَدِيقًا حَمِيمًا أَو صَاحِبًا كَرِيمًا غَابَ عَنهُ مُدَّةً طَوِيلَةً ثم وَعَدَهُ بِالمَجِيءِ إِلَيهِ عَمَّا قَرِيبٍ فَمَاذَا عَسَاهُ صَانِعًا لِمُلاقَاةِ هَذَا المُكرَمِ وَاستِضَافَتِهِ؟ إِنَّكَ سَتَرَى مَجَالِسَ تُعَدُّ وَفُرُشًا تُجَهَّزُ، وَمَشرُوبَاتٍ سَائِغَةً وَمَأكُولاتٍ مُنَوَّعَةً، وَنَظَافَةً وَعُطُورَاتٍ وَحَلْوَيَاتٍ، وَغَيرَهَا مِن أَنوَاعِ التَّهيِئَةِ وَالاستِعدَادَاتِ. وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ التي لَن تَزِيدَ عَنِ السَّبعَةِ لِمَن أَحيَاهُ اللهُ وَأَبقَاهُ يَنتَظِرُ المُسلِمُونَ ضَيفًا عَزِيزًا، وَيَستَقبِلُونَ مَوسِمًا كَرِيمًا، ضَيفٌ طَالَمَا أَكرَمَهُ مُوَفَّقُونَ فَرَبِحُوا وَفَازُوا، وَمَوسِمٌ طالَمَا أَسَاءَ فِيهِ آخَرُونَ فَخَسِرُوا وَخَابُوا.
رَمَضَانُ في قَلبِي هَمَاهِمُ نَشوَةٍ مِن قَبلِ رُؤيَةِ وَجهِكَ الوَضَّاءِ
وَعَلى فَمِي طَعْمٌ أُحِسُّ بِأَنَّهُ مِن طَعمِ تِلك الْجَنَّةِ الْخَضرَاءِ
قَالُوا: بِأَنَّكَ قَادِمٌ فَتَهَلَّلَتْ بِالبِشرِ أَوجُهُنَا وَبِالْخُيَلاءِ
تَهفُو إِلَيهِ وَفي القُلُوبِ وَفي النُّهَى شَوقٌ لِمَقدِمِهِ وَحُسنُ رَجَاءِ
بِأَيِّ شَيءٍ نَستَقبِلُ رَمَضَانَ؟ وَبِأَيِّ عُدَّةٍ نَتَجَهَّزُ لِرَمَضَانَ؟ أَبِشِرَاءِ أَنوَاعِ العَصَائِرِ وَالمَشرُوبَاتِ؟! أَبِتَوفِيرِ أَصنَافِ المَأكُولاتِ وَالمُقَبِّلاتِ؟! أَبِتَجهِيزِ المَطَابِخِ وَصَالاتِ الطَّعَامِ؟! أَبِأَخذِ إِجَازَةٍ مِنَ العَمَلِ وَالتَّفَرُّغِ لِلنَّومِ؟! إِنْ كان كُلُّ هَذَا لِلتَّقوِّي عَلَى طَاعَةِ اللهِ فَحُبًّا وَكَرَامَةً، وَأَمَّا إِنْ كان المَقصُودُ مَلءَ البُطُونِ وَتَبرِيدَ حَرَارَةِ الجُوعِ أَو اتِّبَاعَ الشَّرَهِ وَإِطفَاءَ نَارِ الشَّهوَةِ وَالاستِسلامَ لِلكَسَلِ وَالرُّكُونَ لِلخُمُولِ فَبِئسَ الاستِعدَادُ وَلا حَبَّذَا ذَاكَ الاستِقبَالُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ اللهَ تعالى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ قَد أَنعَمَ عَلَينَا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ لا تُحصَى، إِلاَّ أَنَّ أَكبرَ تِلكَ النِّعَمِ وَأَجَلَّهَا وَأَشرَفَهَا أَنْ جَعَلَنَا عِبَادًا مُسلِمِينَ مِن أُمَّةِ خَيرِ المُرسَلِينَ، قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ.
وَمِمَّا زَادَني شَرَفًا وَتِيهًا وَكِدتُ بِأَخمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولي تَحتَ قَولِكَ يَا عِبَادِي وَأَنْ صَيَّرتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا
ثم إِنَّ مِن تَمَامِ نِعمَتِهِ سُبحَانَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَّا أَن وَفَّقَهُم لِطَاعَتِهِ وَمَرضَاتِهِ، وَبَعَثَ نُفُوسَهُم لِحُبِّ الخَيرِ وَالتَّزَوُّدِ مِنَ التَّقوَى، فَنَسأَلُهُ بِرَحمَتِهِ أَن يَجعَلَنَا مِنهُم، وَأَن يُوَفِّقَنَا لِبُلُوغِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَالمَوسِمِ العَظِيمِ وَنَحنُ في صِحَّةٍ وَأَمنٍ وَإِيمَانٍ، فَكَم وَاللهِ مِن نَفسٍ سَتُختَرَمُ قَبلَ دُخُولِهِ! وَكَم مِن أُخرَى لَن تَقدِرَ فِيهِ عَلَى صِيَامٍ وَلا قِيَامٍ إِمَّا لِمَرَضٍ أَو عَدَمِ تَوفِيقٍ! وَمِن هُنَا فَإِنَّهُ يَجِبُ على المُسلِمُ أَن يَسأَلَ اللهَ أَن يُثَبِّتَهُ على دِينِهِ وَيَزِيدَهُ شُكرًا لَهُ وَذِكرًا، وَأَن يُبَلِّغَهُ شَهرَ رَمَضَانَ سَلِيمًا مُعَافى، فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَحمَدِ اللهَ وَلْيَشكُرْهُ وَلْيُثنِ عَلَيهِ بِمَا هُوَ أَهلُهُ، فَهُوَ سُبحَانَهُ وَحدَهُ المُنعِمُ المُتَفَضِّلُ، وَهُوَ القَائِلُ: وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ.
وَمِمَّا يُستَقبَلُ بِهِ رَمَضَانُ أَن نَعرِفَ مَا هُوَ وَمَا فَضلُهُ، ثم نَحرِصَ على أَن لاَّ يَفُوتَنَا بَابٌ مِن أَبوَابِ الخَيرِ فِيهِ إِلاَّ وَقَد وَلَجنَاهُ وَأَخَذنَا مِنهُ بِنَصِيبٍ وَلَو كَانَ قَلِيلاً، فَفِي رَمَضَانَ أَبوَابُ الجِنَانِ مُفَتَّحَةٌ، وَأَبوَابُ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، وَالشَّيَاطِينُ مُصَفَّدَةٌ، وَالمَرَدَةُ مُسَلسَلَةٌ، وَفِيهِ صَومٌ وَتَرَاوِيحٌ وَقِيَامٌ، وَصَدَقَةٌ وَإِحسَانٌ وَإِطعَامُ، وَتِلاوَةٌ وَعُمرَةٌ وَتَفطِيرٌ، وَتَسبِيحٌ وَتَهلِيلٌ وَتَكبِيرٌ، وَذِكرٌ وَشُكرٌ وَدُعَاءٌ، وَابتِهَالٌ وَمُنَاجَاةٌ وَدَعوَةٌ، وَبِالجُملَةِ فَهُوَ شَهرُ مُرِيدِي الخَيرِ، حَيثُ وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ ((يُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيرِ أَقبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقصِرْ)) ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ أَن يَنوِيَ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ لِعَمَلِ الخَيرِ فِيهِ قَبلَ دُخُولِهِ، وَأَن يَحذَرَ مِن حَالِ بَعضِ المُتَمَلمِلِينَ فِيهِ، ممَّن إِذَا أَقبَلَ رَمَضَانُ أَقبَلَ غَمُّ أَحَدِهِم وَزَادَ هَمُّهُ؛ لأَنَّهُ لا يَرَى فِيهِ أَكثَرَ مِن كَونِهِ حِرمَانًا لَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَحَائِلاً بَينَهُ وَبَينَ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ، فَهُوَ يَنتَظِرُ خُرُوجَهُ بِفَارِغِ الصَّبرِ لِيَنطَلِقَ بِلا رَادِعٍ وَلا قَيدٍ؛ وَلِذَا لا يُوَفَّقُ فِيهِ إِلى كَثِيرِ خَيرٍ وَلا إِلى مَزِيدِ طَاعَةٍ. أَمَّا مَن نَوَى فِيهِ الخَيرَ وَعَزَمَ عَلَيهِ قَبلَ دُخُولِهِ فَإِنَّ اللهَ لا يُخَيِّبُهُ وَلا يَتَخَلَّى عَنهُ، بَل هُوَ حَرِيٌّ بِالتَّوفِيقِ وَالتَّسدِيدِ وَتَيسِيرِ أُمُورِهِ وَتَسهِيلِ الطَّاعَاتِ عَلَيهِ، وَاقرَؤُوا إِن شِئتُم قَولَهُ سُبحَانَهُ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى.
أَلا فَمَا أَحسَنَ عَاقِبَةَ الصِّدقِ مَعَ اللهِ! وَوَاللهِ، مَا مِن عَبدٍ يَطًَّلِعُ اللهُ عَلى قَلبِهِ فَيَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ الفَوزَ في رَمَضَانَ بِصِدقٍ إِلاَّ أَعطَاهُ اللهُ مُرَادَهُ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلا أَكرَمُ مِن أَن يَرُدَّ مَن أَقبَلَ عَلَيهِ، وَهُوَ القَائِلُ كَمَا في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((إِذَا تَقَرَّبَ العَبدُ إِليَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ مِنهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَاني يَمشِي أَتَيتُهُ هَروَلَةً)) ، وَفي المُقَابِلِ فَإِنَّهُ مَا مِن عَبدٍ يَطَّلِعُ اللهُ عَلَى قَلبِهِ فَيَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ في رَمَضَانَ عَبَّ الشَّهَوَاتِ وَاقتِرَافَ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ لم يُبَالِ اللهُ بِهِ في أَيِّ وَادٍ هَلَكَ.
فَالصِّدقَ الصِّدقَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، فَعَلَى قَدرِ الصِّدقِ يَكُونُ الفَوزُ، قال سُبحَانَهُ: فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ، وَمَا الصِّدقُ ـ وَرَبِّي ـ هَمٌّ دُونَ عَمَلٍ، وَلا هُوَ تَمَنٍّ دُونَ فِعلٍ، وَإِنما هُوَ نِيَّةٌ جَازِمَةٌ وَقَصدٌ وَرَغبَةٌ، وَحِرصٌ عَلَى أَخذِ الأُهبَةِ وَالعُدَّةِ، وَقَولٌ سَدِيدٌ وَعَمَلٌ صَالحٌ، قال تعالى: وَلَو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً.
وَلِقَائِلٍ أَن يَقُولَ: وَمَا عِدَّةُ رَمَضَانَ؟! فَنَقُولُ: إِنها تَكُونُ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ بِتَخلِيَةِ النَّفسِ مِنَ الشُّرُورِ وَتَنقِيَةِ القَلبِ مِنَ الآفَاتِ، وَالتَّطَهُّرِ مِنَ المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَالحَذَرِ مِنَ المَوَانِعِ وَالقَوَاطِعِ، وَدَفعِ الصَّوَارِفِ وَالشَّوَاغِلِ التي تَحُولُ بَينَ العَبدِ وَبَينَ رَحمَةِ اللهِ، وَتَمنَعُهُ مِنَ السَّعيِ في طَاعَةِ اللهِ، وَتُثَبِّطُهُ عَن طَلَبِ مَا عِندَ اللهِ.
وَمِن أَعظَمِ تِلكَ الآفَاتِ الشِّركُ كَبِيرُهُ وَصَغِيرُهُ، وَالرِّيَاءُ وَطَلَبُ السُّمعَةِ، وَابتِغَاءُ غَيرِ اللهِ في العَمَلِ وَالطَّاعَةِ، قال سُبحَانَهُ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وقال جَلَّ وَعَلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحبَْطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا. وَإِنَّ مِنَ الشِّركِ التَّوَكُّلَ عَلَى غَيرِ اللهِ أَوِ اللُّجُوءَ إِلى سِوَاهُ في جَلبِ نَفعٍ أَو دَفعِ ضُرٍّ، وَمِن ذَلِكَ في وَقتِنَا الحَاضِرِ الذَّهَابُ إِلى السَّحَرَةِ وَالمُشَعوِذِينَ وَالكَهَنَةِ طَلَبًا لِلعِلاجِ، أَو لِبسُ التَّمَائِمِ وَالحُرُوزِ دَفعًا لِلعَينِ وَالحَسَدِ.
وَمِن تِلكَ الآفَاتِ التي يَجِبُ الحَذرُ مِنهَا وَالاستِعدَادُ لِرَمَضَانَ بِالتَّخَلُّصِ مِنهَا الحَسَدُ وَالبَغضَاءُ وَالشَّحنَاءُ وَأَكلُ الحَرَامِ والتَّهَاوُنُ بالرِّبَا، وَالأَحَادِيثُ الوَارِدَةُ في ذَمِّ كُلِّ ذَلِكَ مَشهُورَةٌ مَعرُوفَةٌ، قَالَ : ((تُفتَحُ أَبوَابُ الجَنَّةِ يَومَ الاثنَينِ وَيَومَ الخَمِيسِ، فَيُغفَرُ لِكُلِّ عَبدٍ لا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَت بَينَهُ وَبَينَ أَخِيهِ شَحنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنظِرُوا هَذَينِ حتى يَصطَلِحَا، أَنظِرُوا هَذَينِ حتى يَصطَلِحَا، أَنظِرُوا هَذَينِ حتى يَصطَلِحَا)) ، وَالحَدِيثُ عَامٌّ في رَمَضَانَ وَغَيرِهِ، وَقَالَ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((أَلا أُخبِرُكُم بِأَفضَلَ مِن دَرَجَةٍ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟)) قَالُوا: بَلَى، قال: ((إِصلاحُ ذَاتِ البَينِ، وَفَسَادُ ذَاتِ البَينِ هِيَ الحَالِقَةُ)) ، أَيْ: حَالِقَةُ الدِّينِ وَمُحبِطَةُ العَمَلِ، وَذَكَرَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشعَثَ أَغبَرَ يَمُدُّ يَدَيهِ إِلى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذيَ بِالحَرَامِ: ((فَأَنَّى يُستَجَابُ لِذَلِكَ)).
وَممَّا يَجِبُ الحَذَرُ مِنهُ الكَسَلُ وَالخُمُولُ وَالتَّسوِيفُ وَالتَّأجِيلُ، وَأَن يَستَحوِذَ الشَّيطَانُ عَلَى العَبدِ فَيُقعِدَهُ عَن شُهُودِ الجُمُعَةِ أَوِ الجَمَاعَةِ، أَو يُؤَخِّرَهُ وَيُفَوِّتَ عَلَيهِ تَكبِيرَةَ الإِحرَامِ مَعَ الإِمَامِ، أَو يَجعَلَهُ في حِزبِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِم: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُم ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَقَد وَصَفَ اللهُ أَنبِيَاءَهُ بِقَولِهِ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ، وَوَصَفَ أَولِيَاءَهُ بأنَّهُم يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِالمُسَابَقَةِ وَالمُسَارَعَةِ وَاستِبَاقِ الخَيرَاتِ وَالتَّنَافُسِ.
وممَّا يُستَقبَلُ بِهِ شَهرُ رَمَضَانَ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ التَّوبَةُ النَّصُوحُ إِلى اللهِ مِن جَمِيعِ الذُّنُوبِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، فَتِلكَ وَظِيفَةُ العُمُرِ، وَهِيَ قَبلَ مَوَاسِمِ الخَيرِ آكَدُ وَأَوجَبُ، قال سُبحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلِى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ، وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَمَّا مَن عَزَمَ عَلَى الإِصرَارِ عَلَى ذُنُوبِهِ في الشَّهرِ الكَرِيمِ وَرَكِبَ رَأسَهُ وَأَدبَرَ وَاستَكبَرَ فَلْيَحذَر مِن قَولِهِ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
فَيَا مَن عَصَى اللهَ وَأَسرَفَ وَأَغرَقَ، وَغَرَّبَ في المُخَالَفَاتِ وَشَرَّقَ، وَكُلُّنَا ذَاكَ الرَّجُلُ،
يَا ذَا الَّذِي مَا كَفَاهُ الذَّنبُ في رَجَبٍ حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهرِ شَعبَانِ
لَقَد أَظَلَّكَ شَهرُ الصَّومِ بَعدَهُمَا فَلا تُصَيِّرْهُ أَيضًا شَهرَ عِصيَانِ
وَأَخِيرًا، أَيُّهَا الأَخُ الحَبِيبُ، اسأَلْ نَفسَكَ: كَيفَ كَانَ رَمَضَانُكَ المَاضِي؟ اِسأَلْ نَفسَكَ وَحَاسِبْهَا، وَتَفَكَّرْ في وَضعِكَ وَتَأَمَّلْ حَالَكَ، وَاجعَلْ إِجَابَتَكَ بِمُضَاعَفَةِ الجُهدِ وَالزِّيَادَةِ في صَالحِ العَمَلِ، وَبِالعَزمِ عَلَى أَن تَكُونَ في رَمَضَانَ هَذَا العَامَ إِن أَدرَكتَهُ خَيرًا ممَّا مَضَى، فَإِنَّ خَيرَ النَّاسِ مَنِ ازدَادَ بِطُولِ العُمُرِ حُسنًا في العَمَلِ، وَقَد سَأَلَ رَجُلٌ النَّبيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قَالَ: ((مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)) ، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: ((مَن طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)). وَإِنَّ ممَّا يُشَجِّعُ المُؤمِنَ عَلَى حُسنِ العَمَلِ أَن يَحرِصَ عَلَى تَعَلُّمِ العِلمِ الشَّرعِيِّ، وَأَن يَتَفَقَّهَ في أَحكَامِ عِبَادَاتِهِ، وَأَن يَنظُرَ في هَديِ النَّبيِّ وَحَالِ السَّلَفِ مِن بَعدِهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ ، وَقَالَ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَمَعَ أَنَّ مِن خَصَائِصِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُصَفَّدُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ وتُغَلُّ وَتُسَلسَلُ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ نُفُوسًا شِرِّيرَةً قَد تَشَرَّبَتِ البَاطِلَ وَتَأَصَّلَ فِيهَا الشَّرُّ، وَاستَمرَأَتِ الفَسَادَ وَأَسلَمَت لِلشَّيطَانِ القِيَادَ، فَأَبعَدَهَا عَن كُلِّ فَضِيلَةٍ وَخَيرٍ، وَحَرَمَهَا مَن كُلِّ إِحسَانٍ وَبِرٍّ، وَسَاقَهَا إِلى كُلِّ رَذِيلَةٍ وَشَرٍّ، فَلَم تَعرِفْ لِهَذَا الشَّهرِ حُرمَةً وَلا فَضَلاً، وَلم تُقَدِّرَ لَهُ مَكَانَةً وَلا رَوحَانِيَّةً، وَلم تُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ ولم تَرجُ للهِ وَقَارًا! بَلْ وَصَلَ الحَالُ بِبَعضِهِم إِلى أَن صَارَ أَسبَقَ مِنَ الشَّيطَانِ إِلى الشَّرِّ وَالإِفسَادِ، كَمَا قَالَ قَائِلُهُم:
وَكُنتُ امرَأً مِن جُندِ إِبلِيسَ فَارتَقَى بِيَ الحَالُ حَتى صَارَ إِبلِيسُ مِن جُندِي
وَفي هَؤُلاءِ وَأَمثَالِهِم يَقُولُ الحَقُّ تبارك وتعالى: ذَرْهُم يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، وَيَقُولُ تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى. وَإِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ كَمَا يُرَى في إِعلانَاتِهِم وَدِعَايَاتِهِم في القَنَوَاتِ في هَذِهِ الأَيَّامِ يَعِدُونَ المُسلِمِينَ بِأَن يُحبِطُوا أَعمَالَهُم أَو يُنقِصُوا أَجرَهَا أَو يُذهِبُوا ثَوابَهَا، فَيَكُونُوا كَالتي نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا، وَيَخرُجُوا مِن شَهرِهِم كَمَا دَخَلُوهُ بِلا زَادٍ لأُخرَاهُم وَلا استِعدَادٍ لِمَثوَاهُم، مُسَلسَلاتٌ فِيهَا الاستِهزاءُ بِشَعَائِرِ الدِّينِ، وَأُخرَى فِيهَا التَّهَكُّمُ بِالمُسلِمِينَ المُحَافِظِينَ، وَثَالِثَةٌ ظَاهِرُهَا الضَّحِكُ وَالهَزلُ وَهِيَ شَرٌّ وَبَلاءٌ وَفِتنَةٌ، وَدَعوَةٌ إِلى التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ وَالاختِلاطِ، وَتَزيِينٌ لِلتَّحَرُّرِ مِن رِبقَةِ الدِّينِ وَالانفِكَاكِ مِن قُيُودِ الأَخلاقِ. أَلا فَرَحِمَ اللهُ امرَأً استَقبَلَ شَهرَهُ بِالتَّوبَةِ النَّصوحِ إِلى اللهِ، وَعَزَمَ مِنَ الآنَ عَلَى إِخراجِ قَنَوَاتِ الشَّرِّ مِن بَيتِهِ، قَبلَ أَن يَفجَأَهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ وَهُوَ لِرَبِّهِ عَاصٍ وَبِدِينِهِ مُتَهَاوُنٌ وَلِمَن يُحارِبُونَهُ مُسَالِمٌ.
يَا إِخوَةَ الإِيمَانِ، يَا مَن أَنتُم عَلَى تِلكَ القَنَوَاتِ عَاكِفُونَ وَعَلَى مُتَابَعَتِهَا عَازِمُونَ وَفي أَمرِ إِخرَاجِهَا مُتَرَدِّدُونَ، كَيفَ تُرِيدُونَ الفَوزَ وَالرِّبحَ في رَمَضَانَ وَأَنتُم تَجلِسُونَ مَعَ مَن بِآيَاتِ رَبِّكُم يَستَهزِئُونَ وَلِكَذِبِهِم تَستَمِعُونَ وَبِهِ تَستَمتِعُونَ؟! أَلَم تَسمَعُوا إِلى مَا نَزَّلَ رَبُّكُم عَلَيكُم؟! يَقُولَ سُبحَانَهُ: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُم إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا. إِنَّ شَرَّ هَذِهِ القَنَوَاتِ وَأَثَرَهَا السَّيِّئَ لم يَعُدْ خَافِيًا وَلا مَجهُولاً، وَالاستِهزَاءَ فِيهَا بِالدِّينِ وَمُحَارَبَةَ أَهلِهِ وَأَتبَاعِهِ صَارَ عَلَنًا، وَمُضَادَّةَ الحَقِّ وَالتَّشكِيكَ فِيهِ لم يَعُدْ سِرًّا فَيُطوَى، فَمَنِ الذِي يُرِيدُ بَعدَ هَذَا أَن يَجتَمِعَ بِهَؤُلاءِ في النَّارِ؟! مَن هَذَا الَّذِي يَرضَى لِنَفسِهِ بِالهَلاكِ وَالخَسَارِ وَالبَوَارِ؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. إِنَّ تَركَ هَذِهِ القَنَوَاتِ في البُيُوتِ وَالرِّضَا بِمُشَاهَدَةِ الأَهلِ وَالأَولادِ لها وَالحَالُ مَا ذُكِرَ يُعَدُّ مِن أَعظَمِ الغِشِّ لهم، وَالنَّبيُّ يَقُولُ: ((مَا مِن عَبدٍ يَستَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)).
(1/5445)
فضل العلم واستقبال رمضان
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
25/8/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم النافع طريق إلى الجنة. 2- آيات من كتاب الله في فضل العلم. 3- فضل العلم في السنة المطهرة. 4- تفاني السلف في طلب العلم. 5- استقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عِبادَ الله، إنّه إِذا كانَ العِلمُ لَدَى كَثيرٍ منَ النّاسِ قِوامَ الحياة وأساسَ النّهضَات وعِمادَ الحضاراتِ ووَسِيلةَ التقدّم للأفرادِ والجَمَاعاتِ فإنّه لدَى أُولي الأَلبابِ مِن عِبادِ الرحمن فوقَ ذلك كلِّه؛ طَريقٌ يُسهِّل الله به دُخولَ الجنَّة والحظوةِ فيها بِالنّعيم المقيم الذي لا يَنفَدُ ولا يَبِيد، كما بَيَّن ذلك وأَرشدَ إليه رسولُ الهُدى صلوات الله وسلامُه عليه بِقولِه: ((ومَن سَلَكَ طريقًا يَلتمِس فيه عِلمًا سهَّل الله له بِه طريقًا إلى الجنّة)) الحديث أخرجَه مسلم في صحيحه وأصحاب السنَن عن أبي هريرة رضي الله عنه [1].
فَهو بِذَلك سبَبُ السَّعادة في الحياة الدّنيا وفي الآخرة؛ لأنَّه كما قال مُعاذُ بنُ جبل رضي الله عنه: (مَعَالم الحلال والحرامِ ومَنَارُ سبُلِ أهلِ الجنّة، وهو الأنيسُ في الوَحشَة والصّاحِب في الغُربَة والمحدِّث في الخَلوَة والدّليلُ على السّرّاء والضَّرَّاء والسّلاحُ عَلَى الأعداءِ والزَّين عندَ الأخلاّء، يرفَع الله به أَقوامًا فيَجعَلُهم في الخيرِ قَادَةً تُقتَصُّ آثارُهم ويُقتَدَى بفِعالهم ويُنتَهَى إِلى رَأيِهم؛ لأنَّ العِلمَ حَياةُ القلوبِ من الجَهلِ ومَصَابيح الأَبصارِ من الظُّلَم، يَبلغ العبدُ بالعِلم منازلَ الأخيار والدَّرجاتِ العُلى في الدّنيا والآخِرَة، بِه تُوصَلُ الأرحَامُ، وبه يُعرَفُ الحَلالُ من الحَرامِ، وهو إِمامُ العمَل، والعَمَل تابِعُه، يُلهَمُه السّعداءُ، ويُحرَمُه الأشقياء) انتَهَى كلامه رضي الله عنه [2].
ولِذا فَليسَ عَجبًا أن تَكونَ أوّل آيةٍ نَزَلَت من كتابِ الله تعالى دعوةً إلى التّعَلُّم وتَعظيمًا لشَأنِ المعرفةِ وتنويهًا بقيمةِ القَلَم والقِراءَة؛ لأنهما طَريقُ الوُصولِ إليه ووَسيلَة النّهلِ من مَعِينِه، حيثُ قال سُبحَانَه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]، وأن يُنَهوِّهَ سبحانه بفضلِ العلمِ وأهلِه ورِفعةِ منزلتِهم وعُلوِّ كَعبِهِم وشَرفِ مقامِهم وأن يَنفِيَ المسَاواةَ بَينَهم وبين غَيرهم حيث قال عزَّ اسمُه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 9]، وأَن يجعَلَ للعلماءِ مَقامَ الخشيةِ الحقَّة مِنه؛ لأنّ العلمَ أرشَدَهم إلى كَمالِ قُدرتِه وعَظيمِ قوّتِه وبَديعِ صِفاته، فزادَهم ذلِك هيبةً منه وإجلاَلاً له، فقالَ عزّ مِن قائل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، وَأَن يُشبِّهَ العالمَ بالبَصِير والجاهلَ بالأعمَى والأصمِّ، وأن يُشبِّه كَذَلك العلمَ والإيمان بالنّور والجهلَ والكفرَ بالظُّلُمات، وأن يَنفِيَ المساوَاةَ بَينَهما كَمَا تَنتَفِي المساواةُ بين الظِّلِّ والحَرورِ الذي يُتَضَرَّرُ بِهِ، وكَمَا لا يَستَوِي الأحياءُ بنورِ العِلمِ والإيمان ولاَ الأمواتُ الذين نَسُوا الله وأعرَضوا عن نورِه، فأمَاتَ قلوبَهم، فهِي لِذَلك لا تَتَأثَّر بموعِظَةٍ ولا تستَجيبُ لداعي الهُدَى، فقالَ عزَّ وجَلَّ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود: 24]، وقالَ سُبحَانَه: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: 19-22]، وأَن يَقرِنَ ذِكرَ أهلِ العِلمِ بِذِكر الملائكةِ في شَهَادتهم بالوَحدَانيّة لله تعالى باستِيقَانِهم أنّه لا مَعبودَ بحقٍّ إلاَّ الله، فَعَبَدوه حقَّ العبادةِ، ونفَوا عنه الشُّرَكاءَ، فقال جَلَّ وعَلاَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18].
وفي سُنّةِ رَسُولِ اللهِ ـ يَا عِبادَ الله ـ مَا لاَ يَكادُ يستوعِبه الحَصر، فمِن ذلكَ ما أخرجَه الترمذيّ في جامعه بإسنادٍ صَحيح عن أبي أمامةَ الباهِليّ رضي الله عنه أنه قال: ذُكِرَ لِرسولِ الله رَجلان: أحدهما عابِدٌ والآخر عالِم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فضلُ العالمِ على العابِدِ كفضلِي على أَدنَاكُم)) ، ثم قالَ رَسولُ الله : ((إنَّ اللهَ وملائكتَه وأهلَ السموات والأَرضِ حتى النَّملَة في جُحرِها وحتى الحوتَ لَيُصَلّون على مُعلّمِ الناس الخير)) [3].
وإنّه لَفَضلٌ ـ يَا عِبادَ الله ـ قَد بلَغ الغايَةَ، ولِم لاَ يَكونُ كَذَلِك وقد بَيَّن رسولُ الله أنَّ العُلَماء هم ورَثةُ الأنبياءِ حقًّا، لأنّ الميراثَ الذي تَرَكَه الأنبياءُ هو العِلم، فقال عليه الصلاةُ والسَّلام: ((من سَلك طريقًا يلتمِس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنّة، وإنّ الملائكةَ لتَضَع أجنِحَتَها لطالبِ العِلم رِضًا بما يَصنَع، وإنَّ العالم ليَستغفِر له من في السموات ومن في الأرض والحيتانُ في جوفِ الماء، وإن فضلَ العالم على العابِد كَفَضلِ القمر لَيلةَ البدرِ عَلَى سائرِ الكَواكِب، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنّ الأنبياءَ لم يوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا، وإنما ورَّثوا العِلمَ، فمن أخذه أخذَ بحظٍّ وافر)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم وابن حبان في صحيحه والبيهقيّ في شعَب الإيمان بإسنادٍ حسن [4].
وأَخرجَ الطبرانيّ في معجَمه الأوسَط بإسنادٍ حسن عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه أنّه مرَّ بِسوق المدينةِ فَوقَف عليها فقال: يَا أهلَ السّوق، ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟! قال رضي الله عنه: ذاك ميراثُ رَسول الله يُقسَم وأنتم ها هُنا! ألا تَذهَبون فتأخذون نصيبَكم مِنه؟! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجِد، فخرجوا سِراعًا ووَقَف لهم حتى رَجَعوا، فقال لهم: مَا لكم؟ قالوا: يا أبا هرَيرَةَ، قد أتَينَا المسجدَ فدَخَلنا فيه فلَم نرَ فيهِ شَيئًا يُقسَم، قال أبو هريرةَ: ومَا رأيتم في المسجد أحدًا؟! قالوا: بلَى، رأينا قومًا يُصلّون وقَومًا يَقرؤون القرآنَ وقومًا يتذاكَرون الحلالَ والحرام، فقال أبو هريرةَ رضي الله عنه: ويحكم! فذاك مِيراثُ محمَّد [5].
وأَخبر علَيه الصلاةُ والسّلام أنَّ العلم النافِع هو أحدُ ثَلاثِ خصالٍ يستمِرّ ثوابُها موصولاً لِصاحبِهِ فَلاَ يَنقَطِع بموته، فقال: ((إذا مات ابن آدَم انقطَعَ عَملُه إلا من ثلاث: صَدقةٍ جارية أو عِلم يُنتَفَع به أو وَلدٍ صالح يدعو له)) أخرَجَه مسلم في صحيحه [6] ، إلى غَير ذَلِك من نُصوصِ الوَحيَين الدالّةِ على فضلِ العِلم وأهلِه وشَرَفِ منازلهم وكَريمِ مآلهم؛ ممّا كانَ لَه أَعظمُ الآثارِ وأعمَقها في نفوسِ السّلَفِ الصّالح رضوان الله عليهم، فهذا الإمامُ محمّد بنُ شهاب الزّهريّ يقول: "لأَن أجلِس ساعةً فأتفقَّه أحَبُّ إليَّ من أن أُحيِيَ ليلةً إلى الصَّباح" [7] ، ويقول مصعب بن الزّبير رحمه الله لابنِه: "تعلَّم العلمَ، فإن كانَ لك مالٌ كان لك جمالاً، وإِن لم يكن لك مَالٌ كان لك مَالاً" [8] ، ويقول عبد الملك بنُ مَروان رحمَه الله لبَنِيه: "با بَنيَّ، تعلَّموا العِلم، فإن كُنتُم سَادَةً فُقتُم، وإن كُنتُم أَوساطًا سُدتُم، وإن كنتم سوقةً عِشتم" [9].
أَفَلا يجدُر إذًا بِكلّ طالبِ عِلم وبكلِّ آخِذٍ منه بطرَف وبِكلِّ ضَارِبٍ فيه بِسَهم أن يكونَ له في الإقبالِ عَلَيه عَزمٌ مَاضٍ لا ينثَني، وأن تَكونَ له في طلَبه وفي الاشتِغَال به نيّةٌ خالصةٌ ومَقصود حَسَن؛ بأن يبتَغِي به وَجهَ ربِّه الأعلى، لا لِيُصيبَ به عرضًا من الدّنيَا، ولا ليباهِيَ به العلماءَ أو يُمارِيَ به السّفهاء أو لِيَصرِفَ به وجوهَ الناس، وأن يذكرَ أنه إذا كانَ المؤمن القويُّ خيرًا وأحَبَّ إلى الله من المؤمِنِ الضّعيفِ فإنَّ من القوّةِ المحبوبة عند الله تعالى قوّةَ المسلِم في عِلمِه وعمَلِه، تلك المُتَمَثِّلةَ في كَمَال المحبّةِ لهذا العِلم ودَوامِ المدارسةِ له والاستِكثارِ مِن البَحث في دقائقِه والكَشفِ عن غوامِضه والاستِعانة على التّمَكُّن من أزمَّتِه بالعمَلِ به وتَعليمه. ولا ريبَ أنّ قوّةَ المسلم ـ يا عبادَ الله ـ هِيَ قوّةٌ لأمّته، وأنّ كلَّ ما يُحرِزه مِن تَفَوّق أو يصيبه من نجاحٍ أو يبلُغُه من توفيقٍ عائدٌ أثرُه عليها لا محالَةَ.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على العِنايةِ بهذا العلم وبذلِ أسبابِ التمكُّن منه ورِعايةِ حقِّه بالإخلاصِ لله تعالى في طَلَبِه وتحمُّله وفي تعلّمِه وإشاعَتِه وبالعمَل بما يَقتَضيه، فإنَّ العِلمَ هو ثمرة العمَل وعِمادُ الانتِفاع به ومبَعَث الرّفعةِ التي ذَكَرَها الله بقوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11].
نَفَعَني الله وإيّاكم بهَديِ كتابِه وبِسُنَّة نَبيِّه ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجَليلَ لي ولَكم ولِسائِر المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغَفورُ الرّحِيمُ.
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2699)، سنن أبي داود: كتاب العلم (3643)، سنن الترمذي: كتاب العلم (2646)، سنن ابن ماجه: المقدمة (225).
[2] رواه أبو نعيم في الحلية (1/239).
[3] سنن الترمذي: كتاب العلم (2685) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (8/234)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/124) وقال: "فيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد"، والحديث في صحيح الترغيب (81).
[4] سنن أبي داود: كتاب العلم (3641)، سنن الترمذي: كتاب العلم (2682)، سنن ابن ماجه: المقدمة (223)، صحيح ابن حبان (88)، شعب الإيمان (2/262، 263) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ورواه أحمد (5/196)، وحسنه ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/254)، وهو في صحيح الترغيب (70).
[5] رواه الطبراني في الأوسط (1429)، قال المنذري في الترغيب (1/58) والهيثمي في المجمع (1/124): "إسناده حسن"، وهو في صحيح الترغيب (83).
[6] صحيح مسلم: كتاب الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] إنما روي هذا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه وليس من كلام الزهري، أخرجه الدارقطني (3/79)، والقضاعي في مسند الشهاب (206)، والبيهقي في الشعب (2/266)، وأشار المنذري إلى ضعفه (1/58)، وفي سنده يزيد بن عياض وهو كذاب، وانظر: ضعيف الترغيب (67).
[8] انظر: إحياء علوم الدين (1/8)، ونشر طي التعريف (163).
[9] انظر: نشر طي التعريف (179).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ الكَريمَ المنّانِ، مُجزِلِ العَطَايا قَدِيم الإحسانِ، أحمدُه سُبحانَه شَرَّف هذه الأمّةَ وخَصَّها بِصيَامِ شهرِ رَمضَان، وأشهَد أَن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريكَ له، وأَشهَد أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُ اللهِ ورَسولُه، خير من صلّى وصام وقامَ لِعبادةِ ربّه الرَّحيم الرَّحمن، اللّهمّ صلّ وسلّم على عَبدك ورسولِك محمّد، وعلى آله وصحبِه والتابعين ومَن تَبِعهم بإحسان.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
أيُّها المسلِمونَ، إنَّ جمالَ المناسَبةِ وَجَلالَها وَثِيقُ الصِّلَةِ بحُسنِ استِقبَالِها وكَمَالِ السّرور وَغَامِرِ السَّعادةِ بها، وإنَّ مِن أجملِ المناسَبَاتِ وأَجلِّها في حَياةِ المسلم مُناسبةَ هَذَا الشَّهرِ المبارَك رَمضَان الذي أكرَمَ الله الأمّةَ بِه وَجَعلَ صيامَه وقِيامَه واستِباقَ الخَيراتِ فيه مِن أعظَمِ أبوابِ الجنَّة دَارِ السلام ومِن أَرجَى أَسبابِ الرِّضا والرِّضوان.
وَحَرِيٌّ بأولي الأَلبَابِ وقَد أَظَلّهم زَمانُ هذا الشَّهرِ العظيمِ أن يُحسِنوا استِقبَالَه ويُكرِمُوا وِفادَتَه كَمَا يَفعَلونَ مَعَ أَكرَمِ ضَيفٍ وأَعظَمِ زَائِرٍ، فَلَيسَ استِقبالُه عِندَهم بالسَّعيِ إلى استِكمالِ كلِّ ما يُشتَهَى مِن أَلوانِ الطَّعامِ والشَّراب، ولا بِإِمضاءِ مُعظمِ ساعاتِ النّهار في نومٍ يَفِرّون به مِن رَهَق الحِرمَان، فإن كَانَ ثَمَّةَ عملٌ فبنَفَادِ صَبرٍ وضَجَرٍ وسُوءِ خُلُق، يُعبِّر عنه سِبابٌ مقذِع وطَعنٌ ولَعن بل وقذفٌ موجِبٌ للحدِّ أحيانًا، ولا بِتَهيئةِ السّبُل لمتابعةِ كلِّ ما يُبَثّ عبرَ الفضائيّات من بَرامجَ ومُسلسلاتٍ وغيرها ممّا لا يخلُو أكثرُه مِن كلِّ ما يُنقِص الأجرَ ويَعظمُ به الوزرُ ويشتدّ به الخسرانُ وتَعقُبُه الحسرَةُ وتورَث به النَّدامةُ حين يُسفِرُ الصّبح ويَستَبين مِقدارُ التفريط ويتَّضح مبلغُ التضيِيع، كما لا يخلُو أيضًا من بُعدٍ عنِ الإنصافِ وتحرِّي الحقّ ومِن إِشاعةِ الكّذِب وقَولِ الزّور، لا سيّما في فضائيّاتٍ لا يَشغَلُها سوى التَّجنِّي على هذه البلادِ والطّعن في عقيدتِها والإساءةِ إلى قيادتِها وعلمائها وأهلِها؛ بالأخبارِ الكاذبة حينًا، وبالتَّحليلات والتَّقارِير الجائرَة المتحيّزة وغيرِ الموضوعَةِ أحيانًا أُخَر، ولَيسَ استقبالُ رمضانَ أيضًا بالعَزمِ على قضاءِ ليالِيه في عَبَثٍ في الأسواقِ وإضاعةٍ للصَّلوات وإيذاءٍ للمؤمنين والمؤمِناتِ، وإنَّما هو التّشميرُ عن سَواعِدِ الجدّ في استِبَاقِ الخَيراتِ وعَقد العزمِ على اغتِنامِ فُرصَتِه بإلزَامِ النفسِ سُلوكَ الجادّةِ وبالسَّيرِ عَلَى نَهج الصَّفوةِ من عبادِ الله المقتدين بخير خلقِ الله محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه في صيامِه وقيامِه وسائر طاعاتِه وفي إخلاصه العملَ لله ابتغاءَ رِضوان الله.
ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على استِقبَالِ شَهرِكم بما يَلِيق به مِن جِدٍّ واجتِهادٍ وقَطعِ الصّلَةِ بماضِي الخطايَا والآثام ومُسارعةٍ إلى مَغفِرةٍ من ربِّكم وجنّةٍ عرضُها السماوات والأرض.
واذكُروا على الدَّوَام أنَّ الله تعالى قَد أمَرَكم بالصّلاة والسَّلامِ على خاتَمِ النبيّين وإمامِ المتّقين ورحمةِ الله للعالمِين، فقال سبحانه في الكِتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم عَلى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة...
(1/5446)
لهيب الأسعار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
3/8/1428
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصيبة ارتفاع الأسعار. 2- آثار الذنوب والمعاصي. 3- تفشي الإسراف في المجتمع. 4- فضل القناعة. 5- كلمة للتجار. 6- واجب ولاة الأمر. 7- مفاسد المغالاة في الأسعار. 8- المخرج من هذه المصيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، تتعدد المصائب وتتنوع البلايا مع تعاقب الأيام والليالي، ولكن تبقى مصيبة النفس والمال والعرض من أكبر المصائب التي يقف معها الحليم حيران.
أيها المسلمون، منذ أيام بل منذ أشهر ليست بالبعيدة اجتاح العالم الإسلامي ـ وليس بلادنا فقط ـ وحش جديد كشر عن أنيابه لافتراس الفقراء وألحق بهم الطبقة الوسطى من المجتمع، تلكم المصيبة ـ عباد الله ـ هي غلاء الأسعار.
ارتفعت أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية، ووصل جنون الأسعار إلى حليب الأطفال وأدوية المرضى، أما أسعار المساكن التي يأوى إليها الناس فقد وصلت إلى أرقام فلكية يصعب تصديقها ويعجز القادر عن مجاراتها، بل الجمعيات الخيرية التي تساعد الفقراء والمحتاجين تضررت من ظاهرة الغلاء المبالغ فيها حيث أثر ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في ميزانيتها المتواضعة التي كانت مهددة بعجزها أمام تغطية تكاليف معيشة الفقراء والمحتاجين الذين تكلفهم وترعاهم.
لقد كان الفقراء في الماضي هم الطبقة الأكثر تذمرًا وتمردًا من غلاء الأسعار لأنهم لم يمتلكوا ما يمكن من خلاله مسايرة تعقيدات وصعوبات الحياة، أما اليوم وفي ظل هذا الغلاء الفاحش والارتفاع اليومي للأسعار وتحول جميع السلع بما فيها السلع الترفيهية لسلع مدفوعة الثمن وخصخصة كافة الخدمات والتنافس بين الشركات العملاقة لاحتكار السلع بكافة أنواعها وتحولها لصراع اجتماعي اقتصادي ضحيتها المواطن العادي، فإننا ـ عباد الله ـ بحاجة إلى بعض الوقفات نلقي من خلالها الضوء على هذه المصيبة التي نسأل الله سبحانه أن يكشفها عن أمة محمد عاجلا غير آجل:
الوقفة الأولى:
أن نعلم ـ عباد الله ـ أن ما أصابنا إنما هو بسبب ذنوبنا، وإلا فالرحمن جل جلاله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]. إنها سنة الله تعالى الماضية في الأمم الغافلة المعرضة عن الله سبحانه المقصية لشرعه المنتهكة لحدوده، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43]. قال بعض السلف: جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة، قيل: وما التعسر في اللذة؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينقصها عليه.
إذا كنت فِي نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
الوقفة الثانية:
عباد الله، إن مما يعاب علينا في ظل تقلّبات أحوالنا الاقتصادية تفشّي الإسراف في حياتنا على كافة المستويات، حيث تحول الإسراف من سلوك فرديّ لدى بعض التجار والواجدين إلى ظاهرة عامة تجتاح الأمة كلّها، فالواجد يسرف، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات وما لا يحتاجون إليه، وهذا كلّه من إفرازات العولمة التي أقنَعت الناس بذلك عبر الدعاية والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.
أيها المسلمون، إن الناس إلا من رحم الله وقليل ما هم اعتادوا على مستوى من العيش فيه من السرف ما فيه؛ في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم، وكثير من متطلباتهم لا تصل إلى مستوى الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأكثرها من التحسينات والكماليات وما هو دونها مما يصل إلى حدّ الإسراف المذموم، وأضحى الواحد منهم يشكو من قلّة دخله ولو كان كثيرا، ومن كثرة مصروفاته ولو كان أكثرها ليس محتاجًا إليه.
كم حدَّث التاريخ ـ عباد الله ـ عن بيوت عامرة أسّسها آباء مقتدرون صارت إلى أبناء غلب عليهم الإسراف، فأفسدوا وأتلفوا ما ورث آباؤهم، ثم التحق أولئك بطبقات المعدمين الذين لا يجدون ما ينفقون، كم خربت ـ أيها المسلمون ـ بسبب الإسراف بيوت تحكمت فيها نساء وأشباه نساء في حليّ وحلل، يتكلّفون ما لا يطيقون، وينافسون على ما لا يقدرون، وتناسى أولئك أن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا.
عباد الله، إن الإسراف منهيّ عنه ومَعيب في كلّ شيء كما يقول عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى، وشاهد ذلك عموم قوله سبحانه: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141]، وقال : ((كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة)) رواه النسائي وابن ماجة. إن هذا التشديد في النهي عن السّرف ما كان إلا لأجل الحفاظ على الأموال والموارد التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، فهو يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
أيها المسلمون، إن مما يوصى به في ظل تفشّي غلاء الأسعار أن يلزم المرء القناعة وهي الاجتزاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها. إن الناس إذا قلّت القناعة فيهم ازداد التسخّط بينهم وافتقدوا الرضا بما رزَقهم الله، وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم.
لقد كان نبيكم يسأَل ربه أن يمنّ عليه بالقناعة فيقول عليه الصلاة والسلام: ((اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه)) أخرجه الحاكم، بل كان المصطفى يوصي أصحابه بالقناعة وعيش الكفاف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أبا هريرة، كن ورعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس)) أخرجه ابن ماجة.
عباد الله، من عمر قلبه بالقناعة نعم بالراحة، وعاش الحياة الطيبة، وأبشر بالعز والغنى، فسَّرَ علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم قوله سبحانه: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97] فقالوا: الحياة الطيبة هي القناعة، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه".
خذ القناعة من دنياك وارض بِها لو لَم يكن لك منها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجْمعها هل راح منها بغير القطن والكفن؟!
عبد الله، ليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه ومن هو أقل منه، إن كنت فقيرًا ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضًا ففيهم من هو أشد منك مرضًا، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك ولا تخفضه لتبصر من هو دونك؟!
إن الطريق ـ أيها المسلمون ـ للقناعة والرضا بما قسم الله هو في قوله : ((إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه)) ، وفي رواية لمسلم: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)).
وإليكم ـ عباد الله ـ نموذجًا عمليًّا لذلك، قال عون بن عبد الله بن عتبة: كنت أصحبُ الأغنياء، فما كان أحد أكثر همًّا مني، كنت أرى دابّة خيرًا من دابتي وثوبًا خيرًا من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت.
عباد الله، إن بين القناعة والسياسة الرّشيدة للاستهلاك علاقة وثيقة، تتمثل في عدم الاغترار بما تبثّه الشركات الإعلامية ودور التجارة ومراكزها من صور لما يحتاجه وما لا يحتاجه المستهلك. لقد أثبتت الدراسات أثَر الإعلام والإعلان على أنماط الاستهلاك وتزايد الشراء العشوائي لدى كثير من الأفراد والهوس التسوّقي لدى النساء خاصة، حيث يصوّر الإعلام مقتنيات السوق على أنها لذّة الحياة التي تتيح للإنسان التمتّع بالحياة بأرقى وسائل العيش والترفيه، ولقد ذكرت الإحصاءات أن ثلث ما يتمّ وضعه في عربة المشتريات هو من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها ويكون مصيرها غالبًا إلى سلة النفايات.
أيها المسلمون، إلى متى سيبقى بعض الناس عاجزًا عن تحديد الكمّيات المشتراة من الأغذية حسب حاجة الأفراد والأسرة الضرورية والفعلية؟! وإلى متى سنبقى عاجزين عن إدراك أن الزيادة عن الحاجة في المشتريات قد تتلف أثناء التخزين وتذهب فائدتها الفعلية؟! أبصر أبو الدرداء رضي الله عنه حبًا منثورًا في غرفته فقال: (إن من فقه الرجل رفقه في معيشته)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يقل شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد). يقول أحمد بن محمد البراثي: قال لي محمد بن بشر بن الحارث لما بلغه ما أنفق من تركة أبينا: قد غمني ما أنفق عليكم من هذا المال، ألا فعليكم بالرفق والاقتصاد في النفقة، فلأن تبيتوا جياعًا ولكم مال أعجب إليّ من أن تبيتوا شباعًا وليس لكم مال، ثم قال له: اقرأ على والدتك السلام وقل له: عليك بالرفق والاقتصاد في المعيشة.
الوقفة الثالثة:
عباد الله، إن دور التجار في هذه الأزمة التي تحيط بالمجتمع لا يخفى، فإما أن يكونوا معول هدم يزيد من معاناة الفقراء والمحتاجين، وإما أن يكونوا أداة بناء يسهمون في تخفيف الضراء عن المتضررين.
يا معشر التجار، يا معشر التجار، بهذا النداء رفع المصطفى صوته، فاشرأبت إليه أعناقهم استجابة لنداء النبي ، فقال لهم: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى وبر وصدق)).
إن أصدق الكسب ـ عباد الله ـ كسب التجار الذين إذا حدّثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وَعَدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يندموا، وإذا باعوا لم يخدعوا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا.
أيها المسلمون، هل يعلم التاجر الذي رفع أسعار بضاعته نهبًا وجشعًا بأنه يكاد يقتل أكثر من أسرة بالدَّين والهم والنكد؟! وهل يستشعر التاجر أن ضررَ إبقائه الأسعار بدون زيادة انخفاضُ أرباحه السنوية، أما زيادته في الأسعار فعاقبته المزيد من الديون والحرمان التي تكتوي بها العديد من الأسر ولا ناصر لهم ولا مغيث سوى الله وكفى به حسيبا؟!
معاشر التجار، أذكركم بحديث نبيكم : ((من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع)) رواه مسلم. إن إرخاص الأسعار على المسلمين ووضع الإجحاف بهم وترك استغلالهم لا يفعله إلا ذوو القلوب الرحيمة التي امتلأت عدلاً وصدقًا وتقوى وإحسانًا، وأولئك هم الموعودون بالبركة في أرزاقهم والسعة في أموالهم والصحة في أبدانهم.
عباد الله، إن الواجب على من تولى أمر المسلمين أن يتدارك أمرهم في ظل هذه المعاناة التي حلت بهم، وذلك بالبحث عن الأسباب الحقيقية للأزمة ووضع الحلول المناسبة لها، وإذا رأى الإمام تضرّر أكثر الناس بالغلاء وأرهق الفقراء وأثقل كاهل المحتاجين والضعفاء فإن الصحيح من أقوال العلماء جواز التسعير، وهو تحديد ثمن للسلع لا يزداد عليه ولا ينقص حتى في حال غلاء الأسعار وارتفاعها، وإذا أخذ ولي الأمر بالتسعير لمصلحة المسلمين وأمر أهل الأسواق أن لا يبيعوا إلا بسعر محدّد بلا زيادة ولا نقصان لم تجز مخالفته، ومن خالف استحق التعزيز، وذلك عقوبة له على مخالفة الأمر.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، أن للمغالاة في الأسعار آثارا سيئة على الفرد والمجتمع؛ حيث يعجز الفقير عن شراء ما لا غنى له عنه، وقد يتحمّل آخرون ديونًا يعجزون عن أدائها، وتكثر الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ويلجأ البعض إلى طرق غير مشروعة للحصول على المال وتوفير ما يحتاجون، وحينها لا يبالي ضعيف الإيمان أمن حلال أخذ المال أم من حرام، وتنشأ الأنانية والشحّ والبخل، وتتعمّق الفجوة بين الناس وتضعف الروابط وتنقطع الصلات؛ ولذا جاء الوعيد الشديد لمن دخَل في شيء من أسعار المسلمين ظُلمًا وعدوانًا ليغلِيَه عليهم، عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم فإن حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة)) أخرجه الإمام أحمد.
أيها المسلمون، ومع عظم المصيبة التي حلت بكم إلا أننا نحمد الله ونشكره أن جاءت مصيبتنا أهون من مصيبة غيرنا، ولئن ابتلينا بالزيادة في أسعارنا فإنّ العديد من البلدان حولنا ابتلوا بفقد طعامِهم وأمنهم واستقرارهم بسبب الفيضانات والحروب وأساليب الحصار الماكرة.
عباد الله، الصبر مفتاح الفرج، وبالاستغفار يعود الازدهار، وإن من أسباب تحويل المولى سبحانه الضراء إلى السراء أن نتفقد ـ وخاصة هذه الأيام ـ الفقراء لأنهم في ازدياد وكثرة، وحاجتهم وفاقتهم أكثر، نظرًا لمتطلبات العصر الذي نعيشه، ولنتذكر ونحن نواسي أولئك قول النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((أنفق ـ يا ابن آدم ـ أنفق عليك)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما نقصت صدقة من مال، بل تزده، بل تزده، بل تزده)).
اللهم يا من يعلم السر وأخفى، يا من له الآخرة والأولى، نسألك باسمك الأعظم أن تدفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين...
(1/5447)
الزائر الكريم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
فايق بن عبد الله البصري
دورتموند
25/8/1428
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل رمضان. 2- الوصية باغتنام شهر رمضان المبارك. 3- الحث على قراءة القرآن والدعاء. 4- الحث على الصدقة وإفطار الصائم. 5- التحذير من التسويف والكسل. 6- التحذير من الصادين عن عمل الخير. 7- ظاهرة الالتزام بالصلاة والحجاب في رمضان فقط.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوتي في الله، أخواتي في الله، بعد أيام قليلة سوف يحلّ علينا زائر كريم طال انتظاره، زائر أكرمنا الله تعالى به، يجلب لنا الخير الكثير، فيه مسابقة كبيرة، جوائزها عظيمة، الفائز من فاز في هذه المسابقة، والخائب من خسر فيها، إنه شهر رمضان المبارك، شهر القرآن، مدرسة ستفتح أبوابها، فهل ترى نخرج منها مع الفائزين أو الخاسرين؟! نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الفائزين.
في هذا الشهر ذنوب مغفورة وعيوب مستورة ومضاعفة للأجور وعتق من النار، قَال الحبيب المصطفى : ((إذا كانت أول ليلة من رمضان فُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وَغُلِّقتْ أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصُفِّدت الشياطين، ويُنادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)) رواه الترمذي وابن ماجة.
أبواب الجنة مفتوحة لنا في هذا الشهر، فلنكن من الداخلين إلى الجنة، إنها فرصة ثمينة لكل مقصر ـ وكلنا مقصرون ـ أن نفوز بمغفرة من الله، فإذا لم يغفر لنا في رمضان فمتى نرجو المغفرة؟! قال رسول الله : ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)) ، وَقَالَ لَهُ جِبرِيلُ: يَا محمدُ، مَن أَدرَكَ شَهرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَم يُغفَرْ لَهُ فَأُدخِلَ النَّارَ فَأَبعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، قال: ((فَقُلتُ: آمِينَ)) ، وقال : ((إِنَّ في الجَنَّة غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها مِن بَاطِنِها وَبَاطِنُهَا مِن ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللهُ لِمَن أَلانَ الكَلامَ وَأَطعَمَ الطَّعَامَ وَتَابَعَ الصِّيَامَ وَصَلَّى بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).
إخوتي الكرام، أوصي نفسي وإياكم بالاستفادة القصوى من الوقت في هذا الشهر الكريم، ولنعقد العزم الصادق والهمة العالية على استغلال رمضان بالأعمال الصالحة، فإنه سرعان ما ينقضي كما انقضى قبله من الأشهر والسنين. ويا حبذا لو وضع كلّ منا خطة يسميها: "خطة شهر رمضان الإيمانية"، فيها برنامج كامل، وهذا البرنامج يمكن أن تضع فيه عدّة نقاط، منها: كيف ستكون قراءتك للقرآن؟ خصّص وقتا محدّدا كل يوم لقراءة القرآن، وليكن أقل شيء تقرؤه جزءا واحدا لتتمكن من ختم القرآن في رمضان، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الصِّيَامُ وَالقُرآنُ يَشفَعَانِ لِلعَبدِ يَومَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهوَةَ فَشَفِّعْني فِيهِ، وَيَقُولُ القُرآنُ: مَنَعتُهُ النَّومَ بِاللَّيلِ فَشَفِّعْني فِيهِ)) ، قَال: ((فَيُشَفَّعَانِ)) ، وقال : ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه)) رواه مسلم. واحرص في هذا الشهر على حفظ شيء من القرآن لأن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب كما أخبرنا حبيبنا المصطفى.
ولا تنسوا ـ إخوتي ـ الإكثار من الدعاء؛ فإن الدعاء سلاح المؤمن، وإن للصائم دعوة لا تردّ، وَفي ثُلُثِ اللَّيلِ الآخِرِ دعاء مستجاب، وَكذلك بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَأَقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَالحَاجَاتُ كَثِيرَةٌ وَالمَسَائِلُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَالعَبدُ فَقِيرٌ إلى رَبِّهِ ولا غِنى لَهُ عَن رَحمَتِهِ طَرفَةَ عَينٍ، وَأَهَمُّ المُهِمَّاتِ مَغفِرَةُ الذُّنُوبِ وَتَكفِيرُ السَّيِّئَاتِ وَالعِتقُ مِنَ النَّارِ وَالفَوزُ بِالجَنَّةِ، قال : ((ثلاث لا ترد دعوتهم)) ، ذكر منهم: ((الصائم حتى يفطر)) رواه الترمذي وابن ماجه، وَيَقُولُ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَعجَزُ النَّاسِ مَن عَجِزَ عَنِ الدُّعَاءِ)). فادعوا لأنفسكم ولأهلكم وللمسلمين جميعا، قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]، وجاءت هذه الآية الكريمة بين آيات الصيام.
وإذا شعرت بالجوع والعطش في رمضان فاذكر الفقراء من المسلمين والذين تمر عليهم الأيام والليالي ولا يجدون ما يطعمون به أنفسهم وأولادهم، وليدفعك ذلك إلى الجود بما تستطيع لتخفّف عنهم آلام الجوع. والصدقة في رمضان لها شأن خاص، فقد رَوَى البُخَارِيُّ عنِ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ أَجوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجوَدُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلقَاهُ جِبرِيلُ، وَكَانَ يَلقَاهُ في كُلِّ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ أَجوَدُ بِالخَيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ. قال الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رحمه اللهُ: "وَعَبَّرَ بِالمُرسَلَةِ إِشَارَةً إلى دَوَامِ هُبُوبِها بِالرَّحمَةِ، وَإِلى عُمُومِ النَّفعِ بِجُودِهِ كَمَا تَعُمُّ الرِّيحُ المُرسَلَةُ جَمِيعَ مَا تَهُبُّ عَلَيهِ". وإذا استطعت أن تفطر صائما فلك مثل أجره دون أن ينقص ذلك من أجره كما قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثلُ أَجرِهِ)) ، وممكن أن تضع في برنامجك كم مرة تتصدّق في رمضان، وكم صائما يستطيع أن يشاركك الإفطار. وممكن أن تخصص وقتا لحضور جلسات العلم التي تعقد في هذا المسجد أو في مساجد أخرى. واحرص على أن لا تفوتك الصلوات الخمس جماعة في المسجد قدر الإمكان وصلاة التراويح.
أيها الإخوة، أحذر نفسي وإياكم من الكسل والتسويف، قال الحسن البصري: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قومًا غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
إن الكسلان يقينه ضعيف في الوعد والوعيد، فلا تتكاسل عن ذكر الله لأن ذكر الله فيه الخير الكثير. تأمل حديث النبي : ((من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) رواه الترمذي وصححه الألباني. وإذا قلت الآن: سبحان الله العظيم وبحمده ونظرت في الساعة فإذا هي ثانية واحدة، لو ثبت يقينك في هذا الوعد أنّك تكتسب بالثانية الواحدة نخلة في الجنة وقد قال رسول الله : ((ما من نخلة في الجنة إلا وساقها من ذهب)) ، فوزن ساق النخلة من ذهب مئات الكيلوغرامات، هذا ثمن كل ثانية من عمرك.
وربما يقول قائل: "هذا البرنامج ثقيل، وأنا عندي التزامات أخرى، وعندي عمل، وعندي شؤون خاصة"، ويجيبه على ذلك الحبيب المصطفى إذ قال: ((يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووِم عليه وإن قلَّ)) ، ولكن علينا أن نعمل ما في وسعنا ولا نقصر، ولعله يكون آخر رمضان تدركه، فاستزد فيه من الخير، واعلم أن رمضان إما أن يكون شاهدًا لك أو شاهدًا عليك.
واعلم بأنَّ هُنَاكَ قُطَّاعَ طَرِيقٍ وَسُرَّاقَ أَوقَاتٍ وَمَانِعِي خَيرَاتٍ، فمن الناس من يقضي ليالي رمضان في متابعة المسلسلات والأفلام من قناة فضائية إلى أخرى، وليس عنده وقت للعبادة، ومن الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد وصنوف المطاعم والمشارب، يقضي نهاره نائمًا ويقطع ليله هائمًا، فاتقوا الله عباد الله، وَسَارِعُوا إلى مَغفِرَةٍ مِّن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَم يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَغفِرَةٌ مِن رَّبِّهِم وَجَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعمَ أَجرُ العَامِلِينَ [آل عمران: 133-136].
إخوتي في الله، كثير من الناس نراهم ينشطون في رمضان ويصلون في المساجد حتى إنكم ترون كيف تمتلئ المساجد في صلاة التراويح، وهذا شيء طيّب، ولكن المؤسف ما إن ينتهي رمضان حتى تجد أكثرهم يهجرون المساجد، وربما بعضهم يترك الصلاة، فهو يصلي ويصوم فقط في رمضان، وبعض الأخوات يرتدين الحجاب في رمضان، ثم بعد رمضان يحتفظن بملابس الحجاب في خزانة الملابس إلى رمضان القادم، وهؤلاء هم عبّاد رمضان، والله سبحانه وتعالى أحقّ أن يعبد؛ لأن الله هو ربّ رمضان ورب بقية الشهور، فنحن لا نصلي ونصوم حتى يرانا الناس في رمضان، بل نفعل ذلك استجابة لأمر الله تعالى وعبادةً له في كل الأشهر حتى نهاية العمر.
أسأل الله أن يبلغنا وإياكم رمضان، اللهم بلغنا رمضان وأحسن عملنا فيه، اللهم ارزقنا قبل رمضان توبة، وقبل الموت توبة، اللهم واجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5448)
رمضان وتنوع العبادات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
7/9/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التهنئة بقدوم رمضان. 2- الفرح بقدوم رمضان. 3- من فضائل رمضان. 4- الحث على صنائع المعروف في رمضان. 5- الحث على اغتنام رمضان. 6- أهمية تنويع العبادات في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، بشراكم جميعًا بشهر الصيام، أهله الله علينا وعليكم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وجعله الله علينا وعلى المسلمين شهر بركة وخير ومغفرة للسيئات ورفعة في الدرجات.
لقد كان نبيكم يبشر أصحابه بقدوم رمضان، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله يبشر أصحابه ويقول: ((قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) أخرجه أحمد والنسائي. يقول ابن رجب رحمه الله: "يقول بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان" اهـ.
عباد الله، يحق لنا أن نفرح بهذا الضيف العزيز بعد طول عناء، وبعد رحلة شاقة في دروب الحياة الدنيا. كيف لا نفرح بشهر الصيام ونفَرٌ من المسلمين لا يحسون بالجوع إلا حين يصومون ومن إخوانهم من يتضورون جوعًا وهم مفرطون؟! كيف لا نفرح برمضان وفئام من المسلمين صلتهم مقطوعة بالقرآن إلا في شهر رمضان؟! لقد طال سبات نومنا فهل يكون شهر الصيام موقظًا لقلوبنا بالقيام؟! جفت مآقينا عن البكاء فهل نجد فيك ـ يا شهر رمضان ـ باعثًا للبكاء من خشية الملك العلام؟! اختلط اللغو وكادت أصوات الخنا والغناء أن تصم الآذان فهل تكون ـ يا شهر الصيام ـ دافعًا لسلامة أسماعنا من الآثام؟! تفنن الأعداء وأصحاب الهوى في إخراج الصور الفاضحة على شاشاتنا فهل يكون رمضان سببًا في حفظ أبصارنا من الحرام؟!
أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبًا زارنا فِي كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاقبل اللهم ربي صومنا ثُم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
عباد الله، شهركم شهر التقوى، إنه موسم عظيم للمحاسبة، وميدان فسيح للمنافسة، تصفو فيه النفوس من دواخلها، وتقترب فيه القلوب من خالقها، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وتكثر دواعي الخير وأسباب المثوبة. فيه رحمة ومغفرة، وفيه عفو وعتق من النار، فأقبلوا على الطاعة وتزودوا من التقى وتعرضوا للنفحات.
أيها المتقون الصائمون، فتشوا عن المحتاجين من أقربائكم والمساكين من جيرانكم والغرباء من إخوانكم، لا تنسوا برهم وإسعادهم، وأشركوهم معكم في رزق ربكم.
اذكروا ـ عباد الله ـ جوع الجائعين وعبرات البائسين وغربة المشردين ووحشة المهجَّرين. يقول الشافعي رحمه الله: "أحب للصائم الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم فيه بالعبادة عن مكاسبهم" اهـ.
أيها المسلمون، ها هو هلال رمضان قد حل، ووجه سعده قد طل، فأي رمضان يكون رمضان هذا العام؟! هل هو رمضان المسوفين الكسالى أم رمضان المسارعين النجباء؟ هل هو رمضان التوبة أم رمضان الشقوة؟ هل هو شهر الصيام والقيام أم شهر الموائد والأفلام والهيام؟
عباد الله، رمضان فرصة للتنويع بين العبادات واستذكار العديد من الأذكار الواردة عن النبي والدعوات، وما على راجي الهداية وطالب الرشد والسعادة إلا أن يعقد العزم على طرق عبادات لم يعتد على أدائها في رمضانات سابقة.
أيها المسلمون، اعتاد الأكثر في رمضان على أداء عبادات معينة كالصيام والقيام وقراءة القرآن، وهناك عبادات أخرى قد تفضل عليها في الأجر إما لمكانتها أو لهجر الناس لها، والإتيان بتلك الطاعات في مثل هذه الأيام إحياء لها وتذكير للناس بتنوع العبادات وتعددها لمن أراد الزلفى من الله سبحانه. ومن تلك العبادات: عيادة المرضى، زيارة المقابر، والصلاة على الجنائز، والعبادات المتعدية كإطعام الطعام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس الخير.
أيها المسلمون، في شهر رمضان يكثر المؤدون للصلاة وبخاصة صلاة النوافل كالرواتب والتراويح والقيام، وهذا الإقبال فرصة للتنويع بين الأدعية والآثار والصفات الواردة في الصلاة، فهناك العديد من أدعية الاستفتاح، وهناك أنواع للتشهدات، هذا فضلاً عن الأدعية الواردة في الركوع والسجود وختام الصلاة، ومن اطلع على سبيل المثال على كتاب حصن المسلم ـ وهو كتاب معروف ومتداول ـ وجد مصداق ما ذكر آنفًا.
يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "العبادات الواردة على وجوه متنوعة تفعل مرة على وجه ومرة على الوجه الآخر، فهنا الرفع ورد إلى حذو المنكبين، وورد إلى فروع الأذنين، وكلٌّ سنة، والأفضل أن تفعل هذا مرة وهذا مرة؛ ليتحقق فعل السنة على الوجهين، ولبقاء السنة حية؛ لأنك لو أخذت بوجه وتركت الآخر مات الوجه الآخر، فلا يمكن أن تبقى السنة حية إلا إذا كنا نعمل بهذا مرة وبهذا مرة، ولأن الإنسان إذا عمل بهذا مرة وبهذا مرة صار قلبه حاضرًا عند أداء السنة، بخلاف ما إذا اعتاد الشيء دائمًا فإنه يكون فاعلاً له كفعل الآلة عادة، وهذا الشيء مشاهد، ولهذا من لزم الاستفتاح بقوله: (سبحانك الله وبحمدك) دائمًا تجده من أول ما يكبر يشرع: (سبحانك الله وبحمدك) من غير شعور؛ لأنه اعتاد ذلك، لكن لو كان يقول هذا مرة والثاني مرة صار منتبهًا، ففي فعل العبادات الواردة على وجوه متنوعة فوائد: 1- اتباع السنة، 2- إحياء السنة، 3- حضور القلب" اهـ.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا يا رب العالمين.
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
فيا عباد الله، يقول الحسن البصري رحمه الله: "إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون" اهـ.
أيها المسلمون، إذا كان الأمر كذلك فلماذا نخسر رمضان؟! لماذا يمر علينا ولا نتزود منه بالتقوى؟! لماذا يدخل ويخرج ولا نقاوم فيه الهوى؟! ألم نعلم مزاياه وندرك فضائله؟! ألم نعلم أنه شهر التوبة والمغفرة ومحو السيئات؟! ألم ندرك أنه شهر العتق من النار وموسم الخيرات؟! ألم نعلم أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار؟! ألم نعلم أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم؟! فما بالنا ـ عباد الله ـ ترغم منا الأنوف ونخسر ولا نستفيد؟! ما بالنا نصر على الإضاعة والتقصير والتفريط؟!
أيها المؤمنون، قارب الثلث الأول من رمضان على الرحيل، وذهب ثلث الرحمة كساعة من نهار، لقد مضى بما أودعناه من خير أو شر، ولئن كنا فرطنا فيه وقصرنا فإن ما بقي أكثر مما فات، بقيت عشر المغفرة ثم عشر العتق، بقيت ليلة القدر وليلة توفية الأجر، فلنُرِ الله من أنفسنا خيرا، والله اللهَ أن يتكرر شريط التهاون والتسويف أو تستمر دواعي الكسل والتفريط، فلقيا الشهر مرة أخرى غير مؤكدة، ورحيل الإنسان منتظر في أية لحظة.
عباد الله، ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن؟! ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان؟! ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان؟!
من يرد تلك الْجنان فليدع عنه التوان
وليقم في ظلمة الليل إلى نور القرآن
وليصل صومًا بصوم إن هذا العيش فان
إنما العيش جوار الله في دار الأمان
عباد الله، صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/5449)
لباس المرأة بين الطهر والعهر
الأسرة والمجتمع
المرأة
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
21/6/1428
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الله تعالى على عباده باللباس. 2- لباس التقوى. 3- كيد الشيطان بأبينا آدم عليه السلام. 4- فتنة النساء. 5- محاربة أعداء الإسلام لحجاب المسلمة وعفافها. 6- وسائل الأعداء في محاربة حجاب المرأة المسلمة: المجلات، المشاغل النسائية، دور الأزياء، القنوات الفضائحية. 7- انتشار الملابس الفاضحة بين النساء في الأفراح. 8- واجبنا تجاه هذا الهجوم السافر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26].
هذا الخطاب الرباني في الآية السابقة صدره سبحانه لبني آدم ممتنًا عليهم بإنزال اللباس لهم يواري سوءاتهم ويحفظ أعراضهم ويحصن الحياء في نفوسهم. للرجال لباس يخصهم، وللنساء لباس يخصهن، فلا تلبس المرأة لباس الرجل، ولا يلبس الرجل لباس المرأة، نهى الرجال عن الإسبال، وشرع ذلك للنساء مبالغة في سترهن وعفتهن.
ثم ذكرنا سبحانه بلباس التقوى، وأخبرنا أنه خير من لباس البدن، فكما يحب الإنسان السوي أن يستر عورته عن الناس باللباس ويحب أن يتزين بالزينة، فإن لباس الأخلاق والدين ـ وهو اللباس المعنوي ـ خير وأزكى؛ لأنه اللباس الحقيقي الذي يمنع الإنسان من التكشف والعري وإظهار ما يجب ستره عن أعين الناس.
أيها المسلمون، إن هذا اللباس بجميع أصنافه وأشكاله من الزينة التي أخرجها الله وأباحها لعباده، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 32]. أضاف سبحانه في هذه الآية الزينة إليه امتنانًا علينا بنعمته، وتنبيهًا لنا أن نعتقد فيها بأحكام شريعته، فلا نتحكم فيها بتحليل أو تحريم أو نستعملها فيما يخالف الشرع الحكيم، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229].
أيها المؤمنون، لئن عدنا متأملين مكيدة الشيطان الأولى بإغرائه أبوينا حتى أكلا من الشجرة لوجدنا أنه بدأ أول ما بدأ بنزع اللباس وإبداء العورة، يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27].
لقد حمل الشيطان على عاتقه بث تلك الدعوة، ألا وهي نزع اللباس وإظهار العورات في ذرية آدم، جند لذلك جنوده لإدراكه بما تقود إليه تلك الدعوة، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا، فها هو النزع متصل على تعاقب الدهور ومر الأزمان بأساليب ماكرة وإغراءات فاتنة. وبنظرة فاحصة لواقع البشرية اليوم تغنيك عن كثير من الشواهد، فما واقع الملابس الرياضية لكثير من الألعاب بخاف علينا، فكيف لو مِلت بطرفك إلى ما خدعت به المرأة ولبّس عليها به؟! فكم من أزياء وموضات تحسر كل يوم وفي كل صرخة عن شيء من مفاتن المرأة وجمالها بدعوى الزينة ومتابعة الموضة.
عباد الله، إن الحديث عن اللباس لهو من الأهمية بمكان لما له من الأثر العظيم في مسيرة المجتمعات، وخاصة فيما يتعلق بالنساء لما لهن من أثر وفتنة على الرجال، بل على المجتمع بأسره، فبصيانة المرأة وحسن لباسها يصان المجتمع، وإضاعتها إضاعة له، وقد حذر النبي من فتنة النساء فقال: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
أيها المسلمون، لما كان لباس المرأة المسلمة غاية في التحفظ والستر والعفاف، يصونها عن أعين الناظرين، ويحفظها من كيد الكائدين، ويظهر اعتزازها بدينها وقيمها أمام المعتدين، لما كان الأمر كذلك شرقت بذلك نفوس أعداء الإسلام ومن سار في ركابهم من المخذولين والمخدوعين، فكادوا لفتاة الإسلام، ورموها من قوس واحدة. تقول إحدى الكافرات: "ليس هناك طريق أقصر لهدم الإسلام من إبعاد المرأة المسلمة والفتاة المسلمة عن آداب الإسلام وشرائعه"، يقول آخر: "يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إلينا يدها فزنا بالمراد وتعدد جيش المنتصرين للدين".
لقد كانت جهودهم ولا تزال موجهة إلى لباس الطهر والعفاف، مستميتين في تشويهه وتمزيقه، أجلبوا بخيلهم ورجلهم، وغزوا لباس المرأة من جبهات كثيرة.
إننا نرى اليوم أباطرة الشر والفساد في استحداث ألبسة نسائية إن لم تكن ضيقة فعارية، وإن لم تكن عارية فمشققة الجوانب، لها فتحات جانبية وخلفية تصل أحيانًا إلى ما فوق الركبة، فإن لم تكن كذلك فمتشبَّه فيها بالكافرات، وقد يجمع ذلك كله فتنة وإغراء في كثير من الأزياء.
كثيرة ـ عباد الله ـ هي الوسائل والجبهات التي يحارب من خلالها الأعداء لباس المرأة، من تلك الوسائل هذه المجلات الهابطة التي تروج لأصناف الملابس الفاضحة، ولم يقف شر هذه المجلات الهابطة الماجنة على إظهار ملابس النساء فحسب، بل تعدى ذلك إلى إلهاب غرائز كثير من شباب المسلمين، فأصبحت تلك المجلات سلاحًا ذا حدين، تتلقفها النساء ليتابعن الموضات الفاضحة، ويتلقفها الشباب ليلهبوا الغرائز والشهوات، لما تحتويه تلك المجلات الفاجرة من صور كثيرة، تعمّد واضعوها إشاعة الفاحشة ونشر الرذيلة في مجتمعات المسلمين، وعن هذه المجلات ومثيلاتها يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "وجدت هذه المجلات، وجدتها والله، أقسم بالله في هذا المكان ـ يعني منبر المجمعة ـ وأنتم تشهدون، والله فوقنا شهيد على ما نقول وعلى ما تسمعون، وجدت هذه المجلات هدّامة للأخلاق مفسدة للأمة، تنشر الخلاعة والبذاءة والسفول، لا يشك عاقل فاحص ماذا يريد مروجوها بمجتمع إسلامي محافظ، وجدت أقوالاً ساقطة ماجنة نابية، يمجّها كل ذي خلق فاضل ودين مستقيم، رأيت صورًا للنساء على أغلفة تلك المجلات وفي باطنها صورًا فاتنة في أزياء منحطة بعيدة عن الحياء والفضيلة" اهـ.
أيها المسلمون، ومن وسائل غزو لباس المرأة تلك المشاغل النسائية التي تعرض على مرتاداتها مجلات الأزياء الفاضحة؛ لتقوم المسكينة والمخدوعة باختيار صنف معين يلائم آخر صرخات الموضة، فتبادر تلك المشاغل بتفصيل تلك الأزياء دون النظر إلى حلها أو حرمتها إلى سترها أو تكشّفها، كل ذك بقصد جمع الدرهم والدينار، وتناسى أولئك قول النبي : ((كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) أخرجه أحمد.
لحدّ الركبتين تشمرينا بربك أي نَهر تعبرينا؟!
كأن الثوب ظل فِي صباح يزيد تقلصًا حينًا فحينا
تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربما لا تشعرينا
عباد الله، ومن وسائل الأعداء في غزو لباس المرأة ما يسمى بدور الأزياء، تعرض ما جدّ من اللباس بزعمهم، تمر المرأة بين الحاضرين تغدو وتروح وقد أبدت كثيرًا من مفاتنها، فهذا لباس للصيف، وذاك لباس للشتاء، هذا للسهر، وآخر للسفر، وثالث للوليمة.
هذه الدور الفاجرة انتشرت في بلاد الكفر، وقد حاكاهم في ذلك بعض ديار الإسلام، والضحية وللأسف من ذلك كله المخدوعات من نساء المسلمين، يشغفن بذلك، ويتبعن ما يجدّ من اللباس بدعوى مواكبة الحضارة والمدينة.
أيها المؤمنون، إن من أنكى وسائل غزو لباس المرأة تلك القنوات التي تبث من عفنها ما يهيج النفوس ويثير كوامنها، وقد حدث من جرائها ما يستحي اللسان من ذكره والآذان من سماعه، وقد تواطأ كلام كثير من الناس على حدوث عواقب وخيمة في الأعراض بسبب ذلك.
لقد درّستنا تلك الوسائل الإعلامية أن الانحلال حلال، وأن الكفر فِكر يجب احترامه، وأنه لا بد من الاستسلام للفساد إذا فشا وساد. علمتنا تلك المسلسلات والقنوات أن الحب قبل الزواج ضرورة، وأن خروج المرأة مع خطيبها في غاية الأهمية، وأنه لا بأس بخروج المرأة كاسية عارية بملابس فاضحة. علمتنا تلك القنوات أن القوامة تخلّف، وأن الغيرة تسلّط، وأن الحرية والإباحية تحضّر وتمدن. لقد سلبت هذه الوسائل وغيرها من المرأة حياءها، ومن الرجال غيرتهم ورجولتهم، ومن الجميع إحساسهم، وما لجرح بميت إيلام.
يا مسلمون، من كان منكم في شكّ في تأثير الأعداء وغزوهم للباس نساء المسلمين فليلق بطرفه إلى ما يلبس في الأعراس والأفراح والمنتديات النسائية، حيث شاع وللأسف لبس الملابس العارية وشبه العارية، الضيقة والمحددة للعورات، المفتوحة والمظهرة للأيدي والصدور والظهور عند البعض، وبعض النساء لا ترتدي إلا الملابس الشفافة التي لا تستر أجزاء الجسد.
لقد ارتفعت أصوات النساء الصالحات مما يواجهنه في حفلات الزواج من لحوم عارية وأجساد مكشوفة بادية، عورات ظاهرة، وموضات فاضحة، بحجة أن لبسها إنما هو بين النساء فقط، وهذه حجة أقبح من ذنب، فإن فتاوى العلماء الأجلاء في بيان ذلك مشهورة ومعلومة، تحرم على المرأة أن تظهر شيئًا من عورتها أمام امرأة أخرى، ولقد توعد النبي أمثال هؤلاء النساء بقوله: ((سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات)) ، وفي لفظ آخر: ((لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)).
أيها الرجال الشرفاء، أيها الغيورون النبلاء، ليعلم كل أبٍ وأخ أنه مسؤول أمام الله تعالى عن محارمه، فعليه أن يأمرهن بالمعروف وينهاهن عن المنكر، فإن رأى منهن تهتكًا في اللباس ولو عند محارمهن منعهن من ذلك، فإن قبلن الوعظ وإلا أخذ على أيديهن وقصرهن على الحق قصرا، ففي ذلك حماية له ولهن في الدنيا من العار والفضيحة، وفي الآخرة من نار جهنم وبئس المصير.
يا مسلمون،
أوَلا ترون الغرب كيف غدا الرجال به ذئابا
أولا ترون به عرى الأخلاق تنشعب انشعابا
كم نظرة للوجه تورث فِي الحشا جمرًا مذابا
إن ترغبوا لنسائكم صونا وعيشا مستطابا
فدعوا السفور لأهله وأرخوا عليهن الحجابا
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، عندما تهاجم الأمراض الجسد يتوجب على ناشدي الصحة والعافية مكافحتها ومقاومتها، ومجرد العلم بوجود المرض ووصوله إلى الجسد أو الحزن على الإصابة به لا يكفي للقضاء على الأمراض واستئصالها ما لم يتبع ذلك عمل يجتثها بالكلية أو يقاوم انتشارها.
ونحن إزاء هذا الهجوم السافر على لباس المرأة نحتاج إلى وقفة صادقة من كل واحد منا؛ حتى لا يستشري فينا هذا الداء ثم نألفه ويتبلّد منا الإحساس، ومن الخطوات العملية في سبيل مكافحة العري في لباس المرأة ما يلي:
أولاً: منع كل واحد منا محارمه ومن تحت يده من شراء أو لبس تلك الملابس العارية قبل تعديلها وإضفاء الحشمة عليها، وذلك باستخدام كافة الوسائل المتاحة ترغيبًا أو ترهيبًا.
ثانيًا: مناصحة التجار وملاك المحلات والمراكز التجارية وتذكيرهم بالله، وتحذيرهم من مغبة فعلهم، وأن عليهم إثمَ ما يبيعونه وينشرونه بين المسلمين، وليحذروا أن يكونوا بفعلهم هذا ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولنطالبهم ـ وهذا أقل ما يمكن أن نطالبهم به ـ بإيجاد البديل المباح والتقليل أو الكف عن بيع ما يخدش الحياء ويكشف العورات.
ثالثا وأخيرًا: الكتابة للمختصين من ولاة أمر ومسؤولين حول هذه الظاهرة واستفحالها؛ ليجدوا لها الحلول المناسبة التي تراعي مكانة البلد وتحترم أخلاقيات أهله الأصيلة.
(1/5450)
دعاء حملة العرش
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الملائكة, فضائل الإيمان
محمد بن عدنان السمان
الرياض
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عرش الرحمن. 2- حملة العرش. 3- دعاء حملة العرش لأهل الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
عنوان خطبتنا هذا اليوم (دعاء حملة العرش).
أما العرش فهو عرش الرحمن جل جلاله، الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأحسنها وأقربها إلى الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى مستو على عرشه سبحانه وتعالى استواءً يليق بجلاله عز وجل.
وأما حملة العرش فهم صنف من الملائكة شرفهم الله بهذا الشرف العظيم، ويتمثل هذا الشرف في أمور، منها حمل عرش الرحمن، ومنها قربهم من الله سبحانه وتعالى. وعدد الملائكة حملة العرش ثمانية، مصداق ذلك في كتاب الله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17].
أما دعاء حملة العرش ومن حوله فهو ما جاء في كتاب الله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر: 7-9].
يخبر الله سبحانه وتعالى عن كمال لطفه بعباده المؤمنين وما قيض لأسباب سعادتهم من استغفار الملائكة المقربين لهم ودعائهم لهم بما فيه صلاح دينهم وآخرتهم. لقد جاء أولئك الملائكة بأنواع من العبادات التي يحبها الله، تمثلت في تعظيم الله وتنزيهه بتسبيحه وتحميده، ومن ثم دعائه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وفي الآيات كمال أدب الملائكة مع ربهم سبحانه وتعالى بإقرارهم بربوبيته وبيان حاجتهم وفقرهم إليه جل جلاله. لقد تضمنت الآيات وتلك الدعوات موافقة الملائكة لربهم سبحانه في حبه جل جلاله للإيمان وأهله.
إن أهل الإيمان هم أصحاب الفلاح في الدنيا والآخرة، ولهم من المحاسن ما لا يكون لغيرهم، لقد امتن الله عليهم بمنن كثيرة وآلاء عظيمة، ومن ذلك ما جاء في هذه الآيات من استغفار أولئك الملائكة المقربين لهم، فمن فوائد الإيمان استغفار الملائكة الذين لا ذنوب عليهم لأهل الإيمان.
أيها المسلمون، رحمة الله واسعة لا يحدّها حد، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً ، من أسمائه جل جلاله الرحمن والرحيم، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة)) الحديث، وهو سبحانه وتعالى يحب من عباده الرحماء.
الرحمة ـ أيها المسلمون ـ إذا كانت من الله ابتداءً وتفضلاً فينبغي أن تكون بين عباده المؤمنين صفة ملازمة لأخلاقهم ومعاملاتهم، ما أجمل أن تكون الرحمة متمثلة في سلوكنا وتعاملاتنا، إنها الرحمة المنشودة بين الأب وأبنائه والزوج وزوجته، إنها الرحمة بين الرئيس ومرؤوسيه، إنها الرحمة بين المعلم وتلاميذه، إنها الرحمة بين رب الأسرة وخدمه، إنها الرحمة التي ينبغي أن تكون بين أفراد المجتمع، الرحمة بالأرامل واليتامى والفقراء والمساكين، الرحمة بأهل ذلك السجين الذي سُجن لسبب أو آخر فحُبس عن أهله فلا عائل لهم ولا منفق عليهم، قال : ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) رواه البخاري.
إن الله جل جلاله كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإذا كانت رحمته وسعت كل شيء فكذلك علمه لا يخلو منه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، بخلاف المخلوق الضعيف الناقص، فعلمه ناقص مسبوق بالجهل، وينتهي أيضا بالموت، فلا يعلم إذا مات، وكذلك المخلوق ضعيف يلهيه شأن عن شأن. أما الرب سبحانه وتعالى فلا يلهيه شأن عن شأن، ولا يتضرر بسؤال السائلين ولا بإلحاح الملحين، من يحصي الخلائق؟! لا يحصيهم إلا الله في البراري والبحار وفي الجو والسماوات والأرضين، كلهم يسألون الله في وقت واحد، يلهجون بذكره وثنائه، فيثيبهم ويجيب سؤالهم ويرزقهم ويعافيهم في وقت واحد، لا يلهيه شأن عن شأن، سرهم كجهرهم، خَلَقهم وأوجدهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
وبعد أن قدم حملة العرش ومن حوله في دعائهم لله تحميده وتسبيحه والثناء عليه بما هو أهله جل جلاله ـ وهذا كله من آداب الدعاء ومظنة لإجابته ـ شرعوا بالدعاء بالمغفرة، لمن يا ترى؟ قال الله عنهم: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ. وهذان الوصفان العظيمان ـ وصف الإيمان بالله واتباع السبيل القويم ـ من أعظم الأوصاف التي حري بكل إنسان في هذه الحياة الدنيا أن يتصف بهما؛ لأنهما طريق الرشاد والفلاح والمغفرة، ومن دعائنا في كل صلاة بل في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ.
ثم تابع أولئك الملائكة الأبرار دعاءهم لأهل الإيمان: وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، قال أهل العلم: ويتضمن الوقاية من عذاب الجحيم أمرين: الأول: الوقاية من العذاب، والثاني: الوقاية من أسباب العذاب التي في مقدمتها الذنوب والمعاصي، وفي وصف عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 65، 66].
وإن كان الوقاية من العذاب هدفا لأهل الإيمان فإن دخول الجنة غاية من أعظم الغايات، ولذا كان من دعاء الملائكة حملة العرش ومن حوله: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وفي هذه الصيغة من الدعاء جملة من الفوائد من أبرزها:
أولاً: أن وعد الله أعظم الوعود، وهو سبحانه وعد عباده المؤمنين بالجنة وسيكون، وإني أذكركم ـ يا رعاكم الله ـ بأمر أشرت إليه في هذه الخطبة عدة مرات، وها أنا أؤكد عليه، وهو أن موافقة الله جل شأنه في الصفات التي يحبها ويتصف بها مما يستطيعه الخلق من أعظم العبادات كما قررنا ذلك في موافقة الملائكة لربهم في حبه للإيمان وأهله، وكما ذكرنا في بيان أن الرحماء من الخلق يرحمهم الرحمن جل جلاله، فإذا كان ذلك كذلك فإن من أعظم العبادات الوفاء بالوعد والعهد، وقد وصف الله أهل الصدق والتقوى بقوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة: 177].
وثاني تلك الفوائد يستفاد من قول الله تعالى: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، قال أهل التفسير: "إن المقارن من زوج وولد وصاحب يسعَد بقرينه ويكون اتصاله به سببا لخير يحصل له"، وهذه الخيرية وتلك السعادة تتحقق لأصحاب الصلاح، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، وفي هذا إشارة بليغة بأن صلاح العمل من أهم الغايات ومن أفضل ما تصرف فيه الأوقات، كما أن صلاح الآباء والأبناء والأزواج مطلب مهم، فلنحرص ـ وفقني الله وإياكم ـ على أن نرشد أزواجنا وذرياتنا إلى طريق الصلاح والفلاح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
ثم يُختم ذلك الدعاء العظيم من الملائكة حملة العرش ومن حوله وهم يدعون لأهل الإيمان: وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. إن من رحمة الله بعبده أن يجعله بعيدا عن الذنوب والمعاصي، مقبلاً على الله سبحانه، إن أذنب استغفر، وإن أساء آب وتاب، وهناك يتقلب في رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة.
أيها المسلمون، معاشر المسلمين، الفوز كل الفوز لا يكون إلا بسلوك طريق أهل الإيمان، صراط الله المستقيم الذي هو درب النجاح والفلاح، ففيه النجاة من النيران والفوز بالجنان ورحمة الكريم المنان، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185].
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى...
(1/5451)
عظمة القرآن الكريم
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإيمان بالكتب, القرآن والتفسير
محمد بن فارع علي
بيت الفقيه
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة إنزال القرآن الكريم. 2- فضل القرآن الكريم. 3- فضل تلاوة القرآن وتعلمه وتدبره. 4- واجبنا تجاه القرآن الكريم. 5- هجر الأمة للقرآن الكريم. 6- الهجمة الشرسة على القرآن الكريم. 7- تنبيهات لطلاب المدارس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله واشكروه على نعمه التي لا تحصى، وإن من أعظمها نعمة إنزال القرآن الذي جعله الله ربيع قلوب أهل البصائر والإيمان، فهو كما وصفه الله روح تحيا به قلوب المؤمنين، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ [الشورى: 52]، وهو نور تشرق به أفئدة المسلمين، قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16]، وهو موعظة وشفاء وهدى ورحمة للمؤمنين كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]. فالقرآن ـ يا عباد الله ـ أبلغ موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23].
عباد الله، هذا القرآن تنزل الملائكة لسماعه وتتأثر به، يقول الرسول لأسيد بن حضير: ((اقرأ يا ابن حضير، تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحتْ ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم)).
القرآن خلع أفئدة الكفار، وألقى الهيبة في قلوبهم، فهذا جبير بن مطعم ـ وكان مشركًا من أكابر قريش وعلماء النسب فيها ـ لما أخِذ في أسرى بدر وربط في المسجد سمع النبي يقرأ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] قال: كاد قلبي أن يطير، كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي. وكان أبو بكر يصلي في بيته ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يستمعون عند داره، يعجبون وينظرون إليه، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.
وكذلك فإن الجن والإنس الذين سمعوه مسلمهم وكافرهم لم يملكوا أنفسهم حين سمعوا قول الله: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 59-62]، فسجدوا هيبة للقرآن. لقد تأثر الجن به، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن: 1، 2]، وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف: 29]، لقد أصبحوا بفضل القرآن دعاة إلى الله، فولَّوا إلى قومهم منذرين، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [الأحقاف: 30].
هذا القرآن الذي يُكرم صاحبه يوم القيامة بتاج الوقار، ويحَلَّى بالحلية العظيمة، حتى والديه ينالهما خير بسبب حفظ ولدهما، ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)) ، ويشفع لصاحبه يوم القيامة، وتأتي البقرة وآل عمران كغمامتين تظلّلان على صاحبهما يوم الحر الأكبر.
يقول وهو يفاضل بين الناس: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ، فعلامة الصدق والإيمان كثرة قراءة القرآن، وعلامة القبول تدبر القرآن؛ ولذلك يقول : ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)), قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد ولاته على مكة وقد ترك مكة ولقيه في الطريق: كيف تركت مكة وأتيتني؟! قال: وليت عليها فلانا يا أمير المؤمنين، قال: ومن هو ذا؟ قال: مولى لنا وعبد من عبيدنا، قال عمر: ثكلتك أمك! تولي على مكة مولى؟! قال: يا أمير المؤمنين، إنه حافظ لكتاب الله عالم بالفرائض، فدمعت عينا عمر وقال: صدق رسول الله: ((إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)) ، يرفع الله به من اتبعوه وتدبروه، ويضع من أعرضوا عنه فلم يقرؤوه ولم يتدبروه ولم يعملوا به.
فالواجب على الأمة تعظيم كتاب الله المجيد وإجلاله وتوقيره، فإنه كلام ربنا العظيم الجليل، الواجب الفرح به، فكتاب الله المجيد خير ما يفرح به، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57، 58].
والواجب على الأمة أيضا تعظيمه بتلاوته، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. ليُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29، 30]، وقد قال : ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)) رواه مسلم.
فتلاوته تجلو القلوب وتطهرها وتزكيها، وتحمل المرء على فعل الطاعات وترك المنكرات، وترغبه فيما عند الله رب البريات. فالواجب على الأمة تدبر معانيه والعمل بما فيه، قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ [ص: 29]. يقول أهل العلم: "إن من تعظيم كتاب الله أن لا يوضَع في أرض ليسَت محتَرَمة، وأن لا تمدَّ إليه الرِجل، وأن لا تولّيَه ظهرَك".
ومن تعظيم كتاب الله المحافظة على الكُتبِ العامّة والكتب المدرسيّة والصّحُف التي تشتمِل على آياتٍ من القرآنِ الكريمِ في غِلافها أو داخِلها، فلا تمتهن أوراق فيها ذكر الله، قال القاضي عياض رحمه الله: "من استخفَّ بالقرآن أو بالمصحَف أو بِشيءٍ منه فهو كافِرٌ بإجماعِ المسلِمين"، ويقول الإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن: "أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته، وأجمعوا على أن من جحد حرفًا مجمعًا عليه أو زاد حرفًا لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر، وأجمعوا على أن من استخف بالقرآن أو شيء منه أو بالمصحف أو ألقاه في القاذورة أو كذَّب بشيء مما جاء به من حكم أو خبر أو نفى ما أثبته أو أثبت ما نفاه وهو عالم أو شك في شيء من ذلك فهو كافر، وكذلك إن جحد شيئًا من كتب الله تعالى كالتوراة والإنجيل وأنكر أصله فهو كافر".
كل هذا من تعظيم كلام الله تعالى، فالكلام يعظَّم بعظَمِ قائله، فكيف إذا كان المتكلم هو الله جل في علاه؟! فإنه ـ والله ـ خير كلام وأجل كلام، كلام الملك العلام، وهو خير من كل ما يجمعه الناس من أعراض الدنيا وزينتها.
أيها المسلمون، نحن في زمان كثر فيه الإعراض عن هذا الكلام العظيم ألا وهو كتاب الله المجيد، الأمة اليوم تعاني مما اشتكى منه نبيها عندما قال الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ، تعاني من هجر أبنائها للقرآن، هجر قراءته وسماعه والإيمان به والإصغاء إليه, هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وهجر تحكيمه والتحاكم إليه، فقد استبدلت الأمة قراءة القرآن وتلاوة القرآن بقراءة الكتب والمجلات والصحف، واستبدلت سماع القرآن والإصغاء إليه بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام والتمثيليات ومتابعة المباريات، وإذا قرئ القرآن أصغوا إليه بآذان لاهية وقلوب غافلة والله يقول: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204], تخلقت الأمة بأخلاق تخالف أخلاق القرآن، فالأخلاق اليوم في وادٍ وما ينادي به القرآن من التحلي بقويم الأخلاق في وادٍ آخر. تخلت عن تحكيمه في حياتها وفي معاملاتها، والله يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، ويقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، ويقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ.
والقرآن اليوم يواجه هجمة شرسة من الداخل والخارج، من داخل بلاد المسلمين ومن خارجها، فأما من الداخل فقد وجِدَ من يمتهِنُ القرآن ويلقيه في القمامات ويطأ ما فيه ذكر الله برجله، ووجد من لطخ القرآن بالعذرَةِ، ووجد من لطخة بدم الحيض, ووجد من يغني بالقرآن وبألفاظ الأذان وقد قال العلماء: قد أجمعت الأمة على كفر من استخف أو هزل بالقرآن أو بشيء منه، قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ، فكل من اتخذ شيئًا من آيات القرآن للهزل والغناء والرقص والطرب فقد اتخذها هزوًا ولعبًا، وقد توعد الله هؤلاء بالعذاب المهين فقال تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الجاثية: 9].
وقال الشيخ العلامة أبو بكر محمد الحُسيني الحُصني الشافعي في كتابه كفاية الأخيار (ص494): "وأما الكفر بالفعل فكالسجود للصنم والشمس والقمر وإلقاء المصحف في القاذورات والسحر الذي فيه عبادة الشمس وكذا الذبح للأصنام والسخرية باسم من أسماء الله تعالى أو بأمره أو وعيده أو قراءَة القرآن على ضرب الدف". فكل هذه الأفعال عدها العلماء من الكفر المخرج من الملة المحمدية.
وأما من الخارج من بلاد الكفار فمسلسل الاحتقار ومسلسل الإهانة للمصحف الشريف يتوالى، فكم ركلوه بأرجلهم، وهدموا المسجد فوق المصاحف فاستُخْرِجَ من بين الركام، ورسموا عليه الصليب في كثير من المناسبات التي هاجموا فيها مساجد المسلمين، وأهين كتاب الله في معسكراتهم وسجونهم، وألقي به في المرحاض، ولطخ بالنجاسات، حقد على الإسلام والمسلمين، وهذا دأبهم من قديم الزمان, واسمعوا إلى هذه القصة: فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ، ثم عَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلا مَا كَتَبْتُ لَهُ، أي: إن هذا الكلام الذي تقرؤون من كتابتي أنا وليس هو وحيا من عند الله، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ. وهذا جزاء من أساء إلى كلام الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية: 34، 35].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأكرم، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ في كتاب ربكم، فالخير كل الخير في التمسك به وتعظيمه، والشر كل الشر في التخلي عنه وهجره.
أيها المسلمون، إن من حقّ هذا القرآن المجيد تعظيمَه وإجلالَه وتوقيرَه، فإنه كلام ربنا العظيم الجليل، ومِن حقِّه علَينا المنافحةُ عَنه وعدَم السكوتِ على من يتهَجَّم عليه أو يستهزِئ به أو يمتهنه أو يستخف بآية أو حرف من حروفه.
وإننا نرى في مجتمعنا أناسا يمتهنون القرآن ويستخفون بآياته، فترى كلام الله ملقى في الطرقات, وتراه في الزبالات وأماكن القمامة، وتراه في الصحف والمجلات التي تغلف بها البضائع في الأسواق، تراه في المطاعم يقدم عليه الطعام، ترى آيات الله في المدارس ملقاة على الأرض يطؤها الطلاب بأرجلهم أو قد يجلس الطالب على كتبه وفيها كتاب الله وفيها كتب الحديث وفيها كتب الفقه، ويجلس عليها أو يتكئ عليها مخافة أن تتسخ ملابسه، يهين كلام الله، وقد قال الإمام ابن عبد القوي: "إنه يحرم الاتكاء على ما فيه ذكر الله تعالى".
ونحن في هذه الأيام مقبلون على امتحانات المدارس، فينبغي للطلاب المحافظة على مناهجهم الدراسية من الامتهان، لا سيما المناهج الإسلامية، ففيها ذكر الله، وفيها أسماء الله، وفيها آيات من كلام الله, نرى في هذه الأيام الكتب والأوراق تلقى وتتطاير هنا وهناك في البيت أو في الشارع أو في المحلات التجارية، ومن الطلاب من يمتهن كتاب الله في وقت الاختبار، فتجده يقتطع من المناهج الدراسية الآيات والدروس للغش ويجلس عليها أو يجعلها في داخل سراويله. فعلينا أن ننتبه لهذه المسألة المهمة، وأن نستشعر هذا الأمر، وأن نحافظ على حرمات الله، وأن نحافظ على ما فيه ذكر لله سبحانه وتعالى, فإن ذلك من تعظيم حرمات الله، فإن ذلك من تعظيم شعائر الله، فإن ذلك من تقديس كتاب الله تعالى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
فاتقوا الله عباد الله، واقدروا لصاحب الكلام قدره، ولا تكونوا ممن قال الله فيهم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. كونوا ممن يغار لله إذا انتهكت حرمات الله، عظموا كلام الله واحفظوه يحفظكم ويرفعكم، قيل لبشر الحافي: يا بشر، إن لك اسمًا له هيبة كأسماء الأنبياء، فما سر هذا؟! ما سر هذا الاسم الذي يحمل كل هذه الهيبة؟! فقال: كنت أسير بطريق في مرة من المرات فإذا بورقة ملقاة على جانب الطريق، رفعتها فإذا مكتوب فيها الرحمن، قلت: اسم الرحمن يمتهن! فرفعت الورقة وطويتها وطيّبتها ثم وضعتها في جيبي، فجاءني آت في منامي قال: رفعت اسمنا فرفعناك وطيّبت اسمنا فطيبناك.
ورقة رفعها فرفعه الله، فكيف بنا الحال وشوارعنا ملأى بما فيه ذكر الله، وأسواقنا تشتكي ممن يدنس فيها كلام الله, ونحن نستحي من أخذ ما فيه ذكر الله من الطرقات فضلاً عن القمامات.
فاتقوا الله، اتقوا الله، وعظموا الله واقدروه حق قدره، كرموا كلام الله، أخرجوا ما فيه ذكر الله من القمامات يرفعكم الله بها درجات, انصحوا من يستعملها يكن لكم الأجر ويخلد لكم الذكر, فلن يغير الله حال الأمة إلا إذا عظمت ربها وعظمت كتابه.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن يعظمون القرآن، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، اللهم اجعله شفيعًا لنا وشاهدًا لنا لا شاهدًا علينا، اللهم ألبسنا به الحلل، وأسكنا به الظلل، واجعلنا به يوم القيامة من الفائزين، وعند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، اللهم حبِّب أبناءنا في تلاوته وحفظه والتمسك به، واجعله نورًا لهم في حياتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/5452)
الاستعداد لرمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن أحمد لعريط
القل
25/8/1428
المسجد العتيق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- باعث الناس على الفرح في هذا الزمان. 2- استعداد الناس للفرح الدنيوي. 3- سوء اسقبال الناس لمواسم الخيرات. 4- استغلال التجار لرمضان بالمغالاة في الأسعار. 5- الفرار من بلاد المسلمين في رمضان. 6- استعداد المحبين لرمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان، قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
إن معظم الناس في هذا الزمان يصبحون ويمسون في فرح بزينة الحياة الدنيا، فمنهم من يفرح بحصوله على مسكن في عمارة، والآخر على ظفره بسيارة، والثالث على ربحه في تجارة، وهكذا، والقليل من يفرح حين يسمع المؤذن يؤذن للصلاة يفرح بعظيم ثوابها العاجل والآجل، القليل من يفرح حين حولان الحول على زكاته للظفر بجزيل أجرها، والقليل من يجد حلاوة حين يقترب شهر رمضان شهر التوبة والغفران، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]. فاعرض على قلبك أصناف الشهوات والملذات، فإن كان حبك لها أعظم من حبك للعبادات والطاعات فاحذر فالفتنة عظيمة والنهاية أليمة.
إخوة الإيمان، انظروا في واقعنا: بماذا نستعد لأوقات الفرح؟ نسخِّر لها أفضل ما نملك، ونرصد لها الأموال الطائلة، أعراس وسهرات وحفلات ومقابلات في مختلف الرياضات، نعدّ لها العدة قبل أوانها، وربما لا ننال منها إلا التعب والنصب، ولكن شهوة عابرة، فإذا كنا نستعد لهذه الأوقات هذا الاستعداد فكيف حالنا مع أوقات الله تعالى؟!
إن من الناس من تراه ينتظر حتى تقام الصلاة ثم يأتي مهروِلا للصلاة، فيصلي ولا يدري كم ولا كيف صلى، والآخر لو ترى حاله مع هذه الدينارات أو الدراهم المعدودات، فهو لا ينام ليله وهو غارق في همّه يفكّر في الحيلة التي تنجيه من ضريبة الزكاة، فالزكاة عنده مغرم وليست مغنما، ويا عجبا فيمن يتشاءم بحلول شهر الرحمة والتوبة والغفران الذي يحول بينه وبين شهواته ونزواته! فتراه يكابد الصيام في نهار رمضان كما يكابد الخادم الضعيف الحمل الثقيل، ولو ترى حاله أثناء الإفطار كيف يهجم على الشهوات والملذات، فتراه يجدّ وينشط نشاطَ أهل العزم مع العزائم.
إخوة الإيمان، من الملاحظ أن هذه الملذات تتضاعف في ليالي رمضان، ونعدّ لها برامج خاصة، معظمها لا تليق بحرمة هذا الشهر الفضيل، مطربين ومطربات على أهبة الاستعداد، أماكن معدّة خصيصا للحفلات والسهرات، أفلام ومسلسلات ومسرحيات معدَّة لليالي رمضان، هذه الليالي التي أقسم بها البرّ الرحيم فقال في كتابه المبين: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر: 1-5]. فلنحذر ـ عباد الله ـ من انتهاك حرمة هذا الشهر الكريم، فإنها من أمارات الساعة والفتن المظلمة التي تتعاقب على الناس كقطع الليل المظلم.
إخوة الإيمان، انظروا بماذا يستعدّ البعض منا لرمضان، فهم على أحرّ من الجمر لقدوم هذا الشهر، ولكن ليس رغبة في ثوابه، بل من أجل نيل حظ من حظوظ الدنيا، وهي من الظواهر الغريبة التي هي ليست من ديننا الحنيف ولا صلة لها بالرحمة التي هي عنوان هذا الدين الفضيل، ومن جملتها التربّص لرمضان بغلاء الأسعار واحتكار بعض المواد الغذائية الضروريّة لهذا الشهر الكريم، إنها لمن جملة الأشياء الدالة على ابتعادنا عن تعاليم ديننا التي تدعو إلى الرحمة والرأفة خاصة في هذا الشهر الكريم. إن الذين يتربصون بالصائمين في رمضان لِيأكلوا أموالهم بهذه الطريقة إنما يأكلون في بطونهم نارا، ولا أربح الله تجارتهم.
أيها التاجر الكريم، إن الله ينتظر منك رحمة بعباده لينظر إليك بعين رحمته فيبارك لك في تجارتك، واعلم أن تجارتك مع الله عظيمة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ)) رواه الترمذي. فاغتنم هذا الشهر في التجارة مع الله تعالى بإعانة الصائمين على الصيام، والله في عون العبد ما كان في عون أخيه.
أيها المسلمون، هنالك صنف من الناس أشر أبطر، تراهم على أهبة الاستعداد قبل حلول هذا الشهر الكريم، ولكن إلى أين؟! يستعدون لمغادرة أوطانهم إلى بلاد الكفر، يفرون من رمضان فرار الحمر المستنفرة من قسورة، يسافرون لبلاد الكفر لانتهاك حرمة هذا الشهر، فهم ليس بوسعهم صيام ولو يوما واحدا، فكيف بشهر كامل؟!
عباد الله، هناك في بعض الشركات والمصانع الأجنبية عند حلول شهر رمضان الكريم تحدث بعض التعديلات في أوقات العمل مراعاة لخدمة الصائمين المسلمين، فتخفف عنهم الأعمال الشاقة بهم نهار رمضان، ويخرجون في ساعات مبكرة للقيام بتحضير وجبة الإفطار وقضاء حوائجهم اللازمة لرمضان، ويبقى الآخرون من المسلمين ـ إن كانت تنطبق عليهم هذه العبارة ـ ممن لا يصومون يبقون في أعمالهم العادية، بل يتلقون الإهانة والفضائح من هؤلاء الأجانب على انتهاكهم لحرمة رمضان. فيا للعجب!
إخوة الإيمان، ليس بمثل هذا يستعدّ أحباب الله ورسوله الذين ينتظرون بشوق للقاء الأحبة، فالله حبيبهم، والنبي المصطفى نبيهم وصفيهم، ورمضان وغيره من العبادات منتهى آمالهم وقرة أعينهم، يتأهبون للقاء الأحبة بما يليق بمقامهم بالتقوى والعمل الصالح، فهذا حبيب من الأحبة يقول: "شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، ومن لم يزرع ويغرس في رجب ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!".
إخوة الإيمان، إن معظم من يضيعون وقت رمضان في اللهو واللغو هم ممن لم يعظموا حرمة هذا الشهر ولم يعدّوا له العدة، قال الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة: 46]، فلو أراد الإنسان الفوز بما في هذا الشهر من ثواب وأجر لأعد له العدة، ولكن قلّ الوازع الديني والباعث على العمل الصالح، حتى أصبح المسلم لا يعظم هذه الشعائر كما أرادها الله تعالى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32]، فتعظيم هذه الشعائر الدينية الكريمة يكون بالفرح عند حلولها وإعداد العدة قبل أوانها كما كان يفعل سلف هذه الأمة رضي الله عنهم.
عن أُسَامَة بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ الأَيَّامَ يَسْرُدُ حَتَّى يُقَالَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ الأَيَّامَ حَتَّى لا يَكَادَ أَنْ يَصُومَ إِلا يَوْمَيْنِ مِنْ الْجُمُعَةِ إِنْ كَانَا فِي صِيَامِهِ، وَإِلا صَامَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَصُومُ لا تَكَادُ أَنْ تُفْطِرَ، وَتُفْطِرَ حَتَّى لا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ إِلا يَوْمَيْنِ إِنْ دَخَلا فِي صِيَامِكَ وَإِلا صُمْتَهُمَا! قَالَ: ((أَيُّ يَوْمَيْنِ؟)) قَالَ: قُلْتُ: يَوْمُ الاثْنَيْنِ وَيَوْمُ الْخَمِيسِ، قَالَ: ((ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) ، قَالَ: قُلْتُ: وَلَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ((ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ يُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) رواه النسائي، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ. رواه البخاري. وهذه أم سلمة رضي الله عنها تقول: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلا شَعْبَانَ ورمضان. رواه الترمذي.
هكذا كان الحبيب المصطفى يستقبل هذه الشعيرة بترويض النفس على الصوم، وهي من باب مقابلة العمل بمثله؛ حتى يؤدّى كاملا غير منقوص. وهكذا كان السلف الصالح عليهم رضوان الله تعالى يستقبلون مواسم الخيرات بالتقوى والأعمال الصالحة، قال سلمة بن كهيل: "كان يقال: شهر شعبان شهر القراء"، وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القران. فأين نحن من هؤلاء؟!
إخوة الإيمان، فرمضان الفضيل الذي لم يبقَ على حلوله إلا أيام قلائل هو من فضل الله علينا، فبذلك فلنفرح، ولنسعد ولنعدّ له العدة، وخير الزاد التقوى والعمل الصالح، وسعيد من حلّ عليه هذا الشهر وهو ينعَم بالتقوى والإيمان، فيشهد عليه رمضان بأنه أهل لرحمة الله والدخول للجنان والنجاة من النيران.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5453)
مقاصد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
2/9/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرحة المسلمين بدخول شهر رمضان. 2- من مقاصد الصيام. 3- التحذير من الإعلام الفاسد في رمضان. 4- التحذير من تضييع أوقات رمضان. 5- من وظائف رمضان. 6- كلمة للتجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونَفسي بتقوَى الله جلَّ وعلا، فبِها تحصُل السّعادةُ الكبرى وتتحقَّقَ النِّعمة العظمى.
أيّها المسلِمون، يعيش المؤمنون فَرحةً عظمَى بِدخولِ هذا الشَّهرِ المبارَك الّذي جعَلَه ربُّنا مَوسمًا للخيرات وفُرصة لاغتِنام الصّالحات. ثَبَت عن النبيِّ أنه كان يبشِّر به أصحابَه ويحثُّهم فيه إلى الخَيرات ونَيلِ البركاتِ.
شَهرُ رَمضان موسمٌ يجِب أن يستغلَّ في الإقبال إلى الله جلّ وعلا والانقطاعِ لطاعته سبحانه وتحصِيلِ ما يقرِّب إلى مرضاته وتحقيقِ تَقواه في كلّ وقتٍ وحينٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، ونبيُّنا يقول: ((يَا باغِيَ الخيرِ أقبِل، ويا بَاغِيَ الشّرِّ اقصر)).
إخوةَ الإسلام، في رَمَضانَ يجِب أن تُضيءَ رَوافِدُ الخير في قلوبِنا وأن تتنافسَ إلى البرِّ والإحسان جوارحُنا، يقول : ((من صَامَ رَمَضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) و((من قام رمَضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبِه)) متفق عليهما.
أمّةَ الإسلام، مقاصدُ الشريعة من فرضيّةِ صومِ شهرِ رمضان سامِيَةٌ، وأهدافها فيه رَاقِيَة، فريضةٌ تنتظِم آثارًا حسنَة ومنافع جمّة وفوائِد عظيمَة، أعلاها وأعظمُها تطهيرُ النّفوس وتزكِيَة القلوبِ وصَونُ الجوارِحِ عن الموبِقاتِ وزَجرُها عن مكامنِ الفُحش والسيِّئات، في الصحيحين عَنِ النّبيِّ أنه قالَ: ((فإذا كانَ يَومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُث ولا يَصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليَقُل: إني صائم)).
إِخوةَ الإسلام، إنَّ ربَّنا جلّ وعلا يفرض علينا صومَ هذا الشهر، وسُنّة نبيِّنا ترغِّبنا في قيامِ لَياليه؛ لنعيشَ حياةً إيمانيّة، تربِّينا على التخلُّص من [مطالبِ] النفوس وشرورِ الأعمال، وتعوِّدنا على قَهرِ الشَّهوات الجامحة والغرائزِ العارِمة، وبالتالي فالصَّوم في نظرةِ الشريعة كفٌّ عن اللغو، بُعدٌ عن الفجور والأذَى والعُدوان، يَقول : ((مَن لم يَدَع قولَ الزّورِ والعملَ به والجهلَ فَلَيسَ لله حَاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشَرابَه)) أخرجه البخاري.
أيّها المسلمون، إنَّ مما يُناقِض مَقاصِدَ الشريعةِ ويُضادُّ أهدافَها مِن فرضيّة صوم شهر رمضان أن يتهافَتَ المسلمُ إلى الشهوات المحرّمةّ، وأن يعيشَ في لُجَّة الضّياعِ عن الأهداف المنشودةِ والمقاصد المطلوبة؛ لذا فإنَّ مِن الخسارةِ العظمى في الدّنيا والأخرى أن تَتنَافَس وسائل إعلامِ المسلمين في جعلِ رمضان وقتًا لعَرض الأفلام الهابطة والمسلسَلات الساقِطة، وأن تتبارى تلك الوسائلُ في تضييع أوقاتِ المسلِمين وإهدارِ هذا الشهر الكريم.
فواجِبٌ على المسلم صونُ نفسه عن هذه الوسائل، خاصّة في مثلِ هذا الشهر، وفرضٌ لازم على أصحابها ومُلاّكها التوبةُ إلى الله جلّ وعلا والحذرُ من سخطه، فإن من الوزر العظيم والذنبِ الجسيم أن يكونَ المسلم داعيةً للفساد وسببًا للخراب، فالويلُ ثم الويل لمن دخلَ عليه رمضان فبارَزَ ربَّ العزّة والجلال بالفجور والعصيان وإفسادِ شباب المسلمين، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور: 19].
وإنَّ مِن هضمِ حقِّ النفس المسلمة أن يتَّخِذ المسلم رمضانَ فرصةً لسَهرِ الليالي في المقاهي؛ بتسليةٍ فارغة أو لهوٍ باطل، فيَمضي عليه وقتُه الثمين وما تقرَّب بكثيرِ عمل، ولا تزوَّد بما يقرِّبه لمرضاة ربه، ورسولُنا يحذِّر مِن تلك الحالِ المزرِية ويعدّها خسارةً كبيرة وحسرة عظيمة، صحَّ عنه أنه صَعدَ المنبر ثمّ قال: ((آمين آمين آمين)) ، ثمّ قالَ: ((إنَّ جبريلَ أتاني فقال: رَغِم أنفُ امرئٍ أدرَكَ شهرَ رمضان فَلم يُغفر له فدَخلَ النار فأبعَدَه الله، قل: آمين، فقلت: آمين)).
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونَفَعَنا بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذّكر الحكيمِ، أقول هذَا القول، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولسائِرِ المسلمين مِن كلِّ ذنب، فاستَغفروه إنَّه هو الغفورُ الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله علَى إِحسانِه، والشّكرُ له علَى تَوفيقِهِ وامتِنانِه، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه تعظيمًا لشَأنِه، وأَشهَد أنَّ نَبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلَيه وعلى آلِه وأصحابِه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمونَ، أوصيكم ونَفسي بِتقوَى الله جَلّ وعلا، فَهِيَ وَصِيَّة الله اللاّزمةُ للأوَّلين والآخِرين.
أيّها المسلمون، بين أَيديكم شهرٌ عظيم، أيّامُه فاضلة ولَيالِيه شريفة، فجِدّوا فيه بكلِّ صالح، وسارعوا إلى اغتنامها بالبرّ والخيرات، فرسولُنا ـ وهو الجوادُ الكريم في كلِّ وقتٍ وحينٍ ـ كان أجودَ الناس في الخَير، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضان.
واعلَموا أنّه قد ثبَتَ في السّنّةِ الحثُّ عَلى إفطارِ الصُّوَّام، وأنَّ العمرةَ في رمضان تَعدِل حجّةً أو حجّةً مَعَه كمَا ثبَتَ بِذَلِك الحديثُ الصّحيح، وأنَّ مِن أفضل الأعمال في هذا الشّهر الإكثارَ مِن تلاوة القرآن وتدبُّره وتعقُّل أسرارِه ومعانيه، كما أنَّ الصدقةَ في رمضان أفضلُ من الصدقةِ في غيره كما ذكَر ذلك غيرُ واحد من أهل العلم.
أيّها التجار، أنتم في شهرِ الرحمة والإحسانِ، ودينُكم يحثّ على التيسِير والسماحة والرحمةِ والشّفَقَة بالمستهلِكين، روى البخاري عن النبيِّ أنه قال: ((رَحِم الله رَجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشتَرى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)). فعَليكم بحسنِ المعامَلَة والتحلِّي بمحاسِنِ الأخلاق ومَعاليها، ودَعُوا عنكم التّضيِيق على الناسِ والمغالاةَ في الأسعار والرّبحَ الفاحش، فرسولُنا يقول: ((يا مَعشَرَ التّجّار، إنَّ التجارَ يُبعَثون يومَ القيامة فُجّارًا إلاَّ مَن اتَّقى الله وبرَّ وصَدَق)) رواه الترمذيّ. فاسمَعوا وأطيعوا واستجِيبُوا لربِّكم تفلِحوا وتسعَدوا.
إنَّ مِن أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا الإكثارَ مِنَ الصلاةِ والتسليمِ على سيِّدِنا ونبيِّنا محمّد.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبِنا محمّد، وارضَ اللّهمَّ عَن الخلفاءِ الرّاشدِين والأئمّة المهديِّين أبي بكر وعمَرَ وعثمان وعلي...
(1/5454)
السلفية بريئة من أعمال التخريب والتفجير والتدمير
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
الفرقة الناجية, جرائم وحوادث
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
11/8/1428
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خبر من أخبار الصحف. 2- أقسام الكفار: المحارب، الذمي، المعاهد، المستأمن. 3- حكم كل قسم من هذه الأقسام. 4- مفاسد قتل المعاهد والمستأمن. 5- بيان جهل وكذب الذي يتهم السلفية بأعمال التفجير والتدمير والتخريب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: خبر وتعليق، ما الخبر؟ وما التعليق؟ أما الخبر فقد أفادت الصحف يوم الأربعاء الماضي بأنه تم القبض على خلية سلفية كانت تعدّ في مدرسة لقتل بعض الأجانب! وأما التعليق فتعليقان: الأول: تعليق على الحادثة، والثاني: تعليق على الحديث عنها.
أما التعليق على الحادثة فاعلموا ـ وفقكم الله ـ أن الكفار على أربعة أقسام:
القسم الأول: الكافر المحارب الذي اجتمعنا معه في معامِع القتال ومواقع النزال.
الثاني: الذمي، وهو من يدفع الجزية لوليّ أمر المسلمين كلّ عام.
الثالث: المعاهد، وهو من كان بيننا وبينه عهد لمدة معينة أو مطلقة، كالذين عاهدهم النبي من المشركين بصلح الحديبية.
الرابع: المستأمِن الذي أُعطي أمانًا من مسلم.
هذه أقسام الكفار.
أما المحارب فلا ريب أنّ الواجب أن يعمل فيه بقول رب العالمين: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 4].
وأما الذمي فقد كثرت النصوص التي تحرم علينا أن نقتله، ولا يوجد كافر ذميّ في هذا العهد؛ لأن المسلمين عطلوا شعيرة الجهاد في سبيل الله، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بُرَيْدَةَ بن الحصيب أنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ)) ما هي الخصال يا نبي الله؟ قال: ((ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ)).
فمن دفع الجزية من هؤلاء فهو الذمي، نسأل الله أن يعيد للإسلام مجده، قال تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]. فهذا النوع حرم النبي أن يمس بسوء، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)) أخرجه الإمام أحمد.
وأما المعاهَد فلا يجوز أن يغدر به، فإن خفنا غدره نبذنا عهده، قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ [الأنفال: 58]. وقد حرم رسول الله قتله بقوله: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)) أخرجه البخاري، وقال : ((مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَة بِغَيْرِ حِلِّهَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْجَنَّة)) رواه أبو داود والنسائي.
ولو قتل المعاهد خطأً فقد أوجب الله الدية والكفارة على القاتل بقوله: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 92].
والرابع المستأمِن، وهو جنس ينتظم أنواعًا عديدةً، وهي من أعطاه مسلمٌ أمانًا، فالمسلم يُدخل الكافرَ في جِواره، قال : ((الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ)) رواه أبو داود. ((الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ)) أي: كما يقتص للشريف إذا قُتل يقتص للضعيف، ((ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ)) أي: يجير أدناهم كعبد وامرأة فيحرم دمه على عامة المسلمين، وقد قال النبي كما في الصحيحين لأم هانئ بنت عمه أبي طالب وأخت علي : ((قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ)).
فمن دخل في جوار مسلم فلا يجوز قتله للحديث آنف الذكر: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)) أخرجه البخاري. قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (12/259): "وَالْمُرَاد بِهِ مَنْ لَهُ عَهْد مَعَ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاء كَانَ بِعَقْدِ جِزْيَة، أَوْ هُدْنَة مِنْ سُلْطَان، أَوْ أَمَان مِنْ مُسْلِم".
وقد أوجب الله علينا أن لا نتعرض له فقال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة: 6]، وجاءت هذه الآية بعد قول الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ أي: فاقتلوهم ولكن إذا أراد أحد منهم أن يتعرف على الإسلام فأعطه الأمان، فإن أسلم وإلا فلا إكراه في الإيمان، والواجب علينا أن نُبلِّغَه ما يأمن فيه من مكان.
ومما يدل على أنّ المعاهد يشمل هذه الأنواع حديث النبي : ((أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه أبو داود. فهذا في الذمي سماه النبي معاهدًا.
وكما دلت النصوص على تحريم التعرُّض لهؤلاء الكفّار فقد دلّت الفطرة السليمة على ذلك، فالفطرة دالة على وجوب احترام مثل هؤلاء.
عباد الله، إنّ قتل هؤلاء عمل إجراميّ تتوّلد عنه كثير من المفاسد، منها:
1- الوقوع في الغدر والخيانة:
فالتعرض لهؤلاء الذين احترم رسول الله دماءهم غدر وخيانة، ولذا بوّب المنذري في الترغيب والترهيب بقوله: "الترهيب من الخيانة والغدر وقتل المعاهد أو ظلمه". فما حال الغادر يوم القيامة؟ يجيب سيد الأوفياء بقوله كما في صحيح البخاري ومسلم: ((إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ)) ، فيفضحه الله قبل أن يقضيَ في أمره.
لقد أعطى عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة للنبي لما دخلها منتصرًا، فدخلها وصلى في جوفها ثم جاء إليه عمه العباس فقال: اجعل لنا السِّدانة مع السِّقاية، فقال رسول الله : ((أين عثمان بن طلحة؟)) فجاءه، فدفع إليه بمفتاحها وقال: ((هذا يوم برٍّ ووفاء)) ، ونزلت الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]. فما أعظمَه من دين!
2- مخالفة النصوص التي سبق إيرادها والتعرض للطرد من رحمة الله.
3- الانتحار:
ففي كثير من الأحيان لا يتمكن هؤلاء المتهوّرون من الوصول إلى أولئك الكفار لقتلهم إلا بأن يقتحم الإنسان منهم أماكنهم بنفسه، فيفجّرهم ويفجر نفسه معهم. ويا ليت شعري أيُّ دين يأمر بذلك؟! وأيُّ عقل يقر ذلك؟! وأي حجة عند هذا المنتحر؟! أما سمع هؤلاء بحديث رسول الله في الصحيحين: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) ؟!
4- قتل بعض المسلمين:
فأماكن هؤلاء لا تخلو من وجود المسلمين فيها، ولقد قال بعضهم عندما اعترض عليه بأنهم يقعون في إزهاق روح المسلم، ردّ بقوله: أما المسلمون فعجَّلنا بهم إلى الجنة! فما أعظمَ تلاعبَ الشيطان بهم! وما أسفهَ عقولَهم! وحسبي هنا أن أُذكِّر بقصتين:
الأولى: رواها ابن ماجة وحسنها الألباني: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي سَرِيَّةٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ: ((وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ؟)) فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : ((فَهَلا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ؟!)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ، قَالَ: ((فَلا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ)) ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، فَقَالُوا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ فَقَالَ: ((إِنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)).
والثانية: في الصحيحين عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ فَقَالَ: ((يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!)) قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
5- تشويه صورة الإسلام:
والإسلام بريء من هذه الأعمال، فهو دين بر وصدق ووفاء، ولقد قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، وعلى لسان أتباع موسى عليه السلام: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تسلطهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، وإن من ذلك أن نشوه لهم صورة ديننا، ولئن قال رسول الله : ((لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)) أخرجه الشيخان، فلأن يُضلّ بك كافرًا شرٌّ لك من كذا وكذا.
الإسلام دين لا يعرف الغدر، دين المرحمة. لقد قالت أمنا عائشة لنبينا : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ)) ، فبماذا ردّ رسول الله ؟ قال: ((بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماء
6- تشويه صورة الملتزمين:
فإن الاتهامات ستنالهم، وحسبهم قول ربهم: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38]. وبوقوع الناس في عرضهم تجري لهم حسناتُهم.
7- زعزعة الأمن وزراعة الفوضى.
8- تسليط الكافرين علينا، وفينا ـ أيها المؤمنون ـ من الجراح ما يكفينا.
أيها المؤمنون، فرق كبير وبون شاسع بين الولاء والوفاء، فعدم التعرض لهؤلاء وفاء لا ولاء.
وإني لأرجو أن يُرفق بهؤلاء الشباب الذين كانوا يريدون القيام بهذه الأعمال؛ وذلك لسبب واحد، وهو أنه مغرر بهم بدون شك، إن كان لا بد من الضرب بيد من حديد فلتقع اليد على من غرَّر بهم ولوَّث أفكارهم بهذه القاذورات.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وأما الوقفة مع الحديث على الحدث فقد قيل في الخبر: "جماعة سلفية"، وقبل كل شيء أجد نفسي أستهل هذه الوقفات بقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]. ثم أقف هذه الوقفات لإحقاق الحق وبيان الباطل:
أولاً: من رمى السلفيين بذلك فإنما هو أحد رجلين:
1- عامي لا يعرف منهج السلف، وهذا من حقِّه علينا أن نبين له، فليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل من أطلق لحيته وقصّر ثوبه سلفيًا.
2- علماني حقود يحلو له الصيد في الماء العكر، وهذا يُقال له كما قيل لمن قبله:
كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنَها فلم يضِرْها وأوهى قرنَه الوعلُ
ثانيًا: لسنا اليوم بصدد الدفاع عن جماعة أو عن حزب أو طائفة أو كيان أو جمعية، وإنما هي وقفات ندافع بها عن منهج رباني قويم سار عليه الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، منهج انتهجه أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
ثالثًا: إن السلفية دعوةُ الناس للرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح من الصحابة ومن سار على دربهم وترسّم خطاهم، وهي بريئة من أعمال التفجير والتدمير، وسأذكِّرُ الناس بدليلين:
1- كلكم يذكر حادثة الخليفي من جماعة التكفير لما دخل ورفاقُه إلى مسجد الثورة الحارة الأولى وقتل فيه من قتل، كلنا يذكر عباسًا التكفيري ـ عاملهم الله بعدله ـ لما قتل الناس في صلاة التراويح بمسجد الجرّافة. ألا يدل ذلك على تباين واضح بين الفكر التكفيري والمنهج السلفي؟! لماذا تقصّد التكفيريون مساجد السلفيين وتركوا مساجد غيرهم ولم يعبؤوا بها؟! الإجابة لا تحتاج إلى ذكاء، وإنما تحتاج إلى إنصاف.
على مرِّ التاريخ لم يُعرف أنه تصدى للتكفيريين بإقامة المناظرات سوى السلفيين، هم من ناظرهم، وهتك سترهم، ورد على شبهاتهم، وكشف للناس عوارهم؛ ولذلك كان هذا العداء من نصيبهم وسلِمَ غيرُهم.
2- أقوال السلفيين في التفجير وأعمال التدمير موجودة في كتبهم، فكم حذروا الناس عنها! وإذا كنت ـ أخي الكريم ـ ممن يتعامل مع الإنترنت فابحث عن هذه العبارة بمحرك البحث قوقل (خطب منبرية في التحذير من الأعمال التخريبية) لتقف على عشرات الخطب والمقالات التي يحذر فيها السلفيون من هذا العبث.
ولا إخال أنه يخفى على الناس تحذيرات علمائنا ـ نحن السلفيين ـ من هذه الأعمال، كالشيخ ابن باز والألباني وابن عثيمين رحمهم الله والشيخ الفوزان والعبَّاد حفظهما الله وغيرهم كثير.
رابعًا: إن من آكد الواجبات أن يتقي الناس ربهم فيما يأتون ويذرون من الكلام والشهادة، ولقد حذر رب العالمين من القول بدون علم واتهام الناس والشهادة عليهم بالباطل، قال سبحانه: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف: 19]، وقال: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].
هذا، وإن للسلفية ربًا يحميها، وسخّر لها سبحانه علماءَ يذودون عن حياضها.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن...
(1/5455)
تفسير سورة العصر
الإيمان, التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
الشرك ووسائله, القرآن والتفسير, حقيقة الإيمان
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل سورة العصر. 2- من حلف بغير الله فقد أشرك. 3- خطر الشرك وبعض صوره. 4- الإيمان قول وعمل. 5- شرط قبول الأعمال. 6- فضل دعوة الغير للخير. 7- منزلة الصبر من الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، يقول الله عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إن المتدبر لآيات القرآن العظيم لهو في خير كبير؛ إذ يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، وبأي شيء يطلبها، ويستبين له طريق النار وبأي شيء يحذرها، أما من أغفل كتاب الله وهجره فما له من ذلك الخير من نصيب.
ومن السور التي نقرؤها مرارا وتكرارا وأكثر الناس في غفلة عن معانيها سورة العصر، يقول تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ. قال عنها الشافعي رحمه الله: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"؛ وما ذلك إلا لما احتوته هذه السورة من بيان لأصول الدين وفروعه، وبيان لسبيل المؤمنين المؤدي للربح والفوز بالجنة والنجاة من النار.
وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم المعاني العظيمة لهذه السورة، فاتخذوها وصية لهم وإخوانهم، فعن عبيد الله بن حفص قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلا أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر. وما ذلك إلا تذكيرا بها وبما احتوته من المعاني الموصلة للربح والسعادة.
عباد الله، قال تعالى: وَالْعَصْرِ ، هذا قسم من الله بالعصر، وهو الدهر كله الذي هو محل الحوادث من خير وشر، وعصر الإنسان هو عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران.
ولله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، فأقسم بالليل والنهار والشمس والقمر، فله ذلك، وأما نحن العباد فلا يحق لنا ذلك، بل من حلف بغير الله فقد أشرك، فعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلا يَحْلِفُ ويقول: لا وَالْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)).
والشرك عاقبته وخيمة ومصيره أليم، وقد انتشر في زماننا الحلف بالآباء وبالأمانة وبالنبي ، وكل ذلك لا يجوز، وهو محرم وإن تعودته الألسنة، قال النَّبِيّ : ((مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت)).
فهذا هو القسم فما جوابه؟ وعلى ماذا أقسم الله؟ وإنما يقسم الله على شيء لبيان عظمة وأهمية المقسم عليه، قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ أي: إن جنس الإنسان في خسارة، فيشمل المؤمن والكافر، والخسارة مراتب متعددة، فقد يكون الإنسان في خسارة مطلقة كحال من خسر الدنيا والآخرة، وقد يكون خاسرا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسارة على بني الإنسان، إلا من اتصف بصفات أربع، وهي قوله تعالى: إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، فاستثنى الله من أهل الخسارة من آمن به وصدق، ولا يكون الإيمان به إلا بمعرفة الله عز وجل بربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، وبألوهيته وأنه المستحق للعبادة وحده دون سواه، وبأسمائه وصفاته، ومعرفة رسوله المعرفة التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق وتصديقه فيما أخبر وامتثال أمره فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتقديم حبه على النفس والمال والولد، ومعرفة دين الإسلام وذلك بتعلم أحكامه وتعاليمه ومن ثم العمل بها، فمن عرف ذلك فقد آمن وصدق، ومن خالف وأعرض فهو المتصف بالخسارة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن مما يضاد الإيمان بالله الشرك، وهو أن تجعل مع الله ندا في العبادة وهو خلقك، وهو ذنب عظيم، مخلد صاحبه في النار، لا يغفر الله له ولا تناله شفاعة الشافعين، قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48].
ولا يقتصر الشرك ـ عباد الله ـ كما يفهم الكثير على عبادة الأصنام فحسب، بل هو أوسع من ذلك؛ فمن استعاذ بغير الله فقد أشرك، ومن تعلق قلبه بغير الله في دفع ضرر كمرض وفقر ونحوه أو جلب خير كرزق وولد ونحو فقد أشرك، مثل من يعلق التمائم على صدور الأطفال أو في أيديهم أو في السيارة أو في البيت؛ لدفع العين والحسد فهذا من الشرك، والذهاب إلى السحرة والكهان والمشعوذين، وحضور جلسات الزار للاستعانة بالجن، وقراءة الأبراج في الصحف، هذا من الشرك، والحلف بغير الله شرك، وغيرها كثير لا يتسع المقام لذكرها من صور الشرك.
فاحذروا ـ عباد الله ـ الشرك بالله، فهو سبب للخسارة العظمى في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
قال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، بعد الإيمان ثنى الله بالعمل الصالح، وهو جوهر العبادة وأساسها، فالعمل الصالح شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده الواجبة والمستحبة. والعمل الصالح من لوازم الإيمان بالله، فكلما زاد عملك زاد إيمانك، وكلما قل عملك قل إيمانك، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وبعض الناس يظن أنه يكفي مجرد الإيمان في القلب ولا حاجة للعمل، وهذا باطل، بل الإيمان مقترن بالعمل، والعمل دال على الإيمان، فمن صلح باطنه بالإيمان صلح ظاهره بالعمل الصالح، ومن فسد باطنه ونقص إيمانه فسد ظاهره وترك العمل، فلا تجد الإيمان في القرآن إلا وهو مقرون بالعمل الصالح، وهذا كثير لمن تأمل وتدبر.
عباد الله، وللعمل المقبول عند الله شرطان:
أحدهما: الإخلاص لله تعالى، بأن تؤدي العمل لله وحده، ترجو ثوابه وتخاف عقابه، فمن أراد بالعمل غير الله رد عليه عمله ولو كان كأمثال الجبال، فقد صح في الحديث عن النبي أنه يؤتى يوم القيامة بالرجل قارئ القرآن والمنفق في سبيل الله والمجاهد قتل في المعركة، فيقذفون في النار؛ وما ذلك إلا لأنهم أرادوا الناس بعملهم دون الله، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)) رواه مسلم. فرب عمل قليل تكبره النية الصالحة، ورب عمل كبير ترده النية السيئة.
وثاني الشروط في العمل المقبول عند الله: أن يكون موافقا لما جاء عن النبي ، وهو شرط المتابعة، فنحن لا نعبد الله إلا بما شرع الله في كتابه وفي سنة نبيه ، وما عدا ذلك فهو مردود على صاحبه، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ))، وفي رواية: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
ثم قال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، فالتواصي بالحق هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعد أن آمنت بالله وعملت الصالحات توجب عليك أن تدعو غيرك لذلك، فتدعو أهل بيتك زوجتك وأولادك وجيرانك ووالديك وغيرهم لهذا الدين الحق.
وفي الدعوة إلى الله أجر عظيم لمن تأمل ذلك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا )) رواه مسلم. فإذا دعوت رجلا للإسلام فكل عمل صالح يعمله يصب في ميزان حسناتك دون أن ينقص من أجره شيء، وكذلك إذا علمت أحدا من الناس علما وعمل به كان لك مثل أجره دون أن ينقص منه شيء.
والتواصي بالصبر وهو حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط من أقدار الله عز وجل، وبالصبر يستطيع العبد مواصلة سيره إلى الجنة، فهو يحتاج إلى الصبر في الإيمان بالله، وفي العمل الصالح، وفي الدعوة إلى الله، فرأس كل ذلك هو الصبر.
قال السعدي رحمه الله: "فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه ـ أي: بالإيمان والعمل الصالح ـ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره ـ وهما التواصي بالحق وبالتواصي بالصبر ـ، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم".
(1/5456)
حقيقة التوحيد
التوحيد
الشرك ووسائله, شروط التوحيد
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الخلائق. 2- حقيقة كلمة التوحيد. 3- تفسير خاطئ لكلمة التوحيد. 4- كلمة التوحيد هي دعوة الأنبياء كلهم. 5- فضائل التوحيد الخالص. 6- تعريف الشرك وبيان خطورته. 7- من صور الشرك في زماننا.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله ما خلقنا عبثا، بل لغاية عظيمة، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ أي: أفحسبتم ـ أيها الخلق ـ أنما خلقناكم عبثا، أي: سدى وباطلا، تأكلون وتشربون وتمرحون وتتمتعون بلذات الدنيا ونترككم لا نأمركم ولا ننهاكم ولا نثيبكم ولا نعاقبكم؟! بل خلقنا الله لهدف عظيم، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. هذه هي الغاية التي خلقنا لأجلها يا عباد الله، وهي عبادة الله عز وجل وتوحيده، أن نفرد الله عز وجل بالعبادة دون ما سواه؛ لأنه هو المستحق لها دون غيره.
ولهذه الحقيقة التي هي التوحيد أرسل الله الرسل والنبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب ليبينوا للناس ما اختلفوا فيه، وقامت سوق الجنة والنار، وانقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، وأمر الله رسله بقتال من كفر وأعرض.
فما حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأمر به الخلق؟ إنها كلمة: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فما معنى شهادة أن لا إله إلا الله؟ كلنا يقولها والقليل منا يعلم معناها، يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
معنى "لا إله إلا الله" هو إفراد الله بالعبادة دون ما سواه، فلا تعبد إلا الله، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162]، فالدعاء والاستغاثة والصلاة والزكاة والذبح وغيرها من العبادات القولية والعملية هي لله وحده، فلا يجوز صرف شيء منها لصنم ولا لملك ولا لنبي ولا لشجر، فمن أدى العبادة لغير الله فقد أشرك بالله، ومن قال هذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع اعتقاد ذلك والعمل به فهو المسلم حقا.
وكثيرا ما نسمع أن معنى "لا إله إلا الله" أنه لا خالق ولا رازق إلا الله، هذا التفسير ـ عباد الله ـ تفسير خاطئ وتحريف للكلم عن مواضعه؛ وذلك لأن كفار قريش يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، ولم ينفعهم هذا مطلقا، بل بقوا على كفرهم، والدليل على ذلك من كتاب الله ربنا قوله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس: 31]، وقال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61]. فهذا الاعتقاد وهو أن الله هو الخالق الرازق يؤمن به كل الناس، الكفار والمؤمنون، ولكن لم ينفع الكفار إيمانهم بذلك.
فمعنى "لا إله إلا الله": لا معبود بحق في السموات والأرض إلا الله، ففيها نفي وإثبات، نفي لجميع الآلهة وإثبات الإلهية الله تعالى وحده دون غيره، وهذا ما فهمه الكفار وهو ترك عبادة الأصنام والأوثان وعبادةُ الواحد الديان، ولذلك استغربوا لهذه الكلمة وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ، وقال تعالى مبينا فهمهم لكلمة التوحيد: قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا.
عباد الله، هذه الكلمة دعا إليها جميع الأنبياء والرسل، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وإلى ذلك دعا نوح عليه السلام: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، ثم جميع الأنبياء من بعده صالح وهود وغيرهم كلهم قالوا لقومهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.
وقد أمر رسولنا بالدعوة إليها وقتال من كفر بها، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)).
قول: "لا إله إلا الله" سبب لنيل الجنة، قال : ((فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)) رواه البخاري، ولكن هذا الأجر العظيم لمن قالها خالصا من قلبه ومات عليها ولم يناقضها بشرك.
وعَنْ مُعَاذٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟)) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: ((لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
فإذا علمنا معنى كلمة التوحيد وهو أنه لا إله في الكون يستحق العبادة إلا الله، فما ضد التوحيد؟ إنه الشرك، ومعناه ما رواه البخاري عن عَبْد اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)). فالشرك هو صرف العبادة لغير الله.
والشرك ذنب عظيم لا يغفره الله مطلقا إلا لمن تاب وآمن وعمل صالحا، أما من مات عليه فهو في النار، قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا. ولو غفر الشرك لأحد لغفر لابن نوح الذي قال والده له: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. ولو غفر لأحد لغفر لعم النبي الذي نصره وكان له ظهيرا لنشر الدين، ولكنه مات على الكفر والشرك، عن الْعَبَّاسُ بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قلت لِلنَّبِيِّ : مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: ((هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)).
عباد الله، ولخطورة الشرك أن الله حرم الجنة على المشرك، وحكم عليه بالخلود في النار، كما في قوله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. الشرك أعظم الظلم، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
ولخطورة الشرك استعاذ منه نبي من أنبياء الله وهو إبراهيم عليه السلام، الذي حارب الأصنام وكسرها وألقي في النار بسببها يخاف على نفسه الشرك، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ. فإذا خافه هذا النبي من أولي العزم على نفسه وعلى ذريته فمن باب أولى أن نخافه على أنفسنا.
لخطورة الشرك خافه على صحابته أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، قال رَسُولَ اللَّهِ : ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ)) ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً)). وأحاديث كثيرة غير ذلك تبين خطر الشرك بالله.
عباد الله، فإن سأل سائل: ما هي بعض صور الشرك المنتشر في زماننا؟ نقول: من صور الشرك المنتشر في زماننا دعاء غير الله لطلب الرزق وجلب النفع ودفع الضر، كدعاء النبي أو الصالحين أو الأولياء من دون الله، مع أن كاشف الضر وجالب النفع هو الله، قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ.
من صور الشرك تعليق الحروز والتمائم على رقاب الأولاد؛ لدفع الأمراض والحسد عنهم، أو تعليقها في السيارات. من صور الشرك الذبح عند القبور بحجة التقرب لهذا الميت لكي يكون واسطة بينه وبين الله، أو للجان، أو الذبح عند العيون الحارة للشفاء، والنبي قال: ((لعن الله من ذبح لغير الله)). من صور الشرك الذهاب للسحرة والكهان للعلاج والسؤال، وقراءة الأبراج في الصحف والمجلات. ومن صوره الغلو في الأنبياء والصالحين، وأن يجعل لهم بعضا من خصائص الرب، كقول ذلك الشاعر في قصيدة البردة:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا كذب، فإن علم الغيب وهو علم اللوح والقلم من علم الله لا من علوم الأنبياء، قال : ((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)).
عباد الله، لا تستهينوا بأمر التوحيد وخطورة الشرك، فوالله إن أمرهما لجد مهم، بل هو أهم المهمات وأولى الأمور بالتعلم والحذر، فتعلموا أمور دينكم تفلحوا في الدنيا والآخرة.
(1/5457)
شكر النعم
الإيمان
خصال الإيمان
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1-من أسباب زيادة النعم شكرها. 2- شكر النعم من صفات الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين. 3- آثار الشكر. 4- بم يكون الشكر؟
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول ربنا سبحانه وتعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18].
لقد أجزلَ الله على عباده من نعمه العظيمة، وأغدق عليهم من آلائه الجسيمة، فنعم الله الظاهرة والباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات، من جميع أصناف النعم، مما يعرف العباد ومما لا يعرفون، وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن تحصى.
وطلب منا ربنا مقابل هذه النعم الشكر له فقال سبحانه: فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 114]، وقال سبحانه آمرا عباده بذكره وشكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]. قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: "مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، وهذان الأمران هما جماع الدين؛ فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس، أن يذكر وأن يشكر، يذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره شاكر لمن شكره، فذكره سبب لذكره وشكره سبب لزيادته من فضله".
وشكر الله على نعمه هو من صفات الأنبياء والمرسلين ومن صفات عباد الله الصالحين، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء: 3]، وقال عن إبراهيم الخليل عليه السلام: إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 120، 121]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه، فقلت: يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر! فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)) رواه البخاري. ولذلك كانت هذه العبادة صفة القليل من العباد كما قال سبحانه: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13].
والشكر وصية النبي لأصحابه، فقد قال: ((يا معاذ، أني أحبُّك، فلا تدعنّ أن تقول دبرَ كلّ صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحسن عبادتك)). ودعاء العبد ربَّه أن يوافيَ نعمَ الله بالشكر من أفضل الأدعية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تأمّلتُ أفضلَ الدعاء فإذا هو: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
ولما عرف عدوُّ الله إبليس قدرَ مقام الشكر وأنه من أجلِّ العبادات وأعلاها جعل غايتَه السعيَ في قطع الناس عنه، فقال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17].
والشكر أمنةٌ من العذاب، قال عز وجل: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء: 147]. ونجَّى الله لوطًا عليه السلام من العذاب بالشكر: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـ?هُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ [القمر: 34، 35].
وكلُّ نعمة لا تقرِّب من الله فهي نقمة، والشكر هو الحافظ للنعم الموجودة والجالبُ للنعم المفقودة، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (النعمة موصولةٌ بالشكر، والشكر يتعلّق بالمزيد، ولا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر).
والعبد إذا كانت له عند الله منزلة فحفظها وبقي عليها ثم شكر الله على ما أعطاه آتاه الله أشرفَ منها، وإذا ضيَّع الشكرَ استدرجه الله، يقول الحسن رحمه الله: "إن الله يمتِّع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابًا".
وإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَ تعصيه فاحذره، قال سبحانه: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [القلم: 44]، قال سفيان رحمه الله: "يُسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر".
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، الشُكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فالشُكر بالقلب يكون بالاعتراف بالنعم للمُنعِم وأنها منه وبفضله، ومن الشُكر بالقلب محبة الله على نعمه والإخلاص له والخوف منه. والشُكر باللسان: الثناء بالنِّعم وذكرها وتعدادها وإظهارها، قال الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. والشُكر بالجوارح: أن لا يُستعان بالنِّعم إلا على طاعة الله عز وجل، وأن يحذر مِن استعمالها في شيء من معاصيه، فمن عصى الله بنعمه فإنه لم يؤد شكرها، وهو معرّض للحرمان منها.
ويبين لنا ذلك القصة التي رواها البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه سمع النبي يقول: ((إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم ـ أي: يختبرهم ـ فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، قال: فأعطي ناقة عشراء ـ أي: قريبة الولادة ـ فقال: بارك الله لك فيها، ـ قال: ـ فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها، ـ قال: ـ فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلى بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي شيء أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدًا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم. ثم إنه أتى الأبرص ـ أي: الملَك الذي جاءهم أول مرة ـ في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحيل ـ أي: الأسباب والطرق ـ في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلّغ عليه في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرًا فأعطاك الله؟! فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر ـ أي: عن آبائي ـ فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت، ـ قال: ـ وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه ما رد على هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت)). هذان مثالان للكافر بالنعمة، وأما الثالث صاحب الغنم فإنه مثال الشاكر الذي يعرف نعم الله فيؤدي شكرها كما ينبغي، يقول : ((وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم شيئًا أخذته لله ـ أي: لا أشق عليك برد شيء تأخذه ـ، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رُضي عنك وسُخط على صاحبيك)).
ألا فكونوا ـ عبادا لله ـ شاكرين معترفين بنعم الله ظاهرا وباطنا، وأن نستغل نعم الله في طاعة الله لا في معصيته، فمن فعل ذلك فهو العبد الشاكر.
(1/5458)
غض البصر
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل الشرور أصلها من النظر. 2- حرمة النظر الحرام. 3- الأدلة على تحريم التبرج وإظهار الزينة. 4- الوصية بالاهتمام بالأهل والأولاد. 6- آثار النظر للحرام. 7- فتوى سماحة الشيخ ابن باز في تحريم اقتناء الدش.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا.
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين والمؤمنات ليغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم, فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه, وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم؛ وما ذلك إلا لخطورة هذه المعصية، وهي نظر الرجال إلى النساء ونظر النساء إلى الرجال، فمن أطلق بصره فيما حرم الله أورد نفسه المهلكات. قال ابن القيم: "والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل المحرم ولا بد ما لم يمنع منه مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده".
أخي المسلم، إنك يوم تعصي الله بنظرك إلى المحرم فإنما تعصيه بجارحة من الجوارح التي أنعم الله بها عليك، والتي تستوجب منك الشكر بالقول والعمل، قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]. فإذا قابلت هذه النعمة بالعصيان والكفر والجحود فهي أولى بالنقصان والزوال. تخيل لو كنت أعمى فهل ستعصي الله بهذه النعمة؟! طبعا لن تقدر على عصيانه.
واعلم ـ هداني الله وإياك ـ أنك مسؤول عن نظرك يوم القيامة، قال سبحانه: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]. فهل أعددت للسؤال جوابا؟!
والنظر إلى ما حرمه الله يعتبر زنا، ففي الصحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قال: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ)).
جماعة المسلمين ، لقد استهان كثير من المسلمين رجالا ونساء بالنظر المحرم، فانتشرت المعاكسات بين الرجال والنساء دون حياء أو أدب، والله قد حذر الرجال من فتنة النساء، في صحيح البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاء)) ، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ)).
ثم حذر الله النساء من التبرج وإظهار الزينة، فقال سبحانه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33]، بل التبرج وإظهار الزينة أمام الناس في الأسواق وفي العمل سبب لدخول النار، قال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)). فالمرأة تلبس ثيابا ولكنها في الحقيقة هي عارية؛ لأنها تبين شيئا من جسدها وشعرها وساقيها، فهذا الصنف من النساء مع كونها لابسة للثياب إلا أنها عارية ملعونة لعنها النبي وطردها من رحمة الله، يقول رسول الله في المتبرجات : ((وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)).
وإذا خرجت المرأة متعطرة من بيتها فإثمها كإثم الزانية سواء بسواء، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة مرت به تعصف ريحها، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟! قالت: نعم، قال: وله تطيبت؟! قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله يقول: ((ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فلا يقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل)).
فاتقوا الله ـ يا معاشر الرجال ـ في أنفسكم، وغضوا أبصاركم عن النظر إلى ما حرم الله، ففي ذلك السلامة لكم في الدنيا والآخرة، فكما أنكم لا ترضون أن ينظر أحد إلى نسائكم فلا ترضوه لنساء العالمين، قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
وعليكم ـ يا معاشر الشباب والشابات ـ بالزواج؛ ففيه الحل الأمثل لمشاكل المراهقين والشهوات، قال : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)).
ثم اتقوا الله في نسائكم وبناتكم وأخواتكم، فلا تسمحوا لهن بالتبرج وإظهار الزينة، فهن مسؤولية في أعناقكم يوم القيامة، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
_________
الخطبة الثانية
_________
جماعة المسلمين، إن للنظر المحرم آفات وأخطارا على المسلم في دينه ودنياه، فمن ذلك أنه يورث حسرة في القلب؛ لأن العبد يرى ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه، ومن ثم يورثه ذلك انشغالا في القلب لا يكاد ينفك عنه ووسوسة شيطانية تدعوه إلى مداومة النظر، النظرة بعد الأخرى حتى ينسى ذكر الله والصلاة والعبادة، كما أن في النظر إلى ما حرم الله دعوة إلى الزنا والتفكير فيه، والله قد أمر بغض البصر ابتداء ثم بحفظ الفرج ثانيا، فقال سبحانه: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ؛ وذلك لأن النظر إلى النساء العاريات والرجال العراة سبيل إلى الزنا.
وغض البصر طريق للجنة، فعن عبادة بن الصامت أن النبي قال: ((اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)).
جماعة المسلمين، لقد استهان كثير من المسلمين في وقتنا الحاضر بالنظر إلى ما حرمه الله، وذلك بسبب ما تعرضه القنوات الفضائية من مسلسلات وأفلام ودعايات، وما ينشر من صحف ومجلات استخدموا فيها المرأة سلعة لجذب الأنظار، وما ذلك بخاف عليكم.
فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن نظر الرجل للمرأة أو المرأة للرجل في التلفاز في مسلسل أو فلم أو مسرحية معروضة حكمه واحد وهو التحريم، فلا يجوز لك أن تنظر إلى المذيعة ولا إلى الممثلة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر للمذيع أو الممثل.
والعجب كل العجب أن يسمح الرجل الشهم ذو الغيرة لزوجته بمتابعة صور الرجال في الصحف والمجلات أو عبر القنوات الفضائية، وربما خرج الرجل عاريا إلا ما يستر عورته المغلظة، ثم لا تثور له غيرة بل ربما شاركها في النظر! أو كيف تسمح المرأة لزوجها أن يتأمل صور النساء في المجلات أو عبر القنوات الفضائية وقد خرجن عاريات إلا ما يستر بعض أجسادهن، وبالتالي يعقد مقارنة بين زوجته والنساء المتجملات العاريات، ربما أدت إلى زهده في زوجته وربما طلاقها؟! ولذلك حرم العلماء اقتناء هذه الصحون الفضائية؛ بسبب الشر الذي تنقله للمسلمين، وما فيها من خير فهو قليل جدا مقارنة بما يعرض من فتن وفساد وضياع للصلاة والصيام واكتساب للآثام.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله رئيس اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية: "فقد شاع في هذه الأيام بين الناس ما يسمى بالدش أو بأسماء أخرى، وأنه ينقل جميع ما يبث في العالم من أنواع الفتن والفساد والعقائد الباطلة والدعوة إلى الكفر والإلحاد، مع ما يبثه من الصور النسائية ومجالس الخمر والفساد وسائر أنواع الشر الموجود في الخارج بواسطة التلفاز. وثبت لدي أنه قد استعمله الكثير من الناس، فلهذا وجب التنبيه على خطورته ووجوب محاربته والحذر منه وتحريم استعماله في البيوت وغيرها، وتحريم بيعه وشرائه وصناعته أيضا؛ لما في ذلك من الضرر العظيم والفساد الكبير والتعاون على الإثم والعدوان ونشر الكفر والفساد بين المسلمين والدعوة إلى ذلك بالقول والعمل".
(1/5459)
من أحكام الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
سعيد بن سالم سعيد
الشارقة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أقسام الناس في التعامل مع نعم الله. 2- ما أعد الله للمتقين في الجنة خير من ملك الدنيا. 3- سؤال الله العبد عن ماله. 4- حق المال. 5- من أحكام الزكاة في الإسلام. 6- عقوبة مانعي الزكاة. 7- دفع الزكاة من أسباب دخول الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
جماعة المسلمين، إن الإنسان بطبعه ميال إلى المال، يحب جمعه والتكاثر به، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14]. ويختلف الناس في حبهم لهذه الشهوات على قسمين:
قسم جعلوا هذه الشهوات من الأموال وغيرها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، ثم لا يبالون على أي وجه حصولها ولا فيما أنفقوها، فهؤلاء كانت لهم زادا إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعة الله ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة وطريقة يتزودون منها لآخرتهم، وقد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فأهملوها واهتموا بالدار الآخرة، فقال الله عز وجل في الآية الثانية: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 15]. فأخبر الله أن دار القرار ومصير المتقين الأبرار خير مما ذكر في الآية الأولى من شهوات الدنيا الزائلة.
ولتعلموا ـ رحمكم الله ـ هذه الحقيقة؛ وهي أن الدار الآخرة وما أعد الله للمتقين خير من ملك الدنيا مجتمعة لأحدنا، روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي قال: ((سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟! فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ)) ، وفي رواية: ((فيقول الله جل ذكره: ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة، فيضحك الرب تعالى من قوله)).
جماعة المسلمين، أدوا حق المال الذي رزقكم الله إياه، فما أنتم إلا مستخلفين فيه إلى يوم القيامة، ولذلك فكل صاحب مال مسؤول عن ماله سؤالان، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ: فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ: مَا فَعَلَ بِهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ: فِيمَ أَبْلاهُ؟)).
وحق المال ـ عباد الله ـ هو أن تكتسبه من حلال وتنفقه في الحلال، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة: 168]، وقال جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة: 267]. ولعن النبي آكل الربا وموكله، ولعن الراشي والمرتشي، وحرم الإسلام أكل أموال الناس بالباطل بجميع صوره، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ [النساء: 29].
عباد الله، من حق المال على صاحبه أن ينفق منه في سبيل الله، زكاة واجبة مفروضة وصدقة تطوع، قال تعالى: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم: 31]، وقال تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10].
والزكاة فرض واجب على كل مسلم ومسلمة إذا توفر له من الأموال ما بلغ النصاب الشرعي، وحال عليها حول هجري كامل، أخرج منها ما مقداره 2.5 بالمائة من قيمة الأموال الموجودة لديه.
وتجب الزكاة في الذهب والفضة، ونصاب الذهب إذا بلغ خمسة وثمانين غرامًا، فيُخرج منه ربع العشر وهو 2.5 في المائة، والفضة نصابها ما بلغ خمسمائة وخمسة وتسعين غراما.
كما تجب الزكاة في البهائم، ففي الغنم لمن ملك أربعين إلى مائة وعشرين من الغنم عليه أن يخرج شاة واحدة، فإذا ملك مائة وواحدا وعشرين رأسا إلى مائتي رأس من الغنم ففيها شاتان.
وتجب الزكاة في البقر، فمن ملك ثلاثين رأسا منها أخرج تبيعا وهو ولد البقر، فإن بلغت أربعين إلى تسع وخمسين ففيها مسنة، وهي التي لها من العمر سنتان.
وفي الإبل كذلك، فمن ملك خمسا من الإبل ففيها شاة، ثم في كل زيادة خمس زيادة شاة في الزكاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين رأسا من الإبل ففيها ابنة مخاض، وهي التي أتمت سنة ودخلت في الثانية.
كما تجب الزكاة في الثمار والزروع، مثل الشعير والحنطة والزبيب والتمر، والنصاب فيها هو خمسة أوسق، بما يعادل ستمائة وثلاثة وخمسين كيلوغرام.
قال تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 110].
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، اتقوا الله وأدوا ما افترض الله عليكم في أموالكم من قبل أن تحين ساعة لا ينفع فيها الندم، وقد بين لنا العذاب الذي يلاقيه مانع الزكاة، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ، وعن أَبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)) ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، حَتَّى يُطَوِّقَ عُنُقَهُ)) ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران: 180].
من أدّى زكاة ماله فقد فاز برحمة الله وجنته، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156]. فلا تحرم نفسك من هذا الأجر وتعرضها للهلاك لدريهمات قد تصرفها في متاع من الدنيا زائل، فتاجر مع الله وأنفق يخلف الله عليك ويضاعف لك الأجر يوم القيامة، قال تعالى: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245].
(1/5460)
السعادة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, فضائل الإيمان
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
18/3/1417
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإقبال على الله سبب لانشراح الصدور. 2- الإعراض عن الله شقاء. 3- من أبواب الخير نفع المخلوقين وهي سبب للسعادة في الدارين. 4- السعادة لا تكون بمجرد الاستمتاع بالشهوات. 5- سعادة الصالحين على قلة من الدنيا. 6- عناوين السعادة كما أوضحها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة بصلاح القلوب وانشراحها وزوال همومها وأتراحها، فالزموا طاعة الله وطاعة رسوله تدركوا هذا المطلوب، واذكروا الله كثيرًا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، واعلموا أن الإقبال على الله رغبةً ورهبة وإنابة في جميع النوائب والحالات أعظم الأسباب لانشراح الصدور وطمأنينة النفوس وإدراك الغايات، وأن الإعراض عن الله والانكباب على الشهوات نار تلظى في القلوب وخسران وحسرات، وأن السعي في طلب العلم النافع مع النية الصادقة من أكبر الطاعات وبها تزول التبعات والجهالات والأمور المعضلات، وأن تنويع العبد في السعي في نفع المخلوقين في قوله وفعله وماله وجاهه يصلح الله به أموره في الدنيا والدين، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا وفي الآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر عليه أو على الخلق وضعه، ومن عفا وسامح سامحه الله، ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وفضحه، ومن ستر عيوب الخلق كفّ الله عن عرضه، ومن تقرب إلى الله تقرب الله منه، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، والجزاء من جنس العمل، وما ربّك بظلام للعبيد.
لا تحسبن الحياة الطيبة مجرّد التمتع بالشهوات ولا الإكثار من عرض الدنيا وتشييد المنازل المزخرفات، وإنما الحياة الطيبة راحة القلوب وطمأنينتها والقناعة التامة برزق الله وسرورها بذكر الله وبهجتها وانطباعها بمكارم الأخلاق وانشراح الصدور وسعتها، لا حياة طيبة لغير الطائعين، ولا لذة حقيقيّة لغير الذاكرين، ولا راحة ولا طمأنينة قَلبٍ لغير المكتفين برزق الله القانعين، ولا نعيمًا صحيحًا لغير أهل الخلق الجميل والمحسنين، لقد قال أمثال هؤلاء الأخيار: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الأنس بالله لجالدونا عليه بالسيوف، ولو ذاق أرباب الدنيا ما ذقناه من حلاوة الطاعة لغبطونا وزاحمونا عليه".
ما ظنّك بمن يمسي ويصبح ليس له هم سوى طاعة مولاه، ولا يخشى ولا يرجو ولا يتعلّق بأحد سواه؟! إن أعطي شكر، وإن منع صبر، وإن أذنب استغفر وتاب مما جناه، هذا والله النعيم الذي من فاته فهو المغبون، وهذه الحياة الطيبة التي لمثلها فليعمل العاملون، أيّ نعيم لمن قلبه يغلي بالخطايا والشهوات؟! وأي سرور لمن يلتهب فؤاده بحب الدنيا وهو ملآن من الحسرات؟! وأي راحة لمن فاته عيش القانعين؟! وأي حياة لمن تعلق قلبه بالمخلوقين؟! وأي عاقبة وفلاح لمن انقطع عن رب العالمين ومع ذلك يرجو العقبى وثواب العاملين؟! تالله لقد فاز الموفّقون بعزّ الدنيا والآخرة، ورجع أهل الدناءة بالصفقة الخاسرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، جاء عنه أنه قال: ((قد أفلح من هدي للإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقنعه الله بما آتاه)) ، فجعل هذه الثلاثة عنوان الخير والفلاح، وبها يحصل الخير والنجاح، فإن من جمع الله له الثلاث فقد جمع له خير الدنيا والآخرة وتمت عليه النعمة الباطنة والظاهرة، وبها الحياة الطيبة في هذه الدار والسعادة الأبدية في دار القرار.
أما الهداية للإسلام فإن الإسلام به العصمة والنجاة من طريق الجحيم، ولن يقبل الله من أحد دينًا غير الاستسلام للرب العظيم. الإسلام هو الاستسلام الباطن والظاهر لله، وهو الانقياد الكامل لطاعة الله. الإسلام مقصوده القيام بحق الله وحق العباد، وروحه الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله في الهدى والرشاد، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) ، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
وأما الكفاف من الرزق فهو الذي يكفي العبد ويكف قلبه ولسانه عن التشوف وسؤال الخلق، فيظهر اغتباطه برزق الله والثناء على الله بما أعطاه من ميسور الرزق، فإن من أصبح آمنا في سربه معافًى في بدنه عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وأغبط الناس من عنده رزق يكفيه وبيت يؤويه وزوجة ترضيه وسلِم من الدَين الذي يثقل كاهله ويؤذيه، فليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى القلب، صح عنه : ((من كان همه الآخرة جمع الله عليه أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه أمره ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كتب له)).
فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته، وإنما ينال بطاعته وخدمته، فاحمدوا الله ـ عباد الله ـ على الهداية للإسلام، واشكروه على الكفاية من الرزق والغنى عن الأنام، وانظروا إلى من فضلتم عليه بالعافية والرزق والعقل والتوفيق، فإنه أحرى لشكر النعم والهداية إلى أقوم طريق.
اللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحًا ترضاه، وأصلح لنا في ذريتنا...
(1/5461)
رمضان وغلاء الأسعار
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
يوسف بن أحمد القاسم
الرياض
9/9/1428
جامع الشيخ عبد العزيز الرواف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصيبة التضخم. 2- الربا داء وليس بدواء. 3- علاج الإسلام لظاهرة التضخم. 4- من أسباب التضخم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها الإخوة في الله، قبل حلول شهر رمضان المبارك ضيفًا عزيزًا حلّ علينا التضخّم ضيفًا ثقيلا, وعلى العديد من الدول العربية والعالمية, وأعني بالتضخّم غلاء الأسعار الذي أخذ يتبرّم الناس منه, ولا سيما ذوي الدخل المحدود, وأصبح اليوم هو حديث المجالس. وفي ظل حلول هذا الضيف ثقيل الظلّ تستنفر الطاقات لعلاج هذه الظاهرة, ويحرص الكثير من الاقتصاديين والمهتمين لعرض الكثير من الحلول التي تساهم في علاج هذا الداء أو الحد منه, ولكن دون جدوى؛ ولهذا نجد أن موجة الغلاء لا تزال تزحف عكس التيار الذي يسعى لمواجهته بشتى الحلول, بل نرى هذا التضخّم الزاحف يتحول إلى متسارِع, ومنه إلى مفرط أو جامح, كما يقال في مفردات علم الاقتصاد المعاصر.
والمؤسف حقًا أن يطالب بعض الكتاب في صحافتنا المحلية بعلاج هذه الظاهرة عبر رفع سعر الفائدة, أي: علاجها بالربا! وهنا يتساءل كل مسلم غيور: متى كان الربا حلاًّ للأزمات؟! بل إن الواقع يحكي أنه يخلق الأزمة, لا أنه يكون طرفًا في حلها, والواقع اليوم ينطق بهذا, فإن الولايات المتحدة الأمريكية حين أرادت أن تعالج التضخّم الذي لحق بأسعار العقارات رفعت من سعر الفائدة, فوقعوا في طامّة كبرى وهي أزمة الرهن العقاري التي نسمع عنها اليوم في وسائل الإعلام المختلفة، والتي ساهمت في إفلاس العديد من الشركات, وهكذا أصبح الربا عاملاً مساعدا لخلق أزمة جديدة بدلاً من حل أزمة الغلاء, وصدق الباري عز وجل: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276].
أيها الإخوة في الله، إن الشريعة الإسلامية قبل أن تضع الحلول لظاهرة الغلاء فإنها قد شرعت العديد من الأحكام التي تقي من الوقوع في مثل هذه الأزمة, والوقاية ـ كما قيل ـ خير من العلاج، والتزام أحكام الشريعة الإسلامية ذات الصلة لا يعني العصمة من هذا الداء؛ لأن الكثير من أسباب التضخم تصدر علينا من الخارج, وعلى سبيل المثال فإن ارتفاع أسعار السلع المستوردة سببه خارجيّ وليس من الداخل وهكذا... ومع هذا فإن ديننا الحنيف قد شرع العديد من الأحكام التي تقي من هذا الداء مما كان مصدره من الداخل, ووضع العديد من الحلول التي من شأنها أن تخفف من لهيب التضخم المصدر إلينا من الخارج.
ولتسليط الضوء على بعض هذه الحلول أقول: إن من أكبر أسباب التضخم وفرة السيولة في أيدي الناس, ولهذا تسعى العديد من الدول إلى امتصاص هذه السيولة ليقل النقد, فيقلّ الطلب الذي يساهم ارتفاعه بشكل مباشر في غلاء الأسعار, والأسلوب التقليدي لدى أغلب الدول المعاصرة هو امتصاص هذه السيولة عبر رفع سعر الفائدة, وهو ما ينادي به بعض رجال الاقتصاد منا وللأسف. وحال من يعالج بهذا الداء كمن يقطع شريانا من شرايين القلب ليعالج به عرقًا من عروق القدم! وبالنظر إلى الأسلوب الإسلامي في الحد من هذه الظاهرة نجد أن ديننا الحنيف قد قنن امتصاص هذه السيولة عبر أساليب كثيرة, ومنها امتصاصها عبر الزكاة الواجبة, والصدقة المستحبة, والوقف, والوصية... والتي من شأنها أن تساهم في امتصاص السيولة النقدية من مرتفعي ومتوسطي الدخل لتضعها في يد محدودي الدخل من الفقراء والمساكين ونحوهم, ومعلوم أن الزكاة تجب في المال الزكويّ الذي تم نصابه وحال عليه الحول, فتمتص الزكاة من سيولة هذا المال 2.5 بالمائة، وتمتص الصدقة من المال الفاضل عن الحاجة ما تجود به نفس المسلم, وكلما زاد امتصاص السيولة من مال الصدقة زاد الأجر والثواب من الله تعالى؛ ولذا جاء في الحديث المتفق عليه أن رسول الله قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان, فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا, ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفا)) ، بل جاء في الحديث الآخر أن رسول الله قال: ((يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك, وأن تمسكه شر لك)) رواه مسلم. ولنتأمل هذا اللفظ النبوي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى: ((يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك)) ، والخيرية كما نرى هنا مطلقة, أي: خير لك في دنياك وأخراك, وصدق الحبيب المصطفى, فهي خير لك في دنياك من وجوه كثيرة, منها: أن هذا البذل وهذا المعروف يساعد على امتصاص السيولة التي لو كثرت في أيدي الناس لغلت الأسعار, وعاد أثرها السلبي على كل الممسِكين عن الصدقة. إذًا يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك.
ويبقى السؤال الكبير هنا وهو: هل قام الأغنياء وكل من وجبت عليه الزكاة ببذل زكاتهم الواجبة؟ وهل ينشط الناس اليوم لإخراج صدقاتهم للمحتاجين في طول العالم وعرضه؟ وكم تشكّل الأوقاف الجارية من نسبة أموال الأغنياء؟ إن رمضان ـ أيها الإخوة ـ فرصة سانحة لاستنهاض الهمم نحو القيام بهذه التوجيهات الربانية.
أيها الإخوة في الله، ومن أهم أسباب التضخم وغلاء الأسعار تلاعب التجار بأسعار السلع, ولا سيما الرئيسية التي تعد شريانًا من شرايين الحياة, وذلك من خلال استغلالهم لرفع الرواتب أو لما تمرّ به الدولة من انتعاش اقتصادي, فيرفعون الأسعار بأرقام فلكية تلتهم مدخرات الناس, وربما تعرضهم للحاجة والسؤال, وهنا يوجه الحبيب رسالة حانية إلى كل تاجر يغالي في الأسعار ويستغل الطفرة الاقتصادية بالبلد بقوله عليه الصلاة والسلام: ((رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى)). وإذا وقف التاجر المسلم أمام هذا الحديث وقفة إكبار وإجلال فهل سيجرؤ على رفع أسعار بعض المنتجات المحلية الخالصة والتي لا تتأثر بالأسعار الدولية؟! كلا, بل إنه سيساهم ببيع المنتجات المستوردة والتي لحقها التضخّم بأقل سعر ممكن؛ ليظفر برحمة الخالق سبحانه. وإذا انحسرت ثقافة السماحة في نفوس الباعة وحل محلها الجشع والاستغلال فللحاكم حينئذ وبقوة الشرع أن يخطم هذا الجشع والاستغلال بخطام التسعير وضبط الأسعار, وتحديدا في السلع الرئيسية.
أيها الإخوة في الله، ومن أسباب التضخم وغلاء الأسعار كثرة الطلب على السلع وتهافت الناس على الشراء بأي سعر كان, وهنا نجِد أن الإسلام قد حثّ في الحالات العادية على الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة, وهذا من شأنه أن يقلّل الطلب فتنخفض الأسعار, كما أنه من شأنه أن يقلّل الطلب على السلع الباهظة الثمن, وذلك بالشراء من المنتجات البديلة التي تباع بالأثمان المعقولة, وإذا كان هذا في الحالات العادية فما الظن في حالات غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار. وفي الحثّ على الاقتصاد والتوسّط في النفقة يقول الباري جل وعز: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء: 29]. وإذا كان هذا في الشهور العادية ففي شهر الصبر والإمساك أولى وأحرى.
ومن الاقتصاد منع الإسراف في المأكل والمشرب, كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]. وهكذا يكون شهر الصوم عاملاً مساعدًا على علاج التضخم وغلاء الأسعار, فهل نقف عند توجيه الخالق الأعلم بمصالح عباده ونساعد أنفسنا ومجتمعنا على انتشاله من هذا الداء العضال؟!
أيها الإخوة الصائمون، هذه بعض الحلول التي يمكِن استعراضها في هذه العجالة, وفي الإسلام حلول أخرى لا يتّسع المقام لذكرها, ولكن ما أردنا إيضاحه أنّ شهر رمضان المبارك يمكن أن يكون عاملاً مساعدًا على انتشال المجتمع من هذا الداء لو امتثل المسلمون لتعاليم دينهم الحنيف.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5462)
شهر الطاعات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
9/9/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فضائل رمضان. 2- رمضان شهر القرآن. 3- رمضان شهر المداومة على الطاعة. 4- رمضان شهر التوبة. 5- رمضان شهر الدعاء. 6- رمضان شهر الجود. 7- فضل قيام الليل. 8- الحثّ على صيانة الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عِبادَ الله ـ حقَّ التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى.
أيّها المسلِمون، خَلَق الله الخَلقَ لطاعَتِه، وهيّأ لهم زَمنًا تتَضاعَف فيه أجورُ عباداتهم، أيّامُه معدودات، ولياليه مَقصوراتٌ، تُفتَح فيه أَبوابُ الجِنان، وتُغلَق فيه أبوابُ النيران، وتصفَّد فيه الشياطين، ويُستَجاب فيه الدّعاءُ، وترتقي فيه النفوس، وتهذَّب فيه الأرواح، ويُغفَر لمن وفّقه الله في نهاره ولياليه؛ في نهاره: ((من صَامَ رَمَضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) متفق عليه، وفي لياليه: ((من قام رمَضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبِه)) متفق عليه.
أَوجَبَ الله صِيامَه على الأُممِ السّالِفة لتنالَ تَقوى ربها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
رمضان هو شهرُ القرآن، والقرآن يهدي إلى الجنّة، قالَ عزّ وجلّ: هَذَا هُدًى [الجاثية: 11]. عِبرُه أعظم العِبر، ومواعظه أبلغ المواعظ، وقَصَصه أحسَنُ القَصَص، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111]. سهلُ الألفاظ واضِح المعاني، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]. غزيرُ المنافع، كثيرُ الفوائد، شافٍ للقلوب والأبدان. وقد شَكا عليه الصّلاة والسّلام إلى ربّه من يَهجُر القرآن، وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30]، قال ابن كثير رحمه الله: "إنهم عَدَلوا عنه إلى غَيره من شعرٍ أو قَول أو غِناء أو لهوٍ أو كلام أو طَريقة مأخوذةٍ مِن غيره".
رَمضانُ شهرُ المداومةِ على العبادةِ والإقبال على الله، كان النبيّ يَعتكفُ ثلُثَ الشّهر؛ يتعبّد ويدعو، ويدارسه جبريلُ القرآنَ في كامل الشهر.
رَمضانُ شهرُ التوبة والاستغفارِ والإنابة إلى الله، ومن أقبلَ على الله أحبّه الله، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة: 222]. وهو سبحانه يقبل توبةَ العبد في أيّ وقتٍ من ليلٍ أو نهار، وفي رمضانِ قَبول التوبة أرجى، تهدم ما قبلَها من الأوزار، وتبدِّل السيّئاتِ حسناتٍ، ولا فلاحَ إلا بها؛ لذا أُمِر جميع الخلقِ بها: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
رَمضانُ شهرُ الدعاءِ وإنزال الحوائج بالله، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]. أمَر بالدعاءِ ووعَد بالإجابة بين آياتِ الصِّيام: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة: 186]. وهو سبحانه ربٌّ كريم يقضي حاجاتِ العباد، خَزائنُه مَلأى لاَ تَغيضها نَفَقةٌ، قال عَزّ وجلَّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر: 21]. جودُه لا يَنقطِعُ من كَثرةِ العَطاء، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96]. يحبُّ السائلين، و((يَنزِل كلَّ ليلةٍ حين يَبقَى ثُلثُ الليل الآخر ويقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يَسألني فأعطِيه، من يَستَغفِرني فأَغفر له)) رواه مسلم. وهو لا يخيِّب من رجاه، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62]. ويستحي جلّ وعلا أن يردّ دعوةَ عبده، قال عليه الصّلاة والسّلام: ((إنَّ ربَّكم حَيِيّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يدَيه إليه أن يردَّهما صفرًا)) رواه أبو داود. ومهما سأل العبدُ فالله يُعطي ولو كثُرتِ المسألةُ وتنوّعَت، قال النبيّ : ((ما مِن مسلمٍ يَدعو اللهَ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِم إلاّ أعطاه الله بها إِحدَى ثَلاث: إمّا أن تُعجَّل له دَعوتُه، وإمّا أن يدَّخرَها له في الآخرة، وإمّا أن يصرِفَ عنه من السّوءِ مِثلهَا)) ، قالوا: إذا نُكثِر يا رسولَ الله ـ أي: من الدعاء ـ، قال: ((الله أكثر)) رواه أحمد، أي: ما عند الله أكثرُ وأجزَل.
رَمضانُ شهرُ الجودِ والعَطاء، جادَ الله على عِبادِه بِنزولِ القرآن فيه وإرسال خاتم الرسل فيه، وهو سبحانه يجود فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتقِ من النيران، وأمَر سبحانه أن يجودوا لينالوا جودَ ربّهم، قال سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11]. وكان النبيُّ أجودَ النّاس، وأَجودُ ما يكون في رمضانَ، قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: "كان جودُه كلُّه لله وفي ابتغاء مرضاتِه، فإنّه كان يبذُلُ المالَ إمّا لفقيرٍ أو محتاج أو يُنفِقه في سبيلِ الله أو يتألَّف به على الإسلامِ من يقوَى الإسلامُ بإسلامه، فَيُعطي عطاءً يَعجز عنه الملوكُ مثل كسرى وقيصر".
ومن صفاتِ أهل الجنّة قيامُ الليل، قال جلّ وعلا: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17]. وصلاةُ الليلِ شكرٌ لله على ما أنعَم وأجزَل، قالَت عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ يقوم من الليل حتى تتفطَّر ـ أي: تتشقّق ـ قدماه، فقالت له عائشة: لِمَ تَصنَع هذا ـ يا رسولَ الله ـ وقد غُفِر لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر؟! فقال: ((أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟!)) متفق عليه. ومن صلّى مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيامُ ليلةٍ، وأفضلُ صلاةِ المرءِ بَعدَ المكتوبة صلاةُ الليل. فحافِظ على صلاةِ الليل مع الإمام حتى ينصرفَ لتتعرّض لِنفحاتِ ربّك ذي المغفرة والرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77].
بَارَك الله لي وَلَكم في القرآنِ العَظيم، ونَفَعني الله وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحَكيم، أقول ما تسمَعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميعِ المسلمين من كلّ ذنب فاستَغفِروه، إنّه هو الغفور الرَّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلى إحسانِه، والشّكرُ لَه عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنانِه، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أن نبيَّنا محمّدًا عبده ورَسولُه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلِمون، مِنَ السّعادةِ أن ينسَى العبدُ حسناتِه ويجعلَ سيّئاتِه نصبَ عَينَيه، فيبادر إلى الندم والتوبة منها.
والصيام ركنٌ من أركان الدين، أمِر المسلمُ بالحفاظِ عليه لئلاّ يعتريَه نقص أو خللٌ من عصيانٍ أو تفريط في واجبٍ، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن لَم يَدَع قولَ الزّور والعملَ به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامَه وشرابَه)) رواه البخاري.
والأعمارُ تُطوَى والآجالُ تدنو، والدنيا مدبرةٌ والآخرة مقبلةٌ، ونحن إلى ما صار إليه الأوّلون صائرون، وكلّ عملٍ أو قولٍ فهو محفوظ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]. فاحفظوا الأزمانَ الفاضلة، واحذروا الغفلةَ والتفريط، وأخلِصوا صيامَكم وقيامكم لله، وأكثروا من تلاوة القرآن وتدبّر معانيه، واعتبروا بما ضُرِب لكم فيه من الأمثالِ والقصَص؛ تَفوزُوا وتَسعَدوا في الدّنيا والآخرة.
ثمّ اعلموا أن الله أمرَكم بالصّلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكَم التّنزيلِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد...
(1/5463)
سلامة الصدور
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
5/11/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة سلامة الصدور. 2- فرح المؤمن بإخوانه وحزنه لما يصيبهم من بلاء. 3- القلب السليم. 4- عناية الإسلام بتطهير القلوب. 5- المجتمع المسلم الصّفيّ. 6- الحض على التراحم والتآلف. 7- فضل الانتقام لحرمات الله تعالى. 8- حاجة المجتمع اليوم إلى سلامة الصدور. 9- نماذج من سلامة الصدر عند السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانه، ومن ثَمَّ فاعلموا أنه ليس أسعَدَ للمرء ولا أشرَح لصدره ولا أهنَأ لروحه من أن يحيَا في مجتمَعِه بين الناسِ صافيَ القلب صفيَّ الروح سليمَ الطباع مُنسلاًّ من وساوِس الضّغينة وسَورَة الحقد والحسد والبغضِ والتشفّي وحبِّ الانتصار للذّات والانتقام من النّدِّ، له سُمُوُّ قلبٍ يُعلي ذكرَه ويرفع قدره، ترونَ مثلَه مُهنِّئًا رضيًّا حينما يَرى النعمةَ تنساق إلى أحدٍ غيره، مدرِكًا فضلَ الله فيها على عبدِه، فتجِدون لسانَ حاله يلهَج بقول النبي فيما رواه أبو داودَ وغيره: ((اللّهمَّ ما أصبح بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد والشكر)) [1].
ولا عجَبَ ـ عبادَ الله ـ في أنَّ طهارة مثلِ هذا القلب وزكاتَه لا تقف عند هذا الحدِّ فحسب، بل إنه متى رأى أذًى أو بَلاء يلحَق أحدًا من المسلمين أو يحُلّ قريبًا من دارِه رثى لحالِه، وتمنى له الفرجَ والغفرانَ من الله، ولم ينسَ حينَها أهمّيّةَ وأدِ الفرح بتَرَح الآخرين في مهدِه، فلا يلبَث أن تُسارِعه سلامةُ قلبه، ولِسانُ حالها يقول ما رواه الترمذيّ عن النبيِّ فيما يقولُه من رأَى مبتلى: ((الحمد لله الذي عافاني مما ابتَلاه به، وفضَّلني على كثير ممن خلَق تفضيلاً)) [2].
إنَّ مثَلَ قلبٍ هذه حالُه كمثَل الإناء المصفَّح يستحيل تسرُّبُ السائل منه البتّة، وهذا هو القَلب التقيُّ النّقيّ المشرِق الذي يبارِك الله فيه، فتتسارَع إليه الخيراتُ حَثيثةً من حيث لا يحتسِب، وصاحبُ هذا القلبِ هو الذي ينجو مكرَّمًا يومَ لا ينفَع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم. قال سعيدُ بن المسيّب رحمه الله: "القلبُ السليم هو القلبُ الصحيح، وهو قلب المؤمن" [3] ، وسئِل ابن سيرينَ رحمه الله: ما القلبُ السليم؟ قال: "الناصِح لله عزّ وجل في خلقه" [4] ، أي: لا غشَّ فيه ولا حسَد ولا غلّ.
أيّها المسلمون، إنَّ ديننا الحنيفَ ليتحسَّس نفوسَ الناس بين الفينةِ والأخرى ليغسِلَها بالماء الزُّلال من أدرانِ الغَشَش ودخَنه، وليُذكِيَ فيها مشاعرَ الزّكاء والنقاءِ تجاهَ الناس والمجتمع، ومِن أعظمِ هذا التحسُّس المقرَّر هي تلكمُ المتابَعة المتكرِّرة في كلِّ أسبوعٍ مرَّتين، والتي تجعل من المرءِ حَكمًا على نفسِه؛ ليصحِّحَ ما به من خلَلٍ ويتداركَ ما بقِي أمامه من شعور، يتمثَّل ذلكم في قولِ النبي : ((تُعرَض الأعمال في كلّ اثنين وخميس، فيغفِر الله عز وجل في ذلك اليومِ لكلِّ امرئٍ لا يشرك بالله شيئًا إلا امرَأً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذَين حتى يصطلِحا)) رواه مسلم [5].
إنَّ المجتمعَ المسلم الصّفيَّ هو ذلِكم المجتمعُ الذي يقوم على عواطِفِ الحبِّ والتآلُف والبُعد عن الأَثَرة المشاعَةِ بين أفراده، ولا مكانَ فيه للفرديّة المتسلِّطَة ولا الشحِّ الكنود، بل حالُ بنيه وأفرادِه يُحيي في نفسِ المؤمن استحضارَ قولِ الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [محمد: 29]، وقولِ الله تعالى مادِحًا صفةَ قوم: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]، ويستحضِر قولَه تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10].
إنَّ شريعتَنا الغرّاء قد جاءت حاضَّةً على التّراحُم والتلاحم والعدلِ والإنصاف، ونبذِ التدابُر والتقاطُع والتباغُض والتحاسُد وبَذرِ الفِتَن وتأجيجِ الفرقة؛ لأنّ الإخلالَ بهذه المبادِئ ينمِّي جذورَ الخصومة ويضرِم أتّونَها ويفرِّع أشواكَها ويُذبِل زَهرَ المجتمَع الغضّ وينكأ جراحَه، فينشَأ الحِقدُ والطّيش بالألباب والتعبِئة النفسية الغوغائيّة التي تتدلَّى بمُواقِعِها إلى اقترافِِ ما ضرُّه أكبرُ من نَفعِه، حتى يكثرَ السّخَط فتعمَى العين عن النَظَر إلى مِن زاويةٍ داكِنة، بل يذهَب بها عضُّ الأنامِل من الغيظ إلى التخيِيل وقَبول الأكاذيب والاعتمادِ على خيوطٍ من حِبال أطيَاف التنازُع والصّراع والأمَل في الهيمَنَة المثاليّة والوعودِ الواهية، وذلك كلُّه مما ينهى عنه الإسلامُ ويذمُّ المجتمعاتِ طُرّا أن تقعَ في هُوَّتِه.
إنَّ الفظاظةَ التي كرِه الإسلامُ تغلغُلَها في جوفِ بني آدَم والانتقامَ الذي يجاذِب قلبَه بين حدَثٍ وآخر إنما هو فيما كانَ مُتولِّدًا بسبَبِ الدّنيا أهوائها والطّمَع وحظوظِ النفس ولذائِذ الرياسةِ والاستئثارِ بالعاجل على الآجل، أمّا إذا كان السّبَب غضبًا وبُغضًا لله وفي الله وإظهارًا للحق وغيرةً على محارِم الله وهَيعَةً للشّرَف والدِّين والعقلِ فهذا شأنٌ آخر له منَ النّدب والتحضِيضِ في الشريعةِ الإسلامية ما له، غيرَ مقطوعِ الصِّلة بالتذكير والتّأكيد على حُسنِ التفريق بين النصيحةِ والتّعيير وبين التصحِيحِ والتّشهير، والتحذير منَ الدَّعوةِ إلى الائتلاف بأبواقِ الفُرقة والتماسِ الأمنِ من خِلال تنفيرِ الصَّيدِ، والمسلمُ النّصوح ليس عليه جُناح إذا باشر قلبَه حبُّ النصحِ والتوجيه والإشفاق على أمّتِه ومجتَمَعه متجرِّدًا من أيِّ خطّ مشبوه أو لَوثة ممجوجَة، ولقد كان لنا في رسول الله أُسوَة حسنةٌ إذ تصِفه عائشة رضي الله عنها في مثلِ ذلك فتقول: ما انتقَمَ رسول الله لنفسِه إلا أن تُنتَهَك حُرمة الله، فينتَقِم لله بها. رواه البخاري ومسلم [6].
والحاصِل ـ عباد الله ـ أنَّ سلامةَ الصدر وسَعتَه في التعامُل مع الآخرين هو المِقبَض المفقود في أفئِدَة كثيرٍ من المجتمعات في هذا الزّمن إلا من رحِم الله وقليلٌ ما هم، فكم نحن بحاجةٍ إلى ذلكم في ردمِ هوّةِ التجافي والشّحناء، وكم نحنُ في حاجةٍ إليه في تعامُلنا مع نوايَا الآخرين وكوامِنِهم، وفي تعامُلنا مع اجتهاداتِنا المطعَّمَة بالإخلاصِ ومحاوَراتنا الناشِدةِ للحقّ، وكم تحتاجُ المجتمعاتُ المسلمة إلى ذلكم في تحديدِ معاييرِ التعامُل الآنيِّ واليوميّ، بين الفردِ والأسرة والأسرةِ والمجتمع والناصِحِ والمنصوح، وكم نحن بحاجةٍ ماسّة إلى سلامةِ الصّدر وسَعته في نظرةِ المرؤوس إلى رئيسِه والمحكوم إلى حاكِمِه والعكس بالعكس، مع مراعاةِ هيبةِ هذا الجانبِ وخطورتِه وعنايةِ الإسلام به؛ لِمَا في مراعاتِه من تحقيقٍ للمصالح ودرءٍ للمفاسد. ويدلُّ لذلكم ما رواه الشيخان في قصّةِ أسامة بن زيد رضي الله عنهما حينما طلَبوا منه أن يكلِّم عثمانَ بنَ عفّان رضي الله عنه علانيّةً فقال لهم: والله، لقد كلّمتُه فيما بيني وبينَه دونَ أن أفتحَ بابًا أكون أوّلَ من يفتحُه، ولا أقولُ لأميرٍ إن كان أميرًا عليَّ أو على غيرِي: إنّه خير الناس [7]. وقد بيَّن القاضي عِياض والحافظُ ابن حجر أنَّ قصدَ أسامة رضي الله تعالى عنه أنّه كلّمَه سِرًّا دون أن يفتحَ بابَ الإنكار على الأئمّة علانيةً خشيةَ أن تفترِقَ الكلمة، لأنّه قال له في الروايةِ الأخرى: إنكم لتَرونَ ـ أي: تظنون ـ أنّي لا أكلِّمُه إلاّ أسمعتُكم؟! ثمّ عرّفهم أنه لا يُداهِن أحدًا ولو كان أميرًا، بل ينصَح له في السّرِّ جهده، فذلك أجدرُ بالقبول. انتهى كلامهما رحمهما الله [8].
إنّه بمثل هذا التوازُن الذي يمليه على المرء سلامةُ صدره تجاهَ الآخرين ليبرِز الأفضليّةَ التي ذكرَها النبي بقوله حينما سئل: أيّ الناس أفضل؟ قال: ((كلُّ مخمومِ القلب صدوقِ اللسان)) ، قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخمومُ القلب؟ قال: ((هو التقيّ النّقِيّ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ ولا حسد)) رواه ابن ماجه [9].
كما لا ينبغي أن لا يغيبَ عنا أنّ هذا التوازنَ أيضًا كفيلٌ لبروز الخيريّة التي أشار إليها النبيّ بقوله: ((خِيارُ أئمّتِكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم، وتُصلّون عليهم ويصلون عليكم ـ أي: تدعون لهم ويدعون لكم ـ ، وشِرار أئمّتكم الذين تبغِضونهم ويبغِضونكم، وتلعَنونهم ويلعنونكم)) رواه مسلم [10].
ألا فاتّقوا الله أيها المسلمون، وأنيبوا إلى ربكم، وأقيموا الصّلاةَ واتّقوه، وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح (5073) عن عبد الله بن غنام البياضي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2163)، والنسائي في الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة، باب: ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي... (9835)، وابن قانع في معجم الصحابة (499)، والطبراني في الدعاء (307)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (41)، والبيهقي في الشعب (4/89)، وجاء عند بعضهم عن ابن عباس قال أبو نعيم في معرفة الصحابة: "هو تصحيف من بعض الرواة"، وصححه ابن حبان في كتاب الرقائق، باب: الأذكار (861)، وحسنه النووي في رياض الصالحين (110)، وابن القيم في الزاد (2/339)، وابن حجر في نتائج الأفكار (2/380)، وفي إسناده: عبد الله بن عنبسة لم يوثقه غير ابن حبان (الثقات 5/53)، وقال الذهبي في الميزان (2/469): "لا يكاد يُعرف"، ولذا أورده الألباني في ضعيف الترغيب (385).
[2] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3432) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في الشكر، والطبراني في الدعاء (779، 780، 781)، وابن عدي في الكامل (4/143)، والبيهقي في الشعب (4/107، 5/507)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وحسنه المنذري في الترغيب (4/139)، وصححه ابن القيم في الزاد (2/418)، والألباني في السلسلة الصحيحة (602). وفي الباب عن عمر أو ابنه عبد الله رضي الله عنهما.
[3] انظر: تفسير القرطبي (13/114)، وتفسير ابن كثير (3/340).
[4] انظر: تفسير القرطبي (15/91).
[5] صحيح مسلم: كتاب البر (2565) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الحدود (6404، 6461)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2327، 2328).
[7] صحيح البخاري: كتاب الفتن (6685)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2989).
[8] انظر: فتح الباري (13/51).
[9] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4216) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا الطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1/183)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/127): "هذا حديث صحيح حسن"، وصحح سنده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في مصباح الزجاجة، وهو في صحيح الترغيب (2889).
[10] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1855) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، إنّ من سلِم قلبُه واتَّسع صدرُه للنّاس ونصَح لهم وأشفقَ عليهم وكان مظهَره سببًا إلى مخبَره فإنّه سيُلقَى له القبولُ عند النّاس، عدوُّهم قبلَ صديقهم؛ لأنه لا يعرِف لحظّ النفس سبيلاً، ولا للانتِقام وحبِّ الانتصار دليلاً، ثم إنَّ للقلبِ السّليم مذاقًا وحلاوةً لا يعرِفها إلا من طعِمها، وشتّان ـ أيها المسلمون ـ بين قلبٍ سليم وبين قلب مليءٍ بالغلِّ والوساوِس وإعمالِ الفِكر في إدراك الانتصار للذّات.
ولقد ضَرَب لنا الرعيلُ الأوّل أروعَ الأمثِلة في ذلك، فهَذا الفاروقُ رضي الله عنه يتحدَّث بعباراتٍ أبدى من خِلالها الإنصافَ من نفسه، فقال: (اعلَموا أنَّ تلكَ القسوةَ قد أُضعِفت، ولكنها إنما تكونُ على أهلِ الظّلم والتعدّي على المسلمين، فأما أهلُ السلامة والدِّين والقصدِ فأنا أليَنُ لهم من بعضِهم البعض، ولستُ أدعُ أحدًا يظلِم أحدًا أو يعتدِي عليه حتى أضعَ خدَّه وأضَع قدَمي على الخدِّ الآخر حتى يذعِنَ للحقّ، وإني بعدَ قَسوتي تلك أضَع خدِّي على الأرض لأهلِ العَفافِ وأهل الكفاف) [1].
وقد جاء في مسند أحمد من حديث أنس في قصّةِ الرجل الذي قال عنه النبيّ في مجلِسه: ((يطلع عليكم رجلٌ من أهلِ الجنة)) ، فطلع هذا الرجلُ وهو من الأنصار، وتكرّر قولُ النبيّ عن هذا الرجل ثلاثَ مرات في ثلاثة أيّام، فبات عبد الله بن عمرو بن العاصِ عند ذلك الرجلِ ليرى ما يفعَل من الطاعة، فلم يَر كبيرَ عمَلٍ فسأله: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ فقال الرجل: ما هو إلاّ ما رأيتَ، فقال عبد الله: فلمّا ولّيتُ دعاني فقال: ما هو إلاّ ما رأيتَ، غيرَ أني لا أجِد في نفسي لأحدٍ منَ المسلمين عِشًّا ولا أحسدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلَغَت بك [2].
ويسطِّر لنا شيخُ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله كلماتٍ ينبغي أن تدوِّي في قلبِ كلِّ مؤمن ناصح، إذ يتحدَّث لأصحابهِ عن خصومه وقد لاقى منهم ما لاقاه من الأذى والحسَد والمنازعة، فيقول: "تعلَمون ـ رضيَ الله عنكم جميعًا ـ أني لا أحِبّ أن يؤذَى أحدٌ من عمومِ المسلمين، فضلاً عن أصحابِنَا بشيءٍ أصلاً، لا باطِنًا ولا ظاهرًا، ولا أحِبّ أن يُنتصَر من أحدٍ بسببِ كذبِه عليَّ أو ظلمِه وعدوانه، فإني قد أحلَلتُ كلَّ مسلم، وأنا أحبّ الخيرَ لكلِّ المسلمين، وأريد لكلِّ مؤمنٍ منَ الخير ما أحِبّه لنفسي، والذين كذَبوا وظلَموا منهم في حِلٍّ من جهتي" انتهى كلامه رحمه الله [3].
فالله أكبر ما أعظمَ تلكُم القلوبَ، واللهُ أكبر ما أعظمَ تلك الأجساد التي تحمِلها، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: 62-64].
ألا فاتقوا الله معاشِر المسلمين، وصلّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحبِ الحوضِ والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص360-361) من طريق سعيد بن المسيب عن عمر بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (3/166)، والبيهقي في الشعب (6605)، وابن عبد البر في التمهيد (6/121-122) من طريق عبد الرزاق، وابن المبارك في الزهد (694)، ومن طريقه النسائي في اليوم والليلة (863) كلاهما عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه، هكذا رواية ابن المبارك، ورواية عبد الرزاق: "أخبرني أنس"، وقد أُعل هذا الطريق، قال حمزة الكناني كما في النكت الظراف (1/394 تحفة الأشراف): "لم يسمعه الزهري عن أنس"، وقال البيهقي: "هكذا قال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أنس، ورواه ابن المبارك عن معمر فقال: عن الزهري عن أنس، ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال حدثني من لا أتهم عن أنس... وكذلك رواه عقيل بن خالد عن الزهري"، ومشى المنذري في الترغيب (3/348) على ظاهر الإسناد فصححه على شرط الشيخين، وقال ابن كثير في تفسيره (4/339) بعدما ساق طريق أحمد: "ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، والله أعلم"، فأشار إلى العلة المذكورة، وأعله أيضا ابن حجر في النكت الظراف (1/394-395)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1728، 1729).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (28/55).
(1/5464)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
24/4/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ مقصد هذا الدين. 2 ـ فضل حسن الخلق. 3 ـ تعريف الخلق الحسن. 4 ـ من خصال الخلق الحسن. 5 ـ الكافر والخلق الحسن. 6 ـ أمر الله ورسوله بالخلق الحسن. 7 ـ ميزات الخلق الحسن. 8 ـ ميزات سوء الخلق. 9 ـ السلف الصالح وحسن الخلق. 10ـ خلق النبي. 11 ـ تربيته للأمة. 12 ـ المداراة والمداهنة. 13 ـ أكثر ما يدخل الناس الجنة، وأكثر ما يدخلهم النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا عقابه فلا تعصوه.
أيها المسلمون، اعلموا أنَّ الإسلام جاء لتحقيق غاية عظيمة، وجاء ليقوم بمهمة جسيمة، ألا وهي القيام بحق الله تعالى وحقوق الخلق، لقول الله تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء: 36]، وما سوى هذه الغاية من عُمران الأرض، وتشريع الحدود، وكف الظلم ونحو ذلك، فهو تابع للغاية الكبرى، التي هي الوفاء بحق الله وحقوق الخلق، ووسيلة إلى هذه الغاية، وتمهيد إليها.
والخلق الحسن أساس القيام بحق الله وحقوق الخلق، والخلق الحسن بالإيمان أصل الوفاء بحق الله وحق العباد، وبذلك ترفع الدرجات وتكفر السيئات، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) رواه أبو داود [1] ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [2] ، فالخلق الحسن هو جماع الخير كله.
والخلق الحسن هو كل صفة حميدة في الشرع والعقل المستقيم، وقال بعض أهل العلم: "الخلق الحسن بذل الخير وكف الشر"، ويقال: "الخلق الحسن بذل الندى وكف الأذى".
والقول الجامع للخلق الحسن هو كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه، كالأمر بالتقوى والإخلاص والصبر والحلم والأناة والحياء والعفة والغيرة وبر الوالدين وصلة الأرحام والرحمة وإغاثة الملهوف والشجاعة والكرم والصدق وسلامة الصدر والرفق والوفاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الجوار والتواضع والتحمل والسماحة والأمانة ومجانبة المكر والغدر والخيانة والخديعة والفواحش والمنكرات وخبائث المشروبات وخبائث المآكل والكذب والبهتان والشح والبخل والجبن والرياء والكبر والعجب والظلم والعدوان والحقد والغل والحسد والبعد عن التهم ونحو ذلك.
والخلق الحسن ينفع المؤمن في الدنيا والآخرة، ويرفع درجته عند ربه، وينتفع بخلقه البر والفاجر، وأما الكافر فإنما ينفعه خلقه في الدنيا، ويثيبه الله عليه في العاجلة، وأما الآخرة فليس له فيها نصيب، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت عبد الله بن جدعان فإنه كان يقري الضيف، ويكسب المعدوم ويعين على نوائب الدهر، أينفعه ذلك؟ فقال النبي : ((لا، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) [3].
وقد أمر الله تعالى في كتابه العظيم بكل خلق كريم، ونهى عن كل خلق ذميم، وجاءت السنة النبوية كذلك، آمرة بكل خصلة حميدة، ناهية عن كل خصلة خبيثة، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، وحسبنا في ذلك مثل قول الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151]، وقول الله تعالى: ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]، وقول الله عز وجل: خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف: 199]، وقول الله تعالى: وَ?صْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِ?للَّهِ [النحل: 127]، وقوله عز وجل: وَلاَ تَسْتَوِى ?لْحَسَنَةُ وَلاَ ?لسَّيّئَةُ ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وقول الله تعالى: وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215]، وقوله تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]، وقول الله عز وجل: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـ?ماً وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان: 63ـ 68]، وقوله عز وجل: يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة: 1]، وقول الله تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر: 7].
وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه [4].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هيِّن ليِّن سهل)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [5].
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم [6].
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله عن البر والإثم فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) رواه مسلم [7].
الخلق الحسن بركة على صاحبه وعلى مجتمعه، وخير ونماء، ورفعة عند الله وسناء، ومحبة في قلوب الخلق وطمأنينة وانشراح في الصدر، وتيسير في الأمور، وذكر حسن في الدنيا، وحسن عاقبة في الأخرى.
وسوء الخلق شؤم ومحق بركة، وبغض في الخلق، وظلمة في القلوب، وشقاء عاجل، وشر آجل.
أيها المسلمون، اقتدوا بالسلف الصالح، الذين اتصفوا بمكارم الأخلاق وشهد لهم بذلك العليم الخلاق، في مثل قوله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح: 29]، وقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران: 110]، فهم خير الناس للناس، وقول الله تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
وكل واحد من الصحابة رضي الله عنهم أمةٌ وحده في مكارم الأخلاق، والبعد عن سفاسف الأمور، يُعلم هذا من تفصيل سيرهم وأحوالهم رضي الله عنهم.
والمثل الأعلى في كل خلق كريم، وفي كل وصف حميد عظيم، سيد البشر سيدنا محمد ، فهو القدوة التامة في كل شيء، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21]، فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه.
واعتنى أعظم عناية بتربية الأمة على كل خلق حميد وفعل رشيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) رواه أحمد [8].
وأثنى الله على نبيه أفضل الثناء، ثناءً يتردد في سمع الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون من الجن والإنس، ولا تنسيه سرمدية الزمان، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28].
عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خلق رسول الله : فقالت: كان خلقه القرآن [9].
قال ابن كثير رحمه الله: "صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجية له، وخلقًا تطبّعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم؛ من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل" انتهى كلامه [10].
وحتى قبل البعثة لم يجدوا على محمد سيد البشر سقطة ولا عيبًا يُذمّ به، مع كثرة أعدائه، وتوافر دواعيهم وحرصهم، ولما فجأه الوحي قال لخديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها [11].
فهذا بعض خلقه الكريم قبل البعثة، فأتم الله عليه النعمة والخلق العظيم بعد البعثة.
فتأسوا ـ معشر المسلمين ـ بنبيكم ، بالتمسك بدينه القيم، والعمل بشريعته الغراء، والتخلق بأخلاقه الكريمة، بقدر ما يوفقكم الله لذلك، واحملوا أنفسكم على منهجه مخلصين لله تعالى، متبعين لسنته، غير مبتدعين في دينه، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 21].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن المداراة من الخلق الحسن، والمداهنة من الخلق المذموم، فالمداراة هي دفع الشر بالقول الحسن أو الفعل الحسن، وتبليغ الحق بأسلم وسيلة، وتكون في بعض الأحوال، والمداهنة هي السكوت عن الحق، أو الموافقة في المعصية قال الله تعالى: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هو في كتاب الأدب من السنن (4798)، وأخرجه أحمد (6/90، 133)، وابن حبان (480 ـ الإحسان ـ) وصححه الحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "صحيح". صحيح الترغيب والترهيب (2643).
[2] هو في كتاب البر والصلة من السنن (2002)، وأخرجه أحمد (6/442، 446، 448)، وأبو داود في الأدب (4799)، وابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (214).
[4] هو في كتاب الأدب من السنن (4800)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648).
[5] في كتاب صفة يوم القيامة من السنن (2488)، وأخرجه أحمد (1/415)، وابن حبان (469 ـ الإحسان ـ)، والطبراني في الكبير (10/231)، وجوّد المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وخرجه في السلسلة الصحيحة (938).
[6] كتاب البر والصلة (2594).
[7] كتاب البر والصلة (2553).
[8] أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[9] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746) من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[10] تفسير ابن كثير (4/403).
[11] أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي (4)، ومسلم في كتاب الإيمان (160).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى كما أمر، وابتعدوا عما نهى عنه وزجر، فقد أمركم الله بقوله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، وهذه آية جامعة لكل خلق كريم، ناهية عن كل خلق ذميم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي [1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله وحسن الخلق))، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: ((الفم والفرج)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [2].
فتمسكوا ـ عباد الله ـ بأخلاق دينكم، وحافظوا على هدي نبيكم ، تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)). فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آهل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: "صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] في كتاب البر والصلة من السنن (2004)، وفيه: "صحيح غريب", وأخرجه أيضًا أحمد في المسند (2/191، 442)، والبخاري في الأدب المفرد (289، 294)، والطيالسي في المسند (324)، وابن ماجه في الزهد (4246)، وابن حبان (476 ـ الإحسان ـ)، وصححه الحاكم (4/324)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1723).
(1/5465)
الإعلام في رمضان وطاش
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
سامي بن خالد الحمود
الرياض
جامع الصفدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرح المؤمن بقدوم رمضان. 2- اغتيال الإعلام الفاسد لفرحة رمضان. 3- ترويج الفساد عن طريق الفن. 4- مسلسل طاش ما طاش. 5- تحذير المشاهدين من المشاركة في الإثم. 6- أهمية الحكمة في معالجة هذا الأمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، يفرح المؤمنون الصادقون بإقبال شهر الصيام والقيام، ولا تسعهم الأرض وقد بلغهم الله أيامه، كيف لا وهو موسم الخيرات ونزول الرحمات وغفران السيئات؟! وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب السماء، وغُلِّقت أبواب جهنم، وسُلْسِلَت الشياطين)) وفي رواية: ((وصفدت الشياطين)). إنها فرحة رمضان، ولكن هل بعد هذا الفرح من ترح؟! هل في بيوتنا من يغتال فرحتنا بشهرنا؟! هل من شياطين لم تصفد تحوم حولنا؟!
إن الفرحة برمضان سرعان ما تغتال بتلك المخازي والمهازل التي دأبت القنوات العربية على بثها طيلة الشهر الكريم دون خوف أو وجل من الله تعالى. ما إن يهلّ هلالُ رمضان حتى تتسابق القنوات الفضائية بتقديم رصيدها الإعلامي من البرامج والمسلسلات والأفلام، حالةٌ محمومة يتسابق فيها المفسدون بشتَّى أجناسهم وطبقاتهم؛ لتوظيف الناس وإشغالهم لمتابعة برامجهم الساقطة، مع تحريك الغرائز وبث الشبهات ودسِّ السمِّ في العسل.
في رمضان تظهر إحدى الفنانات بعد الإفطار، فتسألها مقدمة البرنامج: كيف وصلت إلى ما وصلت إليه من مجد؟! فتقول: أنا هربت من أسرتي وعمري اثنا عشر عامًا، ومارست حياتي حتى وصلت إلى الشهرة. وفي برنامج آخر في شهر رمضان سئلت إحدى الفنانات عن زواجاتها، فقالت: أربع مرات رسميًا، أمَّا العرفي فكثير لا أعرف له عددًا. ولما سئلت: هل العيب في الرجال؟ قالت بكل جرأة: لا، العيب في نظام الزواج؛ لأنَّه نظام بالٍ ومتخلِّف عفاه الزمن.
وإذا نظرت فيما يسمى بالمسلسلات الدينية أو التاريخية وجدت فنَّانين وفنَّانات عُرف عنهم الفسق وقلَّة الحياء، يقومون بتمثيل أدوار خير الناس من الصحابة أو التابعين، في تشويهٍ صارخ لتاريخ قدوات الأمة من سلفها وعلمائها.
أما قنوات الرقص والغناء (الفيديو كليب) فحدث ولا حرج عن الرقص الماجن والكلام الفاحش والقبلات المحرمة، مع ما يصاحبها من الشريط المتحرك برسائل الشباب والفتيات، وما فيها من الكلمات الداعية للفاحشة، ولمزيد الاستخفاف تموج الشاشة في زاويتها بعبارة: (رمضان كريم) أو: (رمضان مبارك). أين الكرم؟! وأين البركة؟!
كل هذا يحدث في رمضان دون خوف أو حياء من الديان، سبحان الله! لقد كان الفسقة القدماء يحجمون عن غيهم ويدارون الناس ويستحيون من إظهار المعصية في شهر رمضان، كما قال أبو نواس:
منع الصوم عقارًا وذوى اللهو فغارا
وبقينا في سجونِ الـ صوم للهمّ أسارى
غير أنَّا سنداري فيه ما ليس يدارى
وأمَّا فسَّاق هذا الزمن فقد نُزع منهم الحياء، بل إنهم يتحيَّنون فرصة قدوم شهر رمضان لإغواء الناس.
لقد تفننت القنوات الفضائية في إغواء المُشاهد وإرغامه على البقاء ذليلاً أمام شاشاتها؛ بفضل الإخراج المتطور في صوته وصورته، المنحط في هدفه وفكرته إلا ما رحم الله. أفلام عارية، وتمثيليات فاضحة، وبرامج مشبوهة، والمصيبة أن المشاهد الكريم يتلقى هذا الإسفاف والهدم للدين والخلق بكل رحابة صدر، ولربما تمايلوا نشوة وطربًا وضحكًا وفرحًا بهذه المشاهد. وبعد السهر على القنوات الفاجرة يجتمع هؤلاء الغافلون أمام موائد السحور استعدادًا لصيام يوم جديد، ووالله ما أحرى هؤلاء المحرومين بقول الحبيب : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
أي زور وأي جهل فوق هذا يا مسلمون؟! ولمصلحة من تقتل فرحة رمضان وتنتهك حرمته؟! ما الفائدة من عرض قصص الحب والغزل ومشاهد العري والسفور في شهر رمضان؟! هل يريد أرباب هذه القنوات والبرامج الفاضحة أن يفرغوا رمضان من محتواه الحقيقي ليتحوَّل إلى موسم للفجور؟! وصدق الله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27].
عباد الله، وإذا كان هذا هو حال الكثير من البرامج في قنواتنا العربية التي تعرض في بيوت المسلمين، فإن الأمر يزداد خطرًا في بعض البرامج الطائشة، وبالأخص البرنامج سيئ الذكر الذي يشاهده وللأسف الكثير من الناس. هذا البرنامج الذي لم يقف عند حد الإغراء والإغواء الأخلاقي، بل تجاوزه إلى السخرية المباشرة من ثوابت العقيدة وشرائع الإسلام.
لقد جاء في بيان علمائنا الكبار في فتوى اللجنة الدائمة تحريم إنتاج هذا المسلسل وبيعه وترويجه وعرضه على المسلمين لاشتماله على الاستهزاء ببعض أُمور الدين والسُّخرية مِمَّن يعملُ بها, واشتماله على ما يُعارض الشرع الْمُطهَّر, ونشر الرذيلة، وطمس معالم الفضيلة، وإشاعة الفساد، ومحبَّة المنكرات والاستئناس بها... إلى آخر ما ورد في البيان. حتى طلع علينا الطائشون هذا العام بأسلوب استهتاري ماكر مخذول، جمع مقدموه بين خروقات الفهم وسَوءات الحكم حول موضوع الإرهاب.
إن موضوع الإرهاب والإفساد لا يختلف عليه أحد، وقد تكلم العلماء والخطباء والدعاة في المملكة العربية السعودية عن إدانة العمليات الإرهابية والتفجيرية في بلاد الحرمين الطاهرة التي نفديها بدمائنا وأرواحنا، ولا نقبل أن يتعدى فيها على مسلم موحد أو كافر معاهد أو مستأمن، ولكن الذي جرى في البرنامج كالعادة هو إثارة الإشاعات والأكاذيب والاستهزاء بالمراكز الصيفية والرحلات الطلابية وبرامجها القيمة النافعة، مع قلب الحقائق بطريقة لا يقبلها مسؤول عاقل ولا متابع منصف.
بلادنا المباركة مهبط الرسالة وقبلة المسلمين، وما وقع فيها من أعمال تفجير وتدمير عمل شاذ وصوت نشاز وإن لبس من قام به عباءة الدين، فالدين وأهل الدين منه براء. أما أن يعمم الحكم بالإرهاب على الدين وأهله فذلك هو ما ينعق به دعاة الفتنة والفرقة وأعداء الملة الذين لا يقل خطرهم عن خطر أصحاب العنف والتفجير.
ثم إننا نتساءل: ما الفائدة من عرض هذه الحلقة بهذا الأسلوب البذيء الماكر البعيد عن الحقيقة؟! هل أعطى هؤلاء صورة حقيقية للفئة الضالة وتحذير المجتمع منهم، أم أنهم دسّوا السّم بالعسل والهزل بالجدّ فضاعوا وأضاعوا؟! ومع هذا، فهذه ليست أول مرّة يقدّمون فيها حلقات وشخصيات تكرّس مفهوم أن صاحب اللحية شخص ساذج وغبيّ وبخيل وكذاب وجشع ومتزمت وإرهابي، بينما يظهر اللبرالي بقالب نظيف ومثقف ووسيم. إنهم يهزؤون بقيم ديننا وعادات مجتمعنا بطريقة لا تمتّ إلى الفن بصلة ولا إلى النقد برابط.
معاشر الصائمين، ونحن نتحدث عن هذا البرنامج وغيره من برامج القنوات الفاسدة نقول: أيها المشاهدون، أما تخشون على دينكم وأنتم تشاهدون وربما تضحكون ممن يسخر ويستهزئ بالله ورسوله وشعائر دينه؟! ألم يُفْتِ علماؤنا الكبار بتحريم مشاهدة هذا المسلسل فرميتم بها عرض الحائط؟! ما لكم كيف تحكمون؟!
أيها المشاهد، لو استهزأ هؤلاء الطائشون بوالدك أو أسرتك كيف ستكون ردة فعلك؟ فكيف بك الآن وأنت تراهم يستهزئون بدينك وسنة نبيك ؟! هل تعلم أنك مشارك لهم في الإثم بمجرد المشاهدة؟!
جاء في حديث المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك وكانوا على أصل الإيمان، فقال أحدهم: والله، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أكبر بطونًا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فسمعهم أحد الصحابة فانطلق ليخبر رسول الله ، فوجد الوحي قد سبقه: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ. فعدّ الله تعالى الاستهزاء بالقراء وأهل الدين إذا كان بسبب تدينهم استهزاء الله ورسوله، ثم حكم على المستهزئين بالكفر، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.
لو تأملت في الحديث لوجدت أن الذي استهزأ بالقراء شخص واحد والبقية مستمعون راضون، فقال الله عنهم جميعا: قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. ويبين هذا المعنى بوضوح قول الله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا. فلماذا ـ يا أخي ـ تشاهدهم؟! هل تريد أن تكون مثلهم؟!
اتق الله ـ يا أخي ـ في دينك، وتذكر أنك في شهر رمضان، فلا تفسد صيامك بمثل هذه المحرمات، واعلم أن من علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، فلا تتبع الصيام بالآثام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إنه على الرغم من جرأة وتعدي هؤلاء، فإنه لا بد من التماس الحكمة في الإنكار والموعظة الحسنة، والحذر من مقابلة الخطأ بالخطأ أو الخروج عن دائرة التوجيه في مكانه الصحيح. لا نريد أن ننجرف وراء التكفير أو إصدار الأحكام في الأشخاص، فنحن دعاة ولسنا بقضاة. وواجبنا الإنكار بالحسنى ومناصحة المسؤولين؛ غيرةً على الدين، وتحذيرًا من تشويه الحقائق وبث الفرقة في بلادنا المباركة.
إن الواجب على العلماء والأمراء وكلِّ من له قدرة بذل الوسع في منع هذا البرنامج، والضغط على تلك القناة وإن كانت غير حكومية لمنعه، كما أنه لا بد من حماية الدين والعقيدة ضد أي استهزاء وإحالة مَن استهزأ بشيء من الدين للمحاكم الشرعية ليلقى الجزاء الرادع، فالأمر جد خطير.
وبعد ذلك تبقى مسؤولية المربين والمربيات وقادة الفكر وصُنَّاع الثقافة في التحذير من هذه الفتنة، كما أنها مسؤولية العقلاء والعاقلات ليحموا أنفسهم وأهليهم من أن يكونوا صيدًا لهؤلاء المفسدين.
وأخيرًا، نقول لكل من شارك في هذا البرنامج وفي تلك القناة: اتقوا ربكم، لقد نشأتم في أرض التوحيد وعرفتم الدين، ومع هذا ففي كل سنة يزداد شركم حتى تجرأتم على الطعن في الدين والسخرية بالمسلمين، فراجعوا أنفسكم قبل فوات الأوان، وإلا فانتظروا مغبة عملكم، ونهاية دعاء المسلمين عليكم، وما ربك بغافلٍ عما تعملون.
نسأل الله أن يهدي العاملين في هذا البرنامج، اللهم اهدهم وافتح على قلوبهم، وإن كان في سابق علمك أنهم لا يتوبون ولا يهتدون فاكفنا شرهم وعجل بعقابهم واجعلهم عبرة لكل من سار على مثل طريقهم.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية...
(1/5466)
الإعلام في شهر الصيام
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
9/9/1428
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شهر الخيرات. 2- رمضان عند المحرومين. 3- اجتهاد الإعلام الهدام في رمضان. 4- تفاعل بعض الناس مع الإعلام الهدام.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، هنيئًا لكم بشهر الصيام، شهر البر والقيام، وشهر الخيرات والفضائل العظام، إنه شهر الكف عن الحرام وترك فضول الطعام والكلام. شهر رمضان المساجد فيه مليئة معمورة، والسيئات فيه بعيدة مهجورة، والناس فيه بين صائم وقائم، وتال لكتاب ربه وذاكر، ومتصدق وباذل، وأقلهم من كفّ نفسه عن الأذى والحرام.
أيها المسلمون، وفي ظل هذه الصور المشرقة والمضيئة نجد رمضان قد صار وللأسف عند فئات من الناس شهرًا للأكل والكسل والتسوق والسهر، وامتدّ الأمر عند البعض إلى أن صارُ شهر رمضان شهرًا للغو واللهو الحرام.
عباد الله، إن الإعلام وبالتحديد وسائل الإعلام المرئيّة تنشط في رمضان كما هو مشاهد بشكل عجيب، تكثف جهودها، وتحشد جنودها، وترصّ صفوها؛ من أجل شغل الأوقات في هذا الشهر الكريم عبر استعدادات كبيرة وإمكانات ضخمة. وفي أي شيء ـ يا ترى ـ شغلت تلك القنوات الأوقات؟!
لقد بثّوا برامج صنعت وأعدت خصّيصًا لشهر الصيام، فيها الأغاني الماجنة والأفلام الهابطة والرقصات الفاجرة والأفكار الضالة الماكرة. لقد أصبح فئام من الناس يفطرون على نعمة الله تعالى، ويشاهدون ما فيه معصية الله من برامج هزلية ومسلسلات فكاهية تتهكّم بالشريعة وتسخر من أهل الفضيلة بحجة الحرية والفكر.
أيها الصائمون، إن من المؤسف حقًا أن نرى جهود تلك الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائية قد آتت ثمارها، فصار فئام من الناس ينتظرون رمضان من أجل تلك البرامج التي تطيش بها العقول وتهدر بها الساعات والأوقات. لقد تبلّد الإحساس عند البعض بسبب السيل الجارف من القنوات وما تحمله من العفن والقاذورات، وماتت الكثير من الفضائل، فصار بعض الناس يتقبل أن ينظر في الشاشة رجلاً يحتضن شابّة لأنه يمثل دور أبيها، وصرنا لا ننكر أن تظهر المرأة حاسرة للرأس، كاشفة عن الشعر والرقبة، مظهرة للذراعين والساقين، بل ألف البعض منا مناظر احتساء الخمور وصور الاغتصاب والسرقات والقتل والسباب بأقذع الألفاظ بدعوى التمثيل والفكاهة.
أيها الصائمون، قولوا لي بربكم: هل يتناسب ما يطرح في تلك الفضائيات مع شهر الصيام والخيرات؟! وهل حقق التقوى من أمضى وقته في التسمر أمام الشاشات؟! أيعقل ـ يا أولي الألباب ـ أن يصير هذا الشهر عند المحرومين شهرًا يتضاعف فيه الإثم والعصيان؟! أيليق أن يقابل شهر الخيرات بالإقبال على الموبقات والإدبار عن الصالحات؟!
معاشر الصائمين، توبوا إلى ربكم، وأنيبوا إلى مولاكم، واعلموا أن من صامت حواسه عما حرم الله فهو المقبول إن شاء الله، ومن صام عن الطعام والشراب وأفطر بصره على الحرام وسمعه على الحرام وقلبه على الأنس بالحرام فيخشى عليه من ردّ الصيام والقيام أو من فقدان أجرهما، قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أي يدع طعامه وشرابه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر الصائمين، لقد استطعنا كبح شهواتنا المباح منها والمحرم في نهار رمضان، فلماذا لا نكبح نفوسنا عن الحرام في ليالي رمضان؟! إننا جاهدنا أنفسنا في نهار الصيام فقضينا أوقاتنا فيما يرضي الملك العلام، فلماذا لا يستمر ذلك الخير في ليالي الصيام؟!
أيها الصائمون، إنني أخاطب الإيمان الذي في قلوبكم بأن تحفظوا وتحافظوا على نعمة البصر، ولا تطلقوا النظر فيما حرم الله. ألا يخشى الذين يصرون على الشهوات والنظر إلى الحرمات أن يسلب الله منهم نعمة البصر ويبتليهم بطمس البصر والبصيرة والعياذ بالله؟! فإن النعم إنما تدوم بشكرها لا بكفرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
(1/5467)
نوح عليه الصلاة والسلام
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القصص, قضايا دعوية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
8/3/1408
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة نوح عليه السلام لقومه. 2- دعاء نوح على كفار قومه. 3- هلاك ابن نوح مع الهالكين. 4- نجاة المؤمنين في الطوفان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن على الداعية المسلم أن يقرأ دعوة الرسل لأقوامهم وما لاقاه كل رسول من جراء هذه الدعوة؛ ليقف على الشيء الكثير من أخلاق البشر في بداوتهم وتحضرهم وطباعهم وعاداتهم، لكي يسير في إصلاحه على هدى؛ لأن نفوس المفسدين في كل زمان متقاربة، ووسائلهم في محاربة الحق متشابهة، ومن أجل أن يجد المصلح ما يشدّ عزمه ويُنير قلبه، ويعلم أنَّ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على اتفاقهم في الأصول يُعنون عناية خاصة بالأمراض التي تحيق بأقوامهم.
ونحن اليوم مع أول رسول من رسل الله، مع نوح عليه الصلاة والسلام، فحياته حياة شاقة مريرة، ومحنته مع قومه محنة شديدة أليمة، فقد أقام بينهم قرونًا طويلة، فلم يَرَ إلا آذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا وعقولاً متحجرة، لقد كانت نفوسهم أيْبَس من الصخر، وأفئدتهم أقسى من الحديد، لم ينفعهم نصح أو تذكير، ولم يزجرهم وعيد أو تحذير، كلما ازداد لهم نصحًا ازدادوا له عنادًا، وكلما ذكّرهم بالله زادوا ضلالاً وفسادًا، وظلوا في طريق الضلال سائرين، لا يلتفتون إلى دعوة نوح، ولا يبالون بتحذيره وإنذاره، وقد مكث تسعمائة وخمسين عامًا داعيًا مذكّرًا ناصحًا مع أن عمره أطول من ذلك، أما تلك المدة فهي مدة دعوته، وسلك جميع الطرق الحكيمة معهم لإنقاذهم من الضلال وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، وكانت دعوته لهم ليلاً ونهارًا وسرًا وجهارًا، ومع ذلك لم تَلِنْ قلوبهم.
فلما يئس نوح عليه السلام من إيمان قومه بعد هذه الفترة الطويلة من الزمان أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح بأنه لن يؤمن من قومه أحد بعد القليل من المؤمنين الذين آمنوا به كما قال تعالى: وَأُوحِىَ إِلَى? نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [هود: 36]، عند ذلك التجأ نوح عليه السلام إلى الله بالدعاء على قومه بالهلاك والدمار، فاستجاب الله دعاءه وأعلمه بأنه سيهلكهم بالطوفان فلا يبقى منهم أحد، وأوحى إليه بأن يصنع السفينة ليركب فيها هو وجماعته المؤمنون، ولم يكن لنوح عليه السلام ولا لغيره معرفة بصنع الفلك، ولذلك أوحى الله إليه صنعها وعلمه كيف ينبغي أن تكون عليه السفينة كما قال تعالى: وَ?صْنَعِ ?لْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَـ?طِبْنِى فِى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ [هود: 37] ، وإنما أمره تعالى بعدم مراجعته في شأنهم لأن عذابه عز وجل إذا جاء لا يُردّ عن القوم المجرمين، ولعله قد تدركه رقّة عند معاينة العذاب النازل بهم.
وأخذ نوح عليه الصلاة والسلام يصنع السفينة بأمر الله ووحيه، وجعل قومه يمرون عليه فيهزؤون ويسخرون ويقولون له: صِرتَ نجارًا ـ يا نوح ـ بعد أن كنت نبيًا! ويقولون: ماذا تقصد ـ يا نوح ـ بهذه السفينة؟! وأين الماء الذي سيحملها وهي في البر بعيدة عن البحر؟! وجابههم عليه السلام بكلمة قوية كشفت عما ينتظرهم من ذلة وهوان بما كسبت أيديهم في الدنيا، وما ينتظرون في الآخرة من عذاب مقيم كما ورد في القرآن الكريم: قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [هود: 38، 39] ، والمعنى: إنا واثقون من مصيركم المحزن ونهايتكم الأليمة، ولسوف ترون بأعينكم وتلمسون بأيديكم من منا الذي سيلحقه الخزي والعار والعذاب والدمار في الدنيا، ثم يحلّ عليه بعد ذلك عذاب الآخرة وهو العذاب الدائم الأليم.
ثم جاء أمر الله بإحقاق الحق وإبطال الباطل، ففار التنور، ولعل كلمة التنور وإطلاقها على الأرض من باب التشبيه لها بالفرن على أساس ما يوجد في باطنها من الكتل النارية الملتهبة، والتي نشاهدها عند تصاعد النيران من البراكين والله أعلم، وكان للناس عجبًا أن يتفجر ماء الطوفان من موقد النيران، ولكن كانت هي العلامة التي أوحى الله بها إلى نوح ليعلم أن ساعة القصاص قد حانت، وأن أمر الله قد نفذ في أعداء دينه، فلما ظهرت العلامة ركبوا في السفينة وأرسل الله من السماء مطرًا لم تعهده الأرض قبله ولا بعده كأنّهُ أفواه القِرَب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها كما قال تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَ?نتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى? ذَاتِ أَلْو?حٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر: 10-14] ، وركب نوح في السفينة ومن آمن معه، وكانوا عددًا قليلاً في حدود الأربعين كما ورد في بعض الروايات، وأمره الله بأن يحمل معه في السفينة من كل حيوان وطير ووحش وغيره زوجين اثنين كما قال تعالى: قُلْنَا ?حْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ?ثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ?لْقَوْلُ وَمَنْ ءامَنَ وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود: 40].
وفي هذا الجوّ الرهيب والوقت العصيب يتطلع نوح إلى ابنه كنعان الذي لم يركب مع إخوته الثلاثة سام وحام ويافث، فيراه قد فرّ إلى جهة لم يكن قد وصلها الماء، فيناديه بعاطفة الأبوة وقلبه الرحيم: يـ?بُنَىَّ ?رْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ?لْكَـ?فِرِينَ [هود: 42] ، ولكن الابن الجاحد المعاند لا يلبي دعوة الرحمة والحنان ولا يجيب داعي الإيمان، بل يركب رأسه ويمضي في ركاب الشيطان قائلاً: سَآوِى إِلَى? جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ?لْمَاء [هود: 43] ، ناسيًا أن هذا ليس سيلاً عاديًا تصدّه التلال وتعصم منه الجبال والمرتفعات، إنما هو أمر الله وقدره النافذ الذي لا عاصم منه إلا رحمته لمن يشاء من عباده، قَالَ لاَ عَاصِمَ ?لْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ?لْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ?لْمُغْرَقِينَ [هود: 43]. وهكذا يمضي الولد العاقّ سادرًا في غيّه وضلاله مع الكفار الجاحدين حيث حلت عليهم النقمة وأدركهم الموت ، وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [هود: 44].
وكان نوح عليه السلام مطمئنًا إلى وعد الله له بالنجاة له ولأهله وللمؤمنين معه، وواثقًا أيضًا بمصير الظالمين ونهايتهم الأليمة، وأيقن حق اليقين أن الله قد استجاب دعاءه، وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ?لأرْضِ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26، 27] ، وحينئذ تذكّر نوح ابنه وتذكّر قول الله له: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ [العنكبوت: 33] ، فظن أن ابنه ممن كتبت لهم النجاة لأنه من أهله، ونسي الشرط الأساسي للنجاة وهو الإيمان بالله، فلجأ إلى الله قائلاً: رَبّ إِنَّ ?بنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ ?لْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ?لْحَـ?كِمِينَ [هود: 45]، فعاتبه الله عز وجل حيث قال سبحانه: يـ?نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـ?لِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ?لْجَـ?هِلِينَ [هود: 46]، وعند ذلك تذكر وأناب وطلب من الله المغفرة والرحمة، قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [هود: 47].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلقد انتهى الطوفان بعد أن غرق أهل الأرض في زمن نوح عليه السلام، ولم يبقَ إلا من آمن وركب السفينة، وكان انتهاء الطوفان بعد أن أمر الله السماء أن تكف المطر والأرض أن تبتلع الماء الذي غمرها، وأن تعود الحياة كما كانت على ظهر الأرض، وحيث كانت قد وصلت إلى جبل يسمى الجودي، والله أعلم أنه إلى جانب دجلة عند الموصل في العراق، قال تعالى: وَقِيلَ ي?أَرْضُ ?بْلَعِى مَاءكِ وَي?سَمَاء أَقْلِعِى وَغِيضَ ?لْمَاء وَقُضِىَ ?لأمْرُ وَ?سْتَوَتْ عَلَى ?لْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [هود: 44].
وحين استقرت السفينة على الجودي وغاض الماء أمر الله نوحًا ومن معه أن ينزلوا منها بسلام وأمان وبركات من العزيز الرحيم بعد أن مكثوا وبقوا فيها على الماء تطوف بهم مائة وخمسين يومًا كما ورد في بعض الروايات.
وهكذا كانت حياة نوح عليه السلام مع قومه بعد أن مكث وعاش زمنًا وقرونًا طويلة وهو يدعوهم إلى الله، وهي أطول حياة عاشها إنسان والله أعلم، ويُروى عنه أنه سُئل حين حضرته الوفاة: كيف رأيت الدنيا؟ قال: (رأيتها كبيتٍٍ له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر). وهكذا ينبغي أن تكون نظرة المؤمنين المخلصين إلى الدنيا الفانية ومتاعها الزائل، وَإِنَّ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ لَهِىَ ?لْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64].
وما أجمله وأروعه من تعقيب إلهي في نهاية قصة نوح عليه السلام مع قومه لتذكير رسول الله وأتباعه إلى يوم الدين بحقائق ثابتة وسنن لا تتغير ولا تتبدل، وما عليهم إلا أن يصبروا على ما يلاقونه من إعراض وعناد وكفر يتكرر في كل زمان ومكان، وعليهم أن يحتسبوا الأجر ويطلبوه من الله لأن العاقبة للمتقين، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء ?لْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـ?ذَا فَ?صْبِرْ إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49]. تلك حقيقة حتمية وسنة ثابتة لمن تذَرّعَ وتجمّل بالصبر وكان من عباد الله المتقين، فإن العاقبة والنتائج الطيبة في الدنيا والآخرة هي للمتقين، فَ?صْبِرْ إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
(1/5468)
دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام (1)
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
14/5/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقبات والشدائد تعترض سبيل الدعاة والأنبياء. 2- صبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام. 3- حرص الأنبياء على هداية أقوامهم. 4- خشية العلماء من الله تعالى. 5- دعوة إبراهيم عليه السلام أباه لنبذ الأصنام. 6- البراءة من المشركين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد اقتضت حكمة الله وإرادته ومشيئته أن يبعث في الناس رسلاً منهم مبشرين ومنذرين، ومن بين أولئك الرسل رسولنا محمد خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا، والدعوة إلى الإصلاح عمومًا محفوفة بالمخاطر ومحاطة بالأشواك والأقذاء، ومن شأن هذه المخاطر أن تكون وسيلة لتثبيط همة الداعي وتسرّب اليأس إلى نفسه، فكان من الخير أن يُحال بين اليأس وبين قلب الرسول ، ويبقى للداعي إلى الله أن يسلك هذا المسلك، وتلك العقبات التي تعترض الداعي والشدائد التي يراها المصلح لا غنى له عنها لأنها سنة فيمن سبق من الرسل كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: 34].
إن المصلحين في أي زمان أو مكان لا ينجون من تلك الشدائد والمحن والأشواك والأقذاء التي تعترضهم في دعوتهم؛ لأنهم يحملون إلى الناس ميراث النبوة ويبلغون ما أمروا بتبليغه وآمنوا به وجاهدوا من أجله، فالرسل وأتباعهم ومن سار على نهجهم لن ينجوا من ذلك؛ لأن مهمتهم أن يحولوا بين النفوس وشهواتها والقلوب وأهوائها ويرسموا لها طريقًا غير الطريق التي اعتادته وألفته من الشهوات، وكثيرًا ما تستحكم الشهوات والأهواء ويتمكن الفساد من الأمة إلى حدٍ كبير يحتاج معه المصلح إلى شيء كثير من السلوى ونماذج متعددة من سيرة المرسلين والمصلحين، فينبغي أن تكون سيرة الرسل الماضين ودعوتهم لأقوامهم مُثلاً صالحة للدعاة إلى الله، وتكون أنباؤهم وأخبارهم تثبيتًا لقلوب المصلحين وتطمينًا لنفوسهم، وخاصة سيرة رسولنا محمد وكذلك الرسل والأنبياء قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
إن المصلح إذا قرأ واطلع على دعوة الرسل لأقوامهم واستنبط منها واستخرج الدروس والعبر والعظات من خلال آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله وكتب التفسير والتاريخ الموثوقة مما لاقاه كل رسول من جراء دعوته، إذا فعل ذلك فسيقف على الشيء الكثير من أخلاق البشر في بداوتهم وتحضرهم وعاداتهم وطباعهم ومواقفهم الغريبة من دعاة الإصلاح والعقبات والعراقيل التي تقف في طريق المصلحين من مختلف الطبقات والدوافع التي تحملهم على وضع تلك العقبات في طريق المصلحين، عند ذلك يستطيع المصلح أن يسير في إصلاحه على هدى، ويعدّ له من العدة والحجج والبراهين ما ينبغي إعداده كالذي أعده من سبقه؛ لأن نفوس المكابرين المعاندين المفسدين في كل زمان متقاربة ووسائلهم في محاربة الحق متشابهة.
ونحن اليوم مع أحد أولي العزم من الرسل، مع أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا وعلى جميع الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين.
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء، وهو الجد الأكبر لرسول الله محمد ، إذ الرسول محمد من ولد إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم، فيكون إبراهيم الجدّ الأعلى لرسول الله ، ولقد خصّ الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام بخصائص ومزايا فريدة، فجعله أبًا للأنبياء وإمامًا للمتقين وقدوة للمرسلين، فهو خليل الرحمن بنصّ القرآن الكريم، ومنه تناسل الأنبياء وتتابعوا عقب الأجيال من ابنيه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام جميعًا، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27]، وقال تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125]، وقال عز وجل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم: 41].
وقد ابتُلي إبراهيم الخليل عليه السلام بأنواع من الابتلاء وامتُحن بضروب من الامتحان فصبر، وكان في إيمانه مثل الجبال الرواسخ لم يتزعزع ولم يضطرب ولم يدخل إليه وهن أو ضعف، وأشد هذه المحن عليه حين أُمرَ بذبح ولده إسماعيل، ولكنه كان مثالاً للعبودية والطاعة والإذعان لأوامر الله عز وجل، فكان قدوة للأنبياء من بعده ولأتباعهم، بل جعله الله أمّة بمفرده في إيمانه وصبره وتحمله وطاعته لله رب العالمين كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120-123]، وقال تعالى لنبينا محمد : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 161]، وقال عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية [الممتحنة: 4].
وإبراهيم عليه السلام ينتهي نسبه إلى سام بن نوح، وبينه وبين نوح عليهما السلام مدة تزيد عن ألف عام، وأبوه هو آزر وهو مشرك بالله عز وجل. ويستعظمُ هذا الأمرَ كثيرٌ من الناس في كل زمان ومكان، أي: كيف يكون الأب مشركًا وكافرًا والابن مسلمًا أو العكس، أو الزوج وزوجته على طرفي نقيض؟! ويعتبرون أن ذلك مُخِلٌّ بمقام الرسل أو الدعاة إلى الله عز وجل وينقص من قدرهم، وهذا من جهلهم، وإلا لو علموا الحكمة لزال عنهم العجب والاستغراب، والطريف في الأمر أن هذا الجهل ليس بين عامة الناس فقط ولكنه سرى بين بعض طلبة العلم حتى أظهروا الشماتة عندما كان من أولادهم أو عوائلهم من هو على خلاف ما كانوا عليه، فعليهم أن يتقوا الله عز وجل ويحمدوه ويشكروه على نعمه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى ومنها استقامة من لهم بهم قرابة وصلة، وقد يكون منهم أناس يظهرون الاستقامة أمام أهليهم وهم على النقيض من ذلك في تعاملهم وفي خلواتهم، فلا بد من الحيطة والحذر والدعاء للمسلمين بالهداية والصلاح والتوفيق.
والحكمة من ذلك أنها تدلهم على وحدانية الله عز وجل وتبعد عنهم شبح الشرك والتعلق بالمخلوقين أيًا كانوا ومهما كانت منزلتهم من الصالحين أو الأنبياء والرسل، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وما على أولئك البشر إلا أن يسلكوا طريق الهداية التي يستطيعونها ويقدرون عليها وهي في حدود إمكاناتهم واستطاعتهم، ألا وهي هداية الدلالة والإرشاد، أما هداية القلوب المسماة بهداية التوفيق فهي بيد الله وحده جل جلاله، فهو يضل من يشاء ويهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. على الرسل وأتباعهم أن يسلكوا ما أمرهم الله به من إبلاغ الرسالة إلى الناس، والله سبحانه هو الذي يتولى هدايتهم بعدله وحكمته، فله الحكمة البالغة عندما يكون الرسول وولده أو أبوه أو زوجه أو عمه على طرفي نقيض ليبين للناس جميعًا أن البشر ليست بأيديهم هداية القلوب وإنما هي بيد الله وحده، وعليهم هم أن يدعوا الله عز وجل ليثبت قلوبهم على الدين الحق كما كان يدعو بذلك رسول الله ويقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، وكما قال : ((إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)) ، وكما قال عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].
فالرسل وأتباعهم عليهم هداية الدلالة والإرشاد إلى الصراط المستقيم، يدعون الناس إلى الله عز وجل ولا يملّون ولا يفترون ولا يتوانون، وعلى الأتباع أن يسلكوا هذا المسلك الذي سلكه الرسل، ومنهم رسولنا محمد الذي ظل يدعو عمه إلى آخر لحظة من حياته لعل الله يهديه، ولكن الله عز وجل سبق في علمه أنه لن يهتدي، وأراد عز وجل ذلك ليعلم الناس جميعًا أن محمدًا مهما بلغ من المنزلة والدعوة إلى الله فلن يستطيع أن يحوّل قلب إنسان لم يردِ الله له الهداية مهما كانت منزلته؛ لأنه بشر لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله، فلقد حاول مع عمه أبي طالب شتى المحاولات ليسلم ويقول: ((لا إله إلا الله))، ولكنه لم يفعل ولم يتلفظ بها لحكمة ظاهرة للناس جميعًا يجب أن يأخذ المسلمون منها العظة والعبرة والدروس المتعددة المستفادة في الدعوة إلى الله عز وجل، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56].
فهذه هداية القلوب التي لا يملكها البشر، أما هداية الدلالة والإرشاد إلى الطريق والدعوة إلى الله فقد قام بها الرسول محمد ، وهي واضحة جلية في سبب نزول هذه الآية السابقة، وكان يمارسها فعلاً مع عمه، ودلت الآية على الهدايتين أي: تلك التي لا يملكها إلا الله عز وجل وهي هداية القلوب، وتلك التي باستطاعة البشر القيام بها، وهي هداية الدلالة والإرشاد، كما قال الله جل جلاله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى: 52، 53]، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [يوسف: 108]، وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]. فالفرق بين الهدايتين واضح، والحكمة أيضًا واضحة جلية للناس أجمعين؛ ليتّجهوا لله رب العالمين ويعبدوه وحده سبحانه ويفردوه بالعبادة لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وليس هناك ما يخلّ أو ينقص من قدر الرسل وأتباعهم عندما يكون أقرب قريب إليهم على خلاف ما هم عليه، فتلك حكمة الله عز وجل، فلله الحكمة البالغة والمشيئة والإرادة المطلقة، فلقد كان أبو إبراهيم عليه السلام مشركًا وإبراهيم حنيفًا مسلمًا، وكانت زوجة فرعون مؤمنة وفرعون كافرًا، وكان نوح رسول الله موحدًا وولده وزوجته كافرَيْن، ولوط رسول الله موحدًا وزوجته كافرة. وتلك هي سنة الله عز وجل وحكمته سبحانه وتعالى ليعرفوا قدرته عز وجل وحكمته سبحانه وتعالى ويقفوا عند حدودهم البشرية. إذًا لا عجب ولا استغراب عندما يكون الأب صالحًا والابن فاسدًا أو العكس، أو الرجل فاسدًا والمرأة صالحة أو العكس، أو الأسرة بكاملها على غير صلاح وأحد الأبناء أو البنات على هدى من الله ونور أو العكس، فتلك حكمة الله وحجته يقيمها على خلقه لينتبهوا ويفيقوا ويرجعوا إلى ربهم عز وجل.
قال تعالى: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]. ومما ينبغي الإشارة إليه لمن كان تعليمه قليلاً هو خلْطُ بعضهم بين الفاعل والمفعول وعن فهمهم للمعنى في بعض آيات القرآن الكريم خاصة عندما يتقدم المفعول على الفاعل ويلتبس عليهم المعنى في هذه الآية وغيرها، حيث يظنون ويفهمون ويقرؤون كذلك (إبراهيم) بالرفع و(ربه) بالنصب، وهذا غلط واضح يقلب المعنى، فالله عز وجل هو الذي ابتلى إبراهيم عليه السلام، وكذلك الحال من حيث القراءة وقلب المعنى في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] أي: أن العلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى حق خشيته، فعندما يقرأ من لا يفهم قواعد الإعراب يرفع لفظ الجلالة وينصب كلمة العلماء. وهذا من أشنع الأخطاء وأوضحها غلطًا وخلطًا ممن لا يفهم اللغة العربية وقواعدها، وفيه خطورة على عقيدة المسلم لو اعتقد ذلك، وليس هذا الفهم قاصرًا على فئة معينة من الناس، بل إنه منتشر بين حملة الشهادات العليا كما يقولون، والآيات التي يُساء فهمها عند من لا يعرف معناها أو يجهل إعرابها كثيرة ومتعددة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده عز وجل وأشكره وأومن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخيركله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فلقد ورد في القرآن قصة دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام لأبيه آزر الذي هو مشرك بالله ويعبد الأصنام، وأحق الناس بإخلاص النصيحة له إنما هو أبوه، لهذا لم يَأْلُ جُهدًا ولم يدّخر وُسْعًا في تذكير أبيه ونصحه وتحذيره من عذاب الله، وقد كان إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه مثالاً للولد البارّ الرحيم الذي لا يريد إلا الخير لأقرب الناس إليه، فلم يَقْسُ عليه في الكلام، ولم يعنّفه أو يزعجه، بل خاطبه بكل أدب واحترام ووقار، وجادله ودعاه بألطف عبارة وأحسن إشارة، وبيّن له في محاورته ومجادلته بطلان ما هو عليه من عبادة أوثان وأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ولا تغني عن صاحبها شيئًا، وذكّره بأن هذه الأصنام إذا لم تستطع أن تدفع الضُّرَّ عن نفسها ولا أن تجلب النفع والخير إليها فكيف تستطيع أن تدفعه عن غيرها أو تحقق لعابدها ما يرجوه منها مع أنها تفقد القدرة والقوة على عمل أي شيء من الأشياء؟!
وهكذا مضى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعوته لأبيه بالحكمة والموعظة الحسنة في أدب ووقار، ولكن أباه لم يستجب لهذا النصح ولم يعتبر بمنطق الحجة والبرهان، بل أصرّ على الضلال والعناد وهدّد ابنه إبراهيم بالضرب فيما إذا عاد إلى ذكر آلهته المزعومة بالسوء أو الشر، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 41-50]، وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه كما وعده في الآية السابقة عندما دعاه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، وعندما كان يطمع في إسلامه وتوحيده لله قبل أن يعرف منه الإصرار على الشرك، فقال كما في الآية السابقة: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47]، وكما كان من ضمن دعائه في آيات أخرى: هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 83-89]، وكما قال تعالى عنه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة: 4، 5].
وعندما ظهر لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إصرار أبيه على الشرك والوثنية وعداوته المتأصلة لدين الله عندها تبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه، قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114].
وفي هذا درس بليغ لأهل العقيدة والإيمان ليقتدوا بالرسل الكرام ويسيروا على نهجهم وسيرتهم العطرة، فإبراهيم يتبرأ من أبيه، ونوح يتبرأ من ابنه، وهذا هو كمال الإيمان، ولكن هذه البراءة وقطع الصلة في الإسلام ليست على إطلاقها خاصة من الولد لوالديه، البراءة تكون من ناحية عدم طاعتهما في الشرك بالله وارتكاب ما حرم الله، ولكن ذلك لا يمنع المسلم من الإحسان والبر بوالديه وإن كانا مشركَيْنِ كما ورد بذلك أمر الله عز وجل في القرآن الكريم، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 15]، والإطلاق هنا في التعامل الدنيوي والإحسان والعدل والقسط والرحمة والشفقة بالوالدين والتعامل الحسن معهما مع البراءة من شركهما وكفرهما، ويجب علينا أن نفهم الإسلام على حقيقته ونعمل به جملة واحدة. وسوف نواصل الحديث عن دعوة إبراهيم عليه السلام في الخطب القادمة إن شاء الله تعالى.
(1/5469)
دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام (2)
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الربوبية, القصص, قضايا دعوية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
21/5/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إفحام إبراهيم النمرود بالحجة والبرهان. 2- قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. 3- قصة الذي أماته الله مائة عام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زال الحديث موصولاً بسابقه عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعن دعوته لقومه وعن أنواع المحن والابتلاءات التي اعترضته في سبيل الدعوة إلى الله والتي كان معها صابرًا محتسبًا لم يضطرب في إيمانه ودعوته ولم يتزعزع بل كان مثل الجبال الرواسخ الشوامخ، ولقد مرّ بنا كيفية دعوته لأبيه آزر وكيف كان مثالاً للابن البار بأبيه الذي لا يريد له إلا كل خير، وكيف كان أسلوبه في التخاطب مع أبيه وطريقة دعوته ومناصحته إياه، وطريقته في محاولة إقناعه لأبيه بأبسط وأيسر السبل التي تصل إلى قلبه بالحكمة والموعظة الحسنة.
والآن نحن مع موقفه عليه الصلاة والسلام مع الملك الطاغية، فقد نشأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسط بيئة فاسدة يحكمها ملك طاغية مستبدٌّ برأيه، قيل عن اسمه: النمرود، قبض على زمام الملك في بابل في أرض العراق، وكان أهلها ينعمون برغد العيش وظلال الأمن غير أنهم كانوا يتخبطون في ظلام دامس من الشرك والوثنية؛ ينحتون الأصنام بأيديهم ثم يجعلونها أربابًا من دون الله، ولما رأى النمرود نفسه حاكمًا مطلقًا بين البشر تحيط به قوة الملك والسلطان والقوم حوله يتخبطون في الجهالات أقام نفسه إلهًا ودعا الناس إلى عبادته؛ لأن عبادتهم للأصنام وجهلهم بصفات الإله سوّغت له هذه الدعوة الباطلة، فالأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا، فهو في نظره ونظرهم القاصر وأذهانهم المتبلّدة أحسن وأفضل من تلك الأصنام؛ لأنه ينطق ويفكّر ويدرك ويحسّ ويشعر ويعطيهم الأموال، فقالوا: لِمَ لا يكون إلهًا؟! إذًا هو أولى بالعبادة من تلك الأحجار التي عبدوها واتخذوها آلهة، ونشأ الجميع وشبُّوا وشابوا على تلك الضلالات، وعاشوا حياتهم المتبلدة التي أثّرت في أفكارهم وعقولهم ورسخت وسكنت سويداء قلوبهم ولم يرضوا عنها بديلاً مهما كان الإيضاح والبيان والحجة والبرهان.
نشأ إبراهيم عليه السلام في هذا المحيط الكافر وقد أعطاه الله الرشد والصواب وأعطاه من الحجة والبرهان ما يُسكت ويُخرس به أفواه الكفرة والمعاندين، فهو يحب مقابلة الحجة بالحجة واليقين، والشبهة بالدليل والبرهان، فابتدأ بذلك في نفسه ومع أبيه ومع الجبار المعاند النمرود ومع قومه أجمعين؛ لتقوم الحجة وتتضح مثل الشمس في رابعة النهار.
لقد بدا إبراهيم عليه السلام مفعم القلب بالإيمان بربه، ممتلئًا بالثقة واليقين بوعد الله بالنصر له، موقنًا بما أوحى الله تعالى إليه من أمر الغيب وأمر الإيمان، ويعلم أن الله تعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولكنه أراد الاطلاع على آيات الله البينات الواضحات على الإحياء والإماتة والبعث والنشور ليحاجّ قومه المعاندين المكابرين الكافرين بشيء رآه ببصره وأدركه بثاقب بصيرته واطمأن له قلبه، رأى ذلك عيانًا أمام ناظريه فازداد إيمانًا واطمئنانًا وقوة في الحجة والبرهان والبيان أمام أولئك القوم العتاة الجبابرة والكفرة. ولم يكن ذلك من قِبَلِ الشك منه في وحدانية الله عز وجل أو في قدرته على الإحياء والإماتة كما يفهمه من قلّ علمه عندما يفهم الآيات على ظاهرها، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح عن رسولنا محمد البيان الشافي لهذا المفهوم الخاطئ حيث هضم من حقّ نفسه عليه الصلاة والسلام تواضعًا منه وإيضاحًا للحق في جهة أبينا إبراهيم عليه السلام لينتفي عنه الشك الوارد في مفهوم الآية القرآنية، وفيه أيضًا الإعلام بأن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تكن من جهة الشك في قدرة الله تعالى، ولكن من قَبِيلِ العلم بالعيان؛ لأن المعاينة تفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يكون في الاستدلال بغير الشيء الواضح للعيان. روى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الآية [البقرة: 260 ] )).
ولقد أجاب الله عز وجل طلب وسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأدرك عليه السلام عجائب قدرة الله عز وجل وأبعد دقائق خلقه وتصويره، واطمأن قلبه وسكن فؤاده وازداد يقينه وإيمانه وخشيته وتقواه وخوفه من الله ذي العزة والجبروت مالك الملك العزيز الحكيم الفعال لما يريد، فأخذ أربعة من الطير كما أمره ربه تبارك وتعالى وضمّها إليه ليتعرف أجزاءها ويتأمل خلقها، ثم ذبحها وجعلها أجزاءً وفرقها أشلاء، وجعل على كل جبل منها جزءًا مختلطًا بغيره من الأجزاء الأخرى من الطيور الأربعة، وبعد ذلك دعاهن إليه كما أمره الله جل جلاله وتعالى سلطانه فأتته سعيًا بإذن الله، وصار كل جزء ينضّم إلى مثله ومكانه، وعادت الأشلاء المتناثرة كل في مكانه، وسرعان ما سرت فيها الحياة ودبت وجاءت إليه مسرعة بقدرة الله عز شأنه وتعالى سلطانه، وإبراهيم عليه السلام يرى آيات الله في الخلق والإبداع، فهو سبحانه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ البقرة: 260].
لقد كانت المناظرة بين إبراهيم عليه السلام وبين النمرود مناظرةً مُفْحِمةً للنمرود ومن سار على دربه، مقنعةً لمن يريد طريق الإيمان، مسكتةً لأهل الكفر والطغيان. لقد سأل النمرودُ إبراهيمَ عليه السلام وقال له: من ربك؟ قال: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: إن الإحياء والإماتة مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وتعالى، لكن الحماقة وبلادة الفكر جعلت الطاغية يدعي الإحياء والإماتة أنها بيده كما ورد ذلك في الآية الكريمة عن قوله: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ، ودعا حاجبه وقال له: اذهب فأتني برجلين من السجن قد استوجبا القتل، أي: حكم عليهما بالإعدام والموت، فعندما أتى بهما الحاجب أمر الجلاّد أن يضرب عنق أحدهما ويقتله بالسيف، فقتله فمات، وقال النمرود: هذا أمتُّه، وأمر بإطلاق سراح الثاني فأطلق، وقال: هذا أحييته. وهكذا بمنتهى البلادة والغباء والسخافة والحماقة أراد أن يظهر مدّعيًا قدرته على الإحياء والإماتة، ولكن إبراهيم عليه السلام قصم ظهر المكابر المعاند وألجمه لجامًا لم يستطع بعده كلامًا إلا الدهشة والذهول، فقال عليه السلام: إن ربي الذي يحيي ويميت يأتي بالشمس كل يوم من المشرق فأت بها أنت من المغرب إن كنت تستطيع التغيير في نظام هذا الكون العجيب، فعندها انقطع جدل المجادل العنيد وبُهت وذُهِل وبقيت قصته عبرة وعظة للمتعظين.
وهكذا يخفت صوت الباطل ويضمحل ويبقى صوت الحق مدوّيًا شامخًا في الوقت نفسه على مر العصور والأزمان، روي عن زيد بن أسلم قوله: أرسل الله إلى ذلك الملك الجبار بعوضة سلطها عليه، فدخلت في منخره ورأسه وكان يُضرب رأسه بالمرازب والأحذية ليهدأ من شدة الألم، وبقي على تلك الحال حتى هلك، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فلم أرغب الانتقال عن هذه الآية دون التعريج عليها وإعطائها جزءًا يسيرًا من الحديث حول معناها وما ورد فيها، ولا يُعْتبر ذلك خروجًا عن موضوع إبراهيم عليه السلام وما يتعلق به، بل هذه الآية واقعة بين تلك الآيتين مقرّرة ومرسخة عقيدة التوحيد في قلوب أهل الإيمان الذين أشار الله إليهم في الآية التي سبقت تلك الآيات وورد فيها أكمل البيان وذلك بالربط بين آي القرآن، ومن يتأمل ذلك ويتدبره إلا من أعطاهم الله صفاء الفكر والأذهان وذاقوا حلاوة الإيمان، نسأل الله تعالى من واسع فضله ورحمته أجزل العطاء، وفي الخطبة القادمة إن شاء الله يكون الكلام حول دعوته لقومه وزواجه وعمارة البيت العتيق وعن ابنه الذبيح إسماعيل عليهما السلام.
جاء قبل هذه الأمثلة الثلاثة عن ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين وإخراجهم من الظلمات إلى النور وعن الكافرين وأن الطاغوت هو وليهم قوله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 257]. وسبق هذه الآية آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وبعدها الآية الدالة على عدم الإكراه في الدين بعد أن تبين الرشد من الغي والكفر بالطاغوت والاستمساك بالعروة الوثقى كلمة التوحيد والإخلاص لكي يتحقق الإيمان.
وأعود لذكر شيء موجز عن الآية التي أعقبت تأييد الله وولايته لإبراهيم بالحجة القاطعة حيث نصره على النمرود، فهذه الآية عطف على الآية التي قبلها، وفيها من المشابهة مثل قول الطاغية، ولكن هذا الرجل كان غير الطاغية الذي ادعى الألوهية والربوبية والإحياء والإماتة والرزق وغيرها مما دار في ذهن وتفكير ذلك الذي مرّ على القرية الخاوية، فهذا مُستبعِدٌ مُستنكِرٌ كيفيةَ إحيائها بعد موت أهلها وتهدّم مبانيها غير مُدَّع لنفسه أي شيء، فعندما مرّ على قرية ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها وقف متفكرًا فيما آلَ أمرُها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، فاعترف بوجود ووحدانية الله ولم يدّعِ ذلك لنفسه، ولكنه استبعد واستنكر واستغرب الكيفية لإحيائها مرة ثانية ولأهلها لما رأى من اندثارها وشدة خرابها وبُعْدِها عن الْعَوْدِ على ما كانت عليه، فأماته الله عز وجل مائة سنة ثم بعثه بعدما أحيا تلك القرية وأحيا ساكنيها وأراه الآية الكونية الدالة على قدرته عز وجل في حماره وفي نفسه وفي طعامه وشرابه، وجعله آية للناس وعبرة، وقيل بأن الله عز وجل لما بعثه بعد موته كان أول شيء أحياه فيه عينيه لينظر بهما إلى قدرة الله تبارك وتعالى فيه كيف يحيي بدنه، فلما استقل سويًا على قدميه قال الله له بواسطة الملك: كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قال ذلك لأنه مات أول النهار ثم بعثه الله آخره، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قال الله عز وجل: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ. وهذه آية ثانية في الطعام والشراب حيث كان معه العنب والتين وشراب العصير ولم يتغير من ذلك شيء أو يستحِل طوال تلك السنين العديدة، فلم يُنْتِن أو يَتَعَفَّن أو يخرب أو يستحل أو يتغير أو ينقص منه شيء كما هي العادة. والآية الثالثة حماره الذي أحياه الله عز وجل وهو ينظر إليه، حيث جمع الله عظامه المتناثرة وركّبها وأعادها كما كانت حيث كساها اللحم والعصب والعروق والجلد وبعث فيها الروح، والرجل ينظر قدرة الله عز وجل على الإحياء بعد الإماتة مشاهدة أمام عينيه وقلبه وفكره الذي عرف بها الحياة والموت له ولحماره وعدم تغير طعامه وشرابه، قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259].
(1/5470)
دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام (3)
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
28/5/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة إبراهيم قومه إلى التوحيد. 2- إبراهيم عليه السلام يحطّم أصنام قومه. 3- محاجة إبراهيم قومه عن آلهتهم. 5- توكل إبراهيم عليه السلام على ربه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لقد سبق الكلام في الخطبتين السابقتين عن دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه وللطاغية في زمانه النمرود، واليوم نحن في دعوته لقومه أجمعين، وإن كانت دعوته تلك خاصة فهذه عامة للقوم جميعهم، ومنهم أبوه وغيره، وقد جادلهم عليه السلام، والجدال مشروع لإقامة الحجة على المشركين والمبطلين والمعاندين لعلهم يهتدون ولبيان ضلال عقولهم وما هم فيه وإظهار الحق على الباطل.
لقد كان إبراهيم عليه السلام دائبًا في الدعوة إلى الله لا يفتأ يذكّر قومه وعشيرته بعبادة الله وترك عبادة الأصنام، دعا أباه للإيمان فأبى وامتنع، ثم دعا قومه وتنكّروا لدعوته وسخروا من رسالته، ولكنه كان رحيمًا رفيقًا وبرًا تقيًا، فلم تعطه نفسه أن يتركهم في ضلالهم يعمهون دون دعوة وإرشاد ونصح وتوجيه إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، فعزم عليه السلام أن يمحو ويزيل عنهم تلك العقائد الباطلة، ويردهم إلى رشدهم وصوابهم ولو ناله ولحقه منهم من الأذى الشيء الكثير أو تعرضت حياته للخطر الجسيم.
ولقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذكيًا صائب الرأي، وقد علم أن الحجة والبرهان اللَّفظِيَيْن وإن وضحا وضوح الشمس لا ينبتان نباتًا حسنًا في تلك الأرض الجرز في العقول والقلوب المقفلة ما لم تقترن الحجة والبرهان بالحس والبصر فلن تؤتي أكلها، لذلك عزم على أن يشرك أبصار القوم مع بصائرهم ويقرن حواسهم مع أفئدتهم؛ لعلهم يرجعون عن غيهم، لعلهم يدركون بأنفسهم تفاهة ما هم عليه من عبادة حجارة لا تنفع ولا تضر ولا تشفع ولا تسمع ولا تغني عن عابديها شيئًا.
كان لقوم إبراهيم عليه السلام يوم عيد كبير يخرجون فيه خارج المدينة، ولما اقترب وقت ذلك العيد قال له أبوه: يا بني، لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا، ولكنه تظاهر بالسقم والمرض ولم يصحبهم، وقد عزم من قبل وأسمع بعض القوم عزمه على تحطيم آلهتهم وتكسيرها، وتظاهره بالسقم والمرض لم يكن للمرض الجسدي المتعارف عليه وإنما لتعبه النفسي والقلبي من عبادتهم من تلك الأصنام، وفعل ذلك وقاله لِيَخْلُوَ له الجوُّ لِينَفِّذَ ما أراد للأصنام، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل: قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا)) ، وقال: ((بينما هو وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة قال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخِذَ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرّك، فدعت الله فأُطْلِق، ثم تناولها الثانية فأُخِذَ مثلها أو أشدّ، فقال: ادعي الله لي فلا أضرك، فدعت وأطلق، فدعا بعض حَجَبَتِه فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان، فأَخْدَمَهَا هاجر، فأتت إلى إبراهيم وهو قائم يصلي فأومأ بيده: مَهْيَمْ؟ قالت: ردّ الله كيد الكافر ـ أو: الفاجر ـ في نحره وأخدم هاجر)) ، قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء، يعني العرب الذين ولدوا من نسلها ونسل إسماعيل عليه السلام، وماء السماء أي: ماء زمزم، والله أعلم.
وعندما ذهب القوم إلى عيدهم وخلا الجو لإبراهيم عليه السلام حطمها وكسرها بفأسه حتى جعلها جُذاذًا، أي: قطعًا صغيرة محطمة متناثرة هنا وهناك، وترك صنمًا لم يكسره ليقيم الحجة به عليهم وعلّق في عنقه الفأس الذي كان قد حطّم به تلك الأصنام، ورجع القوم من عيدهم وأسرعوا نحو المعبد كعادتهم ليركعوا ويسجدوا ويقدموا فروض الولاء والطاعة والطقوس الجاهلية المعتادة لأصنامهم، ولكنهم ذُهلوا وبُهتوا من هول ما رأوا، لقد رأوا آلهتهم ركامًا وهشيمًا متناثرًا في أطراف المعبد، يعلوها الذلُّ والصغار والهوان، وصاحوا بصوت واحد: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 59]، وسكت الجميع وقتًا يسيرًا وهم في غمرة الذهول والخشوع والتساؤلات التي تدور في أفئدتهم وعقولهم بشأن هذه الآلهة المحطمة، ومن حطمها وتجرأ على ذلك؟! وهل ذلك أمر معقول أن الآلهة لم تستطع عمل شيء حتى الدفاع عن أنفسها؟! ثم انطلق صوت بعضهم عندما تذكروا توعُّدَ إبراهيم عليه السلام لأصنامهم بقوله: وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: 57]، واستقر في نفوسهم بأن إبراهيم هو المحطم إذًا للأصنام، وعزموا على أن يوقعوا عليه وبه أشدّ العذاب ويجعلوه عبرة لمن يعتبر جزاءَ ما صنعت يداه، وقالوا: لا بد أن يؤتى به على أعين الناس ليشهدوا مقالته واعترافه، فإن كان هو الذي فعل فسوف يلقى أشدّ العذاب، قال الله تعالى عما ورد على ألسنتهم: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء: 61].
ويجدر بنا أن نتدبر من خلال الآيات عظمة الإعجاز في القرآن الكريم وأسلوب الاختصار وعموم الألفاظ وشمولية الاستدلال واحتواء المعاني الكثيرة في أوجز الكلمات والعبارات والألفاظ، ولنتدبر الانتقال من موقف إلى موقف ومن قصة إلى أخرى وحادثة إلى غيرها وإن كان بينهما زمن طويل، ولكنها تأتي الآيات القرآنية بها كأنها متعاقبة ومتتالية في الحال، وهذا سر عظيم يدل على تحدي الله عز وجل للجن والإنس جميعًا من أولهم إلى آخرهم حتى لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور أو سورة واحدة من مثله فلن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. قال الله تعالى: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء: 82]؛ لذلك نجد الانتقال الذي مثَّل هذه الحالات في كثير من آيات القرآن الكريم مِثْل مجيئهم لإبراهيم عليه السلام بعد أن رأوا مشهد آلهتهم المحطمة ومجادلته لهم، ثم بعد تقريرهم جميعًا وإجماعهم على إلقائه في النار وحرقه مع أنهم مكثوا مدة طويلة لجمع الحطب وبناء البنيان المرتفع القريب من الحطب وإشعال النار ومن ثم إلقاؤه في النار، وجاء أمر الله عز وجل بأن تكون النار بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، ولنتدبر هذا من خلال الآيتين الكريمتين المتتاليتين: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 68، 69].
ونعود إلى إرادة القوم بالإتيان بإبراهيم عليه السلام أمام الناس المجتمعين والذين يعيشون في ذلك البلد، ومما لا شك فيه أن اجتماعهم ذلك وبتلك الصفة في صعيد واحد أمنية كبيرة وعظيمة يتمناها إبراهيم عليه السلام ليبلِّغ دين الله عز وجل ويقيم الحجة على بطلان ما يعتقده القوم على مرأى ومسمع من الجميع، ولكي يريهم البرهان على فساد ما هم عليه عاكفون، وابتدأت المحاكمة على رؤوس الأشهاد وشخصت الأبصار وتفتحت الآذان واشرأبت الأعناق وتطاولت ووعت القلوب والأفئدة تلك المحاكمة وتَمَّ عَرْضُ الأسئلة، وكان أول سؤال قولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 62]، ولقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام داهية حكيمًا آتاه الله الحجة والرشد والبرهان، فسار بهم في الجدال إلى ناحية أخرى ليبلغ مقصده وهدفه ويبلغ رسالة ربه للناس مهما كانت النتائج، وجرّهم بطريقة الحكمة إلى جواب لم يقصدوه وليقعوا فيما يتنصلون عنه ويبتعدون عن الاعتراف به ليلزمهم الحجة لعلهم يرجعون إلى صوابهم، فقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء: 63]، وصفعهم بهذه الحجة الدامغة التي نَبَّهتهم من غفلتهم وأيقظتهم من رقدتهم وأوقعتهم في الاعتراف بالحق وبطلان ما هم عليه، وأقبل بعضهم على بعض كل يلوم صاحبه كما قال الله عنهم: فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ [الأنبياء: 64]، وأصبحوا في حيرة من أمرهم وعقدت ألسنتهم وتنكست رؤوسهم وقالوا له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء: 65]، أي: أن تلك الأصنام لا ترد على سؤال ولا تسمع كلامًا فكيف تأمرنا بسؤالها فهي حجارة صماء جامدة عاجزة قاصرة عن معرفة ما يجري حولها مجردة من القدرة على دفع العدوان عليها؟! حينئذٍ ظهرت حجة إبراهيم عليه السلام واضحةً جلية، وأُتِيحَتْ له الفرصة لإلزامهم المنطق السوي السليم، ووبَّخهم على تمسكهم بباطلهم بعد أن اتضح الحق وسطع كالشمس في رابعة النهار، قال تعالى فيما ورد على لسان إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء: 66-70].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحليم، الملك البر الرؤوف الرحيم، القائل للشيء: كن فيكون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فلما غُلب القوم على أمرهم وخافوا من افتضاح حالهم وعجزهم عن مقابلة الحق واندحارهم أمام الحجة والبرهان ولم تبق لهم حجة أو شُبَهٌ يكابرون ويعاندون بها عندما أصابهم العجز عمدوا إلى القوة يسترون بها هزيمتهم ويخفون معها باطلهم، وهذه سنة فيمن تكون حاله كحالهم مع الرسل والأنبياء والدعاة والمصلحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الله لهم بالمرصاد في العاجل والآجل في الدنيا والآخرة، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 14]، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127]، فعزموا على حرق إبراهيم عليه السلام في نار تتلظى مقابل الحقد والغل الذي يتأجج في صدورهم من جراء تحطيمه لآلهتهم، فشرعوا يجمعون الحطب من هنا وهناك، وجعلوا ذلك التجميع قربانًا لآلهتهم برًا بها وتقربًا إليها كما يزعمون، حتى إن المرأة المريضة تنذر إن عوفيت لتحملن وتجمعن حطبًا لحريق إبراهيم، ومكثوا مدة يجمعون الحطب، وأشعلوا النار واضطرمت وعلا لهيبها وسطع ضوؤها ورموه في النار بواسطة المنجنيق أو البنيان المرتفع الذي بنوه قريبًا منها كما ورد في آية أخرى من آيات القرآن الكريم، قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97]، والآية وإن كانت نصًا صريحًا في إثبات البنيان إلا أن التفصيل لم يرد في السنة المطهرة، وسواء كان ذلك البنيان للحطب لتجتمع قوة النار ولهيبها وجحيمها ولتمكث زمنًا طويلاً للتأكد من حرق إبراهيم حتى إن الطير التي تمر في الهواء لتحترق من شدة حرارتها، أو كان ذلك البنيان المرتفع لإلقاء إبراهيم في النار، فالمهمُّ أنه أُلقي في تلك النار سواء بواسطة المنجنيق أو البنيان.
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (بنوا حائطًا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وملؤوه نارًا وطرحوه فيها)، لكن الله عز وجل اللطيف الخبير القائل للشيء: كن فيكون جعلها بردًا وسلامًا على إبراهيم وأبطل مفعولها من حيث الحرارة والتحريق، وَرَدَّ كيد الكافرين في نحورهم، وجعل ذلك من الآيات العظيمة الدالة على وحدانيته تبارك وتعالى لو أن القوم يعقلون ويعتبرون ويتعظون، ولكن أنى لهم ذلك؟! قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 24، 25]، وقال تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 68، 69].
روى البخاري رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل... الحديث. وقال رضي الله عنهما: (لولا أن الله عز وجل قال: وَسَلاَمًا لآذى إبراهيمَ بردُها). قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردًا يرفع حرها وحرًا يرفع بردها، فصارت سلامًا عليه، قال أبو العالية: "ولو لم يقل: وَسَلامًا لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل: عَلَى إِبْرَاهِيمَ لكان بردها باقيًا على الأبد"، وورد أن مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلتُ على عائشة رضي الله عنها فرأيت في بيتها رمحًا، فقلت: يا أم المؤمنين، ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت: نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله قال: ((إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفيء النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم)) ، فأمرنا رسول الله بقتله. ويستفاد من هذا الحديث أن البنيان لم يكن من جميع الجهات، وأنه بُني لإقحام إبراهيم في النار، والله أعلم.
ومن شدة توكل إبراهيم عليه السلام على الله رب العالمين ومن قوة إيمانه وتوحيده لله أنه في تلك الحالة الحرجة واللحظات والثواني القليلة عن إلقائه في النار يعرض عليه جبريل عليه السلام مساعدته كما ورد في الحديث يقول له جبريل: هل لك إليّ حاجة؟ ويقول إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فبلى، أي: نعم لي حاجة في كلّ لحظة ومع كل نفس من أنفاسي. إنه الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع كالجبال الصم الشوامخ.
ولنستمع إلى هذه الآيات في سورة الأنبياء، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء: 51-73].
(1/5471)
دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام (4)
سيرة وتاريخ
القصص
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
6/6/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هجرة إبراهيم وزوجه سارة إلى أرض مصر. 2- نجاة سارة من كبير ملك مصر. 3- انتهاك الأعراض من أسلحة الطغاة. 4- زواج إبراهيم من هاجر وإسكانها وابنها في وادي مكة. 5- قصة هاجر وابنها إسماعيل في مكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإن مواصلة الحديث مع أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام متعة وفائدة عظمى لاستخراج الدروس والعظات والعبر، سواء ذكرت صريحة أو استنبطها كلّ شخص بنفسه، فهي واضحة جلية لكل من كان له عقل، فضلاً عن ذوي الفراسة من أهل الصدق والإيمان.
لقد ذكر الله عز وجل نجاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مكر الماكرين الكفرة المعاندين من قومه ومما خططوا له وصنعوا من المكر والكيد العظيم، لقد هاجر عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ومعه زوجته سارة ووالده ومعه أيضًا ابن عمه لوط عليه الصلاة والسلام، هاجروا من بابل إلى بلاد المقدس الأرض المباركة التي ذكر الله عنها ذلك في القرآن الكريم ومكثوا مدة بأرض فلسطين، وعندما عمّها القحط والجدب رحل إبراهيم عليه السلام ومعه زوجته سارة إلى أرض مصر وذلك بعد وفاة والده، وكانت سارة ذات جمال باهر كما ورد ذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله، وكان جمالها هو السبب في محاولة اعتداء الطاغية الجبار عليها، وكان هو السبب أيضًا بأن وهبها وأخدمها هاجر لتخدمها حيث قال بأن هذه لا تصلح أن تخدم نفسها بعد أن عصمها الله منه، وجاء في صحيح مسلم في حديث الإسراء الطويل من رواية ثابت بن أنس في ذكر يوسف بأنه أُعطي شَطْر الْحُسْن، وزاد أبو يعلي من هذا الوجه: أُعطي يوسف وأُمّه شطر الحسن، يعني سارة، وكما في الحديث الصحيح الذي أثبت ذلك في موقفها معه من حيث جمالها، فوشى وسعى بخبرها أحد بطانة السوء عند الملك الجبار في زمانه، وقد كان ذلك الطاغية لا يسمع برجل عنده امرأة جميلة إلا أخذها منه اغتصابًا، وهكذا يفعل الطغاة في كل زمان، ويسعى أذنابهم من بطانة السوء يتملَّقون ويتزلَّفون بأعراض الناس إلى أهل الكفر والطغيان والفسق والانحلال؛ ليصلوا هم إلى ما يريدون من أولئك الطغاة، وفي كثير من الأحيان يعتدون هم على أعراض أولئك الطغاة، وكما تدين تُدان.
ومن أشدّ المصائب التي تنزل بالرجال الغيورين على اختلاف مللهم ونحلهم وبالمؤمنين خاصة هو انتهاك أعراض نسائهم، سواء كن زوجات أو بنات أو أمهات أو أخوات أو غير ذلك، وبهذه الطريقة البشعة المنتنة العفنة التي سوف يجد الظلمة أليم عقابها في الدنيا والآخرة نجدهم يستخدمونها سلاحًا فتاكًا لضرب المسلمين في أعزِّ شيء عليهم بعد إسلامهم، في أعراضهم وشرف نسائهم، وما يسمع عنه العالم اليوم من اغتصاب للنساء المسلمات على مرأى ومسمع من أقاربهن، ويقع ذلك على سمع الناس أجمعين وقد يكون على مرأى منهم إنما هو صورة طبق الأصل لما يمارسه الظلمة والطغاة ضد المسلمين في كل زمان، وهذا ما تتناوله وسائل الإعلام بين حين وآخر، وذلك شيء يندى له الجبين، عشرات الآلاف من النساء المسلمات في هذه الأعوام القليلة القريبة اغتصبن واعْتُدِي على أعراضهن بكل وحشية وحيوانية متناهية، وآخر خبر ذُكر في إحدى الصحف المحلية قبل يوم واحد فقط هو ما وقع لنساء عدة في الصومال، ومنهن امرأة اغتصبت وانتهك عرضها أمام أولادها الخمسة، وفي البوسنة انتهك عرض عروسة أمام زوجها العريس واقْتُلِعَتْ عيناه بعد ذلك لكيلا يرى الدنيا وما يدور فيها بعينيه.
لقد ماتت عواطف المسلمين وتبلَّدت أحاسيسهم وكأَنَّ شيئًا لا يعنيهم من بعيد أو قريب، لقد وصل وضع المسلمين في حال لا يُحمدون عليها في هذا الشأن وغيره بين الأمم، وإلا فأين الاهتمام بأمور المسلمين؟! أين الغيرة على أعراض المسلمات في كل مكان؟! أين نخوة المعتصم عندما سيّر جيشًا لنصرة ونَجْدَةِ امرأة قالت: وا معتصماه؟! ما بالنا لو أن يهودية أو نصرانية أو أي امرأة أخرى من ملل الكفر اغتصبت وانتهك عرضها فماذا يكون موقف دول الكفر والطغيان ومنظمات حقوق الإنسان؟! إنه غثاء السيل والوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت الذي أخبر عنه رسولنا محمد في قلوب المسلمين، والواقع في هذه الأيام في آخر الزمان، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بتلك الأساليب الوحشية البشعة من قديم الزمان تُستخدم أعراضُ نساءِ المسلمين ليصل الأعداء إلى ما يريدون، ولكن الله لهم بالمرصاد. لقد صان الله سارة من اعتداء الجبار الطاغية إكرامًا لها وللخليل إبراهيم عليه السلام، ولتكون آية للناس هي وهاجر أم إسماعيل، لقد شلَّ الله يد الطاغية وأيبسها حتى لا يستطيع حراكها واعترف بقدرة الله عز وجل وطلب منها أن تدعو الله له ليطلق يده مرتين أو ثلاثًا، وبذلك ثبت الخبر عن سيد البشر في الحديث الصحيح الذي رواه الإمامان الجليلان والذي سبق ذكره في الخطبة السابقة، ولا بأس بإعادته حيث قال رسولنا محمد عن إبراهيم عليه السلام: ((بينا هو وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة وقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنه فقال: من هذه؟ فقال: أختي، فأتى سارة قال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فَأُخِذَ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فَأُطْلِقَ، ثم تناولها ثانية فأخذ مثلها أو أشدّ، فقال: ادعي الله لي فلا أضرك، فدعت فَأُطْلِقَ، فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتم لي بشيطان، فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي ـ أي: إبراهيم ـ فأومأ بيده: مَهْيَمْ؟ ـ أي: ما الخبر؟ ـ قالت: رد الله كيد الكافر ـ أو: الفاجر ـ في نحره وأخدم هاجر)) ، قال أبو هريرة رضي الله عنه: تلك أمكم يا بني ماء السماء، يعني العرب الذين ولدوا من نسلها ونسل إسماعيل، وماء السماء أي: ماء زمزم والله أعلم.
وعاد إبراهيم عليه السلام من أرض مصر إلى أرض فلسطين ومعه زوجتُه سارةُ وأَمَتُهَا هَاجَرُ التي أخدمها إياها الطاغية، وكانت سارة عقيمًا لا تلد، وكان يحزنها أن ترى زوجها وحيدًا ليس له ولد، فقد أصبحت هي على حال لا يُرجى أن تأتي بعده بمولود؛ لأنها قد تجاوزت سن السبعين وبلغت من الكبر عتيًا، ولم تعلم بأن الله سوف يجعلها آية لحملها على الكبر بعد ذلك بسنين أخرى بإسحاق عليه السلام، فما كان منها إلا أن أشارت على إبراهيم بأن يدخل بأمتها هاجر بعد أن وهبتها له؛ لعل الله يرزقه منها غلامًا زكيًا تشرق به حياته ويكون عونًا لأبيه على تحمّل مشاقِّ الحياة، فاستجاب إبراهيم عليه السلام لرأيها وتزوّج هاجر وأنجبت له غلامًا زكيًا هو إسماعيل عليه السلام الذي كان من نسله خاتم النبيين وسيد المرسلين رسولنا محمّد ، وشاركت سارة زوجها وضرّتها في الفرح والسرور بإسماعيل، ولكن الغيرة الموجودة في النساء لم تلبث أن دبَّت إلى قلبها وتسلَّلَت إلى فؤادها وعصفت بها أعاصير كثيرة من الحزن والألم، وحُرِمَت الهدوء والهجوع، وأصبحت لا تطيق النظر إلى الغلام ولا تحتمل رؤية هاجر، وهذا شأن معظم النساء مع جاراتهن اللائي يشاركنهنّ الحياة مع الأزواج، ولا غرابة في ذلك الطبع وتلك السجية فهي فطرة موجودة فيهن من قديم الزمان ومرورًا بأزواج الرسول وانتهاءً بنساء زماننا ومن بعدنا إلى أن تقوم الساعة.
ولكن الغريب هو مكر النساء اللاتي تغلّبن بها وفيها على الشيطان، والشيطان كيده ضعيف، أما النساء فكيدهنّ ومكرهن عظيم، وذلك بنص القرآن الكريم، قال تعالى عن كيد الشيطان: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76]، أما عن النساء فذكر الله عز وجل عنهنّ في قوله عز شأنه: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28]. ولنا مع هذا الموضوع إن شاء الله وقفة عند الحديث عن الزوجات.
أعود للقول بأن سارة لم تعد تحتمل رؤية هاجر وابنها الرضيع إسماعيل، ولم تجد دواء لقلبها إلا أن تطلب من أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام أن يقصيها ويبعدها هي وابنها عن دارها ويبعدهما عن عينيها، فاستجاب إبراهيم لطلبها لحكمة يريدها الله ويعلمها، فأخذهما إبراهيم عليه السلام وسار بهما يقطع الصحاري والقفار والمفازات الطويلة من أرض فلسطين إلى جبال مكة الجرداء في حينها، ذلك البلد الذي لم يكن به ساكن ولا أنيس من البشر، فتركهما قرب زمزم ومعهما جِرَابٌ فيه تمرٌ وسِقَاءٌ فيه ماءٌ، ولحقته أم إسماعيل وهي تقول: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت.
إنه الإيمان والعقيدة الراسخة والثقة والتوكل على الله رب العالمين، الإيمان الذي يصنع الأعاجيب ويأتي بالغرائب التي لا تكاد تُصدق، فكيف تطمئن نفس إبراهيم عليه السلام إلى أن يترك ابنه الرضيع مع أمه في مكان موحش قَفْر ليس به ساكن ولا أنيس؟! وكيف رضيت هاجر أن تبقى وحيدة فريدة في بقعة جرداء ليس فيها طعام ولا ماء ولا مسكن ولا أيُّ بَشَرٍ يمشون على وجه الأرض بجوارها؟! وكيف تصبر على التعرض للجوع القاتل والعطش المميت والذئاب الموحشة الضارية خاصة عندما يسدل الليل أستاره من الظلام الدامس؟! إنه الإيمان الذي غمر قلبيهما ـ أي: إبراهيم وهاجر ـ وأضفى عليهما الأُنس والراحة والثقة بوعد الله عز وجل حتى ضَحَّيَا براحتهما وبحظوظ نفسيهما في سبيل تنفيذ أمر الله تبارك وتعالى. ولما ابتعد إبراهيم عليه السلام عن زوجته وابنه التفت إلى جهة البيت ووقف يدعو بهذه الدعوات: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله.
أما بعد: فروى البخاري رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((يرحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكان زمزم عينًا معينًا)). وروى البخاري أيضًا عن سعيد بن جُبَيْر رحمه الله: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماءٌ فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمرٌ وسقاءً فيه ماء، فَقَفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلَوَّى ـ أو قال: يتلَبَّط ـ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تَرَ أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا، فلم تَرَ أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، ـ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي : ((فذلك سَعْي الناس بينهما)) ـ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صَهٍ ـ تريد نفسها ـ، ثم تسمعت أيضًا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعَقِبِهِ ـ أو قال: بجناحه ـ حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء بسقائها وهو يفور بعدما تغرف، ـ قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي : ((يرحم الله أم إسماعيل؛ لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عينًا معينًا)) ، قال: ـ فشربت وأرضعت ولدها، وقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول وتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك ـ أي: هاجر ـ حتى مرت بهم رفقة من جُرْهم ـ أو: أهل بيت من جرهم ـ مقبلين من طريق كداء، ونزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، عهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروا بالماء، فأقبلوا قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حقّ لكم في الماء، قالوا: نعم، ـ قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي : ((فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأُنْسَ)) ـ، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجُوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جَهْد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غيّر عتبة بابك، قال: ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، اِلحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، ـ قال النبي : ((فلم يكن يومئذٍ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه)) ـ قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا ولم يوافقاه ـ أي: أن الإنسان في غير مكة إذا لم يأكل سوى اللحم والماء فإنه يشتكي الألم في بطنه كما في حديث أبي جهل ـ، قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام، ومُرِيه يثبّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة ـ وأثنت عليه ـ فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبِّت عتبة بابك، قال: ذلك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]).
ولا يزال هذا الحجر معلمًا بارزًا وآية واضحة دالة على موضع قدمي إبراهيم عليه السلام، وقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى بأن نصلي خلف ذلك المقام إذا أمكن من غير مزاحمة اتباعًا لسنة نبينا محمد بعد الطواف، فقال عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125].
(1/5472)
دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام (5)
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, القصص
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
13/6/1414
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أنواع الابتلاءات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام. 2- ابتلاء الله تعالى إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل. 3- قصة الفداء العظيم. 4- الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد عقد البخاري رحمه الله بابًا حول هذه الآية: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا [مريم: 54]، وأورد أدلة وأحاديث عدة متعلقة بإسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، والجمهور على أنه هو المقصود في الآية الكريمة السابقة الذكر، قال رسول الله : ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا)) الحديث. ففي هذه العبارة من الحديث فوائد عدة، منها: أن قريشًا من ذرية إسماعيل، وإثبات الرمي لإسماعيل عليه السلام، وهذا يثبت قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما أتى مرتين وكذلك الثالثة فكان إسماعيل في الصيد في المرتين وفي الثالثة يبري نبلاً له تحت دوحة قرب زمزم.
وكما سبق القول فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابتلي بأنواع الابتلاء والامتحان وصبر صبرًا عظيمًا، وخرج من كل امتحان راسخ الإيمان ثابتًا ثبات الجبال الرواسي لم يتزعزع ولم يضطرب، وإن كان قد ابتلي في نفسه وزوجته عندما حاول الطاغية الاعتداء عليها واغتصابها، وقام عليه الصلاة والسلام يصلي ويدعو الله تعالى وجاءته وهو قائم يصلي بعد أن نجاها الله عز وجل، ومحنته في نفسه عندما أوقدوا له النار العظيمة وألقوه فيها، وهذه وغيرها لا شك أنها من المحن الأليمة، ولكن الابتلاء والامتحان الذي كان أشد مما سبق حين أمر بذبح ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ولكنه مع هذا كان مثالاً للعبودية والطاعة والإذعان لأوامر الله دون تردد، لذلك كان قدوة للأنبياء والرسل، بل كان أمة بمفرده، ولا عجب فيمن اتخذه الله خليلاً وأثنى عليه سبحانه وتعالى في عدة آيات من القرآن الكريم، قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125]، وقال عز شأنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120]، وقد أثنى الله عليه وعلى ملته وعقيدته الحقة في آيات عدة من القرآن الكريم، قال تعالى لرسولنا محمد ليقول لقومه وللناس جميعًا: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 161]، وقال عز وجل: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ [البقرة: 130]، وقال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123]، وقال جل جلاله: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135]، وقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 67].
وكما سبق الكلام بأن إبراهيم عليه السلام لم يُرزق بابنه إسماعيل إلا بعد أن كبر في السن وذلك من هاجر، ثم رزقه الله من سارة أيضًا على الكبر إسحاق عليهم الصلاة والسلام جميعًا. وليتصور كلٌّ منا لو لم يرزق من الأولاد بنين أو بنات إلا بواحد على الكبر وفي آخر حياته وامتحن وابتلي في ذلك المولود بشيء يسير ماذا تكون حال الواحد منا المبتلى؟! فما بالنا لو كان الابتلاء والامتحان أعظم؟! إنه لا يعرف نعمة هبة الأولاد للإنسان إلا من حُرمها، مع أنهم فتنة لا شك في ذلك، ومنهم العدو أيضًا، ولكن الحرمان طوال الحياة من فتنتهم تجعل الإنسان يعيش حياة غير مستقرة إلا ما شاء الله، قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46]، وقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 14، 15].
لقد رأى إبراهيم عليه السلام في منامه رؤيا، ورؤيا الأنبياء حق كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله ، وذكر الله عز وجل في القرآن الكريم قصة تلك الرؤيا وتنفيذها وما قبلها وما بعدها في آيات مختصرة تهز النفس البشرية وتوقظ الحس الغافل وتنبه الإحساس المرهف عند ذوي اليقظة والإدراك، رأى إبراهيم عليه السلام أن الله تعالى أمره بذبح ابنه البكر إسماعيل عليه السلام الذي كان قد رُزِقه على كبر وشيخوخة، فلما بلغ مبلغ الرجال وجاءت فائدته في السعي والخدمة على والديه إذا بالوحي الإلهي يأتيه في المنام بذبح إسماعيل، فهل تردَّدَ أوْ تلَكَّأَ إبراهيم عليه السلام وقال: تلك رؤيا، أو حاول أن يتأول تلك الرؤيا أو ينتظر أو يتنصل؟ لم يحصل شيء من ذلك في نفس أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولا في تصرفاته، إنما كان موقفه الإذعان والتسليم لله رب العالمين والتنفيذ لما أُمر به وإن كان في المنام، ولكنه أراد عليه الصلاة والسلام أن يختبر ابنه ليرى استجابته وطاعته لله عز وجل فقال له: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات: 102]، عرض عليه ذلك الأمر ليكون أطيب لقلبه وأهون وقعًا على نفسه فيما لو أخذه بالقوة والشدة دون رغبة وانقياد واستسلام لقضاء الله وقدره، ولكنه الذرية والنبات الحسن، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران: 34].
بادر الغلام الحليم مسرعًا واستجاب استجابة أثلج بها صدر والده وأرضى بها ربه واستسلم لقضاء الله وقدره، وأنقذه الله جزاء استجابته واستسلامه، وفداه بذبح عظيم، ونجاه الله من ذلك الكرب العظيم الذي وقع على نفسه ونفس والده. وكان رده على أبيه حين أخبره عن الرؤيا قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102]، برٌّ عظيم، وتوفيقٌ من الله كبير، وإيمان يزعزع الجبال من الوالد وولده تظهر فيه العبودية لله رب العالمين، العبودية الحقة في أكمل صورها من الأب وابنه، الأب يُؤمر في المنام فيسارع إلى تنفيذ أمر الله، والابن يُستشار فيلبي طلب والده طائعًا مستسلمًا لحكم الله وكأنَّ الأمر جرعة ماء لا غير. أراد الولد أن يخفف عن أبيه لوعة وشدة وقع الأمر وحنان الأبوة فأرشده إلى أقرب السبل وأيسر الطرق ليصل إلى قصده، فقال: يا أبت اجعل لي وثاقًا، وأَحْكِم رباطي لكيلا أضطرب، وألقني على وجهي وبطني، وحُدّ شفرتك وأَسْرِعْ إِمْرَارَها على حلقي ليكون أهون علي، فإن الموت شديد، ووقعه أليم.
ونفَّذ إبراهيم وصية ابنه وفلذة كبده ووحيده في لحظته، ولما كبّه على وجهه وأَمَرَّ السكين على رقبته ليذبحه من قفاه لم تقطع السكين شيئًا، بل انقلبت في يده وكأنها قطعة من خشب، وجاء نداء رب العالمين بفداء إسماعيل بالذبح العظيم من الجنة، وانقلب الحزن إلى سرور أَبَدِيٍّ، ونجاة من العذاب الأليم وفوز بجنات النعيم ورضوان من الله أكبر، ذلك الفوز العظيم. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 107] قال: (خرج عليه كبش من الجنة قد رعى قبل ذلك أربعين خريفًا، فأرسل ـ أي: أطلق ـ إبراهيم عليه الصلاة السلام ابنه، واتبع الكبش بعد أن ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، وعرض له الشيطان فأخرجه إلى الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته عندها، فجاء إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته، وأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات، فأخرجه عندها ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه، فوالذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى وَحِشَ) يعني يَبِسَ.
إن رمي الجمرات والنحر أيام التشريق سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وهي من ملته الحنيفية التي أُمِرَ الرسول باتباعه فيها، وأُمرنا كذلك بها في إسلامنا.
قال تعالى مخبرًا عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 99-113].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الملك البر الرؤوف الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فإن عداوة اليهود والنصارى متأصلة في نفوسهم ومستديمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولن يرضوا عن المسلمين إلا بإخراجهم عن ملة الإسلام واتباع ملة اليهود والنصارى، وذلك حسدًا من عند أنفسهم كما أثبت ذلك رب العزة والجلال في آيات عدة من القرآن الكريم، وثبت أيضًا عن رسول الله في الأحاديث التي نطق بها عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، وقال عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة: 109].
وحول الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق يدّعي اليهود أنه إسحاق مع علمهم بالحقيقة بأن إسحاق والد يعقوب الذي هو إسرائيل وينتسب اليهود إليه، وبالمناسبة فالتسمية الصحيحة لبني إسرائيل كما ذُكر في القرآن الكريم وفي سنة الرسول هي اليهود أو بنو إسرائيل وليس كما نسمع مما درج على الألسنة عندما يذكرون الصهاينة اليهود في فلسطين يقولون عنهم: إسرائيل، فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وأيضًا التسمية الصحيحة للنصارى أتباع عيسى عليه السلام النصارى، وليس كما يسميهم الناس بالمسيحيين، بل هم النصارى، تلك هي التسمية الحقيقية لليهود والنصارى، كما هو الحال في المسلمين لا أحد يقول: محمّديون، فالنسبة والتسمية هنا للدين لا للأشخاص.
أعود للقول بأن اليهود كما حرفوا التوراة يريدون تحريف القرآن الكريم مع وضوحه التام وحفظ الله عز وجل له من أي تحريف، فهم قوم بُهْت وافتراء، لا يقرّون بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وإن كان الذبيح أيّ واحد من الاثنين سواء إسماعيل أو إسحاق فكلاهما كان طيبًا طاهرًا مطيعًا لله عز وجل، وإسحاق عليه السلام لم يولد لسارة إلا بعد ثلاث عشرة سنة تقريبًا من ولادة إسماعيل، ثم إن إسماعيل هو الذي كان بمكة وإسحاق في فلسطين، والحادثة كانت في مكة المكرمة، ثم إن الله سبحانه وتعالى ذكر البشارة بهذا الغلام ولما بلغ معه السعي رأى في المنام أنه يذبحه وذكر قصته حتى النهاية فبعدها بشره الله عز وجل بنص القرآن الكريم الذي لا شك فيه بإسحاق وذكر إسماعيل ضِمْنًا وذرية الاثنين أيضًا، وهذا دليل واضح لا غموض فيه، قال تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 112، 113]، والضمير عائد على إسماعيل في قوله تعالى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ ، ويعود أيضًا على إسماعيل وإسحاق في قوله عز وجل: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا ، ولأن هذه الآية جاءت خاتمة للآيات التي تتحدث عن إسماعيل الذبيح، ومن أحسن ما استدل به على أنه إسماعيل وليس إسحاق قول الله تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [هود: 71]، فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ثم يؤمر بذبح إسحاق قبل أن يولد له؟! فهذا لا يكون لأنه يناقض البشارة المتقدمة في الآية.
روى ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديًا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، وسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك، قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أيّ ابنيْ إبراهيم أُمِرَ بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، إن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم ـ معشر العرب ـ على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه بصبره لما أُمِرَ به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم.
وكما هو معلوم أن الموافقة حصلت بمكة، فمعلوم أيضًا لدى المسلمين بأن إسماعيل عليه السلام هو الذي ساعد أباه إبراهيم عليه السلام في بناء الكعبة المشرّفة، وذلك بنص القرآن الكريم وصحيح حديث رسول الله كما ورد بأن إسماعيل كان يناول أباه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام الحجارة وجعلا يدوران حول البيت ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]، ونصُّ الآية الكريمة قول الله عز وجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]، والآية التي قبل هذه بآية: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125]. والملائكة لما بشرت سارة بإسحاق وهي عجوز إنما كان ذلك عندما مروا وذهبوا إلى لوط وأهلكوا قومه، وكان ذلك بعد زمن من ولادة إسماعيل من هاجر. والأدلة كثيرة متعددة، وأوردت بعضها باختصار للعلم الذي يجب إظهاره وعدم كتمانه، ومن ابتغى المزيد فعليه بالرجوع إلى أمهات الكتب بعد فهم كتاب الله عز وجل وما ورد فيه وفي صحيح سنة رسول الله.
(1/5473)
قوم لوط عليه الصلاة والسلام (1)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الإيمان بالرسل, الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
7/7/1415
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة اليهود وأذنابهم لإباحة الشذوذ. 2- لوط عليه السلام لم يكن من أهل تلك القرية الظالمة. 3- انتشار الإيدز بسبب الشذوذ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً بسابقه عن اللوطية والشذوذ الجنسي وأصحابه، وعن جاهلية أولئك القوم الذين لم يسبقهم أحد إلى ارتكاب تلك الفاحشة المستقذرة، وعن جاهلية هذا العصر ووحشيته ودعاة الضلالة من دول الكفر والإلحاد الذين ينادون بحرية ممارسة تلك القذارات ويعقدون لها المؤتمرات ويوقِّعون على الوثائق والمعاهدات، محاربين بذلك رب الأرضين والسماوات، معلنين ومجاهرين ومعاندين ومبتعدين عن ملة الإسلام والأصل الصحيح للديانات.
وليس ذلك الفعل والإقرار والإصرار بغريب على إخوان القردة والخنازير وعلى المنحطين السافلين من ملل الكفر والإلحاد، ولكن الغريب في الأمر ممن يدَّعي انتسابًا للإسلام ويسير في ركب أولئك القوم معرضًا وضاربًا بآيات القرآن وأحاديث سيد الأنام عرض الحائط، إنه لأمر محزن ومؤسف أن يمشي المسلمون وينقادوا بكل سهولة ويَجْرُوا خلف كل ناعق، وتصل بهم الاستهانة بدينهم إلى حد يرثى له من السذاجة وسوء التفكير والبعد عن حقيقة الإسلام ونصاعته ونضارته، ولكنها الذنوب والمعاصي التي غطت على القلوب وأعمت البصائر حتى أصبحت قلوبًا غلفًا علاها الران وكساها الذل والهوان، قال تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]، وقال عز وجل: فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لأبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج: 46].
وقد أخبر رسولنا محمد عن انتشار الجهل في الوقت الذي تنتشر فيه الكتابة المعبر عنها بفُشُوِّ القلم وبقَبْضِ العلم بموت العلماء، والمقصود بذلك العلم الشرعي وانتشار الجهل به بين أهله، أما علوم الدنيا فقد أثبتها الله ورسوله في عدد من الآيات والأحاديث وأنها سوف تنتشر وتُكتشف على أيدي أولئك الكفرة لتستبين سبيل المجرمين وليعلموا حقيقة هذا الدين الإسلامي العظيم ويتبينوا صدق الرسالة المحمدية وأن هذا القرآن العظيم من لدن أحكم الحاكمين سبحانه وبحمده كما قال عز وجل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]. وأما عن الجهل وقلة العلم وانتشار الكتابة فقد وردت أحاديث متعددة عن رسول الله ، منها قوله : ((من أشراط الساعة أن يُرفَعَ العلم ويَثْبُتَ الجهل)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل ويرفع العلم)) ، وفي الأحاديث الأخرى الصحيحة الإسناد وردت أحاديث متضمنة: ((إن بين يدي الساعة ظهور القلم)) ، وفي رواية: ((ويظهر العلم)).
ويتبين الجمع بين هذه الأحاديث بأشياء لا داعي للاستطراد فيها، ولكن ظهور وسائل العلم والتعلم والكتب وآلات الاتصال الحديثة للطباعة والتصوير والترجمة وشبكة المعلومات الشبكة العنكبوتية المسماة بالإنترنت المنتشرة في جميع أقطار الأرض والتي سهلت انتشار العلم وسرعة الاتصال وتوفير الجهد والوقت والمال واكتساب المعلومات بأيسر السبل وأقصر الطرق، وكل يوم يُطْلِعُهُمُ الله عز وجل على جديد من العلوم وشتى أنواع المعرفة، ويكون ذلك على أيدي الكفار كما أخبر بذلك عز وجل، وما هذا العلم إلا قطرة من بحر عظيم، ويحسب الناس أنهم وصلوا إلى شيء، وما علم المساكين قدر أنفسهم وجهلهم بحقيقة أنفسهم مهما بلغوا من العلم.
وكما هو القول سابقًا ولاحقًا: ليس الاستغراب على إقدام الكفار على ذلك ومثله، ولكن الأمر المستغرب من المنتسبين للإسلام الذين يسمعون ويتلون كتاب ربهم ويقرؤون أحاديث رسولهم محمد أو كأنهم يقؤأون ولا يفقهون شيئًا، أَمَا قرؤوا قول الله عز وجل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85] ، وقوله عز وجل: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] ، وقوله سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس: 36] ، وقوله عز وجل بعد ذِكْر الفلك المشحون وخَلْقِها للبشر: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 42] ، وقوله عز وجل: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21]. فبعد هذا وذاك أَلا يعرف الإنسان قدر نفسه؟! أَوَلا يقف وقفة تأَمُّلٍ وتَدَبُّرٍ؟! أَولا يرى بعين بصيرته مع عين البصر؟! ألا يحاسب نفسه؟! ألا يشعر بصغر حجمه وقلة علمه وحقارته أمام عظمة الله؟! ألا يمشي في هذه الحياة وفق منهج الله لتستقيم له أمور دينه ودنياه؟! ألا يشعر بالذلة والمسكنة ويعترف بتعليم الله له حيث خلقه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا علمًا مهما كان حقيرًا، إنما علَّمه الذي يعلم السرَّ في السماوات والأرض لا إله إلا هو العزيز الحكيم؟!
وهذا التقديم وإن طال رأيت أن لا بُدَّ من التعريج عليه باعتباره مدخلاً لما سيأتي ووصْلاً لما سبق وإيضاحًا لما قد يخفى وإن لم يتم إشباع الموضوع وإعطاؤه حقه من البيان والتوضيح، خاصة عندما هالني ما قرأته وسمعته من جرأة الخائن العام لجميع الأمم الذي جمع في انتمائه ووفائه بين ملتي اليهود والنصارى، ويقود الناس إلى الهاوية بحكم مركزه عندما وقف مفتتحًا ومناديًا بالوقوف ضد زحف ذلك المرض، مرض نقص المناعة المسمى بالإيدز، مع أنه قبل ذلك بشهرين ناقض نفسه لدعوته تلك حيث قاد الأمم بكل سخافة ووقاحة وقام مناديًا بنشر وإباحة أسبابه والتوقيع على ذلك أي: بإباحة الزنا وانتشار الفاحشة واللواط الذي يُدْعى بالشذوذ الجنسي وحضور هذا النوع من البشر إلى ذلك المؤتمر لينادوا على حد زعمهم بالسماح لهم علنًا بممارسة الزواج من الجنس الثالث.
فأمام هذه المتناقضات التي نسمع عنها ونرى ونقرأ كان لزامًا على كل مسلم أن يكون على بيّنة من أمره في كل صغيرة وكبيرة يحيكها أعداء دين الإسلام، وعليه أن لاَّ يأخذ كل أموره بتلك البساطة والسهولة، بل يقف وقفة تأمل وتدبر وتعقل ورفض لكل ما يخالف تعاليم الإسلام دون أدنى تردد أو هوادة أو تراخٍ أو رضا بالدنية في الدين، وخاصة في هذا الزمن الذي كثر الدَّسُّ فيه للإسلام وأهله بشتى الطرق المخادعة التي توقع الكثيرين في حبائلها وشباكها، وتخضع قليلي الفقه في دينهم لينساقوا وينجرفوا إلى الهاوية التي يريدها منهم أعداء الإسلام والمسلمين المتربصون والمستغلون للفرص، وذلك ديدنهم وهو شأنهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وخاصة اليهود والنصارى الذين أكد الله عداوتهم لنا وعدم رضاهم عما نحن فيه من تمسك بالإسلام إلاَّ أن نخلع ربقة الإسلام ونسير في ركبهم عياذًا بالله من ذلك،كما قال تعالى: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120]. وكيف لا نتخذهم أعداء وقد حذرنا الله منهم ونهانا عن اتخاذهم أولياء وإلا كنا مثلهم ومنهم؟! قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة: 51]، وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الممتحنة: 9]، إِنَّكُمْ إِذًا مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمع عرض يسير للوط عليه الصلاة والسلام وقومه المرتكبين للفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين وإكمال بقية ما حصل لهم يكون في خطبة قادمة بإذن الله عز وجل.
أما لوط عليه الصلاة والسلام فهو أحد رسل الله، وهو ابن أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث إبراهيم هو عمّه، وقد آمن لوط بعمّه إبراهيم واهتدى بهديه وهاجر معه من العراق وتبعه في أسفاره كما قال تعالى: فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى? رَبّى إِنَّهُ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [العنكبوت: 26] ، أي: أن لوطًا صدق وآمن برسالة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
وأرسل الله عز وجل لوطًا إلى أهل سدوم بالأردن، وليس له في قومه الذين أُرسل إليهم أيّ نسب لأنه ليس من القبيلة، بخلاف بعض الرسل مثل صالح وهود وشعيب عليهم وعلى جميع الأنبياء والرسل الصلاة والسلام، ولعل التعبير بقوله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [الأعراف: 80] يدل على ذلك، حيث لم يذكر فيه أنه أُرسل منهم، بخلاف ذِكْر بعض الرسل كقوله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [هود: 50]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [النمل: 45]. أما عند ذكر لوط عليه السلام فقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ [العنكبوت: 28] ، وقال عز وجل: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل: 54].
وفي مجموع الآيات التي وردت في سور متعددة من القرآن الكريم يرينا الله عز وجل أن القوم كانوا في فساد عقول ونفوس لم يبلغه أحد ممن سبقهم، ولم يعقلوا ضرر تلك الفاحشة في الجناية على النفس والفضيلة والصحة والآداب العامة، بل بلغوا من الانحطاط الخلقي وفساد العقول إلى أسفل الدركات التي لم تبلغها الحيوانات التي لم يشاهد الإنسان على مرِّ العصور بأن حيوانًا ذكرًا ما أتى حيوانًا آخر ذكرًا كان أو أنثى لقضاء الشهوة في غير محله. فبلغ الإسراف والجهل والعدوان من القوم مبلغًا لم يتجاوزه أحد قبلهم من البشر ولم تُقدم عليه جميع الحيوانات والدواب، وسلك ذلك الشذوذَ الجنسيَّ أقوامٌ في هذا الزمان حتى ظهروا علينا بمرض العصر كما يسمى وانتشر بين الناس، ومن لطف الله عز وجل أن العدوى بمرض الإيدز نقص المناعة المكتسبة لا تكون عن طريق الرذاذ والهواء والمصافحة والأكل والشرب بخلاف بعض الأمراض المعدية سواء الجنسية أو غيرها، بل عن طريق نقل الدم الملوث بذلك المرض نقلاً أو بواسطة الأمواس أو الأدوات الأخرى الملوثة به، ومنها الإبر بأنواعها المختلفة، ومع هذا وذاك فإلى هذه اللحظة يُعتبر أخطر مرض، حيث لم يجدوا له علاجًا شافيًا حتى الآن، وهذا عقاب من الله عز وجل وذكرى وموعظة لكي يبتعد الناس عن الغي والضلال ويجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويطهروا أنفسهم من هذا الرجس والإثم والداء العضال؛ لئلا يقعوا هم أو نسلهم أو من يتصلون به جنسيًا في ضرره المدمر والقاتل مهما طالت الأيام والليالي، سواء نقلوه أو نُقل إليهم بطريق مشروع أو بارتكاب محرم.
ولنتدبر هذه الآيات التالية، أما تفسيرها والوقوف مع ما ورد فيها وفي غيرها فسوف يكون في خطبة قادمة بإذن الله تعالى، قال الله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ?لْعَـ?لَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ?لنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَـ?هُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ?مْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ?لْغَـ?بِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَ?نْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 80-84].
(1/5474)
لوط عليه الصلاة والسلام وقومه (2)
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القصص
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
21/7/1415
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنكار لوط على قومه فعلهم الفاحشة. 2- دعاء لوط على قومه. 3-الملائكة في ضيافة لوط. 4- خيانة امرأة لوط زوجها. 5- نزول العذاب بقوم لوط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً بسابقه عن أحد الرسل الكرام لوط عليه الصلاة والسلام الذي جاء ذكره مع قومه في عدد من سور القرآن الكريم، وسبق القول بأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، أي: أن إبراهيم عمّه عليهما الصلاة والسلام، وقد آمن بعمّه إبراهيم واهتدى بهديه وهاجر معه من العراق وتبعه في أسفاره، ثم أرسل الله لوطًا إلى أهل سدوم في الأردن، الذين كانوا من أفجر الناس وأكفرهم، وأخبثهم طوية وسريرة، وأقبحهم فعلاً وسيرة، يقطعون السبيل أي: الطريق ويأتون في ناديهم المنكر علانية، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، وارتكبوا جريمة من أقبح الجرائم وأشنعها على الإطلاق، ولم يسبقهم إلى فعلها أحد من العالمين، ألا وهي إتيان الذكور من دون النساء، حتى صاروا لا يستقبحون قبيحًا ولا يستترون من منكر، فغدت قلوبهم قاسية وأخلاقهم فاسدة، وجاهروا باللواط من غير خجل ولا حياء، فبعث الله إليهم لوطًا عليه السلام، فدعاهم إلى الله، وذكَّرهم ونصحهم، ونهاهم وخوَّفهم بأس الله تعالى ونقمته، فلم يأبهوا ولم يرتدعوا عن غيهم وإسرافهم وتعديهم ومجاوزتهم الحلال إلى الحرام قال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [الأعراف: 80، 81]، وفي سورة العنكبوت: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ الآية [28، 29]، وفي سورة النمل: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [54، 55]، وفي سورة الشعراء: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [165، 166].
فلما ألح عليهم وكرّر النهي والتخويف والوعيد بالعذاب الأليم من الله عز وجل إن هم استمروا على ذلك عندها هدَّدوه بالطرد والإبعاد وإخراجه من بين أظهرهم هو ومن آمن معه إذا لم ينته عن نصحهم وإرشادهم؛ لأنه حسب سخافة عقولهم يدعو إلى شيء مخالف لهم حيث يدعوهم إلى الطهارة والتطهر، وذكر الله قولهم في مواضع من كتابه الكريم: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء: 167]، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56]، وفي سورة الأعراف: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82].
إن هذا منتهى السَّفَه والحماقة وقلَّة العقل والبصيرة والتفكير في عواقب الأمور، فأصبح القوم يعتبرون اجتناب الرذائل والبعد عن القبائح والفواحش جريمة، وعلى من يتطهر من ذلك ويبتعد عنها وعن ارتكاب الجرائم عمومًا عليه أن يُبْعَد ويُخْرج من الديار ويصبح هو منفيًا مطرودًا مجرمًا ينبغي تهجيره وإخراجه من الأوطان، فعندما وقعوا وانغمسوا في الفواحش والمحرمات وارتكبوا أقبحها وأشنعها تبلَّدت أحاسيسهم وانعكست مفاهيمهم حتى غدا الباطل حقًا والحق باطلاً، والطهارة والعفة في نظرهم جريمة، أما الوقوع في القاذورات والمحرمات فهو أمر محمود ومقبول لا غبار عليه في نظرهم، وهذا منطق الطغيان، والطاغوت في كل وقت مع أي موقف صدق يبرز فيه الإخلاص والأمانة والدعوة الصادقة يهدّد بالنفي والتغريب والتضييق بشتى أنواع المضايقات والإهانات. وما كان من لوط عليه السلام مع إصرار أولئك القوم الخبثاء الأشرار إلا أن توعدهم بعذاب الله، ودعا الله أن ينصره على أولئك القوم المفسدين، ولكنهم استبعدوا نزول العذاب عليهم في الدنيا، وقالوا بكل وقاحة واستهتار واستخفاف: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، كما ورد ذلك في ردهم عليه كما قال الله عنهم في سورة العنكبوت: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت: 29، 30].
وعندما لم يتنزه القوم عن تلك الفاحشة القبيحة مع وجود نسائهم لديهم وانحرافهم عن الحلال إلى الحرام ولم يحصنوا أنفسهم بهن ولم يُحصِّنوهُنَّ أيضًا فقد انتشر السِّحَاقُ بينهن واستغنين هن أيضًا عن الرجال كما ورد في بعض الآثار، وأصبح القوم رجالاً ونساءً ممسوخين، حيث استقبحوا الحسن واستحسنوا القبيح، وهبطوا إلى أسفل الدركات بما أقدموا عليه من انحطاط خلقي مُزْرٍٍ لا تصل إليه البهائم والحيوانات.
لذلك أرسل الله إليهم ملائكة ليقلبوا عالي تلك القرى سافلها نصرة لنبيه لوط عليه السلام وعقابًا لأولئك القوم المجرمين المفسدين الذين لم ينفع معهم النصح والوعظ والتذكير والتوجيه والإرشاد، وقيل بأن عدد القرى خمس قرى، وعددهم يزيد عن أربعمائة ألف، ولا يهمنا معرفة العدد الحقيقي للقرى والأفراد ما لم يثبت ذلك بدليل صحيح، وإن كان قد ورد العدد عند أهل التفسير بشكل غير قطعي، وقد ورد إفراد القرية في عدة مواضع من القرآن الكريم، ولا تعارض في ذلك بين الجمع والإفراد كما هو في الآيات الأخرى، ومنها قوله تعالى: إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 34]، وقوله عز وجل: قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [العنكبوت: 31]، أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الأعراف: 82].
وقد مرّ الملائكة في طريقهم على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبشَّروه بغلام حليم، وأخبروه بأنهم ذاهبون للانتقام من قوم لوط الذين كانوا يعملون الخبائث، فتخوف إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام إذا قُلبت بهم الأرض أن يكون من ضمن الهالكين، فأخذ يجادلهم ويناقشهم ويخبرهم بأن فيهم لوطًا، ولكنهم أقنعوه بأن الله سيُنَجِّيه وأهله ومن معه من المؤمنين إلا امرأته قدّر الله أن تكون من الغابرين لخيانتها لزوجها لوط عليه السلام حيث لم تكن معه على الإيمان بالله، وتلك هي خيانتها في الدين، وليس في عرضها كما يظنه بعض الناس من وقوعها في الفاحشة، وهذا خطأ كبير في تأوُّل بعض ألفاظ القرآن وتفسيرها حيث يفسرون ويفهمون الظاهر لهم من بعض الألفاظ، وكانت زوجة نوح كافرة أيضًا، وقد ضرب الله المثل بهما في خيانتهما لهما في الدين حيث لم تتبعاهما فيه، وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة؛ لأن تلوث العرض يؤذي سمعة الأنبياء الأطهار، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما بغت امرأة نبي قطّ)، وهذا هو مذهب الأئمة من السلف، وإن كانت قد وردت آثار بأنها تخبر قومها إذا جاء ضيوف لديه بإيقادها النار وارتفاع الدخان أو تدعوهم علانية فقد تكون تلك هي خيانتها والله أعلم، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10].
وينطبق الفهم الخاطئ أيضًا على عدد من آيات القرآن الكريم وألفاظه المفردة، ومنها في هذا الموضع عندما قال لوط عليه السلام لقومه عندما أرادوا الاعتداء على ضيوفه بفعل الفاحشة ولم يكن يعلم هو حتى تلك اللحظة أنهم ملائكة لأنهم أتوا في صورة شباب مُرْدٍ حِسَان قال للقوم: هؤلاء بناتي هُنَّ أطهر لكم، أي: تزوجوا من نساء القرية وأتوا نساءكم بالحلال واتركوا الحرام؛ فإن ذلك أكرم وأفضل وأشرف وأطهر مما تريدونه، ولم يكن قصده أن يستبدلوا فاحشة اللواط بفاحشة الزنا ولم يخص بناته هو، بل أرشدهم إلى نسائهم وهو بمنزلة الأب لهم جميعًا، كما قال ذلك بعض السلف ومنهم مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والسّدِّي ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس وغيرهم رحمهم الله، واستدلوا بما ورد في بعض القراءات في القرآن الكريم: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَّهُمْ). فبهذا يزول الإشكال، حتى ولو عرض عليهم بناته زواجًا شرعيًا لما غطى عدد الرجال علمًا بأن لهم زوجات ونساء أخريات؛ لأن بناته ثنتان فقط كما ورد في بعض الآثار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فعندما حلّ بلوط عليه السلام يوم عصيب وكرب شديد من هذا الموقف مع أولئك القوم الخبثاء وعرض عليهم النساء حلالاً وجادلهم وحاول فيهم بشتى المحاولات قال لهم كما ورد في القرآن الكريم: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 78- 80]. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ـ يعني الله عز وجل ـ، فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه)). وهذا دليل على ما تقدمت الإشارة إليه من أنه لم يكن منهم، بل أُرسل إليهم وهم غير عشيرته وقومه، وكان هذا هو قصده بالركن الشديد أي: القوم والعشيرة المدافعين عنه في مثل هذه الحالة.
فبينما هو في هذا الموقف العصيب أخبرته الملائكة بأنهم رسل من الله وعليه أن لا يخاف ولن يصلوا إليه بسوء ولا إليهم أيضًا، وإنما عليه أن يسري بأهله في الليل ولا يلتفتوا خلفهم، وأخبروه بأن امرأته سوف يصيبها ما يصيب القوم، ولهم موعد محدد هم مأمورون بتنفيذ العذاب والعقاب فيه لأولئك القوم الأشرار، ألا وهو الصبح، وطمس الله أعين القوم، وخرج لوط مع أهله بعد أن اطمأن على ضيوفه وعرفهم وعلم مهمتهم، وفي الوقت المحدد الذي أمر الله به قلب عالي تلك القرى سافلها وأرسل عليهم صيحة من السماء وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود. قال مجاهد: "أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم وحملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفأها، وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن"، قال: "ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها، وتبعتهم الحجارة القوية الشديدة المنضودة المسومة المعلمة حتى أهلكتهم"، وما هذا العذاب والنقمة من الظالمين ببعيد ممن يفعل فعلتهم ويرتكب المنكرات ويقارف الآثام والمعاصي ويبارز بها رب الأرضين والسماوات.
وقيل بأن البحر الميت الآن هو مكان قرى قوم لوط الذي هو أخفض مكان في الأرض وأدناه عن سطح البحر بنحو أربعمائة متر تقريبًا، واكتشفت آثار حول تلك البحيرة وعلى حوافها تدل على تلك القرى، قال ابن كثير رحمه الله: "وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينتفع بمائها ولا بما حولها من الأراضي المتاخمة لضفافها لرداءتها ودناءتها، فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته وعزته في انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله واتبع هواه وعصى مولاه كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات: 35-37]".
ولنستمع ونُصْغِ إلى هذه الآيات الكريمة، قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 74-83].
(1/5475)
اللواط ومرض الإيدز
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
11/10/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة قوم لوط. 2- عقوبة اللواط. 3- مسؤولية الوالدين والمجتمع في مراقبة الأبناء وتوجيههم. 4- انتشار اللواط والمجاهرة به في مجتمعات الكفر. 5- تحريم إتيان الزوجة في الدبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمثل الزنا بل أشد منه اللواط الذي عذب الله عليه أمة بأسرها واستأصلهم به، حيث قال لهم نبيّهم لوط عليه الصلاة والسلام كما جاء في القرآن الكريم: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لْفَـ?حِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ ?لْعَـ?لَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ?لسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ?لْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ?ئْتِنَا بِعَذَابِ ?للَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ?لصَّـ?دِقِينَ [العنكبوت: 28، 29]، وقال أيضًا كما جاء في القرآن على لسانه: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 165، 166]، وقال تعالى: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82، 83] أي: وما هي من الظالمين في أي أمة إذا فعلوا فعلهم أن يحل بهم ما حل بأولئك من العذاب وفي أي زمان إلى أن تقوم الساعة.
ملعون من عَمِلَ عمل قوم لوط وركب المرد والغلمان وسبّب الفساد ودعا إليه وأنفق ماله فيه، تلك الفاحشة الكبرى والجريمة النكراء التي هي مفسدة للدين والدنيا وهدم للأخلاق ومحق للرجولة وفساد للمجتمع وقتل للمعنويات وذهاب للخير والبركات وجلب للشرور والمصائب، إنها معول هدم وخراب ودمار وسبب للذل والخزي والعار، والعقول والفطر السليمة تنكر اللواط وترفضه، والشرائع السماوية تزجر عنه وتمقته، ذلك لأنه ضرر عظيم وظلم فاحش، فهو ظلم للفاعل بما جرّ إلى نفسه من الخزي والعار، وقادها إلى ما فيه الموت والدمار، وهو ظلم للمفعول به حيث هتك نفسه وأهانها ورضي لها بالسّفول والانحطاط، ومحق رجولتها فكان بين الرجال بمنزلة النساء، لا تزول ظلمة الذل من وجهه حتى يموت، وهو ظلم للمجتمع كله بما يفضي إليه من حلول المصائب والنكبات، ومتى فشت الفاحشة في مجتمع من المجتمعات ولم يعاقبهم الله بدمار الديار فإنه سيحل بهم ما هو أعظم من ذلك، سيحل بهم انتكاس القلوب وانطماس البصائر وانقلاب العقول، حتى يسكتوا على الباطل ويزين لهم سوء عملهم فيروه حسنًا، وكذلك تفشو فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم.
ولما كانت جريمة فاحشة اللواط من أعظم الجرائم كانت عقوبتها في الشرع من أعظم العقوبات، فعقوبتها القتل والإعدام، قال رسول الله : ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)). واتفق جمهور الصحابة أو كلهم على العمل بمقتضى هذا الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لم يختلف أصحاب رسول الله في قتله، سواء كان فاعلاً أو مفعولاً به، ولكن اختلفوا كيف يُقتل، فقال بعضهم: يُرمى بالحجارة، وقال آخرون: بل يُلقى من أعلى مكان في البلد حتى يموت، وقال بعضهم: يُحرق بالنار". فالفاعل والمفعول به إذا كانا راضِيَيْنِ كلاهما فعقوبتهما الإعدام بكل حال، سواء كانا محصنَيْن أم غير محصنَيْن لعظم جريمتهما وضرر بقائهما في المجتمع، لأن بقاءهما قَتْلٌ مَعْنَوِيٌّ لمجتمعهما وإعدام للخلق والفضيلة، ولا شك أن إعدامهما خير من إعدام الخلق والفضيلة.
وأيّ معصية يعافها الذوق وتنفر منها الطباع السليمة مثل اللوطية التي لا تفعلها الحمير، ولا ترضى بها الكلاب ولا الخنازير، فكيف يرضى بها بشر سويٌّ منحه الله عقلاً يفكِّر به؟! فداء اللوطية داء عضال، والمصاب بها عضو مسموم في جسم الأمة، يجب قطعه قبل أن يسري منه الداء إلى غيره، وهي نتيجة الترف والتمادي في الشهوات، قال الحسن بن ذكوان رحمه الله : "لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورًا كصور العذارى، فهم أشد فتنة من النساء"، وقال بعض التابعين: "ما أنا بأخوف على الشباب الناسك مع سَبْعٍ ضارٍ من الغلام الأمرد يُقعد إليه".
فيجب على الشباب من الأبناء الابتعاد عن جلساء السوء وعدم الاختلاط أو الخلوة بهم أو بغيرهم مهما كانوا، خاصة في سن المراهقة؛ لئلا يحدث ما لا يرضاه أي غيور ويقع ما يبقى على مرّ الأيام عارًا في وجه صاحبه، وعليهم أن يحذروا كل الحذر من الاقتراب ممن لهم سوابق خزي وعار، سواء كانوا في سنهم أو أكبر منهم؛ لئلا يلطّخوا سمعتهم ويجرّوا إليهم الشُّبَهَ، كما أن على الآباء مسؤولية عظمى في حماية أبنائهم وتربيتهم وإبعادهم عن جلساء السوء، وعدم تمكين الابن الواحد من الذهاب بمفرده مع مجموعة أو الاختلاط بهم ممن يتوقع منهم الشر والفساد، وخاصة تلك المجموعات في السيارات والذهاب بعيدًا عن الأنظار وفي الخلوات في عقر الدور أو قريبًا من المتنزهات، وعلى الأب أن لاَّ يأمن على أبنائه بتلك السهولة ليذهبوا مع الشباب ويختلطوا بهم كما قلنا في سنِّ المراهقة؛ لأن الشهوة العارمة لدى الشباب تدفعهم إلى ارتكاب المحرمات دون التفكير في العواقب والسيئات، كما أن على كل فرد في المجتمع أن يكون حارسًا أمينًا، لا يسكت على منكر يراه أو يتركه يأخذ مساره وهو يعلم عن وقوعه، بل يحول بين أولئك ووقوع الجرائم بأي وسيلة يراها مناسبة، وخاصة إخبار ولي أمر ذلك الابن، سواء كان الولي أبًا أو أخًا أو عمًا؛ لأنهم لا يعلمون عن تلك الممارسات، وحتى تبرأ ذمة ذلك الشخص الذي رأى المنكر قيامًا بواجب النصيحة وتغيير المنكر، وعلى كل مسؤول له علاقة وظيفية ومسؤولية في مثل هذه الأمور بدءًا بوسائل الإعلام والمدارس والمربين والموجهين والأئمة والخطباء وطلبة العلم والعلماء والأطباء ورجال الأمن المباشرين والمحافظين على الأمن في أرض الواقع والميدان ومرورًا بالجهات القضائية والتوجيهية وانتهاء بالجهات التنفيذية، على الجميع أن يقوموا بمسؤولية الأمانة التي حملوها، ويتقوا الله تعالى في الأمة وتجنيبها المزالق المتعددة ومنها هذه الفاحشة وغيرها، قال تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال: 25].
إن النفوس السليمة السوية تستفحش وتستقبح عادة الأراذل تلك، حيث يأتون الذكران في أدبارهم أو النساء في محل النَّجْوِ والغائط، تلك الفاحشة التي يتصبَّب المؤمن عرقًا حين ذِكْرِها ويندى لها جبينه عندما يريد الكلام عنها، ولكنه لا مناص عن التحذير منها وبيان ما يمكن عنها لتتنزه وترتفع عنها أجيالنا، خاصة في هذا العصر الذي فشت وانتشرت فيه الأمراض التي لم تكن في أسلافنا الذين مضوا كما أخبر بذلك رسولنا محمد ، عندما تنتشر الفاحشة فسوف تظهر تلك الأمراض، وها هي قد ظهرت كما ورد الخبر عن سيد البشر محمد ، تلك الفاحشة التي لا يصدقها عاقل سوي، كما قال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي رحمه الله: "لم أكن لأصدق بأن ذَكَرًا يَعْلُو ذَكَرًا لولا ما جاء في كتاب الله عن قوم لوط".
ولا غرابة في اكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء فذلك من علامات الساعة التي تدل على قربها، وعمل قوم لوط يستوي فيها إتيان الرجال أو النساء أي: قضاء الشهوة سواء كانت في أدبار الرجال أو النساء، فاللعن والتحريم والإثم على الجميع حيث تجاوزوا الحد إلى أمكنة مستقذرة عَرفَ ضرَرَهَا العالَمُ اليومَ، ولكنهم لم يوضِّحُوها للناس كلّ التوضيح للمرض المسمى بالإيدز أو ما يسمى بنقص المناعة، وأعدوا العدة وعقدوا الندوات والمحاضرات والمؤتمرات على اختلاف أنواعها في بقاع الأرض ليحذروا من هذا المرض الذي لم يجدوا له علاجًا حتى الآن، واستوى في التحذير منه المسلمون والكفار، ولا غبار على ذلك من حيث التحذير والاستعداد والأخذ بالأسباب الوقائية والعلاجية، ولكن المؤاخذة على المسلمين حيث لا يذكرون أسبابه إلا القليل منهم، يذكرونه على استحياء بكلمات وإشارات غامضة مبهمة لا توضح لعامة الناس ما هو سبب نقص المناعة وانتشار هذا المرض الذي يسمونه بالإيدز، وبكل صراحة وبملء الأفواه نقول: إنه بسبب ارتكاب فاحشة اللواط وإتيان الشهوة في الأدبار عند الرجال أو النساء، ذلك الشذوذ الجنسي؛ ليأخذ كلٌّ حِذْرَه ويتقي الله في نفسه وفي أهله وفي أولاده وعشيرته ومجتمعه، وما كنا لنصدق زفاف الرجال على الرجال وعقد القران عليهم إلا في هذا الزمن الذي كثر شر أهله، ويشك كثير من أهل الفطر السليمة في وجود هذا في مجتمعات اليوم التي تدّعي التحضر والمدنية، ولولا الدعوة الصريحة لذلك في مؤتمرات الانحطاط العالمية المسماة مؤتمرات السكان وحقوق الإنسان التي تنعقد على مرأى ومسمع العالم والدعوة بالسماح للجنس الثالث بممارسة تلك الفاحشة وزواج الرجال من بعضهم ويعتبرون ذلك من حقوقهم كما يزعمون ويخدعون، وبئس ما يقولون، ولولا تلك الدعوات والمؤتمرات لما تمّ تصديقه، فمع هذه المتناقضات العلنية التي يدعون فيها إلى اللوطية إذا بمؤتمرات أخرى تدعو إلى محاربة ذلك المرض كما يزعمون وينفقون آلاف الملايين من الدنانير والدراهم لمعالجة المرضى ومحاربة المرض كما يقولون، مع أنهم ينشرون عبر وسائل إعلامهم تلك الفواحش والرذائل، ممارسة فعلية عبر الفضائيات لإفساد أخلاق البشر حتى يكونوا أحطَّ من كل الحيوانات التي تَدُبُّ على هذه الأرض، فهذا هو الطبع على القلوب نعوذ بالله من ذلك، قال تعالى: أُولَئِكَ ?لَّذِينَ طَبَعَ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـ?رِهِمْ [النحل: 108]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ طَبَعَ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ وَ?تَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد: 16]، كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى? قُلوبِ ?لْمُعْتَدِينَ [يونس: 74]، قال تعالى: وَطُبِعَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ [التوبة: 87]، قال تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]، وقال عز وجل: فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لأبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج: 46].
والمسلم يصدّق بوقوع ذلك لما هو واقع ومطالب به، ويصدق خبر رسول الله حين أخبر بأن من علامات الساعة اكتفاء الرجال بالرجال باللواط والنساء بالنساء بالسِّحاق وزفاف الغلمان من الرجال على الرجال من جنسهم كما تزف المرأة في ليلة زفافها وزواجها، وهذا واقع الآن في بعض البلاد الكافرة وكذلك المتسمية بالإسلام، ولم يعد الأمر خافيًا على أحد، بل أصبح علنًا والمطالبات به على مرأى ومسمع من العالم بأسره من خلال وسائل الإعلام والاتصالات المختلفة والمؤتمرات المعلومة.
وأعتقد بأن كثيرين اطلعوا وسمعوا قبل سنوات من الآن أي: في جمادى الأولى من عام 1415هـ من الهجرة النبوية حين وقع زلزال في دولة غربية منحطة عندما احتفلوا بعقد قران رجل على رجل في ليلة من تلك الليالي، فأذاقهم الله العذاب العاجل قبل الآجل، ونسمع عن أشياء يندى لها الجبين ويتنزه عنها المقام من الذين خرجوا عن الفطرة حتى صاروا أخس من العجماوات والحيوانات التي تطلب إناثها بدافع الشهوة، ولكنها تطلب النسل الذي به يحفظ كل نوع منه، فصار أولئك القوم أحط منها حيث لا دافع لهم من وراء قضاء تلك الشهوة، بل الطير والحشرات أفضل منهم حيث تبدأ حياتها الزوجية ببناء المساكن الصالحة لنسلها من أجل راحته وحفظه مما يعدو عليه في عش تلك الطيور على الأشجار، أو الجحور في باطن الأرض للحشرات والهوام، أما أولئك المجرمون من بني البشر فلا غرض لهم إلا إرضاء غريزة الشهوة وقضاء وطر اللذة في أي مكان مهما بلغ من القذارة والنتن والعفن والدناءة والقبح، وهل أقبح وأقذر وأنتن من محل الغائط والنَّجْو الذي يخرج من بني آدم؟! وهل يجد أولئك إحساسًا وعقولاً تردعهم عن فعلهم ذلك؟! وهل يقبل رجل لديه إحساس وإِبَاءٌ وشَمَمٌ وعِزّة وكرامة أن يأتيه أحد في دبره؟! وهل ترضى امرأة عاقلة أن يأتيها زوجها في غير ما أحل الله؟! وهل يقدم رجل مسلم مؤمن بالله واليوم الآخر على ارتكاب ما حرم الله مع زوجته أو مع غيره من الذكور أو الإناث؟! هل فكر أولئك القوم وتأملوا فيما يجرّونه على أنفسهم وعلى غيرهم من أمراض فتاكة تلازمهم طوال حياتهم وحياة نسلهم؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الأمل كبير في عودة مرتكبي تلك الفاحشة المستقذرة إلى رشدهم وإلى الفطرة السليمة والتمسك بتعاليم الإسلام الطاهرة النقية التي تكفل لهم سعادة الدارين، ويعلموا علم اليقين بأن ابتعادهم وعدم قربهم من الفواحش أيًّا كانت والجرائم مهما تنوعت من الزنا واللواط والمخدرات وغيرها هو سبب لخلوّهم من تلك الأمراض الخبيثة؛ لأن العفة والطهارة والحصانة في الالتزام بشريعة الإسلام والوقوف عند حدوده، ولا يمنع ذلك من أن ينقل أولئك الأشرار أمراضًا إلى الأطهار الأتقياء الأنقياء عن طريق العدوى بنقل الدم أو أمواس الحلاقين عند وجود الجروح واستعمال الأدوات دون تطهير أو الاتصال الجنسي أو نقل الأعضاء وما أشبه ذلك، ومن رحمة الله بالناس أن هذا المرض الفتاك لا ينتقل بطرق العدوى المعروفة في الأمراض العادية، ولكنه محصور غالبًا فيما تمت الإشارة إليه، واتقاء ذلك يكون بالابتعاد عن المحرمات والرذائل المختلفة مع وجوب التوعية الصادقة الواضحة البعيدة عن الغموض، التوعية المشتملة على ما جاء في تعاليم الإسلام المبينة للعفة والطهارة وصفاء السبل الموصلة إلى كل خير والمحذرة من كل شر، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المعارج: 29-31].
وقد بلغت العناية والاهتمام في الإسلام مبلغًا عظيمًا حول ابتعاد المسلمين عن تلك الفواحش ومقارفتها وعدم القرب منها والتحذير من عواقبها في مجالات وظروف متعددة، قال رسول الله : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)). فكلمة "الأولاد" في بداية الحديث تشمل الذكور والإناث، وفي نهايته معروف التفريق بينهم في المضاجع سواء كانوا من جنسين متشابهين أو مختلفين لئلا يحصل إحدى الحالات الثلاث الزنا أو اللواط أو السِّحَاق. وقال : ((اتقوا الحَيْضَةَ والدُّبُرَ)) أي: عندما يريد الرجل إتيان زوجته فعليه الابتعاد عن محل الحيض حيث الأذى على الطرفين محتمل بل حاصل لا محالة، وخاصة على الرجل أكثر؛ لأن دم الحيض لا يضر المرأة فهو ينزل من رحمها، ومع نجاسته وضرره الذي يصل إلى الرجل فهو لا يضرها إذن الله عز وجل حيث ينزل عنها ذلك الأذى في عادة شهرية مستمرة لسنين طويلة فيما يسمى بالعادة الشهرية، ولكنه يجلب الأمراض للرجل خاصة، وقد يصيب المرأة أيضًا مثل البرص الذي ينهش جسمه وينتشر فيه بسرعة نتيجة عدم الامتثال لأمر الله واجتناب نهيه، وأما الدبر في نهاية الحديث فمعلوم تحريمه من أحاديث أُخر، وهو معلوم من الدين بالضرورة، ولو تأمل المسلمون هاتين الآيتين التاليتين من سورة البقرة لعرفوا وعلموا مدى لطف الله بعباده وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم وما يبعد عنهم كل أنواع الشرور ويجلب الخير لهم بإشارات بسيطة تكفيهم عن الشروحات الكثيرة التي يقف العلم أمامها حائرًا، قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَ?عْتَزِلُواْ ?لنّسَاء فِي ?لْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى? يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى? شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَـ?قُوهُ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 222، 223].
فعلى المسلمين أن يَعُوا دورهم في هذه الحياة، وعليهم أن يُحَصِّنُوا أنفسهم ومن تحت أيديهم ورعايتهم ومسؤوليتهم كل في موقعه ليفوّتوا الفرصة والتخطيط الذي يقوم به أعداء الإسلام والمسلمين لتدمير الأخلاق ونشر الفواحش والرذائل في مجتمعات المسلمين لينسلخوا من دينهم، وما تلك الفواحش المعلنة عبر الفضائيات بتلك الوقاحة والصور المشينة والانحطاط الخلقي السافل، ما هي بمحجوبة عن الأنظار، ولا أحد يستطيع منعها والوقوف ضدها إلا بتحصين المسلمين لأنفسهم ومن تحت أيديهم وتربيتهم على دين الإسلام والابتعاد عن كل ما يَحْرُمُ عليهم حتى ينالوا رضا الله عز وجل ويفوزوا بالسعادة في الدنيا والآخرة، وحتى يعلموا مدى لطف الله وحلمه وإمهاله للمجرمين والمفسدين والظالمين من العباد، حتى إذا أخذهم لم يفلتهم كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]، وقال عز وجل: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف: 58]، وهذا الإمهال والإملاء من الله للمجرمين يجب أن يَفْهَمَهُ المسلمون جيدا، وهذا هو محور خطبة قادمة بإذن الله عز وجل؛ لكي يَعِيَ ذلك تمامًا الذين يريدون تغيير المنكرات بتلك الطرق التخريبية والتدميرية التي أُزْهِقَتْ فيها دماءُ المسلمين والمعاهدين في هذه البلاد المباركة، وارتُكِبَ أيضًا ما يماثلها وقريبًا منها في عدد من دول العالم بعد أن غاب عن مرتكبيها ومنظِّريهم الفقهُ في الدين، ودفعهم الحماس والغيرة على الإسلام على غير بصيرة وعلم، فكانت تلك النتائج المؤلمة والعواقب الوخيمة على المسلمين في جميع بقاع الأرض.
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182، 183]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام: 35، 36]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: 99، 100]، وقال عز وجل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118، 119].
(1/5476)
ظهور الفتن خاصة من المشرق
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
23/3/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من علامات الساعة ظهور الفتن. 2- تحذير النبي من الفتن. 3- الشرق هو مصدر الفتن. 4- مقتل عمر ومقدم الفتن. 5- بعض علامات الساعة والتأويل الصحيح لها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ففي أول خطبة لي بعد الأحداث وَعَدت بذكر بعض الفتن التي تأتي من المشرق، ومعلوم أن أحاديث الفتن كثيرة جدًا، وقد حذر رسولنا محمد أمته من الفتن وأمر بالتعوذ منها، وأخبر أن هذه الأمة سيصيبها بلاء وفتن عظيمة، وليس هنالك عاصم منها إلا الإيمان بالله واليوم الآخر ولزوم جماعة المسلمين وهم أهل السنة والجماعة وإن قلّوا، والابتعاد عن الفتن والتعوذ منها, روى الإمام مسلم رحمه الله من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)). وقد أخبر رسول الله وهو الصادق المصدوق عن علامات كثيرة تدل عن قرب وقوع القيامة، وذكر عليه الصلاة والسلام أشراطًا وعلامات للساعة، ومنها: ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل، فتزلزل الإيمان في القلوب حتى يصبح الرجل وهو مؤمن ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، وذلك لكثرة الفتن وحيرة الشخص المسلم فيها وخاصة من كان إيمانه ضعيفًا، وكلما ظهرت فتنة قال المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف ويظهر غيرها في الناس إلى أن تقوم الساعة.
روى الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا)).، وعن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي قالت: استيقظ رسول الله ليلة فزعًا يقول: ((سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟! وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلين، رُبّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: نادى منادي رسول الله : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أنْ يدلّ أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَهَا بلاء ٌوأمورٌ تنكرونها، وتجيء الفتن فيرقِّق بعضُها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يُزَحْزَحَ عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر)) رواه مسلم.
وأكثر الفتن التي ظهرت في المسلمين منذ صدر الإسلام وحتى قيام الساعة منبعها من الشرق حيث يطلع قرن الشيطان، وقد أخبر بذلك رسول الهدى محمد في أحاديث عدة، منها ما هو في المشرق عمومًا ومنها الخاص بالعراق، فأول الفتن كان منبعها من المشرق، وكانت سببًا للفرقة بين المسلمين، وانتشرت البدع وخرجت الفرق الضالة والمنحرفة من العراق حيث ظهر الخوارج والروافض والباطنية والقدرية والجهمية والمعتزلة وغيرهم من الفرق التي لا تلتزم بكتاب الله وصحيح سنة رسول الله. هذا الظهور لتلك الفرق في القديم، ولا زالت أيضًا في الحديث، وزيادة عليها في هذا العصر خرجت وظهرت على الساحة أحزاب كفرية منها الشيوعية والعلمانية والبعثية والقومية وغيرها من الديانات الأخرى، هذا في العراق خاصة وما جاورها ومن جهة المشرق عمومًا، ولقد ظهرت الفتن العظيمة مع المذاهب الهدامة في القديم والحديث ولا تزال إلى أن يخرج يأجوج ومأجوج من جهة الصين والمشرق عامة، ومناصرة سبعين ألفًا للدجال من يهود أصبهان. ومن المذاهب التي ظهرت من المشرق القاديانية والبهائية والزرادشتية والبوذية، وأخطرها الشيوعية التي مركزها روسيا والصين.
ومن أكبر ما حل بالمسلمين وديارهم من الدمار والقتل والشر العظيم كان على أيدي التَّتار الذين ظهروا من المشرق في القرن السابع الهجري، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع رسول الله وهو مستقبل القبلة يقول: ((ألا إن الفتنة ها هنا، ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان)) ، وقرن الشيطان قيل: قوة الشيطان وأتباعه، وقيل: إن للشمس قرنًا على الحقيقة، وقيل: إن الشيطان يقرن اسمه بالشمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له، ولعل هذا الأخير هو الأقرب حيث ورد النهي عن رسول الله بعدم السجود والصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنها تطلع وتغرب على قرن الشيطان؛ لئلا يسجدوا للشيطان مشابهة لمن يعبده ويعبد الشمس. قال رسول الله : ((رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان)) يعني المشرق. رواه مسلم. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دعا النبي : ((اللهم بارك لنا في صاعنا ومدِّنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا)) ، فقال رجل من القوم: وعراقنا؟ قال: ((إن بها قرن الشيطان وتَهَيُّج الفتن، وإن الجفاء بالمشرق)) رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات، وفي رواية البخاري رحمه الله بنحوه إلاَّ أنه جاء بدل ((وعراقنا)) ((وفي نجدنا)) ، إلى أن قال: ((هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان)).
وقد بدأت الفتن منذ قتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكُسِرَ الباب الذي دون الفتن، واستمرت ولا تزال إلى قيام الساعة، ومنشؤها من المشرق وخاصة العراق وإيران بلاد فارس وكل ما كان من دول الشرق أيًا كانت عربية أو غير عربية، سواء كان منشأ الفتنة وبدايتها من العرب أو الأعاجم من المسلمين أو الكفار في أيّ دولة ومنطقة شرقية عن المدينة النبوية من حيث أشار رسول الله في ناحية المشرق، فالمهم أنها من المشرق وإن جاء قمع الفتنة وضرب رأسها من الغرب أو الشرق.
فكان مقتل عمر رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي من المشرق بلاد فارس، وكان ذلك في المسجد وهو يصلي بالناس صلاة الفجر، ثم كان مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه على يد طائفة من دعاة الشر والضلالة الذين تألَّبُوا عليه من العراق وغيرها، وقتلوه وهو محاصر في داره رضي الله عنه.
ولنستمع إلى حديثين صحيحين عن كسر الباب المغلق دون الفتن وهو عمر رضي الله عنه وذلك بقتله، وكان يسأل الصحابة قبل القتل عمّن يحفظ ذلك الحديث، فهو يعرف أنه سيقتل ولكن لا يعرف من يقتله ومتى يقتل. أما علمه بذلك فمن هذا الحديث والحديث الآخر الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله. وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث أخبره بأنه سوف يصيبه البلاء، وقد حصل ما أخبر به رسول الله ، ثم تتابعت وتتالت الفتن في هذه الأمة من أجل الامتحان والابتلاء واختبار الصبر والمصابرة وتمحيص الإيمان وتخليصه من الدخن والنفاق وظهور المؤمنين والمنافقين كلّ على حقيقته، ولكي تقع الأحداث والوقائع والعلامات مطابقة وموافقة لما ورد عن رسولنا محمد ليتضح صدقه وصدق رسالته وأنه لا ينطق عن الهوى، مع أن بينه وبين هذه العلامات التي أخبر عنها وتأتي بعده مئات السنين وعشرات القرون.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيكم يحفظ قول رسول الله في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ كما قال، قال: هات إنك لجريء، قال رسول الله : ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ، قال: ليست هذه، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: يا أمير المؤمنين، لا بأس عليك منها، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: يُفتح الباب أو يُكسر؟ قال: لا بل يُكسر، قال: ذلك حَرِيٌّ أن لاّ يُغلق، قلنا: عَلِمَ الباب؟ قال: نعم كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله ـ أي: هابوا أن يسألوا حذيفة عن الباب من هو ـ قالوا: فأمرنا مسروقًا يسأل حذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر. رواه مسلم.
فوقع خبر الصادق المصدوق بكسر الباب، وذلك بقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظهرت الفتن ووقع البلاء، وكانت أول فتنة بعد ذلك بقتل الخليفة الراشد أيضًا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد ذكر ذلك له رسول الله بعدما بشره بالجنة وأنه سوف يصيبه بلاء، وكان يعلم ذلك تمامًا كما قال له أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وكما ورد في الحديث الطويل الذي رواه البخاري رحمه الله حيث قال أبو موسى: خرج النبي إلى حائط من حوائط المدينة، فذكر الحديث ومجيء أبي بكر وعمر، إلى أن قال: فجاء عثمان فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك، فقال النبي : ((ائذن له وبشره بالجنة معها بلاء يصيبه)). ثم تتابعت الفتن بموقعة الجمل وموقعة صفين وظهور الخوارج وموقعة الحرة وغيرها من الفتن التي حُفظت في كتب التاريخ والسير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فقد فسر بعض المسلمين أحاديث حسر الفرات وأحاديث تقع في آخر الزمان بعد وقوع الأحداث الأخيرة في منطقة الخليج وكذلك النار التي تخرج وتضيء لها أعناق الإبل ببصرى فسروها بآبار البترول التي فُجِّرت واحترقت في الحرب وارتفعت فيها النيران حتى شُوهدت أعناق الإبل في ضوء هذه النار من البصرة في العراق، وهذا في الحقيقة تعسّف في تفسير الحديث لأنه واضح لا يحتاج إلى هذا التأويل، وقد ظهرت النار فعلاً في الحرة في جانب المدينة المنورة بأرض الحجاز في القرن السابع الهجري، وبالتحديد في سنة 654 من الهجرة النبوية، وشاهد من كان في البصرة في ذلك الزمان ظلّ أعناق الإبل في ضوء تلك النار كما أخبر عنها الرسول محمد. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى)) رواه البخاري ومسلم.
وأما عن تفسيرهم لانحسار نهر الفرات باختلاطه بالبترول فهذا تأويل في غير محلّه؛ لأن الحديث واضح لا لبس فيه، وأن الانحسار وعدم جريانه ووصوله إلى نهايته في الخليج بسبب ظهور جبل من ذهب ويقتتل الناس عنده مقتلة عظيمة لا ينجو من المائة إلا واحد فقط، وقد يكون خروج ذلك الجبل الحقيقي من الذهب كما هو معلوم ومشاهد من أن باطن الأرض نار تتأجج، وكل شيء بداخلها مُنْصَهِرٌ، فإذا أراد الله عز وجل والعلم عند الله عندما يريد ويشاء تفجير ما في باطن الأرض وإخراجه على الأرض يكون البركان المعروف حيث تقذف الأرض ما في باطنها وتتكون الجبال البركانية ثم تبرد بعد ذلك مكونة الجبال مثل التي نراها، فينحسر الفرات فعلاً عن وصوله إلى نهايته بسبب ذلك الجبل من الذهب كما أخبر رسول الله ، والله أعلم. روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو)).
ويزيد الأمر وضوحًا بأنه ذهب حقيقي وليس النفط كما يزعمون ـ ويسمونه بالبترول ـ الحديث الذي نهى فيه الرسول من حضره أن يأخذ منه شيئًا، ومعلوم أن الشخص لا يحمل إلا ما كان جامدًا وصلبًا لا ما كان سائلاً وخاصة الأفراد الذين يحضرونه ويقتتلون عليه، روى الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا)) إلى أن قال: ((يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا)).
وأما عن قتال المسلمين للروم وتفسيرهم بأنه هذه الحرب الآن التي وقعت في الخليج واستخدام المواد الكيميائية بحيث يخر الناس ميتين بسببها حتى الطير في الهواء، فهذا وإن كان الحديث صحيحًا ولكنه في آخر الزمان يقع في الشام قبل ظهور الدجال، وينتصر المسلمون على الروم، ويكون ذلك تهيئة لفتح القسطنطينية الفتح الثاني والأخير قبل خروج الدجال بمدة يسيرة جدًا، والحديث رواه الإمام مسلم، وأكتفي بذكر بعضه لطوله فقال: ((عدو يجمعون لأهل الإسلام))، قلت: الروم؟ قال: ((نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجر بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة)) وكرر ذلك ثلاث مرات ـ أي: ثلاثة أيام ـ ((فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم ـ أي: نهض وتقدم ـ بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة عليهم ـ أي: الهزيمة ـ ، فيقتلون مقتلة لم يُرَ مثلها، حتى إن الطائر ليمرّ بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخرَّ ميتًا، فَيَتَعَادَّ بنو الأب كانوا مائة فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يُفرح؟! أو أي ميراث يقاسم؟! فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ: إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون، فيبعثون عشرة فوارس طليعة)) ، فقال رسول الله : ((إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ)) أو: ((من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ)) رواه مسلم.
والذي أقصده هنا هو عدم تسرّع طلبة العلم وغيرهم في تأويل الأحاديث من علامات الساعة والجزم بأنها كذا وكذا وأنها هي هي، خاصة في هذه الأيام والأيام القادمة وكلما ازدادت الفتن وظهرت، إلاَّ ما كان ظاهرًا وواضحًا ومطابقًا لنص الحديث النبوي فهذا لا إشكال فيه إذا لم يحتمل غيره أو يُعارَض بغيره. فواجب المسلمين عامة وطلبة العلم خاصة التّريث والتثبت وعدم التسرع في حياتهم كلها، فضلاً عن أيام الفتن والمحن، سواء تلك التي نعيشها الآن أو من يأتي بعدنا، فكم حصل من الفتن ومن العلامات الصغرى ومن الوسطى التي لم تكتمل حتى الآن مع مرور السنين منذ الفتنة الأولى في ثلث القرن الأول وحتى هذا القرن الخامس عشر الهجري، ولا زالت العلامات تقع حتى قيام الساعة، والله أعلم متى تكتمل الوسطى منها ثم يأتي تتابع الكبرى.
(1/5477)
علامات الساعة (1)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
3/5/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اقتراب الساعة. 2- موعد الساعة غيب استأثر الله بعلمه. 3- علامات الساعة الصغرى والوسطى والكبرى. 4- ذكر بعض أشراط الساعة التي تحققت. 5- من علامات الساعة ظهور الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الدنيا لم تخلق للبقاء ولم تكن دار إقامة، وإنما هي منزل من منازل الآخرة، جعلت للتزود منها إلى الآخرة والتهيؤ للعرض على الله، وقد آذنت بالانصرام وولّت، وكان حقًا عل كل عالم وطالب علم أن يشيع أشراطها وعلاماتها ويبثّ الأخبار الواردة فيها بين الناس مرة بعد أخرى لعلّ العباد ينتهون عن الذنوب وتلين منهم القلوب ويفيقون من غفلتهم ويغتنمون المهلة التي أعطاهم الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا.
قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1]، وقال عز وجل: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1]، وقال سبحانه وتعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 17، 18]، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد: 18]، وفي آية أخرى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف: 66].
وقد جعل الله عز وجل للساعة علامات تدلّ على قربها وانتهاء هذه الحياة الدنيا، ولا أحد يعلم متى تقوم القيامة إلا الله وحده لا شريك له جل جلاله وتعالى سلطانه، وهي من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا حتى الرسول محمدًا ، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]، كما قال عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187]، وقال عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]، وقال رسول الله : ((مفاتيح الغيب خمس)) ثم قرأ الآية: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. فالرسول لا يعلم الغيب، وقد جاء ذلك في التعقيب الإلهي الجميل في الآية الثانية مباشرة بعد التي ذكرت سابقًا في سورة الأعراف وفي آيات أخرى، وما أجمل التعقيب الذي يدل على بشريته وعدم علمه الغيب وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولو كان بيده علم الغيب لاستكثر من الخير كما جاء في قول الله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188].
ولكن الله جل ثناؤه أخبر رسولنا محمدًا بعلامات تدل على قرب وقوعها، والرسول أخبر أصحابه بهذه العلامات وذكّرهم بالقيامة وقربها، ولقد كان يحدّثهم عن العلامات الكبرى ومنها الدجال حتى ظنّ الصحابة أنه في طائفة النخل أي: طرف المدينة النبوية. ولقد آمن الصحابة رضي الله عنهم وصدّقوا بكل ما أخبرهم عنه عليه الصلاة والسلام إيمانًا منهم وتصديقًا بالغيب، وهذه هي قمة الإيمان حيث يخبرهم عن الغيبيات وهم أشد إيمانًا وثباتًا وعقيدة خالصة لله رب العالمين.
ونحن اليوم نرى صدق ما أخبر به رسولنا محمد عيانًا بيانًا أمام أعيننا، يحدث ذلك تصديقًا لما أخبر به الرسول كما قال عز وجل عنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4]، ولم تتحرك وتخشع منا القلوب! ولم تذرف منا الأعين وتدمع! ولم ننته عن الغيّ واقتراف الآثام! فنشكو حالنا إلى الله تعالى وإنا لله وإنا إليه راجعون وهو حسبنا ونعم الوكيل. ونعيش مع أحاديث رسولنا محمد أوردها كما هي مع توضيح بعض المفردات والألفاظ أو ما احتاج إلى بيان حسب الطاقة والإمكان وتوفيق الله عز وجل.
وعلينا أن نعلم ابتداءً أن علامات الساعة تنقسم إلى قسمين: علامات صغرى وعلامات كبرى، وقيل بأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الصغرى والوسطى والكبرى، فأما الصغرى فقد انتهت حيث كانت من بعثة الرسول وزمن الصحابة، أما الوسطى فهي التي نعيشها الآن وكانت فيمن قبلنا وستكون إلى قرب القيامة حيث تكون العلامات الكبرى التي منها الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك من العلامات العظام التي تؤذن بانقضاء الدنيا.
ومما ينبغي أن نعلمه جميعًا أنه إذا ذُكر شيءٌ من أشراط الساعة وعلاماتها فليس القصد من وقوع تلك العلامة أنها محرمة، فقد يكون ذلك الشيء محرمًا أو مذمومًا، وقد يكون مباحًا لا شيء فيه مثل التطاول في البنيان وكثرة المال وكون خمسين امرأة لهنّ قيّم واحد يقوم على خدمتهن، بل قد يكون الشيء مأمورًا به ومندوبًا إلى فعله مثل تعلم القرآن والاهتمام به وكثرة القرّاء وفشوّ العلم والقلم أي: الكتابة والقراءة وسهولة التعلم والتعليم لانتشار الوسائل الحديثة وسهولة استخدامها وتوفرها بيت أيدي الناس، فالذي أقصده أن الرسول أخبر بها قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وها هي تقع كما أخبر بها، ومن هنا تتحقق زيادة الإيمان والتصديق لكي نستكثر من العمل الصالح والدعوة إلى الله والتقرب إليه سبحانه بما يحب ويرضى والبعد عما يسخطه عز وجل.
كما أنه لا يُشترط أن تكون تلك العلامة في كل بقاع الأرض، بل قد تكون في بلد علامة أو علامات، وفي بلد آخر نفسها أو تزيد، وفي آخر كلّ العلامات إلا قليلاً، وإنما تكون تلك العلامات في الأرض بمجموعها.
ومنذ بعثته عليه الصلاة والسلام والعلامات تتوالى، وقد أخبر رسول الله بأن أول أشراط الساعة بعثته عليه الصلاة والسلام، وهو آخر نبي إلى أن تقوم الساعة وليس بعده نبي، وكما تلي السبابة الوسطى وليس بينهما أخرى كناية عن قربهما في الموقع، وكذلك في فرق الطول ما بين الأصبعين فهذا تقريب للأذهان وإخبار حقيقي عن قرب وقوع الساعة وقيامها، ووجه الشبه في المثالين معلوم للجميع، وفيه دلالة واضحة على أن عُمْر الدنيا قد ذهب منه الكثير ولم يَبْقَ إلا القليل، ويفسر ذلك ويوضحه الآيات والأحاديث، وأشدها وضوحًا وفهمًا لعامة الناس فضلاً عن طلبة العلم منهم والعلماء عندما دنت الشمس من الغروب وقال رسول الله لأصحابه: ((لم يبق من الدنيا إلا كهذه)). فإذا كنا في القرن الخامس عشر الهجري ولا زالت العلامات الصغرى لم تكتمل فكم قد ذهب من السنين؟! وكم بقي؟! فالله أعلم بذلك، قال رسول الله : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ويشير بأصبعيه فيمدهما. وكون نبينا آخر نبي وخاتم الرسل وليس بينه وبين القيامة نبي جاء في قول الله عز وجل: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40].
ومن أشراط الساعة موت النبي وفتح بيت المقدس وطاعون عمواس واستفاضة المال والاستغناء عن الصدقة وظهور الفتن من فارس والمشرق، قال عوف بن مالك رضي الله عنه: أتيت النبي في غزوة تبوك وهو في قبة أدم، فقال: ((اعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا)). قُعاص: بالضم ويقال عقاص: داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة.
وقد حصل ما أخبر به الرسول بعد موته حيث فُتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذلك طاعون عمواس الذي حصل في الشام ومات فيه خلق كثير بلغ عدد من مات فيه من المسلمين خمسة وعشرين ألفًا في سنة ثمان عشرة من الهجرة النبوية. وأما عن استفاضة المال سواء بعد موت الرسول بزمن قليل أو في آخر الزمان فقد ورد عدة أحاديث بذلك، وقد وقع منها ما كان في زمن الخلافة الراشدة، وسوف يقع ما يكون في زمن المهدي وعيسى ابن مريم عليه السلام. وقد فاض المال في زمن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله بعد قسمة أموال الفرس، وفاض المال حتى كان يعرض الرجلُ المالَ من الصدقة فلا يجد من يقبله. وسيكثر في آخر الزمان حتى يعرض الرجل زكاة ماله فيقول الذي تُعرض عليه: لا حاجة لي بها، قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يَهِمَّ ربّ المال من يقبل منه صدقته، ويدعى إليه الرجل فيقول: لا أرب لي فيه)) متفق عليه، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه، ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به)) رواه مسلم، وفي رواية للبخاري رحمه الله: ((من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل ويظهر الزنا وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القَيِّم الواحد)) ، وفي آخر رواية الإمام مسلم رحمه الله: ((ويذهب الرجال وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قَيِّم واحد)). والخمسون امرأة ما بين أم وأخوات وبنات وزوجات وعمات وغيرهن حيث يقوم على إعالتهن الرجل الواحد لقلة الرجال وموتهم في الحروب وغيرها من الفتن الأخرى المشاهدة في هذا العصر، كما حصل في البوسنة والهرسك والشيشان وفلسطين وكشمير وغيرها من الدول التي يراها الناس الآن ويسمعون عنها الشيء الكثير وما سوف يأتي في الزمن القادم عندما تكثر الحروب وتشتد الفتن ويكثر الهرج ـ أي: القتل ـ وعندما يتكالب أعداء الإسلام على المسلمين. ويكون أيضًا بأس المسلمين بينهم في آخر الزمان مع أن رسولنا محمدًا أخبرنا بأن الله تعالى سيعطي هذه الأمة ويفتح عليها من كنوز كسرى وقيصر ويبلغ ملكها مشارق الأرض ومغاربها وسيأخذ سراقة بن مالك تاج كسرى كما وعده الرسول عند هجرته عليه الصلاة والسلام لما لحق بالرسول وأبي بكر وهما مهاجران من مكة إلى المدينة وعندما ساخت قدما فرسه في الأرض، وقال للرسول : ادع الله لكي تخرج قدما الفرس من الأرض ولا أخبر عنكما وأكفيكما العيون القادمين من هذه الجهة، فدعا الرسول له ووعده بتاج كسرى، ووقع ما أخبر به رسول الله ، وقد كان ذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زَوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها، وأُعْطِيتُ الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لاّ يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لاّ أهلكهم بسنة عامة، وأن لاّ أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا)).
وهذا هو الحاصل الآن في هذا الزمان ويشاهده الجميع ويعرفونه من القتال بين المسمين وهذه الحروب المدمرة التي ذهب ضحيتها آلاف البشر ووصلوا الملايين في بلاد الإسلام نتيجة إشعال الفتن فيما بينهم من قبل دول الكفر حتى يستبيحوا بيضة المسلمين ويستنزفوا خيرات بلادهم وثرواتها ويشغلوهم عن إسلامهم ويصرفوهم عن طاعتهم ربهم، ولذلك لا نجد الحروب قائمة بين دول الكفر وإنما يشعلونها ويقومون بها في ديار الإسلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وتعالى حمدًا كثيرًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشكره على نعمه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فقد أخبر الرسول أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل، فتزلزل الإيمان، فيمسي ويصبح الرجل كافرًا بعد أن كان مؤمنًا، وكلما ظهرت فتنة قال المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف ويظهر غيرها، ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى قيام الساعة، روى الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا)). وروى الإمام مسلم أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: نادى منادي رسول الله : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: ((إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمور تنكرونها، وتجيء الفتن فيرقق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر)). ويكون منبع الفتن من المشرق وخروج يأجوج ومأجوج كما أخبر بذلك رسول الله من الدول الشيوعية ومن فارس والعراق وكل المشرق كما قال الصادق المصدوق ، فقد ظهر الخوارج والروافض والباطنية والقدرية والجهمية والمعتزلة والملحدون وغيرهم من الملل والنحل ظهر كل أولئك من جهة المشرق بالنسبة للمدينة النبوية.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله وهو مستقبل المشرق يقول: ((ألا إن الفتنة ها هنا، ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان)) ، وفي رواية مسلم رحمه الله: ((رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان)) يعني المشرق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا النبي : ((اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا)) ، فقال رجل من القوم: يا نبي الله، وفي عراقنا؟ قال: ((إن بها قرن الشيطان وتهيّج الفتن، وإن الجفاء بالمشرق)).
وقد وقع ما أخبر به رسول الله ابتداءً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قُتِلَ وكُسِرَ باب الفتن وظهرت ولا تزال إلى قيام الساعة. عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة كما قال؟ قال: فقلت: أنا، قال: إنك لجريء، وكيف؟ قال: قلت: سمعت رسول الله يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ، فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر، قال: فقلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: بل يكسر، قال: ذلك أَحْرَى أن لا يُغلق أبدًا، قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غدٍ الليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سَلْهُ، فسأله، فقال: عمر.
ولقد كُسِرَ الباب فعلاً وقُتِلَ عمر رضي الله عنه حيث قتله أبو لؤلؤة المجوسي عليه من الله ما يستحق، وتتابعت الفتن بعده كما ورد في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرج النبي إلى حائط من حوائط المدينة فذكر الحديث بطوله عندما دخل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وكان يأذن لكل واحدٍ منهم ويبشره بالجنة مع بلاءٍ يصيبه إلا أبا بكر رضي الله عنهم أجمعين، وقد حصل البلاء لعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم كما أخبر بذلك رسول الله.
ولا يزال الحديث مستمرًا إن شاء الله في الخطب القادمة عن أشراط الساعة وعلاماتها.
(1/5478)
علامات الساعة (2)
الإيمان
أشراط الساعة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
10/5/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من علامات الساعة تقليد المسلمين للكفار. 2- من علامات الساعة انتشار الأمن. 3- من علامات الساعة ظهور النار في أرض الحجاز. 4- من علامات الساعة الزنا وكثرة النساء. 5- من علامات الساعة فشو الربا. 6- وقوع وتحقق جميع هذه العلامات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زال الحديث موصولاً عن أشراط الساعة وعلاماتها التي أخبر بها رسولنا محمد التي تدل على صدق نبوته وأنه لا يتكلم بذلك إلا بوحي من الله وإلهام له عن المغيبات التي يخبر عنها وتأتي بعده بأزمنة قصيرة أو طويلة؛ ليزداد المؤمنون إيمانًا، وليرتاب الذين في قلوبهم الزيغ والشك من المنافقين والكافرين، ولتقوم الحجة وتتضح المعجزة ويكون الإيمان على بيّنة والكفر على بيّنة، ولا حجة لكافر بعد ذلك لأنه سوف يبلغ هذا الإسلامُ مشارقَ الأرض ومغاربَها ولا يبقى بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا بَلَغَهُ هذا الدين الإسلامي بِعِزِّ عزيز أو ذلِّ ذليل.
ومن الفتن العظيمة التي أخبر الرسول بوقوعها فتنة التشبه والتقليد للكفار من يهود ونصارى وغيرهم، والتخلق بأخلاقهم والإعجاب بهم وبأفعالهم والتشبه بهم في الأحكام العرفية وفي مأكلهم ومشربهم وتعاملهم ونومهم ويقظتهم وبناء المساكن على هيئة مساكنهم، حتى المساجد لقد فُتِنَ المسلمون بكنائس النصارى ومعابد اليهود من حيث تنفيذ المساجد على أشكالها وهيئاتها وانتشر ذلك في بلاد المسلمين عمومًا، والتقليد والتشبه الأعمى خاصة في الملابس والميوعة وغير ذلك مما انتشر بين الغلمان والفتيات والنساء عمومًا من ملابس فاضحة مختلفة الأسماء والمسميات تظهر معها السيقان والأفخاذ والأيدي والنحور والرقاب، تظهر بها بنات المسلمين في الزواج والأسواق والأحياء والشوارع والمتنزهات، وهذا مصداق ما أخبر به النبي محمد حيث قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع)) ، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((وَمَنِ الناس إلا أولئك؟!)) وفي الحديث الآخر: ((لتتبعن سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذْوَ القُذَّةِ بالقذة حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه)) ، قال الصحابة: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) أي: هم اليهود والنصارى، مع أن رسول الله قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم، ومن أحب قومًا حُشِرَ معهم)).
ومن العلامات التي أخبر عنها الرسول خروج كذابين يدَّعُون النبوة، وقد خرجوا ولا زالوا حيث يخرج بين فترة وأخرى من يدّعي النبوة مع أنه لا نبي بعد نبينا ورسولنا محمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُبْعَثَ دجَّالون كذَّابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)) ، وفي نهاية الحديث الآخر: ((كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي)).
ومن أشراط الساعة وعلاماتها انتشار الأمن ورغد العيش، وقد حصل في زمن الصحابة رضي الله عنهم حينما عمَّ الإسلام والعدل البلاد التي فتحها المسلمون، وكذلك في هذا الزمن، وأيضًا يكون في زمن المهدي وعيسى ابن مريم عليه السلام، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينما أنا عند النبي إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ـ أي: الفقر والحاجة ـ ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: ((يا عدي، هل رأيت الحيرة؟)) قلت: لم أَرَهَا وقد أُنْبِئْتُ عنها، قال: ((فإن طالت بك حياة لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ ـ أي: المرأة ـ ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى)) ، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخْرِجُ مِلْءَ كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدًا يقبله منه)). قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز... إلى آخر الحديث. لذلك فقد كان الأمن في زمن الصحابة في جزيرة العرب بعد الخوف، وفي هذا الزمن ولله الحمد انتشر الأمن وعم بفضل الله وكرمه بعد أن كان قَطْع الطريق كما شكا ذلك الرجل إلى رسول الله قطع السبيل من قطّاع الطرق الذين يعرضون للمسافرين وينهبون ما معهم وقد يقتلونهم، فها هن النساء يرتحلن من العراق أو غيرها لا يخفن من شرور الطرق وأهلها لانتشار الأمن كما أخبر في الحديث الآخر: ((وليسيرنّ الراكب إلى عدن ـ أو قال: حضرموت ـ لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)) أو كما قال.
ومن الأشراط أيضًا ظهور النار التي حصلت في منتصف القرن السابع الهجري من وراء الحرة في المدينة النبوية بأرض الحجاز، وتُشَاهَدُ أعناقُ الإبل في ظل تلك النار العظيمة في بُصْرَى من أرض الشام، وبُصْرَى غير البَصْرَة التي في العراق، وقد أخطأ من فسرها بأنها النار التي حصلت في آبار البترول بعد الاعتداء على الكويت من قِبَلِ العراق، فالحديث واضح لا إشكال فيه، وقد حصلت النار قبل أكثر من سبعمائة سنة كما جاء في النص النبوي كما هو فعلاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل بِبُصْرَى)).
ومن العلامات أيضًا انتشار الزنا حيث فشا وانتشر في العالم بأكمله في هذا العصر حتى بين المسلمين وفي مجتمعاتهم بشكل مخيف ومذهل، حتى غدا شيئًا عاديًا لا غبار على من يرتكبه ممن ينتسب للإسلام فضلاً عن الكفار الذين أصبحوا أحطَّ من البهائم في ذلك وغيره إلى درجة أن الرجل يغشى المرأة على قارعة الطريق وفي الحدائق العامة ولا يرون في ذلك بأسًا وحرجًا، فتلك هي الحرية البهيمية التي تترفع عنها بعض الحيوانات ومنها الجمال؛ حيث إن الجمل من شدة غيرته واستتاره لا يحب أن يراه أحد من البشر وهو يقضي شهوته مع الناقة، فلو حصل أن رأى أحدُ الجمالِ شخصًا يطالع فيه ويشاهده أثناء عمله ذلك فإنه لا يلبث أن يلحق بالشخص حتى يدركه ويقضي عليه ولو بعد حين، فهل الحيوان هنا أعقل وأكمل من أولئك المنتسبين للبشر؟! وهل أولئك البشر أضل من الأنعام؟! اللهم نعم، قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44].
والذي يعرف الواقع الذي تعيشه المجتمعات الآن ممن هم في موقع المسؤولية والذين يهمهم أمر عامة الناس يدرك تمامًا صدق خبر الرسول في هذا وفي غيره، وما هذه المؤتمرات العالمية التي تدعو إلى الإباحية البهيمية عن مسامع الناس بغائبة أبدًا، فمعظم البشر يعرفون تلك الدعوات الشيطانية. أما الزنا في بلاد المسلمين فالموانع والعوائق التي وُضِعَتْ وحالت أمام الراغبين في العفاف كثيرة، حيث التكاليف الباهظة والاشتراطات الفاسدة التي تحول دون وصول الشباب والشابات إلى الحلال، وكذلك انحراف بعض النساء وإيقاع الشباب والمتزوجين للوقوع في حبائلهن وشباكهن لوجود وسائل الفساد المختلفة والمغريات المفضية إلى الوقوع في الفاحشة ولغفلة الرجال وقلة غيرتهم أو لعدم معرفة حيل النساء وطرقهن المشينة لقلة خوفهن من الله، وما تلك السياحة إلى البلاد الموبوءة في كثير من الأقطار ومن ثم الرجوع بالأمراض المعدية ونقلها إلى أصحاب العفة وانتشار ذلك مع التَّكَتُّم عليه إلا أحد الأدلة الدامغة على صدق كلام رسول الله من حيث انتشار الزنا، وكذلك الأمراض التي لم تكن فيمن مضى، وصدقه أيضًا في كل ما أخبر به من الغيبيات وغيرها مما ثبت عنه ، ومعلوم أن انتشار الزنا يكثر فيه أولاد الزنا، ولكن هل من المعقول أن يكثر حتى مع استعمال موانع الحمل المتعددة؟! نعم يحصل ذلك لأنه إِخْبَارُ من لا ينطق عن الهوى ، وانتشاره وفشوه في الناس لم يكن متعلقًا ببلد دون آخر كما هي العلامات الأخرى للساعة، بل تكون العلامات في الأرض عمومًا، وها هي دور الرعاية والملاجئ في العالم قد ملئت بهم حيث يرمي بهم الجناة الزناة في الطرقات وفي صناديق القمائم أو بجوارها أو جوار المنازل أو حتى المساجد في كثير من بلاد المسلمين ومعهم مستلزماتهم من الحليب والحفائظ والملابس لساعات لئلا يموتوا حتى يجدوا من ينقذهم، هذا لمن يرى في نفسه شيئًا من الخوف من الله لئلا يُقْدِمَ على جريمة القتل فيرتكب بذلك جريمة أخرى.
ومع بعض أحاديث رسول الله حول هذا، قال رسول الله : ((إن من علامات الساعة وأشراطها أن يكثر أولاد الزنا)) ، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ذكر أشراط الساعة فقال: ((وأن يُرفعَ العلم ويَظهرَ الجهل ويَفْشُوَ الزنا ويُشْرَبَ الخمرُ ويَذهبَ الرجال وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قَيِّمٌ واحد)). فالشاهد من الحديث ((ويفشو الزنا)) ، وفي رواية: ((ويظهر الزنا)) ، وفي الحديث الأول: ((يكثر أولاد الزنا)). وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((لَيَكُونَنَّ من أمتي أقوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ والحرير والخمر والمعازف)). والْحِر المقصود به هنا استحلال الزنا، وقد وقع ذلك وأشدّ منه حصل أيضًا في زمننا هذا في غير بلاد المسلمين حيث تُغْشَى المرأةُ على قارعة الطريق كما أخبر رسولنا محمد ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذٍ من يقول: لو وارَيتها وراء هذا الحائط)). فهذا الحديث وغيره علم من أعلام النبوة حيث أنَّ أعْدَلَ الناسِ وأغْيَرَهُم إذا رأى تلك الحالة الشنيعة يقول لمرتكبها: لو اسْتَتَرْتَ وراء هذا الجدار.
ومن العلامات أيضًا ظهور الربا وانتشاره بين الناس وعدم المبالاة بأكل الحرام، وعن هذا فكما يقال: حدّث ولا حرج، فقد كثر الربا وتعددت صوره وأشكاله وقلّ من يسلم من ذلك من المسلمين، وكذلك أكل المال الحرام من أي طريق وخاصة ممن له سلطة ومسؤول عن مال في أي بقعة من الأرض، يستغل أموال الناس في مصارف الربا لتدرَّ عليه أموالاً حرامًا لحين تسليمها إلى أصحابها، وهذا منتشر ومعلوم في مجتمعات المسلمين، أو من التجار أيًّا كانوا أو من أصحاب المهن والحرف مهما كانت مهنته إلا من وفقه الله للتَّحَرُّز من ذلك؛ حيث يحاول أحدهم الإيقاع بأخيه المسلم واصطياده ويعتبره فريسة وسلعة رخيصة وقعت بين يديه لا يمكن تفويتها لينقضَّ عليه ويأخذ ما لديه بالطرق الملتوية والحيل الشيطانية والغَرَر والغشِّ والخداع في المعاملات، والجميع يعلمون ذلك، الذين يذهبون إلى الأسواق ويتعاملون مع التَّاجر والصَّانع والنَّجَّار والحدَّاد وأصحاب المهن الأخرى. وهذا مصداق ما أخبر عنه رسول الهدى في الحديث الصحيح حيث قال : ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أَمِنْ حلال أم من حرام)).
أما عن الربا فلا يبقى بيت إلا ويناله غبار الربا إذا لم يتعاملوا مع المرابين أو يكونوا منهم، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((بين يدي الساعة يظهر الربا والزنا والخمر)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ليأتينَّ على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره)). وهذا الحديث مطابق لأحوال المسلمين اليوم مع المصارف الربوية وهذا الانتشار العظيم لها في ديارهم ومحاربتهم لله عز وجل، مع أن آيات الربا وأحاديث الرسول في ذلك تقرع آذانهم ومسامعهم بين الحين والآخر، ولكن لا حياة لمن تنادي، وانتشرت خديعة البنوك والمصارف التي تحتال على الربا لكي ينال كلَّ مسلم غبارُ الربا حيث استصدروا الفتاوى من بعض العلماء الذين أقنعوهم بمعسول كلامهم وأن معاملاتهم شرعية وبعيدة عن الربا مع أنهم يشترون ويبيعون أسهم البنوك الربوية الأخرى ويتعاملون بالربا الصريح وغيره من المعاملات المشبوهة، ومع أن المصارف التي لا تتعامل بالربا موجودة في دول الكفر وهي غير موجودة في بلاد المسلمين إلا في أماكن قليلة جدًا. وفي كل يوم يُفْتَتَحُ فرعٌ لمصارف الربا في ديار المسلمين ليقع ما أخبر به رسول الله من كثرة الربا وانتشاره في آخر الزمان، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) ، وقال أيضًا: ((درهم من الربا أشد من ست وثلاثين زنية)) ، وقال عز وجل: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 275]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]
فيا أيها المسلمون، علينا أن نتقي الله تعالى ونبتعد عن الربا في جميع صوره وأشكاله وعن جمع المال الحرام بأي أسلوب كان قبل أن تأتي ساعات الندم، قال الله جل جلاله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158]، وقال تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل 111]، وقال سبحانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر شهادة له بصدقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي بلغ ما أنزل إليه من ربه على أكمل وجه وأتَمِّه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه في هديه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فمن العلامات الظاهرة الآن في العالم بأسره وفي مجتمعات المسلمين خاصة انتشار الخمور والمخدرات واستعمالها وتسميتها بغير اسمها، سواء يسمونها بالنبيذ أو القهوة أو الوِسْكِي أو أي شيء يسمونه بالمشروبات الروحية على حد زعمهم، مهما اخترعوا له من الأسماء فتلك التسمية لا تخرجها عن الخمور والمخدرات المحرمة شرعًا.
وهذا ما أخبر عنه الرسول بأنه سوف يقع في هذه الأمة، وليس وقوعهم في شربه واستعماله فحسب بل يستحلونه ويعتبرونه حلالاً مباحًا لا شيء فيه، وكذلك يسمونه بغير اسمه ظنًا منهم أنه يخرجه عن دائرة الخمر المحرمة شرعًا أو هم لا يعرفون حكمه. وهذه بلية عظيمة شملت العالم كله ولم تسلم منه بقعة من بقاع الأرض، وقد رصدت الدول العظمى وغيرها مبالغ طائلة لمحاربة المخدرات التي أصلها هذا الداء الخطير الذي هو أم الخبائث لأنه يجمع الشر كله، وقد يرتكب الذي يستعمل الخمر والمخدرات الموبقات إذا شربها أو استعملها على أي صفة كانت، فقد يقع في الزنا واللواط والقتل وغير ذلك من الأمور المحرمة نتيجة ذلك الوباء الخبيث. ولا أستطرد في الحديث عنه فله مجاله وخطبة خاصة به إن شاء الله، ولكن لنزداد إيمانًا على إيماننا بخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال رسول الله : ((لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه)) ، وفي الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا)) ، وقال رسول الله : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيّتهم الله ويضع عليهم العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)).
وهذا شيء موجود الآن في العالم وخاصة بين المسلمين الذين لا يعرفون الإسلام حق المعرفة، فهم يستحلون الزنا والخمر والغناء، وهذه محرمة على الذكور والإناث، والحرير حرام على الرجال إلا من كان به حكَّةٌ ـ مرض الحساسية ـ، والاستحلال لهذه المحرمات المذكورة في هذا الحديث وغيره منتشر في ديار الإسلام وبين المسلمين إلا من رحم الله ومن هداهم سبحانه. أما الْعَلَمُ المذكور في الحديث وهو الجبل الذي يضعه الله ويهدمه على من بجانبه فقد وقع قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة في زماننا هذا ونعلمه جميعًا في الشمال الغربي من إفريقيا قرب البحر المتوسط، والله أعلم وأحكم وهو اللطيف الخبير.
نسأل الله أن يجنبنا ويجنب جميع المسلمين والمسلمات الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يعصمنا جميعًا من الوقوع فيها ويبعدنا عنها وعن كل ما يسخط الله علينا وأن يحفظنا بحفظه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5479)
علامات الساعة (3)
الإيمان
أشراط الساعة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
17/5/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر بعض علامات الساعة الصغرى. 2- تحقق هذه العلامات ووقوعها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن الأمور التي أخبر عن وقوعها الصادق المصدوق رسولنا محمد التطاول في البنيان والتباهي فيها وزخرفتها وتخطيطها كتخطيط الثياب والمفروشات المعلمة المخططة المزخرفة والتفاخر بين الناس، حتى يعمَّ ذلك رعاةَ الغنم الحفاة العراة العالة من العرب، وقد حصل ما أخبر به الرسول في زمننا هذا، ففي آخر الحديث الطويل الذي سأل فيه جبريلُ رسولَ الله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن الساعة فقال: ((ما المسؤولُ عنها بأعلم من السائل)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أن تلدَ الأمةُ ربَّتَها، وأن ترى الحفاةَ العراةَ العالةَ رِعَاءَ الشَّاء يتطاولون في البنيان)) ، وعنه أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى يَبْنِيَ الناسُ بيوتًا يُوَشُّونها وَشيَ المراجيل)) أي: يخططونها ويزخرفونها كالثياب المخططة المعلمة.
ومن العلامات التي ظهرت في عصرنا هذا زخرفة المساجد ونقشها والتفاخر بذلك وإطالة المنائر، وكذلك المنابر طُوِّلَتْ وَعَلَتْ حتى أصبحت إلى عشرين درجة في بعض المساجد للجمعة، مع أن السنة ثلاث درجات فقط، أما التباهي في بناء المساجد من أجل الرياء والسمعة والتفاخر فمشاهدٌ أمْرُهُ وواضح للعيان، وهذه مصيبة عمَّت وطمَّت ولا حول ولا قوة إلا بالله. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لَتُزَخْرِفُنَّهَا كما تزخرف اليهود والنصارى)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يا ابن مسعود، إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تُزخرف المحاريب وتخرب القلوب)) ، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه الذي ذ ُ كِرَ فيه من اقتراب الساعة ثنتان وسبعون خصلة، وذكر منها: إطالة المنابر، وفي رواية: إطالة المنائر، وكلها قد حصلت ووقعت وهي مشاهدة الآن كما أخبر رسولنا محمد.
ومن العلامات أيضًا كثرة الخطباء، وهذا كناية عن تعدّد صلاة الجمعة في البلد الواحد مع تقارب مساجد الجمعة في الأحياء المتجاورة وعدم الحاجة إلى ذلك، وتقصير صلاة الجمعة وتطويل الخطبة كما ورد، مع أن العكس هو السنة لعدم فهم الناس لما يُقَال في الخطبة إنِ اخْتُصِرَتْ، ولحاجتهم إلى التوضيح والبيان، ولِمَلَلِهِمْ وسَآمَتِهِمْ من طول الصلاة لو طُبِّقَت السنة، هذا هو تعليل من خالف السنة، ولو طُبِّقَت لأَرْغَى الناسُ وأَزْبَدُوا، ولكن ليقع ما أخبر به الرسول محمد كما قال عليه الصلاة والسلام، روي عن رسول الله أنه قال: ((يأتي على الناس زمان علماؤها فتنة، وحكماؤها فتنة، تكثر المساجد والقراء، لا يجدون عالمًا إلا الرجل بعد الرجل)) ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحرف فيه حروف القرآن وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم).
ومن العلامات تَشَبُّب المشْيَخَة، فترى الذي طلع فيه الشيب من الرجال يصبغ لحيته وشعر رأسه بالسواد مع أنه ورد النهي عن ذلك في أحاديث عدة والوعيد الشديد لمن خضب بالسواد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة)).
ومنها أيضًا كثرة التجارة وفُشُوُّهَا بين الناس حتى تشاركَ المرأةُ فيها أو النساءُ عمومًا يشاركن الرجال كما هو مشاهد في الأسواق وإدارة الأعمال وممارسة أنواع التجارة ولو من منزلها وقعر دارها عن طريق الشبكة العنكبوتية والاتصالات الحديثة المختلفة. ومنها تقارب الأسواق وكسادها، وهذا كله مما نراه جميعًا. وكذلك سلام الشخص على الخاصة ممن يعرف فقط، والتحية أيضًا تكون بالتلاعن عند ملاقاة الأسافل من الناس، قال رسول الله : ((بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفُشُوُّ التجارة حتى تشارك المرأة زوجها في التجارة)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الكذب وتتقارب الأسواق)). وها هي المرأة تشارك زوجها في التجارة، سواء بالمال أو بالعمل معه ومساعدته ولو عن طريق الشبكة العالمية في بيع وشراء الأسهم والصفقات التجارية الأخرى ولو كان من غرفة نومها، أو بالذهاب معه إلى الأسواق للاتجار وشراء ما يريدون في أقلّ الأحوال كما ورد في الحديث الآتي ذِكْرُهُ بلفظ: ((تَتَّجِر)).
والأسواق تتقارب من عدة وجوه، من ناحية تقاربها في المكان حيث الأسواق والمحلات التجارية المتشابهة بجانب بعضها وقريبة منها، أو من ناحية سرعة العلم بما يكون فيها من زيادة السعر ونقصانه عبر وسائل الاتصال الحديثة، أو من جهة سرعة السير والانتقال من سوق إلى سوق وجلب البضاعة منه ولو كانت مسافة الطريق بعيدة جدًا، فها هي السيارات والقطارات والطائرات والبواخر تجلب البضائع في أقصر وقت. وكل ذلك محتمل للمعنى، وقد وقع الذي أخبر عنه.
وأمّا عن تحية الخاصّة وسلامهم على المعرفة وتحية التلاعن بين المتلاعنين من الشباب ويكون ذلك من كبار السن أيضًا فكما ورد في الحديث السابق وأحاديث أخرى، منها قوله : ((إن من أشراط الساعة أن يسلم الرجل على الرجل، لا يسلم عليه إلا للمعرفة)) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تزال الأمة على الشريعة ما لم تظهر فيهم ثلاث: ما لم يُقبض منهم العلم، ويكثر فيهم ولد الحنث، ويظهر فيهم الصقّارون)) ، قالوا: وما الصقارون يا رسول الله؟ قال: ((نشءٌ في آخر الزمان، تكون تحيتهم بينهم إذا تلاقوا التلاعن)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى تُتَّخَذَ المساجدُ طرقًا، وحتى يُسَلِّمَ الرجلُ على الرجل بالمعرفة، وحتى تَتَّجِرَ المرأةُ وزوجُها، وحتى تَغْلُوَ الخيل والنساء ثم ترخص فلا تغلو إلى يوم القيامة)).
ومن العلامات كثرة الزلازل التي نعيشها ولا يكاد يمر أسبوع إلا ويقع زلزال في أيّ جزءٍ من الأرض، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل)) ، وروى عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال: وضع رسول الله يده على رأسي أو على هامتي فقال: ((يا ابن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدّسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه إلى رأسك)).
ومنها أيضًا موت الفجأة، فتجد الشخص معك سليمًا معافى فإذا به يسقط ميتًا، أو يأكل ويشرب وإذا به فقد الحياة بالسكتة القلبية، أو يخرج من بيته فلا يعود إلا جنازة، أو يأتي خبرُه ويُدْفَن بعيدًا عن أهله بسبب الحوادث، عن أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي أنه قال: ((إن من إمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة)).
ومنها عبادة صنم في دَوْس يطوف به الناس وخاصة النساء، وقد كانوا يعبدونه في الجاهلية، وهذا قد حصل في القرن الماضي، وأُزِيلَ بفضل الله وكرمه بعد أن عادت عبادته والتبرك به والطواف حوله كما أخبر بذلك رسول الله ، حيث قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب إِلْيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حول ذِي الخَلَصَةِ)).
ومنها أيضًا انتفاخ الأهلة حتى يرى الرائي الهلالَ في الليلة الأولى من الشهر فيعتقد أنه في الليلة الثانية أو الثالثة، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي قال: ((إن من إمارات الساعة أن يُرَى الهلال لليلة فيقال: لليلتين)).
ومنها أن يَكْتَفِيَ الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وهو كناية عن كثرة اللواط بين الرجال أو ما يسمى بالشذوذ الجنسي، وهذا قد انتشر بكثرة وخاصة في الدول الغربية وغيرها من البلاد حتى انتشر المرض الذي يسمونه بالإيدز أي: نقص المناعة؛ بسبب تلك الفاحشة نعوذ بالله من ذلك. وكذلك السِّحَاق بين النساء، وهذا يعلمه كثير من الناس، وقد وقع كما أخبر الرسول ، وانتشرت الأمراض التي لم تكن في الأولين من قبلنا، قال رسول الله : ((ما فشت الفاحشة في قوم قَطّ إلا فشت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم)) ، وجاء عنه : ((إن من أعلام الساعة وأشراطها أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فمما أخبر به رسولنا محمد كثرة شهادة الزور وكتمان شهادة الحق، وهذه من كبائر الذنوب التي عمت وكثرت في مجتمعات المسلمين حتى امتلأت المحاكم والإدارات والوزارات بالمظالم، وأصبح الظالم كأنه مظلوم في الظاهر، والمظلوم ضاع حقه بسبب شهادات الزور، وفي المقابل الذي لا يقل عن شهادة الزور خطورة يحدث كتمان شهادة الحق في مجتمعات المسلمين، ولهذا السبب وغيره كثر الظلم الذي أخبر عنه الرسول محمد. ورد في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الطويل أن رسول الله قال: ((إن بين يدي الساعة ـ وعدَّد أمورًا منها: ـ شهادة الزور وكتمان شهادة الحق)).
وشهادة الزور هي الكذب تعمدًا في الشهادة، أيًا كانت الشهادة فهي زور وبهتان وكذب. وكما أن شهادة الزور سبب لإبطال الحق وإحقاق الباطل فكذلك كتمان الشهادة تفعل فعل شهادة الزور وتؤدي دورها وتعادلها وتماثلها في ضياع الحقوق ومساعدة الظالم على ظلمه للمظلوم، وهي ظلم لهم جميعًا الظالم والمظلوم وكاتم الشهادة، كما أنها كذلك في شهادة الزور، مع أن الله عز وجل قال في القرآن الكريم: وَلاَ تَكْتُمُواْ ?لشَّهَـ?دَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283]، وقال تعالى: وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ [المائدة: 106].
وقد قرن رسول الله شهادة الزور بالشرك بالله وعقوق الوالدين؛ لعظم خطرها، ولأنها سبب للظلم والجور وضياع حقوق الناس في الأموال والأعراض وإعانة للظلمة على ظلمهم وتعديهم على خلق الله واستمرارهم في طغيانهم وشيوع الفوضى في المجتمع وكسر لأصحاب الحقوق، ودليل على ضعف الإيمان وعدم الخوف من الله العزيز الحكيم، ولو أنصف كل إنسان من نفسه وأدى كل شاهد الشهادة على وجهها ولم يكتمها لعمَّ الخير وامتنع الظلم وأُهين الظلمة وعادت الحقوق لأصحابها وارتاح الموظفون في المحاكم والإدارات الأخرى مما وقع فيه الناس من شهادة الزور وكتمان شهادة الحق وضياع الحقوق. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ـ ثلاثًا ـ: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور)) أو: ((قول الزور)) ، وكان متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(1/5480)
علامات الساعة (4)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
24/5/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من علامات الساعة كثرة القتل. 2- من علامات الساعة تجمع اليهود وقتال المسلمين لهم. 3- من علامات الساعة كلام السباع والجمادات. 4- من علامات الساعة ظهور النساء الفاتنات. 5- وقوع وتحقق جميع هذه العلامات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن الأمور التي أخبر عنها رسولنا محمد كثرة القتل في آخر الزمن حتى لا يعلم القاتل لماذا قتل غيره ولا المقتول لماذا قُتل، والأمر أهون لو كان بين أهل الشرك والفساد والملل والنِّحَل غير ملة الإسلام، أما إذا كان بين أهل الإسلام فالأمر خطير جدًا، وقد نزل القتل ووقع بكثرة في هذا الزمن، ولن يُرفع إلى يوم القيامة إلا أن يشاء الله، وقد استعملت الدولُ المصنِّعةُ للأسلحة والذخائر أسلوبَ الإفساد والوشاية والتحريش بين أي دولتين متجاورتين مسلمتين وإشعال نار الفتنة وإيقادها بينهما بشتى الوسائل حتى تقوم الحرب بينهما لكي تتحقق أهداف الكفار ومقاصدهم وفي مقدمتها إضعاف المسلمين وقتلهم وتشتيت وحدتهم وإنهاكهم وسلب أموالهم عن طريق شراء الأسلحة لأجل الكسب المادي لتلك الدول الكافرة من وراء الحروب التي تقع بين الدول الإسلامية، مع أنه لا يوجد أي حرب بين دول الكفر، لذلك يجب أن يتنبه المسلمون لما يُحاك ضدَّهم من قبل أعدائهم، وإلا بَقُوا في هذه الحروب المدمرة التي تأكل الأخضر واليابس وتُفْقِر الشعوب وتنهب ثروات البلاد وخيراتها مع قتل رجالها وانتهاك أعراض نسائها وإبعاد المسلمين عن تعاليم الإسلام وإشغالهم بالحروب فيما بينهم، وفي المقابل يقوى جانب الكفار وينشرون باطلهم ويتقدمون في المخترعات والعلوم الحديثة مع تأَخُّر المسلمين في ذلك نظرًا لما يقع بينهم من هذه الأحداث المؤلمة.
ولقد وقع ما أخبر به الرسول محمد ، لا القاتل يدري فيم قَتَل، ولا المقتول لم قُتِلَ، مع أن حرمة دم المسلم حرمة عظيمة، فالدنيا تزول بأسرها أهون عند الله من قتل رجل مسلم كما أخبر بذلك الصادق المصدوق محمد بقوله: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن بغير حق)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر الْهَرْجُ)) ، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: ((القتل القتل)) ، وعنه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتلُ فيم قَتَلَ، ولا المقتولُ فيمَ قُتلَ)) ، فقيل: كيف يكون ذلك؟! قال: ((الْهَرْجُ، القاتل والمقتول في النار)).
إنَّ طَيْشَ العقول والفسادَ والانحلالَ الخلقيَّ والبعدَ عن الدين واتباعَ الهوى يجعل الإنسان يذبح غيره كما تُذبح الشاة، عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن بين يدي الساعة الهرج)) ، قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل)) ، قالوا: أكثر مما نقتل؟! إنا نقتل في العام الواحد سبعين ألفًا، قال: ((إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضًا)) ، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذٍ؟! قال: ((إنه لينزع عن أكثر أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء)).
ولكن ماذا يجب على المسلم في زمن الفتنة إذا كان القتال بين المسلمين وليس قتالاً لأعداء الله؟ إن الجواب الكافي والحل الشافي الوافي لكل مسلم هو في آخر حديث رسول الله الآتي ذكره حيث قال رسول الله : ((إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي فيها الرجل مؤمنًا ويصبح كافرًا، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسِّروا قِسِيَّكُمْ وقطِّعوا أوتارَكم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخِل على أحد منكم بيته فليكن كخير ابنَي آدم)). يريد بذلك عليه الصلاة والسلام ابن آدم لما أراد قتل أخيه قال له أخوه كما ورد في القرآن الكريم: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 28-30].
ولا يفهم أحد أن قتال المسلمين للكفار والجهاد في سبيل الله قد انقطع أو لا يجوز الاشتراك فيه، بل المقصود عدم المساعدة على قتل المسلم بغير حق ولو بنصف كلمة لقول الرسول : ((من أعان على قتل مؤمن بِشَطْرِ كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله)). أما قتال المشركين والكفار عمومًا والمحاربين منهم خاصة فإن ذلك أمر مشروع، أما قتال اليهود والتسلط عليهم ممن يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة فقد جاء البيان الواضح في القرآن الكريم، وقد توعد الله عز وجل اليهود بذلك بعد أن ذكر موقف فرعون وموقفهم مع رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام في أكثر الآيات تفصيلاً في سورة الأعراف حيث زادت عن سبعين آية، فقال الله جلَّ جلاله وتعالى سلطانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 167]. فلما عتوا وطغوا وتكبروا وعصوا أمر الله وأمر رسوله موسى عليه السلام قطّعهم الله سبحانه وتعالى في الأرض أممًا، فمنهم الصالح ومنهم دون ذلك، وإذا قربت القيامة فإن الله تعالى سيرجعهم إلى بيت المقدس وما جاورها من فلسطين والشام ليتحقق وعد الله جل جلاله كما ورد في القرآن الكريم وأخبر به رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]، قال الله تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [الأعراف: 168].
أما عن مجيئهم وعودتهم بعد أن تقطعوا وسكنوا الأرض فها هم قد بدؤوا العودة من ستين سنة، ولن يزالوا حتى يقاتلهم المسلمون في آخر الزمان ولأنهم من أنصار الدجال، وعندما ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام يذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء.
ومما يجب على كل مسلم أن يتفكر فيه ويتأمل ويقرأ كثيرًا هو تفسير الآية التالية وأحاديث رسول الله الواردة حول هذا المعنى من أجل أنْ يفهمَ أنَّ مَجِيءَ اليهود حول بيت المقدس بعد تفرقهم في الأرض من بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام وغرق فرعون ومن معه واجتماعَهم مع أهل فلسطين وبقاءَهم هناك إلى قيام الساعة أن ذلك مذكور في كتاب الله وسنة رسول الله ، فعلى المسلم أن يفهم ذلك وغيره من أمر دينه؛ لئلا يتيه مع التائهين ويتخبط مع المتخبطين عند النوازل، قال الله عز وجل: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء: 104، 105].
وها هم اليهود قد جاؤوا كما أخبر الله عز وجل في الآية السابق ذكرها من آخر سورة الإسراء، وكما ورد في أول السورة أيضًا الخبر الذي يوضح الاجتماع بين الفريقين والقتال ومناصرة اليهود للدجال حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وها هم اليهود يزرعون ويهتمون بشجر الغرقد ذي الشوك الذي هو شجرهم ولا يخبر عنهم عندما يختبئون خلفه كما أخبر بذلك الرسول محمد ، وها هو التعايش السلمي سيبدأ بينهم وبين أهل فلسطين مؤمنهم وكافرهم إلى أن تأتي المقتلة العظيمة وتقرب القيامة.
ولنتأمل أحاديث الرسول في هذا وفي غيره، روى الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلاَّ شجر الْغَرْقَد فإنه من شجر اليهود)) ، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خَطَبَنَا رسول الله فكان أكثر خطبته عن الدجال وحَذَّرَنَاهُ، فذكر خروجه ثم نزول عيسى عليه السلام لقتله، وفيه: ((قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب، فَيُفْتَح، ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربًا، ويقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب لُدٍّ الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط إلا الغرقد فإنها شجرهم لا تنطق)).
صدق رب العزة والجلال وصدق رسول الله ، فهل بعد هذه الآيات والأحاديث يشكُّ مسلم يؤمن بالله ورسوله بعدم وجود اليهود في أرض الشام إلى قيام الساعة وهزيمة الله لهم بعد نزول عيسى عليه السلام وقتله للدجال في آخر عمر الدنيا بعد أن قطّعهم الله في الأرض وفرّقهم وبثّهم من بعد موسى إلى زمننا هذا ثم جاء بهم سبحانه تحقيقًا لوعده عز وجل بأن يجمعهم لفيفًا هم وعدوهم؟! إن الواجب على كل مسلم أن يعيَ ويتدبرَ كلام الله وكلام رسوله ويفهمه على حقيقته، وأن لا يَمُرَّ به مرور العابر للسبيل، وأن لا يتكلم بما لا يعقله أو لا يفهمه من قول الله عز وجل ومن قول رسوله ، ولا تأخذه العزة بالإثم لِنَشْرِ ما يناقض القرآن والسنة.
ولا غرابة في تكليم الحجر والشجر وغيره للإنسان عند قتال اليهود في آخر الزمان، بل يكون كلام السباع والجمادات للإنس، وها نحن في بدايتها مع الاكتشافات العلمية التي علمها الله البشر، فكل يوم نرى ونسمع عن العديد مما يُستعمل من أجهزة سرية أو علنية تنقل الأخبار والأنباء صادقة كانت أو كاذبة حتى أصبحت في الساعات والأقلام ومثل رأس الإبرة والدبوس توضع في أي مكان لاكتشاف الغامض من الأخبار، هذا فضلاً عن العلني منها عبر الهاتف والفضائيات والشبكة العنكبوتية المعلوماتية العالمية المسمّاة بالإنترنت، وسوف يكلم الإنسانَ فَخذُهُ وشِرَاكُ نَعْله وعذبةُ سَوْطِه كما أخبر بذلك رسول الهدى محمد حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى يكلم السباعُ الإنسَ، ويكلم الرجلَ عذبةُ سَوْطِه وشِرَاكُ نَعْلِهِ ويخبره فَخِذُهُ بما أحدث أهلُه بعده)). وهذا تقريب للأذهان وشاهد واضح للعيان بما سيكون في آخر الزمان.
وهذا القتال غير القتال الذي يكون فيه المسلمون واليهود على ضِفَّتَيْ نَهْرِ الأردن في الشرق والغرب منه، فهذا والله أعلم قد أقبل وقرب أوانه كما هي علاماته وكما أخبر الرسول بذلك حيث تكون الهدنة بين الطرفين وبعدها يغدر بنو الأصفر بالعرب والمسلمين، وقد بدأ اجتماع اليهود وتجمعهم مع العرب من أهل فلسطين ولا أقول: المسلمين لأن منهم العديد من الملل والنحل الأخرى بعد عودة اليهود من بعد الانتشار في الأرض ليتحقق وعد الله تعالى كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكما هو موجود لديهم أيضًا في أسفارهم وأناجيلهم، أما متى يكون ذلك؟ فعلمه عند الله تعالى، وإذا وقع فعلى المسلمين مع إيمانهم المسبق زيادة الإيمان والتصديق مع عمل ما يجب وما يأمرهم به إسلامهم، وعليهم أن يأخذوا الحيطة والحذر من اليهود وخياناتهم ومكرهم وغدرهم، ولا يكونوا في غفلة من أمرهم مما يُبَيِّتُه لهم اليهود وأعوانهم وجميع أعدائهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، الحمد والشكر له تعالى على نعمه وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله.
أما بعد: فمما أخبر به رسولنا محمد ويقع بعده ولا يراهم بل يأتون في آخر أمته عليه الصلاة والسلام خروج النساء من أمته عاريات وإن كن كاسيات وعليهن اللباس، فهن مع ذلك عاريات لأنَّ ثيابَهن لا تؤدي وظيفة السَّتْر لرقَّة ملابسهن وشفافيتها أو لأنهن يلبسن الملابس القصيرة أو تشد إحداهن عباءتها وتضيّق ثيابها على جسدها حتى تظهر تفاصيل جسمها، فهن كاسيات وعاريات في الوقت نفسه وإن اشترين ملابسهن تلك بأغلى الأسعار، فمع اكتسائهن فهن عاريات، وأخبر أيضًا عليه الصلاة والسلام في وصفهن بأنهن مائلات مميلات، فَلُبْسُ الكعب العالي مع الإضرار بالصحة التي ينصح الأطباء بعدم استخدام تلك الأحذية يجعل المرأة مائلة في مِشْيتها يمينًا وشمالاً وضاربة برجلها الأرض حتى يظهر صوت نعالها لِتُمِيلَ الرجال إلى النظر إليها، فهي مائلة مميلة سواء في جسدها أو لغيرها من الرجال عن الطريق السوي، وقد ورد النهي عن ضرب الأرض بأرجلهن في قوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31]. رؤوسهن كأسنمة الجمال بحيث يجمعن شعر رؤوسهن وتَلُفُّهُ إحداهن فوق رأسها حتى يتمايل إلى ناحية من جوانب الرأس كما تتمايل أسنمة الإبل، وبعضهن تضع على رأسها ما يسمى بالباروكة الشعر الصناعي لينطبق عليها الوصف تمامًا، وقيل في المائلات بأنها المِشطة الميْلاء في أحد جانبي الرأس وهي مِشْطَةُ البغايا الزانيات معروفة لهن وبينهن، وقيل في المائلات المميلات بأنهن مائلات بأنفسهن عن طريق الحق ومميلات لغيرهن أيضًا. وفي الرواية الأخرى بأنهن يركبن هن والرجال على السروج والمياثر كأشباه الرِّحَال، وهي السيارات الوثيرة الآن حتى ينزلوا على أبواب المساجد ثم يؤدون الصلاة.
والصنف الآخر هم الشُّرَطُ الذين معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، وهذا منتشر في العالم بأكمله كما أخبر الرسول بذلك، ويستعملون أنواع التعذيب لعباد الله ومنها تلك السياط أو ما يسمى بالعصا الكهربائية.
قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ـ وفي رواية: على المياثر ـ ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، ولو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم)) رواه الإمام أحمد وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح" ورواه الحاكم بنحوه، رحمهم الله جميعًا.
وفي نهاية الحديث إشارة لطيفة واستنباط قوي للخادمات الأجنبيات من النصارى وغيرهم أو من المسلمين ويخدمن في بيوت المسلمين، وكذلك تكريم الله سبحانه لهذه الأمة ونعمته عليها بأن يحفظ نساءهم من الخدمة في بيوت غير المسلمين وخاصة في هذه البلاد ولله الحمد والمنة، والله أعلم وأحكم.
وإذا أطاع الرجل زوجته وتركها تفعل ما تشاء في ملابسها بالتشبه بالكافرات والزانيات ولبس الكعب العالي وتعاملها مع الرجال دون غَيْرَة حتى تتشبه إحداهن بالرجال في ملبسها أو تعاملها فعندئذ لا يُستغرب أن يطيع ذلك الرجل زوجته ويعقَّ أمه ويقوم ببر أصدقائه ويعصيَ أباه ولا يستأنس معه، بل لا يجد الأنس إلا مع صديقه وزوجته، وهذا الذي أخبر عنه الرسول حاصل الآن، نسأل الله اللطف والعفو والعافية. ووردت عدة أحاديث منها: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء)) ، فذكر منها: ((وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه، وبر صديقه وجفا أباه))، وفي نهاية الحديث: ((فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء أو خسفًا ومسخًا)). وفي الحديث الآخر: ((من اقتراب الساعة... وتشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء)) ، وروي أيضًا: ((كيف بكم إذا فسق فتيانكم وطغى نساؤكم؟)) قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟! قال: ((نعم، وأشد منه)).
(1/5481)
علامات الساعة (5)
الإيمان
أشراط الساعة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
21/7/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من علامات الساعة ضياع الأمانة. 2- من علامات الساعة فشو الكتابة وقلة العلم. 3- من علامات الساعة قلة الأخيار والعلماء والصالحين. 4- من علامات الساعة صدق رؤيا المؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد سبق الحديث في خطب ماضية عن بعض علامات الساعة وأشراطها، وأعود الآن لأذكر بعضها أيضًا لأن الحديث عنها شيّقٌ، وكيف لا يكون اشتياق المؤمنين الصادقين لذلك وهم يجدون أخبار الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بأمور غيبية من قبل مئات السنين يرون ذلك ويعيشونه واقعًا مشاهدًا أمام أعينهم؟! إنهم يزدادون إيمانًا مع إيمانهم ويقينًا على يقينهم وعملاً صالحًا يتقربون به إلى الله عز وجل فيما بقي من أعمارهم، ويدحضون حجج وشكوك المبطلين والملحدين من أعداء هذا الدين لكي يبلغ الإسلام جميع أقطار الأرض وتقوم الحجة على الخلق أجمعين بإذن الله عز وجل.
ومن تلك العلامات التي أخبر الرسول عن وقوعها في آخر الزمان وهي دلالة واضحة على قرب قيام الساعة ضياع الأمانة، والأمانة ضد الخيانة، وتحل الخيانة مكان الأمانة عند كثير من الناس، وينكرون على الأمين أمانته ويعتبرونه درويشًا مغفلاً، وأيضًا يقلبون عليه الأمور أمام الناس ويصفونه بالخيانة، وعلى العكس من ذلك: الخائن هو الأمين في نظرهم، ويقلبون الحقائق ليبرئوا ساحته ليظهر أنه أمين لا ضَيْرَ عليه. وهذا مصداقٌ لما أخبر عنه الرسول محمد في معرض حديثه: ((ويخوّن الأمين ويؤتمن الخائن)). ومن يختلط بالناس عمومًا ويحتكُّ بهم ويأخذ ويعطي هو بنفسه معهم يجد أمورًا غريبة لا يكاد يصدِّق وجودها بين المسلمين فضلاً عن غيرهم لولا الأحاديث الواردة في ذلك التي تورد الطمأنينة على نفسه وتزيد إيمانه ويقينه، أما البعيدون عن الاحتكاك بالناس أو الذين يعيشون في بروج عاجية بعيدًا عن أمر العامة فيظنون أن الأمور في أحسن الأحوال، وينطبق عليهم قول القائل:
إنْ كنتَ تدري فتلك مصيبة وإنْ كنتَ لا تدري فالمصيبة أعظم
فمن مظاهر تضييع الأمانة إسناد أمور الناس أيًا كانت تلك الأمور إلى غير أهلها، ومعلوم أن أهلها هم أهل الأمانة والصدق والتعفّف عن الحرام والإخلاص والوفاء وأداء الأمانة كما ينبغي بعد الخوف من الله عز وجل، فإذا أُسندت مصالح الناس إلى غير أهلها ضاعت الحقوق وحصل الاستخفاف بمصالح العباد وإيغار الصدور وإثارة الفتن وإشاعة الفوضى في المجتمع، وهذا هو حال المجتمعات اليوم، وبهذا يتبين صدق رسول الله ويدل على قرب وقوع القيامة، فحينما يفكر المؤمن ويمعن النظر في واقع البشر اليوم يجد ذلك الخبر واقعًا ومشاهدًا لا يملك إلا أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وهو حسبنا ونعم الوكيل.
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدِّثُ، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: ((أين أُراه السائل عن الساعة؟)) قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ((إذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) ، قال: كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)). وفي حديث آخر بين الرسول كيف ترفع الأمانة من القلوب وأنه لا يبقى منها في القلب إلا أثرها حتى يصير الرجل خائنًا بعد أن كان أمينًا لمخالطته أهل الخيانة فيقتدي بهم ويفعل فعلهم، جاء في صحيح البخاري رحمه الله من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)) ، وحدثنا عن رفعها قال: ((ينام الرجل النَّوْمة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أَثَر الْوَكْت ـ أي: كالنقطة في الشيء من غير لونه ـ، ثم ينام النَّوْمَةَ فتقبض ويبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله! ما أظرفه! ما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولقد أتى عليَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا رده عليّ الإسلام، وإن كان نصرانيًا رده عليّ ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانًا وفلانًا)) ، وورد أيضًا: ((أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخرها الصلاة)). وها هو التهاون والاستخفاف بالصلاة وشأنِها نعيشه الآن حيث تمتلئ المساجد في الجمع والعيدين وتكون خالية من كثير من المسلمين في الفروض، فأين أولئك الرجال من حضور صلاة الجماعة في المساجد؟! وأين إقامة الصلاة والخشوع وثمرة الصلاة في حياة الناس بالانتهاء عما يغضب الله عز وجلّ؟! مع أن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب: 72].
وهناك خطبة مستقلة إن شاء الله عن الأمانة وما يتعلق بها، والكلام هنا هو عن إضاعتها وانتشار الخيانة، وكلٌّ لديه كثيرٌ من المعلومات ولا داعي لضرب الأمثلة.
ومن أشراط الساعة كثرة الكتابة وانتشارها وفي الوقت نفسه يُرفع العلم ويُقبض العلماء ويَثبت الجهل ويَفشو ويَنزل في أوساط الناس، وقد يظن شخصٌ بأن في الأحاديث تناقضًا وليس الأمر كذلك، وإنما هو الواقع اليوم كما أخبر رسولنا محمد ، حيث انتشرت الكتابة وفشت حتى صارت دول العالم بأكملها تحارب الأمية كما يقولون، فترى الرجال والنساء الذين فاتهم قطار التعليم والتعلّم في الصغر يسارعون إلى الالتحاق بها حتى تفشو الكتابة وتنتشر ويحصل ما أخبر به الرسول ، لكن ذلك التعلم والتعليم لهم ولغيرهم يكون فيه الجهل أيضًا، علم العلوم الدنيوية وتعلمها يكون كثيرًا، فنحن نرى ونسمع عن تقدم العلوم، ولكن في أي مجال؟ إنه الإقبال على تعلّم علوم الحياة الدنيوية، وفي المقابل الجهل بالعلوم الشرعية؛ لذلك ترى كثيرًا من الناس لا يعرفون كثيرًا مما تدعو إليه الضرورة في دينهم فضلاً عن الأمور الأخرى، وهذا يدل على جهل أكثر المسلمين بدينهم بالرغم من تقدم العلوم في جميع المجالات، ومنها ما يسمونه بالثقافة وأنَّ أكثر أفراد المجتمع مثقفون، نعم إنهم مثقفون في أمور الدنيا، ولكن الجهل محيط بهم ومُخَيِّمٌ عليهم في أمور دينهم، والقرآن الكريم أول تلك العلوم الشرعية التي لا يتقنونها مع أن معظمهم من العرب ويتكلمون بلسان عربي، فمعظم من يعيش في مجتمع المسلمين من العرب لا يعرفون كيف يتلون كتاب الله كما أنزل، فهذا يعتبر من الجهل، كذلك علم الفرائض التي ورد فيها عن رسول الله أنه قال: ((تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيقبض، وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما)) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل)) ، وقال : ((إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل ويرفع العلم)) ، وقال رسولنا محمد : ((يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج)) أي: القتل.
وقد وقع ما أخبر به الرسول ولا يزال إلى أن تقوم الساعة حتى يُسْرَى بالقرآن لا يبقى منه في الصدور ولا في السطور آية من كتاب الله. فتقارب الزمان حاصل حيث أن السنة تمر علينا كالشهر والشهر كالأسبوع والأسبوع كاليوم واليوم كالساعة والساعة كالدقيقة، قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة)). ولم يعد في الأوقات بركة، وها هي السنون تطوينا طيًا وعلم الدين الصحيح في طريقه من سنوات مضت وذلك بقبض العلماء المتقين لله الذين هم ورثة الأنبياء ويحيون السنة ويميتون البدع ويحذرون منها، فيظهر على العكس من يميت السنة ويحيي البدعة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)). فتبين من هذا الحديث المتفق على صحته أن العلم المراد بالجهل فيه هو علم الدين، وجهل الناس هو الجهل بأمور الإسلام لدرجة أنهم يتخذون الجهال مفتين لهم، فتكون الفتوى بغير علم، فيضل السائل والمسؤول، وهذا هو الحاصل خاصة بين الشباب وفي الأحزاب والجماعات الإسلامية المختلفة.
وأما عن كثرة الكتابة وانتشارها فيقول رسولنا محمد : ((إن بين يدي الساعة ظهور القلم)) ، وفي حديث آخر: ((إن من أشراط الساعة أن يكثر التجار ويظهر العلم)). وقد كثرت الكتابة وانتشرت بتوفر آلات الطباعة والتصوير التي سهلت انتشار الكتابة في أسرع وقت، وأصبحنا نشاهد طباعة الجرائد والمجلات وغيرها من الأوراق الأخرى وتبادل المعلومات على بُعْد آلاف الكيلومترات في المخترعات الحديثة التي سهلت نشر الكتابة وانتشارها خلال دقائق بل ثوانٍٍ مع الحاسبات الآلية والشبكة العنكبوتية شبكة المعلومات العالمية المسماة بالإنترنت وغيرها.
فمن أخبر رسولنا محمدًا وأعطاه جوامع الكلم ليتحدث بها عن أمور غيبية تقع بعده بمئات السنين؟! إنه الله عز وجل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فتبارك الله رب العالمين. قال رسول الله : ((يُدرس الإسلام كما يُدْرس وَشْيُ الثوب حتى لا يُدْرَى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويُسْرَى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة يقولون: لا إله إلا الله، فنحن نقولها)). وهذا والله أعلم في آخر الزمان عند قرب القيامة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لينزعن القرآن من بين أظهركم يُسْرَى عليه ليلاً فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء).
_________
الخطبة الثانية
_________
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف: 1-3]، أحمده سبحانه وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن من علامات الساعة وأماراتها التماس العلم عند الأصاغر أي: أهل البدع والأهواء، وعندها يتفرق الناس وتتعدد المذاهب وتكثر الأحزاب والأهواء ويُعْجَبُ كلُّ ذي رأي برأيه ويتمسك به ويناصره ويبغض ويعادي مخالفيه من أجل الانتصار لرأيه وما هو عليه ويعتقد أنه على الحق وغيره على الباطل، وعندها تكون الهلكة. قال رسول الله : ((إن من أشراط الساعة ثلاثًا، إحداهن: أن يُلتمس العلم عند الأصاغر)) ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد ومن أكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا)، وسئل عبد الله بن المبارك رحمه الله عن الأصاغر فقال: "الذين يقولون برأيهم، فأما صغير يروي عنه كبير فليس بصغير"، وقال أيضًا: "إنهم أهل البدع". وقد يقال كما هو مشاهد الآن وكما هو ظاهر في الوسائل الإعلامية المختلفة بأن المبتدئين في طلب العلم والذين يحبون الشهرة والمتحمسين للدعوة أيضًا وغيرهم ممن يظهر على الشاشات وأمام اللاقطات وعلى صفحات الجرائد والمجلات ويفتون الناس بعلم في جوانب قليلة وبغير علم في كثير من الأمور ويُترك العلماء والراسخون في العلم ويُبعدون عن الظهور لأي سبب من الأسباب فعندها يُؤْخذ العلمُ من الأصاغر فعلاً ويُترك الأكابر، والله أعلم.
ومن العلامات ذهاب الصالحين وقلة الأخيار والمتقين وكثرة الأشرار وازديادهم حتى تقوم الساعة على شرار الخلق، قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته ـ أي: أهل الخير والصلاح من أهل الدين ـ من أهل الأرض فيبقى فيها عجاجة ـ أي: الغوغاء والأراذل ومن لا خير فيه ـ لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا)) ، وقال : ((يأتي على الناس زمان يُغربلون فيه غربلة يبقى منهم حُثَالة قد مَرَجَتْ عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا)) وشبك بين أصابعه.
ومنها ارتفاع أسافل الناس على خيارهم، فتكون أمور الناس ومصالحهم بين سفهائهم وأراذلهم الذين هم أسعد الناس في هذا الزمن. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنها ستأتي على الناس سنون خداعة؛ يصدَّق فيها الكاذب ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((السفيه يتكلم في أمر العامة)) ، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لُكَع بن لكع)).
ومنها صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان، فهي تقع كما رآها في المنام ولا تحتاج إلى تعبير وتأويل تسليةً للمؤمن الصادق وإكرامًا له وإعانةً وإيناسًا له بالرؤيا الصادقة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة)).
(1/5482)
علامات الساعة (6)
الإيمان
أشراط الساعة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
28/7/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من علامات الساعة كثرة النساء. 2- من علامات الساعة تناكر القلوب. 3- من علامات الساعة زخرفة المساجد. 4- من علامات الساعة كثرة الفتن. 5- تحقق هذه العلامات. 6- من علامات الساعة عود جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من علامات الساعة وأشراطها والمعالم في بدايتها كثرة النساء وقلة الرجال، فمن حكمة الله عز وجل وتقديره وإحاطته بكل شيء علمًا أن يكون عدد الإناث مناسبًا ومقاربًا لعدد الرجال في كل زمان ومكان، وأُبيح تعدد الزوجات في الإسلام إلى أربع لحكم كثيرة، ومنها وقت الحروب حين يُقتل الرجال وتبقى النساء بلا أزواج فيجدن من التعدد ما يطمعن فيه في كثير من الأمور، وعند قرب القيامة تكثر النساء أيضًا لكي يقع ما أخبر به الرسول محمد من كثرة النساء وقلة الرجال حتى يُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون أو خمسون امرأة يَلُذْنَ به من حيث القيام بأمورهن، وهذا كناية عن كثرتهن وليس حصر العدد بذلك فقط، بل يتبع بعض الرجال الخمس والعشر والعشرون والثلاثون إلى الخمسين وما بينها من الأعداد، وهذه التابعات للرجل يكنّ بنات له وبنات بنات وبنات إخوة وأخوات وعمات وزوجات وخالات وجدات من أقاربه لقلة الرجال حتى يكون هو القَيِّم على شؤونهن وأمورهن، فتكثر النساء مع قلة إنجاب الذكور وكثرة الحروب التي يكون الرجال فيها هم الضحايا والنساء بعيدات عن ذلك، وأيضًا بسبب الحوادث في الطائرات والسفن والسيارات والقاطرات وغير ذلك من الأسباب الظاهرة لنا حول كثرة النساء وقلة الرجال.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أشراط الساعة)) وذكر علامات إلى أن قال: ((وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)) ، وفي الحديث الآخر الذي ظاهر لفظه ذهاب الرجال في الحروب والقتال قوله : ((ويذهب الرجال وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد)) ، وفي حديث آخر أيضًا في صحيح مسلم رحمه الله: ((ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء)). وبوادرها قد ظهرت من سنوات، والمتأمل في أحوال العالم اليوم يجد بداية الأمر قد ظهرت حيث الحروب التي يشعلها الكفار بين الدول الإسلامية ويقتتل المسلمون فيما بينهم حتى يقل الرجال وتبقى النساء.
ومما أخبر به الرسول وهو واقع في مجتمعات المسلمين اليوم وقوع التناكر بين الناس لكثرة الفتن والمحن والغل والحقد والحسد واستيلاء المادة على قلوب الناس وعقولهم، حيث يعمل كل منهم لحظوظ نفسه غير مكترث بمصالح الآخرين ولا بحقوقهم، وبذلك انتشرت الأنانية البغيضة وأصبح كل شخص يعيش في نطاق شهواته وأهوائه غير عابئ بالآخرين، وهَمُّه نفسه فقط وأهل بيته إن لم تنعدم تلك الرابطة أيضًا في بعض البيوت، حتى أصبح الجار لا يعرف للجار حقًا، بل قد يشتكي من سوء جواره ويتمنى اليوم الذي لا يراه فيه إما بارتحال أو موت، وذلك بسبب المدنية الزاحفة إلينا وبسبب البعد عن تعاليم الإسلام التي مدارها على الأخوة الإيمانية التي تجمعهم على الحب في الله والتعاون على البر والتقوى، هذا إذا كانوا بعيدين عن بعضهم بعضًا في المساكن، أما إذا كانوا جيرانًا فالحقوق أعظم ولكن الواقع غير ذلك، فالإفساد بين المسلمين بعضهم على بعض والنميمة والغيبة والبهتان وأذية الجيران بشتى الطرق والأساليب التي بها يختبئ ويخادع ويمكر صاحبها لكيلا ينكشف ويظهر وينفضح أمره.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن الساعة فقال: ((علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو، ولكن أخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها، إن بين يديها فتنة وهرجًا)) ، قالوا: يا رسول الله، الفتنة قد عرفناها، فالهرج ما هو؟ قال: ((بلسان الحبشة: القتل، ويُلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدًا)). نعم، لقد وقع التناكر بين القلوب حتى أصبح الشخص يلقى غيره بوجه طليق بشوش واستقبال حار ليثبت أخوته له، ولكنه في الخفاء مثل الأفعى والحية عدوٌ لدودٌ يُظهر خلاف ما يُبطن، إذا أُتيحت له فرصة في الظلام دون علم ذلك الشخص الآخر يهمّ بكل سوء ويقول فيه من الغيبة والنميمة والبهتان وقَوْل الزور ما الله به عليم، فهؤلاء الأصناف من الناس هم إخوان في العلانية وأعداء في السريرة، كما ورد في الأثر عن عمر رضي الله عنه، وذلك في تفسيرٍ لحديث يروى عن رسول الله وإن كان فيه ضعف إلا أن الواقع يصدقه، وهو رغبة بعضهم إلى بعض من أجل المصالح، قال: ((إن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة)) ، قال عمر: (وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة بعض الناس إلى بعض لصلاح دنياهم). وجاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قول رسول الله : ((يكون في آخر الزمان أقوام إخوان العلانية أعداء السريرة)) ، قال: يا رسول الله، كيف يكون ذلك؟ قال: ((برغبة بعضهم إلى بعض وبرهبة بعضهم من بعض)).
وهذا التناكر بين القلوب يصل حتى بين ذوي القربى والأرحام والجيران، وهذا حاصل لسوء المعاملة وهمُّ كل شخص وحرصه على مصالحه دون غيره، وظهور الفحش والتفحش في الكلام والأفعال. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن الرسول قال: ((لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة)).
ومن العلامات التي وقعت هذا الزمان في ديار الإسلام دخول بعض المسلمين إلى المساجد ولا يصلون ركعتين تحيةً للمسجد وتعظيمًا لشعائر الله واحترامًا لبيوت الله عز وجل، ويمرّون ويدخلون إما للفرجة والاطلاع في فنِّ العمارة أو لكتابة تقارير أو لأخذ صور، ولقد وصل الأمر في بعض البلاد الإسلامية إلى أن يدخل الكفار بعض المساجد لأخذ الصور من فنّ الزخرفة والنقوش والمعمار، فإذا حصل التهاون من المسلمين بأداء الركعتين عند مرورهم بالمساجد فلقد حصل أكبر من ذلك وهو ما أشرت إليه سابقًا في بعض البلاد الإسلامية، وأكثر من ذلك رأيته بنفسي حيث قام جماعة من العمال البوذيين بترميم مسجد وعمل ملحق له، والمسلمون يؤدون الصلاة وهم يدخنون في مؤخرة المسجد ويطالعون فيهم وهم على أخشاب وسقالات التَّلْيِيس والدهان، وأمر آخر هو قيامُ رجلٍ بُوذِيٍّ بالإشراف على بعض المساجد، فإذا وصل الأمر بالمسلمين إلى أن يستقدموا من يعبد البقر والنار لعمارة مساجدهم والإشراف عليها مع أنه لا يجوز استقدامهم أصلاً لا هم ولا غيرهم ممن يدين بغير الإسلام إلى هذه الديار، إذا وصل الأمر في حب الدنيا إلى هذا الحد والتهاون بأمر الدين وضعفه في النفوس وفي الواقع عندها فإن الأمر يكون من الخطورة بمكان ليس بالهيّن، فعلى من غلبت عليه المادة أن يتقي الله سبحانه وتعالى ويخاف من أليم عقابه إن عاجلاً أو آجلاً وحين لا تنفع ساعات الندم.
والدليل على ما ذكر من اتخاذ المسلمين للمساجد طرقًا قول رسول الله : ((إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد لا يصلي فيه ركعتين)) ، وفي رواية أخرى: ((أن يجتاز الرجل المسجد فلا يصلي فيه)) ، وعن أنس يرفعه إلى النبي قال: ((إن من أمارات الساعة أن تُتَّخَذَ المساجد طرقًا)).
ومن العلامات التي قد حصلت في بعض الديار ولا تزال تمنِّي الشخص الموت من شدة ما يلاقي من بلاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه)) ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول : ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمَرَّغَ عليه، ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء)). وهذا يقع من المسلمين حيث يتمنى أحدهم الموت من شدة البلاء، وليس من أجل إخلاصه وحبه لدينه كما يجب لأنه يعلم أنه لو انتحر وتخلص من حياته فمصيره إلى النار، فلذلك يريد الموت والتخلص من الحياة، وإلا فالمؤمن لا يجوز له أن يتمنى الموت لضرٍّ نزل به، للحديث الوارد في ذلك عن رسول الله حيث قال: ((لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ لِضُرٍّ نزل به، وإن كان لا بُدَّ فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمما أخبر به رسول الله أن تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا وجنانًا، أي: تكون فيها البساتين والأرض ذات الكلأ والعشب والأشجار من جميع الفواكه والخضروات مما تنبت الأرض، وقد فسر بعض العلماء هذا في القديم والحديث بتفسيرات وتأويلات عدة، منها: أن أرض العرب عمومًا الآن أصبحت مروجًا وأنهارًا، ومنها: الجزيرة العربية الآن قد منّ الله على أهلها بوفرة المياه في الصحراء في أعالي الجبال وفي القريب والبعيد حيث جلبت لها المياه على بعد مئات الكيلومترات وارتوت الأرض فضلاً عن الآبار الارتوازية العميقة حتى غدت كثير من الأراضي القاحلة الجرداء مروجًا وجنانًا خضراء بعد أن كانت يابسة لا ماء فيها ولا نبات، ومنهم من وقف عند دقة اللفظ في الحديث النبوي في قوله: ((حتى تعود)) أي: أنها كانت أنهارًا فعلاً وستعود كما كانت، وقد اكتشف من له عناية بعلوم الأرض في إحدى الجامعات بأن الأرض في المملكة بما فيها الصحراء والربع الخالي كانت فيها الأنهار تجري وسوف تعود بإذن الله، وقالوا كذلك عن زحف الثلوج من القطب المتجمد يؤدي إلى ارتفاع منسوب المياه في البحار، إلى غير ذلك من التأويلات والتفسيرات أيًا كانت، ونحن نؤمن بما ثبت عن رسول الله على أي حالٍ يكونُ فالله أعلم وأحكم. ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا)) رواه مسلم رحمه الله.
وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله قال في غزوة تبوك: ((إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي)) ، فجئناها وقد سبقنا عليها رجلان، والعين مثل الشراك تَبُضُّ بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله : ((هل مَسَسْتُما من مائها شيئًا؟)) قالا: نعم، فغضب النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثم عاده فيها فجرت العين بماءٍ منهمر ـ أو قال: غزير ـ حتى استقى الناس ثم قال: ((يوشك ـ يا معاذ ـ إن طالت بك الحياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانًا)). فهذا الحديث الصحيح فيه فوائد عظيمة، ولكن يهمنا الشاهد منه وهو قوله عن تبوك وتلك العين وما جاورها بأنها تكون فيها الجنان والأشجار ومن جميع الخضر والفواكه والمزروعات بعد أن كان لا يوجد بها إلا تلك العين التي لا تسيل إلا بماء يسير وقليل جدًا وأجراها الله على يديه عليه الصلاة والسلام، وها هي قد مُلِئ ما حولها بالجنان والبساتين والخضروات وملئت الأسواق على مئات الكيلومترات من خضرواتها وفواكه جنانها كما أخبر الرسول : ((يوشك إن طالت بك الحياة أن ترى ما ها هنا قد مليء جنانًا)). وصدق رسول الله الذي قال الله عنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4].
(1/5483)
علامات الساعة (7)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
12/8/1410
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علامات الساعة حجة على المعاندين الجاحدين. 2- آيات قرآنية عن الساعة وأشراطها. 3- من علامات الساعة انحسار الفرات عن جبل من ذهب. 4- من علامات الساعة استحلال البيت الحرام. 5- الغاية من ذكر أشراط الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخبر الله عز وجل منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة عن اقتراب الساعة وأن أشراطها أتت وبدأت من مئات السنين، وتلك العلامات والدلالات هي في حقيقتها إقناع وحجة على المكذبين بالقيامة والبعث والجزاء والحساب والعقاب والجنة والنار؛ ليزداد المؤمنون إيمانًا مع إيمانهم وليقفوا في وجه المعاندين المكابرين الجاحدين بالحجة والبرهان والأدلة القاطعة التي لا يمكن أن تكون من عند بشر وإنما هي من لدن حكيم خبير يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فسبحان ذي العزة والجبروت الذي قال في محكم تنزيله: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45].
وأعود للتذكير ببعض الآيات القرآنية عن الساعة وأشراطها واقترابها من أجل الربط بين القرآن والسنة وليرجع من أحب الرجوع إلى كتب التفسير والحديث، قال تعالى: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 1، 2]، وقال عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 1، 2]، وقال سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد: 18]، وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 42-45]، وقال سبحانه: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63]، وقال عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187].
فهذه الآيات بمجملها تدل على أن علم وقوع القيامة لا يعلمه إلا الله عز وجل، وإنما أعطى سبحانه وتعالى دلالات وعلامات واضحة في القرآن الكريم وفي سنة نبيه محمد على أنه لم يبق منذ بعثة الرسول محمد إلا الشيء القليل بالنسبة لعمر الدنيا وما سلف منها كما أخبر سبحانه وبحمده في قوله عز وجل: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد: 18].
ومن العلامات التي أخبر الرسول عن وقوعها أن ينحسر جريان ماء نهر الفرات الذي يمر بثلاث دول هي تركيا وسوريا والعراق حتى يلتقي بنهر دجلة ويصب في الخليج العربي، وانحساره وعدم جريانه هو خروج وبروز جبل من ذهب يقتتل الناس عليه مقتلة عظيمة، فَيُقْتل من كل مائة تسعة وتسعون، والله أعلم في أي الدول الثلاث يكون ولكن سوف يقع ذلك كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ، ولعل الذي حصل مع بداية هذا القرن الخامس عشر الهجري لتحويل ماء الفرات لمدة شهر بسبب دراسات جيولوجية كما يزعمون هو بداية لذلك فيما بعد والله أعلم، وقيل بأن الانحسار يظهر فجأة بثوران بركان في منطقة النهر يخرج منه الذهب من باطن الأرض حتى يكوّن جبلاً بارزًا من الذهب؛ لأنه من المعلوم أن المواد المنصهرة التي تخرج من باطن الأرض وهي في درجات حرارة عالية جدًا عندما تبرز إلى سطح الأرض وتتكون منها الجبال البركانية تبرد بعد ذلك. فعلينا أن نؤمن بأنه سوف يحسر نهر الفرات عن جبل من ذهب بأي كيفية يقدرها الله سبحانه وتعالى، سواء أدركنا ذلك الزمن أو لم ندركه حتى نكون من المؤمنين بالغيب الذين مدحهم الله وأثنى عليهم في كتابه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو)) ، وقال : ((يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا)) ، وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: كنت واقفًا مع أبي بن كعب فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا، قلت: أجل، قال: إني سمعت رسول الله يقول: ((يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون)).
وعلامة وقعت في اليوم الأول من شهر الله المحرم من عام ألف وأربعمائة من الهجرة النبوية الشريفة أخبر عن وقوعها رسولنا محمد ، وهي جزء من الحديث البليغ المروي عن نبينا وحبيبنا محمد الذي لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]. ولقد صنفه علماء الحديث مع هدم الكعبة ومع أحاديث المهدي لوجود الشاهد فيه على كل من ذلك، ولننظر إلى دقة الألفاظ في قوله: ((لرجل)) والواو التي هي حرف العطف، و(ثم) التي هي حرف عطف، ولكن وقوع ذلك بعد زمن طويل، أما الواو فلقد قُرِنَتْ بِـ(لَنْ) التأبيدية. ولنستمع إلى الحديث النبوي الشريف، عن سعيد بن سمعان قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يخبر أبا قتادة أن رسول الله قال: ((يبايَع لرجلٍ ما بين الركن والمقام، ولَنْ يَسْتَحِلَّ هذا البيتَ إلا أهلُه، فإذا استحلوه فلا تسال عن هلكة العرب، ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابًا لا يعمر بعده أبدًا، وهم الذين يستخرجون كنزه)).
وأقف مع بداية الحديث وأقول بأن هذا قد حصل كما أسلفت وكما ورد في ألفاظ الحديث بكل دقة، فقوله: ((يبايع لرجل)) نعم لقد حصل ذلك، والرجل هنا نكرة وليس بمعرفة كما هو الحاصل في أحاديث المهدي، لذا فقد حصل الخلط في تفسير وتأويل هذا الحديث لأنه موجود بين تلك الأحاديث، ولأن علماء الحديث لا يعلمون الغيب، وسياق ما فيه جعلهم يصنفونه مع تلك المجموعة، ولكن لننظر إلى أمر عجيب في هذا الحديث كما صوره رسول الله حيث ربط بين المبايعة عند الكعبة وبالتحديد بين الركن والمقام وبين أمر عظيم لم يتنبه له أكثر المسلمين وخاصة في هذا العصر الذي وقع أمامهم، فما ذلك الأمر الجلل؟ إنه استحلال حرمة البيت الحرام بالقتال فيه، وهو الحرم الآمن الذي يحرم تنفير صيده وقطع شجره والتقاط لقطته إلا لمن يعرفها وغير ذلك من الحرمات الأخرى التي يختص بها ساكنوه عن بقية بقاع الأرض فضلاً عن القتال فيه وانتهاك حرمته حيث لم يحلَّ إلا ساعة من نهار لرسول الله. وفي اللفظ نفسه دقة لفظة أخرى حيث ورد حرف العطف و(لَنْ) التأبيدية التي تدل على أنه لن يستحل حرمة البيت الحرام بالقتال فيه إلا أهله، وهم المسلمون، لا يستحله اليهود ولا النصارى ولا الشيوعيون ولا غيرهم من الطوائف قبل ذلك، بل يستحله المسلمون بالقتال فيه، ووقع ما أخبر به الرسول ، وأراد الله عز وجل أن ينفذ قضاؤه وقدره على وفق ما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فَخُيِّلَ إلى تلك الفئة بأن فيهم المهدي حتى يقع وينفذ الحديث حرفًا بحرف، ووقع ذلك وبقي (ثُمَّ) التي تفيد الترتيب وأمام ذلك سنوات طويلة بإذن الله، لأن نهاية الحديث تدل على أن خراب الكعبة على أيدي الحبشة عندما ينتهي مخزون الأرض من البترول وغيره من أنواع الوقود حيث لا طائرات ولا دبابات ولا صواريخ، بل تعود حال الناس في ذلك الزمان على ما كانت عليه، ويدل على ذلك أحاديث الدجال وقتال المسلمين لليهود وهدم الكعبة وغيرها من الأحاديث الصحيحة والواضحة للمتأمل في دقة ألفاظها، والله تعالى أعلم وأحكم.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أُصَيْلِع أُفَيْدِع يضرب عليها بِمِسْحَاتِه ومِعْوَلِه)). وفي رواية للبخاري: ((كأني أنظر إليه أسود أَفْحَج ينقضها حجرًا حجرًا)) يعني الكعبة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن الغاية والهدف من وراء الاستطراد في ذكر علامات الساعة ـ وإن كنا لم نأت بها جميعًا ـ أمورٌ متعددة، منها: أداء الواجب بإبلاغ رسالة الله والدعوة إليه عز وجل، والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والخروج من الإثم، والخوف من كتمان العلم الذي ينفع الله به الناس، والوصول إلى حقيقة مهمة وهي أن رسول الله الذي أخبرنا بتلك الأمور التي نراها بأعيننا ونعيشها ونسمع عنها في واقعنا ونراها رأي العين تلك الأمور التي كانت غيبًا فيما مضى من عهد رسول الله وصحابته أصبحت واقعًا مشاهدًا، نقول بأن الذي أخبرنا عنها ورأيناها هو الذي أخبرنا عن العلامات الكبرى وسوف يراها غيرنا ممن يشاء الله له أن يعيش بعدنا، وهو الذي أخبرنا عن عذاب القبر لمن كان من أهل النار، وعن نعيم القبر لمن كان من أهل الجنة، وهو الذي نزل عليه القرآن الكريم وأخبر عن نهاية هذا الكون الذي نألفه ونعيشه بنسف الجبال وبسّها حتى تكون كالعهن المنفوش وتسييرها في الفضاء الهائل الذي لا ندرك منه إلا الشيء اليسير، وعن تكوير الشمس وانكدار النجوم وحشر الوحوش وتسجير البحار وانفطار السماء وتناثر الكواكب وزلزلة الأرض لإخراج ما في باطنها من الأثقال، وبعثرة القبور وخروج الناس منها كالجراد المنتشر وشخوص الأبصار إلى السماء من هول الحساب والعقاب والخوف من الله عز وجل والخوف من الفضيحة يوم العرض على الله تبارك وتعالى، يوم يتخلى كل الناس بعضهم عن بعض، كل يريد النجاة بنفسه وينسى أقرب قريب له، الوالد يتخلى عن أولاده مع محبته لهم في الدنيا وعن أبيه وأمه وزوجته ويقول: نفسي نفسي، إن الرسول هو الذي أخبرنا بذلك سواء في الأحاديث الصحيحة أو في القرآن الكريم الذي ما زال محفوظًا بأمر الله عز وجل، وهو الذي أخبرنا عن النار وجحيمها وسلاسلها وأغلالها وسعيرها وزقومها وطعام أهلها وشرابهم جزاء بما كسب أهلها من الأعمال السيئة نعوذ بالله من ذلك، وهو الذي أخبرنا عن الجنة وما أعد الله لعباده المؤمنين المتقين فيها من أصناف النعيم والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ودخولهم لها بسبب أعمالهم الصالحة وطاعة الله ورسوله، نسأل الله النعيم المقيم في جنات النعيم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54، 55]، قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17].
إنَّ عَاَلَمَ الغيبِ الذي أُخبرنا عنه يجب علينا أن نشعرَ به ونعدَّ له العدة كأنه عَالَمُ شهادة نشهده ونعيشه ونعمل له كما نعيش ونعمل ونكدح لحياتنا الدنيوية الفانية قبل أن تأتي ساعات الندم والحسرة ويتمنى كل منا أن لو كان له حسنة واحدة أو حسنات ليبلغ بها الدرجات في الجنة أو لينجو بها من عذاب الله، إن المهلة أمامنا موجودة سواء طال عمر الشخص أو قصر للاستزادة من أعمال البر والخير ووجوهه بأي عمل يقرب الشخص إلى الله، حتى ولو كان قد أساء في حياته واقترف من الآثام ما لا يعلمه إلا الله ومات تائبًا بعد ساعات أو أيام فإن الله جل جلاله يتوب عليه ويبدله عن سيئاته تلك بالحسنات والأجر العظيم وغفران الذنوب وتكفير السيئات، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، وقال عز وجل: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
(1/5484)
علامات الساعة (8): ظهور المهدي
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
25/1/1424
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب البلاغ عن الله تعالى ورسوله. 2- أشراط الساعة الكبرى. 3- صفات المهدي. 4- الأدلة على خروج المهدي. 5- التحذير من تنزيل أحاديث أشراط الساعة على وقائع عينية. 6- المهدي عند أهل السنة وعند الفرق الضالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الأحاديث الواردة عن رسول الله عن العلامات والآيات والأشراط الدالة على قرب قيام الساعة كثيرة جدًا، فمنها ما قد مضى وانتهى، ومنها ما نعيشه نحن وعاصرناه، ولا تزال تتابع العلامات الوسطى ولم تنته إلى الآن وإلى أن يشاء الله تبارك وتعالى، ولكن هناك علامات كبرى إذا تتابعت ووقعت كان قيام الساعة، وهذا في آخر الزمان كما أخبر بذلك رسولنا محمد.
ومن الواجب على العلماء والدعاة والمرشدين والخطباء أن يبلغوا ما جاء عن رسول الله في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة حسب ما يفهمه عامة الناس وما يقتضيه الزمن والوقت الذي يعيشونه، وخاصة في زمن الفتن والحروب واستغلال أهل الضلال لنشر ضلالهم وباطلهم بين الناس، عليهم أن يبلغوا دين الله عز وجل حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، وهذا واجب عليهم لا يسلمون من عواقبه وإثمه إلا بإبلاغه للناس وعدم كتمان العلم الذي علموه من دين الإسلام، وإلا حق عليهم ما ورد من الوعيد الشديد في الكتاب والسنة، ومنها قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160]، وقول رسول الله : ((من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) رواه ابن حبان والحاكم، ورواه ابن ماجة بزيادة وتعريف أيضًا للعلم المقصود وحصره في أمر الدين: ((من كتم علمًا مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
روى الإمام مسلم رحمه الله من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه أنه قال: اطلع النبي علينا ونحن نتذاكر فقال: ((ما تذاكرون؟)) قالوا: نذكر الساعة، قال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات)) ، فذكر ((الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)) ، وفي رواية أخرى: ((ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس)).
وإذا ظهر أول علامات الساعة الكبرى فإن الآيات والعلامات الأخرى تتابع كتتابع الخرز في العِقْدِ أي: في النظام من الخرز والجوهر ونحوهما حيث يتبع بعضها بعضًا. وقد وردت السنة الصحيحة بذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((خروج الآيات بعضها على إِثْرِ بعض يتتابعن كتتابع الخرز في النظام)) رواه الطبراني صححه الألباني رحمه الله في الجامع الصغير، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : ((الآيات خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضًا)) رواه الإمام أحمد رحمه الله.
وقبل ظهور تلك العلامات الكبرى يخرج رجل من أهل بيت رسول الله اسمه المهدي، يؤيد الله به الدين، يملك سبع سنين أو تسعًا، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، تنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعمها من قبل حيث تخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء قطرها، ويعطي المال بغير عدد، وهذا الرجل يوافق اسمه اسم الرسول ، واسم أبيه كاسم أبي النبي ، فيكون اسمه محمد أو أحمد بن عبد الله، وأحمد مأخوذ من الحمد كما ذكر الله تعالى عن بشارة عيسى عليه السلام بأنه سوف يأتي رسول من بعده اسمه أحمد، فكلمة أحمد على صيغة أفعل مأخوذة من الحمد، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6].
والمهدي من ذرية فاطمة بنت رسول الله ، ثم من ولد الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين. وله صفة واردة في الحديث يعرف بها غير الاسم تفيد بأنه أجلى الجبهة أقنى الأنف، أي: أنه خفيف الشعر فيما بين الصدغين، لذلك فهو محسور شعر رأسه عن جبهته، وقَنَا الأنف أي: طول ورقة أرْنبته مع حدب في وسطه.
وقد وردت أحاديث صحيحة تدل على ظهور المهدي في آخر الزمان يجب على المسلم الإيمان بها، وهذه الأحاديث منها ما جاء فيه النص على المهدي الحقيقي، ومنها ما جاء ذكر صفته، ومنها ما وقع الخلط فيه في حادثة الحرم، وذلك حديث صحيح لا شك فيه وفي وقوعه، ولكن لم يتنبه لدقة ألفاظه أكثرُ من خلط وفسّر وتأول عند وقوع تلك الحادثة وبعدها. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحًا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعًا أو ثمانيًا)) يعني حججًا. وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني.
وقال رسول الله : ((أبشركم بالمهدي يبعث على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحا)) ، فقال له رجل: ما صحاحًا؟ قال: ((بالسويّة بين الناس)) ، قال: ((ويملأ الله قلوب أمة محمد غنى، ويسعهم عدله حتى يأمر مناديًا فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السّدّان ـ يعني الخازن ـ فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً، فيقول له: احْثِ، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفسًا، أَوَعجز عني ما وسعهم؟!)) قال: ((فيرده فلا يقبل منه، فيقال له: إنا لا نأخذ شيئًا أعطيناه، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده)) ، أو قال: ((لا خير في الحياة بعده)) رواه الترمذي وأحمد رحمهما الله تعالى.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المهدي منّا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة)) رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني في الجامع الصحيح. قال ابن كثير رحمه الله: "معنى ذلك: يتوب الله عليه ويوفقه ويلهمه ويرشده بعد أن لم يكن كذلك".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا، يملك سبع سنين)). رواه أبو داود وقال الألباني رحمه الله في صحيح الجامع: "إسناده حسن".
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((المهدي من عترتي من ولد فاطمة)) رواه أبو داود وابن ماجة وهو في صحيح الجامع.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض تكرمةَ الله لهذه الأمة)). قال ابن القيم رحمه الله: "إسناده جيد، وله شاهد بعد عدة أحاديث هنا من رواية الإمام مسلم رحمه الله".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه)) وهو في صحيح الجامع للألباني رحمه الله.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تذهب ـ أو: لا تنقضي ـ الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)) ، وفي رواية: ((يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي)) رواه أبو داود رحمه الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟!)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) ، قال: ((فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقول أميرهم: تعال صلّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة)) رواه مسلم.
وأيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيًا لا يعده عددًا)) أو قال: ((عدًّا)) رواه مسلم رحمه الله.
إن من واجب المسلم التورّع عن الفتيا وخاصة في الأمور الغيبية التي أخبر عنها رسولنا محمد والتي تكون قبل قيام الساعة، أما ما مرّ واتّضح لنا وضوحًا بينًا سواء في الحاضر الذي نعيشه أو في القديم فلا يحتاج إلى كثير بحث وتدقيق حيث كُفينا مؤونة ذلك.
ولقد توقفتُ كثيرًا عن تفسير وتأويل حديث صحيح رواه الإمام مسلم رحمه الله ونحن نعاصره الآن وتعيشه العراق ودخلت عليهم السنة الرابعة عشرة وهم على هذه الحال، ولكن ربما يكون المقصود غير ذلك، وإلا فهذا الحصار الاقتصادي الذي مُنع عنهم فيه أن يُجبى إليهم دينار أو درهم جدير بأن يكون تفسيرًا لهذا الحديث، وأذكره من أجل أن يكتسب المسلم الورع خاصة في الذي لم يقع بعد ولم يكن واضحًا كل الوضوح، مع أنه وقع الحصار الواضح فعلاً بعد هذا التاريخ السابق عندما أُسقطت حكومة صدام، ولا زال العراق وشعبه يعاني من ذلك، وكذلك الدول المجاورة والعالم بأسره يعاني من هذه الحروب وشرورها وتلك الحصارات والمحاصرة الاقتصادية هنا وهناك على هذه الدولة أو تلك، هذه الأساليب التي لا يزال يستخدمها الأعداء في القديم والحديث ومسلسلها مستمر وخاصة في هذه الأيام. عن أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله فقال: (يوشك أهل العراق أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم)، قلنا: من أين ذاك؟ قال: (من قِبَل العجم يمنعون ذلك) الحديث. لقد أردت من إيراد هذا الحديث التورّع وعدم الجزم بتطبيق أحاديث أشراط الساعة على حادثة معينة مع أن تطبيق هذا الحديث على الواقع واضح جدًا، وكذلك الحديث الذي سأذكره بعد قليل وقد وقع قبل ربع قرن من الآن؛ لذلك فإن الواجب على المسلم أن يؤمن بخروج المهدي في آخر الزمان، والله أعلم متى يكون ذلك، ولا يجوز له أن ينكر الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك ولا في غيره.
أما الحديث التالي ذكره فإنه قد وقع قبل أكثر من خمس وعشرين سنة تقريبًا أي: في بداية القرن الخامس عشر الهجري، ولا علاقة له بالمهدي الذي يكون في آخر الزمان وإن كان قد وُضع في بعض كتب الحديث بين أحاديث المهدي، فإن الأمر فيه واضح كل الوضوح لمن تأمله بكل دقة لعدة اعتبارات:
أولا: لأن الذي خصه الرسول بالمبايعة في الحديث نَكِرَة وليس معرفة، فقال: ((يبايع لرجل ما بين الركن والمقام)).
ثانيًا: ربط الرسول بين المبايعة لذلك الرجل وبين استحلال حرمة البيت الحرام لأنه لا يجوز القتال فيه ولم يُحل للرسول إلا ساعة من النهار يوم الفتح.، وأن استحلال حرمته بالقتال سوف يكون من قبل المسلمين وليس من قبل أي مشرك أو كافر أو ملحد، وربط بذلك بالواو وحرف العطف لكون ذلك في وقت واحد ومتقارب، أما نهاية الحديث الذي يفيد بخراب الكعبة فقد جاء فيه حرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب وأن ذلك سوف يكون في آخر الزمان كما فسر في أحاديث أخرى.
ثالثًا: أن المهدي لا يكون عند مبايعته أيُّ قتال، وذاك قد حصل فيه القتال كما هو معروف.
عن سعيد بن سمعان قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يخبر أبا قتادة أن رسول الله قال: ((يبايع لرجل ما بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابًا لا يعمر بعده أبدًا، وهم الذين يستخرجون كنزه)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وقال الألباني رحمه الله في الأحاديث الصحيحة: "إسناده صحيح".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: ففي الأيام التي سبقت الحرب على العراق وأيام الحرب كثر الكلام في السّرّ والعلن عن المهدي المنتظرِ خُروجه، وتمّ الترويج لأمره عبر وسائل الإعلام المختلفة، ووجدت الفرق الضالة مرتعًا خصبًا لنشر كذبهم وافتراءاتهم وعقائدهم الباطلة وتعبير الرؤى والأحلام الصادقة والكاذبة من خلال المنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، حتى اختلّت الموازين عند كثير من المسلمين نظرًا لما يُشاع ويتردد ذِكْرُهُ في المجتمعات ومن خلال تلك الوسائل التي كَثُرَ شرُّها وشرُّ القائمين عليها وما يُعرض فيها ويُكتب، وفي المقابل التقصير الحاصل من أهل الحق للاستغلال الأمثل لإزهاق الباطل ودمغه، ولكنّ عزاءنا بأن دين الإسلام الصافي النقي محفوظ بأمر الله عز وجل، ولا تزال طائفة من أمة محمد قائمة بالحق إلى قيام الساعة ومنصورة بإذن الله تبارك وتعالى لا يضرها من خذلها أو خالفها كما قال رسول الله : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم)) ، وفي رواية: ((من خذلهم أو عاداهم)) ، وكما ورد في الحديث السابق ذكره في الخطبة الأولى. وهذه الطائفة المنصورة هي المتمسكة بكتاب الله وسنة رسوله محمد وسنة الخلفاء الراشدين الأربعة، كما قال رسول الله : ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي)) ، وقال رسول الله : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)).
إن أهل السنة المتمسكين بالكتاب والسنة حقًا لا يجدون المعاناة التي يعانيها أتباع الفرق الضالة الذين يأخذون معتقداتهم وعباداتهم من مراجعهم كما يزعمون ويدَّعون، يأخذون ذلك دون معرفة بأدلتهم أو مناقشة لهم فيما هم عليه من الباطل، حتى أصبح يَصْدُق عليهم وينطبق قول الله عز وجل عن اليهود والنصارى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]. ذلك الغموض والتعتيم والسّرّية التي تتّبعها تلك الطوائف الضالة ليست موجودةً عند أهل السنة، فهذا كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد في متناول أيدي الجميع في المساجد والمدارس والمنازل والمكتبات العامة والخاصة، وليس هناك أيّ سرّية أو نصوص مخفيّة من الكتاب والسنة عن أيّ أحد من الناس، أما أصحاب الضلالات والأهواء والانحرافات فيدّعون زورًا وبهتانًا خلاف ذلك، وينشرون كذبهم وافتراءاتهم باحتراز وتقية ظاهرة، ولهم قوة عجيبة ودعم مادي ومعنوي من شياطين الإنس والجن مع علمهم بحديث رسول الله الذي قال فيه: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)).
أعود للقول بأن أهل السنة يؤمنون بالأحاديث الثابتة حول المهدي على النحو الذي ذَكَرْتُ فيه بعضَ الأحاديث في الخطبة وأنه على الأرجح في آخر الزمان قبل نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وفي زمن الدجال، وليس في زمن محدود وشهر وسنة معلومة كما تدّعيه الفرق الضالة المنحرفة عن الصراط المستقيم الذين يستغلّون الفرص حال الفتن والحروب لدعم باطلهم ونشر وإذاعة وإشاعة الأحاديث المكذوبة والموضوعة لاستغلال سذاجة كثير من المسلمين وعدم إدراكهم ومعرفتهم بكثير من أمور دينهم، فضلاً عن قلّة بضاعتهم في الأدلة عن الأمور الغيبية التي يدّعي أهل الضلال تفسيرها تبعًا لأهوائهم وباطلهم واعتقاداتهم السيئة التي لا تَمُتُّ بِصِلَةٍ إلى الإسلام النقي الصافي.
أهل السنة يؤمنون بالمهدي وأوصافه وفق ما جاء في الأحاديث الثابتة وبأن اسمه يوافق اسم الرسول محمد ، واسم أبيه يوافق اسم أبي الرسول محمد ، وبأنه من أهل بيت النبي من نسل فاطمة بنت رسول الله زوجة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، وهو أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يصلحه الله في ليلة، يملأ الأرض عدلاً وقسطًا بعد أن مُلِئَتْ ظلمًا وجَوْرًا، ومُلْكُهُ من سبع إلى تسع سنوات في آخر الزمان، يسقيه الله الغيث فتمطر السماء، وتنتفع الأرض بهذا المطر فتخرج نباتها وتكثر خيراتها وتعظم الأمة وتنعم نعمة لم تنعمها من قبل ويعطي المال صحاحًا وحثيًا بغير عدّ.
يؤمن أهل السنة بذلك كلّه وتلك الأوصاف وبخروجه من أي مكان خَرَج، ويؤمنون بأنه بَشَرٌ لا يضرُّ ولا ينفع، وأن ما يُجريه الله على يديه من الخير والأمن وكثرة الأموال وغيرها إنما ذلك بقدرة الله عز وجل، وأنه سبحانه هو الذي سخّرها له لتكون آية وعلامة ودلالة عليه، ويؤمنون أيضًا أنه لا يُدخِلُ أَحَدًا الجنة أو النار، وأن الذين يعيشون في زمنه ليس لهم أفضلية عن غيرهم من ناحية الإيمان إلا من ازداد إيمانه وخاصة من يثبت عند فتنة المسيح الدجال.
أهل السنة ليسوا ممّن أنكره أو بالغ في شأنه وأمره حتى ادّعوا وجوده منذ أكثر من أحد عشر قرنًا من الزمان، ومنهم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية الجعفرية الذين قالوا عنه بأن أمه حملت به ووضعته في لحظات من آخر الليل من عام 256هـ، وحَمْلُهُ وولادتُه تُشْبِهُ الحملَ والولادة بعيسى ابن مريم عليه السلام، وأن اسمه محمد بن حسين العسكري، واختفى عن الأنظار، وأنه من نسل الحسين بن علي رضي الله عنهما، وأنه على قيد الحياة ويدير شؤون الناس ولا يَصِلُهُ إلا الخاصة منهم، فهو حاضر في الأمصار، غائب عن الأبصار، يورث العصا ويختم الفضاء مما يدّعون ويزعمون، وأنه دخل سرداب سامراء وهم ينتظرونه كل يوم يقفون بالخيل عند باب السرداب يصيحون ويطلبون خروجه منذ 1173 سنة تقريبًا، هذه الضلالات والخرافات والأساطير التي يدّعيها أولئك القوم وغيرهم من الفرق الضالة ليست من الإسلام في شيء، علمًا بأنهم صرفوا أموالاً طائلة على مرّ السنين لنشر عقائدهم الباطلة، ولبسوا الملابس السوداء من عباءات وعمائم للتدليس على الناس حتى يملكوا العالم، وليتهم صرفوها هي وجهودهم في طريق الحق، ولذلك فهم يستغلّون الأوضاع الراهنة في الحرب وبعدها لإعلان باطلهم، مع أن أحاديث صحيحة تسبق ذلك وقد ذكرتُها مراتٍ في خطبٍ حول علامات الساعة الصغرى والوسطى والكبرى، وعِلْمُ ذلك عند الله عز وجل حيث لم يُطْلِعْ نبيّه ورسوله محمدًا عن وقت الساعة بالتحديد إلا ما كان من عموم الآيات القرآنية أو ما أوحاه إليه وأجراه على لسانه من إخبارٍ بما يقع بين يدي الساعة، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف 187، 188]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى 17، 18].
(1/5485)
علامات الساعة (9): الدجال
الإيمان
أشراط الساعة, اليوم الآخر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
8/8/1411
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة الدجال أعظم الفتن. 2- صفة الدجال ومكان خروجه وزمانه. 3- خروج الدجال. 4- العصمة من فتنة الدجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإذا نزل بالناس أمر غير مألوف لديهم كالحروب مثلاً التي تبدل أمنهم خوفًا فإنها تجعل الناس يذهبون كل مذهب في تفكيرهم واعتقادهم، بما فيهم كثير من المسلمين حيث ينساقون في التفكير مع أولئك القوم وينظرون للأمور نظرة سطحية لا تستند إلى كتاب أو سنة، بل قد يتيهون مع التائهين، ويتخبطون في الأمر الواقع وفي أمور الغيب مع المتخبطين، وتشرد أذهانهم ويسبح بهم خيالهم يمنة ويسرة، حتى إذا كلّوا وملّوا ناموا ثم عادوا من جديد، مثلهم في ذلك كغيرهم من الناس سواء بسواء، ولكنّ عباد الله المؤمنين المتقين يَزِِنُونَ الأمور بميزان الشرع، ويعودون إلى رب العزة والجلال منيبين إليه ضارعين متأملين فيما ورد في كتاب ربهم وفي سنة نبيهم محمد ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، ولتزكو نفوسهم ويذهب الران الذي قد يعلو قلوبهم، وينظرون إلى الموت وما وراءه في دار البرزخ وفي الآخرة من النعيم والعذاب، ويسارعون في الخيرات ويتداركون ما بقي من أعمارهم، فلا تمرُّ ساعة إلا ويستفيدون منها، ويقدّمون لأنفسهم ما يرفعهم به الله عز وجل، ويسألون الله المزيد من فضله، فما تزيدهم الفتن والبلايا والمحن إلا تمحيصًا وصقلاً كما يُصْقَلُ النحاس والحديد والفضة بالنار فيخرج منها نقيًا صافيًا أفضل وأنقى مما كان عليه قبل ذلك.
ولا أستطرد كثيرًا فاللبيب بالإشارة يفهم، ولكن عَوْدًا على بدء مع علامات الساعة وأشراطها لننظر فيما يجب اعتقاده من أمور الغيب، وليكون تطلعنا ونظرتنا واستعدادنا للآخرة التي ليس بين أحدنا وبينها إلا الموت، وما أقربه وأسرعه!
فالذي أخبر به الرسول محمد من أشراط الساعة وأماراتها حق يجب على كل مسلم ومسلمة اعتقاده، وقد ذكر عليه الصلاة والسلام أشراطًا كثيرة للساعة، منها ما مضى، ومنها ما هو حاضر، ومنها ما هو مستقبل، وقد سبق ذكر بعض ذلك، وأبلغ ما يكون من أشراطها وأعظمه فتنةً هي فتنة المسيح الدجال الذي لو ظهر فينا هذا الزمان لكان كثير من المسلمين من أتباعه لضعف عقولهم وسذاجة تفكيرهم وسرعة تصديقهم لما يقال ويشاع ويذاع، فعندما يقال أي خبر صدقًا كان أو كذبًا تجد سرعة انتشاره في المجتمع والتصديق به دون وعي أو تفكير أو تمحيص وروية، ويسري سريان النار في الهشيم، هذا في مجتمع الرجال، فما بالنا بالنساء ناقصات العقل والدين، كثير من المسلمين تجده كالريشة في مهب الريح تعصف بها يمينًا وشمالاً وتنقلها من مكان إلى آخر.
فالمؤمن لا بد أن يكون راسخًا في إيمانه وعقيدته وعمله وتفكيره، سائرًا على كتاب الله وسنة رسوله محمد ، عاملاً بهما داعيًا إليهما محتكمًا إليهما راضيًا بهما وبما فيهما، فلو قُدّر أن ظهر الدجال في هذا الزمان لما زاده إلا إيمانًا وثباتًا، وما أكثر الدجالين في هذا الزمان، أما الدجال الحقيقي ـ نسأل الله أن يعيذنا منه وأن لا يدركنا زمانه ـ فهو بعيد بإذن الله، ونموت وتموت بعدنا أجيال إذا شاء الله وهو لم يخرج، وذلك في علم الله عز وجل، فالرسول كان ينذر ويحذر الصحابة رضي الله عنهم من الدجال وكأنه في طرف المدينة، وقد مرّ على ذلك أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولم تُسْتَكمل العلامات الوسطى، والدجال من العلامات الكبرى الأخيرة التي تسبق نزول عيسى عليه السلام، ولكن لا بد من التذكير به وبشيء من علاماته وأوصافه، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن من علامات خروج الدجال ذهول الناس عن ذكره وعدم تفكيرهم فيه، وكذلك لا يتكلم عنه خطباء المساجد، وهذا ما نشاهده اليوم واقعًا في مجتمعات المسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق محمد حيث قال: ((لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر ) ) ذكره في مجمع الزوائد.
فالدجال رجل من بني آدم، له صفات كثيرة جاءت بها الأحاديث لتعريف الناس به وتحذيرهم من شره، حتى إذا خرج عرفه المؤمنون فلا يُفتنون به، بل يكونون على علم بصفاته التي أخبر بها الرسول محمد ، وتلك الصفات تميزه عن غيره من الناس، فلا يغتر به إلا الجاهل الذي سبقت عليه الشقوة، نسأل الله عز وجل العفو والعافية والوقاية من شره وفتنته.
فمن صفاته أنه رجل شاب أحمر قصير أفحج، جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وليست بارزة ولا غائرة، كأنها عنبة طافية، وعينه اليسرى عليها ظفرة غليظة، أي: لحمة نابتة فوق مقدمة العين عند المآقي، مكتوب بين عينيه: "كافر"، يقرؤها كل مسلم كاتب أو غير كاتب. ومن صفاته أنه عقيم لا يولد له.
وهذه الصفات وردت في عدة أحاديث، منها ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((بينا أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر ينطف أو يهراق رأسه ماء، قلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم، ثم ذهبت ألتفت فإذا رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين كأن عينه عِنَبَة طافية، قالوا: هذا الدجال، أقرب الناس به شبهًا ابن قطن رجل من خزاعة ) ) رواه البخاري ومسلم، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن مسيح الدجال رجل قصير أفحج جعد أعور مطموس العين، ليست بناتئة ولا جحراء، فإن أُلبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور ) ) رواه أبو داود، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين أجلى الجبهة عريض النحر فيه دفأ)) أي: انحناء. رواه أحمد. ومن حديث أنس وحذيفة رضي الله عنهما: ((وإن بين عينيه مكتوب: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ) ) رواه البخاري ومسلم.
وأما عن مكان خروج الدجال فمن جهة المشرق من خراسان من يهوديّة أصبهان، ويخرج معه ويتبعه سبعون ألفًا من يهود أصبهان، كما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله قال: ((الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان ) ) رواه الترمذي، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفًا من اليهود ) ) رواه أحمد.
وأما أتباعه فهم اليهود والعجم والترك وأخلاط من الناس، غالبهم من الأعراب والنساء، قال رسول الله : ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطيالسة)) رواه مسلم، وفي رواية للإمام أحمد: ((سبعون ألفًا، عليهم التيجان ) ). وورد في حديث أبي أمامة الطويل قوله : ((وأن من فتنته ـ أي: الدجال ـ أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بنيَّ، اتبعه فإنه ربك)) رواه ابن ماجة. وأما أتباعه من النساء فيكنّ أكثر من الأعراب وغيرهم؛ لسرعة تأثرهن وغلبة الجهل عليهن ونقصان عقولهن ودينهن، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ينزل الدجال في هذه السبخة بمرِّ قناةٍ ـ وادٍٍ بالمدينة ـ، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل يرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطًا مخافة أن تخرج إليه ) ) رواه أحمد.
والدجال لا يدخل مكة ولا المدينة كما جاء في الحديث الصحيح أن الدجال قال: ((فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو وحدًا منهما استقبلني مَلَكٌ بيده السيف صَلْتًا يصدّني عنها، وإن على كل ثقب ملائكة يحرسونها)) رواه مسلم.
ففتنة الدجال فتنة عظيمة نسأل الله أن يعيذنا منها وأن لا يدركنا زمانه، فالتعوذ منه أمر مطلوب في آخر الصلاة بعد التشهد كما ورد في الأحاديث الصحيحة، ويستطيع من يدركه زمانه أن يحفظ عشر آيات من سورة الكهف ويقرأها عليه فتعصمه من شره وفتنته بإذن الله عز وجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ) ) رواه مسلم، وعند البخاري رحمه الله من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) الحديث، وفي حديث النواس بن سمعان الطويل وفيه قوله : ((من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)) رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) رواه مسلم، أي: من فتنته، قال الله جل جلاله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايَ?تِ رَبّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَ?تِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَ?نِهَا خَيْرًا قُلِ ?نتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يسر لنا الأسباب المانعة من الافتتان والضلال، ووضح لنا الفتن وبين لنا الأسباب التي نتحصَّن بها أعظم بيان، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن المؤمنين لا يفتنهم الدجال ولا غيره، بل يزدادون إيمانًا مع إيمانهم، فالدجال رجل من بني آدم، لا يردّ عن نفسه ولا يجلب لها نفعًا ولا يدفع عنها ضرًا، حتى إن خلقته التي منها عَوَرُ عينه والظفرة التي على الأخرى لا يستطيع تغييرها، وكذلك عقمه، وغير ذلك من الصفات، وإنما جعل الله تلك الآيات التي معه فتنة للناس ليضل من ضلّ عن بينة ويزداد المؤمنون إيمانًا.
وأذكر الحديث التالي وفيه بعض الكلمات التي ضُبِطَتْ في كتب الحديث والشرح على حالات أذكرها كما وردت عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله الدجال ذات غداة فخفّض فيه ورفّع ـ أي: في صوته ـ حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ((ما شأنكم؟)) قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة فخفّضت فيه ورفّعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: ((غير الدجال أخوفني عليكم، إنْ يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارجٌ خلةً بين الشام والعراق، فعاثٍَ يمينًا وعاثٍ شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا)) ، قلنا: يا رسول الله، وما لُبْثُهُ في الأرض؟ قال: ((أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم)) ، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ((لا، اقْدُرُوا له قدره)) ، قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: ((كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذ ُ رًا وأسبغه ضروعًا وأمدّه خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيءٌ من أموالهم، ويمرّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئًا شبابًا فيضربه بالسيف فيقطعه جَزْلَتين رَمْيَة الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل من المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ـ أي: لابسًا ثوبين مصبوغين بورس ثم زعفران ـ، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطّر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسِهِ إلا مات، ونَفَسُهُ ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لُدٍّ فيقتله، ثم يأتي عيسى ابنَ مريمَ قومٌ قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان ـ أي: لا قدرة ـ ولا طاقة لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمرّ آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماءٌ، ويُحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم، فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا لا يَكِنُّ منه بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردّي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويُبارك في الرَّسْل حتى إن اللّقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
(1/5486)
خطبة عامة حول علامات الساعة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
1/3/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فناء الدنيا. 2- تذكير النبي أصحابه بعلامات الساعة. 3- أحاديث في أشراط الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الدنيا لم تُخلق للبقاء، ولم تكن دار إقامة، وإنما هي منزل من منازل الآخرة، جُعلت للتزود منها إلى الآخرة والتهيؤ للعرض على الله، وقد آذنت بالانصرام وولَّت، وكان حقًا على كل عالم وطالب علم أن يُشيع أشراطها وعلاماتها ويَبُثَّ الأحاديث والأخبار الواردة فيها بين الناس ويسردها مرة بعد الأخرى؛ لعل العباد ينتهون عن المعاصي والذنوب وتلين منهم القلوب وينتبهون من غفلتهم ويغتنمون المهلة التي أعطاهم الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا، قال الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1]، وقال تعالى: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1]، وقال تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63]، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17]، وقال عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف: 66]، وقال جل جلاله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد: 18].
لقد جعل الله عز وجل للساعة علامات تدل على قربها وانتهاء هذه الحياة الدنيا، ولا يعلم متى تقوم القيامة إلا الله وحده جل جلاله وتعالى سلطانه كما قال عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187]. ولكن الله جل ثناؤه أخبر رسولَه محمدًا بعلامات تدل على قرب وقوعها، وأخبر الرسولُ أصحابَه بهذه العلامات، ولقد كان يذكِّرهم بالقيامة وقربها ويحدثهم حتى عن العلامات الكبيرة ومنها الدجال حتى ظنّ الصحابة رضي الله عنهم أنه في طائفة النخل أي: طرف المدينة المنورة. ولقد آمنوا رضي الله عنهم وصدقوا بكل ما أخبرهم عنه إيمانًا وتصديقًا بالغيب، وهذا هو قمة الإيمان حيث يخبرهم عن المغيبات وهم أشد إيمانًا وثباتًا وعقيدة خالصة لله رب العالمين.
ونحن اليوم نرى صِدْقَ ما أخبر به الرسول الكريم أمام أعيننا يحدث تصديقًا لما أخبر به ولم تتحرك وتخشع منا القلوب! ولم تذرف الأعين وتدمع! ولم ننته عن الغي والآثام! فنشكو حالنا إلى الله تعالى وإنا لله وإنا إليه راجعون وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأقتصر هنا على ذكر بعض الأحاديث التي وقع تصديقها في هذا الزمن وليس كلها، ومن أراد الاستزادة فعليه الرجوع إلى مراجعها، وقد يستغرب بعض الناس طول بعض الأحاديث الواردة عن علامات الساعة وأماراتها وأشراطها مع أنه قد وردت أحاديث صحيحة توضح هذا الطول، حفظ ذلك من حفظه من الصحابة وجهله من جهله، ولا غرابة في هذا الطول خاصة إذا وردت الشواهد التي تعضد ألفاظه من الأحاديث الصحيحة أو من الواقع، ولقد أخبر الرسول محمد بما يكون إلى قيام الساعة وذلك مما أطلعه الله عليه من الغيوب المستقبلة، ولكنه لا يعلم متى تحدث تلك العلامات التي أخبر عنها إلا بما علمه الله إياه، ولا يعلم أيضًا متى تقوم الساعة ليعلم الناس أنه بشر يبلغ رسالة ربه ولا يعلم الغيب ولا يملك أن يدفع عن نفسه الضر والسوء ولا أن يجلب لها الخير إلا أن يشاء الله ذلك، قال الله جل جلاله: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 187، 188]، وقال عز وجل: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63]، وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 42-46].
عن حذيفة رضي الله عنه قال: لقد خطبنا النبي خطبة ما ترك فيها شيئًا إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجلُ الرجلَ إذا غاب عنه فرآه فعرفه. رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. وقال أيضًا رضي الله عنه: أخبرني رسول الله بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله: ما يخرج أهل المدينة من المدينة؟ رواه مسلم رحمه الله،.
ولقد خطب رسول الله ساعات طويلة من النهار ليبين للصحابة رضي الله عنهم ما كان وما سيكون، عن عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فَأَعْلَمُنا أَحْفَظُنَا. رواه مسلم.
وورد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قوله: والله، إنني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله أَسَرَّ إليَّّ في ذلك شيئًا لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله قال وهو يحدث مجلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله وهو يعدّ الفتن: ((منهن ثلاث لا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شيئًا، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار)) ، قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري. رواه مسلم،.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((ستكون فتن يفارق الرجل فيها أباه وأخاه، تطير الفتنة في قلوب رجال منهم إلى يوم القيامة حتى يُعَيَّرَ الرجل فيها بصلاته كما تُعيّر الزانية بزناها)).
وقال : ((لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر)) صححه الهيثمي في مجمع الزوائد.
وقال : ((والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى يكلم السباعُ الإنسَ، ويكلم الرجلَ عذبةُ سوطه وشراكُ نَعْله، ويخبره فخذُه بما أحدث أهلُه بعده)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا)) رواه مسلم رحمه الله.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، القاعد فيها خير فيها من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دُخل على أحدكم فليكن كخير ابنَي آدم)) رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأً أو معاذًا فليعذ به)) رواه البخاري رحمه الله.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: ((ابتليتم بفتنة الضراء وصبرتم، وستبتلون بفتنة السراء، وأخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسوّرن الذهب والفضة ولبسن رياط الشام وعصب اليمن فَأَتعَبْنَ الغنيّ وكَلَّفْنَ الفقير ما لا يجد)).
وعن علي رضي الله عنه مرفوعًا: ((يأتي على الناس زمان همتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم، ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شرار الخلق، لا خلاق لهم عند الله)).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم)) رواه الإمام أحمد رحمه الله، قال أحمد شاكر رحمه الله: "إسناده صحيح".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
وقال : ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع))، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!)) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام)) رواه البخاري والنسائي رحمهما الله تعالى.
وقال : ((ولتتركنّ القِلاص فلا يُسعى عليها)) أي: الجمال لا أحد يركب عليها لاستغنائهم بالسيارات والطائرات وغيرها من وسائل النقل.
وورد أيضًا: ((يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدهم جروًا ـ أي: ولد كلب ـ أحب إليه من أن يربي ولدًا لصلبه)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أُفُقٍ كما تداعى الأكلة على قصعتها)) ، قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذٍ؟ قال: ((أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويقذف في قلوبكم الوهن)) ، قلنا: وما الوهن؟ قال : ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من اقتراب الساعة إذا رأيتم الناس أضاعوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكبائر، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيدوا البناء، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، واتخذوا القرآن مزامير، واتخذوا جلود السباع صِفافًا، والمساجد طرقًا، والحرير لباسًا، وكثر الجور، وفشا الزنا، وتهاونوا بالطلاق، وائتمن الخائن، وخوّن الأمين، وصار المطر قيضًا، والولد غيظًا، وأمراء فجرة، ووزراء كذبة، وأمناء خونة، وعرفاء ظلمة، وقلت العلماء، وكثرت القراء، وقلت الفقهاء، وحلّيت المصاحف، وزخرفت المساجد، وطوّلت المنابر، وفسدت القلوب، واتخذت القينات، واستحلت المعازف، وشربت الخمور، وعطلت الحدود، ونقصت الشهور، ونقضت المواثيق، وشاركت المرأة زوجها في التجارة، وركب النساء البراذين، وتشبهت النساء بالرجال والرجال بالنساء، ويحلف بغير الله، ويشهد الرجل من غير أن يستشهد، وكانت الزكاة مغرمًا والأمانة مغنمًا، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأقصى أباه، وصارت الإمارات مواريث، وسب آخر هذه الأمة أولها، وأُكْرِم الرجل اتقاء شره، وكثرت الشرط، وصعدت الجهال المنابر، ولبس الرجال التيجان، وضُيِّقتْ الطرقات، وشيد البناء، واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وكثرت خطباء منابركم، وركن علماؤكم إلى ولاتكم فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال وأفتوهم بما يشتهون، وتعلم علماؤكم العلم ليجلبوا به دنانيركم ودراهمكم، واتخذتم القرآن تجارة، وضيعتم حق الله في أموالكم، وصارت أموالكم عند شراركم، وقطعتم أرحامكم، وشربتم الخمور في ناديكم، ولعبتم بالميسر، وضربتم بالكبر والمعزفة والمزامير، ومنعتم محاويجكم زكاتكم ورأيتموها مغرمًا، وقتل البريء ليغيظ العامة بقتله، واختلفت أهواؤكم، وصار العطاء في العبيد والسقاط، وطففت المكاييل والموازين، ووليت أموركم السفهاء)).
ومن العلامات أيضًا: ((لا تزال الأمة على شريعة حسنة ما لم تظهر فيهم ثلاث، ما لم يقبض منهم العلم، ويكثر فيهم ولد الخبث ـ وقيل: الحنث ـ، ويظهر فيهم الصقارون)) ، قالوا: وما الصقارون؟ قال: ((نَشْوٌ في آخر الزمان تحيتهم بينهم إذا تلاقوا التلاعن)). وهذا كثير اليوم بين السفلة حيث يبدأ أحدهم بشتم صاحبه ولعنه ولعن والديه قبل أن يسلم عليه، وقد لا يسلم عليه البتة لأنهم لا يعرفون السلام.
ومن العلامات أيضًا: ((لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتًا يوشونها وَشْيَ المراجيل)) أي: يخططونها كتخطيط الثياب المعلمة، وهذا هو الحاصل الآن ويراه كل شخص من حيث التخطيط والزخرفة والتطاول في العمارات المتجاورة أو البعيدة في الحي نفسه أو في المدينة أو في القرية حتى يحصل التفاخر بين أصحابها وفي المجتمع، وبذلك يقع ما أخبر عنه رسولنا محمد في الحديث السابق والآتي ذكره وغيرهما قال : ((وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعَاءَ الشَّاء يتطاولون في البنيان)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وبحمده وأشكره وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن ما أذكره من علامات وأشراط للساعة إنما هي علامات نعيشها الآن، وهي ما تسمى بالعلامات الوسطى، والتي تعقبها العلامات الكبرى، وقد سبقتها العلامات الصغرى، وأكتفي بذكر الحديث المروي عن ابن عباس وله شواهد في كثير من ألفاظه في أحاديث صحيحة، والواقع يصدقه حيث حصل كثير مما ورد فيه وفي غيره، والله أعلم وأحكم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما حج النبي حجة الوداع أخذ بحلقتي باب الكعبة ثم أقبل بوجهه على الناس فقال: ((يا أيها الناس)) ، قالوا: لبيك يا رسول الله، تفديك آباؤنا وأمهاتنا، ثم بكى حتى علا انتحابه، فقال: ((يا أيها الناس، إني أخبرتكم بأشراط القيامة، وإن من أشراط القيامة إماتة الصلوات، واتباع الشهوات، والميل مع الهوى، وتعظيم رب المال)) ، قال: فوثب سلمان فقال: بأبي أنت وأمي إن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء مما يرى ولا يستطيع أن يغير)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي إن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، إن المؤمن ليمشي بينهم يومئذٍ بالمخافة)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يكون المطر قيظًا ـ أي: في وقت الحر والقيظ ـ، والولد غيظًا ـ أي: يفعل ما يغيظ أبويه ـ، ويفيض اللئام فيضًا ـ أي: يكثرون ـ ويغيض الكرام غيضًا)) ـ أي: يَقِلُّونَ ـ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، للمؤمن يومئذٍ أذل من الأَمَة، فعندها يكون المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، ويؤتمن الخائن ويخوّن الأمين، ويصدّق الكذاب ويكذّب الصادق)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يكون أمراء جَوَرَة، ووزراء فسقة، وأمناء خونة، وإمارة النساء، ومشاورة الإماء، وصعود الصبيان المنابر)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم، وإن سكتوا استباحوهم، ويستأثرون بفيئهم، ولَيَطَؤُونَ حَرِيمهم، ويُجَار في حكمهم، ويليهم أقوام جثثهم جثث الناس وقلوبهم قلوب الشياطين، لا يوقرون كبيرًا، ولا يرحمون صغيرًا)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس والبيع، وتحلى المصاحف، ويطيلون المنابر، ويكثر العقوق، قلوبهم متباغضة، وأهواؤهم جمة، وألسنتهم لمختلفة)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يكون الكذب ظرفًا، والزكاة مغرمًا، ويظهر الرشا، ويكثر الربا، ويتعاملون بالعينة، ويتخذون المساجد طرقًا)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها تتخذ جلود النمور صفوفًا، يتحلى ذكور أمتي بالذهب، ويلبسون الحرير، ويتهاونون بالدماء، وتظهر الخمور والقينات والمعازف، وتشارك المرأة زوجها في التجارة)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده يا سلمان، يطلع كوكب الذنب، ويكثر السيجان، ويتكلم الرويبضة)) ، قال سلمان: وما الرويبضة؟ قال: ((يتكلم في العامة من لم يكن يتكلم، ويحتقن الرجل للسمنة، ويُتغنى بكتاب الله عز وجل، ويتخذ القرآن مزامير، ويباع الحكم، ويكثر الشرط)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، يحج أمراء الناس لهوًا وتنزهًا، وأوساط الناس للتجارة، وفقراء الناس للمسألة، وقراء الناس للرياء والسمعة)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يُغار على الغلام كما يُغار على الجارية البكر، ويُخطب الغلام كما تخطب المرأة، ويُهيأ كما تتهيأ المرأة، وتتشبه النساء بالرجال، ويتشبه الرجال بالنساء، ويكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وتركب ذوات الفروج السروج، فعليهن من أمتي لعنة الله)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، يظهر قرّاء عبادتهم التلاوم بينهم، أولئك يسمون في ملكوت السماء الأنجاس الأرجاس)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يتشبب المشيخة، وإن الحمرة خضاب الإسلام، والسواد خضاب الشيطان)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يوضع الدين، وترفع الدنيا، ويشيد البناء، وتعطل الحدود، ويميتون سنتي، وعندها ـ يا سلمان ـ لا يرى إلا ذمًّا، ولا ينصرهم الله)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وهم يومئذٍ مسلمون كيف لا ينصرون؟! قال: ((يا سلمان، إن نصرة الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن أقوامًا يذمّون الله تعالى، ومذمتهم إياه أن يشكوه، وذلك عند تقارب الأسواق)) ، قال: ((عند كسادها كل يقول: ما أبيع ولا أشتري ولا أربح، ولا رازق إلا الله تعالى)) ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، عندها يجفو الرجل والديه ويبر صديقه، ويتألفون بغير الله تعالى، ويحلف الرجل من غير أن يستحلف، ويتحالفون بالطلاق، يا سلمان لا يحلف بها إلا فاسق، ويفشو الموت موت الفجأة، ويحدث الرجلَ سوطُه)) ـ أي: عما أحدث أهله بعده ـ، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟! قال: ((إي والذي نفسي بيده، تخرج الدابة، وتطلع الشمس من مغربها، ويخرج الدجال، وريح حمراء، ويكون خسف ومسخ وقذف، ويأجوج ومأجوج، وهدم الكعبة، وتمور الأرض)).
(1/5487)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
13/8/1405
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت نهاية كل مخلوق مهما علا شأنه. 2- الميت رهين عمله. 3- حال الكافر عند قبضه وبعدها. 4- ضمة القبر. 5- ماذا يتبع ابن آدم في قبره؟ 6- الموت قريب من كل حي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أكبر واعظ هو الموت الذي قدره الله على خلقه وكتبه على عباده، وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام، فما من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره إلا والموت نازل به وهو خاضع لسلطانه، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]. إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس، حقيقة أن الحياة على هذه الأرض موقوتة ومحدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتمًا، ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه رسولنا محمد ، كيف لا وقد نعاه الله إلى نفسه صراحة وذكّره بدنو أجله تلميحًا وأعلم الناس ببشريته وأنه لا بدّ له من مفارقة الحياة الدنيا؟! قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30، 31]، وقال جل جلاله: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء: 34]، وقال عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر]، وقال سبحانه وبحمده: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144].
إذًا فالموت حتمٌ لا محيص عنه ولا مفرّ منه، قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78]، يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت المؤمنون ويموت الفاسقون والمنافقون والكافرون والملحدون، يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص، يصل الموت للجميع تحت الماء وفوق الهواء وفي السماء، لا ينجو منه ملائكة ولا إنس ولا جان ولا طير ولا حيوان ولا دابة على الأرض، الكلّ يموت، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]، كل نفس تذوق الجرعة وتفارق هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، فكم شهدت الدنيا كثيرًا وكثيرًا ممن عمروها من الأمم السابقة أكثر مما عمرناها نحن، الذين كانوا فيها أعزة أقوياء أغنياء منعّمين يأمرون بما يشاؤون من إصلاح وأمر ونهي، فتعجلتهم أحداثها قبل ذلك، أو طوتهم المنون فحيل بينهم وبين ما يشتهون، لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وأصبحوا مرتهنين لأعمالهم، ينتظرون وضع الموازين من لدن أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي لا يظلم مثقال ذرة: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]، والذي يقول وقوله الحق: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
كم شهدنا نحن وفقدنا من أقران كانوا بالأمس معنا وآخرين يكبروننا سنًا، لقد كانوا زينة المجالس وبهجة القلوب وأنس النفوس، الصالحون منهم يذكروننا بالله وأيامه، فأين هم اليوم؟! قد ضمتهم اللحود وخلت منهم ثغَرُ الإصلاح ومواطن الركوع والسجود، ولو نطقوا لقالوا: يا إخواننا تزودوا فإن خير الزاد التقوى، فنحن سلفكم وأنتم في الأثر، ولقد جاءكم من الأنباء ما فيه مزدجر. وفقدنا آخرين من المسلمين تختلف طبقاتهم في العمل الصالح مما يراه الناس، فأين هم الآن؟! إنهم في الحياة البرزخية التي لا بد لكل بني البشر من الحياة فيها حتى تقوم الساعة.
إن القبر أول منازل الآخرة، ومن مات فقد قامت قيامته الصغرى، وإن العبد إذا قُبر عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ويفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، وأما الكافر فيضرب بمطارق من حديد، ويضيّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، قال الله عز وجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99،100]، وقال تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [ق: 19]، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 11]، كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26-30]، فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة: 83-87].
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: ((تعوّذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اُخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان)) ، قال: ((فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منه كأطيب نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض)) ، قال: ((فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوها إلى الأرض في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: رسول الله، فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته، فينادي منادٍ من السماء أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة)) ، قال: ((فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره)) ، قال: ((ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الحسن يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة، ربّ أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي)) وذلك لفرحه ولما يرى من النعيم فهو يتمنى قيام الساعة. قال: ((وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة، سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اُخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتَفرّقَ في جسده، فينتزعها كما ينتزع السّفّود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الريح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فلا يفتح له)) ، ثم قرأ رسول الله : لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم تطرح روحه طرحًا)) ، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31]، (( فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍٍ من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يَسُوؤُكَ، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربّ لا تقم الساعة)) ؛ وذلك لأن عذاب القبر أهون عليه، ولأنه يعرف نزله في الآخرة وأنها النار وبئس القرار، فهو لا يرغب في قيام الساعة.
ولننظر إلى العبد الكافر والمنافق والذي ليس مثبَّتًا ولا موفَّقًا للخير هل تنفعه بلاغته في الدنيا؟! هل تنفعه شهاداته ولو كان معه جميع الشهادات العالمية في الدنيا؟! وهل يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة؟! أين شهاداته؟! أين بلاغته؟! أين فصاحته؟! أين جاهه؟! أين سلطانه؟! أين ماله؟! إنه لا يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة ولو كان أعلم أهل الأرض، أما المؤمن وإن كان من أجهل الناس ولا يحمل شهادة ولا يقرأ ولا يكتب فإن الله يثبته ويلهمه الجواب، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله : ((إن العبد إذا وُضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)) ، قال: ((فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟)) قال: ((فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة)) ، قال نبي الله : ((فيراهما جميعًا)). قال قتادة: وذكر أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا ويُملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، ثم رجع إلى حديث أنس قال: ((وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري،كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) أي: الجن والإنس. وفي حديث آخر: ((فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه فلا يزال فيها معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)). وإن للقبر ضغطة وضمَّة لا ينجو منها أحد، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجيًا منها لنجا سعد بن معاذ)).
فعلينا أن نتقي الله تعالى ونتذكر الموت ونتذكر يوم النقلة والرجوع إلى الله وماذا سَنَقْدُمُ عليه به، يوم أن نُودَعَ الثرى ويتخلى عنا الأهل والأصدقاء، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل: 111]، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر: 23، 24]، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]. نتذكر ذلك دائمًا ونأخذ من قوتنا وعزنا لضعفنا وذلّنا، ونأخذ من سعتنا وغنانا لضيقنا وفقرنا، نأخذ من عافيتنا وحياتنا لبلائنا وموتنا، نستعد ليوم تعنو فيه الوجوه للحي القيوم، وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه: 111]. علينا أن نتذكر أننا سائرون إلى الله، في كل يوم تغيب فيه الشمس نحن نسير خطوة، نحن نسير إلى الله، ولن يعود هذا اليوم بعمله إلا يوم القيامة يوم ينظر المرء ما قدمت يداه حيث يجد كل ما عمله محضرًا، قال الله جل جلاله وتعالى سلطانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30]، فأين الفرار من الله إلا إليه؟! أين الفرار من الله إلا إليه؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر: 55-61].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، أحمده سبحانه خلق الموت والحياة ليبلو عباده أيهم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الله جلت قدرته لم يوجدنا في هذه الدنيا للدوام والبقاء فيها، ولكن للحياة الأبدية في الآخرة التي أول مراحلها الحياة البرزخية، فما من نفس خلقها الله تبارك وتعالى إلا وهي ذائقة الموت مهما طال عمرها أو عظم شأنها أو كثر مالها وولدها، وإنه ليجدر بالعاقل الذي علم أنه أُوجد في هذا الكون وخُلق لحكمة وأنه سيموت بعد هذا الإيجاد ولا يدري في أي أرض أو في أي ساعة يموت، وأنه لن ينفعه ويصحبه إذا انتقل من هذا العالم الدنيوي إلى ذلكم العالم الأخروي بعد الحياة البرزخية إلا ما قدمه في حياته من برٍّ وخيرٍٍ وهدى، يجب عليه أن ينظر دائمًا نظر المستزيد إلى ما قدمه لغده، إلى ما ينفعه عند الله ما دام حيًا سويًا صحيحًا شحيحًا يخشى الفقر ويأمل الغنى امتثالاً لأمر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18]، يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ: 40]، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، وقول رسول الله : ((إذا مات ابن آدم تبعه ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان: المال والأهل، ويبقى واحد وهو العمل)) ، وقوله : ((إذا مات ابن آدم قالت الملائكة: ما قدّم؟ وقال الناس: ما أخّر؟)) وقوله: ((مَنْ ماله أحبّ إليه من مال وارثه؟)) قالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: ((مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر)). نعم، إن مال الإنسان هو الذي يقدمه لنفسه في أعمال الخير والصلاح ويكون له في آخرته حسنات.
وليتذكر المؤمن هذه الأحاديث الشريفة عن المصطفى ، وأنه إذا مات فإن المال لا يسير معه خطوة واحدة، فأين المراكب والسيارات الفخمة؟! وأين القصور الشامخة والردهات الفسيحة والبساتين الخضراء والمدائن الغناء؟! أين الأموال العريضة والخدم والحشم؟! أين المراتب والمناصب؟! لقد ترك كل ذلك وراء ظهره لأهله وورثته، وليس له إلا ما قدّم، ثم أين الأهل؟! إنّ أغلى ما يملكون أن يصحبوه ويشيعوه إلى قبره ولا يستطيع أحد أن يجلس معه ساعة داخل قبره، إذًا أين الأولاد؟! أين الزوجات؟! أين الوجوه الناضرة؟! أين الأجسام الناعمة والمترفة؟! إنهم يتخلّون عنك يا ابن آدم، ولا يبقى معك إلا عملك الذي قدمت لآخرتك، ويكون أنيسك في قبرك وتكون وحيدًا فريدًا كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94]، وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 47-49].
فتذكر ـ يا ابن آدم ـ الموت وأنك ستغادر هذه الحياة مهما طال عمرك ومهما بلغت من المناصب، فلن يطول بك البقاء في هذه الحياة الدنيا، قال رسول الله : ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل منهم من يتجاوز ذلك)). نعم، لو طاف طائف بعد مائة على ظهر الأرض لما وجد بها أحدًا ممن هم أحياء الآن إلاَّ ما ندر، سوف يتساقطون ويأتيهم الموت، سوف يتساقط الملوك والرؤساء والعظماء والوزراء والأمراء والعرفاء والعلماء والجهلاء والأغنياء والفقراء والأطباء والمعلمون والموظفون والمديرون والمتبخترون والمتكبرون والظالمون والمؤمنون والعمال والقادة والضباط والجنود والصعاليك والصغار والكبار والذكور والإناث، كل هؤلاء يتساقطون ويموتون، ولا يخرج أحدهم من هذه الدنيا إلا بلفائف من القماش ثم يُوارى في التراب ومعه عمله الذي يكون معه في قبره، ويكون في قبره في الحياة البرزخية إما منعمًا وإما معذبًا حتى تقوم الساعة، أين فلان؟! أين بنو فلان؟! أين القبيلة الفلانية؟! كلهم قد ذهبوا، كلهم قد ماتوا، كلهم قد غادروا، ونحن من أولئك المغادرين، قال تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم: 98].
فيا أيها المؤمنون، اغتنموا المهلة التي أعطاكم الله في هذه الحياة الدنيا قبل مفاجأة الأجل، إن المهلة كافية لكي يرجع كل منا إلى الله وينيب إليه ويتوب ويرجع عما أساء ويقدِّم لنفسه خيرًا، لنغتنم المهلة قبل فواتها وقبل أن تأتي ساعات الندم والحسرة ولات ساعة مندمٍ، وتذكروا دائمًا أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا، توبوا إلى الله وارجعوا إليه سبحانه، فالله يقبل توبة التائبين، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(1/5488)
بعض أحكام الجنائز
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الجنائز
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
17/10/1421
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر الغفلة في حياة المسلمين. 2- مشروعية زيارة المقابر. 3- آداب زيارة المقابر. 4- فضل اتباع الجنائز. 5- مشروعية العزاء. 6- المحظورات المتعلقة بالعزاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد سبق الحديث في الجمعة الماضية عن الموت وعظاته، ونظرًا لانشغال كثير من المسلمين اليوم بدنياهم عن آخرتهم ولقلة الاعتبار والاتعاظ وكذلك التذكير بهذا وبما يتعلق بالحياة البرزخية وقبل الموت وبعده لذلك ولغيره فإن الواجب هو التذكير به وبما يتعلق به من أحكام بين حين وآخر.
والمسلمون اليوم في جميع البقاع يعيشون بين تفريط وإفراط، وقليل منهم من يوافق السنة، وواقع بلادهم كذلك، فتجدهم يهتمون بأمور الدنيا مثل جميع أهل الملل، وهذا لا غبار عليه ما دام في حدود الشرع، لكن اهتماماتهم وترتيباتهم ومخططاتهم واقتصادياتهم وُضعت للدنيا، واهتموا بها اهتمامًا زائدًا، ووفروا كل الوسائل والسبل الممكنة التي تكفل لهم العيش والحياة الكريمة على وجه الأرض، ولكن هل رأينا اهتمامًا من أحد كائنًا من كان ممن له مكانته في التخطيط والتنفيذ بإيجاد المقابر خاصة في المدن؟! لا وألف لا، والواقع شاهد لا يحتاج إلى برهان وإثبات، والمسلمون في ذلك سواء عالمهم وجاهلهم وأميرهم ومأمورهم وغنيهم وفقيرهم غافلون عن هذا الأمر، وقلّ من يتذكر أو يعتبر ومن الممكن أن لا يتجاوز اعتباره لحظات بعد الانتهاء من دفن الميت.
ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة تجعل الناس في غفلة إلى جانب اهتمامهم وانشغالهم بالمنصب على الدنيا، ومنها: عدم زيارتهم للقبور التي تذكرهم بالآخرة، وذلك لعدم توفرها في الأحياء وخاصة في المدن، فتجد المدينة الكبيرة التي حظيت باكتمال جميع الخدمات والمرافق لا يوجد فيها إلا مقبرة واحدة أو مقبرة على بعد عشرات الكيلومترات عن المدينة، حيث نُفيت بعيدًا عن الأنظار، وكأن الأموات من المسلمين يشبهون القمائم والنفايات، أو أن ذلك لا يتفق مع المدنية المتخلفة حقيقة؛ لأن التقدم الحقيقي في تطبيق تعاليم الإسلام، كلّ ذلك وغيره كان سببًا رئيسيًا في عدم تذكُّر المسلمين للموت وعدم مطالبتهم بإيجاد منازل لهم في حياتهم البرزخية ومساكن طولُها متران في نصف المتر، يشترون الأراضي الطويلة العريضة ويطلبون المنح ويبنون المساكن ولم يطلب أحدٌ منزلاً له تحت الأرض، بل قد يدفن مع غيره وجُثَّةُ مَنْ قَبْلَهُ لم يَمْضِ عليها إلا أشهرٌ قليلةٌ مع أن المشروع هو وجود قبر لكل مسلم، وقد تكون الرائحة صادرة من القبور عند فتحها وإدخال آخرين إليها، أين المحسنون والأغنياء الذين يسارعون لبناء المساجد والأربطة وفعل الخيرات عن هذه المشاريع القليلة في كُلْفتها وهي عظيمة الأجر بإذن الله؟! ألا وهي شراء الأراضي المناسبة وتسويرها وتزويدها بما يلزم حسب المشروع في اللحد والشق المناسب لطبيعة الأرض، وما يتم إنفاقه على مسجد واحد يكفي لعشرات المقابر، بل المئات منها.
وهذه دعوة من الأعماق أرجو أن تلقى النفوس المستجيبة الْمُسارِعة للخيرات حتى يكونوا قدوة لغيرهم في الخير، والغريب في الأمر في مجتمعات المسلمين تجد المخططات الواسعة التي اهتم واضعوها ومخططوها بإيجاد جميع المرافق من مدارس ومراكز صحية وإدارات حكومية وماء وكهرباء وهاتف ومساجد وحدائق وملاعب، ولكن لا توجد مقبرة واحدة في أي مخطط حديث كأنهم لن يموتوا! أو أنه من العار الذي يخجلون منه وجود مقبرة في وسط الأحياء، أو لأسباب أخرى لا يتناسب المقام مع ذكرها.
ومع نُدْرة وقِلَّة المقابر في المدن في مجتمعات المسلمين وكذلك القرى منذ مئات السنين لا توجد إلا مقبرة واحدة، ومع ذلك نجد المسلمين بين إفراط وتفريط، بين عبادة لمن فيها وبين إهمال وامتهان، وقلّ من يقف عند الشرع. فبينما نجد عبادة القبور ومن فيها بالطواف بها أو دعاء الأموات والتقرب إليهم وإيقاد السرج والبناء عليها وتجميلها وزخرفتها وتجصيصها ونحو ذلك من الأمور الشركية والبدعية إذا بنا نجد في الطرف الآخر من يمتهنها فنجدها غير مسورة حيث يمرُّ عليها الناس ويتخذونها طرقًا لهم ولدوابهم وسياراتهم أو قد أدخلها بعضهم في ممتلكاته وبنى عليها بيتًا أو ضمها لأرضه وأخرج من فيها من الموتى، وسمعنا أخيرًا من ينادي عبر الصحف بإخراج المقابر القديمة التي في وسط الأحياء في بعض المدن واستغلال أراضيها لأنه لا يتناسب وضعها مع المدينة الزائفة على حد زعم ذلك المنادي السفيه ضعيف العقل عديم البصيرة.
فالواجب على المسلمين الوقوف عند حدود الله وتطبيق شرعه في جميع الأحوال بالنسبة للأحياء والأموات، وكلنا ميتون، وإذا لم نطالب بحقوق الأموات في حدود الشرع فمصيرنا هو مصيرهم وطريقنا طريقهم، وإن احترمناهم وقمنا بحقوقهم المشروعة في الإسلام قام من بعدنا بما قمنا به، وإن أهملنا وضيعنا وتكاسلنا فالجزاء من جنس العمل.
ويشرع للمسلم زيارة القبور للاتعاظ بها وتَذَكُّر الآخرة بشرط أن لا يقول عندها ما يغضب الله تعالى كدعاء الأموات والاستغاثة بهم وما أشبه ذلك، قال رسول الله : ((إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة، ولتزدكم زيارتها خيرًا، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرًا)).
ويدعو المسلم للأموات، ويسلم عليهم حسب المأثور عن الرسول في الأحاديث الصحيحة والتي منها في السلام: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإناّ إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية)) ، أو: ((السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)).
ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة، وينبغي أن لا يمشي بين القبور بنعليه، بل يفسخهما احترامًا للأموات من المسلمين حيث حرمة الميت المسلم كحرمته وهو حي، خاصة إذا كان لا يوجد بينها أشواك أو ما يؤذي عند المشي، كما أنه يحرم الجلوس على القبر، وعن المشي بالنعلين ورد حديث بشير بن الحنظلية قال: بينما أنا أُماشي رسول الله أتى على قبور المسلمين، فبينما هو يمشي إذ حانت منه نظرة فإذا هو برجلٍ يمشي بين القبور عليه نعلان فقال: ((يا صاحب السبتتين، ويحك ألق سبتتيك)) ، فنظر فلما عرف الرجل رسول الله خلع نعليه فرمى بهما.
وروى الإمام مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والقعود عليها قوله: نهى رسول الله أن يُجصَّص القبر وأن يُقعد عليه وأن يُبنى عليه. وفي زيادة عند الترمذي والنسائي: وأن يُكتب عليه.
ومن الأشياء المأمور بها في الإسلام للمسلمين بعضهم على بعض اتباع الجنائز، وهي من الحقوق الواجبة كما ورد ذلك في الحديث المروي عن رسول الله حيث قال: ((حق المسلم على المسلم)) ، وفي رواية: ((يجب للمسلم على أخيه خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)). ويحصل المسلم على أجر عظيم باتباعه الجنازة وحضورها والصلاة عليها والانتظار حتى الدفن، فله باتباعها والصلاة عليها قيراط، وإذا شهدها حتى الدفن فله قيراطان من الأجر، وحدد ذلك الرسول بأنهما مثل الجبلين العظيمين، وفي الرواية الأخرى: مثل جبل أحد. قال رسول الله : ((من شهد الجنازة من بيتها)) وفي رواية: ((من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا حتى يصلّى عليه فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن ـ وفي رواية: حتى يفرغ منها ـ فله قيراطان من الأجر)) ، قيل: يا رسول الله، وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين))، وفي رواية: ((كل قيراط مثل جبل أحد)).
لقد زهدَ كثير من المسلمين اليوم في هذا الأجر، بل إن بعضهم في وسط المدن وأرقى الأحياء ينقص عمله كل يوم قيراطين، وذلك بتربيته الكلاب وسط الفلل لأذية الجيران ولأمور أخرى قد تكون من قبل النساء ناقصات العقل والدين، فبدلاً من أن يكسب الأجر العظيم إذا به يخسره وهو يعلم، وهذه من المنكرات التي عمّ شرها مجتمع المسلمين.
وينبغي أن يَكْثُر الذين يصلون على الميت، فكلما كَثُرُوا كان أفضل وأنفع بإذن الله، لقول رسول الله : ((ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة يشفعون له إلا شفعوا فيه))، وفي رواية: ((إلا غفر له)). وقد يغفر له وإن كان العدد أقل من ذلك إذا كانوا مسلمين موحدين حقًا لم يخالط توحيدهم شيء من الشرك لقوله : ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله إلا شفعهم الله فيه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تبارك وتعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فمن الأمور المشروعة والحقوق المأمور بها للمسلمين بعضهم على بعض التعزية كما ورد في ذلك عدة أحاديث عندما عدّد رسول الله حق المسلم على المسلم والجار على جاره وعندما رغب في ذلك في أحاديث أُخَر، ومنها قوله : ((وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته)) الحديث، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((من عزى أخاه المؤمن في مصيبته كساه الله حلة خضراء يجبر بها يوم القيامة)) ، قيل: يا رسول الله، ما يجبر؟ قال: ((يغبط)) ، ولكن أي عزاء؟ وأي تعزية مشروعة؟ هل هي ما الناس عليه اليوم في كثير من بقاع العالم أم أنها اندثرت أم بقي من المسلمين من يعمل بها؟
إننا نقول: إن الخير لا يزال في هذه الأمة ولله الحمد والمنة إلى يوم القيامة، ولكن الوقوف عند حدود الله والعمل بشرعه خاصة في التعزية يكاد يكون مفقودًا فيما نعلم إلاَّ في مناطق من بلادنا ومنها القصيم وغيرها، وقد سمعتم أو قرأتم عن الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله رحمة واسعة ماذا أوصى به أهله في التعزية، وما هي فتواه في ذلك، وماذا عمل عند وفاة والده من حيث الاجتماع للتعزية في بيت المتَوَفَّى والجلوس لذلك، لقد طبق السنة في ذلك في حياته ومماته حيث أوصى أهله لتطبيق السنة في التعزية.
أما عامة المسلمين فقد تجاوزوا الحدود وأتوا بأمور كثيرة مخالفة للشرع حتى ملّوا وسئموا هم منها بعد أن سنوها ويريدون التخلص منها، ولكنها العصبيات والقبلية البغيضة التي تعمي عن اتباع الحق وذلك باتباعهم الهوى وما تشتهيه الأنفس، فالعزاء أصبح مثل الأفراح، وقد يزيد مما يُذبح فيه من الأغنام وسواها، وإذا كان الزواج وجبة واحدة فإن العزاء ثلاثة أيام يذبح فيها عشرون وثلاثون رأسًا من الغنم أو أقل أو أكثر، ويتباهى فيها الناس ويتفاخرون، وأكثرهم لا يعملها لله من أجل اتباع السنة في وضع الطعام لأهل الميت، وإنما هي للحاضرين، وصار الأمر قرضة واجبة التسديد، ولا بد أن يردّ ذلك إن عاجلاً أو آجلاً في موت أو سواه، وقد يتخلف بعضهم ممن ليس لديه ما يردّه في حينه، وظنوا أو اعتقدوا بأن ذلك من الإسلام ومن شريعته، وحاشا لله ما هذا المشروع في دين الله، لا اجتماع الناس في مكان معين لمدة ثلاثة أيام، ولا إعداد الطعام لهم، ولا غير ذلك من المنكرات التي تحصل في التعزية في مجتمعات المسلمين، إنما السنة أن يعمل الجار لجاره أو قرابته طعامًا متواضعًا لأهل الميت يكفيهم لا كُلفة فيه ولا تفاخر، وإنما يحتسب أجره عند الله لانشغال أهل المتوفى بما نزل بهم عن صنع الطعام، وهذا المأمور به في حديث رسول الله حينما قال: ((اصنعوا لآل جعفر طعامًا؛ فقد أتاهم أمر يشغلهم)) أو: ((أتاهم ما يشغلهم)).
فالحديث واضح الدلالة ـ ولله الحمد ـ لمن أراد أن يتبع ولا يبتدع؛ بأن يصنع لأهل الميت طعامًا نظرًا لانشغالهم بما نزل بهم، دون الاجتماع معهم للأكل ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر؛ لأن ذلك داخل في النياحة المنهي عنها، فتقديم الطعام على الصفة المشروعة هي السنة، وليست السنة هي الاجتماع رجالاً ونساءً لمدة ثلاثة أيام عند أهل الميت، ويأتون من مسافات بعيدة تصل إلى أكثر من ألف كيلومتر للعزاء والمكوث عندهم، لدرجة أن أهل الميت لا يستطيعون الخروج أو التنفس أو النوم والراحة من اجتماع الناس داخل البيوت وخارجها في الشوارع والساحات والطرقات، وكذلك ترك الناس لأعمالهم ووظائفهم ثلاثة أيام ويعطلون مصالح عباد الله سواءٌ كان المتغيب عن عمله معلمًا أو مهندسًا أو طبيبًا أو جنديًا أو موظفًا أيًا كان، وكثير من أولئك المتغيبين عن أعمالهم ليس لهم قرابة من الميت وإنما هو من الجماعة أو القبيلة أو العشيرة، وكثير من الرجال الذين يقطعون مئات الكيلومترات للعزاء ويمكثون تلك الأيام تجدهم لا يحافظون على صلاة الجماعة، وقليل ما تراهم في المساجد، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا بعملهم ذلك مع أنهم تركوا أعمالهم الواجبة عليهم، وقد سهلت لهم طرق العزاء بالاتصال هاتفيًا أو برقيًا أو رسالة عادية، وكان الواجب عليهم أن يفكروا ما الأجر الذي سوف يحصلون عليه؟ وما الإثم الذي قد يرتكبونه؟ وهل قاموا بالواجب عليهم نحو أداء الصلاة جماعة في بيوت الله أم لم يؤدوها؟ وهل حرصوا على الأجر فيها وفي غيرها أم لا؟
وقد تجاوز الحد وفاض حتى النساء أصبحن يسافرن من مدينة إلى مدينة للعزاء، وليس في قريب وإنما معرفة أو من الجماعة والقبيلة، ومن لم يسر على هذا النهج فهو مخالف لهم، وأصبحت السنة بدعة، وهذه أمور منكرة يجب الإقلاع عنها والوقوف عند المشروع في دين الله، وكذلك اجتماع الناس في بيت الْمُتَوَفَّى والصمت والسكوت حتى من إلقاء السلام عند الدخول إلا عند القيام يقوم المعزون بالتربيت والضرب الخفيف على أكتاف المستقبلين، وهم في الحقيقة المودِّعُون دون المصافحة وإلقاء السلام وقول التعزية المشروعة ولبس الملابس المعينة من سواد للنساء أو بياض للرجال أو غيرها، كل ذلك مما لم يَرِدْ في شرع الله، بل هو مخالف للسنة ومُبْتَدَع في دين الله، وهو من النياحة المنهي عنها.
والسنة كما هو في الديار النجدية من انصراف الناس لأعمالهم بعد الدفن وعدم الاجتماع عند أهل الميت، بل قد يكون من أهل الميت من لديه عمل ويذهب لعمله في وظيفته أو متجره أو مصنعه أو مزرعته، ويلقاه من يريد عزاءه في أي مكان سواء أثناء تشييع الجنازة أو بعدها أو في الطريق أو في العمل ويذهب إلى منزله دون اجتماع كما هو الحال في كثير من المجتمعات، ويصنع الجار لجيرانه طعامًا من دون الاجتماع معهم، وهذا هو عين الصواب، وتلك هي السنة، فهل يترك المسلمون السنن السيئة التي سنوها لأنفسهم؟! وهلا امتثلنا أمر ربنا واتبعنا هدي نبينا وتركنا ما يخالف شرعنا وإن كان ثقيلاً على نفوسنا؟! وهلا تمسكنا بالسنة النبوية التي فيها السعادة لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا؟!
وإنا لنرجو أن نكون على أحسن حال وأفضله، ونسأل الله التوفيق والعون والسداد لما فيه الخير العاجل والآجل، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد وآله.
(1/5489)
القبر: عذابه ونعيمه (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/5/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتدبر في مصارع السابقين. 2- سؤال الملكين في القبر. 3- وصف حال المؤمن وحال الكافر في ساعة الاحتضار وما بعدها. 4- عذاب القبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، لقد كان الحديث عن الموت قبل ثلاثة أشهر وعشرة أيام تقريبًا من الآن بعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، ونسأل الله أن يرحمنا جميعًا ويسكننا الجنة ويغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنه على كل شيء قدير.
إن الموت أكبر واعظٍ للإنسان إذا تأمل وانتبه وتذكر وتدبر ووعى، خاصة إذا حضر سكرات الموت لشخص أو لأشخاص، وعندما تكون الحوادث وموت الفجأة والمصارع المتعددة سواء السيئ منها أو الحسن عندها يفيق الإنسان من رقدته ويصحو من غفلته، وعندما يزور القبور ويكرّر الزيارات ويتذكر حال أهلها وما هم فيه وماذا كانوا عليه في الدنيا عندها يستيقظ ضميره وينتبه لنفسه ويعدّ العدَّة لذلك ولما بعده.
عندما يعمل المسلم بتطبيق السنة في زيارة القبور التي تذكِّر زيارتُها الآخرةَ فيرى ذلك المنظر الذي يَرقّ له القلب ومنه تدمع العين ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، تذكِّره الموتَ هادمَ اللذات ومفرِّقَ الجماعات الذي سوف يمرُّ عليه كما مرَّ على غيره، وتوقظه الزيارة مما هو فيه أو عليه، عندما يقف المسلم عند القبور وتلك المنازل التي سوف يرتحل إليها بعد لحظات أو سويعات أو سنوات الله أعلم بها، لكنه لا يشك في أن ذلك آتٍ لا محالة مهما طالت الأيام والليالي، فالقبر أول منازل الآخرة، لا بدّ من المرور عليه في حياة برزخية إلى أن تأتي الحياة الأبدية، قال تعالى : وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100].
وبالمناسبة فهناك عبارة ترد على ألسنة كثير من المسلمين وخاصة عبر الصحف وهي قول أحدهم: "مثواه الأخير"، ومع أنهم إن شاء الله لا يعتقدون مدلولها ومعناها الذي تطلق عليه، ولكن لا ينبغي أن ترد على لسان مسلم إلا إذا وردت كلمة "مثواه" بمعنى منزل للميت دون أن تُتْبَعَ بكلمة "الأخير"؛ لأنه إذا ارتبطت الكلمتان ببعضهما أصبح لهما معنى ومدلولاً آخر، فالقبور إنما هي منزلة بين الدنيا والآخرة، وفيها حياة البرزخ إلى يوم البعث والنشور يوم الجزاء والحساب.
أعود للقول بأن القبر واعظ صامت، لا يعرف مدلول عباراته ووعظه إلا من وقف أمامه يتأمله وهو يضم بين جنباته الصديق والغريب والأخ والحبيب والبعيد والقريب والرفيع والوضيع والعالم والجاهل والأمير والمأمور والسيّد والرقيق والرئيس والمرؤوس والملك والمملوك، كلهم تحت التراب في تلك الحفر الضيقة التي لا أنيس فيها ولا جليس، إنما هو العمل الصالح للعبد الصالح عندما يكون أنيسًا له في وحشته.
إن زيارة القبور تُذَكِّر الآخرة حقًا كما قال رسول الله : ((قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة)). تلك القبور التي تضم بين جوانبها جُثَثًا هامدة وأجسامًا بالية وعظامًا نخرة وأشلاء مبعثرة والتي هي موطنٌ لجميع الناس العظيمِ منهم والحقيرِ والحكيم والسفيه والصالح والطالح والسعيد والشقي، والتي لو رأى الحيُّ الميتَ بعد ثلاثة أيام في قبره لاستوحش من قُرْبِهِ بعد طول الأنس به في الدنيا ولو كان أقرب قريب وأحب حبيب، حيث تغير منه الريح وبليت منه الأكفان وأكلته الديدان بعد حسن الهيئة والمنظر وطيب الريح ونقاء الثوب وعمار الدار التي قد سُكِنَتْ بعده وأمواله التي قُسمت وزوجته التي تتهيأ للزواج بعد انتهاء عدتها.
ومن كان في غفلة عن هذا فليقف على القبور ويتأمل تلك النفوس التي كانت معه أجسادًا ناعمة منعمة تفوح منها العطور الفاخرة وتركب السيارات الفارهة وتسكن القصور الشامخة ذات الردهات الواسعة وتعتز بالمناصب والرتب العالية، أين هي اليوم؟ وما الأسئلة التي أُلقيت عليها؟ هل هي حول الأسماء والألقاب والتفاخر بالشرف والأنساب والأحساب، أو عن امتلاك القصور والفلل والعمارات، أو الطائرات والسيارات الفخمة، أو عن التجارة والصناعة وامتلاك مئات الملايين، أو عن المراتب والرتب والدرجات والمناصب التي تقلدها صاحبها في الدنيا وعمل فيها، أو عن أعلى الشهادات والمراتب العلمية التي بها يتفاخر أكثر الناس اليوم؟! كل هذا وفيما يدور حوله وما يهتم به الناس وما هم به مشتغلون لا يكون السؤال، إنما هو عن أسئلة ثلاثة تُوجَّه إلى كل الأموات من بني آدم مؤمنهم وكافرهم، ويجيب عليها المؤمن بتوفيق الله وتثبيته إياه ولو كان أمّيًا، مع أن الكافر لا يستطيع الإجابة عليها ولو كان لديه أعلى الشهادات العالمية ومن أبلغ الناس وأفصحهم، قال تعالى: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم: 27]، وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دُفن العبد ووضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، ـ قال: ـ ويأتيه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ ـ قال: ـ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، ـ قال: ـ فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، ـ قال رسول الله : ـ فيراهما جميعًا، وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ويُضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) أي: الجن والإنس، وفي حديث آخر: ((فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار، فانتهى إلى القبر ولم يلحد بَعْدُ، فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وبيده عود ينكث به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ـ قال: ـ فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، ـ قال: ـ فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أو أحب أسمائه التي كان يسمى أو يدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوها إلى الأرض في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته، فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، ـ قال: ـ فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مدّ بَصَرِه، ـ قال: ـ ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، هذا يَوْمُكَ الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟! فوجهك الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي؛ وذلك لفرحته ولما رأى من النعيم، فهو يتمنى قيام الساعة، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، ـ قال: ـ فتفرّق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السّفّود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الريح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ـ ثم قرأ رسول الله : لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْو?بُ ?لسَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ حَتَّى? يَلِجَ ?لْجَمَلُ فِى سَمّ ?لْخِيَاطِ [الأعراف: 40] ـ، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم تطرح روحه طرحًا، ـ ثم قرأ: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] ـ، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟! فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ لا تقم الساعة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الحديث عن عذاب القبر ونعيمه لا يمكن استعراضه في خطبة واحدة، وإنما في خطب متعدّدة بإذن الله، يكون الكلام عن المقابر وواقعها في مجتمعات المسلمين بين الإفراط والتفريط، وعن القبور وأحوال أهلها والحياة البرزخية وما بعدها، ولا بدَّ من التذكير ببعض الآيات والأحاديث من أجل التدبّر والتأمل والاتعاظ والاعتبار والتطبيق.
قال الله تعالى: حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى? ?للَّهِ مَوْلَ?هُمُ ?لْحَقّ أَلاَ لَهُ ?لْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ?لْحَ?سِبِينَ [الأنعام: 61، 62]، وقال عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى? كَمَا خَلَقْنَـ?كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـ?كُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى? مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ ?لَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 93، 94]، وقال سبحانه وتعالى: وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء ?لْعَذَابِ ?لنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ?لسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ?لْعَذَابِ [غافر: 45، 46]، وقال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ ?لأعْرَابِ مُنَـ?فِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ?لْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ?لنّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى? عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101]، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ ?لْعَذَابِ ?لأدْنَى? دُونَ ?لْعَذَابِ ?لأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21]، أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ [التكاثر: 1، 2]، كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ?لتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ?لْفِرَاقُ وَ?لْتَفَّتِ ?لسَّاقُ بِ?لسَّاقِ إِلَى? رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ?لْمَسَاقُ [القيامة: 26-30]، وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19]، حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100]، والآيات حول هذا كثيرة.
ومن الأحاديث ما روي عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث كان إذا وقف على قبر بكى حتى تَبْتَلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟! فقال: إني سمعت رسول الله يقول: ((القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشدّ منه، ما رأيت منظرًا قط إلاَّ القبر أفظع منه)) ، وعند موت سعد بن معاذ رضي الله عنه قال رسول الله : ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضُمّ ضمة ثم فرّج عنه)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضُمّ ضمة ثم رُوخِيَ عنه)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن للقبر ضغطة، لو كان أحد ناجيًا منها لنجا سعد بن معاذ)) ، وقال : ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم)) ، ودخل النبي حائطًا من حيطان بني النجار فسمع صوتًا من قبر فسأل عنه: ((متى دفن هذا؟)) فقالوا: يا رسول الله، دفن هذا في الجاهلية، فأعجبه ذلك وقال: ((لولا أن لاَّ تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم عذاب القبر)) ، ومرّ بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ، وفي رواية: ((وكان الآخر لا يستنزه عن البول)) أو: ((لا يستبرئ من البول)) ، وفي أخرى: ((وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة)) ، وقال رسول الله : ((أكثر عذاب القبر من البول)) ، وقال لأصحابه: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق)) ، وقال : ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) ، وقال عن سورة الملك: (( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ هي المانعة من عذاب القبر)) ، وقال أيضًا: ((القبر حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة)).
(1/5490)
الحشر والقيامة (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
16/5/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأرض والسماوات يوم البعث والنشور. 2- الملك لله وحده. 3- آيات في أهوال القيامة. 4- بعث الخلائق وحشرها. 5- أول من تنشق عنه الأرض وأول من يكسى. 6- صفة الناس عند الحشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإذا قام الناس من قبورهم وجدوا الأرض على غير صفتها التي فارقوها وهي عليها حيث قد دكت الجبال وزالت التلال وانقطعت الأنهار وبادت الأشجار وسجرت البحار وتساوت المهاد والروابي، وخربت المدائن والقرى وتغيرت الأحوال وزلزلت الأرض وأخرجت أثقالها وبعثر ما في القبور، وكذلك السماوات قد بدلت وتشققت وتفطرت أرجاؤها وانكدرت النجوم وانتثرت، فبعد ذلك التغيير والتبديل يكون الجزاء والحساب بعد موت جميع الخلائق من إنس وجان وملائكة وحيوان وطير وهوام وسباع ووحش وغيرها من جميع المخلوقات، ولا يبقى إلا رب العزة والجلال كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 26-28]، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم: 48-52].
ويطوي الله السماوات والأرض كطي السجل للكتب، وينادي عز وجل: لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، فلا يجيبه أحد لموت الخلق أجمعين، ثم يجيب الحق جل جلاله وتعالى سلطانه بقوله سبحانه وبحمده: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. قال تعالى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67]، وقال عز وجل: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104]، وقال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 15-19].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)). وفي حديث الصور أنه عز وجل إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له حينئذ يقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه قائلاً: لله الواحد القهار. وقال رسول الله : ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [سورة التكوير] ، وإِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [سورة الانفطار] ، وإِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [سورة الاشقاق] )) وهو في صحيح الجامع. وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها وتكور الشمس وانكدار النجوم وتناثر الكواكب وخروج الخلق من القبور ونشر الصحف وقراءة الكتب وأخذها بالأيمان والشمائل كل حسب عمله.
قال تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 1-14]، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 1-5]، إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 1-6].
وجاء في حديث الصور ((ويبدل الله الأرض غير الأرض، فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا)) ، قال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه: 102-112]، وقال تعالى: وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20]، وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 13-18]، وقال عز وجل: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 8، 9]، وقال عز وجل: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة: 5]، وقال عز وجل: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 47-49]، وقال تعالى: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة: 1-14]، وقال عز وجل: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [المزمل: 12-19]، وقال عز وجل: كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر: 21-24].
وفي الحديث أنه قال رسول الله : ((يوم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لَيْتًا ورفع لَيْتًا ـ اللّيْتُ صفحة العنق ـ، وأول من يسمعه رجل يليط حوضه فيصعق، ولا يسمعه أحد إلا صعق، ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل ـ أو: الظل ـ فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون)). وروى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ما بين النفختين أربعون)) ، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يومًا؟ قال: أَبَيْتُ، قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، ((ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عَجْبُ الذنب، منه يركب الخلق يوم القيامة)) رواه البخاري. وهذا العظم الصغير جدًا الذي يعاد تكوين الإنسان منه موجود داخل العصعص أسفل فقرة في الظهر تحت الحوض وما بين الإليتين في كل إنسان، قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] أي: من الأرض وترابها خلق الله بني آدم، وقال عز شأنه: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 25]، وقال عز شأنه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح: 17، 18]، وقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر: 68-70]، وقال عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 17-20]، وقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس: 51-54]، وقال عز وجل: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل: 87].
وعن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج والسد العظيم الذي طلبوه والذي بناه لهم شرق الأرض وبعد أن ذكر الله قصة ذي القرنين جاء على لسانه عن السد ودكّه وإخبار الله عز وجل عن القيامة والنفخ في الصور جاء في قول الله تعالى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 98-101].
وبعد أن ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأخيرة نفخة البعث والنشور يخرج الناس من القبور ومن أي جزء كانوا فيه في بر أو بحر وحيثما هلكوا في أجواء الفضاء أو في أعماق البحار أو غُيِّبت قبورُهم في الأرض أو حُرقت أجسادُهم وصارت رمادًا ثم نُثرت على قمم الجبال أو في البحار كما يفعل بعض الكفار اليوم بموتاهم عندما يحرقونهم ويفرقون الرماد على الجبال والبحار، أو أكلتهم الحيوانات المفترسة أو الطيور الجارحة، فإن الله سوف يأتي بهم جميعًا ويعيدهم مرة أخرى ويجمع عظامهم المفتتة وأجسامهم البالية، بل أكثر من ذلك وهو بصمات أصابعهم التي كانوا يعرفون بها في الدنيا حيث تختلف بصمة كل شخص عن الآخر كما هو معروف لدى الباحثين في الأدلة الجنائية في الجرائم وغيرها سوف تُعاد مرة أخرى، قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 3، 4]، وقال تعالى: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 148]، وقال عز وجل: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93-95]، وقال سبحانه: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47]. وكذلك الحال يحشر جميع المخلوقات من بهائم وغيرها، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38]، وقال عز وجل: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5]، وقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى: 29].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: ففي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة)) ، وقال : ((إن أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا فيه من الصلاة عليَّ، فإن صلاتكم معروضة عليَّ)) ، وقال : ((إن أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه الصعقة وفيه النفخة)).
وبعد أن تكون نفخة البعث والنشور يقوم الناس لرب العالمين وتنشق الأرض عنهم، وأول من تنشق عنه رسولنا محمد ، وأول من يُكسى أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 52]، وقال عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس: 51]، وقال عز وجل: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68]، وقال تعالى: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ: 18]، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44]، وقال عز شأنه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 41-44]، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 6-8]، وقال تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: 4، 5].
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً)) ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104]، وعندما سمعت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)) ، قالت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: ((يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)) ، وفي الرواية الأخرى: ((شغل الناس عن ذلك، لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه)). ومعنى حفاة: لا أحذية لهم، وعراة: لا ملابس تكسوهم وتستر عوراتهم وأجسامهم، وغرلاً: غير مختونين. وقال : ((إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل)) رواه البخاري، ثم رسولنا محمد ، ثم النبيون. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان ممن استثنى الله أم رفع رأسه قبلي، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)).
أيها المسلمون، أكتفي بهذا القدر من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة حول الحشر والبعث والنشور لأنتقل في الخطب القادمة إن شاء الله للحديث عن أهوال يوم القيامة يوم الجزاء والحساب وما بعد ذلك اليوم العصيب عن الجنة والنار، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1، 2].
(1/5491)
الشفاعة والحشر (3)
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
الشفاعة, الموت والحشر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
23/5/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يوم القيامة يوم الندم والحسرة. 2- أسماء يوم القيامة. 3- صفة أرض المحشر. 4- كيف يحشر الناس يوم القيامة. 5- الشفاعة العظمى يوم القيامة. 6- المقام المحمود من خصائص نبينا. 7- شفاعات غير النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنا في غفلة عن يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، حيث يندم من كان محسنًا كيف لم يزدد من كسب الحسنات وذلك بفعل الصالحات، ويندم من كان مسيئًا حيث لم يبتعد عما يغضب رب الأرض والسماوات حيث تثقله السيئات بارتكابه المنهيات والمحرمات والموبقات، قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لآزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ مَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر: 18، 19]، وقال عز وجل: ?قْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـ?بُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ?سْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1-3]، وقال سبحانه وبحمده: يـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1، 2].
لقد عدّ بعض العلماء ليوم القيامة يوم الجزاء والحساب خمسين اسمًا، وقد ورد بعض الأسماء عشرات المرات في كثير من آيات القرآن الكريم، فهو يوم القيامة، ويوم الفصل، ويوم البعث، ويوم الدين، والحاقة، والقارعة، والطامة، والصاخة، والغاشية، والواقعة، وغيرها من الأسماء لذلك اليوم العصيب الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، يوم لا ينفع الظالمين معذرتُهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
قال تعالى: حَتَّى? إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَ?قْتَرَبَ ?لْوَعْدُ ?لْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَـ?خِصَةٌ أَبْصَ?رُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يـ?وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا بَلْ كُنَّا ظَـ?لِمِينَ [الأنبياء: 96، 97]، وقال عز وجل: فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَ?كِنِ ?لظَّ?لِمُونَ ?لْيَوْمَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ?لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ?لأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ?لأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 37-40]، وقال عز شأنه: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لأبْصَـ?رُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء وَأَنذِرِ ?لنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ?لْعَذَابُ فَيَقُولُ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ?لرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـ?كِنِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ?لأمْثَالَ [إبراهيم: 42-44].
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد)) ، وفي رواية: ((ليس فيها معلم لأحد)) رواه البخاري ومسلم، والعفراء: البيضاء التي بياضها ليس بالناصع، والنقي: الخبز الأبيض، والْمَعْلَم بفتح الميم: ما جُعل علمًا وعلامة للطريق والحدود، وقيل: الأثر، ومعناه أنها لم توطأ من قبل حتى يكون فيها أثر أو علامة لأحد. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة)) ، فقالت امرأة: يا رسول الله، فكيف يرى بعضنا بعضًا؟! فقال: ((إن الأبصار خاشعة)) ، فرفع بصره إلى السماء، فقالت: يا رسول الله، ادْع الله أن يستر عورتي، قال: ((اللهم استر عورتها)). وقد ورد حول هذا المعنى في حديث عائشة رضي الله عنها وفي غيره.
قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ?لْغَـ?شِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى? نَارًا حَامِيَةً [الغاشية: 1-4]، وقال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ ?لرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا ?لرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَـ?رُهَا خَـ?شِعَةٌ [النازعات: 6-9].
روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى? وُجُوهِهِمْ إِلَى? جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 34] ، أيحشر الكافر على وجهه؟! قال رسول الله : ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه؟!)) قال قتادة حين بلغه: بلى وعِزَّةِ ربِّنا. ونحن نقول: بلى وعِزَّةِ ربِّنَا، إنه على كل شيء قدير. وقال رسول الله : ((يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صُوَرِ الرجال، يغشاهم الذُّلُّ من كلّ مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بُولَسُ، تعلوهم نارُ الأنْيَار، يُسْقَوْنَ من عصارة أهل النار طِينَةِ الخبال)) رواه النسائي والترمذي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قرأ: يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين: 6] وقال: ((يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه)) رواه البخاري ومسلم، وقال رسول الله : ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقْوَيْهِ، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا)) وأشار رسول الله بيده إلى فِيهِ. رواه مسلم.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) ، فقيل: ما أطول هذا اليوم! قال النبي : ((والذي نفسي بيده، إنه ليخفّف على المؤمن حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة)) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((تجتمعون يوم القيامة فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينها؟ فيقومون، فيقال لهم: ماذا عملتم؟ فيقولون: ربنا ابتليتنا فصبرنا، وولّيت الأموال والسلطان غيرنا، فيقول الله عز وجل: صدقتم، قال: فيدخلون الجنة قبل الناس، وتبقى شدة الحساب على ذوي الأموال والسلطان)) ، قالوا: فأين المؤمنون يومئذٍ؟! قال: ((توضع لهم كراسيّ من نور، ويُظَلَّل عليهم الغمام، ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار)) رواه الطبراني وابن حبان.
وفي هذا اليوم العصيب والموقف الرهيب يكون المقام المحمود في ذلك اليوم الموعود لرسولنا محمد حيث الشفاعة العظمى عند رب العالمين للفصل في الجزاء والحساب، وقد وردت أحاديث عدة حول الشفاعة العامة للخلق أجمعين لذلك الموقف، وكذلك الشفاعة الخاصة بالمؤمنين والموحدين وغيرها من الشفاعات الخاصة، ومنها ما رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله : ((كل نبي سأل سؤالاً ـ أو قال: لكل نبي دعوة قد دعاها لأمته ـ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي)) ، وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما: ((فأخّرت مسألتي)). ((اختبأت دعوتي)) أي: ادَّخرتها واختزنتها. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أُعطيت خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحد قبلي: جعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأُحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لنبيٍّ كان قبلي، ونصرت بالرعب مسيرة شهر على عدوي، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأعطيت الشفاعة، وهي نائلة من أمتي من لا يشرك بالله شيئًا)) رواه البزار، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سألت رسول الله قلت: يا رسول الله، ماذا رد ربك إليك في الشفاعة؟ قال: ((والذي نفس محمد بيده، لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي لما رأيت من حرصك على العلم، والذي نفس محمد بيده، لما يَهُمّني من انقصافهم ـ وفي رواية: انقضاضهم ـ على أبواب الجنة أهمُّ عندي من تمام شفاعتي لهم، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا وأن محمدًا رسول الله يصدّق لسانه قلبه وقلبه لسانه)).
يـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان: 33].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد قال الله عز وجل لرسولنا محمد في محكم التنزيل في آي القرآن الكريم: وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء: 79] ، والمقام المحمود يوم القيامة للرسول محمد في شفاعته عليه الصلاة والسلام عند رب العالمين للجزاء والحساب عندما يعتَذِر أبونا آدم وأولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام عن تلك الشفاعة العظمى، ويكون شرفها لرسولنا محمد ، وهي المسماة بالشفاعة العامة، أما الخاصة فتكون له عليه الصلاة والسلام وللرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وللملائكة عليهم السلام وللشهداء ولمن يشاء الله عز وجل من المؤمنين، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ?لدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ?لأصْوَاتُ لِلرَّحْمَـ?نِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ?لشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً [طه: 108، 109]، وقال تعالى: وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ لاَ تُغْنِى شَفَـ?عَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ?للَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى? [النحل: 26]، وقال تعالى: وَلاَ تَنفَعُ ?لشَّفَـ?عَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى? إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ?لْحَقَّ وَهُوَ ?لْعَلِىُّ ?لْكَبِيرُ [سبأ: 23]، وقال عز وجل: مَن ذَا ?لَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة: 255].
وروى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كنا مع النبي في دعوة، فَرُفِعَ إليه الذراع وكانت تعجبه، فَنَهَسَ منها نَهْسَةً، وقال: ((أنا سيِّدُ الناس يوم القيامة، هل تدرون ممَّ ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فَيُبْصِرُهم الناظرُ، ويُسْمِعُهم الداعيَ، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناسَ من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا تنظرون ـ وفي رواية: ألا ترون ـ إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة أن يسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟! ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟! فقال: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبدًا شكورًا، أ َ لاَ ترى إلى ما نحن فيه؟! أ َ لاَ ترى إلى ما بَلَغنَا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كان لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربّك، أ َ لاَ ترى إلى ما نحن فيه؟! فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، قد كُنْتُ كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فَضَّلَكَ الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى إلى ما نحن فيه؟! فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمتَ الناس في المهد، اشفع لنا عند ربك، أ َ لاَ ترى إلى ما نحن فيه؟! فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ، فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، أ َ لاَ ترى ما نحن فيه؟! فأنطلق تحت العرش فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أَدْخِلْ من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب))، ثم قال ((والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وَهَجَر أو كما بين مكة وبصرى)) رواه البخاري ومسلم.
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال: ((يقول إبراهيم يوم القيامة: يا ربّاه، فيقول الرب جل وعلا: يا لبَّيْكاه، فيقول إبراهيم: يا رب، حرّقت بنيّ، فيقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرةٌ أو شعيرة من إيمان)) رواه ابن حبان في صحيحه، وقال رسول الله : ((يُشَفِّعُ اللهُ تبارك وتعالى آدمَ يوم القيامة من ذريته في مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف)) رواه الطبراني، وقال : ((لَيَدْخُلَنَّ الجنةَ بشفاعة رجلٍ من أمتي أكثرُ من بني تميم)) ، قلنا: سواك يا رسول الله؟ قال: ((سواي)) رواه ابن حبان وابن ماجة، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((خيرت بين الشفاعة أو يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفى، أما إنها ليست للمؤمنين المتقدمين، ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين)) رواه أحمد والطبراني وابن ماجة.
وبقيت أحاديث في شفاعة الشهداء لذويهم والملائكة وغير ذلك مما دلَّت عليها الأحاديث والتي لا تتسع الخطبة لذكرها، وأهمُّ من ذلك رحمة رب العالمين وأرحم الراحمين الله لا إله إلاَّ هو الغفور الرحيم.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه...
(1/5492)
الجزاء والحساب (4)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
30/5/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خوف المؤمنين من القيامة وأهوالها. 2- آيات الوعيد والحساب. 3- القصاص يوم القيامة. 4- الشهود يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً بسابقه ومرتبطًا به، ولا يمكن الانتقال من موضوع فيه إلى موضوع دون التعرض له بشيء مما ورد حوله، ولن أوفيَه حقَّه في الاستعراض مهما بلغت واجتهدت في خطب للجمعة زمنها محدود، والوفاء واستعراض مثل هذا الموضوع متعذر لأسباب متعددة. ولكن ما لا يُدرك كلُّّه لا يُترك جلُّه، وإلا فيوم القيامة يوم الجزاء والحساب يجب أن لا يغيب عنا في أي لحظة؛ لأن الخوف من ذلك اليوم يورث التقوى والإحسان الذي هو أعلى مراتب الإسلام، وقد وصف الله المؤمنين المتقين بصفات متعددة ومنها الخوف من ذلك اليوم، ولذلك فهم مستعدون ويعدّون العدة له خوفًا من الله وعقابه وطمعًا في رحمة الله وثوابه وحبًا لله جلّ وعلا، فهم المتقون حقًا كما قال الله عنهم: يَخَـ?فُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأبْصَـ?رُ لِيَجْزِيَهُمُ ?للَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 37، 38]، وَيَخَـ?فُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان: 7]، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَـ?هُمُ ?للَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ?لْيَومِ وَلَقَّـ?هُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 10-12]، وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد: 21]، أُولَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى? رَبّهِمُ ?لْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـ?فُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57]، وَأَنذِرْ بِهِ ?لَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى? رَبّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 51].
المؤمنون يخافون من مشهد وأهوال ذلك اليوم العظيم الذي تشخص فيه الأبصار وتكون الحناجر مكظومة وتتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
إن آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله حول هذا الموضوع كثيرة، نأخذ قطافًا منها ففيها الذكرى التي تنفعنا جميعًا في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى:
قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ?لْيَوْمَ إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ?لآزِفَةِ إِذِ ?لْقُلُوبُ لَدَى ?لْحَنَاجِرِ كَـ?ظِمِينَ مَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر: 16-19]، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـ?كِنِ ?لظَّـ?لِمُونَ ?لْيَوْمَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ?لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ?لأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ?لأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 37-40]، وَنَضَعُ ?لْمَو?زِينَ ?لْقِسْطَ لِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى? بِنَا حَـ?سِبِينَ [الأنبياء: 47]، وَهُوَ ?لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى? ?للَّهِ مَوْلَـ?هُمُ ?لْحَقّ أَلاَ لَهُ ?لْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ?لْحَـ?سِبِينَ [الأنعام: 61، 62]، فَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ ذُو ?نتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ ?لأَرْضُ غَيْرَ ?لأَرْضِ وَ?لسَّمَـ?و?تُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ?لْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ?لأصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى? وُجُوهَهُمْ ?لنَّارُ لِيَجْزِىَ ?للَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ هَـ?ذَا بَلَـ?غٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـ?هٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ?لأَلْبَـ?بِ [إبراهيم: 47-52]، وَمَن يَكْفُرْ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ فَإِنَّ ?للَّهِ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [آل عمران: 19]، وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [النور: 39].
والآيات بهذا الخصوص متعددة: وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَـ?هُ كِتَـ?بًا فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا [النبأ: 29-31]، وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَـ?ئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14]، إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَى? كُلّ شَىْء حَسِيبًا [النساء: 86]، وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، وَعَنَتِ ?لْوُجُوهُ لِلْحَىِّ ?لْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه: 111، 112]، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ آيَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? وَكَذ?لِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَـ?تِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى? [طه: 123-127]، مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى ?لنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 89، 90]، تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَن جَاءَ بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَاءَ بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ?لَّذِينَ عَمِلُواْ ?لسَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [القصص: 83، 84]، مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]، وَيَوْمَ تَقُومُ ?لسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ?لْمُبْطِلُونَ وَتَرَى? كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى? إِلَى? كِتَـ?بِهَا ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَـ?ذَا كِتَـ?بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِ?لْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْمُبِينُ وَأَمَّا ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَـ?تِى تُتْلَى? عَلَيْكُمْ فَ?سْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ [الجاثية: 27-31]، وَتَرَى ?لظَّـ?لِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ?لْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى? مَرَدٍّ مّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـ?شِعِينَ مِنَ ?لذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ وَقَالَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ إِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ ?للَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ?سْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ?للَّهِ مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ [الشورى: 44-47]، وَإِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى ?لظَّـ?لِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فِى رَوْضَـ?تِ ?لْجَنَّـ?تِ لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ?لْفَضْلُ ?لْكَبِيرُ ذَلِكَ ?لَّذِى يُبَشّرُ ?للَّهُ عِبَادَهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ [الشورى: 21-23]، إِنَّ ?لَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءايَـ?تِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى? فِى ?لنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِنًا يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ?عْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: 40]، وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ?لَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ?لُخَـ?سِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ ?لْمُعْتَبِينَ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ?لْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـ?سِرِينَ [فصلت: 19-25]، وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء ?لْعَذَابِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [الزمر: 47، 48]، إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً و?حِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَ?لْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ ?ليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـ?كِهُونَ هُمْ وَأَزْو?جُهُمْ فِى ظِلَـ?لٍ عَلَى ?لأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَـ?كِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ وَ?مْتَازُواْ ?لْيَوْمَ أَيُّهَا ?لْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يـ?بَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ هَـ?ذِهِ جَهَنَّمُ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ?صْلَوْهَا ?لْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى? أَعْيُنِهِمْ فَ?سْتَبَقُواْ ?لصّر?طَ فَأَنَّى? يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَـ?هُمْ عَلَى? مَكَـ?نَتِهِمْ فَمَا ?سْتَطَـ?عُواْ مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى ?لْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ وَمَا عَلَّمْنَـ?هُ ?لشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءانٌ مُّبِينٌ لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ ?لْقَوْلُ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [يس: 53-70]، إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر: 6]، وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ ?لضُّعَفَاء لِلَّذِينَ ?سْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ?للَّهِ مِن شَىْء قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ?للَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ وَقَالَ ?لشَّيْطَـ?نُ لَمَّا قُضِىَ ?لأمْرُ إِنَّ ?للَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ?لْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـ?نٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَ?سْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـ?مٌ [إبراهيم: 21-23]، إِنَّ فِى ذ?لِكَ لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ ?لآخِرَةِ ذ?لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ?لنَّاسُ وَذ?لِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا ?لَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ?لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا ?لَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَـ?ؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤُهُم مّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ [هود: 103-109]، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَـ?ئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?بًا مُّتَشَـ?بِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء ?لْعَذَابِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَـ?هُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ ?للَّهُ ?لْخِزْىَ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [الزمر: 21-26]، يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُؤوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 11-18]، فَإِذَا جَاءتِ ?لصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَـ?حِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْكَفَرَةُ ?لْفَجَرَةُ [عبس: 33-42]، فَإِذَا جَاءتِ ?لطَّامَّةُ ?لْكُبْرَى? يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ مَا سَعَى? وَبُرّزَتِ ?لْجَحِيمُ لِمَن يَرَى? فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات: 34-41]، بَلْ يُرِيدُ ?لإِنسَـ?نُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ?لْقِيَـ?مَةِ فَإِذَا بَرِقَ ?لْبَصَرُ وَخَسَفَ ?لْقَمَرُ وَجُمِعَ ?لشَّمْسُ وَ?لْقَمَرُ يَقُولُ ?لإِنسَـ?نُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ?لْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى? رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ?لْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ ?لإِنسَـ?نُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى? مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 5-15]، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام: 164]، أَزِفَتِ ?لآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ?للَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَـ?ذَا ?لْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَـ?مِدُونَ فَ?سْجُدُواْ لِلَّهِ وَ?عْبُدُوا [النجم: 57-62].
ذكرتُ آيات القرآن الكريم للذكرى والموعظة المناسبة للموضوع حول هذا اليوم العظيم امتثالاً لقول الله عز وجل: فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45]، وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن البلاغة الموجودة في آيات القرآن الكريم وفي أحاديث رسول الله والبيان الواضح للمقصود من أهم الأسباب التي جعلتني أترك التقديم لأيّ منها وأكتفي بذكرها فقط؛ لأن فيها الشفاء والهدى والرحمة والوعد والوعيد وكل ما يشفي ويكفي.
قال تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ ?لسَّمَاء مَوْرًا وَتَسِيرُ ?لْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى? نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَـ?ذِهِ ?لنَّارُ ?لَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَـ?ذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ?صْلَوْهَا فَ?صْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 7-16]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ي?لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـ?بِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ي?لَيْتَهَا كَانَتِ ?لْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ?لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاْسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ ?لْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ ?لْيَوْمَ هَـ?هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ?لْخَـ?طِئُونَ [الحاقة: 18-37]، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى? سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى? إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق: 7-15]، يَوْمَ يَقُومُ ?لرُّوحُ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لْحَقُّ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ مَئَابًا إِنَّا أَنذَرْنَـ?كُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ?لْكَافِرُ يَـ?لَيْتَنِى كُنتُ تُر?بًا [النبأ: 38-40].
في ذلك اليوم يتمنى الكافر أنه كان بهيمة وحيوانًا لكي يكون ترابًا بعد الجزاء والحساب لئلا يدخل النار؛ لأن البهائمَ تكون ترابًا بعد القصاص من بعضها لبعض، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) رواه مسلم والترمذي، وقال : ((يُقْتص للخلق بعضهم من بعض حتى للجماء من القرناء، وحتى للذرة من الذرة)) رواه أحمد ورواته رواة الصحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليختصمن كل شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا)) رواه أحمد بإسناد حسن وأبو يعلى، وقال : ((من ضرب مملوكه سوطًا ظلمًا اقتصّ منه يوم القيامة)) رواه البزار والطبراني بإسناد حسن، وقال : ((يحشر الله العباد يوم القيامة، ـ أو قال: الناس ـ عراة غرلاً بُهْمًا)) ، قال: قلنا: وما بُهْمًا؟ قال: ((ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الديان، أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حقّ حتى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة)) ، قال: قلنا: كيف وإننا نأتي عراة غرلاً بهمًا؟! قال: ((الحسنات والسيئات)) رواه أحمد بإسناد حسن، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أ ُ خذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) رواه مسلم وغيره، وروى أيضًا مسلم رحمه الله من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: كنا عند رسول الله فضحك فقال: ((هل تدرون ممّ أضحك؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربه، فيقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدًا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، والكرامِ الكاتبين شهودًا، ـ قال: ـ فيختم على فيه ويقول لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلِّي بينه وبين الكلام، فيقول: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا، فعنكنَّ كنت أناضل)) أي: أجادل وأخاصم وأدافع، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة: 4]، قال: ((أتدرون ما أخبارها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا)) رواه ابن حبان في صحيحه، وروى البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((من نوقش الحساب عذب)) ، فقلت: أليس يقول الله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: 7-9]؟! فقال: ((إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)) ، وأيضًا روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي أنها كانت تقول: قال رسول الله : ((سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يُدْخِل أحدًا الجنةَ عَمَلُهُ)) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)).
وللموضوع بقية في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى...
(1/5493)
الجزاء والحساب (5)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
7/6/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدرة بعض المخلوقات على الحفظ والإحصاء. 2- الله هو أسرع الحاسبين وأعظمهم. 3- الحساب يوم القيامة يشمل كل صغير وكبير. 4- الشهود يوم القيامة. 5- انقطاع الأنساب يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زلنا مع سلسلة الاستعداد ليوم المعاد ومع الجزاء والحساب الذي نؤمن به، ولكن أعداءنا المتربصين بنا يعملون على إبعادنا وإشغالنا عن الاستعداد له ومحاسبة أنفسنا، وعدوُّ كلٍّ منا شياطينُ الإنسِ والجنِّ والكفارُ وهوى النفس الأمارة بالسوء وحبُّ الدنيا وطولُ الأمل.
ونعلم جميعًا بأن أعمالنا صغيرها وكبيرها محصية علينا فيما نأتي ونذر، ويتعجب الناس اليوم من صناعة البشر في المخترعات الحديثة التي علمهم الله إياها وهداهم إليها لتقوم بها حياتهم وتزداد عليهم الحجج والبراهين، قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُم مّن ?لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 58]، قَالَ رَبُّنَا ?لَّذِى أَعْطَى? كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى? [طه: 50]. فأكثر الناس من المسلمين والكفار يندهشون وينبهرون من تلك المخترعات، ولم يتفكروا في عظمة الله عز وجل وقدرته وأنه جل وعلا هو الذي أعطاهم ذلك وأقدرهم عليه وعلمهم إياه وهداهم إليه، مع أن جميع البشر من أولهم إلى آخرهم عاجزون عن أن يأتوا ويُحْضِرُوا من العدم ذرةً واحدة من ذلك الذي أعطاهم الله إياه وسخره لهم في علومهم واستخرجوه من هذه الأرض.
إذًا فالبشر لا يستطيعون أن يوجدوا ذرة واحدة من مخترعاتهم الحديثة التي بلغت مليارات الأطنان على وجه الأرض وفي الفضاء، بل هي من الأرض جمعوها بعد أن هداهم الله إليها وسخرها لهم، فَفَرْقٌ بين الإتيان بشيء من العدم وخَلْقِه وبين التجميع المبني على تعليم الله وتسخيره للبشر وهدايتهم إليه، فليتنبه المسلمون من عدم التفكير الواعي أو التشويش المضلِّل ومن الفكر المنحرف، وعليهم أن يَعُوا ويعرفوا إسلامهم حق المعرفة ويعملوا بما فيه، قال تعالى: وَ?للَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعًا مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 13]، وَ?لْخَيْلَ وَ?لْبِغَالَ وَ?لْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [النحل: 8]، أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـ?هِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ?لْفُلْكِ ?لْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42].
أعود للقول بأن من المخترعات الحديثة التسجيلَ بالصوت والصورة أو بأحدهما والنقلَ عبر الفضاء سواء منه المباشر أو المحتفظ به منذ ساعات أو عشرات السنين، ويتعجبون عندما تُعرض عليهم صورة شخص وأفعاله وأعماله في الصغر ثم الصبا والشباب ثم الشيخوخة وفي حالات هو يرتضيها ولم تسجل عليه في الخفاء، وربما عرضت على الناس بعد موته بسنين طويلة، فكيف بالشخص لو سجل عليه أو صوّر في حالات لا يرضى أن يطلع عليه فيها أحد من البشر، بل قد يستحيي هو من نفسه لو يراها مرة ثانية إذا كانت من الأمور الحقيرة في نظره؟! وكيف إذا كانت من الأشياء المهينة له والذنوب التي أخفاها عن أعين الناس؟! إن الأمر لا شك عظيم.
ومع أن البشر يندهشون في هذه الأيام لخاصية الحاسبات الآلية مع عظم حجمها وتكاليفها الباهظة وسرعة تلفها، ولكن الاستغراب يصيبهم في الأجزاء الصغيرة التي تحتفظ بالمعلومات الكثيرة بالكتابة أو الصوت والصورة أو بإحداهما، ويندهشون من كيفية النقل المباشر بالصوت والصورة للأشخاص عبر الهاتف وداخل غرف العمليات والاستشارات الطبية التي تُجْرى على بعد آلاف الكيلومترات وإعادتها ولو بعد سنين طويلة، وكذلك مما هو محفوظ أو متبادل في الشبكة العنكبوتية شبكة المعلومات المسماة بالإنترنت، يتعجبون من ذلك ولم يفكروا في الكرام الكاتبين الذين يحصون على كلِّ شخص كلَّ صغيرة وكبيرة حتى الوسوسة والهم بالحسنة والسيئة التي سوف يجدها كلٌّ منا في كتاب يلقاه منشورًا، يقرؤه بنفسه ولو لم يكن قارئًا ولا كاتبًا، وعند إنكار الشخص لأي شيء من أعماله فسوف يقوم عليه الشهود من نفسه ومن الأرض التي كان قد عمل عليها ذلك العمل محتفظة به لآلاف السنين حتى يوم القيامة، يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى? لَهَا [الزلزلة: 4، 5].
ويتشدق بعض الناس اليوم بما وصل إليه العلم من أنه بالإمكان أخذ الصورة لظل الشخص في المكان الذي كان فيه بعد ساعة، أو التسجيل بالصوت والصورة على بعد عشرات الأمتار، وغير ذلك من الأمور التي من المفترض أن تقربه إلى الله تعالى بدلاً من الإعراض عنه وعن أوامره ونواهيه. ولنستمع ونفقه هذه الآيات والأحاديث التالية: قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَامًا كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10-12]، وقال عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16-18]، وقال سبحانه وتعالى: وَتَرَى? كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى? إِلَى? كِتَـ?بِهَا ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَـ?ذَا كِتَـ?بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِ?لْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28، 29]، وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ?للَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَيْء قَدِيرٌ [البقرة: 284]، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [النمل: 74، 75]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر: 19]، خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ بِ?لْحَقّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَ?للَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [التغابن: 3، 4]، رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى? عَلَى ?للَّهِ مِن شَىْء فَى ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء [إبراهيم: 38]، ي?بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ أَوْ فِى ?لأرْضِ يَأْتِ بِهَا ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان: 16]، فَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَّرَهُ وَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَّرَهُ [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران: 30]، يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـ?دِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل: 111]، وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَـ?ئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء13، 14]، وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]، وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَـ?هُ كِتَـ?بًا [النبأ: 29]، فَ?لْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس: 54]، وَنَضَعُ ?لْمَو?زِينَ ?لْقِسْطَ لِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى? بِنَا حَـ?سِبِينَ [الأنبياء: 47]، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـ?عِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]، وَ?لآخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ?تَّقَى? وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء: 77]، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـ?ئِكَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء: 124]، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه: 112]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]، فَمَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فأُوْلَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ [المؤمنون: 102، 103]، ?لْيَوْمَ تُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ?لْيَوْمَ إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [غافر: 17].
وعند الإنكار لما عمله أو قاله الكافر أو المنافق والفاسق الذي يشيع على المسلمين ما ليس فيهم ويؤذيهم بما يشينُهُم ويشوِّه سمعتهم ويحب إشاعة الفاحشة فيهم ويبهتهم ويفتري الكذب عليهم يقام عليه الشهود من نفسه ومن غيره ومن الأرض التي عمل عليها جريمته، وسوف يأخذ المظلوم حقه منه يوم القيامة، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ?لْغَـ?فِلَـ?تِ ?لْمُؤْمِنـ?تِ لُعِنُواْ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ ?للَّهُ دِينَهُمُ ?لْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ ?لْمُبِينُ [النور: 23-25]، يَرْمُونَ أي: يقذفون العفيفات بالزنا. إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور: 19]، وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]، ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس: 65]، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ?لَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ?لُخَـ?سِرِينَ [فصلت: 20-23]، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34]، فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93]، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثًا [النساء: 41، 42]، وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى? هَؤُلاء [النحل: 89]، وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس: 61]، يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى? مِنَ ?لْقَوْلِ وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء: 108]، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ ?لَّذِى تَقُولُ وَ?للَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَكِيلاً أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فًا كَثِيرًا [النساء: 81، 82]، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]، بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى? مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 14، 15].
وفي آخر الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال في الثالث: ((يقول الله تعالى: أيْ فُلْ ـ أي: فلان ـ ، ألم أكرمْك وأسوّدْك وأزوّجْك وأسخّرْ لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربّع؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: أظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: أي رب، آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، ثم يقول: الآن نبعث شاهدًا عليك، فيتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليَّ؟ ويُخْتَمُ على فِيهِ، ويقال لفخذه: انطقي، فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه)).
قال أبو هريرة رضي الله عنه مما رواه عنه ابن حبان في صحيحه: قرأ رسول الله هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة: 4] ، قال: ((أتدرون ما أخبارها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمَة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فذلك أخبارها)) رواه ابن حبان والترمذي بنحوه.
وفي الحديث القدسي الذي رواه رسول الله عن ربه تبارك وتعالى: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
ولننظر إلى لطف الله بنا ورحمته إيانا بني آدم لضعفنا وعجزنا، كيف تُدَوَّنُ علينا الحسنات بمضاعفتها في الأجر إلى أضعاف كثيرة، والسيئات بمثلها فقط، بل يَمْحُوهَا، وفوق ذلك يبدلها حسنات إذا تاب العبد من تلك السيئات وأقلع عنها، والأحاديث كثيرة، وأكتفي بواحد فقط في صحيحي الإمامين الجليلين البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك في كتابه، فَمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ولا يهلك على الله إلا هالك)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحكم العدل، الملك الحق المبين، أحمده عز وجل وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حق وصدق أرجو بها النجاة يوم نلقاه، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: ففي ذلك اليوم العصيب تنقطع علائق الأنساب والافتخار بها، فكل إنسان مهتم بنفسه ولا يهمه غيره، بل يفرّ منه ولو كان أحب الناس عنده وأقرب قريب إليه، وتذهب الشهامة والنخوة والعصبيات والحمية الجاهلية ومناصرة الظلمة في الدنيا بالباطل على أصحاب الحقوق المساكين، كل ذلك يذهب ويتخلى بعضهم عن بعض حتى ولو بحسنة واحدة يعطيه إياها أو يحمل عنه سيئة، وفرق هنا بين أن يحمل عنه أو يحمل معه ومثله، فأما الحمل عنه فلا يمكن، وأما الحمل معه ومثله فذلك وارد لإضلاله إياه فهو دعاه إلى الضلالة فيحمل وزره ووزر من أضله إلى يوم القيامة، كما أن الذي يدعو إلى الهدى له أجره وأجر من عمل بذلك إلى يوم القيامة، قال تعالى: فَإِذَا جَاءتِ ?لصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 33-37]، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان: 33]، وقال تعالى: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـ?عَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 48]، يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُؤوِيهِ وَمَن فِى ?لأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 11-18]، وقال عز وجل: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى? حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى? إِنَّمَا تُنذِرُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِ?لْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَمَن تَزَكَّى? فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى? لِنَفْسِهِ وَإِلَى ?للَّهِ ?لْمَصِيرُ [فاطر: 18]، لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ?لَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [النحل: 25]، وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـ?يَـ?كُمْ وَمَا هُمْ بِحَـ?مِلِينَ مِنْ خَطَـ?يَـ?هُمْ مّن شَىْء إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [العنكبوت: 12، 13].
قال رسول الله : ((إنه يكون للوالدين على ولدهما دين، فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به، فيقول: أنا ولدكما، فَيَوَدَّانِ ـ أو: يَتَمَنَّيانِ ـ لو كان أكثر من ذلك)). وقال عكرمة: "يلقى الرجل زوجته فيقول لها: أي بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل كنت، وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين، فتقول له: ما أيسر ما طلبت! ولكن لا أطيق أن أعطيك شيئًا أتخوّف مثل الذي تخاف، قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيعلق به فيقول: أي والد كنت لك؟ فيثني بخير، فيقول له: يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى، فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت! ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئًا"، وقال : ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).
وللموضوع بقية إن شاء الله تعالى...
(1/5494)
الجزاء والحساب (6)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
14/6/1420
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدرات الإنسان على تخزين المعلومات هائلة لكنها دون إحصاء الملائكة لأعمال الإنسان. 2- سؤال الإنسان يوم القيامة عما قدم من عمل. 3- أمور يحاسب عليها العباد يوم القيامة. 4- الورود على الصراط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الناس قد أخذتهم الدهشة والعجب مما وصلوا إليه مما علّمهم الله إِيَّاه وسخّره لهم عز وجل من تقنيات حديثة مَكَّنَتْهُم من تخزين المعلومات وتبادلها واسترجاعها واستخراجها ومعالجتها عبر آلات مصنوعة من مخلوقات الله التي أودعها في هذه الأرض، ووجه الاستغراب يأتيهم من ناحية استخراج النتائج والبيانات ومعالجة المعلومات بعد إدخالها والتعرف على المعلومات على بعد آلاف الكيلومترات، ولم يعلموا أنه بالإمكان التزوير في تلك المعلومات والبهتان والكذب والتدليس والحذف والنقص والزيادة وشَتَّى المغالطات الممكنة، ويتفكر الناس في تلك الأجهزة ويعطونها هَالَةً من عدم الخطأ، بل هي في نظرهم أعلى من ذلك، مع أنهم هم الذين يودعون فيها تلك المعلومات المشتملة على المعلومات الخاطئة والصحيحة والمدلّسة والمزوّرة والمحذوفة لمن أراد الحذف أو الزيادة والنقصان. وكم يحصل من هذا على علم وعلى غير علم من المسؤولين؛ لأن بعض الذين يعملون في تلك الحاسبات من ضعاف النفوس يفقدون الأمانة فَيُدْخِلُون بيانات ومعلومات لمن أرادوا ترشيحه وتوظيفه أو نجاحه في مسابقة أو شهادة أيًا كانت أو نقله، كما هو الحاصل في الحركة السنوية لنقل المعلمين والمعلمات؛ لأن الذين يطلبون ذلك عشرات الآلاف من الجنسين، وفي المقابل يُبْعِدُون من أرادوا لإحلال غيره مكانه ممن يريدون، وهذا هو عين الخيانة والتزوير والغش والتدليس والكذب الذي يغفل عنه كثير من الناس اليوم لحداثة هذه الأجهزة في استعمالاتها وعدم وجود الرقابة والمتابعة والمطابقة من قبل المسؤولين في أي جهة كانت لما يُكتب باليد أو ما يُودع في أجهزة الحاسب، ولغفلة الناس وثقتهم المفرطة بهذه الأجهزة ظنًا منهم أن الأوراق تَدْخُلُهَا كما هي، وبعد ذلك يتم الفرز، ولم يعلموا الحقيقة الغائبة عن الأذهان مع عدم المراقبة والمتابعة التي سوف تزداد عواقبها الوخيمة وأثرها السيئ على الناس وسوءات فَاعِلِيهَا مع مرور الأيام.
وأمام هذه المعلومات البسيطة فيما يدور في عالم اليوم ودهشتهم واستغرابهم من هذه الأجهزة ومعالجة المعلومات بعد إدخالها لم يتفكر المسلمون في الكرام الكاتبين الذين يُحْصُون عليهم ويكتبون كلَّ صغيرة وكبيرة، وأنه لا يمكن فيها النقص والزيادة بقليل أو كثير حتى الممات إلا ما كان من زيادةٍ في العمل الصالح الذي لا ينقطع بل يجري ويستمرُّ ثوابُه لابن آدم بعد موته، وبذلك ورد الدليل على استمرار الأجر والحسنات للشخص إلى يوم القيامة كما ورد في الشهيد، والذي ينفق ماله في سبيل الله، والثلاث الواردة في الحديث عندما ينقطع عمل الميت إلا منها، وكذلك أجر الدعوة للهدى، وفي المقابل استمرار السيئات وأوزار الدعوة إلى الضلال، ويكون أيضًا الْمَحْوُ والْحَذْفُ لرب العالمين الذي ستر على ابن آدم ذنوبه ويمحوها عنه بِمَنِّهِ وكرمه ورحمته عز وجل، قال تعالى: يَمْحُو ?للَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ [الرعد: 39].
ولا وجه للمشابهة والمقارنة بين آلات البشر وإحصاءاتهم في الأجهزة وبالأيدي مما يدخلونه هم فيها وبين ما يستنسخه الكرام الكاتبون من أعمال بني آدم والدقة في ذلك، وإنما هو التقريب لأذهانهم لكي يعلموا الدقة في مثاقيل الذّر وسرعة الحساب يوم القيامة، تعالى الله علوًا كبيرًا عما يعمله البشر أو يتفوّهون به أو يتخيلونه أو يتصورونه، بل هو أعلى من ذلك وأجلّ سبحانه وتعالى كما قال عز وجل عن نفسه: أَلاَ لَهُ ?لْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ?لْحَـ?سِبِينَ [الأنعام: 62]، إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [آل عمران: 199]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى: 11].
في ذلك اليوم العظيم يعلم البشر حقارتهم وضآلة ما وصولوا إليه وما به يفتخرون ويتشدّقون وبأنوفهم يشمخون ولأعناقهم يلوون. فليتقِّ اللهَ المسلمون، وليحاسبوا أنفسهم قبل يوم الحساب يوم تنشر الصحف وتوزن الأعمال ويُلْزَمُ كلُّ إنسان بعمله ويُؤْتى كتابَه إما باليمين أو الشمال أو من وراء الظهر بالشمال أيضًا ويرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، على كل مسلم أن يستعد ليوم المعاد الذي سوف يُسْأَلُ فيه ويُنَبَّأُ بما قدّم وأخّر، ولن تنفعه المعاذير والكذب والبهتان الذي كان يفعله مع الخلق في الحياة الدنيا، كل ما عمله سوف يجده يوم القيامة في كتاب يلقاه منشورًا، قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَـ?ئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14]، يُنَبَّأُ ?لإِنسَـ?نُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ ?لإِنسَـ?نُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى? مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 13-15].
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ ـ وفي رواية: عن جسمه فيم أبلاه؟ ـ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟)) رواه البزار والطبراني، وقال رسول الله : ((لو أن رجلاً يخرّ على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة)) الطبراني وأحمد، وفي آخر الرواية الأخرى: ((ولودّ أنه رُدّ إلى الدنيا كَيْمَا يزداد من الأجر والثواب)) رواه أحمد.
فالحسنات التي هي سبب لدخول الجنات والإنقاذ من النيران بفضل الله ورحمته هي ثروة الإنسان ورأس ماله، فإذا كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر المظالم والغيبة والنميمة والبهتان وغيرها، وإن لم يكن له حسنات أَوْ فَنِيَتْ حسناتُه فإنه يُؤخذ من سيئاتهم وتُطرح عليه مع سيئاته ويُطرح في النار، نعوذ بالله من ذلك.
فعلى المسلم أن يستغلَّ حياته ويَتَحَلَّلَ من مظالم العباد في أيِّ شيء كان في الحياة الدنيا في زمن المهلة قبل أن يأتيه الموت ويصبح مُرْتَهَنًا بعمله إلى يوم القيامة حيث لا يوجد إلا الحسنات والسيئات. روى البخاري رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) ، وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فَيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه فطرح في النار)) ، وقال رسول الله : ((من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته، وليس ثمّ دينار ولا درهم)) ، وفي صحيح مسلم رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)).
وتكون الْبَدَاءَةُ يوم القيامة بالقصاص والحساب في الدماء وفيما بين العباد من المظالم والحقوق الأخرى، أما عمل الإنسان المسلم في عباداته فأول ما يُبدأ فيه بالسؤال عن الصلاة من حيث أعماله هو، ولا تعارض بين الأحاديث، فهذا في محاسبة العبد على أعماله الصالحة وعباداته مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها مما يتعلق به وبعبادته الخاصة به، فأول ما يبدأ فيها بالصلاة، أما في تعامل الإنسان مع الآخرين وحقوقهم وظلمهم فأول ما يُقضى فيه هو في الدماء، والنصوص واضحة جلية ولكن الأفهام السقيمة لا تفهمها ولا تستوعب المراد منها، روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئًا قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)). فهذا محمول على ما يتعلّق بالعبادة الخاصة بالمسلم، والحديث الأول على ما يتعلق بمعاملات الخلق فيما بينهم. وقد جمع النسائي رحمه الله بين الخبرين في روايته من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه: ((أول ما يُحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يُقضى بين الناس في الدماء)) ، وبهذا يزول اللبس والإشكال المحتمل عند بعض الناس مع أنه واضح للعيان ولله الحمد والمنة.
فعلى المسلم أن يتخلص من المظالم ومن الغدر والخيانة، ويخفف عن نفسه الأثقال؛ لأن العقبةَ كَأْدَاءُ لا يستطيع صعودها، ولنستمع إلى بعض ما ورد عن نبينا وحبيبنا ورسولنا محمد بن عبد الله ، قال : ((إن أمامكم عقبة كَؤُودًا لا يجوزها المثقلون)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقال: هذه غَدْرَةُ فلان ابن فلان)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((لكل غادر لواء عند اسْتِهِ يوم القيامة)) رواه مسلم، وأيضًا في صحيح مسلم رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسول الله ذات يوم فذكر الغلول وعظّمه وعظّم أمره، ثم قال: ((لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك. ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك)) الحديث. قال تعالى: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [آل عمران: 161]، وقال : ((من ولي من أمور المسلمين شيئًا فاحتجب دون خلَّتِهِم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته وفاقته وفقره)). والخلة هي الحاجة، والفاقة: الفقر، وهذه من المترادفات في المعنى. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد : هَـ?ؤُلاء ?لَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى? رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [هود: 18] )).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فإن جهنم سوداء مظلمة كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد ، وما دون النار ظلام دامس، والجسر مضروب على متن جهنم يمشي عليه المؤمنون على قدر أعمالهم حتى يجتازوه ويدخلوا الجنة، منهم من يمر كالبرق وكمرّ الطير وكأجاويد الخيل وكأشد الرجال جريًا، ومن يزحزح عن النار فهو من الفائزين حقًا. وشعار الأنبياء والرسل والمؤمنين: "رب سلّم سلّم"؛ لكيلا تزل قدم مؤمن فيقع في نار جهنم.
ويعطى المؤمن نورًا ويدعو الله عز وجل بأن يُتِمّ عليه ذلك النور لكي يرى الجسر في الظلام ويمر عليه وينجيه من نار جهنم، والمنافقون يطفأ نورهم ويقولون للمؤمنين: انتظرونا نقتبس من نوركم حتى ننجوَ، ويقولون: ألم نكن معكم نصلي ونصوم ونزكي ونحج؟! ولكن لا فائدة من هذا الاحتجاج، أما الكافرون فيوردون إلى النار ورودًا ويلقون فيها وفي دركاتها المختلفة حسب أعمالهم ومنازلهم فيها.
ولنستمع إلى الآيات والأحاديث التالية ففيها الذكرى والموعظة، قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران: 185]، يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم: 8]، وقال عز وجل: يَوْمَ تَرَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ يَسْعَى? نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِم بُشْرَاكُمُ ?لْيَوْمَ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ?نظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ?رْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَ?لْتَمِسُواْ نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ?لرَّحْمَةُ وَظَـ?هِرُهُ مِن قِبَلِهِ ?لْعَذَابُ يُنَـ?دُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى? وَلَـ?كِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَ?رْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ?لاْمَانِىُّ حَتَّى? جَاء أَمْرُ ?للَّهِ وَغَرَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ فَ?لْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ?لنَّارُ هِىَ مَوْلَـ?كُمْ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [الحديد: 12-15]، وقال تعالى: فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ?لشَّيَـ?طِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ?لرَّحْمَـ?نِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِ?لَّذِينَ هُمْ أَوْلَى? بِهَا صِلِيًّا وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 68-72].
فورود المؤمنين على الجسر المضروب على متن جهنم إنما هو تحلة للقسم وتكون عليهم بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم عليه السلام، ولكي ينقّى على قدر الذنوب من يقع فيها ممن كتب الله له الخروج منها. ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترًا منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورًا وكل منافق نورًا، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون: انظرونا نقتبس من نوركم، وقال المؤمنون: ربنا أتمم لنا نورنا، فلا يذكر عند ذلك أحد أحدًا)). وفي آخر الحديث الطويل الذي رواه مسلم رحمه الله من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي وأمي أي شيء كالبرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟! ثم كمرّ الطير وشدّ الرجال ـ أي: جريهم وسرعتهم فيه ـ تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: ربّ سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا)) ، قال: ((وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناجٍ، ومكدوس في النار)) ، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفًا. وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: ذكرت النار فبكيت، فقال رسول الله : ((ما يبكيك؟)) قلت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال : ((أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز)) ، وفي رواية: ((عند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم، حافتاه كلاليب كثيرة وحسك كثيرة، يحبس الله بها من يشاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا)) رواه أبو داود.
(1/5495)
الجنة ونعيمها (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
15/6/1407
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يقين السلف بالجنة. 2- أبواب الجنة. 3- دخول أهل الجنة إليها. 4- بعض نعيم أهل الجنة. 5- آخر رجل يدخل الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، إن الحديث عن الجنة شيِّق ومحبَّب إلى النفوس المؤمنة، الجنة تلك الأمنية الغالية التي يسعى إليها الساعون من المؤمنين على مر العصور، الجنة التي كانت في قلوب السلف الصالح شعلة تحركهم لضرب أعلى أمثلة البطولة في الجهاد والتضحية، الجنة تلك الغاية الكريمة التي تَرْنُو إليها العيون الحالمة وتهفو إليها الأرواح والنفوس المؤمنة في كل زمان ومكان، يستعذبون العذاب من أجل الحصول عليها.
إنها أعظم مرغوب عند المؤمن وأعظم محبوب بعد محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله محمد ، ودخولها والانتهاء إليها أمل يتراءى له في رحلة العمر التي تستغرق حياته كلها. وما أكثر ما كانت حافزًا إلى الخير والحق مهما كان في الطريق من المخاطر والعقبات والأشواك، بل لو كان فيها الموت المحقّق، لقد كان هذا أيام النبي كما أخبر أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله : ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)) ، فدنا المشركون، فقال رسول الله : ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)) ، قال عُمَيْرُ بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم)) ، قال: بخٍ بخٍ، فقال رسول الله : ((ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها)) ، فأخرج تمرات من قَرَنِهِ فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل رضي الله عنه.
فيا أيها المؤمنون، إن الجنة هي دار المتقين، دار الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، دار جنانها تجري من تحتها الأنهار، دار قصورها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، طينها ـ وقيل: ملاطها ـ المسك الأذفر أي: الجيّد غاية الجودة، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، وخيامها اللؤلؤ المجوف، هي نور يتلألأ وريحانة تهتز وفاكهة وخضرة، فيها الزوجات الخيرات الحسان، فيها العباد المنعمون الذين يأكلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، بل يخرج ذلك منهم مسكًا عندما يكون منهم جشاء، فيها المنعمون الذين يضحكون ولا يبكون، ويقيمون ولا يظعنون، ويحيون ولا يموتون، فيها الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة، فيها الجمال المبين والحور العين، فيها النعيم الدائم، فيها المزيد حيث يُرفع الحجاب فينظر الفائزون إلى وجه العزيز الوهاب، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
نتناول الحديث عن الجنة وسعتها وأبوابها وأنهارها وخدمها ومطاعمها ومشاربها وعن أهلها وعن سائر ألوان النعيم فيها من القرآن العظيم ومن حديث رسول الله :
ورد عن عرضها وريحها قول الله عز وجل: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، وقول رسول الله : ((من قتل نفسًا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام)) رواه ابن حبان في صحيحه.
وللجنة ثمانية أبواب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة)) ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) رواه البخاري واللفظ له ومسلم رحمهما الله تعالى. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل غيرهم)). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)). هكذا وردت في الحديث مُوَضَّحَةَ الْعَدَدِ ومُفَسِّرَةً للقرآن حيث وردت مجملة في قوله تعالى: وَسِيقَ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ?لّجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى? إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْو?بُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَ?دْخُلُوهَا خَـ?لِدِينَ [الزمر: 73].
وهذه الأبواب في غاية الوسع والكبر، وإن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، ومع ذلك فسوف تكتظ وتزدحم بأفواج الداخلين إليها. وحِلَقُ أبوابها من ياقوت أحمر، وهي قائمة على صفائح من ذهب. وقد روى الإمام مسلم رحمه الله من حديث خالد بن عمير قال: خطبنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه... إلى أن قال: ولقد ذُكِرَ لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهَجَر)) ، أو: ((هجر ومكة)) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة مختصرًا إلا أنه قال: ((أو كما بين مكة وبُصْرَى)). وقال وهو يحدِّث عن أهل الجنة: ((وينتهون إلى باب الجنة، فإذا حِلَقُهُ من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب)).
وعند باب الجنة شجرة عظيمة ينبع من أصلها عينان، خُصِّصَتْ إحداهما لشراب الداخلين، والثانية لتطهيرهم، فإذا شربوا من الأولى جرت في وجوههم نضرة النعيم فلا يبأسون أبدًا، وإذا تَوَضَّؤوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبدًا، قال تعالى: وَسَقَـ?هُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21]. وفي الحديث الطويل المروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنه سأل رسول الله عن هذه الآية يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم: 85]، ومما جاء فيه: ((وإذا شجرة على باب الجنة ينبع من أصلها عينان، فإذا شربوا من إحداهما جرت في وجوههم بنضرة النعيم، وإذا توضؤوا من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبدًا)) إلى آخر الحديث الذي رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي وغيرهما.
ودخول الجنة يكون زمرًا، ويتفاوتون في حسن هيئتهم وجمال وجوههم لتفاوت أعمالهم في الدنيا في كمياتها وكيفياتها، ويكونون جردًا مردًا بيضًا مكحلين أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنة، الطول ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب درّيٍّ في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء)) ، وفي آخر الرواية الثانية: ((لكل واحد منهم زوجتان، يُرى مُخُّ سُوقِهِمَا من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا)) رواه البخاري ومسلم واللفظ لهما والترمذي وابن ماجة رحمهم الله جميعًا. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يدخل أهل الجنة جردًا مردًا بيضًا جعادًا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع)) رواه أحمد والطبراني والبيهقي وابن أبي الدنيا.
ويُعْطَى الواحد منهم قوة مائة رجل في الجماع، وأفئدتهم في الرقة والخوف والهيبة مثل أفئدة الطير، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم، قال رسول الله : ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)) ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع))، قيل: يا رسول الله، أَوَيَطِيقُ ذلك ؟ قال: ((يعطى قوة مائة)) ، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: ((نعم، والذي نفس محمد بيده، إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع)) إلى آخر الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، طعامهم ذلك جُشَاءٌ كريح المسك، يُلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النَّفَسَ)) رواه مسلم وأبو داود، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) رواه مسلم.
وتستقبل الملائكة وفود الرحمن عند دخولهم إلى دار السلام إلى جنات النعيم، وأول المستقبلين هو رضوان خازن الجنان، ثم الملائكة الموكّلون بنعيم الجنة وأهلها، قال تعالى: وَتَتَلَقَّـ?هُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ هَـ?ذَا يَوْمُكُمُ ?لَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 103]، وَسِيقَ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ?لّجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى? إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْو?بُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَ?دْخُلُوهَا خَـ?لِدِينَ [الزمر: 73]، وقال تعالى: وَالمَلَـ?ئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد: 23، 24].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد: فأورد بعض الأحاديث ولو أن إيرادها بكاملها أفضل وأكمل؛ لأن الإطالة لا تناسب المقام، وعلى المسلم أن يراجع التفسير والأحاديث ليزداد شوقًا إلى الجنة، ولن يصل إليها إلا بعد بذل السبب بالأعمال الصالحة والتقرب بذلك إلى الله جل جلاله محبةً وطاعةً له وامتثالاً لأمره وأمر رسوله محمد ورغبةً فيما عنده سبحانه وبحمده، ومع بذل المسلم السبب وحبه لله ولرسوله وخشيته وخوفه من الله ومن أليم عقابه ورجائه وطمعه في ثوابه فلن يدخل الجنة إلا أن يتغمده اللهُ برحمته، وسوف تكون خطبة أخرى بل خطب إن شاء الله لإكمال ما تبقى من هذا الإيجاز الذي لم يكن في الإمكان الابتعاد عنه، نسأل الله القبول وحسن الخاتمة. قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَـ?لِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَـ?هُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَـ?ذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا [الإنسان: 20-22]. وفي الحديث الطويل الذي ذكر الرسول عن آخر رجل يدخل الجنة فقال: ((حتى يمر الذي يعطى نوره على ظهر قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تخر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها فقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها، ـ قال: ـ فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل، فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خلل الباب، فيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول له: أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار؟ فيقول: رب اجعل بيني وبينها حجابًا لا أسمع حسيسها ـ أي: بينه وبين النار، قال: ـ فيدخل الجنة ويرى ـ أو: يرفع ـ له منزل أمام ذلك كأن ما هو فيه إليه حلم، فيقول: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول له: لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، وأي منزل أحسن منه؟! فيعطاه فينزله، ويرى أمام ذلك منزلاً كأن ما هو فيه إليه حلم، قال: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول الله تبارك وتعالى له: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك يا رب، وأي منزل أحسن منه؟! فيعطاه فينزله ثم يسكت، فيقول الله جلّ ذكره: ما لك لا تسأل؟ فيقول: رب قد سألتك حتى استحييتك وأقسمت حتى استحييتك، فيقول الله جلّ ذكره: أَلَمْ تَرْضَ أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة؟! فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله، فيقول الرب جلّ ذكره: لا ولكني على ذلك قادر، سَلْ، فيقول: ألحقني بالناس، فيقول: اِلحق بالناس، فينطلق يرمل في الجنة، حتى إذا دنا من الناس رُفع له قصر من درة فيخر ساجدًا، فيقال له: ارفع رأسك، ما لك؟ فيقول: رأيت ربي ـ أو: تراءى لي ربي ـ، فيقال له: ارفع رأسك، إنما هو منزل من منازلك، ثم يلقى رجلاً فيتهيأ للسجود له، فيقال له: مه؟ فيقول: رأيت أنك ملك من الملائكة، فيقول له: إنما أنا خازن من خزانك وعبد من عبيدك، تحت يديّ ألف قَهْرَمانٍ على ما أنا عليه، فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر، وهو درة مجوفة، سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء، فيها سبعون بابًا، كل باب يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة، كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى، في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف، أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة يُرى مُخُّ ساقها من وراء حللها، كبدها مرآته، وكبده مرآتها، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفًا، فيقال له: أشرف، فيشْرفُ، فيقال له: ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك)) الحديث بطوله رواه ابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" وهو في مسلم بنحوه باختصار عنه. وقال : ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم)) ، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: ((بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. ومصداق ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد: 21]. وما أخفاه الله عنا من نعيم الجنة شيء عظيم لا تدركه عقول البشر ولا تصل إلى كنهه أفهامهم، وإنما هو التقريب إلى أذهانهم عن بعض ما ألفوه واعتادوه ورأوه في الدنيا، وإلا فالمخفي عنهم أعظم كما قال تعالى: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]، والباء هنا سببية أي: بسبب أعمالهم الصالحة كما وردت في عدة آيات من القرآن الكريم، ولا منافاة بينها وبين دخول الجنة برحمة الله، وإنما هي الأسباب لدخول الجنة أو العكس من ذلك في أسباب دخول النار، وكما أسلفت في الخطبة السابقة بأن الأسباب للدارين لا بد من بيانهما إن شاء الله تعالى في خطب قادمة. ورد في صحيح البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] )). ورواه الإمام مسلم رحمه الله عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: شهدت من رسول الله مجلسًا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: ((فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) ، ثم قرأ هذه الآية: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 16، 17]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/5496)
الجنة ونعيمها (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
29/6/1407
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف الجنة وما فيها من نعيم. 2- ذكر بعض من وعد بهذا النعيم. 3- نساء أهل الجنة. 4- رؤية الله في الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زال الحديث عن الجنة متصلاً بسابقه، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، كما نسأله تعالى أن يجيرنا من النار، إنه سميع مجيب، وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
أيها المسلمون، لقد سبق الكلام في الجمعة السابقة عن الجنة وأبوابها وقصورها وسعتها واستقبال أهل الجنة وتفاضلهم وصفتهم، والآن أكمل إن شاء الله بعضًا مما تبقى فيما ورد عن نعيمها.
فعن خيامها وغرفها روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا)) رواه البخاري ومسلم والترمذي إلا أنه قال: ((عرضها ستون ميلاً)) وهو رواية لهما. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنها من ظاهرها)) ، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وبات قائمًا والناس نيام)) رواه الطبراني والحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"، ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري إلا أنه قال: ((أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام)).
وعن أنهار الجنة روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدُّرِّ والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج)) رواه ابن ماجة والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله : ما الكوثر؟ قال: ((ذاك نهر أعطانيه الله ـ يعني في الجنة ـ، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجُزُر)) ، قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله : ((أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ منها)) حديث حسن رواه الترمذي. قال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَـ?كَ ?لْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ?لأبْتَرُ [سورة الكوثر].
وقد ورد قول الله تعالى في سورة محمد عن الأنهار الأربعة التي هي أصل كل أنهار الجنة بأنها أنهار الماء غير الآسن أي: الماء الصافي الذي لا كدر فيه وغير متغير الرائحة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بل في غاية البياض والحلاوة والدّسُومَة، وأنهار من خمر لذة للشاربين أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا ولا تذهب بالعقل ولا تغيبه بل حسنة المنظر والطعم، قال الله جل جلاله: لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 47]، لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ [المعارج: 19]، وأنهار من عسل مصفّى أي: وهي في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح، قال تعالى: مَّثَلُ ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى وُعِدَ ?لْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15].
وعن شجر الجنة قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله : ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضَمَّر السريع مائة عام لا يقطعها)) رواه البخاري ومسلم والترمذي، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان: 14] قال: (إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قيامًا وقعودًا ومضطجعين) رواه البيهقي وغيره موقوفًا بإسناد حسن.
وأهل الجنة يأكلون ويشربون ومع ذلك لا يتغوَّطُون ولا يبولون ولا يمتخطون، بل يكون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، ولهم في الجنة ما يشتهون وما تتوق له وتتمناه أنفسهم، قال تعالى: ي?عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ?لْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ?دْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْو?جُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـ?فٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْو?بٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ?لأنْفُسُ وَتَلَذُّ ?لأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ وَتِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَـ?كِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 68-73]، وقال تعالى: إِنَّ أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ ?ليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـ?كِهُونَ هُمْ وَأَزْو?جُهُمْ فِى ظِلَـ?لٍ عَلَى ?لأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَـ?كِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ [يس: 55-58]، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جُشَاءٌ كريح المسك، يُلهمون التسبيح والتكبير كما تُلهمون النَّفَسَ)) رواه مسلم وأبوداود، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟! قال: ((نعم، والذي نفس محمد بيده، إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع)) ، قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى، قال: ((تكون حاجة أحدهم رشحًا يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه)) رواه أحمد والنسائي ورواته محتجّ بهم في الصحيح.
نعم، إن الرجال والنساء من أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولكن شَتَّان بين نعيم الجنة الذي لا يَنْفَد ولا ينقطع من فترة لأخرى وبين الحال الموجود في الدنيا، والفرق شاسع بين فواكه الجنة ونعيمها الآخر من الأكل والشرب الذي يختلف في اللذة والطعم والوصف عن متاع الدنيا، فلا يوجد في الدنيا إلا بعض الأسماء فقط من العنب والنخل والرمان والسدرِ المخضودِ المقطوعِ شوكُهُ والطلح المنضود الذي فُسِّرَ بالموز وغير ذلك من أنواع الفاكهة التي ذكرت جملة في عدة آيات من القرآن وتفصيلاً في بعضها، ومن المشروبات الماء والعسل والخمر واللبن، أضف إلى ذلك النعيم بالأكل والشرب منها والتلذذ بها من غير تعب ولا نصب ولا انقطاع ولا مِنَّةَ فيها بأنها تخرج من غير بول ولا غائط ولا نواتج أخرى وإخراج وإفراز من عرقٍ نتن الرائحة ولا صمغ ولا بصاق ولا مخاط، بل رشح وعرق يخرج كأطيب وأفضل ريح مسك وجد عل وجه الأرض.
أيها المؤمنون، إذا كان الإخراج والإفراز مستقذر من الرجل في هذه الدنيا فإن ذلك أشدُّ استقذارًا منه في نساء أهل الدنيا اللائي هن أعظم فتنة على الرجال من أي فتنة أخرى، فهن يحملن بين جنوبهن البول والغائط، ويتخلَّصْنَ منه ومن دم الحيض والنفاس والعرق والمخاط والبصاق والصمغ بما خلقهن الله عليه، ولا إرادة لهن في ذلك، ومع ذلك بذاءة اللسان والمكر والخداع والكيد وغير ذلك مما نعلمه جميعًا، وليس هذا خاصًا بهن دون الرجال بل الجميع مشتركون فيه ما عدا الحيض والنفاس أو ما يسمى بالدماء الطبيعية، فالبول والغائط والمخاط والبصاق والصمغ والعرق موجود في الذكور والإناث من أهل الدنيا، في المسلم والكافر، في الكبير والصغير والغني والفقير والملك والمملوك والوزير والأمير والمأمور والصانع والتاجر والطبيب والمريض والعالم والجاهل، وأوردت ذلك للتقريب بين الحياة مع نساء الدنيا وبين النعيم مع الحور العين في الجنة، وأهمس في آذان الذين يسعون وراء الحرام، وربما وقع أحدهم في دماء المرأة وظهر أثرُ البَرَصِ عليه بين الناس بسبب الشهوة العارمة لكليهما وقذارتهما، فهل يفيق الغافلون ويتوبون إلى الله عز وجل؟! فالله يقبل توبة التائبين، وإنا لنرجو لهم التوبة وللجميع الثبات على الإيمان حتى الممات.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قَوْسِ أحدكم أو موضع قيدِهِ ـ يعني سوطه ـ من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطَّلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري ومسلم والطبراني مختصرًا بإسناد جيد إلا أنه قال: ((ولتاجها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) والنَّصِيفُ: الخمار. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أَضْوَأ كوكبٍ درِّيٍٍّ في السماء، ولكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
وورد عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي قالت: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن قول الله عز وجل: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: 22]، قال: ((حور: بيض، عين: ضخام، شُفْرُ الحوراء بمنزلة جناح النسر)) ، والمراد بالشفر جفن العين، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: كَأَنَّهُنَّ ?لْيَاقُوتُ وَ?لْمَرْجَانُ [الرحمن: 58] ، قال: ((صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي)) ، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن: 70]، قال: ((خيرات الأخلاق حسان الوجوه)) ، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ [الصافات: 49]، قال: ((رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشر)) ، قلت: يا رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: عُرُبًا أَتْرَابًا [المعارج: 37]، قال: ((هن اللواتي قُبِضْنَ في دار الدنيا عجائز رُمصًا شمطًا، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى، عربًا متعشّقات متحبّبات، أترابًا على ميلاد واحد)) ، قلت: يا رسول الله، أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: ((نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظِّهارة على البطانة)) ، قلت: يا رسول الله، وَبِمَ ذاك؟ قال: ((بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل، ألبس الله عز وجل وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحليّ، مجامرهنّ الدر، وأمشاطهن الذهب، يَقُلْنَ: ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدًا، ألا ونحن الناعمات فلا نَبْأَسُ أبدًا، ألا ونحن المقيمات فلا نَظْعَنُ أبدًا، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كنّا له وكان لنا)) ، قلت: يا رسول الله، المرأة منا تتزوّج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها منهم؟ قال: ((يا أم سلمة، إنها تُخَيَّرُ فتختار أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فتقول: أي رب، إن هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فَزَوِّجْنِيهِ، يا أم سلمة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة)) رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات سمعها أحد قط، إن مما يغنّين به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بِقُرَّةِ أَعْيَان، وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا نَمُتْنَهْ، نحن الآمنات فلا نَخَفْنَهْ، نحن المقيمات فلا نَظْعَنَّهْ)) رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورواتهما رواة الصحيح.
وورد في عددهن للمؤمن الواحد عدة روايات، منها: له زوجتان، ومنها: اثنتان وسبعون، وأربع وسبعون، ومائة عذراء، ولا منافاة في ذلك ولا غرابة، فبذلك وردت الأحاديث عن رسول الله ، فرواية الزوجتين كما ورد في الحديث السابق ذكره، ومن روايات المائة ما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قيل: يا رسول الله، هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: ((إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء)) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع)) ، قيل: يا رسول الله، أوَيطيق ذلك؟! قال: ((يعطى قوة مائة)). وقد يكون ذلك حسب تفاوت الدرجات بين أهل الجنة، وقد تكون الزوجة أو الزوجتان من نساء الدنيا والبقية من الحور العين في الجنة، والله أعلم بذلك.
فعلينا الإيمان والتصديق في هذا وفي غيره من أمور الغيب؛ لأن عقولنا وأفهامنا وإدراكنا أقل من ذلك وأعجز مما نتصوره ونتخيله، فالإيمان والتصديق واجب بكل ما ورد في القرآن الكريم وفي صحيح سنة رسول الله ، والحق الذي لا مِرْيَةَ فيه ولا شَكَّ عند أي مؤمن أن الجنة كما ذكر الله عنها وذكر رسوله بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس نزلاً لعباده المؤمنين، ونوّع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلاً وأسبابًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أحمده جل وعلا وأشكره، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: ففي الجنة النعيم المقيم والخير العميم والفضل من الله الرحمن الرحيم، فيها الأسِرَّةُ المرتفعة التي توحي بالنظافة والطهارة، والأكواب المصفوفة المهيأة للشراب والتي لا تحتاج إلى طلب أو إعداد، والوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح، والبسط والسجاجيد المبثوثة هنا وهناك للزينة والراحة سواء، هذا وغيره مما ذُكِرَ من النعيم والمناعم التي وردت في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه محمد مما يرى الناس لأسمائها أشباهًا في الأرض، عندما تُذْكَرُ هذه الأشياء إنما هو لتقريبها لمدارك أهل الأرض، أما حقيقتها وحقيقة المتاع بها فذلك موكول إلى الله العزيز الحكيم قَيُّومِ السماوات والأرض وإلى علمه جل جلاله وتعالى سلطانه، فهو الذي أحاط بكل شيء علمًا، وهو الذي خلقها وخلق جميع الخلائق وأوجدها من العدم سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو اللطيف الخبير.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهبُّ ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فتقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً)) رواه مسلم رحمه الله.
وأعظم كرامة في الجنة النظر إلى وجه الله العزيز الكريم ذي العزة والجبروت، عن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟! ـ قال: ـ فَيُكْشَفُ الحجابُ، فما أعطوا شيئًا أحَبَّ إليهم من النظر إلى ربهم)) ، ثم تلا رسول الله هذه الآية: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ?لْحُسْنَى? وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] رواه مسلم والترمذي والنسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله : ((هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) فذكر الحديث بطوله، رواه البخاري ومسلم.
وَقَدْ فُسِّرَ قولُ الله عز وجل: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35] بالنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن أفضل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى وجه الله تعالى كل يوم مرتين)) رواه ابن أبي الدنيا مختصرًا. وقد قرأ رسول الله قول الله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى? رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23] عندها قال عليه الصلاة السلام: ((وأكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجه الله عز وجل غدوة وعشية)) رواه أحمد والترمذي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى ـ يا ربنا ـ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا)) رواه البخاري ومسلم والترمذي رحمهم الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءُوا إن شئتم: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] )) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة رحمهم الله تعالى.
فيا أيها المؤمنون، المسارعةَ المسارعةَ والمنافسةَ المنافسةَ والبدارَ البدارَ بالتقرب إلى الله عز وجل ومحبته تعالى واتباع نبيه محمد فيما أمر به والابتعاد عما نهى عنه وزجر، والخوفَ الخوفَ من الله تعالى ومن أليم عقابه، والرجاءَ الرجاءَ في الله سبحانه وتعالى وما عنده من الأجر العظيم والثواب الكبير والمغفرة والرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء، نسأل الله أن يدخلنا فيها، كما أن علينا أن لاّ نأمن مكر الله وغضبه. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي فيما يروي عن ربه جل وعلا أنه قال: ((وعزتي، لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة)) رواه ابن حبان في صحيحه.
فعلينا الأخذ بالأسباب وهي الأعمال الصالحة والبعد عن كل ما يسخط الله عز وجل، ومع ذلك نرجو رحمة الله عز وجل؛ لأن الأعمال الصالحة أسباب لدخول الجنة التي لن يدخلها أحد بعمله، أي: مقابل العمل الصالح وثمنًا لها، وإنما هي الأسباب التي أ ُ مرنا بفعلها والأخذ بها، وإلا فرحمة الله هي فوق ذلك ومَنُّه وكرمه على عباده، فباءُ الْعِوَضِ غَيْرُ بَاءِ السَّبَبِ التي وردت في الآيات والأحاديث، فليتنبه كل مسلم لهذا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله...
(1/5497)
النار (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
25/7/1406
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف النار. 2- بعض أنواع العذاب فيها. 3- طعام أهل النار وشرابهم. 4- تفاوت عذاب أهل النار. 5- صراخ أهل النار وعويلهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعلينا ـ معشر المسلمين المؤمنين ـ أن نتقي الله تعالى ونتقي النار التي أعدت للكافرين، نتقيها بطاعة الله وطاعة رسوله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فإنه لا نجاة لنا من النار إلا بذلك بعد رحمة الله ورضاه. وعلينا أن نتقي النار فإنها دار البوار والبؤس والشقاء والعذاب الشديد، دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ساكنوها شرار خلق الله من الشياطين وأتباعهم، قال الله تعالى: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85]. دار فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجّارهم.
طعام أهلها الزقوم، وهو شجر خبيث مُرّ الطعم والمذاق، كريه المنظر، لا يسمن ولا يغني من جوع، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قرأ هذه الآية: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] فقال رسول الله : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟!)) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: ((فكيف بمن ليس له طعام غيره؟!)) ورواه الحاكم أيضًا إلا أنه قال فيه: فقال: ((والذي نفسي بيده، لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الأرض لأفسدت ـ أو قال: لأمرت ـ على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟!)) وقال: "صحيح الإسناد".
ذلك طعامهم إذا جاعوا، فإذا أكلوا منه التهبت أكبادهم عطشًا، فيستغيثون ويطلبون الماء، فيأتيهم الماء البالغ نهاية الحرارة يشوي وجوههم حتى يتساقط عنها اللحم، قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29]. فإذا شربوه على كُرْه وضرورة وهو كالمهل أي: كالنوع السائل من القطران، عندها تتقطع أمعاؤهم وتغلي منه بطونهم وتُمزق جلودهم، فهو كالمهل المتخلف بعد القطران في حرارته وكالصديد والقيح في نَتَنِهِ ورائحته وخبثه، يضطر شاربه إلى شرابه اضطرارًا، قال الله جل جلاله في وصف ذلك الماء والشراب وحال المعَذَّب به في نار جهنم: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 16، 17]، وقال تعالى: كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 45، 46].
أما لباس أهل النار فلباس الشر والعار، قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج: 19]، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم: 50]. فلا يقيهم هذا اللباس حرّ جهنم، وإنما يزيدها اشتعالاً وحرارة، ولا يستطيعون أن يقوا به وهجَ النار وحرَّها عن وجوههم، بل يأتيهم كذلك الماء البالغ نهايته في الحرارة الشديدة ويصب من فوق رؤوسهم ليصهر ويذيب ما في بطونهم والجلود، قال الله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19-22].
أيها المؤمنون، إن الحديث عن دار البوار والخسران المبين ليس كالحديث عن دار النعيم الأبدي عن دار الأبرار؛ لأن النفس تنبسط وتفرح وتنشرح عند سماع النعيم وترتاح له وتلذ وتتطلع إليه، أما عند سماع الشقاء فإنها تقشعر وترتاع منه وترهبه وتخافه.
وإن آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله وافية الشرح والبيان حول ذلك وغيره، فيجدر بكل مؤمن أن يتأمل ويتمعَّن ويتدبر كتاب الله وسنة رسوله محمد ليعيش بين الخوف والرجاء ومحبة الله جل جلاله والطمع في رحمته سبحانه، يخاف عقاب الله ويرجو رحمته، يخاف من النار ويطمع في الجنة، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.
وأستعرض بعض الآيات والأحاديث الواردة بقصد الذكرى والاتعاظ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فدار البوار ذات دركات، كل دركة تحت الأخرى حتى نهايتها، وهي سبع تتفاوت في شدتها وعذابها، أخفها عذابًا أعلاها، وأشدها عذابًا أسفلها، ولكل دركة اسمها الخاص وبابها الخاص، قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 43، 44]، وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ [النساء: 145]. وقد وردت أسماء دركات دار البوار في القرآن الكريم مفرقة في عدة سور، فأسماؤها: نار جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية. اللهم أجرنا منها واصرف عنا عذابها، إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 65، 66].
يؤتى بأهل النار يساقون إليها أفواجًا متتابعة فوجًا بعد آخر، وزمرًا متداركة زمرة بعد أخرى، وقد برزت لهم كما قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر: 71]، وما إن تراهم من مكان بعيد إلا سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا كما قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12]، وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 6-11]، ثم يخرج منها عنق يَلْتَهِمُ من شاء الله أن يلتهمهم من أهل الموقف من الجبارين والمشركين، وقد جاء هذا واضحًا في حديث رسول الله حيث قال: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وُكّلتُ بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصوّرين)).
وتساق تلك الزمر إلى جهنم حتى إذا وصلوها وجدوا أبوابها مغلقة، فتفتّح لهم، ويدفعون إليها دفعًا كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 13-16]، ثم يُلقون منها في أماكن ضيقة وهم مقيّدون في الأصفاد مكبلون بالسلاسل والأغلال كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان: 13]، وقال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم: 49، 50].
وما إن تستقر تلك الجماعات الهالكة والزمر الخاسرة في جهنم بعد أن ألقوا فيها مهانين حقيرين ذليلين حتى ينزل بهم عذاب نفساني أليم مُهين، ذلك هو عذاب التوبيخ والتقريع والتأنيب الذي يلقونه من ملائكة العذاب الموكلين بهم مثل قولهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8]، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر: 71]، هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 14-16]، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا [النبأ: 30].
كل هذا التوبيخ والتقريع والتأنيب جاء بيانه في كتاب الله عز وجل، والذي ذُكِرَ هُنا قليل من كثير، فعلينا بتلاوة القرآن الكريم وتدبره وعدم اتخاذ سماعه وتلاوته طربًا لا يجاوز الحناجر ولا يصل إلى القلوب فما أُنزل لهذا؛ إنما أُنزل للتدبر والتفكر والعمل والتطبيق، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29].
وأما عن تلاوم أهلها فيكفينا أن نصغي إلى بعض الآيات القرآنية لنعرف عن ذلك شيئًا يسيرا، لقد أخبر عنهم عز وجل بقوله: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 38، 39]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33]، وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: 27-33].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده تعالى وأشكره وأستغفره وأتوب إليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن من أغرب ما يُعرف عن أهل النار من أحوال في غاية العجب أن يخطب فيهم إبليس خطبة من أبلغ الخطب وأفصحها وأشدّها أثرًا ووقعًا في نفوس سامعيها، فيزيدهم في كربهم وطول محزنهم وشدة إبلاسهم وإفلاسهم، وذلك لما يكسبهم خطابه من الندامة والحسرة القاتلة حيث كان يغرّهم ويخدعهم في الدنيا ثم يتخلى عنهم ويرد اللوم عليهم باستجابتهم له، فعليهم أن يلوموا أنفسهم بسبب استجابة دعوته لهم، ولنستمع إلى تلك الخطبة كما وردت في القرآن الكريم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22].
فأهل النار في عذاب مستمر لا يُفَتَّر عنهم، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودًا غيرها حتى يحِسُّوا ويذوقوا العذاب، فيكون التبديل والعذاب في الجلد لأنه منطقة الإحساس بالألم والحرارة والبرودة وغيرها، وهذه إحدى المعجزات لنبينا محمد التي تدل على صدق رسالته وأنه لم يأت بشيء من عند نفسه مهما كان صغيرًا ودقيقًا في أعين الناس، فهو يخبر بأشياء لا يعلم ولا يعرف عنها أصلاً أيّ معلومات سابقة إلا بما أوحى الله إليه، فالعلم بأن الجلد هو منطقة الإحساس بالألم لم يكتشف إلا في هذا العصر مع أن حقيقة الإخبار عنه موجودة في القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، قال تعالى: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20].
يُنوَّعُ عليهم العذاب فلا يستريحون، فيقولون لخزنة جهنم: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ [غافر: 49]، فهم لا يطمعون في التخفيف الدائم ولا في الانقطاع ساعة من العذاب، وإنما يسألون أن يخفف عنهم يومًا واحدًا من العذاب، ولكن لا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ والتَّهَكُّم تقول لهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالأدلة الواضحات؟ فيقولون: بَلَى ، فتقول الملائكة: فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [غافر: 50]، فلن يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل وأتباعهم حين دعوهم إلى الله وعبادته في الدنيا، وحينئذٍ يتمنون الموت من شدة العذاب فيقولون: يَا مَالِكُ وهو خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أي: يطلبون أن يهلكهم ويميتهم، فيقول لهم مَالِك: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ، ويقال لهم: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ، قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 74-78]، كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة: 167]. يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال والعدل الفعال لما يريد فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون: 106، 107]، فيقول لهم أحكم الحاكمين: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون: 108-110].
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إن أهون أهل النار عذابًا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم)) رواه البخاري ومسلم ولفظه: ((إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابًا)) ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرّ بي نعيم قط، ولم أرَ خيرًا قط، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) رواه مسلم.
لنَرَ كيف نسي كل نعيم الدنيا الذي مرّ به حينما غُمس في النار غمسة واحدة، فكيف به وهو مخلّد فيها أبدا؟! قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 64-68].
أيها المسلمون، أكتفي بما أشرت إليه من أحوال أهل النار، وأستعرض في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى ما أمكن من أوصافها وأوصاف أهلها وطعامهم، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها.
(1/5498)
النار (2): أوصافها وأوصاف أهلها وطعامهم وشرابهم
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
9/8/1406
سعيد الجندول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفة النار وأنواع عذابها وصنوفه. 2- طعام أهل النار وشرابهم. 3- تفاوت دركات أهل النار بحسب كفرهم وشرورهم. 4- بكاء أهل النار وبعض أحوالهم فيها. 5- دعوة للمحاسبة والعظة والاعتبار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد سبق الحديث عن بعض أحوال أهل النار، وفي هذه الخطبة إن شاء الله تعالى أذكر ما أمكن من بعض أوصافها وأوصاف أهلها وطعامهم وشرابهم، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها ويجير جميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
إنَّ حَرَّ نار جهنم لِشِدَّتِهِ يَصْهَر كل ما يُلقى فيه، وإن الاستعار والتأجج في جهنم يزداد باستمرار، قال الله تعالى: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا. ولإتمام الفائدة أورد الآية من أولها، قال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97]، وقال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19، 20]، وقال تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون: 104]، وقال رسول الله : ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من حر جهنم)) ، قالوا: والله، إن كانت لكافيةً يا رسول الله! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).
وأما لونها فهو أشد سوادًا من القار، قال رسول الله : ((أترونها ـ نار جهنم ـ حمراء كناركم هذه؟! لهي أسود من القار)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم)) ، وفي رواية: ((فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها)) رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي.
وفي صحيح مسلم رحمه الله من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن عمقها وبعد قعرها أنه قال: كنا مع الرسول إذ سمعنا وجبة فقال النبي : ((أتدرون ما هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفًا، فالآن حين انتهى إلى قعرها)). والويل في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] وقوله: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ [إبراهيم: 2] ورد تفسيره بأنه وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره.
ولقد جاء بيان السلاسل والأغلال والكبول والأنكال، جاء بيان ذلك في عدة سور من القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا [الإنسان: 4]، إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل: 12، 13]، وقال تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر: 70، 71]، وقوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 30-37].
ولقد فسر زيادة العذاب في قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] فُسِّرَتْ زيادة العذاب بأنها عقارب تلسعهم، العقرب كالبغلة الموكفة، وورد عن رسول الله قوله: ((إن في النار حيات كأمثال أعناق البخت، تلسع إحداهن اللسعة فيجد حَرَّها سبعين خريفًا، وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة، تلسع إحداهن اللسعة فيجد حَمْوَتَهَا أربعين سنة)) رواه أحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
إن لأهل النار مطاعم كثيرة ومشارب، إِذِ الطعامُ والشرابُ من لوازم الحياة، وأهل النار أحياء فيها لا يموتون إذ لو ماتوا لاستراحوا من العناء والعذاب، ولكنهم لا يموتون كما قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56].
ويسألون الموت ويطلبونه ولكن لا يستجاب لهم، جاء طلبهم في القرآن في قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 77]. وقد أخبر تعالى عن عدم موتهم بقوله: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36]،.
ومن طعام أهل النار الزقوم، وهو ثمر يخرج من شجرة تنبت في أصل الجحيم، مذاقه مُرٌّ شديد المرارة، يغص به في الحلق فلا يسوغ ولا ينزل إلا بالماء الحميم، ومن خواصه أنه يغلي في البطن غليان الماء والمهل الذي هو أشد حرارة ومرارة وحنظلاً لها من الماء، قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 62-67]، وقال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43-46].
ومن طعامهم أيضًا الغسلين، وهو ما تجمع من عصارة أهل النار من قيح وصديد وعرق، وما يخرج من فروج الزُّنَاة وما يسيل من لعاب شاربي الخمر في الدنيا والمغتابين والكذابين وقائلي الباطل وشاهدي الزور. ورد ذكر الغسلين في قوله تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 35-37].
ومن طعامهم أيضًا الضريع، وهو شَوْكٌ مُرٌّ مُتَنَاهٍٍ في المرارة، ينشب في الحلق يسيغه الآكل بالحميم، فهو لا يسمّن آكله ولا يغنيه من جوع، قال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: 6، 7].
ومن بعض مشارب أهل النار الحميم، وهو ماء حار يجري من عين آنية، بمعنى أن درجة حرارة الماء فيها قد انتهت إلى ما لا مزيد عليها أبدًا، ومن خواص الحميم أنه يُصهر به ما في بطونهم والجلود ويقطّع أمعاءهم، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: 2-5]، وقال تعالى وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15]، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19، 20].
ومن شرابهم كذلك ماء الصديد، وهو ماءٌ كَدِرٌ يحوي كميات من الصديد يَغُصُّ به شاربُه حتى لا يكاد يسيغه ويعاني منه آلامًا لا يعلم مداها إلا الله تعالى، قال عَزَّ وجَلَّ: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 15-17].
ومن الشراب أيضًا ماء شبيه بالمهل، إذا أدناه أحدهم من فمه ليشربه شَوَتْ حرارتُه جلدةَ وجْهِهِ، قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29].
ومن الآيات التي تجمع بين الطعام والأكل من شجر الزقوم حتى تمتلئ بطونهم والشراب من الماء البالغ نهاية الحرارة الذي يشربون منه ولا يَرْوَوْنَ بل يزيدهم عطشًا كالنِّيَاق العِطَاش التي لا ترتوي أبدًا لإصابتها بذلك المرض ـ ولذلك سُمِّيَتْ بِالْهِيمِ ـ قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 49-56].
ومن شرابهم أيضًا ماء من نهر الْغُوطَة، وهو ماء متجمع مما يسيل من فروج الزواني من النساء، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، وعاق والديه ـ وفي رواية: ومصدق بالسحر ـ، ومن مات مدمن الخمر سقاه الله جل وعلا من نهر الغوطة)) ، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: ((نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهلَ النار ريحُ فروجهن)) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح الإسناد". وفي رواية أخرى بإسناد حسن لأحمد وصححها ابن حبان: ((كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال)) ، قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((صديد أهل النار)) ، وفي لفظ: ((عصارة أهل النار)).
وإنَّ تَفَاوُتَ العذاب بين أهل النار في دار البوار ثابتٌ مقطوعٌ به، وهو تابع لتفاوت أعمالهم وما كسبوا من خير وشر في هذه الحياة الدنيا، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إن أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) رواه مسلم رحمه الله. وخُفِّفَ عذابُ أبي طالب إلى هذه الدرجة من أجل ما قَدَّمَهُ من خدمات للإسلام ممثلة في شخص الرسول. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إن أهون أهل النار عذابًا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم)) رواه البخاري ومسلم ولفظه: ((إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشدُّ منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا)) ، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي قال: ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)).
أيها المسلمون، مَنْ مِنَّا يستطيع أن يتحمل اللهب المتصاعد من عود الثقاب من الكبريت؟! بل من منا يستطيع أكثر من ذلك يعرض يده أو رجله أو أي جزء من جسمه لأفران البتوجاز أو المخابز أو أي نار أخرى أو يستطيع أن يسكب على جسمه ماءً حارًا من السَّخَّان أو ماءً مغليًّا على النار؟! فإذا كنا لا نستطيع ذلك ولن نستطيع لأن أجسامنا لن تقوى على النار، فعلينا أن نعمل على إبعاد أنفسنا وأهلينا ومن وُلِّينَا أَمْرَهُ عن نار الآخرة كما قال تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فالعويل والبكاء من لوازم معاناة المخاوف والآلام ومقاساة الشدائد والأهوال، وأهل دار البوار وسكانها لا يبرحون يتجرعون الغصص ويتذوّقون مُرَّ العذاب، حزنهم دائم، وعذابهم لا ينقطع ولا يخفّ، ومن هنا لا يُستغرب منهم البكاء والعويل، ولا يُستنكر عليهم الصياح والنواح، فهم يتضاغون فيها ويصطرخون، يدعون بالويل والحسرة والثبور، قال الله تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] أي: هلاكًا حيث يدعون على أنفسهم بالهلاك، فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان: 14]، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37]، وقال تعالى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 100]، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 106، 107]، وقال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر: 55، 56]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان: 27-29].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((يا أيها الناس، ابْكُوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع، فيسيل ـ يعني الدم ـ فَيُقْرِح العيون)) رواه ابن ماجة وأبو يعلى والحاكم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن أهل النار يدعون مالكًا ـ أي: خازن جهنم ـ فلا يجيبهم أربعين عامًا، ثم يقول: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 77]، ثم يدعون ربهم فيقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون: 107]، فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]، ثم يَيْأَس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق، تشبه أصواتهم أصوات الحمير، أولها شهيق وآخرها زفير، قال تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون: 103-111]، وقال عز وجل: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 74-80]، وقال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19-22].
فيا أيها المسلمون، لنتذكر هذه الأيام بمناسبة الامتحانات الدنيوية للأولاد ذكورًا وإناثًا، لنتذكر كيف الإعداد والاهتمام من أجل امتحانات دنيوية ومن أجل الحصول على النجاح والفوز، كيف يكون الاستعداد من قبل الآباء والأمهات والأولاد ذكورًا وإناثًا؟! فما بالنا ولماذا لا نعد العدة في فترة الامتحان والاختبار الطويلة في زمن المهلة وهي عمر كل إنسان منا في هذه الحياة الدنيا سواء طال عمره أو قصر؟! وهي مدة كافية لأداء الامتحان من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار. فعلينا أن نغتنم الفرصة والمهلة التي أعطانا الله إياها في هذه الحياة الدنيا، وعلينا أن ننتبه ونفيق من غفلتنا ونتذكر ونمعن النظر ونتأمل ونحن نتلو كتاب الله أو تتلى علينا آياته، ولنتذكر الموت ويوم الجزاء والحساب، ولنتذكر الجنة والنار، نقرأ الآيات المشتملة على النعيم الدائم في الجنة وأوصاف ذلك جملة وتفصيلاً فيما ورد في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول ، وكذلك ما ورد عن النار في القرآن الكريم والسنة النبوية. علينا أن نتأمل ونتفكر ونتعظ ونفرق بين النعيم الدائم في الجنة وبين اللذة العاجلة في الحياة الدنيا، اللذة المحرمة التي يرى صاحبها أنه استمتع بها لدقائق ولحظات لا تطول وتعقبها ساعات الحسرة والندامة في الدنيا قبل الآخرة، وإلى أي مدى تستمر معه تلك النشوة والفرح بارتكاب ذلك المحرم؟! لو تدبر وتأمل ذلك المسكين حاله وأفاق من غفلته لأدرك الفرق الشاسع الذي لا مقارنة ولا تقارب معه بين هذا النتن والعفن وبين النعيم الأبدي السرمدي، ولو علم عواقب اتِّبَاعه للشهوات وارتكاب المحرمات في الدنيا لو علم مصيره في الآخرة إن مات على ذلك ما هو العقاب الذي سيجرُّه على نفسه لابتعد وانزجر وكف نفسه عن إعطائها شهواتها وما تميل إليه وألجمها بزمام التقوى وحبسها عما يوردها المهالك وسجنها ـ خاصة عندما يزين له الشهوةَ شياطينُ الإنس والجن ـ في سجن لا أغلال فيه ولا آصار، بل هو تقرب إلى الحي القيوم بكف النفس عن المعاصي والآثام لنيل الرضا والفوز بالجنات والبعد عن النيران، يتذكر دائمًا أن الحياة الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ويفعل الأسباب المنجية له من الهلاك والخسران طاعة لله ومحبة، ويطمع في رحمة الله ويرجوها، ويخاف من عقاب الله، ويدعو الله تعالى بحسن الخاتمة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد: 26]، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185].
أكتفي بما ذكر عن النار وإن كان لها أسباب لا بد من ذكرها في خطب لاحقة إن أمكن ذلك إن شاء الله تعالى وبإذنه عزّ وجلّ.
(1/5499)
الصلاة حماية للمجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عمار بن إبراهيم محمد حسن
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة. 2- فضل الصلاة. 3- يسر الصلاة. 4- المقصود من الصلاة. 5- محافظة المؤمنين على الصلاة. 6- الصلاة نور. 7- صلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإني أوصيكُمْ ونَفْسِيَ بتقْوىَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأحثُّكُمْ على ذكره وشكره وتعظيمه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.
أيها الإخوة المؤمنون، الصلاة هي الركن الثاني في الإسلام، والعبادة الأولى في كل الشرائع، وأول ما يحاسب عليه العبد، وهي أفضل ما يصلح حال الإنسان ويهذب أخلاقه ويقوِّم سلوكه، وأرقى ما يصلح بدن الإنسان ويحافظ على نظافة جسده وطهارة قلبه؛ لذلك أمر الله بالمحافظة عليها فقال عز من قائل: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ.
إن الصلاة في الإسلام خير الأعمال وأحبها إلى الله؛ لأنها عبادة راقية عالية القدر ذات معنى ومكانة رفيعة، فهي تخاطب العقل والروح، فيها ابتهال ودعاء وذكر وتلاوة، وتؤدّى وفق نظام بديع ودقيق، أُمر بها المسلمون في السفر والحضر والأمن والخوف والصحة والسقم، ويشترط شروط وأركان وواجبات وسنن وهيئات وجمع وجماعات وأذان وإقامة وطهارة وطيب وزينة وتوجّه نحو القبلة بمواقيت معلومة وركعات معدودة.
آذَنَ الوَقتُ فَالصَلاةُ الصَلاةُ فَهيَ تَبقى وَتَنفَدُ اللذاتُ
كَيفَ تَقضي الصَلاةُ حَقَّ هِباتٍ لَكَ يا رَبُّ وَهيَ مِنكَ هِباتُ
فَاِهدِنا لِلصَلاةِ يا واسِعَ الجو دِ فَمِنكَ العَطاءُ وَالخَيراتُ
نعم، إنها خمس صلوات ينادى لها بهتاف الإيمان، أَذَان يدوي في آذان الزمان، يشق أجواء الفضاء: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر". فيهبّ المؤمنون ملبّين مجيبين والأشواق تتجاذبهم إلى بيوت الله، لا يشغلهم عنها شاغل، قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ. قال تميم الداري رضي الله عنه: (ما دخل عليّ وقت صلاة من الصلوات إلا وأنا لها بالأشواق).
ومع كثرة فوائدها وعظم أهميتها ودقة نظامها البديع فهي ليست مرهقة ولا تستغرق وقتًا كثيرًا، والمصلي المحافظ عليها يُثاب حتى على أعماله المباحة ويبارك الله في حياته ويطيّب أنفاسه.
أيها الإخوة المصلون، إن المعنى الأعظم للصلاة إنما هو ذكر الله والخشوع والخشية بين يديه جل جلاله، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. إنها الصلاة التي كان رسول الله يحن إليها ويشتاق لها اشتياق الظمآن اللهفان لشربة ماء عذب، ويهرع إليها كما يهرع السائر في الصحراء إلى الواحة الخضراء في الهجير وهو يقول : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
ما كانَ يهجَع حبًا في الصَلاة إلى أَن اِشتَكَت قدماه الضرّ من ورم
إخوة الإيمان، إن الله أحب عباده المؤمنين فدعاهم إلى حضرته ليذكروه ويعبدوه ويستعينوا به ويستهدوه في أوقات مرتبطة بلحظات انقلابٍ زمني عظيم في الكون، حتى يسشعر الإنسان فضل ربه ويحمده على نعمة الإسلام والإيمان. وإن المبادئ والقيم إذا لم تقيد بعبادات دائمة موقوتة تُذكر بها فإنها تتعرّض للتحريف والنسيان، ولمَّا كانت الصلاة هي أحسن الأعمال التي فرضها الله على عباده وخير ما يقومون به أمرهم أن يؤدوها في هذه الأوقات المعلومة، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ، فصلاة الفجر هي أنسب ما يلبي حاجة الروح ويغني فقر الإنسان ويقويه لمواجهة أعباء النهار، وخير ما يضيء ظلمة الليل صلاة العشاء ليختم سجلّ أعماله اليومية بحسن الخاتمة، قَالَ النَّبِيُّ : ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله)).
أيها المسلمون، إن من عرف الصلاة حاشاه أن يتركها أو يملّ من تكرارها، بل إن المصلين من فيض ما يشعرون بنعمة هذه العبادة وبركتها في حياتهم يتقربون إلى الله بالاستزادة من النوافل ولا يكتفون بالفرائض، ومن هنا صارت الصلاة تعبّر عن هوية المسلم وانتمائه لدينه وعبوديته لخالقه العظيم، فلا خير في دين لا صلاة فيه، قَالَ النَّبِيُّ : ((لا خَيْرَ فِي دِينٍ لا رُكُوعَ فِيهِ)). فسبحان من صير الأرض مسجدًا وطهورًا لعباده المصلين! سبحان من أقبل بقلوب عباده المؤمنين على هذه الصلاة! فشغفوا بمحبتها فبنوا لها المساجد، ورفعوا لها المآذن، وطهروا لها الأبدان، ونصبوا فيها الوجوه، وأحنوا فيها الظهور، وسجدوا على الأنوف والجباه لربّ غفور شكور. قال رسولُ الله : ((قال الله عَزّ وَجَلّ: إِنّي فَرَضْتُ عَلَى أُمّتِكَ خَمْسَ صلَواتٍ، وَعَهِدْتُ عِنْدي عَهْدًا أَنّهُ مَنْ جَاءَ يُحَافِظُ عَلَيْهِنّ لِوَقْتِهِنّ أَدْخَلْتُهُ الْجَنّةَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلِيْهِنّ فَلاَ عَهْدَ لَهُ عِنْدِي)).
إخوة الإسلام، الصلاة نور المؤمنين، تكسب وجوههم جمالاً وبهاء، وتنور قلوبهم فتشرق بصائرهم بأنوار المعارف، وهي نورٌ للمؤمنين في قبورهم، قال رسولُ الله : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) ؛ لذا فإن إهمالها أو تركها ظلم يظلم القلب، وكلما قويت الظلمة ازدادت الحيرة، فيا خسارة من ترك الصلاة! ويا ويل من أهملها وسها عنها حتى يضيع وقتها! قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ. إنها عهدٌ لمن عاش عليها أن يدخله الله الجنة، وصك براءة في محكمة يفصل فيها رب العالمين، إنها نور على الصراط في ظلمات القيامة، عن النَّبيِّ قال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبُرهانًا ونجاةً يَوْمَ القيامة، ومَنْ لم يُحافِظْ عليها لم يكن له نور ولا نجاة ولا بُرهانٌ)).
أيها المسلمون، إن الإنسان لا تستقيم حياته بدون مراقبة ربانية ومنهج إلهي يرعى طهارة قلبه ونظافة بدنه، ليبقى نقيًا قابلاً لاستجلاب الخير واستقطاب الأنوار، ويشاء الله أن تكون الصلاة مجلاةً للأفئدة والأبصار، فعن النَّبيِّ قال: ((أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدكم يَغْتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مَثَلُ الصَّلواتِ الخمس؛ يمحو الله بهنَّ الخطايا)).
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ولا تجعلنا عن عبادتك من الغافلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يليق بجلاله وجوده وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سَيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وَبَارِك عَلى سَيدِنَا محمدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ أجمعين، وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد: فاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ اللهِ ـ حَقَّ التَّقوى، وراقبوه في السرِ والنَّجوى.
أيها المسلمون، حافظوا على الصلوات والجمع والجماعة في المساجد بيوت الإيمان والعلم والعمل وتطهير الأرواح والأبدان؛ لتتقوى روابط الإخاء والمساواة والمحبة، ويتضاعف الأجر والثواب، يقول الرسول : ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاة الرجل وحده خمسا وعشرين درجة)) ، وهذا ما جعل سعيد بن المسيّب رحمة الله عليه ملازمًا للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة.
هذا، وصَلّوا وسلِّموا على منْ أُمرتمْ بالصلاةِ والسَّلام عليه في مُحكمِ التنزيلِ، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
اللهم اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهمْ والأمواتِ...
(1/5500)