رسالة عاجلة لمن يريد نصرة رسول الله
الإيمان, موضوعات عامة
الإيمان بالرسل, جرائم وحوادث
محمد بن مبروك لعويني
وادي سوف
26/1/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على التقوى. 2- السبيل لنصرة الحبيب. 3- رسالة للمسلمين عامة. 4- رسالة إلى الشباب. 5- رسالة إلى الفتاة المسلمة. 6- رسالة إلى كلّ مسؤول. 7- رسالة إلى التجار ورجال الأعمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم؛ فإنهما النجاة والهداية والسعادة لكل من اتبعهما وتمسك بهما في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، وقال تعالى: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ، وعن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) رواه أحمد ومسلم.
وفي خضم الأحداث والعداوة المعلنة من طرف الغرب الكافرين للإسلام والمسلمين ولجناب النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه أبعثُ إليكم هذه الرسالة العاجلة لكل من أراد نصرة رسول الله ، وكلنا ذلك المريد، وكل مسلم في الدنيا يقول بلسان الحال والمقال: أنا أريد نصرة حبيبي ورسولي وقرة عيني، فداه نفسي ، فكيف السبيل؟
وإجابة هذا السؤال نوردها في الرسائل التالية:
الرسالة الأولى إلى المسلمين كافة: إن نصرة رسول الله بالمقاطعة الاقتصادية والتنديد بذلك عبر وسائل الإعلام أمر محمود، وأضعف الإيمان أن يغضب المسلم ويتمعّر وجهه ويدعو الله بنَصرِ نبيه والانتقامِ له من أعدائه، ولكن هذا لا يكفي في نُصرة من كان سببا في هدايتنا لما نحن فيه من الحق، وما لاقاه من أجلنا من عذاب وتنكيل وإخراجٍ من الديار والأموال وسيرته حافلة بذلك، بل ينبغي لنا أن نتبع هَدْيَهُ شِبْرًا شبرا وذراعا ذراعا، فنمتثل ما أمر به، ونجتنب ما نهى عنه، فلا نتبع طريقا غير طريقه، ولا منهجا غير منهجه، فكل منا يَعْرِضُ نفسه على كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، فينظر في عقيدته: هل هي عقيدة رسول الله أم لا؟ فإن كان على عقيدة رسول الله فليحمد الله، وليعلم أنه نصر رسول الله بعقيدته، وإن وجد في عقيدته شوائب فليرجع لما كان عليه رسول الله من الاعتقاد، ثم ينظر إلى عبادته من صلاة وزكاة وصوم وحج وذبح وتوكل وخوف ورجاء وغيرها، هل هو مخلص فيها لله تعالى، مُتَّبعٌ لِهَدْيِ رسول الله فيها أم لا؟ ثم يراجع أخلاقه وتعامله بين الناس، بداية بأهل بيته وأقاربه وجيرانه ثم بقية المسلمين، هل هو يعاملهم بأخلاق النبي وينصح لهم امتثالا لقوله : ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) روه مسلم وغيره، أم يغشّهم ويخدعهم ويمكر بهم ويؤذيهم ويأكل أموالهم بالباطل؟ فإن كان المسلم على هدي رسول الله عقيدةً وأخلاقا وسلوكا وعبادة ومعاملة فقد نصَر رسول الله ، وهذا ما يغيظ الكفار ويقُضُّ مضاجعهم، أما أن يدّعي نصرة رسول الله من هو تارك للصلاة أو مانع للزكاة أو من يسبّ الله ودينَه أو من يأكل أموال الناس بالباطل ويأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن فهذه دعوى غير كافية.
عباد الله، والرسالة الثانية إلى شباب المسلمين الذين ظهر حُبُّهم لرسول الله بالتنديد والغضب العام على من استهزأ وسخِر برسول الله عبر وسائل الإعلام، والمظاهرات والتي نهى عنها العلماء لما فيها من فساد وأضرار وتخريب، وعبر المقاطعةِ الاقتصادية والدعوةِ إليها وغيرها، هذا التنديد شمل كل الشباب حتى من كان غارقا في بحر المعاصي والمنكرات، وما ذلك إلاّ دليل على وجود جذوة الإيمان التي أوقدت نارَ الغضب على الشامتين الحاقدين على رسول الله ، ولكن هذا لا يكفي لمن يعوَّل عليهم بعد الله في رفع رايةِ دعوةِ رسولهم ، بل على كل شاب يحب رسول الله أن يعود إلى هديه ، فيفعل ما به أمر، ويجتنب ما عنه نهى وزجر.
ومِمّا نهى عنه موالاة الكافرين ومحبتهم والتشبه بهم, وأمَر بعداوتهم وبغضهم، فمن التناقض أن يَدَّعي شاب نصرة رسول الله وهو يتشبّهُ بِمن يسُبّ ويسخر من رسول الله ، يتشبَّهُ بهم في لباسهم وفي حلقه لشعره ويتّبع ما يخرجونه من الموضات، ويحبّ هذا اللاعب وذاك المغنّي مع أنه كافر بالله وبرسوله تجب عداوته وبغضه، كيف يدّعي نصرة رسول الله من يعيش ليلَه ونهاره في سماع الأغاني الماجنة ومشاهدة الأفلام الهابطة، عقوق للولدين، قطع للأرحام، خنا ورِبًا وفجور، وكتاب الله مهجور، وسنة رسول الله وراء الظهور؟! فسؤالي لمن هذا حاله أو أقل: هل رسول الله الذي تنصره يرضى بما أنت فيه؟! وهل تستطيع أن تفعل ذلك أمامه؟! لا والله، بل إنّ الإيمان الذي دفعك لنُصرته سيحول بينك وبين فعل المنكر أمامه، فإن كنت كذلك فحقيق منك ـ يا أُخَيَّ ـ أن تستحي ممّن يراك ويعلم ما تخفي وما تعلِن، الذي خلقك فسواك، ورزقك وهداك، وجعلك من أتباع النبيّ ، وأن تتوب إليه وتعود، وبذلك تكون قد نصرتَ رسول الله حقًّا.
والرسالة الثالثة: إلى كل فتاة مسلمة ناصرة لرسول الله ؛ إن نصرة رسول الله لا تكمل إلا باتباع دينه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فانصري رسول الله بحيائك وعفتك وحجابك واستقامتك، ولا تغترّي بدعاوى الحرية والموضات، فما وراءها إلا هتكُ عرضكِ، لا تختلطي بالرجال غير المحارم في أيّ مكان، لا تخرجي للأسواق والتجمعات إلا للضرورة القصوى، لا تستمعي للأغاني ولا تحضري الأعراس التي بها الغناء ولو دُعِيت إليها، أطيعي والديك وزوجك، وكوني داعية لدين الله تعالى، فتلك هي نصرتك لرسول الله ، واسمعي معي لقوله : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
واعلموا أنَّ الرسالة الرابعة إلى كل راعٍ ولاَّه الله رعية، سواء كان أميرا أو وزيرا أو رئيسا أو واليا أو مديرا أو أبًا في بيته أو أُمًّا، أن ينصر رسول الله بتقوى اله تعالى في رعيته، فلا يظلمهم ويغشهم، بل عليه العدلُ بينهم والنصيحةُ لهم، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يَسْتَرْعِيهِ الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ رعيتَه إلا حرم الله تعالى عليه الجنة)) ، وفي رواية: ((فلم يُحِطْهَا بنصحه لم يَرُحْ رائحة الجنة)) رواه البخاري ومسلم.
والرسالة الخامسة: إلى التجار ورجال الأعمال؛ أبو بكر الصديق نصر الإسلام في وقت الردة، والإمام أحمد رحمه الله نصر الإسلام في وقت المحنة، وأنتم جاء دوركم وحان وقتكم في نصرة نبيكم ، لا بد أن تكون لكم مواقف حازمة ومآثر رائعة غيرة لنبيكم.
فيا أيها التجار، ويا رجال الأعمال، أوقفوا كل التعاملات التجارية مع الدنمارك ومن فَعَل فعلهم؛ حتى يتم الاعتذار علنيًّا ورسميّا من تلك الصحيفة ودولتها ومن شايعهم، وتذكروا أن المال زائل، لكن المآثر باقية مشكورة في الدنيا والآخرة، وأعظمها حب رسول الله والانتصار له، ولكم أسوة في الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول ، في موقفه الحازم من أبيه، عندما آذى رسول الله ، وكيف أنه أجبر أباه على الاعتذار من رسول الله ، وإلا منعه من دخول المدينة، في الحادثة التي سجلها القرآن الكريم: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.
وثبت أنَّ المنافق عبد الله بن أُبيِّ بن سلول تكلم على رسول الله بكلام قبيح، حيث قال: والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فعلم ولده عبدُ الله بذلك فقال لوالده: والله، لا تفلت حتى تقرّ أنك أنت الذليل ورسول الله العزيز.
الله أكبر! هكذا يغضب الرجال لرسول الله، وهكذا ينتصر الأبطال لنبي الله. لم يأذن لوالده بدخول المدينة حتى يقرّ بأنه هو الذليل ورسول الله هو العزيز وقد فعل، لم يجامل والده، لم يداهن من أجل قرابته، لم يتنازل عن الدفاع عن رسول الله من أجل مصالحه، فهو والده ومن يصرف عليه، إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب يصنع الأعاجيب. فهل يستجيب رجال الأعمال لهذا الواجب في الغيرة لنبيهم ؟ وهل يكفُّون عن التعامل التجاري مع الدنمارك حتى يتمّ تقديم الاعتذار الرسمي واشتراط عدم تكرار هذه الجريمة؟
وأنتم أيها المسلمون، أتعجزون عن مقاطعة منتجاتهم غيرة لنبيكم ؟! حتى يعلم أولئك الأوغاد أن لرسول الله أنصارا؛ لا يرضون أن يدنّس جنابه أو أن يمس بسوء عرضه، ودون ذلك حزُّ الرؤوس.
فإن أبي ووالدَه وعِرضي لعرض محمد منكم وِقاء
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم كلّ من آذى نبيك بقول أو بفعل فأرنا فيه عجائب قدرتك ومعاني قوتك، اللهم شُلَّ أيديهم وأخْرِسْ ألسنتهم وأعْمِ أبصارهم، اللهم ابترهم من كل خير وصِلْهُم بكل شر، اللهم افضحهم على رؤوس الأشهاد وعذبهم يوم التناد وشهّر بهم في كل وادٍ...
(1/5286)
فتوحات بيت المقدس
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, معارك وأحداث
عبد الله بن محمد اليوسف
الخبر
جامع عائشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدهور حال المسلمين. 2- ضرورة مدارسة التاريخ الإسلامي. 3- ديمومة الصراع في بيت المقدس. 4- المسجد الأقصى قبل الإسلام. 5- فتح بيت المقدس في عهد الفاروق عمر. 6- استيلاء النصارى على بيت المقدس. 7- استعادة صلاح الدين لبيت المقدس. 8- دروس وعبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن المتأمل لتاريخ المسلمين منذ إيجاد دولة الإسلام الخالدة وإرساء تعاليم الملة السمحة على يد المصطفى وأحوالها وعصورها المتأخرة يصاب بالذهول ويرجع على نفسه بالحسرة، بينما كان المسلمون فيما مضى أمة ظاهرة وقوة قاهرة، حكمت الشرق والغرب، وزعزعت دولتين عظيمتين كسرى وقيصر، يهتز كسرى على كرسيه خوفًا من المسلمين وانتصاراتهم، وتخشاهم ملوك الروم حتى قضوا عليها، وأخرجوا العباد من عبادة الأحجار والرهبان إلى عبادة الواحد الديان، لقد أصبح حال الأمة في عصورها المتأخرة في ضعف وجبن وخور في شتى المجالات، لما تركوا أمر الله تعالى تسلط عليهم الأعداء وتفرقوا شيعًا وأحزابًا.
ما أحوج الأمة ـ عباد الله ـ في أيام محنها وشدائدها وهي تعصف بها النكبات ويتحكم فيها اليهود والنصارى، ما أحوجها إلى دروس من تأريخها الأصيل، تتأمل من خلالها سمات النصر والهزيمة وعوامل الضعف والقوة. وما أجدر المسلمين وقد تفرقوا وتقاطعوا وهم إخوان أن تثور في نفوسهم الأبية، وفي قلوبهم الرحيمة دعوة التوحيد وأخوة الإيمان؛ ليتراحموا ويتواصلوا ويتناصروا، ويكونوا جميعًا كالجسد الواحد ضد أعدائهم الذين تفرق شملهم إلا عليهم، ويتذكروا بذلك أوطانًا لهم مسلوبة وحقوقًا لهم مغتصبة ودماء لهم مسفوحة في بلاد شتى منكوبة من العالم، يصرخ فيها المسلمون وهم يتذكرون قول القائل:
كم صرفتنا يد كنا نصرِّفها وبات يملكنا شعب ملكناه
أيها المسلمون، واليوم نتذكر جانبًا من جوانب النصر والعزة، ونقلب صفحة من صفحات الجهاد والصبر والبلاء والتضحية حول أرض مباركة كانت عبر التاريخ مثار صراعات وحروب، حتى إن التاريخ لم يعرف مدينة تواردت عليها الجيوش من مختلف شعوب الأرض مثلما تواردت على بيت المقدس.
وفي عصرنا هذا يتكرر التنازع على الموضع نفسه، فالمكان واحد، والأرض المقدسة واحدة، والمسجد المبارك واحد، ولكن المتنازعين كثر، فلليهودية العالمية أطماعها المستقلة، وللنصارى تطلعهم المنفرد، أما العرب والمسلمون فلا يعترفون لهؤلاء ولا هؤلاء بحق السيادة على الأرض المقدسة، ومن ثم تأتي أبدية الصراع وديمومة العداء، فأصبح المكان ميدانًا كما كان؛ لجريان سنة التدافع بين الناس.
أيها المسلمون، لقد كان المسجد الأقصى بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي بنحو ثلاثمائة سنة، يعيثون فيه فسادًا، ويقيمون فيه شعائر الكفر، حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، فقد وجه عمر الفاروق رضي الله عنه أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة لفتح بيت المقدس، وحشد له جيشًا قوامه خمسة وثلاثون ألف مقاتل بإمرة سبعة قوّاد، فحاصروا بيت المقدس في أيام برد شديدة، واستمر الحصار أربعين يومًا، فلما رأى الروم حالهم يضعف ولا مدد يأتيهم من الخارج طلبوا مفاوضة المسلمين ابتغاء الفرج.
فقام راهب منهم وصعد سور المدينة، وقال للمسلمين: ماذا تريدون منا في هذه البلدة المقدسة، ومن قصدها يوشك أن يغضب الله عليه ويهلكه، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: نعم، إنها شريفة، وفيها أسري بنبيِّنا إلى السماء، وإنها معدن الأنبياء وقبورهم فيها، ونحن أحقّ منكم بها، ولا نزال عليها أو يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها، فقال الراهب: فما الذي تريدون منا؟ فتقدم أبو عبيدة رضي الله عنه فعرض عليهم الإسلام أو يكتب معهم كتابًا يأمنون فيه على دمائهم وأموالهم ويؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون أو يقاتلهم، فكان جواب الراهب: إنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتهم هذه البلدة.
واتسعت المفاوضات، ولما رأوا إصرار المسلمين على القتال وعزمهم الأكيد على فتح المدينة أذعنوا للصلح وتسليم المدينة، ولكنهم اشترطوا أن لا يسلّموها إلا لخليفة رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوافقهم أبو عبيدة على ذلك، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأتي إليهم، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة بدابّة ومعه غلامه يتعاقبان على الدابة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس، يذهب إلى هناك بثوبه المرقع ولكنه يحمل الدنيا في يديه.
فعندما بلغ الخليفة أسوار المدينة كان دور الركوب لغلامه، فنزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وركب الغلام وعمر يمسك بخطام البعير، فلما رآه النصارى آخذًا بخطام الراحلة وغلامه فوقها أكبروه، فبكى راهب النصارى ونادى بأعلى صوته: انزلوا فاعقدوا معه الأمان فإنه صاحب محمد ، ففتحت الأبواب، ودخل عمر رضي الله عنه بيت المقدس. دخل بيت المقدس في اليوم الخامس والعشرين من ربيع الأول في العام الخامس عشر الهجري، ودخلت من ورائه الجيوش الإسلامية وراياتهم فوق الرؤوس، واجتمع المؤمنون لهذا الفتح العظيم.
وحان وقت صلاة الظهر فأمر عمر بن الخطاب بلالاً أن يؤذن، فارتفع صوت بلال بالأذان من فوق منارة بيت المقدس، فإذا بصوت عمر رضي الله عنه يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة، وبكى الجيش كله، وارتج المسجد الأقصى بالبكاء.
وهكذا سلمت القدس لخليفة رسول الله ولأمين هذه الأمة، ولا تسلم أبدًا إلا لأمين يسير على دربهم، وهكذا يفتحها الأمناء ويضيّعها الخونة.
وهكذا صار المسجد الأقصى بيد أهله ووارثيه بحق وهم المسلمون، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
أيها المسلمون، وبقي المسجد الأقصى في كنف المسلمين يؤدّون فيه شعائر التوحيد ويحافظون عليه حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصليبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة أربعمائة واثنتين وتسعين من الهجرة، سقطت القدس في أيدي الصليبيين في وقت كان المسلمون فيه أضعف ما يكونون عليه، فالمسلمون كانوا في وضع سياسي لا يحسدون عليه؛ حيث الفرقة والنزاع، وليس الوضع العقائدي بأحسن حالاً من الوضع السياسيّ؛ حيث تسودُ العقائد الباطنية ويروج سوقها، وربما ألزم الناس بها إلزامًا. فدخل النصارى بيت المقدس في نحو مليون مقاتل، وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفًا، منهم جماعة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم، وجاسوا خلال الديار، وأفسدوا، بينما لم تسقط قطرة دم واحدة عندما فتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجيش الإسلام، وامتلأت ساحة الأقصى بالجثث والدماء، ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة، وكان يومًا عصيبًا على المسلمين. أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى، فنصبوا الصليب، وضربوا الناقوس، وحلوا فيه عقيدة الكفر، وهذا والله من أكبر الفتن وأعظم المحن.
وعندما احتل الصليبيون القدس غيروا معالم المسجد، فاتخذوا جانبًا منه كنيسة، وجانبًا منه إصطبلاً لخيولهم، وأضافوا إليه بناءً جعلوه مستودعًا لذخائرهم، وحوّلوا قبة الصخرة إلى كنيسة.
وكم من مسجد جعلوه ديرًا على محرابه رسم الصليب
وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة، حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي وجنده الصادقين، فما قصة هذا الانتصار؟ وما أسبابه؟ وكيف نستفيد منه الدروس والعبر؟
أيها المسلمون، إن صلاح الدين لم ينتصر في يوم وليلة، ولم تكن المهمّة سهلة كما يتصوّر البسطاء، بل هو الجد والجهاد والصدق والعزيمة والإعداد والتربية، حتى إذا اكتملت أسباب النصر وتهيأ المجتمع وقطع دابر الفساد والفتن أذن الله بالنصر والتمكين، قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
لقد بدأ صلاح الدين بالإصلاحات الداخلية، فقضى على النِّحَل الباطلة، ووحّد الكلمة، وقرّب العلماء، حتى قال الذهبي رحمه الله: "إن مجلسه كان حافلاً بأهل العلم، يتذاكرون وهو يحسن الاستماع والمشاركة". ومن جانب آخر كان عالي الهمة في الجهاد وإبادة الأضداد، فشحذ همة الناس للجهاد في سبيل الله، فاستجابت الأمة لندائه، ولبوا دعوته، فكانت وقعة حِطِّين الشهيرة التي كانت أمارة ومقدمة لفتح بيت المقدس، حيث انتصر فيها المسلمون نصرًا مؤزرًا بعد طول جهاد وصبر ومنازلة، وكان صلاح الدين في مقدمة الصفوف، يحث الجيش ويحمل بهم، حتى منح الله المسلمين أكتاف الأعداء، فقتِل منهم ثلاثون ألفًا في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفًا من شجعانهم وفرسانهم، ولم يسمع بمثل ذلك اليوم في عزّ الإسلام وأهله ودفع الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رئي يقود نيفًا وثلاثين أسيرًا من النصارى، وبلغ ثمن الأسير ثلاثة دنانير، وباع بعضهم أسيرًا بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فللَّه الحمد دائمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
وفي إثر هذه المعركة انكسرت شوكة النصارى، وخافوا أن تفلت زمام بيت المقدس من أيديهم، أما صلاح الدين فلم تقف همته عند هذا، بل كان فتح بيت المقدس حلمًا يراوده وهدفًا يسعى إليه، فسار صلاح الدين نحو بيت المقدس، فنزل غربي بيت المقدس، فوجد البلدة قد حصنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل دون بيت المقدس أو يزيدون من أتباع الشيطان وعبدة الصلبان، فحاصر الجيش المدينة، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فغضب عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان شدة للتشمير، وكان ذلك يومًا عسيرًا على الكافرين غير يسير، فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية من السور، فنقبها وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخرّ البرج برمّته، فلما شاهد الفرنج ذلك الحادِث الفظيع والخطب المؤلم الوجيع وأحسوا بالهزيمة قصد أكابرهم السلطان، وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك وقال: لا أفتحها إلا عنوة كما اقتحمتُموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدًا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان فيها من المسلمين، ثم كرّروا المحاولة حتى أجاب السلطان إلى الصلح مع عدد من الشروط أخذها عليهم، فوافقوا عليها وخرجوا منها أذلة وهم صاغرون.
وهكذا تكون نتائج العزة الإيمانية وثمار الجهاد وآثار التربية الصادقة، وكذلك يذلّ الله الكافرين حين يصدق المسلمون، فهل من مدكر؟!
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ينبغي لنا أن نستفيد من هذه الأحداث والملاحم الواقعة في تاريخ المسلمين الدروس والعبر، وأن نستثمر ماضينا لصناعة حاضرنا، وأن نفكر دائمًا في مستقبلنا على ضوء حاضرنا وماضينا.
وأول هذه الدروس أن الأيام دول بين الناس، كما قال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، والله يحكم لا معقب لحكمه، وبقدر ما توفر أسباب النصر لطرف من الأطراف ينتصر، وانتصاره على حساب هزيمة الطرف الآخر.
الدرس الثاني: أن النصر لأي طرف لا يأتي من فراغ، وليس ثمن النصر يسيرًا، ولا ينال العز والشرف إلا على جسر من المتاعب، وبعد بذل الجهد واستنفار القوى وإحياء الهمم والعمل دون كلل أو ملل، وهذا ليس خاصًا بالمسلمين. وفي واقعنا المعاصر شاهد على ما نقول، فالأمم التي تتصدر القيادة اليوم كافحت في سبيل ذلك، واستخدمت كل طاقة، وسخرت كل إمكانية حتى اكتملت قوتها وفرضت على الناس هيبتها وسيطرتها.
أما الدرس الأخير: فهو أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة، والجهاد فيها أرفع العبادات أجرًا. إن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ العدد والعدة، لا سيما مع اليهود الجبناء، فيكفي المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى، وأن يتقوا الله ويثقوا بنصره ويثبتوا ويصبروا، قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، اللهم عليك باليهود المعتدين، اللهم أحصهم عددًا وأهلكهم بددًا ولا تغادر يا رب منهم أحدًا...
أيها الإخوة في الله، إن هيئة الإغاثة تستقبل تبرعاتكم لانتفاضة الأقصى المباركة، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعل بذلكم وجهدكم في ميزان حسناتكم يوم القيامة.
اللهم صل على محمد وآل محمد...
(1/5287)
حصاد الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
3/4/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ الصحوة. 2- فتنة الخلاف والتناحر الفكري. 3- وقود فتنة الغلو والتنطع في الدين. 4- مداخل الشيطان على هؤلاء الشباب الأغرار: سوء الظن بولاة الأمر، الطعن في العلماء، الغلو والتنطع. 5- نتائج الفتنة. 6- سبيل الإصلاح والتغيير. 7- مشروعات الفتن في أقطار الإسلام. 8- مفتاح السعادة والسلامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رَحمكم الله، فالعَجَبُ لمن يأنس بالدنيا وهو مفارِقُها، وكيف يأمَن النارَ من هو وارِدُها، يلهو من يقودُه عمره إلى أجله، ويغفَل من أنفاسه تخطُو به إلى مصيرِه، بقاؤُه قائده إلى فنائه، وصحَّتُه تسوقه إلى سقَمِه، وما يُؤتى الحذِرُ إلاّ من مأمنه. فالجدَّ الجدَّ ـ رحمكم الله ـ قبلَ حلولِ المنَايا، والتوبةَ التوبةَ مِن الذنوب والخطَايا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 5، 6].
أيُّها المسلمون، قبلَ أيامٍ قلائِل عُقِد مؤتمرٌ في هذه البلاد الطيِّبَة اجتمع فيه قادَةٌ من قيادات المسلمين، كان اجتماعَ إخلاصٍ ومصارَحَة وتصميم وصلابةٍ ونقد بنّاء وقرارات فاعلة، فكانت الثمارُ كبيرةً والآثار عظيمة، فسدَّدَ الله الخُطَى وبارك في الجهودِ وهَدَى للتي هي أقومُ.
معاشِرَ الأحِبَّة، وفي سياقِ المكاشَفَةِ ومَسلَك المصارَحَة والنقدِ البنَّاء ونهجِ الإصلاح الذي تنتَهِجه هذه البلادُ بقيادتها وما يَنبَغي أن تسيرَ عليه الأمة في قياداتها ومسؤوليها ومفكِّريها، في هذا النهج وفي ذاتِ السياق وفي حديثٍ للشباب وخطابٍ لطلبة العِلم ولكلِّ مريدٍ للإصلاح وناصح لنفسِه ودينه وأمّته وبلاده وولاة أمرِه لنَرجِعْ إلى الوراءِ قليلاً بِضعَ سنين، حينما بَدَأ يَظهَر الصَّلاح على الناشِئَة والشبابِ، وفَشَت فيهم مظاهِرُ الاستقامة والمحافَظة على الدين وشعائره، فعُمرت المساجد، وأُحيِيَ ما اندرسَ من بعض السنن والفضائل، وازدحمت مجالس العلم، وزَخَرتِ المكتبات الإسلاميّة بإنتاجٍ علميّ مبارَك في شَتى فنونِ العلوم والمعارف والتخصُّصات الإسلاميّة والدعوية من مقروء ومسموع، وانتَشَرَت المراكز الإسلامية، ونمت الجهود الدعويّة، وانتشرت الأعمال الخيريّة والإغاثات المادّية، ليس في ربوع العالم الإسلاميّ فحسب، ولكن في أرجاء الدنيا كلِّها، وشعَر الناس بالخير العميمِ والأمَل العَظيم؛ صلاحٌ ونَشاط واستبشار وآثار وإنتاج، لم يكن قاصرًا على المنتسبين إلى العلوم الشرعية فحَسب، بل عمَّ العلومَ والأعمال في أهل الإسلامِ أجمعين، صلاحٌ في الرِّجال وفي النساء، وانتشرت الفضيلةُ، وظهرت مظاهِرُ الصّلاح، وتَقَارَبَت النفوس.
أيُّها المسلمون، أيُّها الأحبَّة، هذا الامتداد والانتِشار ومظاهِرُ الوئام لم يدُم طويلا, بل سُرعانَ ما تقلَّص هذا المدّ المبارك عندما ذرّ قَرن الخلافِ والتناحر الفكريّ، وارتَفَع الغلوُّ والتعصّب في صفوفِ أهل الحقّ، وادَّعَى الواحِدُ والفِئَة أنّه وحدَه صاحبُ الحقّ والمستقيمُ على السنة، فارتفعت الأصواتُ بالاتهامات والمثالب، واستُهدِف العلماءُ والحكام، وقامت دولة الإشَاعَات في كلِّ وَسيلة وفي كلِّ مجتمع وناد، في المجالس العامّة والخاصّة، وهم في ذلك على مراتِب؛ مُقِلٌّ ومُكثر، ومُظهِر ومُستَخفٍ، فأُوغِرَت الصدور على أهل العلم وولاةِ الأمور وأهلِ الصلاح، وأُسقِطَت هيبة كلِّ ذي هيبة، وتزعزع مفهومُ السّمع والطاعة والولاءِ والبراء، وسَرَت بِدَعُ التكفيرِ والتَّبدِيعِ والتفسِيقِ حتى كُفِّر الموَظَّفون والجنودُ والطلابُ، وسَرَت الوَقيعةُ في أهلِ العلم، ولا سيّما... ورموزهم وقياداتهم، واتُّهِموا بالسَّطحيّة والجَهل بالواقِع والمداهَنَة وبيع الدين بالدنيا؛ مما لا يجوز أن يتفوَّه به عاقل، فضلا عن أن يعتقدَه مسلم ممن ينتسب إلى أهلِ العلم والدين والصلاح.
والله، لقد أسرفوا على أنفسِهم، وأسرَفوا في حقّ غَيرهم، اشتغَلوا بتتبّع العثرات وتعقُّب الأخطاءِ والزّلاّت وتضخيمِها ونشرِها، فكانت الأخطاء عندهم بِدَعًا والغلطاتُ مروقًا، وشاع فيهِم الهَجر والتَّهاجُر، جرأةٌ في التجهيلِ والتَّضليل، ناهيكم بالتّكفير والتّبديع والتّفسيق. ثم ماذا؟ ثم كانتِ الفتنةُ والفُرقة، فِتنةٌ للجاهل والعَامّة، وفرقةٌ في الأمّة، وسُخرِيّة من العدوّ وأهل الفُجور، فتنةٌ استبِيحَت فيهَا الأعراضُ ولحومُ الناس ودماؤُهم، وقودُ هذا كلِّه شبابٌ أغرار، قلَّت بضاعتُهم في علم الشَّرع، ونقَص فقههُم في الدّين، وضَعُف رأيُهُم في إدراك العواقِبِ والمآلات، شبابٌ غضٌّ دُفِع به إلى أتونِ العنف والموتِ والقَتل والإرهابِ، لا يسمَعون نصحَ ناصح، ولا يقبلون توجيهَ عالم، بل إنهم ليسفِّهون العلماءَ، ويتّهمون أهلَ الصّلاح، ويشكِّكون في المخلصين.
وفي حكم بعض الأمم: "الضجيجُ العظيم تصدِرُه الأواني الفارغة"، إنها حكمةٌ تجسِّد حقيقةَ سالكي مسالِكِ العنف والقتل الذين يملأ ضجيجُهم الدنيا وهم خلوٌ من العلم والفقه وصحيح التدين. أغرارٌ يائِسون بائسون أغلَقوا على أنفسهم المنافِذَ، وسَدّوا الأبواب، وأحكموا الإغلاقَ، لم يجعلوا لأنفسهم خياراتٍ ولا اختِيارات، ومن وسَّع الخياراتِ على نفسه كان أرشدَ وأصلح وأوفَق، توسيعُ المنافذِ والمخارج خيرٌ من طريقٍ واحِد ضيِّق يحمِل على اللّجاجة والغَضَب، ويؤزُّ الشيطانُ فيه أزًّا، فيكون صاحِبُه مغلولَ اليدين إلاّ مِن الانتقام والتشفِّي وإزهاقِ نفسِه ونفوسِ الآخرين. أغلقوا على أنفسِهم، وانطوَوا إلى فِئَتهم، لا يسمعون نصحَ ناصح، ولا يبالون بتوجيهِ موجِّه واعتراضِ معترِض. ولو تأمَّلوا بِعينِ البَصيرةِ ونَظَروا بفِقهِ الدين ومسالِكِ الورَع لوجدوا أنهم أسرى عقولٍ وفُهوم بعيدةٍ عن منهج الشَّرع وأنوارِ النبوَّة، بل إنهم أسرَى هَوى خفيٍّ لم يدَع لهم سبيلاً للتَّصحيح والمراجَعةِ.
ومِن الغريب العجيبِ ـ أيّها المسلمون ـ أن التاريخَ هنا يعيد نفسَه، فهذه البليَّة هي التي ابتُلِيَ بها الإسلامُ في أَواخِر عهدِ الصَّحابة رِضوان الله عليهم، فالإِسلامُ لم يضارَّ إلاّ بمثل أصحابِ هذه العقول والفهوم غيرِ الراشدة، أصواتٌ عالِيَة وأفعال قاتلة. إنها فتنةُ الخَوض والشغَب والإشاعاتِ والكلام في الفتن والقَدح في الأئمّة والافتيات عليهم، ضلّوا وأضلّوا، يتكلَّمون في دينِ الله بالظنِّ والخَرص، فصارُوا فتنةً للمفتونين ورُؤساءَ للجاهلين. ولقد وصَف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أسلافَهم وهو الذي أدرَكَهم ونظَرَ في مسالكهم فقال: (أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ داعٍ، لم يستضيئوا بِنورِ العلم، ولم يلجَؤُوا إلى ركنٍ وثيق).
أيّها المسلمون، ومن أبرزِ ما أدخَلَ عليهم الشيطان أمور عظام ثلاثة، وقد تكون هذه الأمورُ معلومةً، ولكنّ الحديثَ عنها والتذكير بها بعدما تجلّى من أوضاع الأمة وأحوالها وما آلت إليه يحتاجُ هذا إلى مزيدِ تأكيد وتذكير.
أول هذه الأمور: إساءةُ الظنِّ بولاة الأمور وعدَمُ الطاعة والخروجُ على الأئِمّة والاستخفاف بالولاية والجرأةُ على مخالفة وليّ الأمرِ والافتيات عليه، وهذا كما يقرِّر مشايخُنا والمحقِّقون من أسلاف علمائنا هذا والله من دين الجاهلية الذين لا يرَونَ السمع والطاعةَ دينًا، بل كلّ منهم يستبدّ برأيه، وهذا من الجهل بالدين والسعيِ في الأرض بالفسادِ، ويعرِف ذلك كلُّ ذي عقلٍ وإيمان. وهذه الأحوال والآثار والنتائج ظاهرةٌ ماثلة في ديار ضعُفت فيها الولايَة، فسالت فيها الدماء، وتفرّق أهلها، وتمكَّن الأعداء والمفسِدون منها، عياذًا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد عُلِم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعةَ إلاّ بإمام، ولا إمامَ إلا بالسمعِ والطاعة.
الأمر الثاني: الوقوعُ في أهلِ العلم واتهامُهم بالمداهَنَة والضعف والسكوتِ عن البيان وسوء ُالظنّ بهم وعدم الأخذ عنهم، ولقد قال علماؤنا من أئمّة هذه الدعوة وتلاميذهم: وهذا سببٌ للحرمان من العلم النافع، والعلماءُ هم وَرَثَة الأنبياء في كلّ زمانٍ ومكان، فلا يُتلقَّى العلم إلاّ عنهم، فمن زهد في الأخذ عنهم ولم يقبَل ما نقلوه وقرّروه فقد زَهدَ في ميراث المرسلين، واعتاضَ عنه بأقوالِ الجهلة الخالصين، ومن وقع في أهل العلم بالعيبِ والثَّلبِ ابتلاه الله بموتِ القلب، وهذا هو والله ما يُخشَى على هؤلاء الشبابِ الأغرار ومن سلك هذه المسالك.
الأمر الثالث: الوقوعُ في الغُلوّ والتَّنطّع الشَّديد وجهلُ كثيرٍ مِنهم بمقاصِدِ الشريعة وأصولها وقواعِدِها الكلّيّة، أو عدم التوفيق في مراعاة ذلِك كلِّه؛ مما جعلهم لا يبالون بالعواقب ومآلاتِ الأفعال، فكان منهم الانحرافُ عن فهمِ أهلِ الحقّ القائمِ على العلم والعَدل في التعامُل مع المخالف. فيا لله! كم بَدَا من بعض هؤلاء من جعلِ مسائِلِ الاجتهاد من جملة مسائِلِ الأصول التي يُعقَد عليها الولاءُ والبراء، بل كم كفَّروا بمعاصِي أو بقيودٍ أحدثوها وأوصافٍ اخترَعوها، وأحدثوا مسائلَ مَن خالف فيها لا يقبلون منه صرفًا ولا عدلاً، ولا تنفَعه عندهم شَفاعةُ الشافعين؛ فخَرَجوا من الانتصارِ للحَقِّ إلى الانتصارِ إلى الهوَى والفِئَة والحِزب والطائفة، حتى دخلت الأمّة في سراديبَ مظلمةٍ وأنفاق طويلةٍ ملتَويَة من الإفسادِ والحِرابة والبغيِ والقتل والتفجيرِ والتّخريب ونقضِ البيعة والخروج عن الطاعة.
هذا كلُّه قد حَصَل، فماذا كانتِ النتيجة يا عباد الله؟ ماذا كانتِ النتيجة مع أن هذه نتيجة؟ كانت النتيجة ضعفٌ في الدين وانحسارٌ في الدعوة وتجفِيف لمنابعِ الخير وتسلّط من الأعداء وفشوٌّ للتحزّب والتعصّب، فخسر أهل الحقّ، وكسب أهل الباطل، واتَّخَذ الأعداءُ هذه الأحوالَ والشتات سُلَّمًا وذرائع للنيل من الدين وأهله ودِيارِه، ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم.
يا إِخوتَنا، يا أبناءَنا، الهدمُ سهل، وسَفكُ الدماء إذا فتِح صعُب إيقافه، وإذا استُرخِصَت النفوسُ عمَّت الفوضى. البِناءُ هو الصَّعب، تربيةُ النفوس وإِصلاحها أصعَب، وهذا هو طريقُ المرسلين. إنَّ هذه التصرفاتِ التدميريّة والسلوكيّات القاتلة لا تبني بيتًا، ولا تعمر مسجدًا، ولا تفتَح مدرسةً، ولا تعلّم جاهلا، ولا ترشِد ضالاًّ، ولا تطعِم جائعا، ولا تعالج مريضًا. حُسنُ النية وصلاحُ القصد إذا وجِد فإنّه لا يكفي وحدَه البتة، بل لا بدَّ أن يقتَرنَ به صحّة المنهج وحسنُ العمل وإيجابيَّةُ الأثر، وبخاصّة الأعمال المتعدّية التي تمسّ الأمّةَ والديار.
أيّها المسلمون، إخوتَنا وأبناءَنا، العِصمةُ ليست لأحدٍ مِن البَشر سوى أنبياء الله فيما يبلِّغون عن الله، والحقُّ ضالّة المؤمن، ومن ابتغى في الناس الكمال فقد طلب المحالَ، والخطأُ من ولاةِ الأمورِ وأهل العلم واردٌ وواقِع، ومَن أراد الحقَّ وتصويبَ الخطأ فليَبحَث عن ذلك بطريقِه، وليصَحِّح ولينصَح بأسلوبِ الحكمة، مَع حسن القصدِ وحِفظ بيضةِ المسلمين وهَيبةِ الأئمّة وأهلِ العلم.
اسمعوا هذا الكلامَ النفيس لشيخِ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله، وهو من هو في إمامتِه وقوَّته وصدقِه وجهاده، يقول رحمه الله: "إنّنا نرى بعضَ أمورٍ تجرِي وننصَح إخواننا في هذا البابِ، إنَّ بعضَ أهل العلم ينكِر منكرًا وهو مُصيبٌ، ولكنّه يخطئُ في تغليظِ الأمرِ إلى شَيءٍ يوجِبُ الفُرقَة"، قال رحمه الله: "الخللُ يدخُل على صاحبِ الدين من قلَّةِ الفهم"، ويَقول في مقامٍ آخَر: "إنَّ إنكار المنكر إذا صارَ يحصُل بسببه افتراقٌ لم يجُز إنكارُه، فاللهَ اللهَ العملَ بما ذكرنا والتفقّه فيه، فإنكم إن لم تفعَلوا صار إنكارُكم مضرّةً على الدّين، والمسلِمُ لا يسعَى إلاّ في صلاحِ دينه ودنياه" انتهى كلامه رحمه الله.
وقد اجتمَعَ الفقهاء عند الإمامِ أحمد رحمه الله حين اشتدَّت فتنةُ القولِ بخَلق القرآن، وقالوا له: إنَّ الأمرَ قد تفاقَمَ وفشَا، فَحاوَرَهم وناظَرَهم ثمّ قال: "عَليكُم الإنكارُ في قلوبِكم، لا تخلَعوا يدًا من طاعة، ولا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءَكم ودماء المسلمين معكم، وانظُروا في عاقبة أمرِكم، واصبروا حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجِر"، رحمه الله من إمامٍ فقيهٍ بصيرٍ ناصح.
عبادَ الله، إنَّ المؤمنَ الذي يبتَغي الحقَّ وينصِف من نفسِه ويتأمَّل في كِتابِ الله وما صحَّ مِن سنّة رَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وعملا وتقريرًا ينظر هذه النصوصَ في اجتماعِ الكلمة وحِفظ حقّ الأمة والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر وعذابه والتناصح وحبّ أهل الإسلام، ثمّ ينظر في كلام المحققين من أهل العلم، وبخاصّة أولئك الذين باشروا الدعوةَ وخالطوا الحكّامَ، وعَلِم أنه موقوفٌ بين يدَي الله ومَسؤولٌ عمَّا يقول وما يفعل، فإنه يقف عند حدِّه، ويخشى العاقبةَ على نفسِه وعلى أمّته، أمّا من غلبه الهوى والجهلُ وأُعجِب برأيه وانحازَ إلى فئةِ الأغرار فلاَ حيلةَ فيه، وَمَنْ يُرِدْ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة: 41].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واسمعوا وأطيعوا، واحفظوا حقَّ الولايةِ وحقَّ الأمة باجتماعها وحمايتِها وتجنيبِها تسلُّطَ أعدائها، فلا يسلم ـ والله ـ من الفتن إلاّ من راقبَ الله في سرِّه وعلانيته، ووقَف عند أقواله وأفعاله وحرَكاته وسكناتِه، ونظر في عاقبة أمره ومآله، وراجع أهلَ العلم والبصائر والمعرفة أصحابَ الأقدام الراسخة في الفهم والنظر.
ومن زين لكم ـ أيّها الشباب ـ ما أنتم فيه فاعلَموا أنه مِنفاخُ سوء، يبدي لكم ما تخفِي كيره، ويلبِّس عليكم دينَكم. اعرِفوا نعَمَ الله علينا وعليكم في الأمن والإيمان واجتماعِ الكلمة ووحدَة الدّين والدولةِ، فإنَّ النعم إذا شكِرَت زادت وقرَّت، وإذا كُفِرت وجحِدَت وبُطِرَت زالت وفرَّت، وعليكم بالنَّظر الصادِق الناصِح المخلِص فيما يصلح به أمرُ أهل الإسلام ويسدّ بابَ الفِتنة ويردمُ سبيل الفُرقة؛ نصحًا لله ولكتابه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، فليس لهذه المسالك ـ والله ـ إلا غاية وخيمةٌ وعاقبة ذميمة، ولله عاقبة الأمور.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 24-26].
نفعني الله وإيَّاكم بالقُرآنِ العظيم وبهَدي محمّد ، وأقول قَولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولِسائر المسلِمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغَفور الرَّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، لا مانعَ لما أعطاه، ولا رادَّ لما قضاه، أحمده سبحانه وأشكُرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله، وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أمّا بعد: أيُّها المسلمون، ما خرَج من خرَج عن جادّةِ الحقّ والوسَط جادّةِ المسلمين في علمائِهم وولاتهم إلاّ سلَك أحدَ طريقين، إمّا الجفاء والإعراض، وإما الغلو والإفراط والتنطّع، وهذه من مصائدِ الشيطان ومكائدِه، وقد قال الله في أقوامٍ محذِّرًا سلوكَ مسالِكهم واتِّباعَ طريقهم: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].
وإن من يتأمّل في أوضاع الأمة وفي سنواتها المتأخِّرَة وينظرُ في شبابها وبَعضِ المنتسِبين إلى العِلم فيها ويتأمَّل ما تعيشُه في بعضِ أقطارِها من الهرج والمرجِ والخِلافِ بل التقتيل والتشريد يُدرك أنَّ هناك مشروعاتٍ للفتن بين أبنائِه على كلِّ المستويات والأقطار، وكأنهم يريدون أن لا تبقى ديارُ الإسلامِ مُستقِرَّة مطمئنّة آمنةً متَّحِدة.
إنها فِتنٌ يُراد نَشرُها في كلِّ قطر وإقليم، ومِنَ المؤسِف حقًّا أنَّ الناسَ والدوَلَ قليلاً ما تتعلَّم من دروس الماضي وعِبَر التاريخ القريبِ منه والبعيد، ولو كان هناك استفادةٌ ونظَر وصِدق وحبّ وإخلاص، ناهيكم أن يكونَ هناك دينٌ حاجز وعقل مانع، لو كان ذلك كذلك لما رأيتَ مَن يندفع بجهالةٍ في الاشتراكِ في هذه الفتنِ وإشعالِها مع أنّه ـ والله ـ لا رابِحَ إلاّ الذين يقِفون من ورائها خارجَ الحدود.
وبعد: عبادَ الله، فإنَّ مِن أعظم أسبابِ السعادة والفلاح في المعاشِ والمعاد الانتظامَ في سِلك أهل الحق والرشاد وجماعةِ المسلمين، وأعظمُ أسباب السلامة البعدُ عن سبُل الغيّ والفساد وطريق الضالين واقتباس نورِ الهدى من محلِّه والتماس العلم النافع من حمَلَته وأهلِه، إنهم أهلُ العِلم والدّين والإيمان الذين بذلوا أنفسَهم في طلب الحق وهداية الخلق، حتى صاروا شهودًا لهم في الهداية والعدل، وصانوا أنفسَهم عن صفات أهلِ الضلال والغي.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واسمَعوا وأطيعوا، وأحسِنوا واستقيموا، وقولوا قولا سديدا؛ يصلِح لكم أعمالكم ويغفِر لكم ذنوبكم.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المسداة والنِّعمة المهداةِ نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك المولى جلَّ في علاه، فقال عزَّ قائلا عليمًا في محكم تنزيله قولاً كريمًا: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد النبيّ الأمّيّ المصطفى الهادي الأمين...
(1/5288)
جريمة الرشوة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
3/4/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التعاون بين الراعي والرعية. 2- وعيد الرشوة والراشي والمرتشي. 3- مفاسد الرشوة وأضرارها. 4- حقيقة الرشوة وصورها. 5- تحريم الرشوة مهما كان اسمها. 6- نتائج الرشوة الويمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها المسلمون، مِنَ المبادئِ التي قرَّرَها الإسلامُ أنَّ الرّاعيَ والرعيَّةَ يَدانِ يتعاوَنان على جلب الخيرِ للأمة وعلى رعاية مصالحها، ولا يستقيم أمرُ الأمّة ولا تتّسقُ شؤونها إلاّ إذا قام كلٌّ بمسؤوليّاته عدلاً وإنصافًا، نزاهة وإنجازًا، أداءً للواجب ووفاءً بالأمانة.
أيّها الإخوة، ومِن هنا جاء الإسلام بكلِّ المقوِّمات الأساسيّة التي تحفظ مقاصِدَ المسؤولية وتدرَأ أسباب الانحراف عنها، ولتصونَ المسؤولَ عمّا يخلّ بواجب عمله ويهزّ ميزان العدلِ عنده.
ومِن هذه المقوِّمات النهيُ الأكيد والزجرُ الشديد عن جريمة الرشوة أخذًا وإعطاءً وتوسُّطًا، فالرشوة ـ يا عباد الله ـ مَغضَبَة للرّبّ مجلَبَة للعذاب، في الحديث الصحيح أنَّ النبيّ لعن الراشي والمرتشي [1] ، وفي حديث أبي هريرةَ قال: لعن رسولُ الله الراشي والمرتشي في الحكم. حسَّنه الترمذيّ وصحَّحه ابن حبان. وروى الطبرانيّ بسندٍ جيِّد عن النبيِّ أنّه قال: ((الراشي والمرتشي في النّار)) [2].
وتأسِيسًا على هذهِ النّصوص وغيرِها عدَّ أهلُ العلم كابنِ حَجَر الهيتَميّ وكالذّهبيّ، عدَّا الرِّشوةَ كبِيرةً من كبائِرِ الذّنوب.
أيُّها المسلِمون، الرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل وتناوُل للسُّحت، والله جلّ وعلا يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، ويقول في شأنِ اليَهودِ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42].
أمّةَ محمَّدٍ ، الرِّشوةُ في دينِكم داءٌ وَبيل ومرض خطير ،فما يقَع فيها امرُؤٌ إلاّ ومحِقَت منه البركة في صحَّته ووقتِه ورِزقه وعياله وعمرِه، وما تدنّس بها أحدٌ إلاّ وحجِبَت دعوته وذهبت مروءَته وفسدَت أخلاقه ونزِعَ حياؤه وساءَ منبتُه، فالنّبيّ الذي لا ينطِق عن الهوى يقول: ((كلُّ لحمٍ نبَت من سحتٍ فالنّار أولى به)) ، قيل: ما السحت يا رسول الله؟ قال: ((الرِّشوةُ في الحكم)) رواه ابن جرير وغيره [3].
الرشوةُ ـ أيها الفضلاء ـ خطرُها عظيم وفسادُها كبير، تسبِّب الهلاكَ والخسران للمجتمعات، تفسِد أحوالها، وتنشر الظلمَ فيها، بل وما تفشَّت في مجتمعٍ إلاّ وغابت منه الفضيلةُ، وحلَّت فيه الرذيلة والكراهيةُ والأحقاد، وما وَقعَت الرّشاوى في أمّة إلاّ وحلَّ بها الغشُّ محلَّ النصيحة، والخيانة محلَّ الأمانة، والظلم محلَّ العدل، والخوف محلَّ الأمن. في المسند مرفوعًا وله شواهد: ((ما مِن قوم يظهر فيهم الرِّشا إلا أُخذوا بالرعب)) [4].
أيُّها المسلمون، وحقيقةُ الرِّشوة وصورَتها كلُّ ما يَدفَعُه المرءُ لمن تولَّى عمَلاً من أعمال المسلمين ليتوصَّل به إلى ما لا يحلُّ له. ومِن أعظم أنواعِها ما يُعطى لإبطالِ حقٍّ أو إحقاقِ بَاطِلٍ أو لظلمِ أحدٍ.
ومن الرِّشوة ـ أيها المسلمون ـ دَفعُ المال في مقابِلِ قَضاء مصلحةٍ يجب على المسؤولِ عنها قضاؤها بدون هذا المالِ، أو ما يُؤخَذ عمّا وجب على الشَّخص فِعلُه، فكلُّ موظَّف يأخُذ مالاً من أحدٍ من المسلمين على عملٍ من الأعمال التي في دائِرَةِ وظيفَتِه فهي رِشوةٌ مَلعونٌ صاحبُها على لسانِ رَسول الله.
ومِن صوَرِ الرشوة ـ يا عباد الله ـ مَن رشَى ليُعطَى ما ليس لَه أو ليدفَعَ حقًّا قد لَزِمَه، أو رَشى ليُفَضَّل على غيرِه من المسلمين أو يُقدَّم على سواه من المستحقِّين.
أيّها المسلمون، الرشوة في دين محمّدٍ محرَّمة بأيِّ صورة كانت، وبأيِّ اسمٍ سُمِّيت، سواء سمِّيت هديّة أو مكافأة أو كرامة، فالأسماء في شريعةِ الإسلام لا تغيِّرُ في الحقائق شيئًا، والعبرةُ للحقائق والمعاني لا للصُّوَر والمباني.
ومِن مقرَّراتِ دينِ الإسلام أنَّ هدايا العُمّال غلول، والمرادُ بالعمّال كلّ من تولَّى عملاً للمسلمين، وهذا يشمَل السّلطانَ ونوّابَه وموظّفيه، أيًّا كانت مراتِبُهم ودَرَجَاتهم. رَوَى البخاريّ ومسلمٌ عن أبي حُمَيد السّاعديّ قال: استعمَل النبيُّ رجلاً من الأزدِ، فلمّا قَدم قال: هذا لكم وهذا أُهدِيَ لي، فلمّا عَلِم النبيُّ قامَ خطيبًا على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بالُ عاملٍ أبعثُه فيقول: هذا لكم وهذا أُهدِيَ لي؟! أفلا قعَد في بيتِ أبيه أو أمِّه حتى يَنظُر أيُهدَى إليه أم لا؟! والّذي نفسي بيدِه، لا ينالُ أحدٌ مِنكم منها شيئًا إلاّ جاء يومَ القيامة يحمِله على عُنُقه)) الحديث [5]. قاعِدَةٌ لا تقبَل التأويل، يجِب تطبيقُها، وهو قولُه لكلِّ مُوظَّفٍ في أمّة الإسلام: ((أفلا قعَدَ في بيتِ أبيه أو في بيتِ أمّه حتى ينظرَ أيُهدَى إليه أم لا؟!)).
وهذا الفهمُ هو الذي فَهِمَه محقِّقو أهلِ العلم، قال الخطّابي رحمه الله: "في هذا الحديثِ بَيانٌ أنَّ هدايا العُمّال سُحتٌ، وأنّه ليس سَبيلُها سبيلَ سائر الهدايا المباحَة، إنما يُهدَى إليه للمحاباة، وليخفِّفَ عن المُهدِي ويسوِّغَ له بعضَ الواجِبِ عليه استيفاؤُه لأهله" [6].
ومن معلَّقاتِ البخاريِّ الموصولةِ عند غيره ما جاء أنَّ عمر بنَ عبد العزيز رحمه الله الذي سارَ على نهج محمّدٍ اشتهَى التّفّاحَ، فلم يجده في بيته ولا ما يَشتَرِي به، فخرج وهو الخليفةُ، فتلقَّاه غلمَانٌ بأطباقِ التفّاح، فتناول واحدةً فشمَّها، ثم ردَّ الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجةَ لي فيها، فقيلَ له: أَلم يكن رسول الله وأبو بكرٍ وعمَر يقبَلونَ الهدِيَّة؟! فقال: إنها لأولئك هدّيّة، وإنها للعمّال بعده رشوة [7].
فاتقوا الله أيّها المسلمون، واستجيبوا لنداء ربِّكم، وأطيعوا أمره، واجتنبوا نهيَه، واحذروا أسبابَ غضبِه؛ تسعدوا في الدنيا والآخرة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (686) وابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[2] معجم الطبراني الصغير (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال المنذري في الترغيب (3/125): "رواته ثقات معروفون"، وحسن إسناده ابن الملقن في الخلاصة (2/53)، ونقل المناوي في الفيض (4/43) عن ابن حجر أنه قال: "ليس في سنده من يُنظر في أمره سوى شيخ الطبراني والحارث بن عبد الرحمن شيخ ابن أبي ذئب، وقد قواه النسائي"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1341) متعقبا المنذري: "وافقه الهيثمي، وهو من تساهلهما، فإن شيخ الطبراني وهو أحمد بن سهل الأهوازي لم يوثقه أحد، وله غرائب، ذكر بعضها الحافظ، هذا أحدها".
[3] جامع البيان (10/323) عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر مرفوعا، قال الحافظ في الفتح (4/454): "رجاله ثقات ولكنه مرسل"، وله شاهد من حديث جابر أن النبي قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السفهاء...)) في حديث طويل أخرجه عبد الرزاق (20719)، وأحمد (3/321)، والبزار (1609)، وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، ووافقه الذهبي، وهو عند الترمذي في كتاب الجمعة، باب: ما ذكر في فضل الصلاة (614) من مسند كعب، وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (5567)، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب (867، 1728، 1729).
[4] مسند أحمد (4/205) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (3/7): "رواه أحمد بإسناد فيه نظر"، وقال الهيثمي في المجمع (4/118): "فيه من لم أعرفه"، وضعف سنده الحافظ في الفتح (10/193)، وقال الألباني في الضعيفة (1236): "إسناده مسلسل بالعلل"، وذكرها.
[5] صحيح البخاري: كتاب الأيمان (6636)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1832).
[6] معالم السنن (4/201-202).
[7] وصل هذه القصة ابن سعد في الطبقات (5/377).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليِّ الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أدَّخِرها ليوم الدين، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله المرسَل رحمة للعالمين، اللهم صلّ وسلِّم وبارك عليه وعلى أصحابه وصحابته أجمعين.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فيا سعادةَ مَن أطاعه، ويا فلاحَ مَن اتَّقَاه.
إخوةَ الإيمان، بالرشوة تُهدَر الحقوق وتعطَّل المصالح، وبها يقدَّم من يستحقّ التأخير، ويؤخَّر من يستحقّ التقديم، وعن طريقها يقدَّم السفيهُ الخامل ويُبعَد المجِدّ العامل، فكم ضيَّعَت من حقّ وأهدَرَت من كرامة ورفَعَت من لئِيمٍ وأهانَت من كريم.
ثم إنَّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللّهمّ صلِّ وسلّم وبارك وأنعِم على سيِّدنا وحبيبنا ونبيِّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الرّاشدين والأئمّة المهديّين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الآل والصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين...
(1/5289)
السحاتون
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, الهبة والهدية والوقف, قضايا المجتمع
إبراهيم بن صالح السويد
رنيه
7/11/1426
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدلة الشرعية على حرمة الرشوة. 2- ما يجوز دفعه من الرشوة. 3- الفرق بين الرشوة والهدية. 4- المجالات التي تدخل فيها الرشوة. 5- الآثار السيئة المترتبة على أخذ الرشوة. 6- جملة من فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله في الرشوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: اتقوا الله، وكلوا من الطيبات لعلكم تفلحون، واحذروا أكل السحت والرشا، فبه أُهلكت القرون.
أيها الكرماء، سأحدثكم عن أمر سار وطار سعاره، واشتد أوار ناره، تعس مقترفوه، ولعن فاعلوه، شياطين بؤساء، لم يؤمنوا بيوم الدين، ولم يصدقوا المرسلين، يصلي وهو ملعون، يقرأ القرآن وهو ملعون، يضحك وهو ملعون، لعنه جاء في الشريعة، الخسّة والدناءة صَريعُه، والفقر ضجيعه.
أيها الفضلاء الأجلاء، بل سأحدثكم عن شجرة أصلها في الخبث ثابت، وفرعها في الإجرام قائم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، شجرة زقوم، يستظل بظلها ويأكل من طلعها أفاكون خونة من بني جلدتنا، نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19].
استحوذ عليهم إبليس والهوى والرجس والإثم بما كانوا يصنعون، يدعون ولا يستجاب لهم، أغلق دونهم باب السماء، ولعنتهم ملائكة الرب، ولهم عذاب الهون. ناقتهم التي يحلبون ضرعها جرباء سائبة ترعى حشائش المكر والبذاءة، طعامها كل نجس وخسيس، وشرابها جحيم الفجور، وحليبها أسود منتن، لا يذوقه سوى قتلة الأحلام وسراق الحقوق وبائعو الذمم.
أيها الأخيار، هل حدثتكم عن أي بحر يركبون؟! إنهم يركبون سفينة المقت والرذيلة، لتجري بهم على بحر النار، تدفعها رياح السحت، وتحركها مجاديف الأمن من مكر الله، لبئس ما كانوا يفعلون. أشبه الناس باليهود، وأقرب الناس حالاً إلى النصارى؛ حينما يتركون تعاليم شرعهم ويتصفون بصفات أولئك الكفار.
أتدرون من هؤلاء ولا كرامة لهم؟! إنهم أكلةُ الرشوة ودافعوها ـ بلا ضرورة شرعية يقدرها أهل العلم الذين يحددون قدر الضرر ـ وكاتبوها وشاهدوها.
أما الذين يأكلونها وهم يعلمون حرمتها فليس لنا حديث معهم؛ لأنهم اتخذوا آيات الله هزوا، ولن يجدي حديثنا معهم بجنب ما في كتاب الله من الزواجر عن هذا الإثم النجس، وما لجرح ميت إيلام.
سوى أن حديثنا منصب إلى الذين يفعلون، فنقرع أسماعهم لعلهم يعون، كما أن حديثنا شديد على من يدفع الرشوة للوصول إلى أهدافه ومصالحه على حساب المجتمع، فإنه ملعون على لسان محمد. وأما الوسطاء كمن يهيئ الأجساد لنشر هذا السرطان الخبيث في مجتمع الإسلام فهم ملعونون أيضا، كمن يشهد أو يكتب بين الدفع والأخذ.
إخوة الإسلام، قال الباري سبحانه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42]. قال ابن مسعود: (السحت الرشوة)، وقال عمر بن الخطاب: (رشوة الحاكم من السحت). وقال بعض أهل العلم: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه؛ وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها، ولا خلاف بين السلف على أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سُحت حرام.
وقال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]. قال الذهبي رحمه الله تعالى: "لا تُدلوا بأموالكم إلى الحكام أي: لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم؛ ليقتطعوا لكم حقا لغيركم وأنتم تعلمون أن ذلك لا يحل لكم".
والأدلة على حرمة المسلم وماله كثيرة، منها قول الله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة: 188]، وقال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]، وقال جلَّ شأنه: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 35، 36]. قال ابن كثير: "قوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي: الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه، وأنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف".
وقد جاءت السنة ـ يا عباد الله ـ في وصف هؤلاء الأنجاس بأنهم ملعونون، يعني مطرودون ومبعدون عن رحمة الله، فوا أسفاه على من باع أخراه بفاني دنياه. فعن عبد الله بن عمرو قال: لعن رسول الله الراشي والمرتشي. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. وفي رواية: ولعن الرائش، وهو الساعي بينهما. وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلا من الأزد يقال له: ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فخطب النبي فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((أما بعد: فإني استعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرا له خوار، أو شاة تيعر)) ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: ((اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت)) متفق عليه.
قال الخطابي: "وفي قوله: ((هلا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!)) دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور، وكل دخل في العقود ينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا؟".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم. وعن السائب بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله : ((لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادًا ولا لاعبًا، وإذا أخذ عصا أخيه فليردها عليه)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) رواه الدارقطني وغيره.
وقد بعث رسول الله عبد الله بن رواحة إلى اليهود ليقدّر ما يجب عليهم في نخيلهم من خراج، فعرضوا عليه شيئا من المال يبذلونه له، فقال لهم: فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت) رواه الطبراني موقوفا بإسناد صحيح وقال الألباني: "صحيح لغيره موقوف".
وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني: إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر؛ لأنه مستعد للحكم بغير ما أنزل الله، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، وهذا معنى قوله: كفر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به)) ، قيل: وما السحت؟ قال: ((الرشوة في الحكم)). وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)).
أيها المسلمون، لقد أجمع الصحابة والتابعون وعلماء الأمة على تحريم الرشوة بجميع صورها، كما أن الأعذار لمن يحتج بفتوى بعض أهل العلم من المحققين ويجعلها متكأً لأكله الرشوة وأن هذه الفتوى صحيحة وقد بنيت على أسس علمية، لكنها مختصة في حالة واحدة أوضحها في كلمات قليلة حتى لا تُنسى: "يجوز دفع الرشوة من الدافع وذلك في حالة الضرورة الشرعية التي يقدرها أهل العلم عند الرجوع إليهم، ولا تجوز مطلقا للأخذ". هكذا قال أهل العلم.
وممن قال بجوازها عند الضرورة ابن الأثير رحمه الله حيث يقول في كتابه النهاية (2/226): "فأمّا ما يُعطى توصلاً إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه... وروى عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم". وقال الخطابي رحمه الله في المعالم (5/207): "إذا أَعطى ليتوصل به إلى حقه أو يدفع عن نفسه ظلمًا فإنه غير داخل في هذا الوعيد". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (31/187): "ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار. وهذا من دقائق فقه السلف وعظيم علمهم، فهذا الباب فيه حاجة من جهة، وصعوبة الاجتناب من جهة أخرى، فاستدعى النظر تجويز ذلك مراعاة لمصالح العباد ودفع الضرر عنهم، والصبر في مثل هذه المسائل فيه خير كثير وفضل عظيم".
والظاهر من الأدلة الصريحة أن الرشوة حرام بجميع ضروبها وأشكالها وألوانها إذا كان يتوصل بها إلى إبطال حق أو إقرار ظلم؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد والأضرار، وهذا حرام شرعًا.
والإسلام راعى أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والتسامح بجواز الرشوة يعوّد الناس على أكل الحرام وعدم الشعور بالمسؤولية، لما يترتب على ذلك من تعطيل مصالح المسلمين وتأخير أعمالهم وعدم إنجازها إلا بالرشوة، فتنعدم الثقة بين الناس، وتقل أواصر المودة والمحبة بينهم، وهذا مما حذر منه القرآن الكريم ونهى عنه النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
وفي هذه الحالة حالةِ الضرورة لا بد من ملاحظة أمور:
أولاً: أن لا يدفعها إلا إذا كانت في حالة ضرورة متحققة يقدرها أهل العلم.
ثانيًا: أن لا تدفع إلا بعد استقصاء كافة السبل واستنفادها، ولا ينبغي عندها إلا أن يدفعها.
ثالثًا: يجب عليه أن يبين لآخذ الرشوة حرمتها ويعظه ويزجره عن فعلته، ولا يجوز السكوت أبدا.
رابعًا: يسعى سعيا حثيثا إلى تبليغ ولي الأمر عنه، ويكون قصده هو كفّ شره عن الناس لا أن يكون انتقاما لما أخذه منه من شيء.
أيها الرجال النزهاء، أضحت ظاهرة الرشوة مستشرية في العديد من المجالات، لتصبح سرطانا ينخر دواليب الاقتصاد والإدارة ومختلف الهيئات والمؤسسات، ولو أردنا أن نوضح بشكل دقيق معنى الرشوة فإننا نقول: الرشوة هي ما يُعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل، سواء كان مالاً أو تسهيلات أو أي مصلحة تستفاد أو تدفع شيئًا عن المرتشي، والراشي من يُعطي المال لإبطال حق أو إحقاق باطل، والمرتشي الآخذ، وقد شمله اللعن؛ لأنه شريك للراشي ومعين على الظلم والفساد.
ولعل من المهم ذكر الطرف الثالث في جريمة الرشوة وهو الرائش، وهو الوسيط والساعي بين الراشي والمرتشي.
والرشوة ـ أيها الفضلاء ـ من الأمراض الموروثة عن المفسدين في الأرض، وقد لعن النبي الراشي والمرتشي. صححه الترمذي (1337) من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.
وقد تأخذ الرشوة أشكالاً ووجوهًا عدة، كلها على صورة إبليس، يجمعها أكل أموال الناس بالباطل، فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالوجاهة، وتارة تكون بتقديم أي نفع كان أو وعد بدفع ضر، فإذا كان لا يستطيع أن يصل إلى حقه ويمنع منه حتى يدفع أو يقدم شيئًا فحينئذ تحقق جرم الرشوة إذا تمت، ولا تتم إلا في الظلام الدامس وفي الخفاء، وقد تكون علنا كما في بعض البلدان التي انتشرت فيها في جميع مناحي الحياة.
عباد الله، ولعله من الأجدى أن نذكر الفرق بين الرشوة والهدية، وذلك لما يتطلبه المقام من توضيح الأمر وتجليته، فهما وإن اشتبها في الصورة فالفرق راجعٌ أساسا إلى القصد، إذ إن القصد في الرشوة هو التوصل إلى إبطال حق أو تحقيق باطل، أما المُهدي فقصده استجلاب المودة والمعرفة والإحسان.
وتدخل الرشوة في مجالات شتى؛ فقد تكون الرشوة في الحكم كي يقضي له القاضي أو يحكم له، أو ينهي له عملاً أو يقدمه على غيره، أو يخالف أمرًا لا يمكن تجاوزه من أجل الرشوة. وقد تكون الرشوة في الوظائف أيضًا، حيث يقوم الشخص بدفع الرشوة للمسؤول عن الوظيفة فيعينه رغم استحقاق غيره، وهذا بالإضافة إلى أنه أكلٌ للحرام والسحت فإنه كذلك خيانة للأمانة؛ حيث ينبغي أن يوظف الأصلح والأكفأ، وكذلك تكون الرشوة في التعليم، وفي مجالات البناء والتشييد، أو لدى شركات الكهرباء أو الاتصالات أو البلديات وغيرها من المجالات التي يطول المقام بذكرها، واللبيب بالإشارة يفهم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي البطش الشديد، يبدئ ويعيد، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعبيد، وعلى آله وأصحابه أولي النهى والتسديد.
وبعد: فإن كافة العقلاء ينهون عن الرشوة؛ وذلك لآثارها على جميع الأصعدة، وإذا انتشرت دمرت بقاع الأرض، وقد وقع نظري على نداءات واستصراخات من بعض ساسة العالم ممن لا يدينون بالإسلام، يقولون عن هذه الجريمة ويصفونها بأنها الفساد والدمار الاقتصادي، ولعلي أذكر بعضًا من أقوالهم:
يقول ستيوارت وهو وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية والتجارية والزراعية: "إن الفساد يلحق ضررًا بالتنمية الاقتصادية والإصلاح". ويقول إيليانور روبرتس لويس رئيس قسم المستشارين لشؤون التجارة الدولية في وزارة التجارة الأميركية: "إن الفساد والمحسوبية كانا عاملين هامين في الأزمة الاقتصادية الآسيوية". ويقول ج. براين أتوود مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية: "إن الفساد تحدٍّ متواصل للتنمية". ويقول دونالد سترومبوم: "إن الرشوة في عقود المشتريات الحكومية تشكل لب الفساد".
فإذا كان هؤلاء ينادون بالحفاظ على النظام الاقتصادي لديهم، فإن أمة الإسلام أولى بالاستجابة لنداء ربها ودعوة رسولها بأكل الطيب والبعد عن أكل السحت وهجر آكليه وعدم ملاقاتهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم حتى يرعووا عن إفكهم وما كانوا يأكلون.
أيها الفضلاء، ومما يحمد في هذا المقام ذكر آثار هذه الآفة وهذا السم الزعاف وأضرارها، وهي كما ستسمعون، فإن لجريمة الرشوة آثارًا خطيرة وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، ويمكن أن نجمل بعضها فيما يلي:
1- توسيد الأمر لغير أهله: إن الإنسان حين يدفع رشوة للحصول على وظيفة معينة لا تتوافر فيه مقوماتها وشروطها فهو ليس أهلاً لهذه الوظيفة، مما يترتب عليه قصور في العمل والإنتاج وإهدار للموارد.
2- تدمير المبادئ والأخلاق الكريمة: إن انتشار ظاهرة الرشوة في مجتمع من المجتمعات يعني تدمير أخلاق أبناء هذا المجتمع، وفقدان الثقة بين أبنائه، وانتشار الأخلاقيات السيئة كالتسيب واللامبالاة، وفقدان الشعور بالولاء والانتماء، وسيطرة روح الإحباط.
3- إهدار الأموال وتعريض الأنفس للخطر: فلو تخيلت أن الرشوة قد سادت في مجتمع حتى وصلت إلى قطاع الصحة وإنتاج الدواء، فكيف ستكون أحوال الناس الصحية حين يستعملون أدوية رديئة أُجيز استعمالها عن طريق الرشوة؟!
ثم تخيل أنك تسير على جسر من الجسور التي بها عيوب جسيمة، تجعل منها خطرًا على أرواح الناس وممتلكاتهم، وقد حصل المقاول على شهادات إتمام العمل والبناء عن طريق الرشوة، كم سيترتب على انهيار هذا الجسر من خسائر في الأرواح والأموال؟! وغيرها من الآثار الخطيرة.
4- ومن آثارها وبؤسها على صاحبها أنها تمنع استجابة الدعاء، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام: ((فأنى يستجاب له)). وقال ابن عباس: (لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام). وقال وهب بن الورد: "لو قمت لله مقام هذه السارية ـ أي: مقام العمود ـ لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك".
وقد قيل: إنه إذا خرج العبد حاجًا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال. وإذا نادى المحرم وماله حرام: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفتقك حرام، وحجك غير مبرور. وقال : ((لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ)) صححه الألباني. والغلول هو السرقة من الغنيمة قبل تقسيمها، أي: لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام، فلا ينتظر الرحمة مَنْ يظلم ويسرق ويزوّر ويحتال ويكذب.
أيها المسلمون، وفي خاتمة حديثي إليكم أسوق لكم طرفًا من رسالة للعلامة المحدث سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى، وقد جاء فيها: "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه أو يسمعه من إخواني المسلمين، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، ووقاني وإياهم عذاب الجحيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإن مما حرمه الإسلام وغلظ في تحريمه الرشوة، وهي دفع المال في مقابل قضاء مصلحة يجب على المسؤول عنها قضاؤها بدونه. ويشتد التحريم إن كان الغرض من دفع هذا المال إبطال حق أو إحقاق باطل أو ظلما لأحد. والرشوة أعم من أن تكون مالا أو منفعة يمكنه منها أو يقضيها له، كالقاضي وغيره ممن يرجى عنده قضاء مصلحة الراشي، سواء كان من ولاة الدولة وموظفيها أو القائمين بأعمال خاصة، كوكلاء التجار والشركات وأصحاب العقارات ونحوهم، والمراد بالحكم للراشي حماس المرتشي على ما يريده الراشي، وتحقيق رغبة الراشي ومقصده، سواء كان ذلك حقا أو باطلا".
وإليكم بعض الفتاوى في هذه الآفة السامة:
وأولها: يقول السائل هل يجوز أن أدفع رشوة لأحد الموظفين أو المسؤولين الذين يحكمون في القضايا مثل القضاة، أو رؤساء اللجان التي تقوم بالكشف على أراضي، أم ذلك حرام في حالة إذا لم يثبت حق الشخص إلا بتلك الرشوة، وإذا لم يدفعها فإنه يضيع حقه، وإذا دفعها فإنه يحصل على حقه من غير ظلم لشخص آخر، فهل يجوز هذا الأمر؟ وأين نذهب من حديث الرسول الذي قال فيه: ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش)) ؟!
فأجاب فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: لا يجوز دفع الرشوة لأحد من المسؤولين، سواء كانوا قضاة أو أمراء أو لجانا تفصل بين الناس، ولا شك أن ذلك حرام وأنه من كبائر الذنوب للحديث المذكور، ولأن ذلك وسيلة إلى ظلم وإضاعة حق من لم يدفع الرشوة.
وثانيها: وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بما نصه: نحن موظفون حكوميون، تأتينا في رمضان إكراميات وزكوات من بعض رجال الأعمال، ولا نستطيع التفرقة بين الزكوات والإكراميات؛ لعدم علمنا بذلك، والسؤال: إذا أخذنا هذه الأموال ونحن في غنى عنها وأنفقناها على الأرامل والأيتام والفقراء ما الحكم؟ وإذا أنفقنا منها على أسرنا وأكلنا منها ما الحكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هدايا العمال من الغلول؛ يعني إذا كان الإنسان في وظيفة حكومية وأهدى إليه أحد ممن له صلة بهذه المعاملة فإنه من الغلول، ولا يحل له أن يأخذ من هذا شيئًا ولو بطيب نفس منه.
مثال ذلك: لنفرض أن لك معاملة في دائرة ما، وأهديت لمدير هذه الدائرة أو لموظفيها هدية، فإنه يحرم عليهم قبولها؛ لأن النبي بعث عبد الله بن اللُّتْبيَّة على الصدقة، فلما رجع قال: هذا أهدي إلي وهذا لكم، فقام النبي فخطب الناس وقال: ((ما بال الرجل منكم نستعمله على العمل فيأتي ويقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟!)). فلا يحل لأحد موظف في دائرة من دوائر الحكومة أن يقبل الهدية في معاملة تتعلق بهذه الدائرة، ولأننا لو فتحنا هذا الباب وقلنا: يجوز للموظف قبول هذه الهدية لكنا قد فتحنا باب الرشوة الذي يرشي بها صاحب الحق من يلزمه الحق، والرشوة خطيرة جدًا، وهي من كبائر الذنوب. فالواجب على الموظفين إذا أهدي لهم هدية فيما يتعلق بعملهم أن يردوا هذه الهدية، ولا يحل لهم أن يقبلوها، سواء جاءتهم باسم هدية أو باسم الصدقة أو باسم الزكاة، ولا سيما إذا كانوا أغنياء، فإن الزكاة لا تحل لهم كما هو معلوم.
(1/5290)
ومن يهن الله فما له من مكرم
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
3/4/1428
جامع الرويضة الجنوبي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله تعالى للإنسان. 2- الإنسان بين الهداية والضلال. 3- كرامة الإنسان. 4- الكرامة الحقيقية. 5- صور من الإهانة في العصر الحاضر. 6- ضرورة فهم الكرامة الفهم الصحيح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ الذي لا فَلاحَ وَلا كَرَامَةَ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ، وَلا نجاةَ ولا فوزَ إِلاَّ بِتَقوَاهُ، وَكُونُوا مِن أَبنَاءِ الآخِرَةِ وَطَالِبِيهَا، وَلا تَغتَرُّوا بِالدُّنيا وَمَا فِيهَا، وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعقِلُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مِن رَحمَةِ اللهِ بِالإِنسَانِ وَلُطفِهِ بِهِ أَن فَضَّلَهُ عَلَى غَيرِهِ مِنَ المَخلُوقَاتِ وَكَرَّمَهُ، وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم في البرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً. وَذَلِكُمُ التَّكرِيمُ وَهَذَا التَّفضِيلُ إِنَّمَا مَنشَؤُهُ العَقلُ الذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكلِيفِ، وَالذي حِينَ رَكَّبَهُ اللهُ في الإِنسَانِ وَأَنعَمَ بِهِ عَلَيهِ أَوجَبَ عَلَيهِ في المُقَابِلِ عِبَادَتَهُ؛ قِيَامًا بِحَقِّ تِلكَ النِّعمَةِ وَشُكرًا لها، فَأَنزَلَ عَلَيهِ الكُتُبَ وَأَرسَلَ له الرُّسُلَ، وَشَرَعَ لأجلِ ذلك الشَّرَائِعَ وَسَنَّ السُّنَنَ، لِيزدَادَ الإِنسَانُ بِذَلِكَ كَرَامَةً وَسُمُوًّا، وَيَمضِيَ في مَدَارِجِ العُبُودِيَّةِ رِفعَةً وَعُلُوًّا، وَبِذَلِكَ يَكمُلُ فَضلُهُ وَتَتِمُّ كَرَامَتُهُ، وَتَجمُلُ رِفعتُهُ وَتُحمَدُ مَكَانَتُهُ.
وَحِينَ يُوَفِّقُ اللهُ الإِنسَانَ وَيَهدِيهِ بِإِيمَانِهِ فَإِنَّهُ يَسلُكُ طَرِيقَ الكَرَامَةِ بِالعَمَلِ الصَّالحِ وَالطَّاعَةِ، وَيَلِجُ سَبِيلَ العِزَّةِ بِالاستِسلامِ لِلأَمرِ وَالنَّهيِ، وَأَمَّا حِينَ يَكِلُهُ اللهُ إِلى نَفسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ فَإِنَّهُ وَهُوَ يَبحَثُ لها عَنِ الرِّفعَةِ وَالكَرَامَةِ لا يَنتَهِي بِهِ المَطَافُ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحوَالِ إِلاَّ لِلضَّعَةِ وَالإِهَانَةِ، وَتُقَلِّبُ بَصَرَكَ يَمنَةً وَيَسرَةً وَتُعمِلُ بَصِيرَتَكَ فِيمَن حَولَكَ، فَتَرَى كُلاًّ يَبحَثُ عَن كَرَامَةِ النَّفسِ وَعِزَّتِهَا، فَإِذَا تَأَمَّلَتَ وَتَدَبَّرتَ وَحَلَّلتَ أَلفَيتَ انحِرَافًا عَنِ الكَرَامَةِ كَبِيرًا، وَفَهمًا لمعناها سَقِيمًا، وَسَعيًا إِلى الإِهَانَةِ حَثِيثًا، وَوُقُوعًا في الضَّعَةِ خَسِيسًا، وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، كَرَامَةُ النَّفسِ، وَمَا أَدرَاكَ مَا كَرَامَةُ النَّفسِ؟! مُصطَلَحٌ خَفِيفٌ عَلَى النُّفُوسِ حَملُهُ، ثَقِيلٌ عَلَيهَا التَّنَازُلُ عَنهُ، تَتَنَوَّعُ الأَفهَامُ في وَصفِهِ وَتَعرِيفِهِ، وَتَختَلِفُ العُقُولُ في تحدِيدِهِ وَتَكيِيفِهِ، وَلكِنَّهَا تُجمِعُ على طَلبِهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَتَجتَهِدُ ما استَطَاعَت في تَحصِيلِهِ، وَكَم عَزَّ أَقوَامٌ عُقلاءُ بِالاتِّصَافِ بِهِ، فَتَرَفَّعُوا عَن سَفَاسِفِ الأُمُورِ وَتَسَامَوا عَن مَرذُولِ الأَخلاقِ، وَكَم أَهَانَ آخَرُونَ أَنفُسَهُم بِالمُبَالَغَةِ في ادِّعَائِهِ، فَأَوقَعُوهَا في مُستَنقَعِ الإِهَانَةِ وَهُم لا يَشعُرُونَ، وَقَادُوهَا إِلى ذِلِّهَا وَهُم صَاغِرُونَ.
وَتعمِيمًا لِلقَولِ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، فَإِذَا وَجَدتَ مَن يَتَرَفَّعُ عَنِ المَعاصِي كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا وَيَتَجَافى عَن كُلِّ خُلُقٍ لَئِيمٍ مُرَاعَاةً لِكَرَامَةِ نَفسِهِ فَاعلَمْ أَنَّهُ أَصَابَ عَينَ الكَرَامَةِ، وَفَهِمَ حَقِيقَتَهَا، وَسَارَ في طَرِيقِ تحصِيلِها، وَإِذَا أَلفَيتَ مَن يَتَقَلَّبُ في المَعَاصِي أَو يَأتي مُنكَرًا مِنَ القَولِ أَوِ العَمَلِ وَلا يُبَالي بِمُخَالَفَةِ كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ فَاعلَمْ أَنَّهُ سَعَى في إِهَانَتِهَا وَسَارَ في دُرُوبِ إِذلالِهَا، وَإن زَعَمَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يُكرِمُ نَفسَهُ أَو يَتَرَفَّعُ بها عَمَّا لا يَلِيقُ بها.
وَفي عَصرِنَا الحَاضِرِ وَعَالَمِنَا المُعَاصِرِ قُطِّعَت أَرحَامٌ مَا كَانَ لها أَن تُقطَعَ، وَهُجِرَت قَرَابَاتٌ كَانَ الحَرِيُّ بها أَن تُوصَلَ، وَأُدنِيَ بَعِيدٌ وَأُقصِيَ قَرِيبٌ، وَابتُسِم في وَجهِ صَدِيقٍ وَعُبِسَ في وَجهِ أَخٍ شَقِيقٍ، وَهُدِمَت بُيُوتٌ بِكَلِمَةِ طَلاقٍ، وَأُزهِقَت أَروَاحٌ بِزَلِّةِ لِسَانٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِدَعوَى كَرَامَةِ النَّفسِ وَعِزَتِّهَا.
تَأتي لِقَرِيبَينِ مُتَخَاصِمَينِ وَأَخوَينِ مُتَهَاجِرَينِ، فَتَذكُر لهما فَضلَ صِلَةِ الرَّحِمِ وَخَطَرَ قَطعِهَا، وَتُؤَكِّدُ لهما عِظَمَ مَا وَقَعَا فِيهِ وَسَيِّئَ أَثَرِهِ، حَيثُ لا يُرفَعُ لهما عَمَلٌ بِسَبَبِ تِلكَ القَطِيعَةِ، فَيَزعُمُ كُلٌّ مِنهُمَا أَنَّهُ إِنما هَجَرَ صَاحِبَهُ لأَنَّهُ أَهَانَهُ في يَومٍ مَا، وَأَنَّهُ إِنما قَطَعَهُ لأَنَّهُ لم يُقَدِّرْهُ بِمَا يَستَحِقُّهُ في مَوقِفٍ مَا، وَتَرَاهُ يُحَدِّثُكَ أَنَّ النَّفسَ لها عِزَّةٌ وَكَرَامَةٌ، وَأَنَّهُ لا يَقبَلُ الإِهَانَةَ بِحَالٍ، وَلا يَرضَى أبدًا بِالاستِصغَارِ وَالاستِذلالِ، وَمَا عَلِمَ هَذَانِ الضَّعِيفَانِ المَخدُوعَانِ المَخذُولانِ أَنهما في عَينِ الإِهَانَةِ وَقَعَا، وَلِسَبِيلِ الذُّلِّ سَلَكَا، وَأَنهما مِنَ الكَرَامَةِ أَبعَدُ مَا يَكُون، وَبَينَهُمَا وَبَينَ الرِّفعَةِ كَمَا بَينَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ، لماذا؟ لأنهما أَهَانَا أَنفُسَهُمَا لَدَى مَن تَنفَعُهُمَا الكَرَامَةُ لَدَيهِ، وَأَعَزَّاهَا عِندَ مَن لا يَفرَحُ حتى يَرَاهما قَد وَقَعَا في الإِهَانَةِ على مَنَاخِرِهِمَا.
نَعَمْ، إِنَّ مَن يَقَعُ في المَعصِيَةِ فَلا كَرَامَةَ لَهُ وَلا عِزَّةَ، وَأَيُّ كَرَامَةٍ لِمَن مَقَتَ نَفَسَهُ مِن رَبِّهِ أَشَدَّ المَقتِ، وَتَقَرَّبَ إِلى عَدُوِّهِ اللَّدُودِ الشَّيطَانِ؟! فَهُوَ يَعمَلُ وَيَجتَهِدُ وَيَتعَبُ، وَيُصَلِّي المَكتُوبَاتِ وَيُحَافِظُ عَلى الفَرَائِضِ، وَقَد يَقُومُ اللَّيلَ وَيُكثِرُ مِنَ النَّوَافِلِ، وَيُعطِي وَيَبذُلُ وَيَتَصَدَّقُ، وَيَتَكَرَّمُ وَيُجزِلُ وَيُنفِقُ، وَيَستَغفِرُ وَيُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ، وَيَفعَلُ مَا يَفعَلُ مِنَ الطَّاعَاتِ رَاغِبًا رَاجِيًا، وَيَرفَعُ يَدَيهِ دَاعِيًا مُنَاجِيًا، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ فَاسِدُ العَمَلِ ضَائِعُ الجُهدِ، طَاعَاتُهُ مَردُودَةٌ، وَحَسَنَاتُهُ مَصدُودَةٌ، وَأَعمَالُهُ غَيرُ مَرفُوعَةٍ، وَدُعَاؤُهُ مَوقُوفٌ، وَمُنَاجَاتُهُ مَقطُوعَةٌ، فَهَل بَعدَ هَذِهِ الإِهَانَةِ مِن إِهَانَةٍ؟! وَصَدَقَ اللهَ إِذ يَقُولُ: وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ.
وَمِثالٌ آخَرُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ مِنَ الوَاقِعِ، إِذ لَو أتى رَجُلٌ آخَرَ فَطَرَقَ عَلَيهِ البَابَ فَرَدَّهُ، لَغَضِبَ ذَلِكَ الزَّائِرُ وَلَهَجَرَ صَاحِبَهُ، وَلَحَمَلَ في نَفسِهِ عَلَيهِ حتى يُفَارِقَ الدُّنيا؛ لأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ أَهَانَهُ وَمَا أَكرَمَهُ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ مِن شَدِيدِ البُعدِ عَنِ الهَديِ الشَّرعيِّ والأَدَبِ الرَّبَّانيِّ الذي عَلَّمَنَا اللهُ إِيَّاهُ في كِتَابِه حَيثُ قَالَ: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارجِعُوا فَارجِعُوا هُوَ أَزكَى لَكُم وَاللهُ بِمَا تَعمَلُونَ عَلِيمٌ. فَهَذَا الأَمرُ الذِي يَعُدُّهُ أَصحَابُ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ المَرِيضَةِ إِهَانَةً لأَنفُسِهِم هُوَ في النَّظَرِ الصَّحِيحِ المَبنيِّ على الدَّلِيلِ الصَّرِيحِ مِمَّا تُكرَمُ بِهِ النُّفُوسُ المُؤمِنَةُ وَتُزَكَّى بِهِ القُلُوبُ المُخلصَةُ؛ طَاعَةً للهِ جل وعلا وَامتِثالاً لأَمرِهِ وَوُقُوفًا عِندَ حُدُودِهِ.
إِنَّ عَلَى المُسلِمِ الذِي أَسلَمَ وَجَهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ وآمَنَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا وَبِمُحمدٍ نَبِيًّا رَسُولاً أَن يَعتَقِدَ مِن قَلبِهِ أَنَّهُ لا كَرَامَةَ إِلاَّ بِطَاعَةِ اللهِ وَالابتِعَادِ عَن مَعصِيَتِهِ وَمُخَالَفَةِ أَمرِهِ، وَأَنَّهُ مَا وَقَعَ في المَعَاصِي مَن وَقَعَ فِيهَا إِلاَّ لأَنَّهُ هَانَ عَلَى اللهِ، فَوَكََلُه إِلى نَفسِهِ الضَّعِيفَةِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَأَوقَعَتهُ فِيمَا يُوبِقُهُ وَيُهلِكُهُ، وَلَو كَانَ عِندَ اللهِ كَرِيمًا لَعَصَمَهُ مِن كَثِيرٍ مِنَ الزَّلَلِ، وَلَو أَرَادَ لَهُ عِزًّا لَوَفَّقَهُ لِلطَّاعَةِ وَجَنَّبَهُ المَعصِيَةَ، إِذ إِنَّ العِزَّ قَرِينُ الطَّاعَةِ لا يُفَارِقُهَا، وَالذِّلَّ قَرِينُ المَعصِيَةِ لا يُجَانِبُ صَاحِبَهَا، قال سُبحَانَهُ: وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ ، وقال عن يوسفَ عليه السلامُ: كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاء إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ ، وقال تعالى: إِنَّ الذين يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبلِهِم ، وقال جل وعلا: إِنَّ الذين يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّينَ ، وكان يَقُولُ في دُعَاءِ القُنُوتِ: ((إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَن وَاليتَ، وَلا يَعِزُّ مَن عَادِيتَ)) ، وَيَقُولُ الحَسَنُ البَصرِيُّ رحمه اللهُ: "هَانُوا عليه فَعَصَوهُ، ولو عَزُّوا عليه لَعَصَمَهُم"، وَيَقُولُ رحمه اللهُ: "إِنَّهُم وَإِنْ طَقطَقَت بِهِمُ البِغَالُ وَهَملَجَت بِهِمُ البرَاذِينُ فَإِنَّ المَعصِيَةَ لا تُفارِقُ رِقَابَهُم، أبى اللهُ إِلاَّ أَن يُذِلَّ مَن عَصَاهُ".
وَذَاكَ الذي يُناصَحُ وَيُذَكَّرُ بِاللهِ وَعَظِيمِ مَا ادَّخَرَهُ لِلطَّائِعِينَ وَأَلِيمِ مَا أَعَدَّهُ لِلعَاصِينَ، ثم لا يَتَذَكُّرُ وَلا يُنِيبُ، بَلْ لا يَزدَادُ إِلاَّ عُتُوًّا وَنُفُورًا وإعراضًا، هو في الحَقِيقَةِ مُحَادٌّ للهِ ولِرَسُولِهِ، وَعِزَّتُهُ مَكرٌ بِهِ، وَجَهَنَّمُ تَنتَظِرُهُ، قال سُبحَانَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيِهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئسَ المِهَادُ.
إِنَّ كَرَامَةَ النَّفسِ صِفَةٌ جَمِيلَةٌ وَخَصلَةٌ حَمِيدَةٌ، يَنبَغِي أَن تُفهَمَ حَقَّ الفَهمِ، لِئَلاَّ تَكونَ حَائِلاً دُونَ أَحَدٍ وَطَاعَةِ رَبِّهِ وَامتِثَالِ أَمرِ رَسُولِهِ، أَو دَافِعًا لَهُ لِلعِنَادِ وَالوُقُوعِ في المَعصِيَةِ وَالإِصرَارِ عَلَى الخَطَأِ، لأَنَّهَا وَالحَالُ هَذِهِ لَيسَت كَرَامَةً، وَإِنما هِيَ إِهَانَةٌ مَا بَعدَهَا إِهَانَةٌ، وَالمُوَفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ، قال سُبحانَهُ: مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جميعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالحُ يَرفَعُهُ ، أَي: مَن أَرَادَ العِزَّةَ فَلْيَطلُبْهَا بِطَاعَةِ اللهِ بِالكَلامِ الطَّيِّبِ وَبِالعَمَلِ الصَّالحِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، أَلم تَرَ أَنَّ اللهَ يَسجُدُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَمَن في الأَرضِ وَالشَّمسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيهِ العَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَامتَثِلُوا أَمرَهُ وَقِفُوا عِندَ نَهيِهِ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَقُولُ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "النَّاسُ قِسمَانِ: عِليَةٌ وَسِفلَةٌ، فَالعِليَةُ مَن عَرَفَ الطَّرِيقَ إِلى رَبِّهِ وَسَلَكَهَا قَاصِدًا الوُصُولَ إِلَيهِ، وَهَذَا هُوَ الكَرِيمُ عَلَى رَبِّهِ، وَالسِّفلَةُ مَن لم يَعرِفِ الطَّرِيقَ إِلى رَبِّهِ وَلم يَتَعَرَّفْهَا، فَهَذَا هُوَ اللَّئِيمُ الذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ ".
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ كَرَامَةَ النَّفسِ لَيسَت فِيما يَرَاهُ النَّاسُ مِن وَفرةِ غِنى وَعُلُوِّ مَنصِبٍ، أَو تَقدِيرٍ ظَاهِرٍ مِن بَعضِهِم لِبَعضٍ، بِضِيَافَةٍ مُتَكَلَّفٍ فِيهَا، أَو دَعوَةٍ مَاكِرَةٍ وَعَزِيمَةٍ غَيرِ صَادِقَةٍ، أو مَلءِ بَطنٍ بِشرابٍ أو طَعَامٍ، وَإِنما الكَرَامَةُ في طَاعَةِ اللهِ وَتَقوَاهُ والإِخلاصِ لَهُ ومُتَابَعَةِ مَا جَاءَ في كِتَابِهِ وعلى لِسَانِ رَسُولِهِ ، قال سُبحَانَهُ: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ.
أَلا فَأَكرِمُوا أَنفُسَكُم بِطَاعَةِ اللهِ وَالتَّوَاضُعِ لِعِبادِ اللهِ وَالعَفوِ عَمَّن ظَلَمَكُم وَتَعَدَّى عَلَيكُم وَعَدَمِ الانتِقَامِ لأَنفُسِكُم وَالانتِصَارِ لِحُظُوظِهَا، فَإِنَّهُ ((مَا زَادَ اللهُ عَبدًا بِعَفوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ)) ، ((وَلا عَفَا رَجُلٌ عَن مَظلمَةٍ ظُلِمَهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ تعالى بها عِزًّا، فَاعفُوا يَزِدْكُمُ اللهُ عِزًّا)).
وَرَضِيَ اللهُ عَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقَد كَانَ بِذَلِكَ فَقِيهًا وبه عالمًا، فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِلى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيدَةَ بنُ الجَرَّاحِ رضي اللهُ عنهما فَأَتَوا عَلَى مَخَاضَةٍ، وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ، فَنَزَلَ عَنهَا وَخَلَعَ خُفَّيهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بها المَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيدَةَ: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، أَأَنتَ تَفعَلُ هَذَا؟! تَخلَعُ خُفَّيكَ وَتَضَعُهُما عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ وَتَخُوضُ بها المَخَاضَةَ! مَا يَسُرُّني أَنَّ أَهلَ البَلَدِ استَشرَفُوكَ، فَقَال عُمَرُ: أَوه! لَو يَقُلْ ذَا غَيرُكَ أَبَا عُبَيدَةَ جَعَلتُهُ نَكالاً لأُمَّةِ محمدٍ ؛ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَومٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسلامِ، فَمَهمَا نَطلُبِ العِزَّ بِغَيرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهُ.
(1/5291)
سفك دم المسلم بغير حق والإيمان بالقدر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
القضاء والقدر, الكبائر والمعاصي
إبراهيم بن محمد الفارس
المجمعة
14/1/1428
جامع الجزيرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعيد قتل المسلم. 2- توبة القاتل. 3- مفاسد جريمة القتل بغير حق. 4- تقدير الله تعالى لكل ما هو كائن. 5- منزلة الرضا والتسليم لقدر الله تعالى. 6- الصبر عند المصائب. 7- المصائب مكفرات. 8- هدي النبي عند المصائب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.
يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه عن النبي قال وذلك في حجة الوداع: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ، ويقول: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) ، وعن سهل بن حنيف أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف يوم الدار ـ أي: على الخوارج الذين جاؤوا لقتله ـ فقال: أنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق فقتل به)) ؟! فوالله، ما زنيت في جاهليه ولا إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله ، ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلونني؟!
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا الآية: هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، وموجب قتل العمد القصاص في الدنيا ووعيد في الآخرة. وقال عليه الصلاة والسلام: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) متفق عليه، وفي الحديث الآخر: ((لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار)) ، ((ولزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)). وإذا تمالأ جماعة على قتل مسلم عدوانا اقتصّ منهم لما روى مالك عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قتل خمسة أو سبعة بفرد واحد قتلوه غيلة، وقال عمر: (لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم).
أيها المسلمون، أربع عقوبات عظيمة جازى بها الله سبحانه من قتل مؤمنا متعمدا بغير حق، كل واحدة منها توجل القلب وتفزع النفس: جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ، ويله ما أصبره على نار جهنم! وقد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءا، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وبئسما حصل لنفسه من غضب الرب العظيم عليه، وَلَعَنَهُ فطرده وأبعده عن رحمته، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، ويل لقاتل المؤمن المتعمد، ويل له من هذه العقوبات، النار وغضب الجبار واللعنة والعذاب العظيم.
ولخطورة هذا العمل اختلف سلف الأمة هل له من توبة؟ فذهب ابن عباس ومن وافقه أن لا توبة له، والذي عليه جمهور السلف والخلف أن له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عنها، ومن فعله استحلالا فقد كفر.
أيها المسلمون، إن قتل المسلم عمدا عدوانا جريمة شنعاء وخطر على المجتمع، تورث البغضاء والشحناء والشقاق والعداء، تخلّ بالأمن وتكسب الإثم وتحار الدعوة على فاعلها، ولا يقدم عليها إنسان يؤمن بالله حقا.
ومع هذا كله فإن هذا الوجود الذي لا نعرف منه إلا القليل ولا يكشف لنا منه إلا على قدر الحكمة والمصلحة لا يقع فيه حركة ولا سكون ولا محبوب ولا مكروه إلا وهو مقدر في أصل تصميمه، وواقع في حسبان تكوينه، لا محل فيه للصدفة، ولا سبيل فيه للجزاف، إنما هو تقدير العزيز العليم وإرادة الحكيم الخبير، فكل ما يحصل في هذا الكون منذ نشأته إلى نهايته من أحداث وخير وشر وخوف وأمن وصحة ومرض وإيمان وكفر ومعصية وطاعة ونصح وغش وحياة وموت وحوادث وإصابات وأمراض وأسقام وغير ذلك من الأحداث والأحوال، كل ذلك في علم الله وبقدر الله. روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)).
إنه لا يسع الإنسان في مقابلة الأحداث والمصائب إلا الرضا والتسليم والصبر والاحتساب، وليس ذلك إلا للمؤمن، يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11]، قال علقمة: "هي المصيبة تصيب الرجل أو المرأة، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى"، وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من يرد الله به خيرا يصب منه)) ، وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) ، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي وحسنه، وروى الشيخان عن أبي سعيد عن النبي قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه)).
إن الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين، كما قال في حديث أبي يحيى صهيب بن سنان: ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)).
وأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده، وتارة يلاحظون ثواب الرضا، وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وغناه عن خلقه، وأنه إنما يبتلي عباده لصالح أنفسهم، فيهون ذلك ألم المصيبة ويخفف.
وأما الصبر فأنفعه عند الصدمة الأولى، ولا ينافي ما يظهر على ملامح المصاب من آثار الحزن والتألم من الوجع، والإخبار بالواقع وحزن القلب ودمع العين وأمثال ذلك، فإنما هي غرائز بشرية لا تنافي الصبر والرضا، وفعل الأسباب المباحة لإزالة الآلام لا تنافي الصبر أيضا، وإنما الذي ينافي الصبر أعمال الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والصراخ والعويل والدعاء بالويل والثبور.
والإنسان في هذه الدنيا معرض للأخطاء ومحل للذنوب والخطايا، وفيه نقص وإهمال وغفلة وصدود، وكله تقصير في حق الله، فإذا أحب الله عبده طهره بالمصائب ونقاه من أدران الذنوب، وكان من أشد الناس وجعا حبيب الله وخليله وصفوته من خلقه محمد ، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدا الوجع عليه أشد من رسول الله. متفق عليه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي وهو يوعك ـ أي: من الحمى حرارة وألما ـ، فمسته يدي فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكا شديدا! فقال : ((أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) ، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال: ((أجل)) ، ثم قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) متفق عليه.
والله تعالى لم يجعل هذه الدار دار بقاء وسرور، وإنما هي دار سفر وابتلاء واختبار، دار عمل وجهد، والمسافر يصبر على مشقات السفر، وينتظر الوصول إلى دار المقر، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تهتز حتى تستحصد)) ، وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها، لا يفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)). قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: معنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته، وأما الكافر فقليلها، وإن وقع به شيء لم يكفر شيئا من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة".
وفي الصبر ـ عباد الله ـ خير كثير، فإن الله أمر به ووعد عليه بجزيل الأجر، والعبادة ـ عباد الله ـ لها أسرار تتصل بالله لا يعلمها العبد، فهي زاد الطريق ومدد الروح، وهي عدة الصابرين وقوت المصابين. قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لم تعط هذه الكلمات: إنا لله وإنا إليه راجعون نبيًّا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفى على يوسف".
فاتقوا الله أيها المسلمون، واستعدوا لمواجهة طوارق الليل والنهار، وتعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، وخذوا من صحتكم لمرضكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم، ومن غناكم لفقركم، ومن قدرتكم لعجزكم، ومن قوتكم لضعفكم، ومن شبابكم لهرمكم.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 18]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فإن الناس يختلفون في الرقة والرحمة، وفي التجلد وكظم الغيظ، والنبي أكمل الناس في كل الأحوال والصفات، وهو المشرع يبين ما يحل وما يحرم، فلما توفي ابنه إبراهيم ذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة)). ولما قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة رضي الله عنهم جلس يعرف فيه الحزن، وهذا هو الاعتدال في هذا الباب، لا تفريط في الحزن حتى يحصل المحذور، ولا تفريط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، وهو القدوة لكل مسلم.
فاللهم إنا نسألك الثبات عند المصائب والإيمان بك عند النوائب، اللهم إنا نسألك أن تغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته فتوفه عليهما، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك...
(1/5292)
تاريخ الدول الباطنية
أديان وفرق ومذاهب
فرق خارجة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/4/1428
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان اللجنة الدائمة حول الفرق الباطنية. 2- خطر الباطنيين على الإسلام والمسلمين. 3- خيانات الباطنيين وغدرهم عبر التاريخ. 4- تاريخ الدولة الصفوية وجرائمها. 5- العدوان الأمريكي الرافضي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، صدر الشهر الماضي بتاريخ 20/3/1428هـ بيان مهمّ جدًا من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن خطورة بعض الفرق الباطنية بسبب ما تفوّه به حاكم ليبيا عندما ادّعى أنّ الدولة المسماة بالدولة الفاطمية هي دولة الإسلام التي يكمن فيها الحلّ المناسب في الحاضر كما كان حلاًّ في الماضي، فممّا جاء في البيان اللجنة:
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإنّ الله عز وجل قد أمر باجتماع هذه الأمة ونهى عن التنازع، قال تعالى: وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ، ولن يحصل اجتماع الأمة إلا بالتمسك بالكتاب والسنة؛ ولذا أمر الله بالاعتصام بحبل الله المتين، قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَّلاَ تَفَرَّقُوا ، وأمتنا الإسلامية وهي تواجه ما يحفّ بها من مخاطر متنوّعة في أمس الحاجة إلى التمسّك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه ، متوخية في ذلك نهجَ صحبه الكرام رضي الله عنهم. ولقد وجهنا الله سبحانه وتعالى إلى هذا المنهج القويم في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. وحيث إن النصح من الواجبات الشرعية وكان من النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كتابة بيان حول ما تناقلته بعض وسائل الإعلام عن بعض المحسوبين على الأمة، نوضح فيه حقيقة دعواه التي حاول فيها أن يلبس على عموم المسلمين، ويخدع بها من لا يبصر الأمور، فقد ادعى ذلك المتكلم أن الدولة المسماة بالدولة الفاطمية هي دولة الإسلام التي يكمن فيها الحلّ المناسب في الحاضر كما كان حلا في الماضي، وهذا من التلبيس ومن الدعاوى الباطلة، وذلك لعدة أمور منها:
أولا: أن تسمية تلك الدولة بالفاطمية تسمية كاذبة، أراد بها أصحابها خداع المسلمين بالتسمي باسم بنت رسول الله ، وقد بين العلماء والمؤرخون في ذلك الزمان كذبَ تلك الدعوى، وأن مؤسسها أصله مجوسي، يدعى سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وسعيد هذا تسمى بعبيد الله عندما أراد إظهار دعوته ونشرها، ولقب نفسه بالمهدي. فالنسبة الصحيحة لدولته أن يقال: "العبيدية"، كما ذكر ذلك جملة من العلماء المحققين، ويظهر من نَسِب مؤسّسها الذي ذُكر آنفًا أن انتسابهم إلى آل البيت كذب وزور، وإنما أظهروا ذلك الانتساب لاستمالة قلوب الناس إليهم. قال الذهبي رحمه الله: "المهدي عبيد الله والد الخلفاء الباطنية العبيدية الفاطمية افترى أنه من ولد جعفر الصادق، وقد ذكر غيرهما من المؤرخين أنه في ربيع الآخر من عام 402هـ كتب جماعة من العلماء والقضاة والأشراف والعدول والصالحين المحدثين وشهدوا جميعًا أن الحاكم بمصر وهو منصور الذي يرجع نسبه إلى سعيد مؤسس الدولة العبيدية لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أحدا من أهل بيوتات علي بن أبي طالب رضي الله عنه توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة، وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار ملحدون زنادقة معطلون، للإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء وسبّوا الأنبياء ولعنوا السلف وادعوا الربوبية.
ثانيا: إظهارهم التشيع لآل البيت: هذه الدعوى أظهروها حيلة نزعوا إليها استغلالاً لعواطف المسلمين؛ لعلمهم بمحبة أهل الإسلام لرسول الله وآل بيته.
ثالثا: حال تلك الدولة وما كانوا عليه: أجمل العلماء حالهم في جملة مشهورة قالها الإمام أبو بكر الباقلاني والغزالي وابن تيمية، وهي أنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض. قال الباقلاني عن القداح جد عبيد الله: وكان باطنيا خبيثا حريصا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه؛ أباحوا الخمور والفروج وأفسدوا عقائد خلق. وقد قَتل عبيد الله وبنوه أربعة آلاف رجل ما بين عالم وعابد ليردوهم عن الترضي عن الصحابة فاختاروا الموت. قال السيوطي: ومن جملة ذلك ابتداء الدولة العبيدية، وناهيك بهم إفسادا وكفرا وقتلا للعلماء والصلحاء.
رابعا: موقف العلماء من تلك الحقبة: كان العلماء يظهرون الشناعة على العبيديين وعلى أفعالهم المشينة، ومما يبين لنا موقف العلماء ويجمله ما صنعه السيوطي في تاريخه حيث قال: ولم أورد أحدًا من الخلفاء العبيديين؛ لأن خلافتهم غير صحيحة، وذكر أن جدهم مجوسي، وإنما سماهم بالفاطميين جهلة العوام.
خامسا: إن مما يتبين لكل أحد بعد الاطلاع على أقوال العلماء والمؤرخين أن هذه الدولة الفاطمية كان لها من الضرر والإضرار بالمسلمين ما يكفي في دفع كل من يرفع لواءها ويدعو بدعوتها؛ لذا نجد أن المسلمين في الماضي فرحوا بزوالها على يد الملك الصالح صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى في عام 567هـ، فلا يجوز بعد هذا كله أن ندعو الناس إلى الانتساب إلى تلك الدولة العبيدية الضالة، ومثل هذه الدعوة غش وخيانة للإسلام وأهله، ونصيحتنا لأئمة المسلمين وعامتهم بالاعتصام بالكتاب والسنة وجمع القلوب عليهما. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين" انتهى بيان اللجنة الدائمة.
أيها المسلمون، إن أشد أعداء الإسلام هم الباطنيون، ولا يزالون مستمرين في الكيد والتخطيط للنيل من أهل السنة، يحملهم على ذلك الكره والحسد والحقد الدفين، فتنوعت أساليب كيدهم ومكرهم، فلم يسلم من شرهم صحابة رسول الله ولا المسلمون في القرون المفضلة، ولم يسلم منهم حجاج بيت الله الحرام في الشهر الحرام، فضلاً عن أن يسلم غيرهم من المسلمين. إن تاريخ الدول الباطنية تاريخ أسود قديم ومعروف كالدولة العبيدية والفاطمية ودولة البويهيين ودولة القرامطة والدولة الصفوية وغيرهم، تاريخ هؤلاء تاريخ أسود، خصوصًا مع أهل السنة، وخياناتهم مع اليهود والنصارى أمر معلوم منذ القديم:
1- كان مقتل عمر رضي الله عنه انتقامًا لما فعله بدولة كسرى، أوَليس الذي قتل عمر هو أبو لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي الباطني؟! ولذلك صنع له الشيعة مشهدًا فيه قبر وهمي في مدينة كاشان بإيران، وأطلقوا عليه: "مرقد بابا شجاع الدين"، وهذا المشهد يُزار وتلقى فيه الأموال والتبرعات نظير ما قدم لهم.
2- وحارب صلاح الدين الأيوبي الرافضة الباطنيين قبل النصارى، بل قضى على الدولة العبيدية الفاطمية الباطنية قبل حربه للصليبيين، ولولا ذلك لاستحال عليه تحرير القدس.
3- وفي عهد العثمانيين الذين جددوا حركة الجهاد الإسلامي وبدؤوا يجتاحون العالم حتى وصلوا إلى أوربا مستعيدين بذلك البلاد الإسلامية التي خسرها المسلمون أثناء الغزو الصليبي قامت يد الغدر والخيانة الرافضية الفكر والمنهج، اليهودية الأصل والمنشأ، والتي اعتادت أن تطعن ظهر الأمة لتحول بين المسلمين وبين جهادهم ضد الكفر والكفار، امتدت من جديد لتستغل انشغال العثمانيين أثناء توغلهم في قلب أوربا مجاهدين ليقوموا بحركات انفصالية خارجين عن الخلافة الإسلامية العثمانية براءة ومتحالفين مع أعداء الإسلام ولاءً، فتعاونوا مع البريطانيين والبرتغاليين والفرنسيين والروس حتى أضعفوا الخلافة العثمانية وأنهكوها، فكانوا من أكبر أسباب سقوطها، حيث شكلوا عدة جبهات وعدة حركات انفصالية، فكان الصفويون في شروان والعراق وفارس، والبهائيون في بلاد فارس، ولهم نشاطات في مناطق متفرقة، والقاديانية في الهند، والنصيرية والدروز في بلاد الشام.
4- وأما القاديانيون الباطنية فقد تعاونوا مع الإنجليز، بل إن الإنجليز هم الذين ساهموا في نشأتهم، فخرج زعيمهم غلام أحمد يَدّعي أنه هو المهدي المنتظر، ثم استمر حتى ادعى النبوة وأمر بتعطيل الجهاد حتى يخذّل أتباعه عن جهاد الإنجليز الذي كان على أشده، الأمر الذي يدل على أنهم ما أُنشئوا إلا من أجل تعطيل الجهاد، فلذا نجد أتباعهم اليوم ينشطون أكثر في فلسطين حتى يخذّلوا عن الجهاد ضد اليهود المحتلين.
5- وأما النصيريون الباطنيون فكذلك تعاونوا مع الصليبيين أثناء الغزو الصليبي، وكانوا سببًا في سقوط بلاد الشام وبيت المقدس، كما تعاونوا من قبل مع التتار ضد المسلمين، وكانوا سببًا في اجتياح بلاد الشام.
6- وأما الدروز الباطنيون فقد تطوع عدد كبير من أبنائهم في جيش الدفاع الصهيوني طمعا في إنشاء دولة مستقلة لهم في كل من سوريا ولبنان، وفي حرب 67م ذاق المسلمون في الجولان والأردن الويلات من الدروز العاملين في جيش الدفاع الإسرائيلي، ولم يرحموا شيخًا كبيرًا ولا طفلاً صغيرًا.
7- وفي دولة بني بويه الشيعية الباطنية في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ألزم معز الدولة ابن بابويه يوم عاشوراء أهل بغداد بالنوح على الحسين رضي الله عنه، وأمر بغلق الأسواق ومنع الطباخين من عمل الأطعمة، وخرجت نساء الشيعة منشرات الشعور يلطمن ويفتن الناس، وهذا أول ما نيح عليه، كما اتخذت الدولة العبيدية الفاطمية على كثرة أعيادها ومناسباتها يوم عاشوراء يوم حزن ونياحة، فكانت تتعطل فيه الأسواق ويخرج فيه المنشدون في الطرقات، وكان الخليفة يجلس في ذلك اليوم متلثمًا يرى به الحزن، كما كان القضاة والدعاة والأشراف والأمراء يظهرون وهم ملثمون حفاة، فيأخذ الشعراء بالإنشاد ورثاء أهل البيت وسرد الروايات والقصص التي اختلقوها في مقتل الحسين رضي الله عنه. ومن مظاهرهم في هذه الأيام خروج المواكب العزائية في الطرقات والشوارع مظهرين اللطم بالأيدي على الخدود والصدور والضرب بالسلاسل والحديد على الأكتاف حتى تسيل الدماء. وقد وصف ابن كثير رحمه الله ما يفعل الشيعة من تعدي لحدود الكتاب والسنة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فقال: "فكانت الدَّبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويُذَرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء لَيلَتَئذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشان، ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههنّ ينحن ويلطمن وجوههنّ وصدورهنّ حافيات في الأسواق، إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يُشنِّعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في أيامهم" انتهى.
8- والقرامطة الباطنيون تسلطوا على حجاج بيت الله الحرام، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسرقوا الحجر الأسود، وبقي معهم في منطقتهم هجر قرابة عشرين سنة، وكان الحجاج بعدها يحجون البيت ويعتمرون والحجر غير موجود، حتى أعان الله جل وتعالى على رده.
9- وفي حملة الروم الكبرى على الشرق الإسلامي والمعروفة في التاريخ بالحروب الصليبية والتي بدأت عام 488هـ كانت الشام ومصر خاضعتين لحكم العبيديين الشيعة المعروفين بالفاطميين، وكان بين الروافض وبين أمراء السلاجقة الأتراك السنة صراع وتنافس، ولهذا شجع الروافض قدوم الصليبيين إلى الشام أملاً في تدمير إمارات السلاجقة، وبدأ هؤلاء الروافض يسهلون للصليبيين ويرحبون بقدومهم. وعندما غزا المغول الشرق الإسلامي بعد غزوهم للصين كانت إيران من أوائل المناطق التي اجتاحوها، ثم واصلوا الزحف حتى العراق، فأسقطوا دولة الخلافة العباسية، وكان مقدم المغول إلى عاصمة الخلافة غير بعيد عن إغراءات الشيعة لهم بذلك، حيث أرادوا إحلال خليفة شيعي بدلاً من الخلفاء السنة رغم تقريب بعض هؤلاء السنة لهم عن غفلة أو تغافل، وقد كان لنصير الدين الطوسي الفارسي ومؤيد الدين بن العلقمي وأشباههما وحلفائهما من الفرس دور كبير في التغرير بالمسلمين في العراق وإغراء الأعداء التتار الوثنيين بهم. وبعد العراق استباح التتار بلاد الشام وطفقوا يستعدون لغزو مصر، إلا أن شوكتهم كُسِرَتْ عند عين جالوت، وارتدوا على أدبارهم، فغادروا الشام ثم العراق، وأنشؤوا لهم دولة في الشمال الغربي لإيران، اتخذت تبريز عاصمة لها.
أسس إسماعيل ميرزا شاه الدولة الصفوية عام 914هـ، وأعلن المذهب الشيعي مذهبًا رسميًا في إيران، وسميت تلك الدولة بالصفوية نسبة إلى صفي الدين الأردبيلي، وتحولت الصفوية من دعوة إلى دولة، وتوسعت من العراق إلى أفغانستان.
وقد ناصبت الدولة الصفوية دولة الخلافة العثمانية العداء، وحاول الصفويون الاستعانة بغرمائهم القدامى من الروم الصليبيين على العثمانيين المسلمين السنة، بل كان لهم دور كبير في إيقاف المد الإسلامي إلى داخل أوروبا، فقد كانت مؤامراتهم سببًا في إيقاف جيوش العثمانيين عند أبواب فيينا، لكن السلطان العثماني سليمان الأول ألحق بالصفويين هزيمة موجعة عام 920هـ، لكن الصفويين ظلوا على عهد الشقاق والمحاربة لجيرانهم من المسلمين السنة حتى سقطت دولتهم على يد الأفغان بقيادة محمود خان الذي غزا أرض فارس واستولى على العاصمة أصفهان، وقامت بعد الدولة الصفوية الشيعية عدة دول.
ثم تحالفوا بعد ذلك مع الإنجليز في عهد الشاه عباس الصفوي، ومكنوا لهم في البلاد، وجعلوا لهم فيها أوكارًا يتم الاجتماع فيها معهم للتآمر ضد الخلافة العثمانية لدرجة أن مستشاريه كانوا من الإنجليز.
وأما جرائمهم فيما يتعلق بجانب الدين والعقيدة فمنها صرفهم الحجاج الإيرانيين من الحج إلى مشهد بدل أن يحجوا إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، حيث قام شاه عباس الصفوي بالحج إلى مشهد مبتدئًا بنفسه سيرًا على الأقدام، ليصرف الناس عن الحج إلى مكة وليكون قدوتهم، ومن ذلك الحين أصبحت مشهد مدينة مقدسة لدى الرافضة. وفتح الصفوي شاه عباس بلاده للمبشرين الغربيين حتى سمحوا لهم ببناء الكنائس ومد بناء جسور من التعاون الاقتصادي والعسكري والسياسي.
أيها المسلمون، هذه لمحة سريعة ومختصرة عن بعض جرائم الباطنيين على شتى مللهم ونحلهم إذا وصلوا للحكم وتمكنوا من رقاب المسلمين.
نسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم، وأن يهلكهم وأن يمزقهم شر ممزق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق في الحرب الأخيرة تدفقت الكتائب الباطنية الرافضية وعلى رأسها ما يسمى "فيلق بدر" مباشرة إلى العراق، على مرأى ومسمع من الجيش الأمريكي الذي اصطفّ وراءه لهدم المدن السنية على رؤوس أهلها. ولتغطية الخداع الرافضي الأمريكي المعتدِي على أهل السنة في العراق رفعت أمريكا وإيران عنوان الخلاف والشقاق بينهما، وكانت أمريكا تصرح بأن إيران ترسل السلاح والمقاتلين إلى العراق، وهي أمريكا تشكو من اجتياز المقاتلين الرافضة في الحدود الشرقية للعراق، وتجمع جيشها و"فيلق بدر" للهجوم على أهل السنة في الغرب والوسط.
وها هي فضائياتهم في كل من إيران والعراق ولبنان بل وفي بعض الدول الغربية تبث لكل تلك الفئات عقائدهم وأفكارهم وسياساتهم، وموضوعاتهم موجهة توجيهًا ذكيًا ونشيطًا إلى شبابنا، منطلقين في ذلك من أساس يدعونه وهو منهم براء ونحن أولى به منهم، وهو الولاء لأهل بيت رسول الله الذي يرفعون رايته مع إهانةٍ لصفوة صحابة رسول الله ، وهدفهم من ذلك تكثير سوادهم لينقضّوا على أهل السنة في العالم وليس في العراق فقط. وإن أول البلدان التي ستنال قسطها من عدوانهم إذا تمكنوا هي الدول المجاورة، وبالأخص دول الخليج التي بها من المغريات الدينية والاقتصادية ما لا يوجد في غيرها.
أيها المسلمون، إن الأمريكان واليهود والبريطانيين وكل الدول الغربية يعلمون علم اليقين أن العقبة الكأداء أمام تحقيق أهدافهم هم أهل السنة وليس الرافضة الباطنية، لأن الرافضة قد تعاونوا مع المعتدين على البلدان الإسلامية من قديم الزمن، كما ذكرت صورًا منها في الخطبة الأولى، وهم اليوم قد تعاونوا معهم في أفغانستان، وركبوا دباباتهم عندما احتلوا العراق، ولا تخدعنا تصريحات خلافاتهم المعلنة فالنار تحت الرماد.
أما حزب الشيطان الباطني في لبنان فمهمته بالتنسيق مع اليهود هو حماية حدود اليهود من تسلل أي مجاهدين، ومنع أي عمليات تهدد أمن إسرائيل.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5293)
الاستقامة الحقة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, خصال الإيمان
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
10/4/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعادة المرء. 2- أركان الاستقامة الحقة. 3- الاستقامة على توحيد الله تعالى. 4- خطر الفتن على الاستقامة. 5- ضرورة الاستغفار والتوبة. 6- ذمّ المنحرفين المدعين للاستقامة. 7- استقامة السلف الصالح وثباتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعدُ: فيا أيُّها النّاسُ، صَفاءُ المرءِ وهَنَاؤه وتوازُنُه واستِقرَارُه إنما يكمُنُ في صِدقِ انتِمَائِه لِدِينِهِ وَتمَسُّكِه بشِرعهِ وعَضِّه [عليه] بالنواجِذ، بعيدًا كلَّ البُعدِ عن مَزَالقِ الانحرَافِ ومكامِن الرِّيَب ونزَعاتِ الميل إفراطًا وتفريطًا.
يحرِص المرءُ المسلِم بمِثلِ هذا التوازُن أن يحيَا حياةً طيِّبَة، مِلؤُها حُسنُ الاستقَامَة على الدّين والثبات عليه أمام العَوَاصِف والزّوابع التي تتتابَع حَثيثةً بين الفينَةِ والأخرى؛ ليَمِيزَ الله بها الخبيثَ من الطيب، ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعض، فيركمَه جميعًا، فيجعله في جهنّم.
وحادِي المؤمِنِ الصادق وَسطَ هَذَا الرُّكام من المتغيّرات هو قولُه تَعَالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، وقولُه جلّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13].
رَوَى الإمام مسلِمٌ في صحيحه عن سفيانَ بن عبد اللهِ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسألُ عنه أحدًا غيرَك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثمّ استقِم)) [1].
فانظُروا ـ يا رَعَاكم الله ـ إلى هذه الوصيّةِ الجامعةِ حينما تُوضِّح هوِيّةَ المسلم التي يَنبَغِي أن يحيا ويموتَ عليها، وهي الاستقامَةُ الحقّةُ دُونَ عِوَجٍ أو انحرافٍ، الاستقامة الحقّةُ دونَ تخاذُلٍ أو تَرَاجُع، الاستقامةُ الحقّةُ الجامِعة لأركَانها ورَكَائِزها الثَّلاثَة، وهي استقامةُ اللسانِ أخذًا من قولِهِ : ((قل: آمنتُ بالله)) ، وكذا استِقَامةُ القلبِ والجوارِحِ أخذًا من قولِه : ((ثم استَقِم)) ؛ ذلك أنّ مجرّدَ الإيمانِ باللِّسان لا يُعَدّ استقامةً أصلاً، كما أنّ الاستقامةَ بالجَوَارح والقلبُ خالٍ مِنهَا لا يُعدُّ استِقامَة أيضًا ولا هِيَ من بَابَتِها؛ ولِذَا عَابَ الله قَومًا قد ادَّعَوا الاستقامَةَ الحقّةَ على الإيمانِ وأنهم بلَغوا مَقَامًا أعلَى ممّا هم عليه حقيقةً، فقَالَ سبحانه وتعَالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14].
ثمّ اعلَمُوا ـ يا رَعَاكم الله ـ أنّ أَعظمَ أنواعِ الاستقامة هو استِقَامةُ المرءِ عَلَى التَّوحِيدِ الخالِص، وذلك في مَعرِفةِ الله وعبَادَتِه وخشيتِه وإجلالِه ورَجَائِه وخوفِه ودُعَائِه والتوكّل عَلَيه وعدَم الإشراكِ به أو الالتِفات إلى غيرِه سبحانه، وقَد فَسَّر أَبو بكرٍ الصِّدّيقُ رضي الله عَنه قولَ الله جلَّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت: 30] بأنهم الذين لم يلتفِتوا إلى غيره [2].
أَيّها الناس، إِنّ الاستقامةَ على دين الله لَذاتُ شَأنٍ عظيم، في حِينِ إنها محفُوفةٌ بالمخاطِر من كلِّ جانِبٍ، ومِن حَولها الفتنُ المتلاطِمَة التي تؤُزّ صاحبَها أزًّا، فيُدَعَّى إلى مُواقَعَتها دَعًّا، كلُّ ذلك يجعَل الثباتَ عَلَى الاستقامةِ والعضَّ عليها كالقَبضِ على الجمرِ في رَاحَةِ اليدِ؛ ولذا كانَ رسول الله يكثِر التَّعوُّذَ بالله من ذلِكُم، كما في الموطّأ أنَّه كان من دعاءِ النبيِّ : ((اللّهمّ إذا أردتَ بالنَّاس فتنةً فاقبِضني إليك غيرَ مفتون)) [3].
إنَّ مما لا شكَّ فيه ـ عِبادَ الله ـ أنّ تواليَ الفِتنِ على المرء وكثرةَ ملامَسَتها له ولمجتَمَعِه وسوقِه لتوقِع في نفسِه شيئًا من الخَلَل أو التَّقصيرِ الَّذي لا يخلو مِنه مسلِم ولا يَكَاد، ومن لم يُصِبه لظَى الفِتن فلا أقلَّ من أن يصيبَه دَخَنُها، غيرَ أنّ الشَّارِعَ الحكيم لم يدَع المسلمَ سَبَهللاً تتهاوَى به الفتن دونَ دِلالةٍ إلى ما يَعصِمه من ذلكم أو يجبُرُ الخَلَلَ ويمحُوه إن وُجِد، فأَرشَدَ الشّارعُ الحكيم إلى الاستِغفارِ المقتضِي للتّوبةِ النَّصوح والرّجُوعِ إلى الاستقامةِ؛ ليكونَ ذَلِك سُلوانًا أمامَ المَوجِ الكاسِر والرّيحِ العاصِف، فقد قالَ جلّ وعلا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت: 6].
ومن هذا المنطلَقِ قال النبيُّ لمعاذِ بن جَبَل رضي الله عنه: ((اتَّقِ الله حيثُما كُنتَ، وأتبِعِ السيّئةَ الحسنَةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخلُقٍ حَسَن)) رواه الترمذي [4] ، وقد قال البارِي جلّ شأنه في ذَلِكَ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين [هود: 114].
عِبادَ الله، إنّنا حِينَمَا نحَرِّص على الاستقامَةِ والثّباتِ على الدين لنعلمُ صعُوبةَ ذلكَ وجهادَ النفس فيه وأنَّ بلوغَها حقَّ البلوغِ دونَه من الصِّعاب والعَقَباتِ الشّيءُ الكثير، بيدَ أنّ هَذا كلَّه غيرُ مُعفٍ كلَّ مسلمٍ وكلَّ مجتمع من السَّعيِ في تحصيلِها وبذل الوُسعِ والمستطاع في إقامَتِها في وَاقعِ الحياة، مع استِحضَارِ السّداد والمقارَبَة لقولِ النبيِّ : ((استَقِيموا ولن تُحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالِكم الصّلاة، ولا يحافِظَ على الوضوءِ إلاّ مؤمِن)) رواه أحمد وابن ماجه [5] ، وفي روايةٍ لأحمد: ((سَدِّدوا وقَارِبُوا)) [6].
عبادَ الله، إن كانَ ثمّةَ أمرٌ يجِب التفطُّن له من خِلالِ هذا الطرحِ فهوَ أنّ الدعوةَ إلى الاستقامةِ أو ادِّعاءَها والواقعُ عريٌّ عَنها لهو خلَلٌ فادحٌ وشَرخ غيرُ يسير، وإنّ إقناعَ النَّفس وتخديرَها بكمَالٍ زائفٍ لا يحتاج المرءُ والمجتمع معَه إلى تصحيحٍ أو إصلاح لهو أمرٌ خِداجٌ خِداج خِداجٌ غَيرُ تمام؛ لأنّ الكَمَالَ والاعتِدَالَ إنما يكونُ في حالِ موافقَةِ العمل للقولِ والباطِنِ للظّاهر، وقد ذمَّ الله قومًا لم يحقِّقوا جانِبَ التوازُن في حياتهم، فغلَب الادِّعاء باللسان والقَولِ جانبَ العمَلِ والتطبيق، فقال سبحانه وتعالى عن بَني إسرائيلَ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]، قالَ أبو الدَّردَاءِ رضي الله عنه: (وَيلٌ لمن لم يَعلَم ولم يعمَل مَرَّةً واحِدَة، وويلٌ لمن عَلِم ولم يعمَل سبعين مَرّة) [7] ، وقال الحسن البصريُّ رحمه الله: "اعتَبروا الناسَ بأعمالهم، ودَعوا أقوَالهم، فإنّ الله لم يَدَع قولاً إلاّ جَعَلَ عليه دليلاً من عملٍ يُصدِّقه أو يكذّبه، فإذا سمِعتَ قولاً حسنًا فرُويدًا بِصاحِبِه، فإن وافق قولُه فعلَه فنَعَم ونِعمَةُ عَين" [8] ، وقد ذَكَر الإمامُ مالك رحمه الله أنّه بَلَغَه عن القاسمِ بنِ محمد رحمه الله قال: "أدرَكتُ الناسَ وما يُعجِبهم القول، إنما يُعجِبهم العمَل" [9].
فاتّقُوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنّ العيبَ كلَّ العيبِ والشّينَ كلَّ الشَّينِ أن يكذِّب فِعلُ المرء قولَه، أو أن تكونَ حالُه واقعًا تخَالِف مَقَالَه ظاهِرًا، فإنّ مدَّعيَ الاستقامةِ عَلَى طاعةِ الله يجِب أن لا يكونَ في واقِعِه غاشًّا ولا مضلِّلاً ولا كَذّابًا ولا مرائِيًا ولا سَارِقًا ولا زانِيًا ولا ظَالمًا ولا معتَدِيًا ولا هَاتِكًا لحُرمَةٍ أو ناقِضًا لعَهدٍ ولا منكِّصًا لشَرعِ ربِّه أو مُهمِّشًا له، وإنَّ مثلَ ذَلكم الإخلالِ لهو كَفيلٌ بكثرةِ الاضطِراباتِ وضَعفِ الأمانةِ وتفشِّي القَتلِ والتَّهرِيبِ والتَّخرِيبِ والاغتيالاتِ وإهدارِ الحقوقِ والاعتِداءِ على الدّين والنّفسِ والمال والعِرض والعَقلِ، ولا زوالَ لهذه الفواجِعِ إلاّ بالرُّجوع إلى الله والتَّمَسُّك بشَرعِه والنَّظرِ في مواقِعِ الخَلَلِ، ومِن ثَمَّ ترميمُها وتصحيحُها؛ لنحيَا حياةً آمِنَة رضيَّةً بعيدةً عَنِ الصَّخَبِ والعَطَبِ.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
بَارَكَ الله لي وَلَكُم في القُرآنِ العَظيمِ، ونَفَعَني وإيّاكُم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذّكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن اللهِ، وإن خطأً فمن نفسِي والشّيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (38).
[2] رواه ابن جرير في تفسيره (24/115)، وأبو نعيم في الحلية (1/30)، وصححه الحاكم في المستدرك (3648).
[3] موطأ مالك: كتاب القرآن (508) بلاغا، قال ابن عبد البر في التمهيد (24/321): "لا أعرفه بهذه الألفاظ في شيء من الأحاديث إلا في حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي صاحب رسول الله ، وهو حديث حسن، رواه الثقات. وقد روي أيضا من حديث ابن عباس وحديث معاذ بن جبل وحديث ثوبان وحديث أبي أمامة الباهلي، وروي لأخي أبي أمامة أيضا"، وانظر: الإرواء (684).
[4] سنن الترمذي: كتاب البر (1987) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ورواه أيضا الدارمي في الرقاق (2791)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين". ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160)
[5] مسند أحمد (5/276-277، 282)، سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة (277) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارمي في الطهارة (655)، والطبراني في الأوسط (7019)، والبيهقي في الكبرى (1/82، 457)، والخطيب في تاريخه (1/293)، وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (448، 449)، والمنذري في الترغيب (1/97)، وابن حجر في الفتح (4/108)، وهو مخرج في إرواء الغليل (412). وفي الباب عن غيره من الصحابة.
[6] مسند أحمد (5/282).
[7] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/235) نحوه، وانظر: صفة الصفوة (1/628)، وسير أعلام النبلاء (2/374).
[8] رواه ابن المبارك في الزهد (77).
[9] انظر: جامع بيان العلم (1235).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاعلَمُوا ـ يَا رَعَاكم الله ـ أنَّ الاستقامةَ والثَّباتَ عَلَى الدِّينِ كانَت سمَةً بارِزَةً مِن سمَات سلفنا الصالحِ؛ إذ بهم وباستقامَتِهِم بعدَ اللهِ جلَّ علاَ استَعَزَّ الإسلامُ وتحقَّق المجتمع الإسلاميّ المتكامل برجالٍ درسوا فتعلَّموا وآمنوا فاستقاموا، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدَّلُوا تَبدِيلاً، لم يَفتِنهم المالُ عن إيمانهم، ولم يُلهِهِمُ الجاهُ عن دينهم، هكذا كانوا، وبهذا سادوا وقادوا، لم يقعوا في وحل التلوُّن وأتّون التذبذب والبراعة في الانتقال من مبدأ إلى مبدأ أو من اتِّجاه إلى اتِّجاه، ولا من الحور بعد الكور. إنّهم لم يمسوا مؤمنين ويصبحوا كافرين، ولم يبيعوا دينَهم بعرض من الدنيا، ولا رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، بل ثبتوا واستقاموا، وحاديهم في ذلك إيمانهم بالله وبرسوله ، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]. إنهم يستذكرون في زمنِ المحن والفِتن قولَ النبيِّ : ((كان الرجل فيمن قبلَكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسِه، فيُشقُّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصَب، وما يصدُّه ذلك عن دينه)) الحديث رواه البخاريّ.
نعم عبادَ الله، هذه هي استقامةُ الحقّة التي كانوا عليها، وأثنى الله جلّ وعلا عليهم بسببها، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم الحقّ في الاستقامة والثبات على الدين؛ إذ لا ينبغي له أن يكون جاهلاً ضالاًّ ينخدع بكلِّ بريقٍ ولو كان سرابًا، ويسارع إلى التأثُّر دون تفكّرٍ أو تدبُّر، كما لا ينبغي له أن يكون منافقًا يخادع ويصانع ويتَّخذ التنقُّل والتلوُّنَ تجارةً وسلَّمًا يصل بهما إلى مآربه. كلاّ، فالمسلم الحقّ لا يكون واحدًا من هذين الصنفين، لا يكون جاهلاً لأنّ الله جعل العلمَ أوّلَ مواريث المسلم، ولا يكون ضالاًّ لأنّ الله بثَّ النورَ المبين بين عباده، قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104].
هذَا وصلّوا ـ رَحمَكم الله ـ عَلَى خَيرِ البريَّة وأزكَى البَشَرِيَّة محمّد بنِ عبد الله صاحِب الحوض والشفاعة، فقد أمَركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكُم أيّها المؤمنون، فقال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولِك محمّد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/5294)
أهمية الإخلاص وفضله
الإيمان, التوحيد
أهمية التوحيد, حقيقة الإيمان, فضائل الإيمان
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر بعض صفات الله تعالى. 2- أهمية الإخلاص. 3- ثمرات الإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، الإخلاص شرط لقبول الأعمال، فإن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا أريد به وجهه سبحانه، وبالإخلاص يتنوّر القلب ويتّقد الفكر وتستقيم الجوارح، وإن معرفة أسماء الله وصفاته تولّد في النفس استحضار عظمة الله ودوام مراقبته ومعيته والإخلاص له؛ ولذلك قال الله جل وعلا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل؛ وذلك بأن توقن أن الله سبحانه هو المحيي المميت النافع الضار الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].
فالعلم اليقين بلا إله إلا الله يثمر في القلب طاعة الله وتوقيره والذل والانكسار له في كل اللحظات، وهذا يجعل المؤمن يستحيي من الله ويراقبه؛ لإيقانه بوجوده ومعيته وقربه وسمعه وبصره، قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4].
فهو الحي القيوم قام بنفسه وقام به كل شيء، فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها، قد استوى على عرشه وتفرد بتدبير ملكه، فالتدبير كله بيديه، ومصير الأمور كلها إليه، فمراسيم التدبير نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]. لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، ولا مبدل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه، فيقدر المقادير ويوقت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها، قائما بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه جل جلاله ربا محسنا إلى خلقه بأنواع الإحسان، متحببا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلما، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلا، فوسعت رحمته كل شيء، ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته وعلمه، واستوى على عرشه برحمته، وخلق خلقه برحمته، وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته، فهو الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات حتى أخفى ما يكون فيها، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك. فسبحان من تحيرت العقول في عظمته وكمال صفاته ولطفه وعلمه بالغيب والشهادة والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان.
قال تعالى: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء: 218-220]، وقال: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]، وقال سبحانه: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج: 9]، أي: مطلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات، وقال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا [الفرقان: 3].
فإذا علمت بأن من دونه سبحانه هم خلق من خلقه وهم في تصرفه وفي قبضته أخلصت العبادة له وحده وتركت ما سواه، فهو الذي يملك الضر والنفع والعطاء والمنع، يقول الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، ويقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163]، ويقول سبحانه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]، وقال عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 2، 3].
وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو إمرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) متفق عليه.
قال بعض أهل العلم: "هذا الحديث هو ثلث الدين، وقيل: نصف الدين؛ لأن العبادات إما قلبية وإما بدنية، وهذا اشتمل على العبادات القلبية". ويرحم الله الفضيل بن عياض إذ يقول: "أدركنا الناس وهم يراؤون بما يعملون، فصاروا الآن يراؤون بما لا يعملون"، ويقول أيضا: "إذا كان يسأل الصادقين عن صدقهم مثل إسماعيل وعيسى عليهما الصلاة والسلام فكيف بالكذابين أمثالنا؟!".
ويقول الرسول فيما رواه مسلم: ((يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه أحدًا غيري تركته وشركه)) ، ويقول : ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل)) صححه الألباني في السلسة الصحيحة.
يقول الحارث المحاسبي: "الإخلاص إخراج الخلق عن معاملة الرب". وهو إفراد الله بالقصد في الطاعة وتصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين. وقال القاضي عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
إن الإخلاص هو السر الذي بين العبد وربه، وهو أن لا تطلب على عملك أجرًا من عند غير الله، ولا شاهدًا عليه إلا الله، فما كان لله فهو لله، وما كان لسواه فهو لسواه.
والإخلاص شرط من شروط قبول الأعمال عند الله، لهذا قال الرسول : ((إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه)) رواه النسائي. وقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء: 125]. قال ابن القيم: "فإسلام الوجه هو إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة الرسول وسنته". يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (من خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس).
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لقد كان السلف رحمهم الله يحرصون على أن لا يدخل في عملهم شيء من الرياء قل أو كثر، وكانوا يحرصون على إخفاء العبادة، وعلى أن يكون للواحد منهم خبيئة بينه وبين ربه لا يعلم بها أحد غير الله؛ لأن التصنع للناس ومراءاتهم قد تحبط العمل على صاحبه، يقول ابن القيم عند قول الله سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23]: "هي الأعمال التي كانت على غير السنة وأريد بها غير وجه الله"، ويقول أيضًا: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع مكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد". فالإخلاص هو القاعدة الأولى التي تبنى عليها العبادة وتتم بها بجانب المتابعة، وتجعلها موجهة إلى الله وحرية بقبوله ومثوبته، فالعبادة أيًا كانت فعلية كانت أو قوليه لا تسمى عبادة ولا تكون نافعة إلا إذا صدرت من مؤمن وتوفر فيها الإخلاص لله والمتابعة لرسوله.
والإخلاص الذي يريده الله ويتوقف عليه قبول العمل هو إفراد الحق تعالى بالطاعات وقصده بها دون غيره، وتجريدها وتصفيتها من قصد المحمدة أو الثناء أو معنى آخر سوى التقرب بها إلى الله وحده، وأن يكون باطن العامل كظاهرة أو أحسن، وسره كعلنه أو أفضل، وأن يخشى الله ويراقبه في الظاهر والباطن. يقول ابن القيم رحمه الله: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت".
وبالإخلاص يثاب العبد ويؤجر على العمل، حتى ولو كان ذلك العمل دنيويًا، يقول : ((إنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك)) رواه البخاري، وقال أيضًا: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) رواه مسلم.
وبالإخلاص تجاب الدعوات وتكشف الكربات والشدائد وينجو العبد من الفتن، ويدل على ذلك حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت في الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فنجاهم الله بإخلاصهم وبأعمالهم الصالحة.
والإخلاص مصدره نية القلب، والنية هي معيار العمل ومقياسه العادل الذي تتميز به الأعمال طيبها من خبيثها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها. فالطاعات تتفاوت ويتفاوت أجرها بتفاوت النية فيها، وبما قام بالقلب منها.
فالإخلاص مسك القلب وماء حياته، ومدار الفلاح كله عليه. فاعلم أنك متى ما عودت نفسك مراقبة الله في أحوالك كلها أورثك الله خشيته ووهبك محبته، وذلك لأنك حينما تستحضر معية الله في أقوالك وأفعالك فإنما تعبد الله بالإحسان، والإحسان كما قال هو: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) رواه مسلم.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/5295)
بشارات للمتطهرين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الطهارة, اللباس والزينة, فضائل الأعمال
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الوضوء. 2- هدي النبي في اللباس. 3- ما ينبغى فعله عند الخروج إلى المسجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن للطهارة فوائد عظيمة وثمرات جليلة وحكما ومنافع للقلوب والأبدان، فليس الأمر مقتصرًا على غسل هذه الأطراف للنظافة فقط وإزالة ما علق بها، بل هناك حكم وفوائد أعظم من ذلك وثواب وأجور عظيمة أعدها الله للمتطهرين، ومن عرف تلك الثمرات وذلك الثواب وأسبغ وضوأه كان حريًا به أن يقبل على صلاته بخشوع وحضور قلب، وإليكم بعضا من ثمرات الطهارة وفوائدها وما أعده الله من ثواب للمتطهرين:
1- أنه يكفر السيئات، لما كانت هذه الأطراف هي محل الكسب والعمل، وكانت هذه الأطراف والجوارح أبوابا للذنوب والمعاصي، منها ما يكون في الوجه كالسمع والبصر واللسان والشم والذوق، ومنها ما يكون في اليد، ومنها ما يكون في الرجل، وهكذا الأمر في سائر الأعضاء، فلذلك كان الطهور مكفرًا لهذه الذنوب، وقد قال : ((إذا توضأ العبد المؤمن خرجت خطاياه من فيه، وإذا استنثر خرجت خطاياه من أنفه، وإذا غسل وجهه خرجت الخطايا حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، وإذا غسل يديه خرجت الخطايا حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا حتى تخرج من تحت أظفار رجليه)) رواه مسلم، وفي رواية: ((خرجت ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء)) رواه الترمذي.
وقد كره بعض العلماء مسح فضل الوضوء من أجل أن تطول مدة خروج الذنوب، ولأنه فضلة عبادة. وقد جاءت إحدى زوجات النبي بمنديل للنبي لما انتهى من وضوئه فرده، وأخذ ينفض بيديه. وقد استنبط ذلك محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه من آخر آية الوضوء في سورة المائدة عند قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة: 6] قال: "النعمة منها تكفير السيئات".
2- أن من ثمرات الوضوء أنه سيما هذه الأمة وعلاماتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم، وليس ذلك لأحد غيرهم. أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه قال: سمعت النبي يقول: ((إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)) رواه البخاري، وفي رواية أحمد: كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ فذكر الحديث. والمراد بحلية المؤمن المذكورة في الحديث الإكثار من الوضوء، وليست الزيادة على موضع الغسل في أعضاء الوضوء.
3- ومن ثمرات الوضوء أنه ينشط الجوارح ويزيد في حركة الدم في البدن، فيقف العبد بين يدي ربه بطهارة ونشاط، وهذا مجرب مع كل الناس؛ لأن الماء يعيد إلى البدن نشاطه وقوته وحيويته، والأبلغ منه والأنشط للبدن الغسل. وقد حث الرسول من أتى أهله ثم أراد أن يعود أن يتوضأ. وبين في رواية الحاكم أنه أنشط للعود، ومن هنا فإن من أسباب انتشار الأمراض عدم الطهارة والاغتسال. وإذا بات العبد جنبًا لم يؤذن لروحه بالسجود تحت العرش كما ذكر ذلك ابن القيم.
4- ومن ثمرات الوضوء أنه سلاح المؤمن، قال عمر : (إن الوضوء الصالح يطرد الشيطان)؛ ولذا استحب النوم على طهارة، فإن العبد إذا نام على طهارة بات الملك في شعاره، أي: الثياب التي تلي جسده، ومن المعلوم أنه إذا حضرت الملائكة خرجت الشياطين. وكذا يستحب لمن شرع في علاج من مسه الجن بالرقية الشرعية أن يتوضأ قبل ذلك لأنه حصن من الشيطان.
5- ومن ثمرات الوضوء أنه من خصال الإيمان الخفية التي هي بين العبد وربه، فلو دخل رجل للمسجد وصلى وهو على غير وضوء خوفًا من أحد أو مراءاة لأحد لم يعلم به إلا علام الغيوب، فالوضوء يزيد من إيمان العبد بربه وثقته بوعده، قال : ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)).
6- ومن ثمرات الوضوء أنه إذا انتهى العبد منه وختمه بالشهادتين كان ذلك سببًا في أن تفتح له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء. عن عمر بن الخطاب وعقبة رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((ما منكم أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)) رواه مسلم، وزاد في رواية: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)).
7- ومن ثمرات الوضوء أنه إذا نام العبد وهو على طهارة كاملة دعا الملك له بالمغفرة كلما انقلب في أي ساعة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((من بات طاهرًا بات في شعاره ـ أي: الملابس الملاصقة للبدن ـ ملك فلا يستيقظ من الليل إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك كما بات طاهرًا)) أخرجه أحمد والطبراني في الكبير. فيحصل للعبد إذا بات وهو على طهارة ثلاث خصال من الخير، أولها: أنه يبيت في شعاره ملك. وثانيها: أن الملك يدعو له بالمغفرة، وأنه إذا مات مات على طهارة مع أن النوم موتة صغرى.
8- ومن ثمرات الوضوء أن الله سبحانه يمحو عن صاحبه الخطايا ويرفعه به درجات، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) رواه مسلم. فإسباغ الوضوء على المكاره وخاصة في أيام البرد والليالي الشاتية سبب في هذا الأجر العظيم.
9- ومن ثمرات الوضوء أن من توضأ في بيته ثم خرج قاصدًا بيتًا من بيوت الله سبحانه كان ممشاه إلى المسجد صدقة، وكانت له بكل خطوة يخطوها حسنة وأخرى تحط خطيئة، وكان صاحبه زائرًا لله سبحانه، فعن سلمان الفارسي مرفوعًا قال: ((من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم الزائر)) رواه الطبراني وحسنه الألباني، وعن عثمان أنه دعا بوضوء ثم توضأ، ثم قال: رأيت رسول الله توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: ((من توضأ مثل وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين إلا غفر له ما تقدم من ذنبه)) أخرجه البخاري ومسلم، وفي لفظ: ((لا يحدث فيهما نفسه)) ، وقال : ((من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)) رواه مسلم.
10- ومن ثمرات الوضوء العظيمة محبة الله سبحانه للمتطهرين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]، وقال سبحانه: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108]، فما أعظمها من محبة وما أفضلها من قربة، فكيف لا نحرص على عبادة يحبها الله ويحب من يفعلها؟! والطهر في الآية يشمل تطهير الباطن من الشرك والرياء والغل والحقد والحسد، وتطهير البدن والجوارح بالماء.
عبد الله، تأمل هذه الثمرات العظيمة الجليلة لهذه العبادة، وكيف أن هذه العبادة سبب لأجور عظيمة لا يعلمها إلا الله سبحانه، وكيف أنها تكون سببًا لتكفير السيئات والخطايا ورفعة للدرجات وقربة لرب الأرض والسموات.
ومع الأسف قد تساهل كثير من المسلمين في هذه العبادة، وأصبحت عندهم عادة لا يستشعر ثوابها ولا يعلم فضلها، فهذا من الخطأ الذي وقع فيه كثير من المسلمين. فينبغي للمسلم أن يعرف ثواب الوضوء وفضله، فذلك مما قد يحثه على أن يحسن في وضوئه ويقبل على صلاته بعد أن طهر باطنه وظاهره وفرغ قلبه لمولاه، وهذا مما يعين على أن يكون العبد خاشعًا في صلاته.
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ومن الطهارة أن تحضر إلى المسجد وإلى الصلاة بملابس نظيفة مطيبة، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]. وقد قال : ((كل واشرب والبس في غير إسراف ولا مخيلة)) أخرجه أحمد وأبو داود.
وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد هدي النبي في لباسه فقال: "كان من أحسن الناس لباسًا؛ كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليًا، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه ، كما في حديث عمرو بن حريث قال: رأيت رسول الله على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه".
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله دخل مكة وعليه عمامة سوداء، فهكذا كان هديه في اللباس، فقد كان من أحسن الناس لباسًا، وهو الذي يقول صلوات ربي وسلامه عليه: ((إن الله جميل يحب الجمال)) رواه مسلم، وثبت عنه أنه قال: ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) ذكره الألباني في الصحيحة.
وبعض المصلين هذه الأيام يخالف هدي المصطفى في لباسه، فيهمل هذا الجانب ويحضر إلى المسجد بملابس قد يستحي أن يقابل بها الناس، فضلاً عن أن يأتي بها إلى المسجد، ولربما أتى في ثياب نوم أو ملابس شفافة لا تصح الصلاة فيها، أو بملابس يتأذى المصلون برائحتها، فهذا خلاف سنته.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان الناس يلبسون الصوف ويعملون والمسجد ضيق، فخرج عليهم رسول الله في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح وأذى بعضهم بعضا، فأمرهم بالغسل والمس من الطيب. أخرجه أبو داود. وقال : ((لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)) أخرجه البخاري. وقال : ((أما يجد أحدكم ما يغسل به ثوبه؟!)) ، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ولبس من صالح ثيابه)) رواه ابن ماجه، وفي رواية: ((ولبس أحسن ثيابه)) رواه أحمد. وكان يقول وهو على المنبر: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) رواه أبو داود. وقد قال عمر بعد أن رأى حلة جميلة في السوق: يا رسول الله، ابتع هذه فتجمل بها للجمعة والوفد. أخرجه البخاري ومسلم. فأقره على مشروعية التجمل. وقال : ((البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم)) رواه الترمذي وصححه.
ويستحب للمصلي أن يحضر للصلاة وهو متطيب، فالرسول كان يحب الطيب، فقد ثبت عنه أنه قال: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب)). وقد حث أصحابه على المس من الطيب، كما في حديث ابن عباس السابق. فهذه الأحاديث تدل على أن التجمل ولبس الثياب النظيفة ومس الطيب مشروع عند الحضور إلى الصلاة.
فعلى المسلم أن يحضر إلى الصلاة بملابس نظيفة معطرة؛ لأنه سيقدم على ملك الملوك سبحانه، فقد كان بعض السلف يجعلون أفضل ما عندهم من الملابس لقيام الليل ولحضور الصلاة، ولا يلبسونها إلا عند ذلك.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
(1/5296)
الفقه في الصلاة
فقه
الصلاة
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتسوية الصفوف. 2- مسائل في تسوية الصفوف. 3- أهمية متابعة الإمام في الصلاة. 3- مسألة اتخاذ السترة في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، مما يعين على الخشوع في الصلاة ـ وهو من فقه الصلاة ـ تسوية صفوف المصلين، فيجب أن يعلم أن على الإمام مسؤولية تسوية الصفوف، وأن يأمر الناس بذلك، وإذا لم يمتثلوا تقدم هو بنفسه إلى من تأخر عن الصف أو تقدم ليعدله؛ لأن نبينا وإمامنا وقدوتنا كان يسوي الصفوف كأنما يسوي القداح، وكان يمر بالصف يمسح المناكب والصدور ويأمرهم بالاستواء، وسنة النبي أحق أن تتبع.
فعلى الإمام أن يعتني بتسوية الصفوف، فيلتفت يمينًا، ويستقبل الناس بوجهه، ويلتفت يسارًا، ويقول: ((استووا، سووا صفوفكم، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، تراصّوا، سدوا الخلل)) ، كل هذه الكلمات وردت عن النبي. وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال : (( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ )) قالوا : يا رسول الله، كيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : ( ( يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف )) أخرجه مسلم. وقد خرج يومًا إلى أصحابه بعد أن عقل الناس عنه تسوية الصفوف، وصاروا يسوونها بأنفسهم، فرأى رجلاً باديًا صدره، يعني متقدمًا بعض الشيء، فقال: ((عباد الله، لتسونَّ بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) أخرجه البخاري ومسلم. وفيه وعيد شديد، ومخالفة الله بين الوجوه تحتمل معنيين: إما أن الله يدير وجه الإنسان فيكون وجهه إلى كتفه والعياذ بالله، وإما أن المراد ليخالفن الله بين وجهات نظركم فتفترق القلوب وتختلف، لقوله : ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) أخرجه مسلم. وأيًّا كان الأمر سواء ليّ الرقبة حتى يكون الوجه إلى جانب البدن أو أن المراد اختلاف القلوب، فكله وعيد شديد يدل على وجوب تسوية الصفوف، وأنه يجب على الإمام أن يُعنى بتسوية الصف، لكن لو التفت ووجد الصف مستقيمًا متراصًّا والناس متساوون في أماكنهم فالظاهر أنه لا يقول لهم: استووا؛ لأنه أمر بما قد حصل، إلا أن يريد اثبتوا على ذلك، لأن هذه الكلمات لها معناها، ليست كلمات تقال هكذا بلا فائدة.
قال أبو عيسى الترمذي: وقد روي عن النبي أنه قال: ((من تمام الصلاة إقامة الصف)).
وكذلك كان الصحابة من بعده يهتمون بتسوية الصفوف في الصلاة، فقد روي أن أمير المؤمنين عمر كان يوكل رجالا بإقامة الصفوف، فلا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت. وروي عن علي وعثمان أنهما كانا يتعاهدان ذلك، ويقولان: استووا. وكان علي يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان.
وعن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه : (( سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ) ) رواه البخاري ومسلم، وعنه قال : قال رسول اللّه : (( أتموا الصفوف، فإني أراكم من خلف ظهري ) ) ، وفي لفظ : (( أقيموا الصفوف) ) رواه البخاري ومسلم، وروى البخاري من حديث حميد عن أنس قال : أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول اللّه فقال : (( أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري ) ) ، وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه ، وفي لفظ: وقدمه بقدم صاحبه. فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال فذلك يعني أن اعوجاج الصف ينقص من أجر الصلاة.
قال ابن عثيمين: "فإلصاق القدم بالقدم والمنكب بالمنكب لأمرين: الأمر الأول: تسوية الصفوف واستقامتها، الأمر الثاني: سد الفرج والخلل، كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله. وبذلك يُعلم خطأ من فهم من فعل الصحابة أنهم يفرّجون بين أرجلهم حتى يلزق أحدهم قدمه بقدم صاحبه، مع تباعد ما بين مناكبهم فإن هذا بدعة لا يحصل بها اتباع الصحابة رضي الله عنهم، ولا يحصل بها سد الخلل".
ولذلك فقد نبّه على أهمية تسوية الصفوف في أحاديث كثيرة، ومع ذلك ترى كثيرا من الناس اليوم لا يهتمون بهذا الأمر، بل إن بعضهم إذا حاولت الاقتراب منه وسد الخلل أو تسوية الصف ابتعد عنك، وجعل بينك وبينه فرجه. لذلك ينبغي تعليم الناس وتوجيههم بأهمية تسوية الصفوف وإقامتها، وسد الفرج التي بين المصلين، والاهتمام بالوقوف بين يدي الله تعالى، والمحافظة على المظهر والمخبر، ووجوب المطابقة بينهما ليتجلى صدق التوجه، ويحصل تناسق المظهر وتطابقه مع حضور المخبر، فالقلب مع اللسان، والجوارح مع العقل والجنان، تناسق في الحضور والتوجه والأداء، قال : ((لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)).
فالانسجام والتوافق والترتيب والنظام في المظهر دليل على الاهتمام، كما أن الفوضى والاضطراب وعدم التوافق والانسجام دليل على انصراف النفس وانشغالها وعدم إدراكها وإحساسها، وكما أنه لا يغتفر في أمور الدنيا هذا السلوك من الاضطراب والاختلاف والفوضى ويعد عيبا ومظهرا من مظاهر عدم الاهتمام واللامبالاة، فإن ذلك أشد وأعظم في الصلاة والوقوف بين يدي الله سبحانه، فإن الشرع خاطب العقول السليمة والفِطَر الحكيمة بما جُبِلت عليه من ضرورة ذلك وأهميته في نجاح العبد في أمور دينه ودنياه.
وحرصا منه عليه الصلاة والسلام على تحقيق ذلك كان يباشر هذا الأمر بيده الكريمة، فكان يسوي بين الصدور والمناكب، صح عنه كما في حديث أبي مسعود الأنصاري قال: كان يأتينا فيمسح على عواتقنا وصدورنا ويقول: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)). وبذلك نبههم قولا وأرشدهم فعلا إلى المطلوب. وفَهِم الصحابة رضوان الله عليهم عنه ما أراد، من أن القلب لا بد أن يتفق مع القالب، حتى إذا عقلوا عنه ذلك المطلب في المحافظة على استقامة الصف وعدم اعوجاجه واضطرابه امتثلوا ذلك وطبقوه من بعده، فكان ما طلبه منهم عليه الصلاة والسلام لتحقيق أمور منها:
أولاً: تعديل الصفوف واستقامتها وعدم اعوجاجها.
ثانيًا: استواؤها وعدم اضطرابها بتقدم البعض عن الصف أو تأخر البعض عنه، مما يترتب معه عدم استواء الأقدام والمناكب. وقد روي عنه أنه قال: ((إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج)).
ثالثًا: التقارب بين المصلين في الصف، وعدم ترك الفجوات، فيُحَاذى بين المناكب، ويُقارَب بين الأقدام لتلافي الثغرات التي يتخذ الشيطان منها أوكارًا لإفساد صلاة المصلين والتشويش عليهم وبذر بذور الخلاف بينهم، ولذلك روي عنه أنه قال: ((تقاربوا ولا تدعوا فرجا للشيطان)). وفي الأثر: "إن الشيطان ينفذ من بين فرج المصلين مثل الخذف".
رابعًا: عدم التأخر عن الصفوف الأُول وإدراك فضل الصلاة فيها. عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) أخرجه أبو داود وصححه الألباني، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار)) أخرجه أبو داود وصححه الألباني، وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه)) أخرجه البخاري ومسلم.
ولا ينبغي ترك الفجوات بين المصلين، وهذا ما ترجم له البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه فقال: "باب: إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف". وأورد في ذلك حديث النعمان بن بشير قال: رأيت الرجل منّا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعب صاحبه. رواه البخاري. وعن أنس عن النبي قال: ((أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري)) ، قال أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إنما جعل فقه الصلاة من أسباب الخشوع؛ لأن الجهل بأحكامها ينافي أداءها كما كان النبي يؤديها، ولأن خشوع المسيء في صلاته وهو جاهل بأحكامها لا يفيده شيئًا، ولا تجزئه حتى يقيمها ويؤديها كما ثبت عنه ، قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
ومن الفقه في الصلاة متابعة الإمام، فإنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جلوسًا فصولوا جلوسًا أجمعون، كما ثبت عنه. قال ابن عثيمين في الشرح الممتع عن وجوب متابعة الإمام: تجب متابعة الإمام وتحرم مسابقته؛ لقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون)) أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
ومما ابتلي به كثير من الناس اليوم وخاصة من العامة عدم متابعتهم للإمام؛ فترى بعضهم يستعجل في صلاته ويسبق الإمام، وبعضهم يتأخر حتى يؤدي به ذلك إلى ترك متابعة الإمام، وهذا من قلة الفقه في الصلاة، قال : ((ما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته قبل الإمام أن يحول الله صورته صورة حمار)) رواه مسلم، وقال ابن تيمية كلاما في معناه أن النبي إنما شبهه بالحمار لأن مسابقته للإمام تدل على بلادته، فإنه لن يخرج من صلاته إلا بعد سلام الإمام، فعلام يسابقه؟!
وقد قال العلماء: إن للمأموم مع الإمام أربع حالات هي: المسابقة والموافقة والمتابعة والتأخر، فالمسابقة تحرم، والموافقة تكره، والمتابعة هي التي أمر بها في الحديث السابق، أما التأخر فإنه يختلف بحسب ذلك التأخر، فمنه ما يكره، ومنه ما يخرج المأموم عن متابعة الإمام".
ومن الفقه في الصلاة الصلاة إلى سترة، فإن الصلاة إلى سترة والدنو منها له أثر في الخشوع في الصلاة وحضور القلب، فإن ذلك أقصر لنظر المصلي، وأحفظ له من الشيطان، وأبعد له عن مرور الناس بين يديه. ومن العلماء من يرى وجوبها، وقد رجح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى أنها سنة مؤكدة، يقول : ((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها)) رواه مسلم، وقال أيضًا: ((إذا صلى أحدكم فليستتر، وليقرب من السترة؛ فإن الشيطان يمر بين يديه)) رواه أبو داود والترمذي. والدنو منها هو أن يكون بينه وبينها ثلاثة أذرع كما ذكر ذلك العلماء.
ويستثنى من ذلك المار بين الصفوف في صلاة الجماعة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جئت أنا والفضل على أتان ورسول الله بعرفة، فمررنا على بعض الصف، فنزلنا فتركناها ترتع، ودخلنا مع رسول الله في الصلاة، فلم يقل لنا شيئًا. وفي رواية أن الأتان مرت بين يدي بعض الصف الأول. أخرجه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو قال: هبطنا مع رسول الله من ثنية أذاخر فحضرت الصلاة، فصلى إلى جدار، فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه). ويؤخذ من ذلك أن المصلي يدفع كل ما يمر بينه وبين سترته حتى لو تحرك ومشى، وليدافعه ما استطاع كل بحسبه، فقد قال : ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين)) رواه مسلم.
وعن أبي صالح قال: رأيت أبا سعيد في يوم الجمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يمر بين يديه، فدفعه أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغًا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان)).
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/5297)
تدبر القرآن
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان, فضائل الأعمال
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثمرات تدبر القرآن. 2- نماذج من تدبر السلف للقرآن. 3- وفقات مع سورة الفاتحة. 4- أسباب تعين على تدبر القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن للتفكر في الآيات التي تقرؤها أثرا كبيرا في خشوع القلب والجوارح، فتدبرُ القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير. وكثيرًا ما نجد أن بعض الآيات القرآنية ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، أَفَلا يَعْقِلُونَ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، فالقرآن الكريم يدعونا إلى التفكر في آيات الله، قال سبحانه: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]، وقال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]، أما الذين أغلقت قلوبهم وتحجرت عن قبول الحق فقال الله عنهم: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ، فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح للهواء ولا للنور، فهي تحول بينها وبين الانتفاع بهدى القرآن.
إن للتفكر في الآيات المقروءة أثرا عظيما بالغا في رقة القلب وخشيته وإقباله على الله سبحانه، وإن الناظر في أحوال كثير من الناس يجد من قسوة القلب وقحط العين ما لا يعلمه إلا الله، تتلى عليهم الآيات التي لو خوطب بها جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا متذللاً من خشية الله ولا تحرك فيهم شيئًا. وهذه من أعظم المصائب التي يصاب بها العبد من حيث لا يشعر، فإن التلذذ بآيات الله نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، إنها نعمة ترفع العمر وتزكيه وتباركه.
عباد الله، إن العيش مع آيات الله يجعل المسلم ينتقل من عالم المحسوسات إلى عالم آخر هو عالم الغيب، ويجعل المسلم يعرف أن الموت ليس نهاية المرحلة، وإنما هو مرحلة في الطريق، ويجعل المسلم يوقن أن ما يناله في هذه الحياة ليس نصيبه كله، بل هو جزء من ذلك النصيب، ويعرف أن هذه الحياة مزرعة ودار حرث، وأن ما زرعه سوف يحصده، فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع, وأن هذه الحياة إنما هي دار ممر لا دار مقر، وأن كل ما فيها من لذات إنما هو لعب ولهو وغرور، وأن الحياة الحقيقية هي في الآخرة، فهذا يجعل المسلم لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أوتي.
عباد الله، إن العيش مع القرآن يجعل المسلم يعرف أنه أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية، إنه إنسان بنفخة من روح الله، قال سبحانه: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29]، وإنه مستخلف في الأرض كما قال سبحانه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، ومسخر له كل ما في الأرض كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13]. إن تدبر آياته يجعل المسلم هادئ النفس مطمئن القلب قرير العين، يؤمن بأن الله هو الرزاق فلا يرجو غيره، ويؤمن بأن الله هو القوي فلا يخاف غيره.
وقد كان يتأثر بالقرآن أشد تأثر إذا قرأه أو قرئ عليه، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله : ((اقرأ علي القرآن)) ، فقلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، قال: فقرأت عليه من سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء: 41]، قال: ((حسبك)) ، قال ابن مسعود: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان متفق عليه. ولما كسفت الشمس في عهده صلى بهم فجعل يبكي وينفخ، ويقول: ((رب، ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟! ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟! ونحن نستغفرك)). وعن عبد الله بن الشخير قال: أتيت رسول الله وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل. أخرجه أبو داود. أي: غليان كغليان القدر. وكذا كان أبو بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما اشتد برسول الله وجعه قيل له في الصلاة قال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن غلب عليه البكاء، فقال : ((مروه فليصل بالناس)) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أنها قالت رضي الله عنها: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. والشاهد من ذلك أنه كان يتأثر بالقرآن حتى بلغ أنه لا يملك نفسه من البكاء عند القراءة.
وفي ترجمة عمر أنه كان في وجهه خطان من البكاء. وروي عنه أنه سمع آية من كتاب فغشي عليه وعاده الناس شهرًا. وعن أبي هريرة قال: لما نزلت أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ [النجم: 59، 60] بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله حسهم بكى معهم قال: فبكينا ببكائه، فقال : ((لا يلج النار من بكى من خشية الله)) رواه الترمذي. وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما سورة المطففين حتى بلغ قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 6] فبكى حتى خر وامتنع عن قراءة ما بعدها.
وعن مزاحم بن زفر قال: صلى بنا سفيان الثوري المغرب، فقرأ حتى بلغ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، فبكى حتى انقطعت قراءته ثم عاد فقرأ الحمد. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت فضيلاً يقول ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد وهو يبكي ويردد هذه الآية: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، وجعل يقول: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ويردد: وتبلو أخبارنا؟! إنك إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا ويبكي.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله عز وجل: قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي؛ فإذا قال عبدي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال: مجدني عبدي أو أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)) ، وفي رواية: ((فيسأله عبده: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ فيقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)) رواه مسلم.
قال ابن القيم: "إذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ انتظر الجواب بقوله: مجدني عبدي. فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ انتظر جوابه: فوض إلي عبدي. فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه: عبدي ثلاث مرات، فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: حمدني عبدني ومجدني عبدي. تبارك وتعالى إلهًا معبودًا موجودًا لا يستحق العبادة غيره، ولا تنبغي إلا له، قد عنت له الوجوه، وخضعت له الموجودات، وخشعت له الأصوات، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44]، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم: 26]، فكل ما في السموات والأرض وما بينهما قانتون مخبتون له سبحانه.
وقوله سبحانه: رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: فهو قيوم قام بنفسه وقام به كل شيء، فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها، قد استوى على عرشه وتفرد بتدبير ملكه، فالتدبير كله بيديه، ومصير الأمور كلها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، ولا مبدل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه، فيقدر المقادير، ويوقت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائما بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.
ثم يشهد العبد عند ذكر اسم الرَّحْمَنِ جل جلاله ربًا محسنا إلى خلقه بأنواع الإحسان، متحببًا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلما، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلاً، فوسعت رحمته كل شيء، ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته علمه، فاستوى على عرشه برحمته، وخلق خلقه برحمته، وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته.
فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فيشهد ملكا قاهرا قد دانت له الخليقة، وعنت له الوجوه، وذلت لعظمته الجبابرة، وخضع لعزته كل عزيز، فيشهد بقلبه ملكًا على عرش السماء، مهيمنا لعزته، تعنو له الوجوه وتسجد.
فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ففيها سر الخلق والأمر والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في أربعة: وهي التوراة والإنجيل والقرآن والزبور، جمع معانيها في القرآن، وجمع معانيه في المفصل، وجمع معانيه في الفاتحة، وجمع معانيها في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله، فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته.
ثم يشهد الداعي بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة، فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين، وهذا المطلوب من هذا الدعاء، وهو الهداية إلى الإسلام الموصل إليه سبحانه.
ثم بين أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته، دون المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، ودون الضالين وهم الذين عبدوا الله بغير علم".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن على المسلم أن يحرص كل الحرص على أن يتدبر ما يقرؤه من كتاب الله، قال ابن مسعود: (إذا سمعت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارع لها سمعك؛ فإنه أمر تؤمر أو نهي تنهى عنه).
ويستحب أيضًا أنه كلما مر بآية تسبيح سبح، وكلما مر بآية عذاب تعوذ، وكلما مر بآية رحمة سأل الله من فضله؛ لما روى مسلم عن حذيفة قال: صليت مع رسول الله ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة... ـ إلى أن قال: ـ فإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. رواه مسلم. قال الإمام أحمد: "إذا قرأ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى في الصلاة وغيرها قال: سبحانك بلى". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة، وما فيه من دعاء يحصل للتالي والمستمع لما روى الحاكم وغيره عن أبي ذر مرفوعًا: ((إن الله ختم سورة البقرة بآيتين هما صلاة وقرآن ودعاء)) ".
ومما يعين على تدبر القرآن ترتيل القرآن وعدم الإسراع في قراءته؛ لقول الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل: 4]، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه [القيامة: 16]. والتزام الخشوع والبكاء أو التباكي عند قراءته، كما أمر الرسول فقال: ((ابْكُوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)) رواه ابن ماجه.
فالبكاء أثناء التلاوة وبخاصة عند قراءة آيات العذاب أو المرور بمشاهده أو أهوال يوم القيامة يزيد في الخشوع، وذلك عندما يستحضر المصلي أو القارئ مشاهد القيامة وأحداث الآخرة ومظاهر الهول فيها، ثم يلاحظ تقصيره وتفريطه، فإذا لم يستطع البكاء فليحاول التباكي، والتباكي هو استجلاب البكاء، فإن عجز عن البكاء والتباكي فليحاول أن يبكي على نفسه هو وعلى قلبه وروحه؛ لكونه محروما من هذه النعم الربانية، مريضا بقسوة القلب وجمود العين.
ومما يعين على التدبر أيضًا تحسين الصوت وتزيينه بالقرآن، لقول النبي : ((زينوا القرآن بأصواتكم)) رواه النسائي وصححه الألباني، وفي رواية: ((زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
وإذا كان المأموم يصلي وراء إمام حسن الصوت بالقرآن فهذا يزيد الخشوع والتفكر في الآيات التي تقرأ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله). وعن مجاهد أنه سئل عن رجلين: قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر البقرة وحدها وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما واحد سواء، فقال: "الذي قرأ البقرة وحدها أفضل في ترديد الآية للتدبر والتأثر بها". وقد ثبت عن أبي ذر قال: قام النبي بآية يرددها حتى أصبح، والآية هي: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]. فقد يكون للآية الواحدة تأثير في القلب إذا قرئت بتدبر أكثر من آيات كثيرة تقرأ بغير حضور قلب ولا تدبر. وقد ثبت عن كثير من الصحابة والسلف أيضًا ترديد آيات معينة وتكرارها لتدبرها والتأثر بها.
وعلى المستمع للقرآن أن يتأدب بآداب القرآن حين سماعه، ومن ذلك حسن السماع وحسن الإنصات والتدبر وحسن التلقي، وأن لا يفتح أذنيه فقط، بل كل مشاعره وأحاسيسه، قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]. لما سئلت أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ رواه أبو داود والنسائي. وهذه سنة تركها قراء هذا الزمان، فتسمعهم عند قراءتهم للقرآن في الصلاة أو في غيرها يقرؤون الآيتين والثلاث، وربما أكثر بنفس واحد، ولا يقفون عند رؤوس الآيات.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
(1/5298)
صلاح القلب
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, أمراض القلوب, التربية والتزكية
حسين بن حسن أحمد الفيفي
خميس مشيط
جامع صوامع الغلال
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العناية بالقلب. 2- أمراض القلوب. 3- أقسام القلوب. 4- علامات صلاح القلب وأسباب صلاحه.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن للصلاة والعبادة والقرآن والذكر وقعا خاصا في النفوس ولذة لا يشعر بها إلا من قويت صلته بالله سبحانه وحضر قلبه وسكنت جوارحه لمولاه، فبذلك تنشرح الصدور وتحيا القلوب، فيعيش المسلم في راحة نفسية وسعادة لا يعدلها سعادة، قال سبحانه: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه: 123، 124]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفل الله لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)، وروي عنه أنه قال: (أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة).
وصلاح القلب يحصل بالتجرد من كل الحظوظ الدنيوية وعدم التفكير وإشغال الذهن بأي أمر من أمور الدنيا، وأن يصرف همه كله لله وحده والإقبال عليه، وذلك إنما يتم بالمجاهدة، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
قال ثابت البناني رحمه الله: "جاهدت نفسي بالصلاة عشرين عامًا حتى استقامت، ثم تلذذت بها عشرين عامًا، والله إني لأدخل في الصلاة وأنا أحمل هم خروجي منها". فبالمجاهدة يتم المقصود وتصبح الصلاة قرة عين لصاحبها كما كانت قرة عين للمصطفى ، وبالمداومة على مجاهدة النفس يصلح القلب ويستقيم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فإذا صلح القلب أصبحت سعادته وراحته في الصلاة، كما كان يقول : ((أرحنا بالصلاة يا بلال)).
ولأهمية القلب سنذكر أمراض القلوب ومفسدات القلب وأقسام القلوب وعلامات صلاح القلب وأسبابها؛ لأن القلب إذا كان سليما من المفسدات واجتمعت فيه علامات الصلاح استطاع صاحبه أن يخشع في صلاته، فالقلب هو أشرف شيء في الإنسان، وبحياته حياة البدن، وبموته موت البدن، ولهذه الأهمية العظيمة للقلب جاءت النصوص الشرعية الكثيرة بذكره والتنويه بمكانته، قال سبحانه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37]، وقال سبحانه: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]، وقال سبحانه: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب: 5].
وقال في الحديث الذي يرويه النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري. فصلاح العمل مرتبط بصلاح القلب؛ لأن الإيمان قول وعمل ونية، وصلاح الباطن يؤثر في صلاح الظاهر، وكلما ازداد صلاح الباطن كان ذلك زيادة في صلاح الظاهر.
ومما يدل على هذا الترابط حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما السابق، وأيضًا قوله : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "فالقوم إذا صلحت قلوبهم فلم يبق فيها إرادة لغير الله عز وجل صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله عز وجل وبما فيه رضاه".
وأمراض القلوب نوعان:
النوع الأول: أمراض شبهات، وهي أشد النوعين، ويدخل فيها جميع الاعتقادات الباطلة من شرك ونفاق، قال سبحانه عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10].
النوع الثاني: أمراض شهوات، ويدخل فيها أنواع العمل بخلاف الاعتقاد، ومن أمثلة ذلك الحسد والغل والبخل والحقد وشهوة الزنا والنظر الحرام، قال سبحانه: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32].
وصلاح القلب يحصل بإبعاده عن كل ما يفسده، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن مفسداته تنقسم إلى أربعة أقسام، وهي:
أولاً: التعلق بغير الله تبارك وتعالى، وهذا من أعظم المفسدات على الإطلاق، فإذا تعلق بغير الله سبحانه وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره، قال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82]، ويدخل في ذلك الرياء وحب السمعة وحب الرياسة والعجب وغيرها من مفسدات القلب.
ثانيًا: ركوب بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس الناس، وكما قيل: إن الأماني رأس أموال المفاليس، وبضاعتهم مواعيد الشيطان وخيالات المال. وهذا المفسد هو مما ابتلي به كثير من الناس اليوم، خاصة بعد انفتاح الدنيا على الناس، حتى أصبحت أكبر هم كثير منهم، فأصبح المصلي يدخل في صلاته ثم يفتح المشاريع التجارية والصفقات حتى لا يدري كم صلى، يصلي ببدنه فقط، أما قلبه فقد انشغل بالأماني والخيالات.
ثالثًا: الطعام. والمفسد منه نوعان:
الأول: ما يفسد لعينه، وذلك كالمحرمات وهي نوعان: محرم لحق الله سبحانه كالميتة والدم ولحم الخنزير وذي الناب من السباع والمخلب الطير، ومحرم لحق العباد كالمسروق والمغصوب والمنهوب وما أخذ بغير رضا صاحبه.
والثاني: ما يفسد القلب بالإسراف فيه وتعدي قدره وحدوده، كالشبع المفرط فهو يثقل عن الطاعات ويشغل بمزاولة مؤونة البطن.
رابعًا: كثرة النوم فإنه يميت القلب ويثقل البدن ويضيع الوقت ويورث الغفلة والكسل.
ومن النوم المكروه عند العارفين النوم ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت لطلب الرزق ولطلب العلم، فإن الرسول دعا الله أن يبارك لأمته في بكورها. وأيضًا النوم بعد صلاة العصر فإنه من النوم المكروه الذي قد ورد النهي عنه.
ومن النوم الذي لا ينفع النوم أول الليل ـ قبل صلاة العشاء ـ عقب غروب الشمس، فقد كان النبي يكرهه، فهو مكروه شرعًا وطبعًا.
وقد يزاد على كلام ابن القيم رحمه الله أن من مفسدات القلب حب الدنيا، فإذا استولت الدنيا وحبها على قلب عبد أفسدته. قال يحيى بن معاذ: "مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة".
وإذا فرغ العبد قلبه لطاعة مولاه وجعل همه لله وحده أتته الدنيا وهي راغمة، قال : ((من أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، وكان الله بكل خير له أسرع)) رواه الترمذي من حديث أنس.
عباد الله، وأقسام القلوب ثلاثة:
أولاً: القلب الميت، وهو القلب الخالي من الإيمان وجميع الخير، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده، إنما يتبع هواه وشهواته مع غفلة شديدة عن مراد ربه منه، وهذا قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها! قال: وما يفعل الشيطان بالبيت الخراب؟!
الثاني: القلب المريض، وهو قلب فيه حياة وبه علة، ففيه محبة لله عز وجل وإيمان به، وفيه بالمقابل محبة لشهواته وإيثار لها وحرص على تحصيلها، فربما غلب عليه المرض فالتحق بصاحب القلب الميت، وربما غلبت عليه الصحة فالتحق بصاحب القلب السليم، فللشيطان عليه إقبال وإدبار وبينه وبين الشيطان سجال.
الثالث: القلب الصحيح السليم، وهو قلب محشو بالإيمان ومليء بالنور الإيماني، وقد انقشعت عنه حجب الهوى والشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، مليء بالإشراق، فقد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فهو يقابل خبر الله سبحانه وخبر رسوله بالتسليم، ولا يعارضه كما يفعل أهل الشبه والبدع والزيغ والضلال. ذلك هو قلب المؤمن الصادق المخلص، لو اقترب منه الشيطان لأحرقه، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منه الشيطان لرجم واحترق، فليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، فقلب المؤمن هو مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان، وفيه أنوار الإيمان، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئا إلا خطفة. وهذا الذي ينجو يوم القيامة، قال سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87-89].
بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ومن علامات صلاح القلب وأسبابها توحيد الله تعالى والإيمان به وتجديد ذلك، والعمل بالفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده، فهذه الأمور رأس حياة القلوب وسعادتها.
التضرع إلى الله تعالى واللجوء إليه ودعاؤه بأن يرزقك الله قلبًا سليمًا، قال الله تعالى مخبرًا عن دعاء الراسخين في العلم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران: 8]، وكان من دعاء النبي : ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم، وكان من دعائه أيضًا: ((وأسألك قلبًا سليمًا)).
كثرة ذكر الله ومراقبته والتفكر في آلائه ومخلوقاته، قال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] أي: يسعد وترتاح.
تدبر القرآن والنظر في معانيه والعمل بما جاء فيه، قال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24].
ترك الذنوب فإن الذنوب تميت القلوب وبتركها حياة القلوب، قال سبحانه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]. قال ابن المبارك رحمه الله تعالى:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانُها
الاهتمام بتصحيح الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
التألم والتحسر على فوات الطاعة أشد من تحسر المرء على فوات حظه من الدنيا.
الاهتمام الكبير بشأن الآخرة والإقبال عليها وتذكرها والاستعداد لها.
زيارة المرضى والمقابر، فإنها تذكر الآخرة وتحيي القلب وتذكر نعمة الله تعالى على الإنسان.
وصلاح القلب وإقباله على الله سبحانه يجعل العبد يقبل على صلاته بخشوع وخضوع. ومما يعين العبد على الإقبال على سبحانه في صلاته علمه بأنه ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، وإلا فكيف يقبل الله من قلب ساه لاه؟! قال : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب ساه لاه)) رواه الترمذي (3401) وصححه الحاكم. قال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى: "إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة". فاعرف نفسك يا عبد الله، واحذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك.
وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي الخراب من ذلك، فينبغي للعبد إذا وقف بين يدي الله في الصلاة أن يقف بقلب مخبت خاشع له قريب منه، سليم من معارضات السوء، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة، وسطع فيه نور الإيمان، وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات، فيرتع في رياض معاني القرآن، ويخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم، وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله، فاجتمع همه على الله، وقرت عينه به وأحس بقربه من الله قربا لا نظير له، ففرغ قلبه له، وأقبل عليه بكليته، وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربه، فإنه سبحانه قد أقبل عليه أولا فانجذب قلبه إليه بإقباله، فلما أقبل على ربه حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/5299)
ماذا ينقمون من أبي هريرة رضي الله عنه؟!
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعاء النبي لأبي هريرة وأمه رضي الله عنهما. 2- اشتغال أبي هريرة بحفظ حديث رسول الله. 3- أبو هريرة أحفظ الصحابة لحديث النبي. 4- تفنيد شبهات الطاعنين في أبي هريرة رضي الله عنه. 5- حفظ الله تعالى للوحي. 6- جزاء المفترين على الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ صَخْرٍ، الإِمَامُ الفَقِيْهُ المُجْتَهِدُ الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ ، سَيِّدُ الحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ، دعا له النبي ولأمه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ المُؤْمِنِيْنَ، وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا)).
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال لي النبي يوما: ((أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟)) قال: فقُلْتُ له: يا رسول الله، أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، فلم يكن لأبي هريرة في الدنيا مطمع، بل كان همه الآخرة، والآخرة خير وأبقى، كان يقول رضي الله عنه: إِنَّ إِخْوَانِي المُهَاجِرِيْنَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَ إِخْوَانِي مِنَ الأَنْصَارِ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرًَا مِسْكِيْنا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ، أَلْزَمُ رَسُوْلَ اللهِ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِي حِينَ يَنْسَونَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ يَوْما: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِي جَمِيعَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلاَّ وَعَى مَا أَقُوْلُ)) ، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رسول الله مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ، ثم يقول: ولولا آية أنزلها الله في كتابه ما حدّثت الناس شيئا أبدا، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة: 159].
عباد الله، لقد ظل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث الناس سبعًا وأربعين سنة بعد وفاة النبي ، على مرأى ومسمع من كبار الصحابة والتابعين، ويبلغ الآخذون عنه كما ذكر ذلك البخاري ثمانمائة من أهل العلم، ولا يعرف أن أحدًا من الصحابة بلغ مبلغه في الآخذين عنه، وكلهم يجمع على جلالته والثقة به، حفظ الكثير من الأحاديث، وآتاه الله قلبا واعيا وحفظا دقيقا، وعرف بالصدق والإيمان والتقوى والمروءة والأخلاق، وكان يتحمل ألم الجوع حتى لا يفوته شيء من حديث رسول الله.
يقول الإمام البخاري في صحيحه: قال أبو هريرة رضي الله: (والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع، وأشد الحجر على بطني)، كل ذلك حرصا على العلم وتحصيله، بل شهد له النبي ببروعه في العلم، وأمّن عليه الصلاة والسلام على دعاء أبي هريرة رضي الله عنه حين قال: اللهم إني أسألك علما لا ينسَى، فقال النبي : ((آمين)).
إن أبا هريرة رضي الله عنه محفوف بالعناية الإلهية والدعوات النبوية الكريمة، فيا عجبا كيف يستكثر المنافقون على أبي هريرة رضي الله عنه حفظَ بضعة آلاف من أحاديث النبي لم تبلغ العشرة آلاف حديث؟! أوَمَا يعلم هؤلاء أن أبا هريرة رضي الله عنه أصبَح بعد دعوة الحبيب مهيّئا لحفظ ما شاء من العلوم ببركة دعوة الحبيب عليه الصلاة والسلام؟! أوَما يعلم هؤلاء أن صغارَ المسلمين اليوم يحفظون من الأحاديث أكثر مما حفظ أبو هريرة رضي الله عنه وهو محفوف بدعوة نبوية كريمة؟! بل إن كثيرا من العلماء المعاصرين والسابقين حفظوا من مشكاة الوحي والسنة النبوية أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة رضي الله عنه من الأحاديث، فهل نستكثر عليهم ذلك وقد وهبهم الله من فضله ورحمته؟! فكيف نستكثر ونستكبر على أبي هريرة ما حفظ من السنة؟! ولكن ما نقول إلا كما قال الله في كتابه: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
عباد الله، إن حفظ القرآن لو قيس بعدد أحاديث السنّة لبلغ مئات الآلاف من الأحاديث، ومع ذلك نجد من أبناء المسلمين اليوم من يحفظه وهو لا يتجاوز الرابعة من عمره، ألا فلعنه الله على من يلمزون أصحاب محمد خير القرون المفضلة الذين زكاهم الله جملة بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، ورضي عنهم بقوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
يقول طلحة بن عبيد الله وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة والملقب بطلحة الخير: لا أشك بأن أبا هريرة رضي الله عنه سمع من رسول الله ما لم نسمع، وشهد له عبد الله بن عمر فقال: يا أبا هريرة، أنت كنت ألزمنا لرسول الله وأحفظنا لحديثه، قال الشافعي رضي الله عنه: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره".
ومن هنا فإني أحذر الذين يطعنون في هذا الصحابي الجليل بأن الطعن به طعن بالنبي الذي وثّقه، وطعن بكبار الصحابة والتابعين الذين روَوا عنه ووثّقوه، وتطاول على السنة الشريفة، قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]. يقول الإمام القرطبي رضي الله عنه: "إن الطاعن في رواية هذا الصحابي طاعن في الدين خارج عن الشريعة مبطل للقرآن".
ثم نقول للمنافقين وأشباههم: ألم يتكفل الله تعالى بحفظ القرآن في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]؟! أوَليس من الحفظ للقرآن حفظ السنة لأن السنة مبينة للقرآن؟! وهل يتبين لنا فهم القرآن إلا بما رواه الصحابة عن نبينا ؟! ولو لم يحفظ الله لنا السنة لكان ذلك سببا في عدم حفظ القرآن، لكن الله بين لنا بيانا جليا بحفظ الوحي، والوحي يشمل الكتاب والسنة، قال : ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) أي: من السنة، وكلاهما وحي نطق به محمد بعد أن لقنه جبريل عليه السلام ذلك، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4]، ولو لم تكن السنة محفوظة لما علمنا كيف نصلي وكيف نصوم وكيف نزكي، قال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه لنبيه محمد : وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]، وقال أيضًا جل ذكره: وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64]؛ ولهذا قال رسول الله : ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) يعني: السنة.
والسنة أيضا تنزل على النبي بالوحي كما ينزل القرآن تماما، إلا أنها لا تتلى كما يُتْلَى القرآن، قال الشافعي رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله فهو مما فهمه من القرآن"، وقال الأوزاعي رحمه الله عن حسان بن عطية رحمه الله: "نزل جبريل بالسنة على قلب محمد كما نزل بالقرآن"، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أما الرسول فينزل عليه وحي القرآن ووحي الحكمة، والحكمة هي السنة المذكورة في قوله سبحانه: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 129]، وكقوله سبحانه: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34]، وصدق النبي حين قال: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)).
عباد الله، لو افترى أبو هريرة رضي الله عنه على وحي السنة لكان الله له بالمرصاد، تأملوا معي ماذا يقول الله تعالى لنبيه ، قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44-47]، قال ابن كثير رحمه الله: لو كان مُحَمَّد كَمَا يَزْعُمُونَ مُفْتَرِيًا عَلَيْنَا فَزَادَ فِي الرِّسَالَة أَوْ نَقَصَ مِنْهَا أَوْ قَالَ شَيْئًا مِنْ عِنْده فَنَسَبَهُ إِلَيْنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَعَاجَلْنَاهُ بِالْعُقُوبَةِ، فكيف بمن هو أدنى منزلة من الرسول وتقوّل على شرع الله وسنة رسول الله ؟! وحاشا رسول الله وحاشا صاحب رسول الله أن يتقولوا على الله شيئا لم يأمر الله به. فاللهم عليك بمن سب أصحاب نبيك.
عباد الله، وفي عصر العلم الحديث وفي هذا القرن تسبق وتنير روايات أبي هريرة رضي الله عنه لعلماء هذا العصر الطريق للغوص في لجج العلم المتفرّق سواء في الأرض أو في السماء أو في الفضاء أو في البحار أو في الطب أو في النباتات أو الجبال وعدّد ما شئت، روايات صحيحة صريحة شهد لها الأعداء من أهل العلم بصدق دلالاتها العلمية، وأعلنوا ذلك في مؤتمراتهم الإسلامية والعالمية علانية وسرّا، ومن شاء أن يتبين من ذلك فليراجع مواقع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ليرى ويسمع من كبار علماء الغرب التصريح الصريح في إنارة روايات أبي هريرة رضي الله عنه لبحوثهم العلمية السابقة والمستقبلية التي أفنوا فيها عشرات السنين من أعمارهم، فماذا يدل ذلك أيها المكابرون؟! وماذا يدل ذلك أيها المعاندون؟! وماذا يدل ذلك أيها المستهزئون؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5300)
تربية البنات
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, المرأة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
10/4/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة البنت في الإسلام. 2- عناية الإسلام بالبنات. 3- فضل تربية البنات ورعايتهنّ. 4- أهمية تربية البنات. 5- الأساس في بناء الفتاة المسلمة. 6- من مظاهر التساهل في تربية البنت. 7- الأساليب الصحيحة في تربية البنات. 8- مشاكل تواجه الفتاة المسلمة. 9- كيد الأعداء بالمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوَى الله؛ قال تعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
للبنتِ في الإسلامِ مَكانةٌ سامِيَة، ميلادُها فرحَةٌ كبرى وبِشَارَة عُظمى، فهي رَيحانة الحاضر وأمُّ المستقبل، تربي الأجيالَ، صانعةُ الأبطال، رمزُ الحياءِ، عُنوان العفّة، وقد كتب أحدُ الأدباء يهنِّئ صديقًا له بمولودَة: أهلاً بعطيّة النساء وأم الدنيا وجالبَة الأصهارِ والأولادِ الأطهار والمبشِّرةِ بإخوةٍ يتسابقون ونجَبَاءَ يتلاحقون.
أعلى وأعلَنَ الإسلام مكانةَ البنت في الإسلامِ، وأنزلها منزلةَ الحبِّ والاحترام، فقد روى الترمذيّ عن عائشة أمِّ المؤمنين قالت: ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ سمتًا ودلاًّ وهديًا برسول الله في قيامِها وقعودِها من فاطمةَ بنتِ رسول الله ، قالت: وكانت إذا دخَلَت على النبيِّ قامَ إِليها فقبَّلَها وأجلَسَها في مجلِسِه.
من تكريمِ البنت هذه القصّةُ التي تحمِل مغزى تربويًّا بليغًا، ففي الصحيحَين عن أبي قتادة الأنصاريِّ قال: كان رسول الله يصلِّي وهو حامِلٌ أمامَةَ بنتَ زينب بنتِ رسول الله ، فإذا سجَدَ وضَعَها، وإذا قام حملها.
البناتُ نعمةٌ وهِبَة من الله، وفَضلُهن لا يخفى، هنّ الأمهات، هنّ الأخوات، هن الزَّوجات، جعل الله البنت مفتاحَ الجنّةِ لوالديها، تسهِّل لهما الطريقَ إليها، تبعِدهم عن النار، بل تضمن لهم أن يُحشَروا مع النبيِّ لمن أحسن إليهن، فهنئًا لك أبَا البناتِ بهذا الشرف من رسول الله ، كيف لا وأنتَ بإحسانِ تربيَتِهنّ تعِدّ شَعبًا وتبني مجدًا، فعن عقبةَ بنِ عامر قال: قال رسول الله : ((مَن كان لَه ثلاثُ بناتٍ فصَبَر عليهنّ وأطعَمَهنّ وسقاهنّ وكساهنّ من جِدتِه كُنّ له حجابًا من النار يومَ القيامة)) رواه ابن ماجه وأحمد، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((من كُنّ له ثلاثُ بنات يؤوِيهن ويرحمهنّ ويكفلهنّ وجبت له الجنّة البتة)) ، قال: قيل: يا رسول الله، فإن كانتا اثنتين؟ قال: ((وإن كانتا اثنتين)) ، قال: فرأى بعضُ القومِ أن لو قال له: واحدة لقال: واحدة. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((من عالَ جارِيَتين ـ يعني بنتَين ـ حتى تبلغا جاء يومَ القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه. رواه مسلم. وكفى بذلك فضلاً وفخرًا وأجرًا.
تربيةُ البنات لها أهمّيّة كبيرة، فهي قُربى إلى الله، والمرأةُ المسلمة لها أثرٌ في حياة كلِّ مسلم، هِي المدرسةُ الأولى في بِناء المجتمع الصّالح، هي ركيزةُ المستقبل، فهي الزوجةُ الصالحة والأمّ الحانِيَة وحاضِنة الأبناء، وإذا نشأتِ البنتِ صالحةً في بيتها متديِّنة في سلوكها فإننا بذلك نضمَنُ بإذن الله بناءَ أسرة مسلمةٍ تخرِّج جيلاً صالحًا قويًّا في إيمانِه جادًّا في حياتِهِ مِنَ الفتيات، يَكنَّ مصدرًا للفضيلة والتقوى، يَبنِينَ المجتمعَ ولا يهدِمنَه، يؤسِّسنَ الأسرةَ ولا يهربن منها، ينشرن الخير والحبَّ، قال تعالى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء: 34].
التربيةُ الصحيحة للفتاةِ تقتضي تَعاوُنَ الأب والأمّ القويّ والتنسيق الفكريَّ بينهما لتؤتيَ التربية أكلَها.
الأساس الأوّل في بناء الفتاةِ التركيزُ على حبِّ الله وحبِّ رسولِه ، تعليمُها الفرائض الدينيّة، تنشِئَتها منذ الصغر على الدين والفضيلة، وغرس ذلك في نفسِها بالإقناعِ والتربِية، يغذِّي ذلك وينمّي أفكارَهنّ قصصُ أمّهات المؤمنين زوجات النبي وقصصُ الصحابيّات اللاتي صنعنَ المجد بجودَةِ تربيّتهن.
تحقِّق التربية جودَتَها حين تكون الأمّ قدوةً حسنة لابنتها، متمثِّلةً قِيَمَ الإسلام، مع سلوكٍ حسَن وسيرة حميدة في حركاتها وملابِسِها وتصرُّفاتها، حينئذٍ تحاكي البنت أمَّها، وتكون صورةً صادقة عنها في السلوك.
ومما يحزِن تساهلُ بعضِ الآباء والأمهات في تربية البنات، ترى مظاهِرَ ذلك ضعفًا إيمانيًا، خواءً فكريًّا، تقديسًا للتوافِه، تفريطًا في القيم، كما تلمَسه في مسألةِ الحجابِ ولباسِ الفتنة والعُري مع التبذُّل في الأماكن العامة كالأسواق والمتنزَّهات.
تربيةُ البنت على خُلُق الحياء حارسٌ أمين لها من الوقوع في المهالك، فإن مشَت فعلى استحياء، زِيّها ورداؤها استِحياء، سِمَتُه الحياء، وقولُها وفعلها وحرَكاتها يهذِّبه الحياء، كما قال : ((والحياءُ خيرٌ كلُّه، ولا يأتي إلا بخيرٍ)).
الكلمةُ الطيّبة والرفقُ واللين في الأسلوب وسيلة مهمّة في التربية، وإذا قارنها قلبٌ مفعَم بالمحبّة والودّ من الوالدين عمِل عمله وآتى أكُلَه في تسديدِ السُّلوك، وله آثار نافعة، ويهدي إلى الاقتناع والقَبول، قال تعالى: أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 24، 25].
تَعَاهد الفَتَاة بالتوجيه والتنبِيه، فإنَّ القلوبَ تغفل، ويَقَظتُها بالنُّصح والتذكير، والذكرى تنفع المؤمنين، مع ترويضِها على الانضباط بأحكامِ الشَّرع في اللِّباس والحجابِ ومَسألةِ الاختلاط.
من مجاديف الحياة تغذيةُ الفتاةِ بأسسٍ ومفاهيمَ وضوابط تتمكَّن بها [من] التمييز بين الغثِّ والسمين، وتفرِّق بين الخطأ والصَّواب، وتوفِّر لها ملَكَةُ تُكسبها القدرةَ على اكتشاف المظاهر الخادعة والخاطئة.
جفاف المشاعر الودّيّة وغيابُ معاني الحبّ في الأسرةِ وانعدامُ أسلوب الحوارِ الهادئ يجعَلُ الفتاةَ تبحَث عن إجاباتٍ لأسئِلَتِها الحائرة، وقد تكون بذلك صَيدًا سَهلاً لرفيقات السّوء أو غيرهنّ، وهذا يتطلَّب إحياءَ جلساتِ الإقناع والحوارات الأسريّة وغَمرَ البيت بمشاعرَ فيّاضةً من الودّ والحبّ والاحترام.
الفراغُ مشكلةٌ كبرى في حياةِ الفتاة، ومَلء أوقاتِ الفتيات بالنافعِ المفيد حَصَانَة ووِقاية، من ذلك حِفظُ القرآنِ وتلاوَتُه وتَفسيرُه، تعلُّمُ ما يتعلَّق بالمرأة من أحكام، توسيعُ دائرةِ الثقافةِ النافعة، ممارسةُ الهوايات المفيدَة. مرافقة البنتِ لأمها تصقَلُ شخصيّتها، وتكون دليلاً لها في حياتها، وتضيفُ إلى سيرتها دروسًا ناصعة.
حُسنُ اختيار الصديقةِ مسألة لا مساومةَ فيها، وعليه فإنَّ الصداقة لها تأثير بالغ في السلوكِ والأفكارِ والثقافةِ الشخصيّة، فصَديقاتُ السوء كالشّرَرِ الملتهِب، إذا وقع على شيء أحرقه، وفي الحديث: ((المرء على دين خليلِه، فلينظر أحدُكم من يخالل)).
تفكُّكُ الأسرةِ، ضَعفُ الروابِط بين أفرادِها، كلٌّ يَهيم في وادٍ، الأب هناك، والأمّ هنالك، يولِّد جفوةً وجفوةً تتراكَم أضرارُها فوقَ بعضها على الفتاة، وقد ينكشِفُ الغطاءُ بعد فواتِ الأوان عن سلوك غيرِ حميدٍ.
الأسرةُ السَّوِيّة رَوابِطُها قويَّة في جوٍّ عائليّ لا يسمَح بالاختراق أو الاقتراب، مع شعورٍ بالطمأنينةِ والاستقرار.
تأخيرُ زواج الفتاة يترتَّب عليه مفاسدُ خلُقيّة واجتماعيّة ونفسيّة، وعضلُها بمنعِها من الزواج لأغراضٍ دنيويّة جريمةٌ في حقِّ فتياتنا والمجتَمَع، قال تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة: 232].
أعظَم الأخطار التي تؤثِّر في تربية البنات وجودُ القنواتِ الفضائيّة في البيوت، فهي تهدِّد بهدم كلِّ القِيَم، وتحارب الدِّينَ والفَضيلة، وتورِث العُريَ والفسادَ والانحلال، وكذا بعضُ مواقع الشبكة العنكبوتيّة التي تهدم أكثرَ مما تبني، فالسلامةُ في البعدِ عنها، والسلامةُ لا يعدلها شيء.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيّدنا نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إنَّنا في هذا العصرِ نحتاجُ إلى المزيدِ مِن التركيزِ على تربية الفتاة والرّعاية والعناية بها، فالفتاة المسلمة في زمننا هذا تتعرَّض من أعداء الأمّة الإسلاميّة إلى حملة شعواء، تَستهدف ضَربَ عِفَّتها وطَهارَتها وأخلاقها وإسلامها، والخطورَةُ تكمُن في أنَّ معنى إفساد فتاة مسلمة إفسادُ الزوجة وإفسادُ الأمّ وإفساد الجيل وإفسادُ المجتمع كلِّه.
يجب تحصينُ الفتاة من الفكرِ الخبيث الذي يفسِدها وتوعيتُها بمخطَّطات الأعداء. وفتاةُ الإسلام مطالبَةٌ بأن تكونَ سدًّا منيعًا ضدَّ هذه المخطَّطات بوعيِها والتزامِها، وحَذِرةً من دَعوةِ الذئاب للحريَّة المزيَّفة والحقوقِ المزعومةِ.
الدعاءُ أثرُه لا يخفى، وأهمّيّته لا تُنسى، فابتهال الأبوين وتضرُّعهما إلى الله أن يصلحَ أولادَهم دأبُ الصالحين، ودُعاء الوالدين للأبناءِ مُستجاب، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
(1/5301)
إسقاط أكبر شبكة إرهابية حقيرة وإحباط ما تحوزه من متفجرات وذخيرة
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, فرق منتسبة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
17/4/1428
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف الناس عند الأحداث. 2- تمكن قوات الأمن من إحباط مخطط إرهابي. 3- إفلاس أصحاب الفكر المنحرف. 4- ضلال الفئة الضالة وجرائمها. 5- حرمة مبايعة غير الإمام الشرعي. 6- ضرورة الإمامة الشرعية. 7- وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر. 8- تحريم الخروج على الحاكم المسلم. 9- مفاسد الخروج على الحكام. 10- تحريم حمل السلاح على المسلمين. 11- تاريخ خروج الخوارج. 12- صفات الخوارج. 13- ذم السلف والأئمة للخوارج. 14- واجبنا تجاه هذه الأحداث. 15- كلمة لرجال الأمن البواسل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63].
أيها المسلمون، عند حلول حدث أي حدث يتساءل الناس بعامتهم في سكرة: ماذا حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف حدث؟! وبعد مضي الحدث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعد الحدث؟ في تفكر ومحاسبات ومعالجة ومراجعات وتحليل ومتابعات وأبحاث ودراسات، تربط النتائج بالمقدمات، وتصل الأسباب بالمسببات، لا سيما فيما يمس دين الأمة وأمن المجتمعات، وما يعكر استقرار الشعوب والبيئات، وما يعوق بناء الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدرات، تشخيصا محكما للداء، ووصفا ناجعا للدواء.
إخوة الدين والعقيدة، لا يخفى عليكم ما أصدرته وزارة الداخلية عبر وسائل الإعلام يوم الجمعة الماضية الموافق 1/4/1428هـ حول تمكن قوات الأمن ـ وفقهم الله ـ من إحباط شبكة إرهابية حقيرة والقبض على خلايا إفسادية ارتكبت أمورا عظيمة، فكلما توقعنا واستبشرنا أن الفتنة خمدت وإذا بها تنبعث من جديد، ويبدأ معها مسلسل جديد، فتتوالى حلقات سلسلة من الأحداث في بلاد الحرمين الشريفين يذهل المسلم لها ويتملكه العجب، بل ويحتار القلم وتعجز الكلمات من هول ما يرى ويسمع. وحين تبلغ الأحداث من أبناء هذه البلاد العاقين لبلادهم الخارجين على ولاة الأمر فالأمر أشد وأنكى.
ولقد طالعتنا وسائل الإعلام بما نشر من القبض على هؤلاء الخوارج التكفيريين المارقين، وعثر معهم على أسلحة وأدوات للتفجير وغير ذلك، فالحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا. وإن هذا مما يفرح كل مؤمن مواطن بل كل مقيم يعيش في هذه البلاد المقدسة، ومما يوجب شكر الله تعالى على أن وفق هذه الدولة للقضاء على هذه الفئة الفاسدة في المجتمع.
ولقد أعدوا العدة وجهزوا الأسلحة وهيئوا أنفسهم زيادة في الضلال والإضلال ونكاية في المسلمين، وهذا والله هو البلاء الذي ابتلي به أهل السنة في هذه البلاد المباركة.
وإن الذي يجب أن يعتقده كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن فعل هؤلاء المجرمين من أعظم المحرمات في دين الله، وإن ما قاموا به ليس من الإسلام في شيء، بل إن الإسلام بريء من فعلهم؛ لأن الإسلام يحرم قتل المسلم ويحرم قتل الكافر المستأمن والكافر المعاهد والكافر الذمي، وليس فعلهم هذا من الجهاد في سبيل الله، ولا يحسب عملهم هذا من الإسلام، بل ما قاموا به إرهاب وإجرام، وبغي وترويع لعباد الله المؤمنين، وخروج على الحاكم المسلم الذي له ولاية شرعية، بل هو دين خارجي دخيل وفكر خبيث وبيل، حث النبي على قتل أمثال هؤلاء فقال: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم)) رواه البخاري ومسلم، ووعد بالأجر الجزيل لمن قتلهم، وإنما يقتلهم ولي أمر المسلمين أو بأمره.
عباد الله، إن ما اكتشفه رجال الأمن البواسل أصحاب الأعمال البطولية الذين كشفوا أوكارهم وأحبطوا مسعاهم الإجراميّ لهذه الفئةِ التي اتَّخذت من المساكن في مواقع عدة داخل المدن وكرا لإخفاء أسلحةِ القتل وأدواتِ التخريب والدّمار من أسلحة وذخائر ومتفجرات خطيرة قاموا بدفنها تحت الأرض، وكذلك خارج المدن في البر وعلى شواطئ البحر لدفن تلك الأسلحة، كانت معدة للقيام بأعمال تخريبية ودمار شامل لبنية هذا الوطن الذي هو حصن الإسلام وفيه الحرم الأمين وقبلة المسلمين ومسجد رسول الله ، فلقد فضح الله مخططاتهم وعداءهم لهذه البلاد بفضل الله ثم بجهود العيون الساهرة، والقبض على هذه العصابة المجرمة التي تحمل في قلوبها العداوة والحقد على أمن هذا البلد الأمين، وبفضل الله تعالى أبطل الله كيدهم وخيب الله أعمالهم وكشف الله أمرهم، ولا شك أن هذه الشبكة الإرهابية التي حصلت من أكبر الحوادث التي شهدتها بلادنا في أيام خلت، وكانت ضربة قاضية وموجعة لهؤلاء الفئة الباغية.
أيها المسلمون، جاءت عملية الكشف عن الشبكة الإرهابية الكبيرة وما كانت تحوزه من أسلحة فتاكة وأموال طائلة لتؤكد أن الأمور آلت بأهل الانحراف والتكفير إلى مرحلة الإفلاس واليأس من إمكانية تحقق مشروعهم، فتصرفاتهم الطائشة وحماقاتهم التي يرتكبونها بين الفينة والأخرى تؤشر على مدى الإحباط الذي وصلوا إليه وعلى فشل مشروع الفتنة والتدمير الذي يحملونه، والذي يستهدف أمن هذه البلاد واستقرارها وشعبها وقيادتها ومقدراتها ومصالحها، فهذه الفئة القليلة والشرذمة المنبوذة لم تجد فرصة لتنفيذ مخططها لتحرير فلسطين كما تدعي ولوقف الفتنة في العراق ولا طريقًا لوقف سفك الدماء والأشلاء كما تزعم سوى بالغدر ونقض العهد وخفر ذمة المسلمين وولي أمرهم بقتل مجموعة من الفرنسيين دخلوا البلاد بعهد وأمان. وهذه الفئة القليلة والشرذمة المنبوذة لم تر فرصة لحل مشاكل الأمة كلها ومعالجة أزماتها الكبرى كما تدعي إلا بزعزعة الأمن في المملكة وقتل رجاله وتفجير الممتلكات والمباني والمنشآت الإستراتيجية.
ضلال وإفلاس، وانتكاس وارتكاس، ووهم وخطأ، جمعوا بين العميين، وباؤوا بخسارة الدارين. فإذا كانوا يعتقدون أنهم بمثل هذه الأفعال يمكنهم أن ينالوا من قوة الدولة وهيبة الحكم فقد وهموا وأخطؤوا في الحسابات، فالتفاف الشعب حول قيادته كبير، والدولة تسجل النجاحات الأمنية الواحدة تلو الأخرى في وقت تعثرت فيه أقوى الأجهزة الأمنية في العالم عن حماية بلادها من التخريب والإرهاب، وأحداث الأسبوع الماضي والنجاح الكبير الذي حققته قوى الأمن خير شاهد.
وإن أفعالهم القذرة إنما هي تجنٍ وظلم على الإسلام والمسلمين؛ لأن الإسلام هو الذي سيُحمَّل جريرة أفعالهم، فضلاً عن تشويه مفهوم الجهاد ومراميه والحكمة منه، وأن الهدف منه هو القتل والعنف واستباحة الدماء والأعراض، دون أن يجني هؤلاء الجناة أي ثمرة سوى وزر الدماء التي أزهقوها بغير ذنب، فضلاً عن توفير المبررات الجاهزة لدعاة الفتنة من أهل العلمنة والتغريب في الداخل والخارج، وإذا كان التعرّض لرعايا بعض الدول الغربية نكايةً في هذا الدول لأنها تقف موقفًا مناهضًا لقضايا العرب والمسلمين فإن هذا حمق وطيش، لأن تلك الأفعال ستترك أثرًا سلبيًا لا إيجابيًا على تصرفات هذه الدول ومواقفها من قضايا الأمة، ويساهم في تأليب قوى الغرب علينا، في الوقت الذي تعاني أمتنا أزمات مستعصية ومحنا كبيرة تجعلها غير قادرة على أي مواجهة. فهؤلاء يقتلون ويغدرون ويفسدون في الأرض باسم الإسلام والجهاد والإصلاح، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
ماذا يريد هؤلاء بكل تلك الأسلحة وكل تلك الأموال وكل تلك التدريبات وهذا التخطيط لعمليات القتل والتفجير؟! إنهم يريدون الفتنة والفوضى، يريدون أن تصير بلادنا ميادين للقتال حتى تسوغ للكفار أن يتسلطوا عليها بحجة حماية المصالح أو غير ذلك من الحجج.
أيها المسلمون، إن أول مخططات هؤلاء الجهلة الفجار قيامهم بأمر محرم نفذوه في بيت الله الحرام بخفية، وهو مبايعة زعيمهم عند الكعبة المشرفة، وهذه البيعة باطلة لا يحل عقدها، ولا يجوز لأي شخص يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعقد بيعة لشخص آخر في بلد له ولي أمر مبايع من أهله ومدان له بالطاعة في المعروف، وهذا من الجرأة القبيحة والعدوان الأثيم والافتئات على ولي الأمر والخروج عليه، وهذا يوجب لصاحبه العقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة. والدليل على ذلك ما رواه عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) رواه مسلم.
أي بيعة هذه التي يزعمون؟! إن هذه البيعة تشبه بيعة كفار قريش لما تعاهدوا على حصار النبي وبني هاشم في الشعب، إنها بيعة ما أريد بها إلا التكفير والتفجير والإرهاب والتدمير، وإنها لبيعة ما أريد بها إلا العدوان والبغي والظلم ونقض العهود والمواثيق، وإنها بيعة ما أريد بها إلا سفك الدم الحرام، بيعة ما أريد بها إلا الخروج على ولي الأمر المسلم الذي رضيه أهل السنة لأنفسهم ولم يرضه الخوارج لهم، بيعة ما أريد بها إلا عصيان الله تبارك وتعالى وعصيان رسوله ما أقبحها من بيعة! وما أجرأه من عقد! جرأة على الله، وإلحاد في حرم الله، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25]. وإن مبايعتهم لزعيمهم هو مطابق لفعل الخوارج الأوائل الذين نبغوا في عهد الصحابة رضي الله عنهم فقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم، وأمروا بقتالهم، امتثالاً لأمر رسول الله ، حيث قال عنهم: ((يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة)) أخرجه الشيخان، وفي بعض الروايات يقول : ((هم شر الخلق والخليقة)).
أيها المسلمون، إن من المعلوم في دين الإسلام أن اتخاذ الإمام واجب على أهل الإسلام، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، منها ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إنما الإمام جُنة؛ يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه)). وعلى هذا جرى إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من سائر المسلمين.
وإن إمامة المسلمين تنعقد بأمور، منها أن يبايع أهل الحل والعقد الإمام، فإذا بايعوه صحت إمامته، ووجبت على سائر المسلمين طاعته، ولزمتهم بيعته، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دعانا النبي فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان. أخرجه الشيخان. وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي وعظهم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقالوا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة)) أخرجه البخاري ومسلم. يقول ابن رجب رحمه الله: "وأما السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي رضي الله عنه: إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرًا عبد المؤمن فيه ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله، وقال الحسن في الأمراء: هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن والله إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر" انتهى كلام ابن رجب رحمه الله.
هذا وإنا بحمد الله تعالى نعيش في هذه البلاد السعودية المباركة في ظل ولاية عادلة، قد انعقدت لها البيعة، وصحت إمامة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على هذه البلاد وأهلها، ولزم الجميع السمع والطاعة بالمعروف، والبيعة ثابتة في عنق أهل البلاد السعودية كافة، لإجماع أهل الحل والعقد على إمامته. فالحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله على نعمه التي لا تحصى, جمع كلمتنا على الحق، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، جمعنا على إمام واحد ودين واحد وبلد واحد، فنسأله سبحانه أن يزيدنا أمنا واستقرارا ونعمة وفضلا وصلاحا وفلاحا، وأن يرد كيد الحاقدين ومكر الماكرين على بلادنا وأئمتنا وولاة أمورنا وعلمائنا وأهلينا، وقى الله بلادنا وجميع بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وكبت أعداء هذه الدولة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها المسلمون، إن من الكبائر العظيمة والآثار الجسيمة نقض البيعة ومبايعة آخر مع وجود الإمام وانعقاد البيعة له، وهذا خروج عن جماعة المسلمين، وهو محرم ومن كبائر الذنوب، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله : ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية)) أخرجه مسلم، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية)) أخرجه البخاري ومسلم، وفي حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهلية، فإن خلعها من بعد عقدها في عنقه لقي الله تبارك وتعالى وليست له حجة)) أخرجه الإمام أحمد، ولمسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) ، ويقول النبي : ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه كائنًا من كان)) أخرجه مسلم. وأحاديث النبي في هذا المعنى كثيرة. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسويد بن غفلة: (لعلك أن تخلف بعدي فأطع الإمام وإن كان عبدًا حبشيًا، وإن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن دعاك إلى أمر منقصة في دنياك فقل: سمع وطاعة، دمي دون ديني) أخرجه مسلم.
عباد الله، لقد كفلت شريعة الإسلام لأهلها السعادة في الدنيا والآخرة إذا تمسكوا بهذا الدين واعتزوا به، ولقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بالسمع والطاعة، ومن الأصول المقررة عن أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لولاة الأمر في طاعة الله سبحانه وتعالى حيث هم رحمة للناس، فالدين لا يستقيم والحدود لا تقام والأمور لا تنضبط إلا بسلطان يتولاها ويحرسها، فلا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم. بالسلطان تتآلف الأهواء المختلفة، وبهيبته تنكفّ الأيدي المتسلطة، ومن خوفه تنقمع النفوس المعاندة، وبإقامة الحدود والتعزيرات تهدأ الشهوات الثائرة والغرائز الشريرة. قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الناس لا يصلحهم إلا أمام برًا كان أو فاجرًا). وقال شيخ الإسلام في السياسة الشرعية: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس" انتهى كلامه. وليست منافع الإمام محصورة في عجالة من عرض الدنيا، ولكنه حقن الدماء وصيانة الأعراض وحراسة الأموال، ورحم الله ابن المبارك إذ يقول:
إن الْجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يرفع الله بالسلطان معضلة عن ديننا رحْمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لَم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نَهبًا لأقوانا
أيها المسلمون، إن طاعة ولي الأمر واجبة بنص الكتاب والسنة، قال الله في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، قال الشيخ ابن سعدي يرحمه الله: "وأمر بطاعة ولي الأمر، وهم الولاة على الناس من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم طاعة له ورغبة فيما عنده" انتهى كلامه. وعلى هذا سار السلف رضي الله عنهم، كلهم يوجب السمع والطاعة لإمام المسلمين، ويحرم الخروج عن جماعة المسلمين.
عباد الله، إن مما أوضحه البيان الصادر من وزارة الداخلية استعداد هؤلاء بالسلاح وتخطيطهم للخروج على المسلمين بذلك السلاح، ومعلوم أن حمل السلاح على أهل الإسلام من كبائر الذنوب، يقول النبي : ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) أخرجه الشيخان. والخروج على المسلمين وقتالهم وسفك دمائهم داخل في قول النبي : ((ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)) أخرجه مسلم، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
كما أن هذه الفئة الضالة تريد إحداث فوضى في البلاد وتدمير الممتلكات، وهذا من الإفساد في الأرض الذي قال الله تعالى فيه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33].
فليعلم هؤلاء وأمثالهم من أهل الإفساد بأن أمرهم مكشوف، وأن الله جل وتعالى عليم بهم كما قال سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 63]، بل إن الله جل وتعالى قرر في كتابه بأن عمل المفسدين وتخطيطاتهم وتدبيراتهم سيبطله جل وتعالى، وأنه لا يمكن أن يوفقهم إلى عمل، فقال جل شأنه في معرض أخبار موسى مع فرعون: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81].
ألا ومن تسوِّل له نفسه ومن يزيِّن له الشيطان العبث بأمن هذه البلاد واستقرارها ومن يقترف جريمة التخريب والتفجير والإرهاب والإفساد في الأرض فقد وقع في هاوية المكر والخيانة، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]، واكتسب جرمًا يخزيه أبدًا، وسيلقى جزاءه الأليم الذي قدّره الله له، سواء كان هذا المخرّب مسلمًا أو غير مسلم، لأن هذا التخريب والتفجير والإفساد يقتل ويصيب نفوسًا معصومة محرّمة الدم والمال من المسلمين أو غير المسلمين الذين أمّنهم الإمام أو نُوَّابه على نفوسهم وأموالهم. والإسلام يأخذ على يد الظالم والمفسد والمعتدي على النفوس والأموال المعصومة بما يمنعه من ارتكاب الجرائم، ويزجره وأمثاله عن البغي والعدوان، لأن الإسلام دين العدل ودين الرحمة والخير، فلا يأمر أتباعه إلاّ بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلاّ عمّا فيه شرٌّ وضرر، وإن على العباد أن يشكروا الله عليها.
ألا فاتقوا الله عباد الله، فإن التقوى متى ما خالطها الصبر كانت درعًا واقيًا من كيد الأعداء، قرر ذلك رب العالمين بقوله: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أما بعد: أيها المسلمون، إن مما ابتليت به الأمة الإسلامية مما زعزع أمنها وروع سكانها وجعل للكفار عليها السبيل خروج فرقة مارقة عن الدين لا يألون في مسلم إلا ولا ذمة، اقرؤوا التاريخ عباد الله، بل واسمعوا الوقائع الآن وماذا ترون من الذين خرجوا على ولاة أمورهم وشقوا عصا الطاعة وأزالوا ولاتهم، ماذا حصل عليهم من النكبات؟! ماذا حصل عليهم من سفك الدماء؟! ماذا حصل عليهم من اختلال الأمن؟! ماذا حصل في بلادهم من النهب وسلب؟! بل ماذا حصل عليهم من تدخل الكفار في بلادهم وتسلطهم عليهم؟! ولو أن استقاموا مع ولاة أمورهم ونصحوا لهم وكانوا يدًا واحدة لهابهم العدو ولا انتظمت أمورهم، ولا يخفى عليكم ما حصل من الفتنة العظمى لما قام أناس من الأوباش بقيادة يهودي يقال له ابن سبأ، وذلك لما قاموا على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه فقتلوه، فماذا حصل بالمسلمين من النكبات التي يعانون منها إلى الآن؟! وماذا حصل لمن أزالوا ولاة أمورهم؟! فماذا حل بهم؟! إنهم لا يزالون إلى الآن يعانون من الويلات ومن الحروب الأهلية بينهم، ومن الحروب من أعدائهم وغير ذلك من العقوبات.
أيها المسلمون، إن بداية ظهور الخوارج كان في عهد عثمان رضي الله عنه، حيث خرجوا عليه حتى أدى ذلك إلى قتله مظلوما شهيدًا، ثم خرجوا على علي فقاتلهم وقتلهم شر قتلة، وكان هذا الفعل له منقبة عظيمة. وأوّل قرن طلع منهم على عهد رسول الله رجل طعن على النبي وهو يقسم الغنائم بالجعرانة، فقال: اعدل يا محمد، فما أراك تعدل، فقال : ((ويلك، فمن يعدل إذا لم أكن أعدل؟!)) فأراد عمر رضي الله عنه قتله، فمنعه النبي من قتله، وأخبر عليه الصلاة والسلام: ((إنّ هذا وأصحابًا له يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة)) ، وأمر عليه الصلاة والسلام في غير حديث بقتالهم، وبين فضل من قتلهم أو قتلوه.
وإنهم لا زالوا يخرجون إلى أن تقوم الساعة، وورد في حديث آخر: ((كلما خرج منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم مع الدجال)) ؛ لذلك فما هؤلاء الذين يفجرون في بلاد الإسلام ويقتلون المسلمين والآمنين والمستأمنين بغير حق إلا وراث لأولئك وعلى منهجهم.
ومن الأحاديث التي وردت في بيان صفاتهم وعلاماتهم ما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)) ، وجاء في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)). ووردت أيضا أحاديث عن رسول الله في وصفهم بأنهم شر الخلق والخليقة، وأنهم كلاب النار وإن كانوا يظهرون الصلاح والاستقامة والجهاد زعموا، فعن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((إن بعدي من أمتي ـ أو: سيكون بعدي ـ من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة))، وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنه أن النبي قال: ((الخوارج كلاب النار)).
فلا يغرك ما ينزينون به من الصلاح ودعوى الجهاد والاستقامة، فكل ذلك لا ينفعهم شيئا، ولا يتجاوز إلى قلوبهم، ذُكر لابن عباس رضي الله عنهما الخوارج واجتهادهم وصلاحهم فقال: (ليسوا بأشدّ اجتهادًا من اليهود والنصارى، وهم على ضلالة). قال الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: "لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله عز وجل ولرسوله وإن صلّوا وصاموا واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس ذلك بنافع لهم؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموّهون على المسلمين، وقد حذرنا الله عز وجل منهم، وحذّرنا النبي وحذرنا الخلفاء الراشدون بعده، وحذرناهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم. والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديمًا وحديثًا، ويخرجون على الأئمة والأمراء، ويستحلون قتل المسلمين" انتهى كلامه رحمه الله.
ومنه يتضح خطورة هذا المذهب وتحريم الانتساب إليه، بل وجوب قتال أهله لما يترتب عليه من مفاسد دينية ودنيوية واختلال للأمن وضياع لبلاد الإسلام وإدخال الوهن على المسلمين وتسليط الأعداء عليهم. ومنه يعلم أن من خرج على إمام المسلمين واستحل قتل المسلمين فإنه خارجي وإن صلى وصام وادعى ما ادعى. والأمثلة من التاريخ الإسلامي على ذلك كثيرة، وما هذا إلا غيض من فيض. فيجب على المسلم أن يحذر من هؤلاء الخوارج ومن مذهب الخروج وموارده ومصادره. ثبتنا الله وإياكم على السنة، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون، يجب أن لا نمر على الأحداث مرور الكرام، يجب أن نعي ما يدور حولنا من تخطيط لإزالة هذه الدولة المباركة ولنقض هذا الصرح البناء الشامخ الذي بناه الآباء والأجداد المخلصون، فأقاموا دولة تحكم بشريعة الله وتنعم بالخيرات والبركات. إنهم لا يزالون يخططون، فاليهود والنصارى من وراء هؤلاء الخوارج، ووالله الذي لا إله غيره إن أعداء الإسلام وجدوا في هؤلاء المجرمين القتلة بغيتهم، ولا يفرح بصنيعهم إلا هم. وإن على كل مؤمن صادق يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه أن يرفع صوته بإنكار هذه الأعمال الإجرامية؛ لأنها محرمة بنصوص الكتاب والسنة، ولأنها تعد لحدود الله وانتهاك لحرماته وعدوان على عباده، ولأنها فساد نهى الله عنه وأخبر أنه لا يحبه وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81]. وإننا وكل مسلم ليحذر من فكر هؤلاء الخوارج، فهو فكر موجود، وإغفاله أو إهماله أو السكوت عنه خطير جدا علينا وعلى أبنائنا، فينبغي على كل فرد منا أن يتبصر في دينه، وأن يستبين سبيل المجرمين، وأن يعرف صفات هؤلاء الخوارج الضالين؛ حتى لا يقع هو أو يقع فرد من أفراد أسرته في منهجهم وهو لا يشعر. وإن علينا جميعا أن نحذر دعاة الضلال والفتنة والفرقة وتحذير من سار في ركابهم، وعلينا السير على الصراط المستقيم المبني على كتاب الله وسنة نبيه ، وإن مسؤولية مواجهة هؤلاء الضالين ليست على رجال الأمن وحدهم، ولكنها مسؤولية الجميع، كلٌّ حسب موقعه.
إن الإحساس بالخطر على الدين والأهل والديار والفرقة والفوضى هو الأمر الذي يجب أن يستشعره الجميع؛ ليكونوا أكثر يقظة وحذرا ونباهة، ولتكون التصرفات أكثر وعيا وحكمة لما يحاك ضد هذه الأمة ودينها وأهلها وأمنها وولاة الأمر فيها. فلا بدَّ من تماسكِ الصّفّ، مع وضعِ أيدينا في أيدي ولاةِ أمرنا وعلمائنا، مع بذل النّصح لهم جميعًا بالحكمَة والموعظة الحسنة.
إنَّ هذه البلادَ قامت على أسُسٍ راسخة ومبادئَ ثابتة ومنهج إسلاميّ، ومَن يرومُ تقويضَه أو زعزعتَه بمسالك العنف والتّفجير أو الاصطياد في الماء العكِر أو التذويب أو التمييع أو النيل من دعاةِ البلاد أو حلقات التّحفيظ وهيئاتِ المعروف ومحاضنِ الدّعوة لدينا فلن يبلغَ أحدٌ منه مرادَه، فبلاد الحرمَين كيان راسخٌ في بنيانِه، متماسِك في وَحدته، متراصّ في صفوفه، تتكسّر دونه مسالك الانحراف والتصرّفاتُ اللاّمسؤولة، ولن تبلغَ هذه الفئة أو غيرُها النيلَ من ثوابتنا وأمنِنا وقيَمنا ومناهجنا. إنَّ هذه البلادَ تمثّل مركزَ الثقل وإشعاع الخير في العالم، وستبقى كذلك بإذن الله، والمروّجون للفساد والإفساد يدمّرون الأمّة ويضربونها في عُقر دارها، وستعود أعمالهم وبالا عليهم، يجرّون أذيالَ الخيبة والهزيمة، قال الله تعالى: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقوموًا بما أوجبه الله عليكم لتدوم هذه النعم من أمن ورخاء وهدوء واستقرار، نعم متتابعة، وخيرات متوالية، ولن يجد عدو مدخلاً، ولن يجد حاسد في صفوفنا سبيلاً إن شاء الله تعالى، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 103].
رجال الأمن البواسل، أقول: إنكم تحرسون في سبيل الله، إنكم إن شاء الله تعالى تجاهدون في سبيل حفظ أمننا وأمن أطفالنا وأموالنا، فجزاكم الله عنا خيرا، وبارك في أعمالكم, وشد من أزركم. وإن هذه الأعمال لن تزيدنا إلا إصرارا مع رجال الأمن، ولن تزيدنا إلا إصرارا على السمع والطاعة لولاة أمورنا والصدق معهم والدعاء لهم، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا دين الإسلام واضح لا مواربة فيه، لا نرجو من ذلك جزاء ولا شكورا، ولكن نعمل بما أملاه علينا ديننا وبما يحفظ علينا وعلى إخواننا أمنهم واستقرارهم، نسمع ونطيع لولاة أمور المسلمين، ونعظم حرمات المسلمين، ونحافظ على دماء المسلمين وأعراضهم، ونتعاون مع رجال الأمن وموظفي الدولة، فإنهم نواب السلطان، والنبي يقول: ((من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعص الأمير فقد عصاني)). فنحن نطيع الله ورسوله، ونطيع ولاة أمور المسلمين، ونتعاون معهم على البر والتقوى.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا في انتظار فريضة من فرائضك أن تقضي على الفساد والمفسدين، اللهم اقض على الفساد والمفسدين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم وتدبيرهم تدميرا عليهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تقي بلادنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا شرور أنفسنا وشرور عبادك، وأدم على بلادنا أمنها وزدها صلاحا وإصلاحا، إنك على كل شيء قدير. كما نسأله سبحانه أن يمد الساهرين على أمننا وراحتنا بعونه وتوفيقه، وأن يسدد آراءهم وخططهم ويبارك في أعمالهم وجهودهم ويربط على قلوبهم ويكشف لهم كل غامض، وأن ينصرهم على كل مفسد ومخرب ومحارب، نسأل الله تعالى أن يحمي بلاد الحرمين من شرور المعتدين وكيد المجرمين، وأن يكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق قادة هذه البلاد المخلصين لما فيه صالح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين.
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله...
(1/5302)
أين الظلمة؟
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
10/4/1428
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف العباد على الصراط يوم القيامة. 2- صور من الظلم: الصد عن بيوت الله، كتم الشهادة، الحكم بغير ما أنزل الله، اغتصاب الأراضي. 3- سوء عاقبة الظالمين. 4- انتشار المنكرات والمظاهر السلبية في المجتمع. 5- تواصل جرائم الاحتلال. 6- مساندة أمريكا لإسرائيل. 7- خطأ إرجاء بحث القضية الفلسطينية. 8- سبب الذل والهوان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إذا وقفَ العبادُ على الصراطِ يومَ القيامةِ نادَى الله تعالى وقال: أنَا الله، أنَا الملك، أنا الديان، وعِزَّتي وجلالي لا يغادرُ هذا الصراطَ واحدٌ من الظالمين، ثم ينادِي ملَك من قِبَل الله تعالى فيقول: أينَ الظلَمَة؟ أين أعوانُ الظلَمَة؟ أين مَن برى لهم قلمًا؟ أين مَن ناولهم دَواةً؟ ثم تنادي جهنّمُ على المؤمنين فتقول: يا مؤمِن أسرع بالمرور عليَّ فإنَّ نورَك أطفأ ناري.
إذا وقف العبادُ على الصراط ـ يا عبادَ الله ـ والصراطُ جسر مضروبٌ على حافّة جهنّم، وهو أحدُّ من السيف، وأرقّ منَ الشعرة، إذًا فأين يذهب الظالمون؟! ما هو مصير الظلمة؟! وما أكثرَ الظلمة في هذه الأيّام. فاستمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لقول الباري جلّ في علاه: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 68-72] صدق الله العظيم.
يُحضَرون جِثِيّا على رُكَبِهم لشدَّة ما هم فيه لا يقدرون على القيام، فإياكم والظلمَ يا عباد الله؛ فإنَّ الظلم ظلماتٌ يومَ القيامة.
كما وضَّح القرآن الكريم صُورًا وأَلوانًا متعدِّدَة من صوَر الظلم المحرّم، ومن هذه الصّوَر:
أولاً: الصّدُّ عن بيوت الله تبارك وتعالى ومنعُ الذكر في المساجد وأداءِ الصلوات ودروسِ العلم النافع، لقول المولى تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114].
وأنتم تَرونَ ـ أيّها المؤمنون ـ كيف تُمنَعون من دخولِ المسجد الأقصى أو الوصولِ إليه لأداء الشعائرِ الدينيّة، لأداء الصلوات التي أمَر الله تبارك وتعالى بها، أصبَحَ شبابُنا يُمنَعون من دخول المساجد، أصبَحوا يُمنَعون من الوصول إلى المسجد الأقصى.
ثانيًا: كَتمُ الشهادة عند طَلبها، لقوله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140]. كَتمُ الشهادة ـ يا عباد الله ـ وشهادةُ الزور وقَلب الحقِّ إلى باطل وضياعُ الحقوق، فكم مِن حقوق ضُيِّعت، وكم من حرمات انتُهِكت، وكم من أعراضٍ أُهينت، وكم من دماء أُريقت، كم من أرواح أزهِقَت، كم من شعوبٍ اضطُهِدت، كلّ ذلك بسبب كتمِ الشهادة وقول الحقّ ابتغاءَ مرضاة الله تبارك وتعالى. فإياك ثم إياك ـ أيها المسلم ـ أن تندرِج تحت قولِ الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283].
ثالثًا: عدمُ الحكم بما أنزَلَ الله تبارك وتعالى وعدمُ تحكيم شريعة الإسلام، لقوله تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45]. فأنتم ترَونَ حكَّامَكم كيف لا يحكُمون بأحكام الإسلام، ولا يعمَلون لقيام دولة الإسلام، ودوَل الكفر تتسلَّط عليهم، وبعضُ من يدّعي الإسلام زورًا يساعِدهم على ذلك ويزيِّن لهم أعمالهم ويصدُّهم عن السبيل المستقيم، وذلك لخفَّة أحلامِهم وقِلّة عقولهم وهوانهم على الله.
جاء رجل إلى الإمامِ سفيان الثوريّ رحمه الله تعالى فقال: إني رجل أخيط ثيابَ السلطان، فهل أنَا من أعوان الظلمة؟ فقال الإمام الثوريّ: بل أنت من الظَّلمَة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة مَن يبيع منك الإبرةَ والخَيط.
فانظروا ـ أيها المسلمون ـ لهذا الفهمِ الدقيق لسلَف الأمة مِنَ الوقوع في الظلم، فمن أعان ظالمًا على ظُلمه أو لقَّنه حجّة يدحض بها حقَّ امرئ مسلم فقد باءَ بغضب من الله تبارك وتعالى وعَليه وزرُها.
رابعًا: من ظلَم قيد شبرٍ من أرضٍ فأخذها بغيرِ حقٍّ، وهذا من أشدّ صور الظلم، فقد أخرج الإمام البخاريّ ومسلم عن سعيد بن زيد أنَّ رسول الله قال: ((مَن اقتطع شبرًا من الأرض ظُلمًا طوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرَضِين)). والمراد من قوله: ((طوَّقه)) أنّه يعاقّب بالخسف إلى سبعِ أرَضين، أي: فتكون كل أرض في تلك الحالة طَوقًا في عنقه، فمن يستطيع أن يتحمل هذا يا عباد الله؟!
فاتقوا الله وكُفّوا عن ظلمِكم، كفّوا عن عصيانكم وطغيانكم من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر: 55].
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42].
فيا من زلَّت قدمه بظلم أخيه في الدنيا، بادر إليه، واطلب منه أن يسامحَك، وتحلَّل من مظلَمَتك في الدنيا قبل أن لا يكونَ دينار ولا دِرهم، وإنما يكون التعامُل هناك والعُملة الصَّعبَة يوم القيامة هي الحسنات والسيِّئات، أتدرون لماذا يا عباد الله؟ لأنّنا سنكون حفاةً عراةً لا نملك شيئًا، فاستبرئ ذمَّتَك في الدنيا قبل الآخرة، اذكُر عندَ الظلم عدلَ الله فيك، وعند القوّة قدرةَ الله عليك.
عباد الله، لا تملؤوا أعينَكم من أعوان الظلمة إلا بإنكارٍ من قلوبكم؛ لئلاَّ تحبط أعمالُكم الصالحة، واحذروا غضبَ الله؛ فإنه يمهل ولا يهمل.
لا تظلِمَنّ إذا ما كنتَ مقتدرًا فالظلمُ يرجع عقباه إلى النّدمِ
تنامُ عيناك والمظلومُ منتبِه يدعو عليك وعيْن الله لم تَنَمِ
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله يملي للظالم فإذا أخذَه لم يفلته)) ، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، ومعنى ((يملي للظالم)) أي: يمهِله ولا يعاجِله بالعقوبة، ومعنى ((إذا أخذه لم يفلِته)) أي: إذا أهلَكَه لا يرفَع عنه الهلاكَ أبدًا.
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس: 85، 86].
عباد الله، توجّهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي قدّر الآجال ووسّع الآمال، وأودَع النّعَم وتوعّد جاهدها بالنِّقَم، فمن شكَر زاده من إنعامه، ومن كفر كاده بانتقامه، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تهدي المخلِص بها سَواءَ السبيل، ونَشهد أنّ سيدنا محمّدًا عبده ورسوله المؤيَّد بالعصمة الشاهدُ على الأمّة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، نجوم الهدى ورجوم العِدا وليوث الرّدى وغيوث الندى، صلاة وسلامًا متتابعين من اليوم إلى أن يُبعث الناس غدًا.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ الأحداث التي نعيشها اليومَ فإنما تدلّ على أن هناك تسيُّبا خطيرًا في مجتمعنا، أماكنُ الفساد مملوءةٌ بالناس، ومساجدنا تشكو العبادَ إلى الله، ومدينتنا المقدسة وفيها المسجد الأقصى يرفَع يديه بالشكوَى ويقول: أين المسلمون؟!
تذكّروا ـ يا عبادَ الله ـ أن مدينَتَنا كانت رائدةً في الحضارة الإسلامية، ويأتي إليها العُبّاد والزّهّاد والعلماء وطلَبَة العلم مِن كلِّ حدبٍ وصَوب، وإذا وصل الواحد منهم كانَ أوّل ما يسأل عن المسجد الأقصى، كان يسأل عَن العلماء العاملين الصالحين وعن حلقات علمهم، أصبح الناس الآن لا يعرِفون الطريق المؤدّية إلى الأقصى، وإن شئت فقل: انقطعتِ السبل إلى الأقصى، انقطعت الطرُق إلى دورِ العلم والمعرفة، وفتحت المقامِر وفتِحَت الملاهي على مِصراعيها.
عبادَ الله، الحقُّ ضائعٌ في هذه الأيّام، والإسلام ليس فيه محسوبيّة، ليس فيه شِقاق ونفاق، أَعلنَّا الوَحدة، فأين هي؟! فلسنا بحاجةٍ إلى كَلامٍ كثير، إنما نحن بحاجَة إلى بِناء النفوسِ وتَربيَتِها، ونَقولها بصراحة: نفوسُ المجتمع خَرِبة، تملك فوقها الغِربان، الهزائمُ تتوالى علينا؛ لأنّ نفوسنا ليست صالحة، لا تعرف المولى تبارَك وتعالى، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67]. فإذا أرادت أمّتنا اليومَ أن تعود إلى الحقّ فيجب عليها أن تقلِّم أظافِرَ الطغاةِ، إذا أرادت الفتحَ المبينَ فيجِب عليها أن تفتَحَ القلوب لذكرِ الله تبارك وتعالى، إذا أردتم أن تعيشوا حياة طيّبَة فابنُوا النفوس على طاعة الله ووَحدانيّته، ربّوا أولادَكم على طاعته، لا تترُكوهم يتسكَّعون في شوارعنا ويعاكسون بناتِنا وطالباتِ المدارس والجامعات، كفانا فَسادًا وإفسادًا، كفانا لهوًا ولعبًا وطُغيانًا، أوضاعُنا صَعبة، وأحوالنا مريرَة.
وأنتم ترون ـ أيّها المؤمنون ـ أنّ سلطات الاحتلال تواصِل فويتَ حملاتها على امتداد الوطن من اغتيالاتٍ واعتقالات واقتحامَات وترويعٍ للآمنين، غيرَ عابِئة بالتزامِ وتعهّد الفلسطينيين على مختَلف فصائلهم بالتهدِئة على الساحة؛ لعدم إعطائها ومن يدعمها ذرائع لاستمرار عدوانها.
فخلالَ الأسبوع الماضي استُشهد عشرة شهداء وأكثر من أربعين جريحًا، وتمّ اعتقال العشرات، وبلَغ الاستخفاف بالأعرافِ والمواثيق الدَّولية ومعاهدة جنيف الداعِيَة لحماية المدنيّين باستخدام المدنيّين كدروعٍ بشريّة خلالَ العمليات العسكريّة.
أيّها المسلمون، إسرائيلُ تعمَل إلى تصعيد الموقف بعد كلّ مبادرَة للتهدِئة أو للتسوِية، سواء أكانَت على الصعيد الداخليّ أو العربي؛ ليعكف مجدَّدا ويركِّز منطقَ سلام القوّة بدلاً من قوّة السلام والحقّ، وبمعنى أدقّ: إنّ أيّة خطوة للتسوية يجب أن تسبقَها خطوات من الإذلال والتنازلات المهينَة وقبول الأمر الواقع كما يريدون.
أيّها المسلمون، وليتَ أمريكا تغضّ الطرف عن انتهاكاتِ إسرائيل ضدّ شعبِنا فحسب، بل إنها تمعِن في الضغط عليه بوتيرةٍ واحدة وتنسيق تامّ لإخضاع بعضنا وابتزازه وتنازله عن ثوابته، فقد أعلنت أن القيودَ المصرفيّة على الأموال الفلسطينية ستبقى كما هي طالما أنَّ الحركة الإسلاميّة مستمرّة في سدّة الحكم، وفي الوقت ذاته تمنع أيَّ ضغط على إسرائيل للإفراج عن عوائدِ الضرائب المحتجَزة لديها لصالح السلطة، والتي تصل إلى أكثر ستمائة مليون دولار. وأنكى من هذا وذاك هو التزام القيادات العربيّة بالصمتِ إزاءَ هذه الانتهاكاتِ واستمرار الحصار الظالم، فماذا تريده أمريكا؟! وماذا يريد مجلس الأمن من شعبنا الصامِد الصابر في أرضه؟!
إنَّ أمريكا تعمل جاهدةً للالتفاف حولَ أيّة محاولاتٍ ترمي لإرغامِ إسرائيل بفكّ حصارها عن شعبنا، أو العمل على إنهاء احتلالها للأراضي المحتلّة، والإدارة الأمريكية لا تريد الضغطَ وفرضَ آراءٍ للوضع النهائي، ومعلوم أن قضايا الحلّ النهائي تشمل بحثَ قضية القدس وقضية اللاجئين.
لقد أرجأ الفلسطينيون خطأً بحثَ قضية القدس للمرحلة النهائيّة، ولا أحدَ يعلم متى ستكون هذه المرحلة، فإسرائيل استغلت الوقتَ والإرجاء، فسارَعت في إجراء التغييرات البوتغرافية لمحيط مدينتنا المقدسة وبناء المستوطنات وإقامة الجدار العنصري والبوابات الإلكترونية.
القدس ينتظرها مستقبل غامض أيها المؤمنون، فهي مشلولة الحركة التجارية والاقتصادية، مشلولة الحركة العمرانية الإسلامية، القدس تعاني من الحصار أكثر من أي منطقة أخرى، الضرائب الباهظة تثقل كاهل المقدسيين، واستمرار سياسة هدم المنازل وعدم منحهم رخص بناء إلاّ بشقّ الأنفس، وبتكاليف لا يقدر عليها إلا من هم أصحاب الأموال الطائلة، ومحاولات تسريب العقارات داخل البلدة القديمة وحولها لغير المسلمين، تفشّي حالات السرقة وترويع الآمنين واستخدام السلاح وعمليات القتل وانتشار المخدّرات في ظلّ غياب سلطة القانون، فمتى ندرك المخاطر التي نتعرض وتتعرض لها المدينة المقدسة؟! متى يدرك المسلمون أن القدس في خطر؟! لماذا هذا الصمت؟! لماذا هذا التخاذل والتباكي على هذا السلام؟! وأي سلام؟! سلام استسلام، الباطل من حولنا يتّحِد والحق معنا ونحن نفتَرق، الظالم يتحكّم في كل أمورنا ونحن نستجدي ولا مجيب، فأيّ مهزلة؟! وأي تخاذل؟! وأي واقع مزري؟!
وتذكّروا ـ يا عباد الله ـ أنَّ سببَ هزائمنا تفرّقُنا وهواننا وضعفُنا، فقد ورَد عن الصحابيّ الجليل ثوبان قال: قال رسول الله : ((يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعَى الأكلَة إلى قصعتها)) ، قال قائل: يا رسولَ الله، ومِن قلَّة يومئذ؟ قال: ((لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله في صدور عدوكم المهابة منكم، ولتعرفنّ في قلوبكم الوهن)) ، قال قائل: يا رسولَ الله، وما الوَهن؟ قال: ((حبُّ الدنيا وكراهية الموت)).
اللهم ارحمنا برحمَتِك الواسعة...
(1/5303)
إنجازان تأريخيان
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
17/4/1428
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنجازات تزرع الأمل. 2- إحباط مخطّط إرهابيّ خطير. 3- قضية أمن بلاد الحرمين. 4- تهنئة الولاية بهذا الإنجاز الأمني الاستباقي. 5- استنكار المسلمين لهذا المخطط الإرهابي. 6- ضرورة تضافر الجهود في مواجهة الفكر الضال. 7- الاتفاق والمصالحة بين السودان والتشاد. 8- الإشادة بدور خادم الحرمين في إرساء السلام والوئام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسِي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبالتَّقوى الخروجُ مِن المضائِق والنجاةُ من المآزق والسلامةُ منَ الفتن والأزمات والفرقانُ الحقّ عند الخلافاتِ والمدلهمَّاتِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29].
أيّها المسلمون، في عالَمٍ يموجُ بالاضطرابِ والاختلافات وتعصِف به المخاوفُ والتحدِّيات، وفي الوقت الذي تخيِّم فيه سحُبُ الأسى والمآسي على أطروحاتِ كلِّ غيورٍ نطَاسِي ينبَلِج في الآفاقِ الواسِعة فلولٌ من الآمالِ العريضة والإيجابيّات الشامخة، برزت خلالَ الأيام القليلة الماضية، تزرع الأملَ في النفوس، وتضيء قناديلَ الضياء اللامعة والأنوار الساطعة؛ لتبدِّد ظلماتِ الشّكِّ والحيرة، وتعيدَ الثقةَ للأمة في مقوِّماتها ورِجالاتها وإنجازاتها.
معاشرَ المسلمين، حدثان عظيمان وموقِفان كبيران بل ومنعطفَان إيجابيّان تأريخيان جديران بالوقوف عندهما للتأمُّل والتذكير والإشادةِ والتَّبصيرِ.
أمّا أوّلُهما فهو ما أولاهُ الباري جلَّ في علاَه من نِعَمٍ وآلاء على هذهِ البلادِ المباركة، تتمثَّل في توالي الإنجازاتِ الأمنية وتتويج النَّجاحات بالضَّرباتِ الاستباقيّة وإحباط مخطَّط من أكبر المخطَّطات الإرهابية. فللَّه الحمد أوَّلاً وآخِرًا وباطنًا وظاهرًا، نجهَر به عاليًا عند تجدُّد كلِّ نعمة واندِفاع كلِّ نِقمة، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11].
لقد كتَبَ الله الأمنَ والأمانَ لهذه البِلادِ المحروسةِ مهمَا حاول خَفافيشُ الظلاّمِ النيلَ مِنها أو تعكيرَ صَفوِ أمنِها وأَمانها، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة: 126]، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين: 3]، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4]. فالّذين يسعَونَ لزعزَعَة أمنِه واستقرارِه مصادِمون لنصوصِ الشريعةِ، معارضون لحِكمَة المولى سبحانه مِن جعله واحَةَ أمنٍ وأمان ومصدَرَ خير ووئام وسلام.
لا يضرُّ البحر أمسَى زاخِرًا أن رمى فيه غلامٌ بحجَر
كناطحٍ صخرةً يومًا ليوهِنَها فلم يضِرْها وأوهى قرنَه الوعِلُ
ومع أنَّ هذا الحدثَ الإرهابيّ الأرعنَ يختَلف عن سَوابِقِه من حيث التنظيمُ والتّخطيط والخطورَة، إلاّ أنّه جُوبِه بفضلِ الله بأكثَرَ نجاحًا وشَجاعة وجاهزِيّة؛ ممّا يجعل المسلمَ الصادق يلهَج بالشكر والثناء لله سبحانه على ما أنعَم به من ردِّ كيد الكائدين إلى نحورِهم وصدِّ مكرِ الماكرين، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81].
ثم نُشيد بهذا الإنجاز الأمنيِّ الاستِباقي الباهِر، ويَزفّ التَّهنئةَ المعطَّرة بأريج الدعواتِ الصالحات إلى مقام الولايةِ المباركة والأجهزة الأمنيّة الموفَّقة على ما تحقَّق من ضبطِ وإيقافِ تلك الخلايا وعناصِرِها المفسِدة، مستبقين ما كانَت تهدف إليه من مسالِكَ عدائيّة وتصرّفات آثمَة تقصِد إلى زعزَعة أمنِ هذه البلاد المبارَكَة واستقرارِها والعَبَث بمكتَسَباتها وثرَوَاتها وترويع الآمنين فيها.
والمسلمُّ الحَقّ إزاءَ ذلك كلِّه لا يرتاب مطلَقًا في استنكار تلك التصرّفاتِ العبثيّة التخريبية ممّن قَلَبوا لبلادٍ آوَتهم وأرضٍ ربَّتهُم ظَهرَ المجَنّ، فمثَّلوا ظاهرةَ الإرهاب الأرعن والفكرِ التخريبيِّ الأسوَد الذي تجلّى في هذه الحادِثة في سربالِ زعامةٍ منكرة وبَيعَة مأفونَة عند أشرف بُقعة وأطهَر مكان، يأمَن فيه حتى الطيرُ والحَيوَان والجمَاد، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97]، فكيف بالإنسان؟! بل وكيف بالمسلم؟! فيا للهِ! على أيِّ بَيعَة ضالّةٍ اجتَمَعوا؟! أعَلى التكفير والتّفجير والتّخريبِ والتّدمير؟! أيبايِعون على سَفكِ دماءِ المسلمين وترويعِ الآمنين والعَبَث بمقدَّرات البلاد ومكتسباتها؟! نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى. أليس في هذا افتيَاتًا على الوِلاية ونَقضًا للبيعةِ الشرعية الصحيحة؟! والمصطفى يقول: ((من خلع يدًا من طاعة وفارَق الجماعة لقِيَ الله يومَ القيامَة ولا حجّةَ له)) خرّجه مسلم في صحيحه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولايةُ أمر الناس مِن أعظم واجباتِ الدين، بل لا قيامَ للدين إلاّ بها؛ فإنَّ بني آدم لا تتمّ مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بدّ عندَ الاجتماعِ مِن رأسٍ؛ لأَنّ الله أَوجب الأمرَ بالمعروف والنهيَ عنِ المنكر، ولا يَتِمّ ذلِك إلاّ بِقوّةٍ وإمارَة" انتهَى كلامه رَحمه الله.
ولقد كان السلفُ الصالح رحمهم الله يولُون هَذا الأمرَ اهتمامًا خاصًّا، لا سيَّما عند حُلول الفِتن؛ نظرًا لما يترتَّب على الجهل به أو إِغفاله من الفسادِ العريض في البلادِ والعباد والعدولِ عَن سبيل الهدى والرّشاد.
ولهذا فإنَّ كلَّ غيورٍ على أمنِ البلاد والعباد ليثمِّن تلك الإجراءاتِ الأمنيّة الصارمة لاستئصال شأفَةِ هَذا الفِكرِ المنحرف المصادِمِ للدّين والفطرة، المخالِفِ للشّرع والعقل والمنطق.
إخوةَ الإيمان، إنَّ مواجهةَ هذِه الثّقافةِ العدائيَّة وهذه المناهِجِ الدمويّة ومجابهةَ الأفكار المنحَرِفة والمسَالك الضالّة البعيدَة عن الفهمِ الصحيح لشريعَتِنا الغرّاء والخارِجَة عن كلِّ الأعرافِ الإنسانيّة لا تتوقَّف عند اتخاذِ التدابِير الأمنيّة الباسِلَة والإجراءات الصَّارِمَة فحَسب، بل لا بدَّ مِن تضَافُرِ الجهود وتكامُل الأَدوار بَين مؤسَّسات المجتمع كلِّها لدَحضِ هذه الظاهرةِ الخطيرة، بجانِبِ وقوفِ جميعِ أفرادِ المجتمع صفًّا واحدًا وعينًا ساهِرَة لأمنِ هذا البلدِ وأهلِه والمقيمين فيهِ.
فالتديُّن والوَحدةُ الوَطنيّة لُحمَةٌ وَاحِدَة لا تنفَصِل ولا تتجزّأ، والنسيج الاجتماعيُّ المتماسك المستَنِد على المنهج الإيمانيّ الصحيح هو أنجَع وأمثَلُ العوامِلِ للتصدِّي لكلِّ ما يبيِّت له المغرضون الذين لفَظوا أنفَاسَهم بحمد الله، وراهَنوا وهم يقومُون بإنفاذِ عمليّاتهم الإجراميّة، وتيَّقنوا بفضلِ الله أنهُم يصطَدِمون بصخرةِ التلاحُم الصّلبَة التي تجمَع الرعاةَ والرعيّة بصورةٍ نموذَجِيّة مثلَى، لا سيَّما في الأزَماتِ الداخليّة والخارجيّة، كما خَسِرت رِهانها أمامَ لُحمةٍ ومنظومة أمنيّة فريدة تحوَّل فيها الجميع إلى رجالِ أمن بواسِل يسهَرون على أمن بلاد الحرمين الشريفين حرَسَها الله.
أمّةَ الإسلام، لقد أثبَتَت الفِئة العزيزة علينا جميعًا فِئةُ رجالِ أمننا البواسل الذين يسهَرون لينامَ الناس ويتعبون ليرتاح الناس، أثبتوا بما لا يدَع مجالاً لمشكِّكٍ ولا مزايد حين صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه وبرُّوا بقَسَمهم أمامَ الله ثمّ أمام ولاة الأمر والشَّعبِ المسلم أنهم يقدِّمون الأنموذجَ المتميِز الفريد لحماية مقدَّسات المسلمين والتصَدّي لكلِّ مَن تسوِّل له نفسُه العَبثَ بأمنِنا والمسَاسَ به.
ولكنَّ الدورَ والمسؤولية ينبغي أن يتعدَّى لكلّ مواطنٍ ومقيمٍ ليَكون رَجلَ أمنٍ يَسعى لِحرسِ الأمنِ على هذه البلاد المباركة، فالدّعوة موجّهةٌ لكلّ أفراد المجتمع أن يَعوا دورَهم وواجبَهم الأمنيّ في عدمِ التساهل مع مثلِ هؤلاء عملاً بقوله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2].
وهنا تأتي المسؤوليّة المشترَكَةُ في عيونِ الجميعِ وحُسن التِحامِهم مع ولاتهم خدمَةً لديننا وحفظًا لبلدنا، فهذه المسالِكُ المدمِّرَة مِن فِئةِ الانحِراف والضَّلال إخلالٌ بالدين والأرضِ والعِرض والإنسانِ والاقتصاد والمكتَسَبات وكلِّ مقوِّمات الحياة، كما أنّه يجب توظيف كلِّ الطاقات واستثمارُ كلِّ الإمكانات واضطِلاع كافّةِ القَنَوات في رِعايَة أمنِنا والحفاظِ على مكتَسَباتِنا، البيتُ والأسرة، المسجِد والمدرَسَة والجامِعَة، وسائلُ الإعلام وكلُّ المناشط والفاعليّات، يقظَةً وتعاونًا وتحذيرًا من كلِّ سلوكٍ مريب أو تصرّف مشبوه، فلا تعاطفَ ولا تستّرَ ولا تهاونَ، بل يقظَةٌ وحَزَم ونباهَة، لا يستغفِلُها بَراءَةٌ ساذجَة أو حُسنُ نِيّة مجرَّدة.
والدعوةُ موجَّهة لكل أبنائنا وأحبابِنا وشبابنا أن يتنبَّهوا لخطَر هذه المسالك المنحرفة والأفكار الضالّة ومَن يقِف وراءها، فقد سقَطَتِ الأقنعة بحمد الله، وبان المستور، ولم يعد خافيًا هذا الأمرُ على كلِّ ذي عَينَين.
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وكونوا جميعًا يدًا واحدة وعينًا ساهرة لأمنِ بلادكم ومكتَسبَاتِكم، واللهَ اللهَ في الثباتِ على منهَج الوسطية التي اختارَها الله لَكم في قوله سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143]، فلا غلوَّ ولا جَفاءَ.
وقل للعيون الرُّمد: للشَّمس أعيُنٌ سِواكِ تراها فِي مغيبٍ ومطلِعِ
وسامِح عيونًا أطفأ اللَّه نورَها بأهوائها لا تستفيقُ ولا تعِي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
واللهُ المسؤولُ أن يحفظَ بلادَنا وسائرَ بلاد المسلمين من كيدِ الكائدين وعُدوان المعتدين، وأن يحفَظَ علينا دينَنا وأمنَنا وعقيدتنا وقيادتَنا، وأن يَزيدَ رجالَ أمنِنا قوّةً وسدادًا وتوفيقًا ونجَاحًا، وأن يحسِنَ جزاءَهم ويُضاعف مثوبتَهم، إنه خَير مسؤول وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيِّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنه كان غفّارًا، وتوبوا إليه إنّه كان توابًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، ألَّف بين قلوبِ المؤمِنين فأصبحوا بنِعمتِه إخوانًا، والصّلاة والسّلام الأزكيان الأشرَفان على الأسوَةِ الحسنة الذي جعَلَ الوحدةَ لأهل الإيمان عُنوانًا، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آلِه الأطهار وصحابته الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقَب الليل والنهار.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا ذاتَ بينكم، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1].
معاشرَ الإخوة في الله، وثمَّةَ حدث ثانٍ ومَوقفٌ تأريخي آخَر، جديرٌ أن يُذكَر فيشكَر، لا زالَت ذِكراه نديّةً وآثارُه عَطِرةً شجِيّة، إنّه موقف الأخوَّةِ والاتفاق والمصالحة والوفاق الذي حصَل في رياضِ الوحدة والتوحيد بين إخواننا الأشقّاء في جمهوريّة السودان الشقيقة وجمهوريّة تشاد العرِيقَة، في رعايةٍ تأريخيّة موفَّقة من لدن وليِّ أمر هذه البلاد المباركة خادِمِ الحرمين الشّريفين، لا زالَ مكلوءًا مسدَّدًا ومِن الله موفَّقًا مؤيَّدًا.
إنَّ أمَّتَنا وهي تسيرُ في اللّيالي الداجيَة وتغدو على صَفيحٍ ساخن هادِية يُنصِت التاريخُ ليسجِّل في سجلِّ الوِفاقِ والاتِّفاق أنصعَ شهادة وأسمى رِيادة، ويسَّمَّعُ الكونُ ليدبِّجَ ما ناف عن العادَةِ تلك المبادرَة الكريمة الأثر الساطعة الغُرَر التي استعلَنَ فيها شامخًا جهيرًا قولُ الحقِّ تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، وقولُ المصطفَى : ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفهم كمثَلِ الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحمى)) خرجه الشيخَان من حديث النعمانِ بنِ بشير رضي الله عنهما.
لقد جاءَت هذه المبادرةُ التأريخيّة لتطوِيَ صفحةً مؤلمة طالمَا أرَّقتِ الغيورين، ولتكونَ بَلسَمًا يشفِي صدورَ المؤمنين، فنشَرَت تلك الوقفةُ الإيمانيّة الأخويّة الشجاعة الحقَّ والحكمة بين الفُرَقَاء، وزَرَعتِ البسمةَ على شفاه الأوِدَّاء، فآضوا مِن العَداءِ إلى الإخاء، ومِنَ الشَّحناء إلى الصَّفاء، ومن الجفاء والافتِراق إلى التسامح والوِفاق، لسان حالهم:
بحبل العروة الوثقى اعتَصَمنا فلا عاشَ المخالِفُ والكذوب
إنَّه حدَثٌ تاريخيّ انتَشَت برحيقه أمّةُ الإسلام، وبارَكَه دُعاة الوِفاق والسّلام، وهشَّ له رِجال السِّلم والوِئام، لم يَكُن عَوضَ طَيف خَيال أو عارضَ حال، إنما صدر عمَّن يُتَوَّج بجَدَارَةٍ في رِيادَةِ الإصلاحِ السّياسيِّ الإسلاميّ المعاصر، مَن شيَّعت قلبَه المفعَمَ العقيدَة وحقوقُ الأخوَّة الإيمانيّة الوطيدة، فسعى لإصلاح الفُرَقَاء في العراقِ وفلسطين ولبنان، وها هو يومَ أمسِ يَرعَى هذه المصالحةَ التأريخيّة العظيمة، دونَ ضَجيجٍ إعلاميِّ وعَجيجٍ فضائيّ، بل بكلِّ ثِقةٍ واقتدار، ودون مِنّة وزِرايَة، بل بإيمان وغَيرة على قضايا الأمّة، في صفحة ناصِعَة من سجِلِّ الدبلوماسيّة الإسلاميّة السعوديّة المتألِّقَة في حَلِّ الأزمات، ممّا بدا معه ولله الحمد والمنّة آثارُ الوِفاقِ ومآثرُه وإيجابيّاته ومفاخِره، اتِّفاقٌ بين الأحِبّاء، وصُلحٌ بين الأشِقّاء، وحَقنٌ لزاكِي الدماء، وتفرّغٌ للإعمَارِ والبناء، وإقالَةٌ للعاثِر، وإشاعةٌ للمآثر، وإذابةٌ للجليد، في وئامٍ صادق فريد ينتَظِم إخوانَنا في سودانِ العراقةِ والإسلامِ والحضارة والتأريخ وتشاد البَلَدَين المسلِمَين العريقَين الجارَين صفًّا واحدًا، يسُرّ النواظِر كتألُّف الزّهرِ الناضِر.
لُغةُ الوفاء شريفةٌ كلماتُها فيها عن الحبِّ الأصيل بيان
إننا من مِنبر المسجِد الحرام لننادِي أمّةَ الإسلام ودعاةَ السلام بأنَّ هذا الوفاق والتعاهدَ والاتفاق والتصالحَ والميثاق لهو رسالةٌ نورانيّة للعالم أجمع والإنسانيّة قاطبة، نقول: هذا دينُنا، دين التسامُح والصّفاء والتصالح والإخاء، هذه حضارتُنا، هذا تأريخُنا، فنحن دعاةُ إسلامٍ وسلام ورسالةٍ ومُثلٍ وقِيَم ووئام.
نعم، إنَّ في هذا الإنجازِ الأخويِّ الباهِر إيذانًا جليًّا ظاهِرا بانبِلاج فجرٍ جديد في حلِّ قضايانا المعاصرة مهما ادلهمَّت الخطوب وكثرت الكروب، إنها جهود عمليّةٌ تطبيقيّة ووَثَبات فعليّة إيجابية تُعَدّ أنموذجًا مبجَّلاً لحلِّ سائر قضايا أمَّتنا عن طريق الإصلاح والوِفاقِ والائتِلاف، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].
ولا يسَع المسلمَ الغيورَ إلا أن يدعوَ ويهنِّئ من كَان سببًا بعدَ الله في رِعايةِ هذا الوِفاق المبارك الذي وفَّى بحقوقِ الأخوة وأتمَّ وانتشَل قضيّةَ إخواننا من بركان ألمَّ، فبارك الله مساعِيَه، وضاعَفَ مثوبَتَه، وبُوِّئ عن صالح إمامَتِه من الجِنان منازلاً، ولا زالَ لسائر قضايا أمَّتنا كَميًّا مُنازِلاً.
كما أنّنا باسمِ الشّعوبِ الإسلاميّة جميعًا نبارِك لإخواننا في السّودانِ وتشاد حُكومةً وشعبًا هَذَا الاتِّفاقَ التأريخيَّ العظيم والإنجازَ الإسلاميّ الكبير، ونذكِّر بعدَ أن أتمَّ البارِي مِن قَضيَّتهم مواقعَها وجَلّى مواقفَها وأنهَضَ كَابِيَها وأصلَحَ نابِيَها يأتي شأنُ الحفاظِ على هذا الاتِّفاق والثَّباتِ على بنودِ هذا الِوفاق وتفعيلِها واقعًا عمليًّا محسوسًا وعلى أرض الواقِع مطبَّقًا ملموسًا، وهذا الظنُّ بهم بحمد الله، وهم أهلُه بفضل الله، فاللهَ اللهَ بالثبات ـ يا أحبَّتَنا ـ على مبدَأ الوِفاق والاتِّفاق.
هذا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الرحمةِ المهداة والنِّعمة المسدَاة، نبيِّكم محمّد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيِّ المصطفَى والرّسول المجتبى والحبيبِ المرتَضَى نبيِّنا محمّد بن عبد الله...
(1/5304)
المرأة ومسؤوليتها في الأمة
الأسرة والمجتمع
المرأة
علي الذهبي
الدار البيضاء
مسجد الفداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة دعوة تحرير المرأة. 2- استهداف المرأة في المغرب. 3- خطورة فساد المرأة المسلمة. 4- وجوب منع أسباب الفتنة. 5- عناية الإسلام بالمرأة. 6- المرأة في المجتمعات الغربية. 7- إبطال دعوى المساواة بين الرجل والمرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد نادى أدعياء التحرر بتحرير المرأة، لكن تحريرها من الفضيلة والشرف والحياء، وهتفوا بالعطف عليها، لكنهم قسَوا عليها أشدَّ من وائدي البنات في الجاهليّة الأولى، وأعلنوا مساواتها المطلَقَة فكلّفوها ما لا تطيق. زعموا تحريرها فاستبعدوها، وادَّعوا العطفَ عليها فأهلكوها، وزعموا إكرامَها فأهانوها، سجنوها بأيديهم، ثم وقفوا على باب سجنها يبكون ويندبون شقاءها.
إن المرأة اليوم في بلادنا مستهدفة بمؤامرة نفِّذَت فصولها في بلاد مسلِمة، فأنتجت فوضى أخلاقيّة وأخلاقا منهارة، وتجرّعت المرأة هناك غصَصا وآلاما، فبدأت تفكّر في أمرها وتسعى للعودة لفطرتها.
لقد أصبحنا ننام ونستيقظ على خطوات عمليّة تصحبها حمَلة إعلاميّة، هدفها إخراج المرأة من بيتها ولو بلا هدف، وزجّها في مجتمعات الرجال تحت أيّ شعار، والغاية أن تتجرّد من حيائها وحجابها لتصبح ألعوبة بأيديهم وأداة لتحقيق مآربهم، فتنهار القيم، وتسقط الأخلاق؛ ليسقط بعدها كل شيء.
أيها المسلمون، إنّ المرأةَ إذا انهارتْ أخلاقُها وشذَ سلوكُها وآثرت حياةَ التبرج والسفور والعبث والاختلاط على حياةِ الطُهر والعفاف وانخدعت بالأبواق الماكرةِ والأصوات الناعقة فقد انهارت من ورائها الأمةُ، وانحلت الأسرةُ، وانتشر الفسادُ، وعمّت الفتنُ، وضاعت الفضائلُ، وحلّت النكباتُ، وكثرت الجرائمُ والموبقات؛ لأن أكثر ما يفسد الأخلاقَ تبرجُ النساءِ وإظهارُ مفاتنهن أمام الرجال، عن أسامةَ بنِ زيدٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُ على الرجال من النساء)).
أيها المسلمون، إن الواجبَ على المسلمين وخاصةً ولاتهم ومسؤوليهم هو منعُ أسباب الفساد قبل استفحاله، والنهيُ عن المنكر، والأخذُ على أيدي السفهاء، ومنعُهم من خرق سفينة المجتمع، قبل أن تصيبَ الفتنُ والعقوباتُ الظالمين وغيرَهم، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25].
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نَزَّلَ الكتابَ وهو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيّد المرسلين وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172].
معشرَ المسلمين، من الجوانب التي تولاّها الإسلام بالعناية والرعاية وأحاطها بسياج منيع من الصيانة والحماية الجانبُ المتعلّق بالمرأة وشؤونها ومسؤوليّتِها في الأمة ومكانتِها في المجتمع وما لها من حقوق وما عليها من واجبات؛ لأن المرأةَ هي التي يقوم عليها عمودُ الأسرة، فإذا طابت نشأتُها واستقامت تربيتُها وصلح حالُها كانت الأمةُ رفيعةَ المكانة عاليةَ القدر؛ لأن المرأةَ هي الأمُ الرؤوم المشفقة والزوجةُ المؤنسة والأختُ الكريمة السارة والبنتُ اللطيفة البارة.
أيها المسلمون، لقد أعطى الإسلامُ المرأة حقوقَها كاملةً، وهي مكرمةٌ معززة، مصونةٌ من الابتذال، ومحفوظةٌ أنوثتها من الاستغلال، فالإسلام لا يستغلّ أنوثة المرأة في التخلّي عن عفتها وطهارتها مقابل تشغيلها في الأعمال والوظائف، كما هو الحال في الحضارة الغربية.
إن المرأة في المجتمعات الغربية بل وفي بعض الدول العربية مع الأسف إذا تزوّجت فإنها تفقد اسم أبيها وعائلتها الذي هو عنوانُ هويّتها واستقلالُ شخصيتها، وتُلحَق بعائلة زوجِها، وهذا أمر بالِغ الدّلالة على حقيقة تبعيّة المرأة وذلّتها عند الكفّار وعند أتباعهم الموالين، أما في الإسلام فالمرأة لها هويتُها المتميزة وشخصيتُها المستقلّة، سواء قبل الزواج أو بعده.
أيها المسلمون، إنّ المساواةَ المطْلَقَةَ بين الرجل والمرأة جمعٌ بين مختلفين، ولقد فرق الله بينهما في قوله: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى [آل عمران: 36]، فتحميلُ المرأة أعمالاً هي من خصائص الرجال يعتبر مصادَمةً للفطرة وإفسادًا للمرأة وجنايةً على المجتمع؛ إذ للرجل من الوظائف والخصائص ما يليق به وللمرأة كذلك، فمواهبُ الرجل واستعداداته الفطرية لا تماثل مواهب المرأة، ولا تطابق استعداداتها الفطرية، فالرجل في الغالب يمارس مهنتَه خارجَ المنزل، وهو مكلف بالسعي لطلب الرزق وعمارة الأرض؛ لينفق على أهله، ويوفر لهم كل مطالبهم واحتياجاتهم الدينية والدنيوية؛ من التعليم والإرشاد وإيجاد السكن وتوفير اللباس والغذاء والدواء، بينما المرأة معفاة من هذه المطالب والتكاليف؛ لتتفرغ لمهمتها الأساسية وهي رعاية البيت والعناية بالشؤون الداخلية من تربية وتوجيه وخدمة، ليكون البيت سكنًا وراحة، مع ما تتحمّله من حمل وإرضاع وعناية بالأطفال وغير ذلك مما يتعلق بها مما لا يقوم به غيرها.
فعلى المرأة المسلمة أن تحذرَ مما يكتبه متّبعو الشهوات ومثيرو الشبهات الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وعليها أن تستمسِك بالدين الحق، وأن تعتصمَ بالله تعالى، وأن تأخذ العبرة من أحوال الكفار والكافرات. يقول أحد الكتاب الكفار لما رأى من تبرّجِ النساء عندهم وما حصل من الشّرور والمشاكل من جراء ذلك وما علمه عند المسلمين من سلامة من ذلك بسبب تحفظ المسلمات، قال: "إني أغبط المسلمين على صونهم لنسائهم".
نسأل الله أن يحفظنا ونساءنا من كل بلاء وفتنة، وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح وشكرِ كل نعمة.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك واخذل المشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين...
(1/5305)
والله خير الرازقين
الأسرة والمجتمع, الإيمان
خصال الإيمان, قضايا المجتمع
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
17/4/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- امتنان الله تعالى على عباده بالرزق. 2- تقدير الله أرزاق العباد. 3- اهتمام الناس بطلب الرزق. 4- الرزق بيد الله وحده. 5- الأمر بالتكسب وذم البطالة. 6- النفع والضر بيد الله. 7- كرم الله وعطاؤه. 8- الأمر بتذكر نعم الله وشكرها. 9- مفاتيح الرزق. 10- الذنوب تنقص الرزق. 11- حقيقة الغنى. 12- وعيد قتل المسلم بغير حق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتَّقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فالتقوى أجملُ ما أَظهَرتم وأكرمُ ما أَسرَرتم.
أيُّها المسلمون، خَلَق الله الخلقَ وأَجرَى فِيهم أمرَه، وقضى فيهم بحكمِه، وامتنَّ على بَني آدمَ بالرزق والتكريم: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70]، وجَعَل الرِّزقَ بِيَده وحدَه، وأسبغه على خلقِه، وقسمه بينهم بحِكمَتِه، كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء: 20]. وجَعَله من آياتِ وحدانيته في الكونِ، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل: 64].
قدَّر أرزاقَ العبادِ وهَدَاهم إليها، وهَدَى مَن يَأتي بها إِلَيهم، فأعطى من شاءَ بفضلِه، ومَنَع من شاء بعِلمِه وعدلِه، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل: 71].
وليس ضِيقُ الرزق هوانًا، ولا سَعَتُه فضيلةً عِند الله، قالَ عزَّ وجلَّ: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر: 15-17]، بَل عَطَاؤُه ومَنعُه امتحانٌ وابتِلاء، والإكرامُ إنما هو بالطاعةِ، والهوانُ بالمعصيةِ.
وطَلبُ الرِّزق ممّا أقضَّ مَضاجِعَ بعضِ النِّاس، فأصبَحَ الصَّغير ينشدُه والكَبير يطلُبه، وأحاديثُهم عَنه وحولَه؛ مِن طلب مالٍ وولد وأهلِين. والرِّزقُ ليس باجتهادٍ وكدٍّ فحَسب، إنما هو فضلٌ مِنَ الله تولَّى قِسمَتَه بين عباده، لَن يأخُذَ أحدٌ مَا لم يُقدَّر له، ولن يُحرَمَ عَبدٌ ما كُتِب له، قال سبحانَه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32].
يغني ضعيفَ الحواسِّ والبَدَن، ويُفقِر قوِيَّ الجَسَد والمدارك، يختارُ لهم مِنَ الرِّزق ممّا فِيه صلاحُهم وابتلاؤُهم، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: 27].
وما مَنَع عَبدَه إلاّ ليُعطِيَه، ولا ابتلاه إلا لِيُعافِيَه، لا يمنَعُ عبده المؤمن شَيئًا من الدنيا إلاّ ويُؤتيه أفضلَ منه، ولا يغلِق عليه بابًا إلاَّ ويَفتَح له أبوابًا أخرَى أنفَع له منه. وهو سبحانه ضَمِن رزقَ العبد، وجَعَل لرزقِه أسبابًا أوجَبَ على العبد فِعلَها مع توكُّل القلبِ عَلَى الله في حُصُولها.
والإسلام يأمر بالعمل ويحثُّ عليه، وينهى عن الكسل ويزجر عنه، قال عليه الصلاة والسلام: ((لأن يأخُذ أحدكم حَبلَه فيحتَطِب على ظهره خيرٌ مِن أن يَأتيَ رَجلاً أعطاه الله مِن فضله، فيسأله، أعطاه أو مَنَعَه)) متفق عليه.
ومَن فعَلَ السّبَبَ وعلَّق أطماعَه بالبَشَر في تحقيقِ مَأمولِه خُذِل، قال سبحانه: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت: 17]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "من رجا رزقًا من غير الله خذلَه الله".
والخلق لا ينفعون إلاّ بأمر الله، ولن يضرّوا إلاّ بإذن الله، قال النبي : ((واعلم أنَّ الأمّةَ لو اجتمعت على أن يَنفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي. قال الفضيل بنُ عياضٍ رحمه الله: "من عرَف الناسَ استراح" أي: أنهم لا ينفعون ولا يضرّون، فما دامَ الأجلُ باقيًا كانَ الرزق آتيًا، ولَن تموتَ نفسٌ حتى تستكمِلَ رِزقَها، قال بعض السلف: "ما اهتممتُ بالرزق ولا تعِبتُ في طلبه منذ سمعت الله يقول: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22].
كَم مِن سَبَب سعيتَ فيه فقُدِّر لغيرك، وكم مِن أمرٍ سَعى فيه غيرُك له فقدِّرَ لَك، فتوكَّل على الله في الزِّرق، واملأ قَلبَك من الثقةِ به ورجائه وحُسن الظنِّ به، قال عليه الصلاة والسلام: ((قال الله تعالى: أنا عِندَ ظنِّ عبدي بي)) متفق عليه.
ومَن فوَّضَ أمرَه إلى اللهِ كَفاه مَا أهمَّه وكَشَف عنه ما أغمَّه، وهو سبحانه الكريمُ المتفضِّل على عِبادِه بالإنعامِ والإكرامِ، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53]، خَزائنُ الأَرزاقِ بِيَده وَحدَه، ويمينُه ملأَى لا تَغيضُها نفقَةٌ سحَّاء اللّيل والنَّهار، يَقولُ عليه الصلاة والسلام: ((أَرأَيتُم ما أنفَقَ منذ خَلَقَ السّموات والأرض، فإنّه لم يَنقُص ما في يمينه)) متفق عليه.
وكَرَمُه وعطاؤُه دائِمٌ لا انقِطاعَ له، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96]. وهو سبحانه الرزاق ذو القوَّة المتين، أرغَدَ على قرًى وأمصار بنِعَم تتدفَّق إليها، قال سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [النحل: 112]، وتفضَّل على سَبَأ بجنَّتين عن يمين وشمالٍ تَسرّ الناظرين، وأنزل على بني إسرائيلَ وهم في أرضٍ جرداءَ أنزل عليهم المنَّ والسلوى وقال لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [طه: 81]، ومنَحَ أيّوب جرادًا من ذَهَب بعد طول بلاءٍ وشِدّة عناء، وألان لداود الحديد، وسخَّر معه الجبالَ تؤَوِّبُ معَه والطّير، وعلَّم سليمانَ مَنطِق الطّير، والرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص: 36]، وقوَّاه بجنودٍ مِن إنس وجن وطير، ووهبه ملكًا لن يَنالَه مَن بعدَه، قال عليه السلام: وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 16]، قال الله له: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 39]، ومكَّن لذي القرنين في الأرض وآتاه من كلِّ شيء سببًا، وساق إلى مريم رزقَها وهي في مُصلاَّها.
وضَمِن رزقَ الصغيرِ والكبير، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام: 151]، لم يدَع مخلوقًا إلاّ ورَزَقه، وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت: 60]. قال ابن كثير رحمه الله: "يبعَث إلى كلِّ مخلوقٍ مِنَ الرِّزق ما يصلِحه".
وكَتَب سبحانَه رزقَ كلِّ عبدٍ وهو في بطن أمِّه قبل نفخِ الروح فيه، وجعَل الرزقَ يطلب صاحِبَه كما يطلبه أجلُه، وسيأتي ما قُدِّر له على ضعفه، ولن ينال ما لم يُقدَّر له مع قوَّتِه، ولو هرب من الرزق لأدركه كما يدركه الموت.
تابَعَ جلّ وعلا على العِبادِ أرزاقَهم، وأمرهم بتذكُّر أفضالِه عليهم، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [فاطر: 3]، فأيقن الرسُلُ بذلك، وقال موسى عليه السلام: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، وقالت مريم عليها السلام: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 37].
وأغدق آلاءَه على عباده، فأقرَّ الجميعُ بأنه هو الرزاق وحده، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ [سبأ: 24]. قال ابن القيم رحمه الله: "وتأمّلْ ظهورَ اسمِ الرّزّاق في الخلِيقة وكيف وَسِعَهم رزقُه ترَ مَا تعجَبُ منه العقول". فلا تُشغِل همَّك بما ضُمِن لك من الرزق، فرزقُك لا يغدو لغيرِك، ورِزقُ غيرك لن يصِلَك، إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج: 70]، لا يأكُل أحدٌ رِزقَ أحَد، ولا يزاحمه فيه، قال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8]، قال الحسنُ البصريّ رحمه الله: "لما علِمتُ أنَّ رِزقِي لَن يَأكلَه غَيري اطمَأنَّ قَلبي".
والدّعاءُ بابُ الرزقِ المفتوح، أمر الكريم عبادَه بمناجاتِه في الرزق لينالوا إِنعامَه، فقال سبحانه: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32]، وأمرهم أن يَسأَلوه حتى اللّقمَة والكسوَة، قال عليه الصّلاة والسّلام: ((قال الله تعالى: يا عبادِي كلّكم جَائِعٌ إلاّ مَن أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلّكم عارٍ إلاّ من كسوته فاستكسوني أكسكم)) متفق عليه.
فالتَجَأ الأنبياء إلى الله لينالوا فضلَه ورزقه، فقال عيسى عليه السلام: وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة: 114]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اللّهمّ إني أسألك علمًا نافعًا ورِزقًا طيِّبًا وعمَلا متقبَّلاً)) رواه ابن ماجه، وكان النبيّ يعلِم من أسلم أن يقولّ: ((اللّهمّ اغفر لي وارحمني واهدِني وارزقني)) رواه مسلم.
قال شَيخُ الإسلامِ رحمه الله: "ينبغي للمهتَمِّ بأمر الرِّزقِ أن يلجَأَ فيه إلى اللهِ ويدعُوَه".
ومن أصلَح آخِرتَه صلحت دنياه، ولا يُنال ما عندَ الله إلا بطاعتِه، قال جلّ وعلا: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [نوح: 16]، قال أبو الدرداء : (صلاحُ المعيشة من صلاحِ الدين، وصلاح الدين من صلاحِ العقل، وبالطاعةِ يُرزق العبد)، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الكافرَ إذا عمِل حسنةُ أُطعِم بها طعمةً مِنَ الدنيا، وأمّا المؤمنُ فإنَّ الله يدَّخرُ له حسناتِه في الآخرة، ويُعقِبُه رِزقًا في الدنيا على طاعته)) رواه مسلم.
والمتَّقِي يُرزَق من حيث يحتَسِب ومن حيث لا يحتَسِب بأسبابٍ مُباحة، ويكون كَسبه طيِّبًا سهلاً، قال عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]. وغَيرُ المسلِم قَد يُرزَق لكن بتكلُّفٍ أو بأسبابٍ محرَّمة، وتُنزَع البركةُ من ماله.
والاستغفارُ يُكثر الأموالَ والأولادَ، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، قال بعض السلف رحمه الله: "آثارُ الحسناتِ والسيِّئات على القلوبِ والأبدان والأموالِ أمرٌ مشهود في العالم".
والصلاةُ رِزقُ للعبدِ بِغير حسبان، قال سبحانَه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه: 132]. قال ابن كثير رحمه الله: "إذا قمتَ إلى الصّلاةِ أتاك الرِّزقُ مِن حيثُ لا تحتَسِب".
والصّدقةُ تنمِّي المالَ وتضاعِفه، قال جلّ وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245]، وقال عليه الصلاة والسَّلام: ((قالَ الله تعالى: يا ابنَ آدم، أنفِق أُنفِق عليك)) متفق عليه.
وصِلةُ الأرحام مَثراةٌ للمال، قال النبيّ : ((من أحبَّ أن يُبسُط له في رزقه ويُنسَأ له في أجله فليصِل رحمَه)) متفق عليه.
[والصِّدقُ] في المعامَلَةِ بَرَكَة في المالِ، ((فإن صَدَقا وبيَّنا بورِكَ لهما في بَيعِهِما)) متفق عليه.
وتَفريجُ همومِ المسلمين وقَضاءُ حوائِجِهم ييسِّر ما استَصعَبَ من الكَسب ويحقِّق المأمول، قال عليه الصلاة والسلام: ((ومَن كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجَتِه)) متّفق عليه.
وطالِبُ الرِّزق معانٌ من الله ما أعانَ غيرَه، قال النبيُّ : ((والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه)) رواه مسلم.
والقربُ منَ الضعفاء والمساكين يفتَحُ أبواب الرِّزق، قال النبيِّ : ((إنما ترزَقون وتُنصرون بضعفائِكم)) رواه الترمذي.
وإِن أتاك المالُ مِن كسبٍ حلالٍ فخُذه بسَخَاوَة نفسٍ ليبارك لك فِيه، وإن رُزِقتَ فلا تكفُر، قال جلّ وعلا: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ [النمل: 73].
وبِشكرِ النِّعمةِ المُسدَاة يَزيد الخيرُ والإنعامُ، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7]، ومَن لم يشكر النِّعمةَ سَلبَه إيّاها، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال: 52].
وكلُّ نَقصٍ فسَبَبُه الذنوبُ، وما استجلِبَ رِزقُ الله بمثلِ تَركِ معاصيه، قال جلَّ وعلا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
ويُحرَم العبدُ الرزقَ بالذنبِ يصيبه، قالَ شيخ الإسلام رحمه الله: "وضِيقُ الرِّزق علَى عبدٍ من أهلِ الدّين قد يكون لما له من ذنوبٍ وخطايا". والشحُّ والبخل يمنعان العطاءَ من الله، يقول النبي : ((لا تحصِي فيحصِي الله عليك)) متفق عليه، وقال النبيّ لأسماءَ بنتِ أبي بكر: ((لا توكِي فيوكَى عَليك)) رواه البخاريّ. قال الجَزَرِيّ رحمه الله: "أي: لا تدَّخري وتشدّي ما عندك وتمنعي ما في يَدِك فتنقَطِع مادّة الرزق عنك".
والغنيُّ غنيّ النفس وإن لم يملك مالاً، قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الغِنى عن كثرة العرض ـ أي: كثرة المال ـ ، ولكنّ الغِنى غِنى النفس)) متفق عليه.
ومَن قَنِع بما قُسِم له فهو من أغنى الناس، قال عليه الصلاة والسلام: ((قد أفلح من أسلَمَ ورُزِق كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه)) رواه مسلم.
وسَعَةُ الرّزق ليسَت في كثرتِه، إنما هوَ بَالبركة فيهِ. وفي صُحبَة من هو دونك تظهَر النعمة، قال عوف بن عبد الله رحمه الله: "صَحِبتُ الأغنياء فلم أرَ أحدًا أكبرَ همًّا مِني؛ أرَى دابّةً خيرًا من دابّتي وثوبًا خيرًا من ثوبي، وصحِبتُ الفقراء فاسترحت".
والحرصُ يُقمَع بالقناعة، والطّمَع دواؤُه الرَّضا والتسليم، قال إبراهيم الحربيّ رحمه الله: "اتَّفَقَ العقلاء من كلِّ أمّة أنَّ من لم يَتَمشَّ مَع القدَرِ لم يتهنَأ بعيش".
ولا تحسِد ذا نعمةٍ على فضلِ الله، قال سبحانه: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء: 32].
ومَن علِم أنَّ الرزقَ قَد فُرِغَ منه لم ييأَس على ما فاتَ منه. ولا يحملَنَّك استبطاءُ الرّزق على أن تطلبه بمعصية الله. وخيرُ العيشِ ما لا يُلهي ولا يُنسي، وأربَح الناس من جعَل المالَ وَسائل إلى الله والدارِ الآخرة، وأَخسرُهم من توسَّل به إلى هواه ونيل شهواته. وما ادُّخِر للمؤمن من رزقٍ في الآخرة خيرٌ ممّا مُتِّع به أهلُ الدّنيا، قال عزّ وجلّ: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 171]. والغَنيُّ مَن استغنى عن الناسِ وافتقر إلى الله.
ومِن علامةِ سَعادةِ العبدِ اهتمامُه بأوامر الله دونَ مَا ضُمِن له مِنَ الرّزق، والدنيا دارُ ممرّ، والتَّمايُزُ الحقيقيّ في الرزق إنما هو في دَرَجَات الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء: 21].
بَارَك الله لي ولَكُم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر والحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: أيُّها المسلمون، امتنَّ الله تعالى على هذه [...] واجِبٌ عَلينا الحفاظُ عليها مِن حِفظِ الدين والأمن والنفوس، وواجِبٌ علينا العملُ بوصيَّة النبيِّ في قوله: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّرَ عليك عبد، وإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة)) رواه الترمذي.
وقد جاء الوعيدُ الشديدُ مِنَ اللهِ في تحرِيمِ قَتلِ المسلِمِين، قال سبحانَه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وبَرِئَ النبيُّ ممّن سَفَكَ دِماءَهم بغير حقّ، قال عليه الصلاة والسلام: ((ومَن خرج على أمّتي يضرب برَّها وفاجِرَها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس مني ولستُ منه)) رواه مسلم.
وعلى أهلِ العلم بذلُ المزيد من نشرِ العلم الشرعيّ وأحكام الدّين بين أفراد المسلمين وتوعيتهم ونصحهم وإرشادهم وتحصين الشبابِ بالعلم والإيمان؛ لتُصانَ عقولهم وأفكارهم مِن تيَّاراتٍ تبيح سفكَ دماء المعصومين والتعدّي على حُرُماتهم، فإنَّ العلم إذا ارتفَعَ شَاع الجهل وتبِعت النّفوسُ هواها وانتَشَر العِصيانُ والفساد.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيِّنا محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنّا معهم بجودِك وكرمك يا أكرَم الأكرمين.
اللّهمّ أعِزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّركَ والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدّين...
(1/5306)
الفئة الضالة: صور من صفاتهم وأفعالهم
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, فرق منتسبة
محمد بن عدنان السمان
الرياض
17/4/1428
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حمد الله تعالى على ما منّ به من كشف مخططات الفئة الضالة. 2- ضلال أصحاب الفكر المنحرف. 3- من صور الضلال والإضلال. 4- صفة الخوارج. 5- أسباب انحراف الفئة الضالة. 6- التحذير من الغلو في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، فإننا نحمد الله أولاً وآخرًا ونثني عليه الخير كله أن منَّ على هذه البلاد وقيادتها وأهلها بكشف مؤامرات الفئة الضالة الدنيئة، وفضح إجرامهم في حقّ دينهم ووطنهم وقيادتهم وأهلهم، وإبطال أفعالهم وجرائمهم المنكرة المتنوّعة المتعدّدة، وذلك بفضل الله عز وجل وعونه وحسن توفيقه لرجال الأمن البواسل وجميع الأجهزة المتعاونة معهم، فحالَ الله بينَ ما يشتهي أصحاب القلوب المريضة والعقول المتخبطة، وردَّ كيدَهم في نحورهم ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن المتتبع لأعمال الفئة الضالة منذ سنوات يعلم مدى ما هم فيه من الضلال والإضلال، ومع ذلك كله فقد ناداهم ولاة أمرنا ـ أيدهم الله ـ نادوهم نداء الشفقة الرحمة، نادوهم نداء الحسم والحزم، ناداهم علماؤنا وبيّنوا لهم الحقَّ بالدليل من الكتاب والسنة، ناداهم دعاتنا وخطباؤنا وحذّروهم مما هم فيه من الضلال والغواية، ناداهم كلّ غيور على دينه ووطنه، بل ناداهم آباؤهم وأمهاتهم وزوجاتهم، ولكن قلوبهم المريضة وعقولهم القاصِرة حالت دون عودَتهم وأوبتهم ورجوعهم إلى الطريق المستقيم، وتعجب ماذا يريد هؤلاء المفسدون في الأرض بهذا الإرهاب؟! أيريدون الدنيا؟! فالتدمير والتخريب والغدْر والخيانة والخوف يفسد الحياة ولا يُبقي منها على شيء، أم يريدون الآخرة كما يزعمون؟! فالجنةُ لا تُنال بقتلِ النفس أو بقتل المسلمين أو غير المسلمين المستأمَنين أو بعصيان الله ورسوله أو عصيان وليّ الأمر، وهذه أعمالٌ من أعمال أهلِ النار.
أيها المسلمون، صور الضلال والإضلال لهذه الفئة الباغية صور كثيرة متنوعة، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت بأيديهم، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوِّعت وخوّفت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَم هؤلاء المجرِمون المخرِّبون طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة، لم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية.
أتذكرون حينما جمعوا أسلحتهم وخبؤوها قريبًا من مكة قريبًا من بيت الله الحرام؟! ومثل ما قيل في مكة قل في المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. هذه الفئة أسقطت مِن قاموسها تعظيمَ شعائر الله وعظمةَ بيته الحرام وسكّانه الكِرام التي حفِظها الله منذ خلقَ السمواتِ والأرض.
أتذكرون عندما استخفّوا بكتاب الله حينما اتَّخذوا من أحدِ المساكن في مكة المكرمة وكرًا لتصنيع وتجميع وإخفاءِ أسلحةِ القتل وأدواتِ التخريب والدّمار التي كان من بَينها مصاحفُ مفخَّخة حتّى يكون الموتُ أو ما يقرُب منه مصيرَ من حرَّك أغلِفتَها ليقرأ كلامَ الله الذي بِه حياةُ القلوب والأرواح؟! فهل يقبَل بهذا ـ أيّها الإخوة ـ مؤمنٌ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟!
الخروج على ولي الأمر وتكفير المجتمع والغلو في الدين صوَر من مظاهر هذه الفئة، هم على أثر الخوارج، لقد كان الخوارج أهلَ عبادةٍ، وفيهم مظاهرُ الصّلاحِ وإظهارٌ لبعض الشّعائِر كما في الحديث: ((تحقِرون صلاتكم عند صلاتهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم)) رواه البخاري ومسلم.
هؤلاء الخوارجُ الشاذّون ظهَروا في خير القرونِ وأفضلها، في عهدِ صحابة نبيّنا محمّد ، فوصَل بهم الحال إلى أن حاربوا الصّحابةَ والمسلمين، بل قتلوا الخليفتَين الرّاشدَين عثمانَ عليًّا رضي الله عنهما. ألا يكفي زَيفًا وضلالاً أن يُجهِّل الخوارج صحابةَ رسول الله ويكفِّروهم ويحاربوهم؟!
لقد كان عند الخوارجِ شيءٌ مِن حماسٍ ونوع مِن إخلاص، لكن لم يكُن عندَهم عِلمٌ صحيح ولا فِقهٌ سليم، حارَبوا الصحابةَ، وقَتلوا الخلفاءَ، زاعمين أنَّ هذا هو طريقُ الإصلاح.
أيّها المسلمون، إنّ مِن أعظمِ أسباب انحرافِ هؤلاء الجهلَ والعزلةَ عن المجتمع وعدمَ أخذِ العلم من أهلِه وغفلةَ الأسرة، وإنّ في كثير منهم إعجابًا بالنّفس كبيرًا، وهذه كلُّها من الصوارِف عن الحقّ والفِقهِ وأخذِ العلم من أهله وأبوابه.
معاشرَ المسلمين، وثمّةَ سببٌ في الانحرافِ كبير، ذالكم هو الوقوعُ في دائِرة الغلو. إنّ الغلوّ في دين الله هو ـ والله ـ سببُ الهلاك، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والغُلوّ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ)) رواه أحمد بسند صحيح.
الغلوّ مشاقّةٌ حقيقيّة لهديِ الإسلام وإعراضٌ عن منهجِه في الوسطيّة والاعتدال والرّحمَة واليُسر والرِّفق. الغلوّ ظلمٌ للنّفس وظلمٌ للنّاس، بل هو صدّ عن سبيل الله لِما يورِثه من تشويه وفتنةٍ وتنفير. الغلاةُ يتعَصّبون لجماعتِهم ويجعلونَها مصدرَ الحقّ، ويغلُون في قادتِهم ورؤسائِهم، ويتبرّؤون مِن مجتمعاتِ المسلمين، ويكفّرون بالمعَاصي، ويكفّرون أهلَ الإسلام وحكّامَ المسلمين، ويقولون بالخروج على أئمّة المسلمين، ويعتزلون مجتمعاتِ المسلمين، ويتبرّؤون منهم، لا يصلّون خلفَ أئمّة المسلمين في مساجدِ المسلمين. لقد وصفهم نبيّنا محمّد بوصفَين ظاهرين خطيرَين في قوله عليه الصلاة والسلام: ((يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم، يقتُلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)) أخرجه البخاري ومسلم.
الوصفُ الأوّل: يقرؤون القرآن ولا يفقهونَه ولا يدرِكون مقاصدَه، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إنّهم انطلَقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفّار فجعلوها على المؤمنين) رواه البخاري معلقًا بسند موصول عند الطبري صحيح.
الوصف الثاني: استحلالُ دماءِ المسلمين: ((يقتلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)). يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّهم يكفِّرون بالذّنب والسيّئات، ويترتّب على تكفيرهم بالذّنوب استحلالُ دماءِ المسلمين وأموالِهم، وأنّ دارَ الإسلامِ دارُ كفر، ودارهم هي دار الإسلام"، ولقد قال أبو قلابة: "ما ابتدَعَ رجلٌ بدعةً إلاَّ استحلَّ السيف"، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، يجمعون بين الجهل بدين الله وظلمِ عبادِ الله، وبِئستِ الطّامّتان الدّاهيتان.
إنّ مصيرَ الغلاة هو الهلاك بنصّ حديث رسول الله : ((هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون)) أخرجه مسلم.
أيها المسلمون، إن اجتماعات الفئة الضالة السرية دليل على ضلالهم وانحراف منهجهم، هؤلاء المفسدون ينفردون بتفسير للقرآن الكريم أو تفسيرٍ للحديث النبويّ لم يعلمه الصحابةُ والتابعون، ولم يعلمْه علماء الأمّة إلى هذا الوقت، فليظهَر هؤلاء المفسدون مِن جُحورهم، وليناظروا الراسخين في العلم في أفكارهم النابتةِ في كواليس الظلمات والسِّرِّيات، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما اجتمع قومٌ سرًّا على أمرٍ مِن أمور الدين إلاَّ كانوا على ضلالة".
لقد قدّم هؤلاء للعالم صورةً قاتمة عن الإسلام وأهله، فهم ـ والله ـ لا للإسلام نصَروا ولا للكفر كسَروا.
اللهم احفظنا بحفظك ورد كيد الكائدين إلى نحورهم.
أقول ما سمعتم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى، وتقرّبوا إليه جلّ وعلا بصالح الأعمال وكثرة التوبة والاستغفار.
أيها المسلمون، ها هي هذه الفِئة كشّرت عن أنيابها وبذلت الجهد والمال للتخريب والدمار، فلنقف صفًا واحدًا مع ولاة أمرنا وعلمائنا ورجال الأمن ضد هذه الفئة الضالة الباغية، وسيكون لنا حديث مُهمّ بإذن الله معكم في الخطبة القادمة عن وسائل الحصانة من هذه الأفكار والأعمال المنحرفة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
الحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله على نعمِه التي لا تُحصَى؛ جمع كلمتنا على الحق، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، جمعنا على إمام واحد ودين واحد وبلدٍ واحد، فنسأله سبحانه أن يزيدنا أمنًا واستقرارًا ونعمةً وفضلاً وصلاحًا وفلاحًا، وأن يردَّ كيدَ الحاقدين ومكر الماكرين على بلادنا وأئمتنا وولاة أمورنا وعلمائنا وأهلينا، كما نسأله سبحانه أن يمُدّ الساهرين على أمننا وراحتنا بعونه وتوفيقه، وأن يسدِّد آراءهم وخُططهم ويبارك في أعمالهم وجهودهم ويربطَ على قلوبهم ويكشف لهم كلَّ غامض وأن ينصرهم على كلّ مفسد ومخرِّب ومحارب، إنه سميع مجيب...
(1/5307)
نعمة الأمن
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, جرائم وحوادث
عبد الله بن محمد اليوسف
الخبر
15/3/1424
جامع عائشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعاء الخليل عليه السلام بالأمن والرزق. 2- أهمية الأمن وحاجة الناس إليه. 3- امتنان الله تعالى على عباده بنعمة الأمن. 4- عناية الإسلام بتحقيق الأمن. 5- مفاسد اختلال الأمن. 6- أهمية الأمر بالمعروف والنهي في استتباب الأمن. 7- التحذير من أعمال التفجير. 8- التحذير من أعداء الدين الذين يستثمرون الأحداث لفكرهم المنحرف. 9- الطريق الصحيح لمحاربة الغلو.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما أكمل بناء بيت الله الحرام بأمر الله له دعا لأهله بهذه الدعوات قائلاً: رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ آمِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأصْنَامَ. فتأمل في هذه الدعوة من الخليل عليه السلام، تأمل هذه الدعوة التي دعا بها الخليل عليه السلام لأهل بيتِ الله الحرام: رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة: 126].
دعا لهم بأمرين: أولاً: أن يجعله الله حرمًا آمنًا، وثانيًا: أن يرزقهم من الثمرات. فبدأ بالأمن قبل كل شيء؛ لأن الأمن إذا تحقّق وتمّ حصل به الخير كلّه، فبالأمن يتحقق للعباد مصالح دينهم ودنياهم، بالأمن ينالون الخيرات، يسعون في الأرض، يعملون ويجتهدون، ينتقل من هنا إلى هناك في طلب الرزق وتأمين المعيشة بتوفيق من الله، لكن هذا لا يتمّ إلا إذا تحقق الأمن، وإذا فقد الأمن ـ والعياذ بالله ـ فإن كل خير يفقد، فلا يتم للعباد أمر، لا في دينهم، ولا في دنياهم، ولهذا قال الخليل: رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة: 126].
أيها السلمون، إن نعم الله على الخلق كثيرة، لا تعد ولا تحصى، كما قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].
وأعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن، فالأمن ضدّ الخوف، الأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوؤه، فلا يخاف الإنسان مع الأمن على الدين، ولا على النفس، ولا على العرض، ولا على المال، ولا على الحقوق.
فالأمن أصل من أصول الحياة البشرية، لا تزدهر الحياة ولا تنمو ولا تخلو بغير الأمن. ما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن؟! كيف تنتعش مناشط الحياة بدون الأمن؟! الأمن تنبسط معه الآمال، وتطمئنّ معه النفوس على عواقب السعي والعمل، وتتعدد أنشطة البشر النافعة مع الأمن، ويتبادلون المصالح والمنافع، وتكثر الأعمال المتنوّعة التي يحتاج إليها الناس في حياتهم مع الأمن، وتدرّ الخيرات والبركات مع الأمن، وتأمن السبل، وتتّسع التجارات، وتشيد المصانع، ويزيد الحرث والنسل، وتحقن الدماء، وتحفظ الأموال والحقوق، وتتيسر الأرزاق، ويعظم العمران، وتسعد وتبتهج الحياة في جميع مجالاتها مع الأمن.
وقد امتنّ الله على الخلق بنعمةِ الأمن، وذكّرهم بهذه المنّة، ليشكروا الله عليها، وليعبدوه في ظلالها، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش3، 4]. وعن عبيد الله بن محسن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
والإسلام عني أشدّ العناية باستتباب الأمن في مجتمعه، فشرع الأوامر، ونهى عن الفساد والشرور، وشرع الحدود والزواجر الرادِعة، قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة: 2]. وأخبرنا الله تعالى أن الأمن لمن عمل الصالحات واستقام على سنن الهدى وابتعد عن سبل الفساد والردى، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82]. وقد كان النبي إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، ربي وربك الله)).
فالأمن نعمة كبرى ومنّة من الله عظمى، إذا اختلّت نعمة الأمن أو فقدت فسدَت الحياة، وشقيت الأمم، وساءت الأحوال، وتغيرت النعم بأضدادها، فصار الخوف بدل الأمن، والجوع بدل رغد العيش، والفوضى بدل اجتماع الكلمة، والظلم والعدوان بدَل العدل والرحمة، عافانا الله بمنه وكرمه.
فاشكروا الله واحمدوه على نعمة الأمن، وعلى النعم الظاهرة والباطنة التي أسبغها عليكم، وذلك بالدوام على الطاعات والبعد عن المحرمات، فإنّ الله تعالى منّ على هذه البلاد بنعمة الأمن وغيرها حتى صارت والحمد لله مضربَ الأمثال في الأمن والاستقرار.
أيها المسلمون، والإسلام يأخذ على يد الظالم والمفسد والمعتدي على النفوس والأموال المعصومة بما يمنعه من ارتكاب الجرائم ويزجره وأمثاله عن البغي والعدوان؛ لأن الإسلام دين العدل ودين الرحمة والخير، فلا يأمر أتباعه إلاّ بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلاّ عمّا فيه شرٌّ وضرر.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تكونوا من المفلحين، واعتصموا بحبل الله جميعًا يهدكم إلى صراطٍ مستقيم، وكونوا يدًا واحدة على كلّ مجرم أثيم يريد أن يزعزع أمنكم واستقراركم، ويعبث بمنجزاتكم، وينشر الفوضى في مجتمعكم، قال الله تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى? نَفْسِهِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 111]، وقال تعالى: لَّيْسَ بِأَمَـ?نِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا [النساء: 123].
ثم اعلموا أن من أهمّ الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنيّة من كافة جوانبها دون كلفة أو تجنيد وإعداد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن ذلك عماد الدين الذي فضلت به أمة الإسلام على سائر الأمم، والذي يسدّ من خلاله مداخل كثيرة من مداخل الشر على العباد.
بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتكاتف الجهود، ويلم الشعث، ويرأب الصدع، وتتقى أسباب الهلاك، وتدفع البلايا عن البشر. وفَقدُ ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس يعني بداهة حلول الفوضى وانتشار اللامبالاة المولّدة للأمن السلبيّ، وهو الأمن من مكرِ الله، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف: 99].
بالأمر والنهي ـ عباد الله ـ يصلح المجتمع، ويقوم الفرض الكفائيّ الذي يسقط التبِعَة والإثم عن بقيّة المجتمع، وإلا يتحقّق فينا قول الباري جلّ شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، ولم يقل: (وأهلها صالحون)؛ لأن مجرّد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة.
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بين المسلمين إنما هم في الحقيقة يقومون بمهامّ الرسل في أقوامهم وذويهم، فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجة والنجاة، والعكس بالعكس، وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ?لْقُرَى? حَتَّى? يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ?لْقُرَى? إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـ?لِمُونَ [القصص: 59].
إن انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود ومعرّة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده؛ فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزَلت، وفرقة أخرى لم تعصِ ولم تنه، بل قالوا للناهين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف: 164]، فلما لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص الله على نجاة الناجين بقوله: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ?لَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لسُّوء [الأعراف: 165]، وسكت عن الساكتين.
إذًا ينبغي لأفراد الناس عمومًا وأهل العلم بخاصة أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم وأسرهم ومنتدياتهم على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية؛ حكمةً وموعظة حسنة ومجادلة بالتي هي أحسن، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون ، لا شكّ أن التفجيرات التي تستهدف أمن المجتمعات المسلمة واستقرارها عمل يتنافى مع ما أمر به الإسلام من عدم ترويع الآمنين، حيث جاء في الحديث: ((من رفع علينا السلاح فليس منا)). وأعمال التفجير التي تستهدف الآمنين مخالفة لأحكام الشريعة التي جاءت بعصمة دماء المسلمين، وتخالف مقاصد الشريعة التي جاءت بحفظ الدين والنفس والمال والعرض؛ ولذا ينبغي التحذير من هذه الأعمال والتأكيد على خطورتها.
وقد قام العلماء والدعاة في هذه البلاد ولله الحمد بجهودٍ طيّبة في هذا المجال؛ إذ أصدرت هيئة كبار العلماء بيانًا حذّرت فيه من الغلو والتكفير.
ولكن ينبغي في نفس الوقت أن نحذر من بعض ما يكتب هذه الأيام للصيد في الماء العكر، كما حصل من كثير من الكتاب والمفكّرين الذين نشروا كتابات غايتها تخويف الناس من الدّين ودفعهم لمخاصمة المتديّنين والتشكيك في ولائهم، بل هدفها نفي الإسلام عن مركز التوجيه وإبعاده عن التأثير واستئصاله من مناهِج التعليم ومؤسّساته وخطب الجمعة والدعاة والتعليم الديني وحلقات القرآن، ليصبح الدين كما يزعمون شيئًا خاصًا بين العبد وربّه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، بل يحاول بعضهم أن يجعل الإسلام سببَ كل الكوارث في الأمة ومصائب النّخب السياسية والفكرية، ولم يُبقِ هؤلاء شيئًا مما يتصل بالدين لم يتهموه بأنه سبب التفجير، وربما لو لم يخشَ بعضهم عاقبة التصريح لصرّحوا بأن القرآن الكريم ذاته سبب كلّ الإرهاب، كما فعل كتاب آخرون في بعض البلاد العربية من فلول الشيوعيّين وغلاة الليبراليين وغيرهم.
لقد دأبت بعض وسائل الإعلام على توسيع دوائر الاتهام ومحاولة جرِّ أطراف عديدة إلى الميدان؛ لتصفية حسابات شخصية أو حزبية أو ما شابه ذلك. وهذا يجب أن يتوقّف، ولا يجوز أن نعيدَ إنتاج التّهَم الغربيّة التي أدانت الإسلام والعرب واعتبرت المجتمعَ بمؤسّساته العلمية والسياسية والتربوية مسؤولاً عما يحدث.
إنّ المسؤولية أعظم من ذلك, ونحن جميعًا في خندق واحِد وسفينة واحدة، والخرق فيها يفضِي إلى غرق الجميع، ويجرّنا إلى دوامة من العنف لا يعلم نهايتها إلا الله، وانفلات الأمن أسهل بكثير من إمكانية ضبطه وإعادته.
إن مواجهة الغلوّ لا تكون بالتنفير من الدين وأهله وإخراج أهلِ الصلاح بصورة منفّرة، فالشعوب مسلمة، وهي بشرع الله متمسّكة، رضي الراضون أو سخط الساخطون. الغلو يواجَه بنشر العلم الصحيح والفهم المستقيم، يعالج بكلام الله وكلام رسوله وفهم السلف الصالح.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنّين وسائر بلاد المسلمين، اللهمّ من أراد بلدنا هذا أو بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، اللهم من أراد أن يمسّ إيماننا وأمننا اللّهمّ فابطش به يا رب العالمين، اللهم ردنا إلى الإسلام ردا جميلا، جنبنا منكرات الأعمال والأهواء والأقوال يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/5308)
وسائل الحصانة والوقاية من أفكار الفئة الضالة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
العلم الشرعي, جرائم وحوادث
محمد بن عدنان السمان
الرياض
24/4/1428
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنكار المسلمين لأعمال المفسدين. 2- طرق الفئة الضالة في استدراج الشباب واستمالتهم. 3- الحصانة بالعلم الشرعي. 4- واجب المفكرين والمثقفين في هذه الأحداث. 5- ضرورة العناية بالشباب. 6- المسؤولية عامة في محاربة الفكر المنحرف. 7- توعية المغفلين حول التبرع والاستثمارات التجارية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا.
أيها الإخوة، وعدت في الخطبة الماضية أن نتحدث في هذه الخطبة عن سبل الحصانة والوقاية من أعمال وأفكار الفئة الضالة، بعد أن فصلنا الحديث في الخطبة الماضية عن صور من أفعالهم الضالة وأفكارهم المشينة، وإنك تعجب أشد العجب لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر كيف يمكنه أن يتعاطف معهم فضلاً عن أن يرضى بشيء من أعمالهم أو صفاتهم، إنها والله جناية يجنونها في حقِّ دينهم وأمّتهم وبلادهم.
وإنهم ـ أعني أصحاب هذه الأفكار المؤفونة والتي سيطر عليهم هواهم الأمَار بالسوء ـ يستدرجون بعض الشباب السذج ويغررون بهم تارة باسم الجهاد المزعوم، ويدغدغون عواطف بعضهم باسم نصرة الدين، ويأتون لحديثي التوبة فيمنونهم بمحو السيئات وتكفير ما مضى من الذنوب، ويستثيرون عاطفتهم بالحديث عن الجنة ونعيمها، والبعض منهم عنده نصيب من العلم الشرعي لكنه خلط الحابل بالنابل والمحكم والمتشابه، ويفتي في المسائل الكبار التي تحتاج إلى روية ونظر وتدقيق وتمحيص من كبار العلماء، فيتشدق بالكلام ويدعي علم الدليل، ويخالف إجماع الأمة تارة بهدف الإصلاح والتغيير المزعوم، وتارة بالتشبث بمصطلح الولاء والبراء دون العودة إلى مظان هذا الباب من العلم الشرعي وكلام أئمة السلف رحمهم الله.
ولذا كان من أوائل وسائل الحصانة من هذه الأفكار المنحرفة عن جادة الصواب ضرورة الرجوع إلى أهل العلم الراسخين والتأكيد على دورهم العظيم في معالجة هذه الملمات، والشبابُ إذا ابتعد عن العلم الصّحيح والعلماء الراسخين ولم يتبيّن له رؤيةٌ واعيَة تتزاحم في فكره خطراتٌ نفسيّة وسوانح فكريّة، يَختلط عنده فيها الصواب بالخطأ والحقّ بالباطل. فالعلم العلم ـ رعاكم الله ـ أول وسائل الوقاية والحصن الحصين أمام كل فكر ضال وعمل هدام.
وعلماؤنا في هذه البلاد وعلى رأسهم هيئة كبار العلماء بينوا ووضحوا وحاورا بالحجة والبرهان وبالدليل من السنة والقرآن ووصفوا الداء ووصفوا الدواء.
فيا شبابَنا، يا أحبابَنا، يا فلذاتِ أكبادنا وثمرات فؤادنا، حيَّ هَلا ثمّ حيَّ هلا بكم لتستيقِنوا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ دينَكم الوسَط هو البرهان والنّور، العلم يؤخذ من أهله، والفتوى تؤخذ من أهلها، ولا مجال لأن نستقي فتاوينا ونأخذ ديننا من أنصاف المتعلِّمين أو مِن ذوي الفتاوى الشاذّة الغريبة.
ومِن بعد علماءِ الشّرع يأتي المفكّرون في هذه البلاد والمثقَّفون وأصحاب القلم، فلهم رسالتهم الخاصّة، والميزةُ المتميّزة تنبع من انتسابهم لدين الله ومبادئه وخصوصيّة الدولة في الحكم والتحاكم ونظام الدّولة ورعاية الحرمَين الشريفين وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه المبادئ الراسخة التي تقوم عليها وتتبنّاها وتعتزّ بها وتفاخِر، هذا كلّه يدعو الإخوةَ المثقَّفين والمفكِّرين إلى النظر في مصادر التلقي من أجل تنقيَتها ممَّا يتعارض مع شرع الله؛ ليبقى ما ينفع النّاس ويذهبَ الزّبد جفاءً.
ومن وسائل الحصانة الناجعة أمام فتنة التكفير والتفجير والتدمير ضرورة العناية بالشباب وبأمنهم الفكري وفتح قنوات الحوار الهادف معهم، يجب الاهتمامُ بالناشئة والشباب وتلمّسُ احتياجاتهم وهمومِهم واهتماماتهم، فليس همّهم مقصورًا على رياضةٍ أو ترويح بريء، ولكنّه الاهتمام بصلاح المعتَقَد وسلامة الفِكر وإشباع الرّغبات في الإبداع والثقافة الصحيحين وصنوف المناشط للأعمال التي يتطلّع إليها ويتوق إليها في ضوابطها الشرعيّة.
نحن مطالبون جميعًا في كل موقع؛ على الخطباءِ وأئمّة المساجد أن يجعَلوا منابرَهم منابرَ هداية ورُشد وتوجيهٍ لما يجمع الكلمَة ويوحِّد الصفَّ ممّا ينفَع الناس، وعلى المعلِّمين أن يقدِّموا مع العلم التربيةَ، فالتّربية من المقاصد الكبرى في منهج التعليم، ولا سيّما في مراحلِ الدراسة الأولى، وعلى الآباءِ والأمّهات الاهتمامُ بأبنائهم، فلا يتركونَهم لأصحاب الأفكار الهدّامة والمناهج المنحرفة، ولا يتركونهم للتّجمعات المشبوهة والرّحلات المجهولة، فكلّ ذلك مراتِع أصحاب التّضليل ومصائدُ الذّئاب المفترِسة.
وبعدُ: أيّها المسلمون، فالأمر لا تحصره كلماتٌ، والموضوع لا تحدّه صفَحات، ولكنّه يحتاج إلى وقفةٍ جادّة ووقفاتٍ وبرامجَ مدروسة تتجاوز حدودَ الأفعال، فمصلحةُ الدّين والأمّة والبلاد فوق مصلحةِ الأفراد والهيئات.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا.
أقول ما سمعتم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فالتقوى خيرُ زاد ليوم المعاد، وبها يُصلح الله أمورَ العباد، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
معاشر الإخوة، ساقت لنا وزارة الداخلية في بيانها الأخير ما أشار إلى أن أحد رؤساء المجموعات التي قبض عليها عمل على جمع مبالغ مالية طائلة في سبيل توفير الدعم المالي لمجموعته وللتنظيم بشكل عام من عدد كبير من الأشخاص الذين غرر بهم بحجة استثمار هذه المبالغ في شركات وهمية، وهذا يعني أن بعض الأشخاص يصرفون أموالهم دون نظر وتدقيق وسؤال وتثبت، فبعض الناس ـ هداهم الله ـ تخدعهم المظاهر أو الدعايات، والبعض إمعة يتبع كل ناعق، وكم ضاعت من أموال في الركض وراء السراب والجري وراء أحلام الغنى ومضاعفة المال.
فليحرص كل واحد منا وليعلم مكان ريال ينفقه أو يتاجر به، وكما أن في هذه الدنيا أخيارا ففيها من الأشرار الكثير.
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا...
(1/5309)
عيد الفطر 1427هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
فهد بن عبد الرحمن الحميد
الرياض
1/10/1427
مسجد عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعم الله تعالى. 2- كمال الدين الإسلامي. 3- التذكير باليوم الآخر. 4- نصوص في بعض المناهي الشرعية. 5- ضوابط التجمل. 6- مسؤولية الآباء تجاه أسرهم. 7- مفاسد وسائل الإعلام والاتصال الحديثة. 8- كثرة الفتن في هذا الزمان. 9- طوبى للغرباء. 10- الحث على التزود للآخرة. 11- من آداب العيد وسننه. 12- كلمات للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فالحمد لله الذي أتم النعمة بإكمال العدة، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة: 185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اللهم لك الحمد بما علمتنا وهديتنا، وأرسلت إلينا رسولنا، وأنزلت علينا كتابنا، وشرعت لنا ديننا، وميزتنا بأعيادنا عن أعياد غيرنا، فهي أعياد توحيد، وأعياد غيرنا أعياد شرك وبدعة، فالحمد لله أولاً وآخرا وظاهرًا وباطنًا على نعمه التي لا تحصى وآلائه التي تترى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].
أيها المسلمون، تذكروا من تعيَّد معنا الأعياد الماضية والسنين السالفة، بل تذكروا من مات ليلة العيد بل قبله بيوم أو أيام، حال الموت دون آمالهم، حطم الأجل لهم الأماني. أدركتم العيد وأنتم ترفلون بنعمة الله، في صحة وعافية وقوة، وغيركم طريح الفراش أسير السرير الأبيض. أدركتم العيد المبارك وأنتم في اجتماع، وإخوانكم في بعض البقاع في شتات، وأنتم في أمن واطمئنان، وغيركم في رعب وخوف وقلق من رصاص الطاغين وقرع نعال المجرمين وقصف طائرات الكافرين، ليس لهم قرار، ولا يهنؤون بعيش، فانظروا هم في الحروب والفتن مشردون لاجئون بين الدول، وأمدكم بنعمته وقواكم، قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
فالله أكبر، والله أكبر، ولله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
عباد الله، دينكم لا يشبهه دين، وشريعتكم ليس كمثلها شريعة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3].
لقد مر رمضان أيها المسلمون، فهل رأيتم شهرًا أسرع مرورًا منه، كلا والله، لقد انقضى ما بين غمضة عين وانتباهتها، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات لمن عبد الله فيه وصلى وقام، والحمد لله على كل حال ونسأل الله السلامة والعافية والمغفرة من تقصيرنا وعجزنا وإسرافنا في أمرنا.
أيها الناس، تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون يوم القيامة من قبوركم لرب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسامكم، شاخصة أبصاركم، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 2].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، هذه المواسم العظيمة نذكر فيها الكليات والجزيئات ليكون في هذا الجمع المبارك الفائدة للمسلمين.
إن الله سبحانه وتعالى قد فرض علينا من الأحكام ما شاء، أحل ما شاء، وحرم ما شاء سبحانه وتعالى. تعالوا نستعرض بعضًا منها، كلّها من أقواله. ومن الأبواب العظيمة في هذه الشريعة أبواب الكبائر، قال : ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات)).
إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس، ((لعن الله من ذبح لغير الله)) ، ((من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) ، ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) ، ((من علق تميمة فقد أشرك)) أو: ((كفر)) ، ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) أو: ((كفر)) , ((لعن الله من لعن والديه)) ، ((لعن الله من غير منار الأرض)) ، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيرى تركته وشركه)) ، قال : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) وقال: ((هم سواء)) ، ((إن على الله عز وجل عهدًا لمن يشرب المسكرات أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله، ما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار)) أو: ((عصارة أهل النار)) ، ((أتدرون من المفلس؟ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاته ثم طرحت عليه ثم طرح في النار)) ، ((ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث)) الذي يقر المنكر في أهله، ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبورا أنبيائهم مساجد، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) ، ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) ، ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)) ، ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)) ، ((لعن الله من آوى محدثًا)) ، ((أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون)) ، ((إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)) , ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار)) ، ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) ، ((عذبت امرأة في هرة؛ سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) ، ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيام وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) ، ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرًا يا رسول الله؟! قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) ، ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) ، ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) ، ((مررت بأقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون صدورهم ووجوههم، فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) ، ((أسوأ الناس سرقه الذي يسرق من صلاته)) قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟! قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها)) ، ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) ، ((من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمد)) ، ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)) ، ((أتاني الليلة آتيان فقالا لي: انطلق حتى أتينا على مثل بناء التنور، فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب صاحوا)) ، فلما سأل عنهم الملائكة قالوا: ((أما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني)) ، ((اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)) ، ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده)) ، قالوا: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم؛ إذا كثر الخبث)) ، ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
جميل ـ يا عبد الله ـ أن تتزين للعيد وتتجمّل، ولكن حلق اللحية حرام، قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي : ((خالفوا المشركين؛ وفّروا اللحى، وحفوا الشوارب)).
إنه لجميل أن تلبس أحسن الثياب، ولكن الإسبال حرام، والله لقد تهاون كثير من الشيب والشباب بأمر الإسبال، ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم.
اسمع يا من ترخي أزارك وتسبل ثوبك، عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، قال أبو ذر: خابوا وخسروا يا رسول الله، من هم؟ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، لقد أمر الله الآباء بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، وتوعد بالحرمان من الجنة من غش أهله، وأي غشٍ أعظم من شراء هذه الأطباق الفاسدة بحجة الأخبار وبثها بين أولاده؟! يقول النبي : ((ما من عبد يسترعيه الله رعيه يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، فكم كانت هذه سببًا في انتهاك بعض الناس أعراضًا غلظ الله حرمتها.
لقد كنا في السابق نادرًا ما نسمع عن حادثة اغتصاب أو اختطاف أو حدوث جرائم أخلاقية أو اجتماعية، أما الآن وبعد انتشار هذه الوسائل الفاسدة من المجلات والأطباق الهوائية والقصص الغرامية والصور الإباحية عبر الجوال والإنترنت وغيرها فقد اتسع الخرق على الراقع، فلم يعد غريبًا حصول مثل هذه القبائح وسماعك بمثل هذه الحوادث مرات ومرات، وما خفي كان أعظم.
أيها المسلم، إن بيع وشراء وتأجير محلات الدشوش والأفلام والمجلات الهابطة والصور الإباحية عبر الجوال والإنترنت من إشاعة الفاحشة في الذين أمنوا, واستمع لهذا الوعيد في الدنيا قبل الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19]. ومن نشر الضلال تحمل الأوزار، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل: 25].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، نحن في زمن كثرت فيه الفتن وتنوعت المحن، فتن تفتن الأبصار، وأخرى تفتن الأسماع، وثالثة تسهل الفاحشة والآثام، ورابعة تدعو إلى المال الحرام، حتى صار حالنا قريبًا من ذلك الزمان الذي قال فيه النبي فيما أخرجه الترمذي: ((فإن وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم يعمل مثل عمله)). وإنما يعظم الأجر للعامل الصالح في آخر الزمان لأنه لا يكاد يجد على الخير أعوانًا، فهو غريب بين العصاة، نعم غريب بينهم، يأكلون الربا ولا يأكل، ويسمعون الغناء ولا يسمع، ينظرون إلى المحرمات ولا ينظر، يقعون في الفواحش ولا يقع, ويشربون الخمر وهو لا يشرب، بل ويقعون في السحر والشرك وهو على التوحيد.
وعند مسلم أنه قال: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)). نعم طوبى للغرباء. وعند البخاري قال : ((لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم)). وأخرج البزار بسند حسن أنه قال: ((يقول الله عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إذا أمِنَني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة)). نعم، من كان خائفًا في الدنيا معظمًا لجلال الله أمن يوم القيامة وفرح بلقاء الله وكان من أهل الجنة الذين قال الله عنهم: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور: 25-27]. أما من كان مقبلا على المعاصي همه شهوة بطنه وفرجه آمنًا من عذاب الله فهو في خوف وفزع في الآخرة، قال الله: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ [الشورى: 22].
فتوكل على الله إنك على الحق المبين، ولا تغتر بكثرة المتساقطين ولا ندرة الثابتين، ولا تستوحش من قلة السالكين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وأنت في طريقك إلى اليوم الآخر لا تنس زادك، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]؛ الصلوات الخمس، النوافل، السنن الرواتب، قراءة القرآن، قيام الليل، الدعوة إلى الله، صيام النوافل، زيارة المرضى، مجالس الذكر، حفظ اللسان، مصاحبة الأخيار، الدعاء، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، كلها نور على نور،يهدي الله لنوره من يشاء. أسال الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لفعل الخيرات وترك المنكرات.
عباد الله، اعلموا أن السنة لمن خرج إلى مصلى العيد من طريق أن يرجع من طريق آخر اقتداء بالنبي وإظهارا لشعائر الله وتعرفًا على عباد الله في كلّ طريق، ولقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا ويهنئ بعضهم بعضا في العيد، وهذه عادة حسنة تجلب المودة وتزيل البغضاء، أما زيارة القبور في هذا اليوم بالذات فلا أعلم لها أصلاً من الشرع، فزيارة القبور مشروعة في كل وقت، ولم يرد تخصيص يوم العيد بزيارتها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر النساء العابدات القانتات المصليات، بُشراكن قول المصطفى : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) رواه أحمد. فالله الله ـ يا مسلمة ـ في طاعة الزوج وحسن التبعل له، الله الله في رعاية البيت المسلم وحسن تربية الأولاد، قال عليه الصلاة والسلام: ((المرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها)) متفق عليه.
معاشر المسلمات المؤمنات، أُذكركن بقول النبي : ((يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) رواه مسلم، وأذكّركن قولَ المصطفى : ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) رواه الترمذي.
أين من يزج بنسائه في ما يسمّى بالمهرجانات من هذا الحديث بقصد النزهة والاستجمام، فالويل لك ثم الويل لها, فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته.
إياك إياك ـ يا مسلمة ـ والخلوةَ مع الرجال الأجانب، مع سائق أو بائع أو ابن عم أو ابن خال أو جار، قال : ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)) متفق عليه.
إياكن والتساهل مع الرجال الأجانب أو الإفراط في محادثتهم والمزاح معهم، فبعض النساء تجالس أقارب زوجها ممن ليسوا محارمها، وتصافحهم دون وازع من دين أو رادع من حياء، وقد قال : ((إياكم الدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: ((الحمو الموت)) متفق عليه.
واحذري مصافحة الأجنبي، واحذر ـ أيها الرجل ـ مصافحة من ليست بمحرم لك، فقد قال : ((إني لا أصافح النساء)) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني، وقال أيضًا: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)) رواه الطبراني عن معقل بن يسار وصححه الألباني.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
تأملي ماذا يقول عطاء، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال هذه المرأة السوداء، أتت النبي فقالت: إني اصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)) ، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. رواه البخاري ومسلم.
فدعا لها، فكانت تصرع ولا تتكشف، فيا سبحان الله! امرأة سوداء، تحمّلت الصرع وآلامه، ولم ترض أن تتكّشف وهي معذوره شرعًا، فما بال نسائنا أغرقن بالتبرج والسفور، بل سعين إليه زرافات ووحدانا بعد أن جلب عليهن الشيطان الرجيم بخيله ورجله؟!
فيا أيتها المسلمة، أنقذي نفسك، فإن متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، فلا تغترّي بمالك ولا جمالك، فإن ذلك لا يغني عنك من الله شيئًا.
وإني أذكّرك بأن النبي عرضت عليه النار ورأى أكثر أهلها النساء، واعلمي أنك أعجز من أن تطيقي عذاب النار، واستجيبي لمنادي الحق، واعلمي أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، وأن الآخرة هي مسعانا وإن طالت الآمال في الدنيا، فماذا تريدين يا أخيَّه من هذه الألبسة ـ بنطال لثام عباءة مخصّرة أو على الأكتاف ـ التي تشترينها بالمئات وأنت ستوضّعين في القبر في كفن من أرخص الأقمشة؟! فهل تنفعك هذه الألبسة في ظلمة القبر؟!
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا أمة الله، ما هي السعادة؟ هل السعادة في المال والمنصب والجمال؟! كثير من الناس بحث عن السعادة في القنوات والمسلسلات وصفحات الإنترنت المشبوهة والمجلات الماجنة والأغنيات والمعاكسات والتبرج السفور فما وجدوها ولن يجدوها؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه: 124]، إذًا أين توجد السعادة؟ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97].
إن السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة هي في اتباع أوامر الله ورسوله وطاعتهما دون اعتراض أو تردد، وإياك ومن يصوّر لك هذا الدين بأوامره وتكاليفه على أنها نوع من تقييد الحرية وحرمان من المتع الدنيوية؛ فهؤلاء لا يريدون لك إلا السعادة المزيّفة والمتعة المؤقتة، ثم تكون الحسرة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
حذار ـ يا من ترتدين البنطال واللباس العاري أمام النساء والرجال أو العباءة المخصّرة وعلى الأكتاف أو تجمعين شعرك فوق رأسك أو تخرجين متعطرة فتفتنين الرجال ـ من هذا الوعيد الشديد الذي يحدّثنا عنه أنصح الخلق للخلق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم، يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، وأما تلك التي تستعطر حين تخرج لتلاحقها الأنظار فويل لها من هذا الوعيد، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)) رواه أحمد.
يا مسلمة، كم ستعيشين؟ سلِي نفسك هذه الأسئلة، وأجيبي جواب العاقلة المتزنة، هل تعلمين أنك ستسافرين سفرًا طويلاً بلا رجعة؟! هل أعددت العدة لهذا السفر؟! هل تزودت من هذه الدنيا الفانية بالأعمال الصالحة لتؤنس وحشتك في القبر؟! كم عمرك؟ وكم ستعيشين؟ ألا تعلمين أن لكل بداية نهاية وأن النهاية جنّة أو نار؟!
أيتها المسلمة، لا تغترّي بكثرة العاصيات، لا تغتري بكثرة من يتساهلن بالحجاب ومعاكسة الشباب ومقارفة الحرام، فنحن في زمن كثرت فيه الفتن حتى صار حالنا كما قال رسول الله : ((فإن وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم يعمل مثل عمله)) ، قالوا: يا رسول الله، أو منهم؟ قال: ((بل منكم)) رواه الترمذي.
فهنيئًا لمن صبرت واستقامت على طاعة الله ورسوله بالحياة الطيبة، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
(1/5310)
من صور إيذاء الجار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الأخوة والائتلاف. 2- وصية الله تعالى ورسوله بالجار. 3- الجار في السابق. 4- ذم جار السوء. 5- من صور الإيذاء للجار. 6- تدهور العلاقات بين الجيران في العصر الحاضر. 7- فضل التحابب في الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله القائل في كتابه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، والقائل سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. منهجٌ ربانيّ يحثنا على إحياء روابط العلاقة الأخوية بين بعضنا؛ حذَرًا من التشبه بمن غضِب الله عليهم من اليهود والنصارى فقال عنهم: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14].
هذا هو المنهج الإسلامي الرفيع الذي يحيي في نفوس أتباعه المولاة لله ولرسله ولشرعه، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض [التوبة: 71].
ومن أعظم الولاية ولاية الجار لجاره التي أوصى الله بها في كتابه فقال سبحانه: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ، وأوصى بها النبي فقال: ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)) صححه الألباني رحمه الله.
إلا أننا ومع الأسف نفتقد اليوم وجودَ الجار الصالح الذي تتوفر فيه خصال الجار التي حث عليها الإسلام وأمر بها، قال عليه الصلاة والسلام: ((أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق)) خرجه الألباني في الصحيحة.
عباد الله، لقد كان الجار في السابق مؤمنا تقيا وأبا مربيا، يشعر بمسؤولية جاره كما يشعر بمسؤوليه رعيته تماما. لقد كان الجار المسلم يهنئ جيرانه في أفراحهم ويواسيهم في أحزانهم، يفرح لما يفرحون ويحزن لما يحزنون، ويكف أذاه عنهم، لا يحسدهم ولا يؤذيهم، قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) متفق عليه، أي: شروره.
ولعلي أهمس في أذن جار السوء بقصة إن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلانَة يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي النَّارِ))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلانَة يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)) صححه الألباني. الله أكبر! صائمة النهار وقائمة الليل في النار، نعم إذا طال أذاها الناس.
وأما من ابتلي بجار يؤذيه فعليه بالصبر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَاصْبِر)) ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ))، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. حسنه الألباني رحمه الله.
أما والله لو علم الجار بفضل جاره عليه ما آذاه أبد الدهر، فأرعني سمعك لهذا الحديث، وافتح لي مغاليق قلبك وانظر، قال : ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ)) حسنه الألباني، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ)) رواه البخاري.
ومن صور إيذاء الجار حسده وتمني زوال النعمة عنه، أو السخرية به واحتقاره، أو إشاعة أخباره وأسراره بين الناس، أو الكذب عليه وتنفير الناس منه، أو تتبّع عثراته والفرح بزلاته، أو مضايقته في المسكن أو موقف السيارة، أو إلقاء الأذى عند بابه، أو التطلّع إلى عوراته.
عباد الله، إن المسلم ليتألم عندما يلاحظ في المجتمع الإسلامي كثرة المشاكل والتدهور في العلاقات بين الجيران، فتجد جارا يكيد بجاره المكائد والمصائب، وآخر لا يتكلم مع جاره لأيام طويلة، والنبي يقول: ((من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار)) أي: ثلاث ليال، وآخر لا يعرف أن جاره يمر بمناسبة سعيدة فيهنيه أو حزينة فيواسيه ويعزيه، وأخطر من ذلك أن تجد جيرانا يعيشون في عمارة واحدة ولا يتعارفون، وإن سألت أحدهم عن أقرب الجيران منه لا يعرفه، وربما لا يلتقون إلا على باب المبنى، فأين هؤلاء من الاقتداء برسول الله في معاملته مع جيرانه؟!
عباد الله، كان للنبي بالمدينة جار يهودي يؤذيه، وكان عليه الصلاة والسلام يصبر ويحتسب، فلما مرض اليهودي زاره، فدخل الرعب في قلب اليهودي ظنا منه أن محمدا عليه الصلاة والسلام جاء لينتقم منه مستغلا مرضه، وإذا به يفاجأ بأن النبي جاء ليواسيه ويسأل عن حاله ويقدّم له العون إن لزم الأمر، عندئذ طأطأ اليهودي رأسه اعترافا له بالجميل وأعلن الشهادة وأصبح من المسلمين.
عباد الله، لقد أصبح الجار اليوم يبيت بهمه جراء أذية جاره، وأصبح يتهيّب مناصحته وتنبيهه خشية ردة فعل تزيد في سوء العلاقة أو تقطعها البته، وخشية أن يكون الجار ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فأصبح المرء لا يدري كيف يناصح جاره، وفي أي موضوع يناصحه، وما هي الطريقة في مناصحته، والدّين كما تعلمون النصيحة، ففي أيّ شيء يناصحه، أيناصحه عن حارسه الذي يقف تجاه باب عمارته يترصّد له ولعرضه ليلا ونهارا، أم يناصحه عن أكياس القمائم التي يضعها عند بابه كل صباح ومساء، أم يناصحه عن إسرافه في الماء الذي يماطل في المساهمة في شرائه، أم يناصحه في قطع السلام وعدم رده، أم يناصحه عن تركه للصلاة وعكوفه على مشاهدة المحرمات واستبداله الذي هو أدنى بالذي هو خير، أم يناصحه عن روائح الدخان التي تفوح من بيته، أم يناصحه عن أبنائه التاركين للصلاة والمتخذين من باب المدخل للعمارة مقعدا دائما للقيل والقال والتحملق بأنظارهم إلى عرضه وزواره وضيوفه، أم يناصحه عن أذية أبنائه واللعب حول مركبه وداره ومسكنه؟! فأين هؤلاء من قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]؟! ماذا دهانا يا أمة الإسلام؟! ألم يقل الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات: 13]؟! كم حرمنا من الخير بالتدابر.
والمتحابون في الله في ظل العرش يوم القيامة، وعلى منابر من نور يوم القيامة، فهل زهدنا في هذا الأجر؟! يقول النبي : ((يقول الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ)) أخرجه الإمام مالك رحمه الله بإسناد صحيح، ويقول النبي : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، وذكر منهم: ((رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) ، وكذ جاران تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا)) رواه مسلم (2564).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5311)
البكاء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
علي بن حارب القاسمي
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الخوف من الله تعالى. 2- ظاهرة انتشار الغفلة وقسوة القلب. 3- فضل البكاء من خشية الله تعالى. 4- أسباب قسوة القلوب. 5- بكاء النبي. 6- بكاء السلف الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها المسلمون، إن الخشية من الله والخوف منه من كمال الإيمان، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك: 12].
والناظر الآن لحال كثير من الناس يجد الغفلة قد تحكمت في قلوبهم، فقست القلوب، وتحجرت العيون، حتى إنها لا تتعظ بسماع آيات تتلى أو أحاديث تذكر أو موعظه تقال، وما هذا إلا بسبب الركون إلى الدنيا وطول الأمل والغفلة عن الموت ونسيان الآخرة.
كثير منا من يقرأ القرآن ولكن لا تدمع عيونه من خشية الله، وكثير منا من يستمع إلى أحاديث تذكره بالآخرة وتخوفه بالنار وتحببه في الجنة ولكن قلبه لا يخشع ولا يخضع ولا يلين، فقد عمت البلوى، وانتشرت المعاصي والآثام، فلم يبقَ لهذا القلب خوف من الله، ولم يبق لهذه العين خشية حتى تدمع شوقًا إلى الله.
إخوة الإسلام، ليسأل الواحد منا نفسه: بالله عليك، متى آخر مرة دمعت عيناك خشية وخوفًا من الله؟ ولعل جواب كثير منا قد يكون: من سنوات عديدة، فلماذا هذه القسوة في القلوب؟! ولماذا هذا التحجر في العيون؟! ما هو إلا بسبب الابتعاد عن منهج الله والركون إلى هذه الدنيا الفانية، فقد نقرأ القرآن ولا نتأثر ولا نبكي، ونسمع أحاديث النبي ولا تقشعر الجلود، ونسمع المواعظ والتخويف بالله وبالآخرة ولا نحرك ساكنا.
عباد الله، يقول الله سبحانه وتعالى عن أولئك الذين تدمع عيونهم من خشية الله وترق قلوبهم لذكر الله، يقول سبحانه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83]، ويقول عنهم سبحانه أيضًا: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58]، ويقول كذلك: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 109].
وانظروا ـ إخوة الإسلام ـ إلى الفضل العظيم الذي أعده الله سبحانه لصاحب العين التي تدمع خشية وخوفًا من الله، يقول النبي : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) ، ويقول: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) ، وقد عدّ النبي الرجل الذي يبكي من خشية الله من السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، يقول النبي : ((سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله)) ، ذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عينا)) ، فاضت عيناه بالدموع رهبة وخشية من الله.
فوالله، ما تحجرت العيون وقست القلوب إلا بتراكم المعاصي والآثام، فأصبح القلب لا يجد مساغًا لآيات تتلى وأحاديث تذكر، والنبي يقول: ((إن العبد إذا أذنب ذنبًا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن)) ، كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فقد أظلم هذا القلب بشؤم المعصية، فكيف لقلب علاه الران أن يبكي من خشية الله؟! وكيف لقلب سودته المعاصي والآثام أن يتفكر في خلق الله؟!
أيها المسلمون، يقول الله سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، فهل كان يبكي نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام؟! نعم كان يبكي بأبي هو وأمي، وكان يتأثر بالقرآن عندما كان يقرؤه أو حتى عندما كان يسمعه من غيره، فقد قال يوما لعبد الله بن مسعود: ((اقرأ علي القرآن)) ، فقال له عبد الله: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، فأخذ عبد الله يقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] فقال له النبي : ((حسبك)) ، يقول عبد الله: فنظرت إلى النبي فإذا عيناه تذرفان، أي: تبكيان تأثرًا بالقرآن.
ومر ذات ليلة على بيت امرأة عجوز تقرأ القرآن، فسمعها تقول: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية: 1]، والمخاطب هنا رسول الله، هل أتاك حديث يوم القيامة؟ فقال عليه أفضل الصلاة والسلام وهو يبكي: ((نعم أتاني، نعم أتاني)).
وروي أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها سئلت عن أعجب ما رأته من رسول الله ، فبكت ثم قالت: كان كل أمره عجبًا، أتاني في ليلتي التي يكون فيها عندي، فاضطجع بجنبي حتى مسّ جلدي جلده، ثم قال: ((يا عائشة، ألا تأذنين لي أن أتعبّد ربي عز وجل؟)) فقلت: يا رسول الله، والله إني لأحب قربك، وأحب هواك ـ أي: أحبّ أن لا تفارقني وأحب ما يسرك مما تهواه ـ قالت: فقام إلى قربة من ماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر صبّ الماء، ثم قام يصلي ويتهجد، فبكى في صلاته حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الفجر رآه يبكي، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال له: ((ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة هذه الآيات: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191] )) ، فقرأها إلى آخر السورة، ثم قال: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)).
هذه الآيات التي أبكت نبينا ـ أيها الأحبة ـ وأقضت مضجعه ولم تجعله يهنأ بالنوم في ليلته تلك، فكان يقرؤها في صلاته، ويبكى قائمًا وساجدًا، وبكى وهو مضطجعًا، نعم إنها لآيات عظيمة تقشعر منها الأبدان وتهتز لها القلوب، قلوب أولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض، وليست كلّ القلوب كذلك، فهلا تفكرنا في ملكوت الله؟! وهلا أكثرنا من ذكر الله واستشعرنا عظمته سبحانه وتعالى؟! لو فعلنا ذلك لبكينا من خشية الله عند سماع أو قراءة هذه الآيات، ولكن لله المشتكى من قسوةٍ في قلوبنا وغفلة في أذهاننا.
ويقول الصحابة: كنا نسمع لجوف النبي وهو يصلي أزيزا كأزيز المرجل من البكاء. وكان يبكي عليه الصلاة والسلام خوفًا من عذاب القبر، فقد حضر جنازة صحابيّ من الأنصار، وبعد أن دفنه بكى بكاء شديدًا حتى بل الثرى، فقال للصحابة: ((لمثل هذا فأعدوا)). والمواقف في ذكر بكاء النبي كثيرة.
وكذلك الصحابة والتابعون، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقالوا له: ما يبكيك وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟! فقال: ما أبكي جزعًا من الموت أن حلّ بي، ولا لدنيا تركتها بعدي، هما القبضتان: قبضة في الجنة وقبضة في النار، ولا أدري في أي القبضتين أكون، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7]. وبكى الحسن رضي الله عنه فسئل عن ذلك، فقال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي. ومر سيدنا عبد الله بن مسعود على الحدادين وقد أخرجوا حديدًا من النار، فقام ينظر إلى الحديد وهو يبكي.
سبحان الله! كان الواحد منهم يبكي تأثرأ بالقرآن، ويبكي خوفًا من الآخرة وأهوالها، ويبكي خوفًا من النار واشتياقًا إلى الجنة.
وهذا الفضيل بن عياض رضي الله عنه قرأ ذات ليلة سورة محمد، فلما وصل إلى قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، فجعل يردّدها ويبكي، ثم جعل يبكي ويقول: وتبلوَ أخبارنا وتبلو أخبارنا، إن بلوت أخبارنا فضحتَنا وهتكت أستارنا، إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكي. وبكى ابنه علي بن الفضيل مرة فسأله أبوه: ما يبكيك يا ولدي؟ قال: يا أبتِ، أخاف أن لا تجمعنا القيامة.
امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومُحاسب يا من على سخط الْجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبّه فرضى بهم واختصهم خدّاما
قوم إذا جن الظلام عليهم باتوا هنالك سجدًا وقياما
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: إن أهل المعاصي ليسوا من الله في شيء، فقد اجتمعت على قلوبهم الذنوب حتى صارت قلوبًا قاسية كالحجارة أو أشدّ قسوة، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، أما أهل الإيمان فهم أهل الله وخاصته، الذين ما تركوا لله طاعة إلا شمروا عن ساعد الجد لأدائها، وما علموا بشيء فيه رضا لله إلا فعلوه راغبين راهبين، فأورثهم الله نور الإيمان في قلوبهم، فصارت قلوبهم لينة من ذكره تعالى، وقادت جوارحهم للخشوع، فما تكاد تخلو بالله إلا فاضت أعينهم من الدمع من كمال خشيته، وكانت تلك الدموع أكبر حائل يحول بين صاحبها وبين النار، يقول سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23]، ويقول سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، ويقول النبي عن أولئك الذين تقشعر جلودهم من خشية الله ويخافون عقابه، يقول عنهم: ((إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها)).
إخوة الإسلام، بكت فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله ذات مرة، فسئلت فقالت: رأيت عمر بن عبد العزيز ذات ليلة قائمًا يصلي، فأتى على هذه الآية: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة: 4، 5]، فبكى ثم قال: وا سَوءَ صباحاه، فسقط على الأرض وجعل يبكي حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق إفاقة فنادى: يا سَوءَ صباحاه، ثم قفز فجعل يجول في الدار ويقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت، حتى أتاه الإذن للصلاة، فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.
ومرّ أحد الصالحين على طاهي لحم يشوي اللحم على النار، فأخذ هذا الرجل الصالح يبكي بكاء شديدًا بلا سبب يذكر، فاستغرب الطاهي، فقال له: ما يبكيك؟! إن كنت تبكي لعدم توفّر المال لديك لاشتِراء اللحم فسوف أعطيك بدون مقابل، فقال الرجل الصالح: والله، ما أبكي لهذا، ولكني أبكي على ابن آدم، الحيوان يدخل النار وهو ميت، وابن آدم يوم القيامة يدخلها وهو حي، ومع هذا فهو لا يخشَى الله. نعم، إن الحيوان يشوى على النار بعد أن يموت، فلا يحس بحرارة النار، وابن آدم يوم القيامة يدخل النار ويعذّب فيها وهو حيّ والله المستعان، ومع هذا تجد الواحد منا لا يخشى الله ولا يعمل للخلاص من هذه النار التي أعدّت لمن عصى الله ورسوله.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وابكوا على ذنوبكم، واخشوا ربكم، وخافوا عقابه، وإن لم تبكوا فتباكوا فلعل دمعة صدق تنجي صاحبها من عذاب الله يوم القيامة.
هذا وصلوا على إمام المرسلين سيدنا محمدٍ ، فقد أمركم الله سبحانه وتعالى بالصلاة والسلام عليه...
(1/5312)
مفسدات الدين
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الكبائر والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
24/4/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة إقامة الدين وحفظ مصالح الدنيا. 2- خطورة اتباع الشهوات. 3- كبائر الذنوب. 4- ذم الابتداع في الدين. 5- تعريف البدع. 6- تدرج الشيطان في إضلال العبد. 7- أوائل البدع. 8- بيعة الفئة الضالة لواحد منهم. 9- فتنة أهل البدع وتلبيسهم على الناس. 10- الحث على التمسك بالسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتَّقوا الله حقَّ التَّقوى يصلِحْ لكم أموركم ويُعظِم لكم أجوركم.
أيّها المسلمون، إنَّ تمامَ النّعَم عَلَيكم أن علَّمكم الله أمورَ دِينِكم، وأعانَكم على إقامةِ هذا الدين، وحفظ لكم مصالحَ دنياكم، قَالَ الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 231]، وقال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34].
ألاَ وإنَّ مما يهدِم الدينَ ويضيِّع مصالحَ الدّنيَا أَمرَينِ خَطيرَينِ:
الأمرُ الأول: اتِّباعُ الشّهواتِ الموبقات والفواحشِ والمنكَرَات؛ فإنها تفسِد القلوب، وتعمي البصائرَ، وتحسِّن القبيح، وتقبِّح الحسن، وتجلب الشرورَ والمفاسِدَ، وتُعرِّض صاحبَها لأليم العقوباتِ، قال الله تبارك وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59]، عن ابن مسعود قال: (الغَيُّ نهرٌ أو وادٍ في جهنّم من قيح، بعيد القَعر، خبيث الطَّعم، يُقذَف فيه الذين يتَّبعون الشهوات) رواه الحاكم وصحَّحه وابن جرير والبيهقي، وأخرج عبد بنُ حميد عن ابن مسعودٍ أيضًا في قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ قال: (ليس إضاعتُها تركها، قد يضيِّع الإنسانُ الشيءَ ولا يتركه، ولكن إضاعتُها إذا لم يصلِّها لوقتِها).
فكبائِرُ الذنوبِ تهدِم دينَ المسلِم، وتوهِي أركانَ الإسلام، وإذا استحلَّها المسلم خرَجَ من دينه والعياذ بالله.
وكبائر الآثامِ كثيرة، وقد أخرج الطبرانيّ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنه قيلَ له: الكبائر سبع؟ قال: (هي إلى سبعين أقرَبُ) وفي رواية: (هي إلى السَّبعمائة أقرَب). فالكبائر هي كلُّ معصيةٍ أوجب الله فيها حدًّا في الدنيا كالزّنا واللواط، أو توعَّدَ الله عليها بالنّار، أو لعَن الله فاعِلَها، أو تَوَعّدَه بِغَضبٍ أو مَقتٍ، أو أخبر الشَّرعُ بحِرمانِ صاحبها من خير، أو رتَّب الله عَلى فِعلها عقوبةً في الدنيا أو الآخرة.
وقد عيَّن القرآن والسنّةُ بعضَها لكثرةِ شرِّها وضررها، بيّن بعضَها في نصٍّ واحدٍ، وبيّنتها النّصوصُ الأخرى في القرآنِ والسّنَّة، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30]، وكقولِ النبيِّ : ((اجتنبوا السّبعَ الموبقات)) ، قالوا: يا رسولَ الله، وما هنّ؟ قال: ((الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النّفس التي حرم الله إلا بالحقّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتّوَلي يوم الزحف، وقذفُ المحصنات الغافلات المؤمنات)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وليستِ الكبائر محصورةً في نصٍّ واحد، بل مذكورة في نصوصٍ كثيرةٍ في القرآن والسنة، والنّبيّ قال: ((إنَّ الحلالَ بيِّن، وإنّ الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكلّ ملِكٍ حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه)) رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
والأمر الثاني الذي يهدِم الدّينَ: البِدَعُ المضِلّة والمحدثات المنكرة، فإنها تنقُضُ الإسلام عروةً عُروة، قال الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18، 19]، وعن جابرٍ أنَّ النَّبيَّ كانَ يَقول إذا خَطَب: ((أما بَعد: فإن خيرَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة)) رواه مسلم.
والبِدَع ما أُحدِث في الدين مخالفًا لهديِ رسول الله ، والبِدَع أعظم ضررًا وأكثَر شرًّا من الكبائر، فالكبائر ضرَرُها على صاحبها، أمّا البدع فضَرَرُها على صاحبها وعلى المجتَمَع، ولأنَّ البدَعَ المحدَثَة المخالِفَة لمنهج أهلِ السّنّة والجماعة مطلَبٌ وغايَة لإبليس يسعى لدعوة الناس إليها، فأعظَمُ مطلبٍ وغاية للشيطان دَعوةُ الإنسان إلى الكفر، فإن أجابه إلى الكفر أحبَّه واتخَذَه وليًّا وفرِح به، وصار من حزبه في النار، قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]. فإن لم يستَجِب له الإنسان بالكفر دعاه إلى البدع؛ لأن صاحبَ البدعة قلَّما يتوب منها؛ لاعتقاده بأنها دين، فصَاحب البدعة بعيد عن هديِ الرّسول ومخالف لمنهَجِ أهل السنة والجماعة، والله عزّ وجلّ يقول: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]. فإن لم يستَجِب المسلِمُ للشيطان بملابَسَة البِدَع دعاه إلى كبائِرِ الذنوب، وهكذا حتى يَنَال هذا العدوُّ من الإنسانِ بعضَ ما يريد.
وقد حَدَثَت أوائِلُ البِدَع في أواخِرِ عصرِ الصحابة رضي الله عنهم، فدَفَع في نحورِها هؤلاءِ الصحابةُ الأتقياء، وحاربوها بالسيفِ والبيان حتى وقَى الله المسلمين شرَّها في زمانهم.
وأوَّلُ بدعةٍ حدثت في الأمة بِدعَةُ الخوارِجِ الذين سَلّوا سيفَ الفتنة في المسلمين، فشتَّتُوا الشّملَ، وفرَّقوا الصّفَّ، واختلفت الكلِمَة، ثم ظهَرَت البِدَع المضلِّة بعد ذلك واحدةً بعد أخرى، وصار لكلِّ فرقة ضالّة وارثٌ ومنهج خالَفَت به منهجَ أهل السنة والجماعة.
ومِن أقرَبِ الحوادِثِ التي وقَعَت ما ذُكِر أنَّ ناسًا مِنَ الخوارِجِ في الأيّام القريبَةِ الماضية بايَعوا أحَدَهم، وكادهم الشيطان بذلك، فما أشدَّ مَكرَ الشَّيطانِ بهم! وما أعظَمَ جَهلَهم! وسبحانَ الله الذي بيَّن الحقَّ مِن الباطلِ والهدى من الضَّلال، هذَا الفِعلُ الذِي زيَّنه الشّيطان لهم بَيعةُ ضلال وفتنةٍ وبابٌ مِن أبوابِ النّار واستحلال لما حرَّم الله وفتحُ أبوابٍ من الشرور والمفاسِد لا حدَّ لها وغَدرٌ بإمامِ المسلمين في هذه البلاد ونكثٌ منهم لبيعته وشقٌّ لعصا المسلمِين وخروجٌ منهم على جماعةِ المسلمين وإمامِهم، والشريعة الإسلاميّةُ بَرِيئَة من هذِهِ الفتنِ المضِلَّة.
وإنّما ذُكِر فعلُهم حتى لا يقَع في شرِّهم وحتى لا يقَعَ في مِثلِ فعلِهم غيرُهم ممّن قد يغترُّ بأفعالهم. عن عرفجةَ بنِ شُرَيح قال: قال رسول الله : ((من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحد يريد أن يشقَّ عصاكم أو يفرِّقَ جماعتَكم فاقتلوه)) رواه مسلم.
معشرَ الشباب، إنَّ مجتَمَعَكم باستِقرارِه وبِكيانِه وتَركيبَتِه مِن ولاةِ أمرِه وعلمائِه وعامَّته وخاصَّتِه وصغيره وكبيره دِرعٌ لكم يقيكم الله به سِهام الأعداء، وحصنٌ لكم يحميكم الله به من الفِتن، ويحقِّق الله بِهِ الاستقرارَ لكم، ويمتِّعكم متاعًا حسنًا، فمَن فكَّر في زَعزَعَة أمنِ هذا المجتمع وإشعال فِتنَة فلقد لعِب بدينه وسفِه عقلُه وخدَمَ أعداءَ الإسلام، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكرِ والحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرَّحمن الرَّحيم، مالِكِ يومِ الدين، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريك، وأشهد أنَّ نبينا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتَّقوا الله بعبادَتِه والإخلاصِ له في طاعَتِه، واحذروا من الوقوع في معصيته.
عبادَ الله، يقول ربُّكم جلَّ وعلا: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 3].
أيُّها المسلمون، اعرِفوا الحقَّ تعرِفوا أهلَه، واعرِفوا الباطِلَ تعرِفوا حِزبَه، فإنّ أهلَ البدَع قد أحدثوا في أصولِ الإسلام وفروعه أقوالاً وأعمالاً ليسوا بها على شَيءٍ، ولبَّسوا بها على كثيرٍ مِنَ الناس، فمن لا علمَ له ولا بصيرةَ افتتن بما أحدَثوا من المبتَدَعات، ومن اعتَصَمَ بالكتاب والسنة فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم، ومن أخَذَ العلم عن أئمّة المسلمين المتَّبعين للصحابة رضي الله عنهم كان من المفلحين، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزالُ طائفةٌ من أمّتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضرّهم من خَذَلهم ولا من خالَفَهم حتى تقوم الساعة)).
أيها المسلمون، إنَّ مِن أعظم وصايا نبيِّنا محمّدٍ في كلِّ وقت قولَه : ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة)) رواه الترمذي وحسنه.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قالَ : ((مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحِدَة صلّى الله عليه بها عشرًا)) ، فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد...
(1/5313)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
1/5/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن والسنة فيهما تفصيل كل شيء. 2- تعريف الأرحام. 3- الأمر بصلة الرحم. 4- ثواب الصلة. 4- فوائد صلة الأرحام. 5- صلة الرحم واجبة وإن قطعت. 6- مفاسد قطيعة الرحم ووعيدها. 7- حقيقة الصلة. 8- السبيل إلى صلة الرحم. 9- أهمية المرأة في هذا الباب. 10- التذكير باليوم الآخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله أيّها المسلِمون، وأدّوا الحقوقَ لأربَابها، وأوصِلوهَا لأصحابهَا، يكتُبِ الله لكم عظيمَ الثوابِ، ويجِركم من أليم العقاب.
واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ ربَّكم بمنِّه وكرمِه فصَّل في كتابِه كلَّ شيءٍ، وأرشَدَكم رسولُ الهدى عليه الصلاة والسلام إلى ما يُقرِّبكم منَ الجنّة وما يباعِدُكم من النارِ ويسعدكم في هذه الدَّار، فبيَّن الحقوقَ التي لرَبِّ العالمين على عِبادِه؛ لأنّ حقَّ الله عَلَينا أعظمُ ممّا افترضه وأكبر ممّا أوجبه، ولكنّ الله برحمتِه فَرضَ عَلَينا بَعضَ ما في وُسعنا، وإلاَّ فحَقّ الله أن يُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يشكَر فلا يُكفَر.
وبيَّن الله حُقوقَ العباد بعضِهم على بَعضٍ؛ لتكونَ الحياةُ آمنةً مطمئنّة راضِيَة مباركة، تظلُّها الرَّحمة، وتندَفِع عنها النِّقمة، ويَتمّ فيها التعَاوُن، ويتَحَقّق فيها التَّناصُر والمودّة، فبيَّن حقوقَ الوّالدين على الولَد وحقوقَ الولدِ على الوالدين وحقوقَ ذوي القربى والأرحَامِ بعضِهم على بعض.
وكلٌّ يُسأَل عن نفسِه في الدنيا والآخرةِ عن هَذِه الحقوقِ الواجباتِ، فإن أدَّاها وقامَ بها على أَحسنِ صِفة كان بأعلَى المنازِلِ عندَ ربِّه، وقام بأداء هذه الأمانة التي أشفَقت منها السموات والأرض والجبالُ، ومن ضيَّع هذه الحقوقَ كانَ بأخبثِ المنازِلِ عند ربّه الذِي هو قائمٌ على كلّ نفس بما كَسَبَت، لا يعزُب عنه مثقالُ ذرّةٍ.
عبادَ الله، إنَّ صلةَ الرحم حقٌّ طوَّقَه اللهُ الأعناقَ، ووَاجِبٌ أثقَلَ الكواهلَ وأشغَلَ الذِّمَمَ. والأرحامُ هم القَرابَاتُ من النَّسَب والقرابَاتُ مِنَ المصَاهرة.
وقَد أكَّد الله على صِلة الأرحام وأمَر بها في مواضعَ كثيرة من كتابِهِ، فقالَ تَعَالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء: 26]، وجَعَلَ صِلةَ الرحم بعد التّقوى من الله تعالى فقال عز وجلَّ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
ولعِظَمِ صِلةِ الرّحِم ولكونها من أسُسِ الأخلاقِ ورَكائز الفضائِلِ وأبوابِ الخيرات فرَضَها الله في كلِّ دِينٍ أنزله، فقال عز وجلّ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 83]، وفي حديثِ عبدِ الله بنِ سلامٍ رضي الله عَنه أنَّ النبيَّ قال أوَّلَ مَقامٍ بالمدينةِ: ((أيّها الناسُ، أفشُوا السلامَ وأطعِموا الطَّعام وصِلوا الأرحامَ وصَلّوا باللَّيل والناس نِيام تدخلُوا الجنة بسلامٍ)) رواه البخاريّ [1].
وثَوابُ صِلةِ الرَّحِم [مُعَجَّلٌ] في الدُّنيا مَعَ مَا يدَّخر الله لصاحبِها في الآخِرَة من الثوابِ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((مَن سرَّه أن يُبسَطَ لَه في رِزقِه وأَن يُنسَأَ له في أثَرِه فَليَصِل رحمه)) رواه البخاري [2] والترمذي ولفظه قال: ((تعلَّموا من أنسابِكم ما تَصِلون به أَرحامَكم، فإنّ صلَةَ الرَّحم محبَّةٌ في الأهل مَثرَاة في المال منسأَة في الأثر)) [3] ، وعن علي رضي الله عنه عن النبيِّ : ((مَن سرَّه أن يُمَدّ له في عُمُره ويوسَّع لَه في رزقِه ويُدفع عنه ميتةُ السّوء فليتَّق اللهَ وليصِل رَحمَه)) رواه الحاكم والبزّار [4] ، وعن ابنِ عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((إنّ اللهَ لَيعمِّر بالقومِ الدِّيارَ، ويثمِّر لهم الأموال، وما نظر إليهم مُنذُ خلَقَهم بُغضًا لهم)) ، قيلَ: كيف ذاك يا رسول الله؟! قال: ((بِصِلَتهم أَرحامَهم)) رواه الحاكم والطبرانيّ [5] ، قال المنذري: "بإسناد حسن" [6] ، وعَن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رَسول الله : ((ما مِن ذَنبٍ أَجدر أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع مَا يدَّخر له في الآخرةِ منَ البغيِ وقطيعة الرَّحِم)) رواه ابن ماجه والترمذيّ والحاكم [7] ، وعن أبي بكرةَ أيضًا قال: قال رسول الله : ((إنّ أعجلَ البرّ ثوابًا لصِلةُ الرحم، حتى إنَّ أهلَ البيت ليكونون فَجَرة، فتنمُو أموالهم ويكثُر عَدَدُهم إذا تواصَلوا)) رواه الطبرانيّ وابن حبّان [8].
وصلةُ الرحِم لها خاصّيّة في انشراحِ الصَّدر وتيسُّر الأمرِ وسماحةِ الخلُق والمحبَّةِ في قلوب الخَلق والمودَّة في القربى وطِيبِ الحياة وبركَتِها.
والمسلمُ فَرضٌ عليه صلةُ الرَّحم وإن أدبَرت، والقِيامُ بحقِّها وإن قطَعت؛ لِيَعظمَ أجرُه ويقدِّم لنفسه، وليتحقّق التعاونُ على الخير، فإنَّ صلَة الرحم وإن أدبَرَت أدعى إلى الرجوعِ عن القطيعةِ وأقربُ إلى صفاءِ القلوب، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بخصالٍ من الخير، أوصاني أن لا أنظرَ إلى من هو فوقي وأن أنظُرَ إلى من هو دوني، وأوصاني بحبِّ المساكين والدُنُوِّ مِنهم، وأوصاني أن أَصِلَ رَحمي وإن أدبَرَت، وأوصاني أن لا أخافَ في الله لومَةَ لائِم. رواه الإمام أحمد وابن حبَّان [9]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِن إليهم ويسِيئون إليّ، وأحلُم عَلَيهم ويجهَلون عَلَيّ، فقال: ((إن كُنتَ كما قلتَ فكأنما تسفُّهم الملّ ـ أي: الرَّماد الحارّ ـ ، ولا يزالُ معك من الله عليهم ظهيرٌ ما دمتَ على ذلك)) رواه مسلم [10] ، وعن عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما عنِ النبيِّ قال: ((ليسَ الواصِلُ بالمكافئِ، ولكنّ الواصلَ الذي إذا قَطَعت رحمُه وصَلَها)) رواه البخاريّ [11].
وقطيعةُ الرحِم شؤمٌ في الدّنيا ونَكَدٌ وشرّ وحَرج وضيقٌ في الصَّدر وبُغض في قلوب الخلقِ وكَراهةٌ في القربى وتَعَاسَة في أمورِ الحياة وتعرُّضٌ لغضَب الله وطردِه وعقوبةٌ أليمَة في الآخرة، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله : ((إنَّ اللهَ خَلَقَ الخلقَ حتى إذا فرَغَ منهم قامَتِ الرحمُ فقالت: هذا مقامُ العائذ بك من القطيعة، قال الله: نَعَم، أما تَرضَينَ أن أصِلَ من وصلَك وأقطعَ من قطعك؟ قالت: بَلَى، قال: فذاك لَكِ)) ، ثمّ قال رسول الله : ((اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 22، 23] )) رواه البخاري ومسلم [12] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((إنّ أعمالَ بَني آدمَ تُعرَض كلَّ خميسٍ ليلةَ الجمعة، فلا يقبَل عملُ قاطع رحِم)) رواه أحمد [13] ، وعن الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا بعد الصبحِ في حلقة فقال: (أنشد الله قاطِعَ رحم لما قامَ عَنَّا، إنَّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا، وإنَّ أبوابَ السماء مُرتَجَة [14] دونَ قاطِع رحم) رواه الطبرانيّ [15] ، وعن أبي موسَى رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: مدمنُ الخمر وقاطع الرَّحم ومصدِّقٌ بالسِّحر)) رواه أحمد والطبرانيّ والحاكِم [16].
أيّها المسلِمون، إنَّ صِلةَ الرَّحِم هِي بذلُ الخيرِ لهُم وكَفُّ الشرِّ عَنهم، هِي عِيادةُ مَريضِهم ومُواساةُ فقيرِهم ونفعُه وإرشادُ ضالّهم وتَعلِيمُ جاهِلهم وإتحافُ غنيّهم والهديّةُ له ودَوامُ زيارتهم والفرحُ بنِعمَتِهم والتهنِئَةُ بسرورِهم والحزنُ لمصيبَتِهم وتفقُّدُ أحوالهم وحِفظُهم في غَيبَتهم وتَوقيرُ كبيرِهم ورَحمةُ صغيرِهم والصبرُ على أذاهم والنصحُ لهم وحُسنُ صُحبَتِهم، وفي مراسيل الحسَن: ((إذا تحابَّ النّاسُ بالألسُنِ وتباغَضُوا بالقلوب وتقاطَعوا بالأرحام لعَنَهم الله عند ذلك، فأصمَّهم وأعمَى أبصارهم)) [17].
وإنَّ القطيعةَ بين الأرحام في هذا الزمانِ قد كثُرت، وساءَتِ القلوب، وضعُفت الأسبابُ، وعامّةُ هذِهِ القطيعةِ على الدّنيا الحقيرة وعلى الحظوظِ الفانيَة، فطوبى لمن أبصَرَ العواقبَ، ونظَرَ إلى نهايةِ الأمورِ، وأعطَى الحَقَّ من نفسِه، وأدَّى الذِي عليه، ورغِب إلى الله في الذي له علَى غيره، وأتى إلى الناس ما يحبُّ أن يَأتوه إليه.
وإنَّ القطيعةَ المشؤومةَ قَد تَستَحكِم وينفُخُ الشيطان في نارِها، فيتوارَثُها الأولادِ عن الآباء، وتقع الهلَكَة وتتَّسع دائرة الشَّرّ، ويكون البغي والعدوان، وقد تدوم هذه القطيعةُ بَين ذوي الرَّحِم حتى يفرِّق بينهم الموتُ على تلك الحالِ القبيحة، وعند ذلِك يحْضُر الندم وتثورُ الأحزان وتتواصَل الحسرات وتتصاعَد الزَّفرات، وعند ذلك لا ينفعُ النّدمُ، ولا يداوي الأسَف جِراحاتِ القلوبِ، ويتركون جيفةَ الدّنيا بعدَهم، فلا لِقاءَ إلاَّ بعد البَعثِ والنشور، فيجثُو كلٌّ أمامَ الله الحَكَم العَدلِ، فيقضي بينهم بحكمه وهو العَزيزُ العليم.
والصبرُ والاحتمالُ والمعروفُ والعَفو خيرُ الأمور وأفضلُ دواءٍ لما في الصّدور، عن عُقبةَ بنِ عامر رضي الله عنه قال: لقيتُ رسولَ الله فأَخذتُ بيده فقلتُ: يا رسول الله، أخبرني بفواضِلِ الأعمَال، فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعَك، وأعطِ من حَرمَك، وأعرض عمّن ظلَمَك)) ، وفي رواية: ((واعفُ عمّن ظَلَمَك)) رواه أحمد والحاكم [18].
أيّها المسلمونَ، إنّ المرأةَ قد تَكون من أسبابِ القطيعة؛ بِنَقلِها الكلامَ وبثِّها المساوِئ ودفنِها المحاسن وتحريشها للرجال، وقد تَرى لحماقَتِها أنَّ لها في ذلكَ مَصلَحةً، وقد تدفع أولادَها في الإساءةِ لذوي القربى، فعليها يكونُ الوزرُ، والله لها بالمرصاد.
وقد تكونُ المرأةُ مِن أسبابِ التواصل بين الأرحام وتَوطيدِ المودّة بَينَهم؛ بصبرها وتحمُّلها ونصيحَتِها لزوجها وأولادها وحثِّها على الخير وتربية أولادها، والله عز وجل سيثيبها، ويصلِح حالها وحالَ أولادها، ويحسِن عاقبَتَها.
فيا [أيّتها] المسلِمَات، اتقِين الله تعالى وأصلِحنَ بَين ذوي القربى، ولا تكُنِ القطيعةُ مِن قِبَلِكنّ، فإنّ الله لا يخفَى عليه خافِيَة، قال الله تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الروم: 38].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظِيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1324)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5985).
[3] سنن الترمذي: كتاب البر (1979)، وأخرجه أيضا أحمد (2/374)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (252)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (7284)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (276).
[4] المستدرك (7280)، مسند البزار (693)، وأخرجه أيضا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/143)، والمحاملي في الأمالي (201)، والطبراني في الوسط (3014)، وابن عدي في الكامل (4/239، 7/111)، والبيهقي في الشعب (6/219)، وصححه الضياء في المختارة (537، 538)، وجوده المنذري في الترغيب (3/227)، وقال الهيثمي في المجمع (8/153): "رجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن ضمرة وهو ثقة"، وصححه الألباني بدون زيادة: ((ويدفع عنه ميتة السوء)) ، ضعيف الترغيب (1488).
[5] المستدرك (7282)، المعجم الكبير (12/85)، وقال الحاكم: "تفرد به عمران بن موسى الرملي الزاهد عن أبي خالد، فإن كان حفظه فهو صحيح"، وحسنه الهيثمي في المجمع (8/152)، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1491): "يشير الحاكم إلى سوء حفظ عمران الذي أشار إليه غير واحد... ولذلك خرجته في الضعيفة (2425)".
[6] الترغيب والترهيب (3/228).
[7] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4211)، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2511)، مستدرك الحاكم (3359)، وأخرجه أيضا أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[8] صحيح ابن حبان (440)، قال الهيثمي في المجمع (8/152): "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن موسى بن أبي عثمان الأنطاكي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2537)، وانظر: السلسلة الصحيحة (918).
[9] مسند أحمد (5/159، 173)، صحيح ابن حبان (449)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (7739)، قال الهيثمي في المجمع (10/263): "أحد إسنادي أحمد ثقات"، وقال في موضع آخر (8/154): "رجال الطبراني رجال الصحيح غير سلام بن المنذر وهو ثقة"، وحسن إسناده الألباني في تخريج أحاديث المشكاة (5187).
[10] صحيح مسلم: كتاب البر (2558).
[11] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5991).
[12] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5987)، صحيح مسلم: كتاب البر (2554).
[13] مسند أحمد (2/483)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (61)، والبيهقي في الشعب (6/224)، قال المنذري في الترغيب (3/233) والهيثمي في المجمع (8/151): "رواته ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2538). وفي الباب عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عند الطبراني في الكبير (1/167).
[14] مرتجة بضم الميم وفتح التاء المثناة فوق وتخفيف الجيم: مغلقة.
[15] المعجم الكبير (9/158)، ورواه أيضا معمر في جامعه (11/174 ـ المصنف ـ)، والبيهقي في الشعب (6/224)، قال المنذري في الترغيب (3/234) والهيثمي في المجمع (8/151): "رواته محتج بهم في الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1502).
[16] مسند أحمد (4/399)، المستدرك (7234)، وصححه ابن حبان (6137)، وهو في صحيح الترغيب (2539).
[17] لم أقف عليه من مرسل الحسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط (1578)، وأبو نعيم في الحلية (3/109) عن سلمان رضي الله عنه مرفوعا، قال العراقي في تخريج الإحياء (1/47): "إسناده ضعيف"، وقال الهيثمي في المجمع (7/287): "فيه جماعة لم أعرفهم". وروي عن سلمان موقوفا عليه.
[18] مسند أحمد (4/148، 158)، مستدرك الحاكم (7285)، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (157)، والطبراني في الكبير (17/269، 270)، والبيهقي في الشعب (6/222، 261)، قال المنذري في الترغيب (3/232) والهيثمي في المجمع (8/188): "أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2536).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرَّحمنِ الرَّحيم، أحمدُ ربي وأشكره على فَضلِه العميم، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له العَليمُ الحكيم، وأشهَد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الهادِي إلى صراط مستقيم، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد النَّبيّ الأميّ ذي الخلُق الكريم، وعلى آله وصحبه ذوي النهج القويم.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، فتَقوَى الله أربحُ بضاعَة والعدّةُ لكلِّ شِدّة في الدنيا ويوم تقوم السَّاعة.
أيّها المسلِمون، عظِّموا أوامرَ الله بالعَمَل بها، وعظِّموا ما نهى الله عَنه باجتنابِه، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]، واعمَلوا للدار الآخرةِ صَالحَ الأعمال، فإنها دار القَرار، لا ينفَد نعيمها، ولا يبلى شبابها، ولا تخربُ دارها، ولا يموت أهلُها، واتّقوا نارًا وقودُها الناس والحِجارة، عذابها شدِيد، وقَعرُها بعيد، وطَعامُهم الزّقوم، وشرابهم المهلُ والصديد، ولباسهم القَطِران والحَديد، أعاذَنَا الله والمسلِمين من النَّار.
واعلَمُوا أنَّ للهِ عمَلاً باللَّيلِ لا يَقبَله بالنّهار، وعملاً بالنَّهار لا يقبله باللَّيل، وأعمالُ العِبادِ هِي ثوابُهم أو عِقابهم، قالَ الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية: 15]، فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5]، وفي الحديثِ عنِ النَّبيّ عن ربّه أنه قال: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصِيها لكم، فَمَن وجد خيرًا فليَحمَدِ الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسَه)) [1] ، وفي الحديث: ((الكيِّسُ مَن دَان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموت، والعاجزُ من أتبع نفسَه هواها وتمنّى على اللهِ الأماني)). وتذكَّروا تَطايُرَ صُحُفِ الأعمال، فآخذٌ كتابَه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قَالَ : ((مَن صلَّى عَلَيّ صَلاةً واحِدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللَّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا، اللّهمّ وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
(1/5314)
عقيدة الهيكل وأحلام السلام
أديان وفرق ومذاهب
أديان
إبراهيم بن صالح العجلان
الرياض
جامع الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضح القرآن الكريم لليهود. 2- أهمية استبانة خطط الأعداء. 3- عقيدة اليهود في الهيكل. 4- بناء المسجد الأقصى. 5- أغراض اليهود في فلسطين. 6- من طقوس اليهود في الهيكل. 7- خطوات اليهود في بناء الهيكل. 8- مساندة النصارى البروتستانت لليهود. 9- واجب المسلمين تجاه هذه الجريمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، إنَّ الله عز وجل قد نبأنا من أخبار يهود ما يفضح مكائدهم ويكشف طبائعهم ويجلي سوءاتهم، فقد أخبر عنهم ربهم وهو أعلم بهم بأنَّهم أهل مكر وخديعة وكبر واستكبار وضلال وإضلال وصدّ عن سبيل الله، يثيرون الفتن، ويوقدون الحروب، كتموا الحق، وقتلوا الأنبياء، وسبوا الله، وعادوا الملائكة، ينقضون العهود، ويخونون المواثيق، وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13].
هم أشد الناس عداوة للمؤمنين؛ ولذا حذرنا ربنا من الركون إليهم أو السعي وراء خطواتهم. وحتى لا نقع في حبائلهم ونؤتى من غفلتنا لا بد من الوقوف على مخططاتهم ومكرهم الكبَّار تُجاه قضايا المسلمين. واستبانة سبيل المجرمين منهج رباني مقرَّر في كتاب ربنا تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55].
نقف ـ إخوة الإيمان ـ مع قضية مسلَّمة في ديانة اليهود لا تقبل النقاش ولا التفاوض ولا المساومة، عقيدة متأصّلة في نفوسهم غائرة في صدورهم، عقيدة ما جاؤوا إلى فلسطين واحتلّوا أرضها إلا من أجلها، عقيدة تنسِف كلّ أحلام السلام والتعايش السلمي المزعوم، عقيدة يسعى اليهود نحوَها سعيا حثيثا، ونسأل الله أن لا نراها وأن يرحمنا بميتة تكون بطون الأرض خيرا لنا من أن نرى تحقّق هذه العقيدة الصهيونية، إنها عقيدة يهود في هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه.
إخوة الإيمان والعقيدة، الهيكل: كلمة تعني البيت الكبير، ثم أطلقت هذه الكلمة على كل مكان يتخذ للعبادة. والهيكل في عقيدة يهود بمعنى البيت المقدس أو بيت الرب أو الإله. وتذكر الحقائق والوثائق التاريخية أنَّ نبي الله سليمان عليه السلام بنى المسجد الأقصى بعد إبراهيم عليه السلام على هيئة عظيمة، فنسِب هذا البناء إليه، وأطلق اليهود عليه هيكل سليمان، ويزعم اليهود أنَّ سليمان عليه السلام بناه فوق جبل موريا، وهو جبل بيت المقدس الذي يوجد عليه الآن المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، ويسمّي اليهود هذا الجبل بجبل الهيكل.
استمر بناء سليمان عليه السلام أكثر من ثلاثة قرون حتى هدم على يد بُختنصَّر البابلي، وبقي البيت المقدّس خرابا عقودا من الزمن، ثم أعيد بعد ذلك بناؤه، وأمَّه الأنبياء والصالحون، فصلّى فيه زكريا وابنه يحيى، ثم بعدهما عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهم.
ونحن المسلمين أحقّ بسليمان من اليهود الذين لم يعترفوا بنبوّته، وإنما أسموه ملكًا، وسليمان عليه السلام إنما بنى المسجد لعبادة الله وتوحيده وتعظيمه، فأين هذا من شرك اليهود وسبهم لربه وقتلهم لإخوانه الأنبياء؟! فسليمان عليه السلام بريء من اليهود وجرمهم وبهتانهم وإن انتسبوا إليه وتمسحوا باتباعه.
عباد الله، إنَّ اليهود ما جاؤوا إلى فلسطين من أجل البحث عن أرض يستوطنونها وبلد يأوون إليه، وإنما جاؤوا لعقيدة صهيونية ونبوءة توراتية يسعون لتحقيقها، وهي السيطرة على القدس والتي أسموها أرض الميعاد، ومن ثم هدم المسجد الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم. وبعد هذا البناء ينتظرون خروج مسيحهم المنتظر، والذي على يديه سيكون خلاص اليهود، ويحكم فيه العالم ألف سنة، وسيحارب هذا المسيح أعداء السامية، ويحكم فيهم بالشريعة اليهودية.
وهذا الاعتقاد في الهيكل يؤمن به جميع الصهاينة على اختلاف أحزابهم، يقول ابن جوريون أول رئيس وزراء لدولة يهود: "لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل"، ويقول الحاخام الهالك مائير كاهانا في صفاقة وتبجّح وجرأة على الجبار جل جلاله: "إنَّ إزالة المسجد الأقصى وقبّة الصخرة واجب يقتضيه الدين اليهودي، وإنَّ المعركة دينية، ولكلّ شعب إله يحميه، وإذا استطاع الله أن يحمي مساجده فليفعل في مواجهة التصميم اليهودي على إعادة بناء هيكل سليمان محلّ المساجد الإسلامية" اهـ.
فأرض الميعاد انتزعها اليهود بالدم والدمع كما يقولون، وهي أرض تقبل الزيادة ولا تقبل التجزِئة، وفي تلمودهم المقدَّس: "القدس ستتوسّع في آخر الزمان حتى تصل إلى دمشق". وحينما اجتاح الجيش اليهودي القدس الشرقيّة وأخذوها من المسلمين وقف وزير الدفاع اليهودي موشي ديان أمام حائط المبكى وقال: "لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قداسة، ولن نغادرها أبدا".
إخوة الإسلام، ومن عقائد اليهود في الهيكل أنَّ الهيكل لن يكون إلا بعد خروج البقرة الحمراء، فيعتقدون أنه لا بد أن تولد بقرَة حمراء خالصة لا عيبَ فيها، ثم بعد ثلاثة أعوام من عمرها تحرق، حتى إذا كانت رمادًا تطهّر اليهود برمادها، ثم شرعوا في بناء الهيكل؛ لأن الهيكل في زعمهم لا يعمره بالعبادة إلا أناس متطهرون.
ومن طقوسهم في الهيكل أنَّ اليهود يصومون يوما معيّنا في السنة ويقولون: هذا اليوم هو اليوم الذي هدم فيه الهيكل. وإذا كان هناك زواج يأتون بكأس فيكسرونه أمام الزوجين ويقولون: اذكروا تكسير الهيكل، كلّ ذلك لربط أبنائهم بقدسية الهيكل وتعظيمه.
إخوة الإيمان، ليست قضية بناء الهيكل مجرد حلم صهيوني وأسطورة خرافية، بل إنَّ الصهاينة قد سعوا بخطوات عملية ماكرة لتحقيق بناء الهيكل، من تلك الخطوات: العمل الدؤوب على تهويد مدينة القدس وتغيير معالم المدينة جغرافيا من خلال هدم المساجد والآثار الإسلامية ومصادرة الأوقاف والمدارس، مع إنشاء آثار يهودية تذكّر اليهود بعراقة دينهم، ناهيكم عن بناء المستوطنات اليهودية وتهجير سكان القدس من مدينتهم، كل ذلك لجعل القدس مدينة يهودية صرفة؛ تمهيدا لبناء الهيكل فيها.
ومن خطواتهم في بناء الهيكل: أعمال الحفر والتي بدأت منذ أكثر من أربعين سنة إلى يومنا هذا بحجة البحث عن آثار لهيكل سليمان القديم، والهدف الحقيقي هو تفريغ الأرض التي تحت المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، ومن ثم انهيارها ـ لا قدر الله ـ تحت أي هزة طبيعية أو صناعية مفتعلة.
ومن خطواتهم في بناء الهيكل: أنَّ الحكومة اليهودية قد صرحت رسميا لعشرات المنظمات اليهودية للعمل من أجل بناء الهيكل، ومن أشهرها جماعة أمناء الهيكل، والتي تلقى دعمًا واسعًا داخل دويلة اليهود وخارجها، ويقيمون الندوات والمؤتمرات ويجمعون التبرعات من أثرياء اليهود من أجل الهيكل، بل إنَّ الصهاينة قد فتحوا مدارس دينية الهدف منها وغايتها تعليم الناشئة على معالم الهيكل الجديد وضخامة مساحته ودقة هندسته وإتقان خدماته، وهذه المنظمات والجماعات تنتظر فقط الإشارة الخضراء في بناء الهيكل.
إخوة الإيمان، يقول الله تعالى عن طبيعة اليهود: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ [آل عمران: 112]. فاليهود لم يحققوا أهدافهم ولن يحققوها إلا بحبل من النصارى، وما أقاموا دولتهم في أرض الإسراء إلا بمعونة من النصارى الإنجليز، وما أعلنوا القدس عاصمة لهم إلا بعد تأييد العالم النصراني لهم، وهل نقلت أمريكا سفارتها من تل أبيب إلى القدس إلاّ تأكيدا لهذا الاعتراف؟! حتى بناء الهيكل المزعوم لم يجرؤ اليهود عليه ويتنادون إليه إلا بتأييد من النصارى.
ومن تعاليم النصرانية البروتستانتية المنتظرة عودة المسيح ابن مريم في آخر الزمان مرّة ثانية وسيحكمون معه الأرض، ويؤمل النصارى بتنصُّر اليهود بعد نزوله، وهذا النزول لن يتحقق في عقيدتهم إلا بأمور ثلاثة: أولا: قيام دولة إسرائيل، ثانيا: أن تصبح القدس عاصمة يهودية، ثالثا: بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.
ومما يحقق هذه النبوة أيضا عقيدة نصرانية صهيونية تؤمن بأن تدمير مملكة بابل هو السبيل لضمان عدم زوال إسرائيل، وبابل هي العراق؛ ولذا قال هنري كسنجر اليهودي راسم السياسة الإستراتيجية الأمريكية: "الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد". وأصحاب هذه العقيدة الإنجيلية الصهيونية لهم نفوذ في كثير من دول أوروبا وأمريكا، ولهم وسائل إعلام ونفوذ سياسي واقتصادي مؤثر جدا، وهناك عشرات الكنائس النصرانية تبشر بهدم الأقصى وبناء الهيكل وانتظار المسيح. فاجتمع على المسلمين في اغتيال أقصاهم أصحاب الديانة اليهودية والنصرانية البروتستانتية، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 4].
.بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه من اقتفى.
أما بعد: فإنَّ الحقيقة مُرَّة، والواقع مخيف ومفزع، ونذر تهدّم الأقصى تلوح في الأفق ليل نهار، وأساساته على وشك الانهيار، وأسواره تواجه الاندثار، والاعتداء عليه متكرر باستمرار. ووالله يا عباد الله، لئن خَلص أرذل الخلق إلى أقصانا وأنهوا مؤامراتهم فيه رغم أنف مليار مسلم ليبقين وصمة عار، لا يمحوه زمان ولا يغسله ماء. وليس من المنطق أمام هذه المؤامرة على اغتيال الأقصى أن يقال: إنَّ للبيت ربًّا يحميه. نعم، للبيت رب يحميه، وأمرُ الله بين الكاف والنون، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4]، والله تعالى قد جعل لكل شيء سببا، فإذا أخذوا بالأسباب المادية وغفلنا وتجاهلنا بها كانت الغلبة والدائرة لهم.
والواقع الذي نعيشه وتشهد له الأيام أنَّ اليهود ماضون وجادون، فقد خططوا قبل قرن من الزمن رسم دولتهم فأقاموها، ثم خططوا لاتخاذ القدس عاصمة لهم فحققوا مقصدهم، وهم الآن يتحركون لبناء الهيكل وهدم الأقصى وهو أمر قد يقع، وليس ثمة نص شرعي يمنع من وقوعه، ونسأل الله عز وجل أن لا يقع وأن لا نرى أقصانا يتهاوى على يد أرذل الخليقة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا قدم المسلمون تجاه هذا الاحتمال؟! وما العدة التي أعدوها والقوة التي بنوها تجاه هذه الكارثة؟! وهل واقعنا وحالنا نحن المسلمين يتناسب مع تلك الأخطار؟! ما دور إعلام المسلمين أمام هذه القضية المفزعة؟! لماذا تخدر الشعوب الإسلامية عن قضاياها المصيرية بالأمور التافهة؟! ثم ماذا قدمنا للأقصى من فعال أو حتى من كلام يكفي لرفع الإثم عنا؟!
عباد الله، إنَّ المصارحة في حلّ قضايا الأمة المصيرية هو مفتاح العلاج وبداية الخلاص، ومن أمانة الكلمة أن يقال: يهود الأمس هم يهود اليوم وهم يهود الغد، لا تفهم إلا لغة القوة، وما اغتصبوا مقدساتنا إلا بالقوة، وإذا رأوا منا انبطاحا وذلاّ ازدادوا تسلّطا وعلوّا، وليس لقضيّتنا مع هؤلاء الأرجاس الأنجاس إلا المقاومة والمدافعة، فهي دليل على حياة الشعوب، ومؤشر على كرامتها، ولا يرضى الذل أو الاستذلال إلا من سفه نفسه وفقد إنسانيته. فإذا لم نغِر على مقدساتنا فعلى أي شيء نغار؟! وإذا لم ترخص الأرواح لأجل القدس فعلى الأمة السلام، لا مناورات ولا مؤتمرات مع قضية القدس، القدس لم تحرر عبر تاريخنا إلا بالجهاد، فتحها الفاروق من أيدي النصارى الرومان بالجهاد، واستردها صلاح الدين من الصليبيين بالجهاد، وضيعناها حينما ركنا إلى الدنيا ورضينا بالزرع وتبايعنا بالربا وأمتنا الجهاد ورفعانا رايات القومية ردحًا من الزمن بدلا عن الإسلام، حتى أذلنا أرذل الخلق.
هذه حقيقة لا بد أن تقال وأن تستقر في النفوس، بدلا من أن نخدَّر بتعايش سلمي مع أقوام لا زالت أيديهم ملطخة بدمائنا، ورجسهم يدنس مقدساتنا.
إنَّ من يرجو سلاما معهم ووفاء بعهدهم هو كمن يطلب في الماء جذوة نار؛ لأنهم تعلمهم توراتهم المحرفة "أن لا تقطعوا عهدا مع سكان هذه الأرض"، وهذه حقيقة مؤكدة في كتاب ربنا وصدقها واقعنا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة: 10].
قصة القدس دماء وجراح وكرامات طعينه ليست القدس شعارًا عربيا كي نَخونه
ليست القدس مناخًا للسياحات الْمشينه إنها القدس وحسبي أنها أخت المدينه
بسط البغي لَها كفًّا من الغدر لعينه كف جزّار رهيب جعل الإرهاب دينه
واقرؤوا القرآن يا قومي لم لا تقرؤونه؟! كم نبي وتقيّ دون حق يقتلونه
كم عهود خفروها واتفاق يهدرونه لو هدمتم لهم الأقصى ودمرتم حصونه
وبنيتم لَهم الْهيكل أم ما يطلبونه ثُم أهديتم فلسطين لَهم دون مؤونه
طالبوكم عبْر أمريكا وأوروبا بإبداء الْمرونه هذه القصة لا سلم ولا ما يَحزنونه
(1/5315)
السعادة النفسية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الدعاء والذكر, فضائل الإيمان
مصطفى بن محمد الشفيري
برشيد
مسجد الرياض
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الأمراض النفسية في هذا الزمان. 2- أهمية الإيمان في تحقيق الصحة النفسية. 3- بناء الإسلام للشخصية المسلمة المتزنة. 4- أدعية نبوية لطرد الهموم والغموم. 5- ضرورة مراجعة الطبيب المختص لتشخيص الداء. 6- التحذير من السحرة والمشعوذين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 152-157].
أيها الإخوة المؤمنون، إذا تأملنا واقعنا المعاصر نلاحظ أن كثيرا من الناس يشتكون من أعراض وأزمات نفسية نتيجة ضغوطات الحياة المختلفة والتي أنتجتها طبيعة الحياة المعاصرة، هاته الحياة التي عرفت تغييبَ شرع الله وتنكّرت لحكم الله إلا من رحم الله وقليل ما هم، فانتشرت الأمراض، وحلت الأزمات، وكثر القتل، وساد الظلم أرجاء المعمورة، فانعكس ذلك بصورة أو أخرى على نفوس الناس، فانتشرت الأمراض النفسية والروحية، فتجلى عدم الرضا عن الذات والشعور بالإحباط والعجز عن التكيّف مع المحيط الخارجي. فما الحل؟ وما العلاج؟
لنستمع إلى نداء ربنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]. فهذا بيان من الله عز وجل أن القرآن الكريم والالتزام بأحكامه وتشريعاته ضمان لعلاج الناس وشفائهم مما يعانون منه من أمراض نفسية كالضّيق والشكّ والهم والغمّ والقلق والاضطراب.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد أقرّ كثير من الأطباء وعلماء النفس في العصر الحديث بأهمية الإيمان في تحقيق الصحة النفسية لدى الإنسان ودور التدين في توازن شخصيته ووقايتها وعلاجها من الأمراض والأزمات النفسية، فالإيمان يجعل لوجود الإنسان المتدين في هذه الحياة معنى وهدفا، بخلاف غير المتدين الذي يعيش دون هدف سام، مقتصرا على أهداف دنيوية فانية، ويعاني من فراغ روحي يؤدّي به في الغالب إلى صراع نفسي واضطراب وقلق حادّ واكتئاب يدفع أحيانا بعض المغفّلين إلى معاقرة الخمر أو تعاطي المخدّرات بغية إيجاد إحساس بسعادة مفقودة أو تخفيف عن ضيق وغمّ طوّق النفس وأحاط بها من كل جانب.
وقد تطرق القرآن الكريم إلى وصف عام لبعض الاضطرابات النفسية وأعقبها بالعلاج المناسب، من ذلك قوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج: 19-23]، فالهلع والجزع مواصفات للنفس البشرية قد تؤول إلى حالة مرضية، فجعل المحافظة على الصلاة صيانة لهم من هذه الأعراض.
أيها الإخوة المؤمنون، إن الإسلام بمنهجه الشامل يسعى إلى بناء الشخصية المسلمة المتّزنة، وذلك من خلال ما يلي:
1- الإيمان بالله تعالى وقوّة الصلة به.
2- الشعائر التعبدية خاصة الصلاة, لها فوائد نفسية ملموسة؛ لما تُكسِبه من أمن وطمأنينة وتهدئة للأعصاب وتبديد للتوتر، لذا تفطن لها الأطباء والمعالجون النفسانيون، وجعلوها من توصياتهم في أساليب العلاج. فالمسلم عليه أن يفزع إلى الصلاة؛ لهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا ضاق به أمر لجأ إلى الصلاة مخاطبا مؤذِّنَه بلالا بقوله: ((أرحنا بها يا بلال)) أخرجه أبو داود.
3- كذلك الدعاء، فأثره كبير في نفسية الداعي، فهو تفريغ لما يختلج في النفس من مشاعر وأحاسيس، فالدعاء لا يرتبط فقط في حياة العبد بالحاجة الماسة التي تشدّه إلى ربه، بل هو جزء لتحقيق العبودية لله، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، فيأنس العبد أن له ربا يستجيب الدعاء؛ مما يسكب في نفسيته الراحة والارتياح.
4- كذلك إضافة إلى الدعاء على المسلم أن يكثر من ذكر الله؛ لما يضفيه على النفس من شعور يغمرها أنسا وطمأنينة وإحساسا بمعية الله سبحانه، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
5- ملازمة التوبة والاستغفار: إن عقدة الذنب تجلب الهمّ والخوف والحزن وضيق الصدر؛ لذا نجد رسول الله يرشد المؤمنين إلى ملازمة الاستغفار لتخليص النفس من ذلك، فعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب)) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب: في الاستغفار.
أيها الإخوة المؤمنون، حين يسمع المؤمن قوله: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] يتولد لديه الشعور بالراحة والحافز للقيام بأعمال صالحة، فهل من مستجيب لنداء ربه؟!
6- كذلك الإسهام في أوجه البر والإحسان يسهم في بناء الشخصية المسلمة المتزنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إلى النبي قسوة قلبه فقال: ((إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم)). وهذا يدل على أن أعمال البر والخير والإحسان تسهم في تليين القلب، وتجعل الإنسان يشعر بالسعادة على قدر إدخال السعادة على غيره.
7- أيها الإخوة المؤمنون، إن المؤمن مهما نزلت به النوازل متفائل دائما، لا يتطرق اليأس إلى نفسه، قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف: 87]، فهو يواجه واقعه بعزيمة متسلحا بالأمل، وهذا الشعور الإيجابي يقيه حتما من الوقوع فريسة لليأس أو الاكتئاب.
وهكذا يربي الإسلام الفرد على الثبات عند المصائب والابتلاءات، ويدعوه إلى التحلي بالصبر، قال تعالى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]، فالإيمان يشيع في القلب الطمأنينة والثبات والاتزان, قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 72].
وبهذا يتبين لنا أن الإيمان يلعب دورا أساسيا في تجاوز الأزمات النفسية؛ مما حدا بكثير من المصَحَّات النفسية في البلدان المتقدمة إلى اعتماد التديّن كأسلوب في العلاج النفسي والوقاية من المشكلات النفسية والاجتماعية باعتبارها وسيلة لتحقيق الانسجام مع الذات والتوافق مع المحيط. وديننا والحمد لله كان له السبق في إيجاد الحلول للمشاكل النفسية والأزمات الروحية، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يذهب عنا الهم والحزن وأن يجعل لنا من كل ضيق مخرجا، آمين يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عنا خير ما جزى به نبيا عن أمته.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن أعظم العلاج للأمراض النفسية وضيق الصدر يكمن في التوجيهات والإرشادات النبوية في هذا المجال، ومن ذلك قوله : ((ما أصاب عبد هم فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرجا)).
وكذلك عند الهم والحزن علمنا رسول الله المعالج النفسي الأول أن نقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال. وعند الكرب يقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، الله الله ربي لا أشرك به شيئا. وعند القلق والفزع في النوم يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.
هذه جملة من الأدعية ينبغي للمسلم أن يحفظها ويدعو الله بها كلما أهمه شيء أو أحاط به غم، ويكررها في سجوده، فسيجد الفرج قريبا والطمأنينة تحل في قلبه، وصدق الله العظيم: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
ومما ينبغي الإشارة إليه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن الله ما وضع داء إلا وضع له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، فهناك بعض الأمراض النفسية تحتاج إضافة إلى التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مراجعة الطبيب المختص لتشخيصها ووصف الدواء المناسب لها، فالأمراض النفسية كباقي الأمراض العضوية ابتلاءات تصيب الإنسان، ويمكن طلب أسباب شفائها عند الأطباء امتثالا لأمر رسول الله الذي قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)) رواه مسلم.
أيها الإخوة المؤمنون، مما ينبغي التنبيه إليه في حالة الإصابة بالأمراض النفسية أنه يلجأ بعض الناس إلى الكهنة أو السحرة معتقدين أن ما أصابهم هو سحر أو عمل، فيقعون في الأمور الشركية ويستعملون بعض المحرمات اعتقادا منهم أنها تبطل السحر وتذهب العين وتدفع الضر، والله تعالى يقول: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38]، وقد حرم الله الجنة على المشرك قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
وكذلك ـ أيها الإخوة ـ يجب التنبيه إلى ضرورة المسارعة في عرض الحالة المرضية على الطبيب المتخصّص وعدم التهاون أو التراخي في ذلك؛ لأنه كلما كان التشخيص والعلاج مبكرا كانت فترة العلاج أقلّ ونتائجه أحسن؛ مما يجنب المريض الكثير من المضاعفات التي هو في غنى عنها.
نسأل الله عز وجل أن يشافي كلّ مريض مسلم وأن يشملنا وإياه بالصحة والعافية.
اللهم اجمع كلمتنا على الهدى، وقلوبنا على التقى، اللهم أصلح ذات بيننا، اللهم هيئ لنا من أرنا رشدا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك...
(1/5316)
حوادث المرور
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد الله بن أحمد لعريط
القل
المسجد العتيق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر نعمة المراكب. 2- أثر المسكرات والمخدرات في حوادث السير. 3- خطورة الغش والتزوير في رخص السير. 4- أهمية صيانة المراكب والعناية بها. 5- التحذير من عدم احترام قوانين المرور. 6- ضرورة إصلاح الطرقات وتجهيزها بالإشارات واللوحات للسير السليم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الأحبة، رأينا في الخطبة السابقة أنّ من عظيم النعم التي أنعم بها الله علينا نعمة المركب، وتطرقنا إلى الأسباب التي تحفظ علينا نعمة المركب، ومن جملتها التأسي بالنبي ، فهو خير من أدى شكر أنعم الله تعالى عليه، ومن جملة ما كان يفعله أثناء همّه بالركوب أنه كان يذكر الله تعالى ويوصي بذلك، فيبدأ ركوبه ذاكرا لله تعالى، فيقول: ((بسم الله)) ، ثم يحمد الله تعالى ويكبره ويسبّحه ويهلّله، ثم يستغفر الله عز وجل. وكان النبي يحثّ على ملازمة التقوى، والتي هي مجانبة الذنوب والمعاصي سببِ المحن والفتن؛ لأن في ذلك حفظا وسلامة للعبد من زيغ الشيطان الذي له الحيل والمكائد لصرف العبد عن ذكر ربّه وصرفه عن شكر هذه النعمة الجليلة.
ومن جملة هذه المعاصي والذنوب تعاطي الخمر والمخدرات، هذه المسكرات التي حرّمها الباري سبحانه وتعالى هي من الأسباب الكبيرة التي تسبّب حوادثَ المرور، ولقد بيّنت الدراسات التي أجريت في هذا الميدان أن كثيرا من السائقين الذين تعرّضوا لهذه الحوادث كانوا في حالة من السكر.
وفي الحقيقة أن هذا البلاء الذي نزل بساحتنا من جملة أسبابه تخلِّينا عن تعاليم ديننا وعدم تمكين الشريعة السمحة في حياتنا، وهذه من جملة النتائج التي ظهرت والمصائب التي نزلت، فلو طبّق الحدّ كما أمر الله تعالى وكانت هنالك رقابة تراقب السائقين وعدالة مُهابة تحكم على الشريف كما تحكم على الضعيف لما عمّت هذه الفوضى، حتى أصبحت هذه الوسيلة وسيلة لا فرق بينها وبين وسائل البطش والقتل.
إذن فالمسؤوليّة الكبيرة تقع على عاتق أولياء الأمور أولا، فعلى أولياء الأمر القائمين على أمنِ الطرقات أن يضعوا قوانين صارمة تمنع تعاطي الكحول والمخدرات لكل من يستعمل سيارته، سواء كان لوحده أو معه غيره، فكم من سائق كان في حالة سكر كان سببا في انحراف سيارات غيره، فأهلك غيره وربما نجا هو.
ووصية لك أخي السائق، عليك بالحذر، فليس معنى أنك خبير في السياقة أنك غير معرض للحوادث، فربما تكون أنت في المسار الصحيح فخرجت عليك سيارة صاحبُها في حالة سكر فأوقعك في الخطر.
إخوة الإيمان، إن الخمر والمخدرات هي من عظيم ما ابتلي به الناس في هذا الزمان، فليس من المعقول أن يتعاطى الإنسان المسكرات ثم يمتطي هذه السيارة التي يحمِل على متنها الكثير من خلق الله تعالى، ثم يسير بهم على تلك الحالة التي لا تحمد عقباها.
وإن من الحيل لدى البعض ممن يتعاطون المخدرات أنهم يستعملونها في السجائر، فيوهمون غيرَهم أنهم يدخنون التبغ، ولكن في حقيقة الأمر أنهم يتعاطون المخدرات؛ مما يؤثر سلبا على الركاب وخاصة السائق، فقد يتأثر بها نتيجة استنشاقها، وتفلت زمام الأمور من بين يديه، وتحدث الحادثة. فنوصي السائق بمنع التدخين داخل سيارته حتى يحفظ سلامة نفسه وسلامة من معه من الركاب، خاصة وأن التدخين لا يقلّ خطورة عن المخدرات.
أمة الإسلام، كم من سائق تعرّض لحادث مرور فمات وهو سكران، فأقبل على ربه بهذه الحالة، وآخر وجِد في سيارته شريط يغني الغناء الماجن والعياذ بالله. مسلمون يقبلون على ربهم وهم في سكرَتهم يعمهون، إنه الإعراض عن ذكر الله تعالى والصد عن سبيله والتخلي عن هدي نبيه ، فظهر من جراء ذلك الفساد في البر والبحر، وأذاقنا الله بصدّنا عن سبيله هذا العذاب الأليم.
فاحذروا ـ إخواني ـ من سوء العاقبة، وتمسكوا بسنة نبيكم، وعضوا عليها بالنواجذ؛ لتلقوا الله تعالى وهو عنكم راض، وتذكروا سوء العاقبة التي مُنِي بها هؤلاء ممن نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
كذلك من جملة هذه المعاصي الغشّ والخديعة في رخصة السياقة، فمن الأسباب الخطيرة التي انجرّ من ورائها هذا الفساد ظاهرة شراء رخصة السياقة، أو قدوم البعض على دفع رشوة لمعلمي السياقة مقابل منحهم هذه الرخصة دون التعلّم في المراكز المخصصة لهذا الأمر، فمن الناحية الشرعية يعتبر من المنكرات التي نهى عنها الباري سبحانه وتعالى؛ لأن شراء هذه الرخصة تعتبر شهادة على صاحبها بأنه أهل للسياقة، وهو غير مؤهل لذلك، فهي شهادة زور بالنسبة للطرفين، وقد شدّد النبي الوعيد في حق من شهد شهادة زور، وجعلها من أكبر الكبائر؛ نظرا لما يترتب عليها من إضاعة لحقوق الآخرين، والأمر يشتد لمّا يتعلق بالأرواح كما نراه جليا في زماننا.
فيا معلمي السياقة، إنّ إقدامكم على بَيع هذه الرخص أو تساهلكم مع الممتحنين في هذا الأمر أو تهاونكم في أداء مهامكم على الوجه الذي يريده الله تعالى يعتبر جرما كبيرا وفسادا في الأرض، فساد من حيث المال الذي تتحصّلون عليه، فهو أكل للمال بالباطل، وقد نهى الله عنه، قال جل وعلا: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، وفساد من حيث الأرواح التي تزهَق بسبب تهاونكم وابتعادكم عن سواء السبيل، فاتقوا الله تعالى في أرواح المؤمنين، واعلموا أنكم ستسألون عن هذه الأرواح التي تحصَد يوميا، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
ويا من تقدمون على شراء رخصة السياقة، إن المال الذي يدفَع من أجل الحصول على هذه الرخصة هو رشوة، والرشوة ملعون صاحبها، والملعون معرض دوما لغضب الله تعالى وعذابه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ. رواه الترمذي وقال: "حَسَنٌ صَحِيحٌ". وكم من راشي بنى حياته على هذه الكبيرة فابتلي بالسوء والأدواء، وكان عاقبته الهلاك، وخسر ربما حياته أو جزءا من بدنه من جراء صدّه عن سبيل الله تعالى وانتهاكه لحرماته.
فاتقوا الله تعالى، واحفظوا أنفسكم من سخط الله الذي لا تخفى عليه خافية، واخشوا مثل هذه العواقب الوخيمة.
وينبغي أيضا الاعتناء بوسيلة الركوب، فعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ: ((اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
فمن الواجب المراقبة الدائمة لهذه السيارات والاعتناء بها؛ لأن من بين أسباب هذه الحوادث كونَ هذه المراكب لا تخضع للعناية المستمرة، وبالتالي تتعرض الأجهزة للعطب، فتشكل خطرا على راكبيها، فربما تعطلت في مكان خطير كالمنعرجات، فتحدث الكارثة. فكلمة: ((فاركبوها صالحة)) تدل على ضرورة الاعتناء بكلّ مركوب وإصلاحه حتى يسلم مستعملو هذه المراكب، فكم من طائرة تعطّل فيها عمل أحد الأجهزة وهي في الهواء فحدثت الكارثة، وكم من باخرة حدث لها عطب في عرض مياه البحار فأودت بحياة المئات من الخلائق. فمن تمام شكر الله تعالى على هذه النعمة أن يقوم الإنسان بحفظها والاعتناء بها وإصلاحها وتفقّدها حتى تحفظ سلامة الأرواح.
ومن أسباب الحوادث عدم احترام إشارات المرور، قال الله تعالى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 15، 16]، أي: جعل في الأرض سبلا وأظهرها وبينها ليهتدي بها الناس في أسفارهم إلى مقاصدهم، وَعَلامَاتٍ : إشارات وهي معالم الطرق.
واليوم قد سهّل الله لنا بأن هدَانا لهذا العمل بوضع هذه الإشارات في الطرقات، فمنها ما يهتدي بها المسافر لبلوغ مقاصده، ومنها ما يهتدي بها السائق ليتوجه الوجهة الصحيحة والسليمة التي تحفظ بها الأنفس، وبالتالي فالذي يخالف هذه العلامات الهادية للمقاصد والحافظة للأنفس يعتبر آثما معتديا معرّضا حياته وحياة غيره للهلاك، وسوف يحاسبه الله تعالى إن صدر منه ذلك. فليمتثل السائق لهذه الإشارات حفاظا على الأرواح، وليراقب الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية.
وهنا أمر ينبغي التنبيه إليه، وهو أن كثيرا من السائقين نراهم يلتزمون بقوانين المرور حين تكون الرقابة، ولا يلتزمون بهذه القوانين حين تنعدم الرقابة، وكم من حوادث حدثت نتيجة عدم احترام هذه القوانين المنظّمة للسير، ولقد أوصانا النبي بضرورة مراقبة الله تعالى في الصغيرة والكبيرة، وبين أن العبادة لا تكمل ولا تتم إلا بالمراقبة، ففي حديث الأمين جبريل عليه السلام لما سأل النبي عن الإسلام والإيمان، فسأله عن الإحسان قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) رواه البخاري ومسلم. والعبادة بمفهومها الشمولي هي التي تضبط حياة الناس في المجالين الديني والدنيوي، فمن الواجب الالتزام بما ينظّم لنا حياتنا ويحفظ لنا أنفسنا، حيثما كان الإنسان وحيثما وجد، فإذا انعدمت رقابة العباد فرقابة ربّ العباد حاضرة لا تغيب، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7].
ومن الضرورات الملحّة إصلاح الطرقات، فمعظم السائقين يشتكون من فساد الطرقات، كوجود الحفر وكذلك عدم وجود حواجز في المنعرجات الخطيرة وضيق الطرق مما يجعل السائق معرّضًا للخطر، فكم من سائق هرب من الحفر فحاد عن سواء السبيل، والشيء الخطير الذي انجرّ عنه حوادث كثيرة هو هذه الطرق الضيقة التي يستعملها حتى أصحاب الشاحنات كبيرة الحجم؛ مما يسبّب في كثير من الأحيان تعطّل السير، فيحاول بعض السائقين الخروج عن يمين مساره بقصد سبق هذه الشاحنات، فتخرج من الجهة المقابلة سيارة أخرى فتحدث الفاجعة.
كذلك مما يلاحظ عدم وجود إشارات المرور في بعض الأماكن الخطيرة؛ مما يجعل السائق لا ينتبه ولا يحذر من الخطر المجهول.
فعلى أولي الأمر أن يعطوا أهمية بالغة للنقل وعناية تامة بالطرقات، وذلك بضرورة إصلاحها وتوسيعها ووضع الإشارات في أماكنها التي يهتدي بها السائقون، كذلك ضرورة استعمال الحواجز خاصة في المنعرجات، وهي حواجز تحمي في غالب الأحيان السيارة عند تعرضها للحادث، كذلك ضرورة إلزام رجال أمن الطرقات على الانتشار الواسع حتى تكون المراقبة فعالة.
قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]، فوسائل الركوب هي نعمة من أنعم الله تعالى علينا، ومتى تنقلب النعمة إلى نقمة؟ إذا غيّرها الإنسان عن مراد الله فيها، فالباري سبحانه وتعالى أمدنا بها للغاية التي بينها في قوله: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل: 7]، فمراد الله تعالى هو رفع الضيق والحرج وتيسير المعيشة لخلقه، فإذا انقلبت هذه النعمة إلى نقمة فعلينا أن نراجع أنفسنا ونتساءل: هل أدينا شكر الله تعالى على نعمه كما أمر، أم سخرنا هذه النعم فيما يستوجب سخطه تعالى وعذابه وحِدنا بها عن سواء السبيل؟
فلنتق الله تعالى، ولتعمل كل جهة مختصة في هذا الميدان على العناية والسهر على أمن الطرقات وتشديد الرقابة والصرامة في تطبيق القوانين التي تحفظ للناس أرواحهم، وضرورة مراقبة مراكز التكوين في هذا الميدان، فلا يمكن أن نتساهل أبدا في زهق الأنفس التي حرم الله. وعلى المسؤولين على الإعلام أن يفتحوا الأبواب للباحثين في هذا الميدان لتكثيف الوعظ والإرشاد.
والله نسأل للجميع العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5317)
حفظ بلاد الحرمين واجب الجميع
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمن بلاد الحرمين. 2- إلقاء القبض على خلية إرهابية. 3- براءة الإسلام من أفعال الفئة الضالة. 4- إفلاس مخططات أصحاب التكفير والتفجير. 5- وجوب طاعة ولاة الأمر ووعيد الخروج عليهم. 6- التضامن مع الولاة ورجال الأمن في محاربة الفكر التكفيري.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لقد حفظ الله تعالى هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين من كل كيد ومكر وفساد على مر التاريخ، كل ذلك ببركة دعاء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين دعا ربه في علاه بحفظ هذه البلاد وحفظ أهلها بشرط أن يؤمنوا بالله حقّا ويطبّقوا شرعَ الله في أرض الله، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فاستجاب الله لدعاء نبيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وسطر قبول دعوته في كتابه الكريم إلى يوم الدين، فقال سبحانه: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، فأصبحت بلاد الحرمين آمنة مطمئنة، فاقت في أمنها بلاد العالم أجمع رغم أنهم يملكون ما لا نملك من الإمكانيات، إلا أننا نملك شيئا عظيما فقدوه، ألا وهو الإيمان بالله تعالى الذي شرَطه علينا إبراهيم الخليل في دعوته، فاختلّ الأمن عندهم، إنه الشرط الإبراهيمي: مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فبقاء الأمن مرتبط بالإيمان بالله واليوم الآخر وبالعمل الصالح وتطبيق شرع الله، وذهاب الأمن مرتبط بذهاب الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وتطبيق شرع الله.
هذه البلاد ـ ولله الحمد ـ وحتى هذه الساعة جاهدة في تطبيق شرع الله، وهذا سرّ أمنها وقوتها، فأغدق الله علينا الخير من كلّ مكان، وجمعه لنا في أمن وأمان جرّاء تمسّكنا بديننا والثبات عليه، قال تعالى: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ، ولو لم يكن الأمن بيننا قائما لما جلبت لنا تلك الثمرات من كلّ مكان.
وفي آية أخرى يبين المولى جل وعلا أن من تمسّك بدينه سيمكّن له في الأرض ويبسط عليه الأمن ولا يمسّه السوء أبدا، فقال سبحانه وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
عباد الله، في أيامنا التي مرت تمكن رجال أمن هذه البلاد المباركة من إحباط شبكة إفسادية كبيرة، يحتار القلم وتعجز الكلمات من تسطير ما جرى وما كان سيجري من هذه الشرذمة المفسدة في الأرض، وإننا لنشكر الله تعالى على أن وفق رجال الأمن للقضاء على هذه الفئة المفسدة في المجتمع، الذين أعدوا العدة وجهزوا الأسلحة وهيئوا أنفسهم زيادة في الضلال والإضلال ونكاية في المسلمين.
عباد الله، إن فعل هؤلاء من أعظم المحرمات في دين الله، وإن ما قاموا به ليس من الإسلام في شيء، بل إن الإسلام بريء من فعلهم؛ لأن الإسلام يحرم قتل المسلم ويحرم قتل الكافر المستأمن والكافر المعاهد والكافر الذمي، وليس فعلهم هذا من الجهاد في سبيل الله، بل ما قاموا به إرهاب وإجرام وبغي وترويع لعباد الله المؤمنين. وبفضل الله تعالى أبطل الله كيدهم وخيّب الله أعمالهم وكشف الله أمرهم.
أيها المسلمون، جاءت عملية الكشف عن الشبكة المفسدة الكبيرة وما كانت تحوزه من أسلحة فتاكة وأموال طائلة لتؤكّد أن الأمور آلت بأهل الانحراف إلى مرحلة الإفلاس واليأس من إمكانية تحقّق مشروعهم، فتصرفاتهم الطائشة وحماقاتهم التي يرتكبونها بين الفينة والأخرى تؤشر على مدى الإحباط الذي وصلوا إليه وعلى فشل مشروع الفتنة والتدمير الذي يحملونه، والذي يستهدف أمن هذه البلاد واستقرارها وشعبها وقيادتها ومقدراتها ومصالحها، فهذه الفئة القليلة والشرذمة المنبوذة لم تر فرصة لحلّ مشاكل الأمة إلا بالسعي لزعزعة الأمن في المملكة وقتل رجاله وتفجير الممتلكات والمباني والمنشآت الإستراتيجية. وأنى لهم ذلك؟! فالتفاف الشعب حول قيادته كبير، والدولة تسجل النجاحات الأمنية الواحدة تلو الأخرى في وقت تعثرت فيه أقوى الأجهزة الأمنية في العالم عن حماية بلادها من التخريب والإفساد، فأيّ ثمرة جنى هؤلاء سوى وزر الدماء التي أزهقوها بغير ذنب، فضلاً عن توفير المبررات الجاهزة لدعاة الفتنة من المنافقين من أهل العلمنة والتغريب في الداخل والخارج، إنهم بحق حالهم كحال من قال الله فيه: وإذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
هل يريد هؤلاء أن تصير بلادنا ميادين للقتال حتى تسوّغ للكفار أن يتسلطوا عليها بحجة حماية المصالح أو غير ذلك من الحجج؟! ألم يقرأ هؤلاء التاريخ فينظروا ماذا جرى من فساد بسبب من خرج على ولاة أمورهم وشقوا عصا الطاعة؟! ماذا حصل عليهم من النكبات؟! ماذا حصل عليهم من سفك الدماء؟! ماذا حصل عليهم من اختلال الأمن؟! ماذا حصل في بلادهم من النهب والسلب؟! بل ماذا حصل عليهم من تدخل الكفار في بلادهم وتسلطهم عليهم؟! ولو أن هؤلاء استقاموا مع ولاة أمورهم ونصحوا لهم وكانوا يدًا واحدة لهابهم العدو ولا انتظمت أمورهم، وهل تجاهل هؤلاء أن حمل السلاح على أهل الإسلام من كبائر الذنوب؟! يقول النبي : ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) أخرجه الشيخان، والخروج على المسلمين وقتالهم وسفك دمائهم داخل في قول النبي: ((ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)) أخرجه مسلم. أوما يعلم هؤلاء أن إحداث فوضى في البلاد وتدمير الممتلكات نوع من الإفساد في الأرض الذي قال الله تعالى فيه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33]؟!
فليعلم هؤلاء وأمثالهم من أهل الإفساد بأن أمرهم مكشوف، وأن الله جل وعلا عليم بهم كما قال سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 63]، بل إن الله جل وتعالى قرر في كتابه بأن عمل المفسدين وتخطيطاتهم وتدبيراتهم سيبطله، وأنه لا يمكن أن يوفقهم إلى عمل، فقال جل شأنه في معرض أخبار موسى مع فرعون: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81]. والمكر والخيانة والبغي لا تعود إلا على صاحبها، قال تعالى: وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]، وقال سبحانه: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ.
عباد الله، إن من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر في طاعة الله سبحانه وتعالى، فالدين لا يستقيم والحدود لا تقام والأمور لا تنضبط إلا بسلطان يتولاها ويحرسها، فلا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، بالسلطان تنكفّ الأيدي المتسلطة، ومن خوفه تنقمع النفوس المعاندة، وبإقامة الحدود والتعزيرات تهدأ الشهوات الثائرة والغرائز الشريرة، قال عرفجة رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) رواه مسلم.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، منها ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إنما الإمام جُنة؛ يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه)).
وعلى هذا جرى إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من سائر المسلمين، ويقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دعانا النبي فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان. أخرجه الشيخان. وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي وعظهم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقالوا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة)) أخرجه البخاري ومسلم.
يقول ابن رجب رحمه الله: "وأما السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي رضي الله عنه: إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، وقال الحسن في الأمراء: هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله ما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون".
أيها المسلمون، إن من الكبائر العظيمة والآثار الجسيمة نقض البيعة ومبايعة آخر مع وجود الإمام وانعقاد البيعة له، وهذا خروج عن جماعة المسلمين، وهو محرم ومن كبائر الذنوب، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله : ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية)) أخرجه مسلم، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية)) أخرجه البخاري ومسلم، وفي حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات وليست عليه طاعة مات ميتة جاهلية، فإن خلعها من بعد عقدها في عنقه لقي الله تبارك وتعالى وليست له حجة)) أخرجه الإمام أحمد، ولمسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) ، ويقول النبي : ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه كائنًا من كان)) أخرجه مسلم، وأحاديث النبي في هذا المعنى كثيرة.
فاللهم قنا شرور أنفسنا وشرور عبادك، وأدم على بلادنا أمنها وزدها صلاحا وإصلاحا، إنك على كل شيء قدير.
عباد الله، من هذا المنبر أوجه رسالة، رسالة إلى رجال الأمن البواسل، أقول: إنكم تحرسون في سبيل الله، إنكم إن شاء الله تعالى تجاهدون في سبيل لحفظ أمننا وأمن أطفالنا وأموالنا، فجزاكم الله عنا خيرا، وبارك الله في أعمالكم, وشد من أزركم. وإن هذه الأعمال لن تزيدنا إلا إصرارا للوقوف معكم، ولن تزيدنا إلا إصرارا على السمع والطاعة لولاة أمورنا والصدق معهم والدعاء لهم، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا دين الإسلام واضح لا مواربة فيه، لا نرجو من ذلك جزاء ولا شكورا، ولكن نعمل بما أملاه علينا ديننا وبما يحفظ علينا وعلى إخواننا أمنهم واستقرارهم، نسمع ونطيع لولاة أمور المسلمين، ونعظم حرمات المسلمين، ونحافظ على دماء المسلمين وأعراضهم، ونتعاون مع رجال الأمن وموظفي الدولة، فإنهم نواب السلطان، والنبي يقول: ((من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعص الأمير فقد عصاني)). فنحن نطيع الله ورسوله، ونطيع ولاة أمور المسلمين، ونتعاون معهم على البر والتقوى.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تقضي على الفساد والمفسدين، اللهم اقض على الفساد والمفسدين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم وتدبيرهم تدميرا عليهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تقي بلادنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما نسألك ربنا أن تمد الساهرين على أمننا وراحتنا بعونك وتوفيقك، ونسألك يا الله أن تكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن توفق قادة هذه البلاد المخلصين لما فيه صالح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين برحمتك يا أرحم الراحمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5318)
المسلمون يقتَّلون في غزة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
4/6/1427
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أوضاع المسلمين مزرية. 2- تكالب الأعداء على الأمة. 3- جرح فلسطين. 4- عداوة اليهود. 5- صفات اليهود وإفسادهم في فلسطين. 6- الكيل بمكاييل متعددة. 7- طريق الحل. 8- التحذير من تدليس الإعلام الغربي.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن المتأمل لواقع أمة الإسلام اليوم ليتحسر ويتألم مما يلاقيه أبناؤها في شتى أرجاء المعمورة: مجاعات وفقر، وقتل وتشريد واضطهاد. وإن النفس لتتفطّر وتعتصر كمدًا إذا تذكرت أن هذه الأمة كانت في يوم من أيام الزمان أعظم دولة نفوذًا ورقعة وسلطانًا، لكنها لما خالفت أمر ربها وابتعدت عن كتابه مصدَرِ عزّها وسعت وراء أهوائها استشرت فيها الأمراض العظام والأدواء والأسقام، ودبت فيها الأوجاع والآلام، وبدأت ترجع القهقرى وتعود إلى الوراء، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38].
وقد استغل الأعداء حال الأمة فبدؤوا يرشقونها بنبالهم وسهامهم، واحدًا تلو الآخر.
ولو كان سهمًا واحدًا لاتّقيته ولكنه سهم وثان وثالث
فلا يكاد يندمل جرح حتى ينكأ جرح جديد؛ سقطت بغداد على يد التتار، ثم انهارت الأندلس، ثم ألغيت الخلافة الإسلامية العثمانية، وتتابعت الجراحات حتى بلغت ما بلغت اليوم، وبين كل جرح وجرح جرح غائر، وبين كل مصيبة ومصيبة طامة وكارثة.
تجري دماء المسلمين كأنها نهر يشقّ مساره لا يركد
ألا وإن من أغزر الجراحات وأشدها في جسد أمة الإسلام جرح المسجد الأقصى، فإن هذا الجرح لم يبرأ أو يندمل منذ قرابة الستين عامًا، وسبب ذلك أن فيه جراثيم بشرية حقيرةً نتنة اسمها: اليهود، لم يوجه لها بعدُ مضاد ناجح أو علاج ناجع ليقضي عليها ويطهّر موضع الجرح منها، والعجيب أن الأمة الإسلامية لا تزال طوال هذه العقود الستة ترجو من مسكّنات المؤتمرات الدولية وعمليات السلام شفاءً ودواءً.
عباد الله، إن عداوة اليهود لدين الله قديمة ببداية تاريخهم، فهم عبدة العجل وقتلة الأنبياء والمصلحين، قلوبهم أقسى من الحجر، لا يعرفون الشفقة ولا الرحمة، يوقدون نيران الحروب، ويسعون في الأرض فسادًا، ومع ذلك فهم أجبن خلق الله وأشدهم خوفًا، ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، فبأسهم شديد بينهم، ولا تكاد تجتمع لهم كلمة، لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14].
قوم عجاب، جمعوا الرذائل الأخلاقية والمفاسد السلوكية كلها، وهو ما عجزت عنه الأمم الأخرى. والعجيب أن هذا الفساد وتلك الوقاحة لم تتمثل في جيل يهودي واحد، إذن لهان الأمر، لكنها تحقّقت في الإنسان اليهوديّ حيث كان، إن صحت تسميته بالإنسان، فإن الإنسان مشتق من الأنس ولا أنس في يهودي، فلا يكاد يخلو جيل من أجيالهم من هذه الرذائل، كأنما هي جينات وراثية يتناقلونها ويتوارثونها بالفطرة. وإذا أردت أن تعرف اليهودي على حقيقته فاستحضر في مخيلتك وذهنك أكبر قدر من الأخلاق الذميمة تجلّي لك صورة الشخص اليهودي قائمة بين يديك.
بل وأقبح من هذا وأشد جرمًا أن يهود ـ قاتلهم الله ـ تجرؤوا فقالوا: إن الله فقير ويد الله مغلولة، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة: 64]. فكيف يرجو المسلمون بل كيف يرجو الناس كلهم أن ينصف المخلوقَ قوم تعدّوا على حقوق الخالق جل وعلا؟!
لقد عاثوا ـ عليهم لعائن الله ـ في الأرض فسادًا، وازدادوا لما رأوا من هوان المسلمين طغيانًا وعنادًا. فهل عجزت أمة الإسلام أمة المليار أن تخمد شرذمة جبانة حقيرة، لو نفخت فيهم لطاروا كالفقاعة من هوائها، ولو بصقت عليهم لغرقوا في مياهها؟! لكن:
تسعة الأصفار تبقى أمة تلهو وتلعب
أَدُمى نحن؟! رجال من عجين نتقولب
أم ظهور ومطايا كل من يرغب يركب؟!
دمُنا يرخص كالماء ولا كالْماء يُشرب
إن تكن تعجب من كثرتنا فالجبن أعجب
قد يخيف الذئب من أنيابه مليار أرنب
أيها المسلمون، إن ما يحدث في هذه الأيام على الأرض المباركة خطير خطير، والعالم كلّ العالم يتفرّج على الطغيان الصهيوني وهو يجوس خلال الديار، ويهلك الحرث والنسل، لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.
المسلمون في الأرض المقدسة في دائرة الخطر، بدأت الطائرات تقصف، والتحرّك البري البربري محتمَل في أيّ لحظة، ودول العالم والمنظمات الدولية تتربص وتترقب! وأمريكا راعية السلام ـ زعموا ـ تتبجّح فتقرّ ما تقوم به يهود بزعم أن لإسرائيل حقَ الدفاع عن نفسها!
أين نفس إسرائيل هذه؟! ومتى جاءت؟! ومن الذي منحها هذا الحق؟! أَمِن أجل خنزير من خنازير يهود اختُطف جاء حقّ الدفاع لدولة كاملة؟! وهل من حقّ الدفاع عن النفس أن تقتّل الأنفس وتهدم الدور وتدمّر البنية التحتية لدولة كاملة، فتقصف محطة الكهرباء ليعيش الناس في ظلام دامس، وتُرجم الطرق والجسور؟! أكُلّ هذا الحق وما قد يلحقه من أجل شخص واحد؟! فمن يهب الفلسطينيين حقّ الدفاع والانتقام لما أُتلف؟! لقد صدق من قال:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر!
أين كانت العدالة الأمريكية والتحركات العالمية حينما قُتلت عائلة الطفلة هدى أمامها على شاطئ غزة؟! بل أين كان العدل الدولي عن الاختراقات التي يحدِثها اليهود في حدود محادثات السلام المزعومة التي يرعاها ويشرف عليها المجتمع الدولي؟!
لقد زال القناع وتكشّف الوجه القبيح لأمريكا ومن معها لمن لم يتكشّف له من قبل وكان مغترًا بطنطنتها حول العدل والسلام وحقوق الإنسان، وأيديها الملطخة بدماء إخواننا الزكية في العراق وأفغانستان خير شاهد على هذا.
ذات يوم وقف العالم يدعو لحقوق الكائنات، كل إنسان هنا أو حيوان أو نبات، "كل مخلوق له كل الحقوق"، هكذا النص صريحًا جاء في كلّ اللغات، قلت للعالم: شكرًا أعطني بعض حقوقي، حقّ أرضي وقراري والحياة، فتداعى العالم من كل الجهات، وأتى التقرير: لا مانع من إعطائه حق الممات.
اللهم أعد لأمة الإسلام عزها ومجدها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن قضية الأقصى بالذات من بين قضايا المسلمين أثبتت من خلال طول مأساتها أن الحل الوحيد لها هو القضاء على هذه الحفنة الحقيرة من يهود، فالسيف ولا دواءَ غير السيف يقضي على هذا الوباء الخطير، ويطهّر البلادَ بل يطهّر الأرض كلّها من نتنهم وعفنهم، خصوصًا وأنه قد اتضح أن مجلس الأمن معنيٌّ بأمن غير المسلمين، وأن الأمم المتّحدة خاصة بالمتحدة ضدّ الإسلام والمسلمين، وأن بنود الأعراف والمواثيق الدولية ملزمة للمسلمين دون غيرهم.
عباد الله، إن على المسلمين أن يفيقوا من سباتهم ورقودهم، وأن لا ينخدعوا بما يبثّه الإعلام العالمي المدار من قِبل الصهيونية العالمية حول قضايا المسلمين بالذات، فهم يزيّفون الحقائق ويلبّسون على الناس، يعظّمون التوافه ويتفّهون العظائم، يبطلون الحق ويحقّون الباطل، يجرّمون البريء ويبرئون المجرم. وكل ذلك من أجل القضاء على الإسلام ومحاربته وتشويه صورته أمام العالمين، ولا هدف لهم سوى هذا، وإلا فبالله عليكم لم يعتبرون اليهودي مؤمنًا ملتزمًا بدينه ويمارس طقوسه بكامل الحرية وإذا أطلق المسلم لحيته صار إرهابيًا؟! ولم تعتبر الراهبة مؤمنة وهبت نفسَها لخدمة الرب حين ترتدِي ملابس تغطّيها من قمّة رأسها حتى أخمص قدميها وإذا لبست المسلمة الحجاب نفسَه صارت رجعية متخلفة؟! لماذا تعتبر المرأة عندهم عظيمة قد ضحّت بمستقبلها إذا أعلنت من تلقائها أنها تفرّغت لبيتها ورعاية أطفالها وإذا فعلت المرأة المسلمة الفعل نفسَه كما أمرها ربها عدّوها أسيرة مقيّدة وطالبوا بتحريرها؟! ولماذا تذهب الفتاة المتحرّرة إلى الجامعة بما تشاؤه من الملبس المحتشم أو العاري فلا يقال عنها قيلٌ ولو يسيرًا وإذا ذهبت المسلمة بحجابها مُنعت بحجة مخالفة المظهر الحضاري للحرم الجامعي؟! ولماذا لا يُذكر دين أحدهم بسوء إذا هو أجرم جرمًا أو اقترف ذنبًا وإذا اتهموا مسلمًا بجريمة ـ حقًا أو باطلاً ـ جرّموا دينه معه ووضعوهما معًا في قفص الاتهام؟!
وأخيرًا أيها المسلمون، إن الدين دين الله، والأرض له يورثها من يشاء من عباده، وليس سبحانه عاجزًا عن أن يرسل على يهود ومن أعانهم جندًا من جنوده يبيدهم ويفنيهم، لكنه سبحانه يُكرم من يشاء بخدمة هذا الدين ونيل شرف نصرته، فإن أبى الجيل استبدل قومًا غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.
وقد وعد ووعده الحق، وعد من قام بدينه وشرعه أن يمكّن له: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 54].
لن يُرجع القدس إلا راية رُفعت تدعو إلى الْحق لا تَخشى الملايينا
سهامها تفجأ الكفار معلية اللَّه أكبر فلتعلو وتعلينا
قد قالَها عمر في عز دولته لن يصلح الحال إن لَم نصلح الدينا
فأروا الله من أنفسكم خيرًا بإصلاح الحال وتجميل الفعال، وأحسنوا الظن به، وأبشروا وأمّلوا، ولا تضنوا على إخوانكم بالدعاء، فهو حقٌ من حقوقهم عليكم وواجب من واجبات نصرتهم، إن عجزتم عن غيره لم تعجزوا عنه: وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ [الأنفال: 72].
(1/5319)
موسم الاختبارات الدراسية
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا المجتمع
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
27/12/1426
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول موسم الاختبارات. 2- أخطاء ترتكب في هذا الموسم. 3- ظهور الطاقات المكنونة. 4- نصائح للطلبة. 5- الاهتمام بأمور الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، في هذه الأيام وما سبقها وما يتلوها أهلَّ على المجتمع موسم التحصيل الدراسي وما يكون فيه من أمور المذاكرة والتحصيل وما يتبع ذلك من استنفار أهل البيوت في الوقوف بجانب أبنائهم الذين يغرقون إلى آذانهم في زحمة الاختبارات وخضم الامتحانات، ويعيشون أيامًا لو سألتهم عنها لزعموا أنها أبغض أيامهم إليهم، إنهم ليستبطئون أيامها ويستطيلون ساعتها، حتى لكأن ساعتها يوم، ولكأن يومها شهر.
والفرد ـ عباد الله ـ حري أن لا يمر به شيء دون أن ينفذ فيه ببصره وبصيرته ليرى ما وراءه، وليستنبط الدرس والعبرة، والاختبارات الدراسية برغم عنائها وجهدها مدرسة حقيقية لو تأملنا فيها وفهمنا ما ترشدنا إليه. وفيما يلي بعض الوقفات مع موسم الاختبارات.
الوقفة الأولى:
في مثل هذه الأيام من كل عام تُرتَكب بعض الأخطاء وترسخ في الأذهان حتى تغدو كأنها من الأمور المسلّم بها، ومن ذلك ما يرتكبه البعض من جعل نجاح الطالب أو الطالبة أو إخفاقه في الامتحان علامة على نجاح المرء في حياته أو فشله، فإذا نجح الولد كال له أبواه أنواع المديح والثناء، وتغاضيا عن أمور شرعية قد تمثل بها ذلك الولد فأحسن في أدائها، ومع ذلك لا يجد من والديه شطر ما يجده من الثناء عليه عند تفوّقه في امتحانه. وعلى النقيض من ذلك إذا أخفَق الولد في امتحانه وباء بالفشل عاتبه أبوه وأنّبه تأنيبًا شديدًا، حتى يكون ذلك التأنيب حاجبًا لأمور شرعية واجبة قصّر الولد في أدائها. ومن هنا تظهر فداحة ذلك الخطأ حيث يبالغ في العتاب والتأنيب في موضع لا يستحق هذا كله، وألغي التأنيب في موضع يستحقه وزيادة، والوسط ـ عباد الله ـ في كلّ الأمور نعمة ربانية موفَّق من منَّ الله بها عليه.
عباد الله، هناك أمر يمارس مع الأبناء في مثل هذه المواسم من كل عام، والدافع له هو الحرص عليهم بلا شك، ولكنه يعود في الغالب بالضرر عليهم، ألا وهو تهويل وتضخيم الامتحانات وزرع الرهبة في صدور الأبناء بسبب قدوم موسمها، حيث أصبحت عند كثير من الطلاب والطالبات شبحًا وكابوسًا يراد له أن ينتهي بأية صورة وكيفما كانت النتيجة، فنجد البعض من الآباء ديدنه صباح مساء التشديد على الأبناء بأمر المذاكرة والمبادرة إلى ذلك، وربما صاحب ذلك شدة في القول وأحيانًا شدة في العمل، مما يولد ردة فعل سلبية لدى الولد، بل تجعل البعض يكره الدراسة لأجل ذلك، وقد يصحب ذلك عقدة مستديمة نتيجة ذلك الأسلوب التربوي الخاطئ، وكان الأولى بالوالدين الحكمة في التعامل، فلا إفراط في الشدة ولا تفريط في الإهمال، بل تقدر الأمور بقدرها، وليحرص الوالدان على ما يلي:
1- أن يرسّخا في أذهان الأبناء أن هذه الامتحانات أمرها هين، وأنها مرحلة عادية كغيرها من المراحل، وبقدر جهد الطالب يجني ويحصد ذلك الجهد بكل سهولة.
2- على الوالدين أيضًا أن يبينا لأولادهما أن هذه الامتحانات ليست المحطة النهائية ولا الرئيسية في حياة المسلم، وكم من ناجح في الحياة لم يكتب له التفوّق في الدراسة واجتياز المرحلة الابتدائية، إنما الخسارة الحقيقية هي في ترك مرضاة الله والتعرض لسخطه وخسران الآخرة والجنة كما قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15].
3- على الوالدين أن يجعلا جانب التوفيق الإلهي والدّعاء نصب عيني أولادهما، وأن يرسّخا ذلك في نفوسهم، ففي ذلك خير عظيم في الآخرة والأولى.
عباد الله، إن أيام الاختبارات والامتحانات كثيرًا ما يخرج الطالب فيها من المدرسة مبكرًا، وهنا مكمن الخطر، حيث يستغل هذا الوقت الضائع الذي يمتدّ إلى أكثر من ثلاث ساعات أحيانًا في إفساد ما بناه الوالدان في المنزل في الأيام الماضية. ألا فاتقوا الله أيها الآباء، واحفظوا أبناءكم من الضياع ومما لا يليق بكم ولا بهم.
الوقفة الثانية عباد الله:
كثيرًا ما يطلب من إنسان أن ينجز بعض الأعمال ويقوم ببعض المهمات فيعتذر بأن هذا فوق الطاقة، وربما يدخل تحت المستحيل الذي لا يمكن تحقيقه، فحين ترجو من شخص أن يقرأ كتابًا أو يسهر قليلاً في عمل خير أو يبذل جهدًا في صلاة أو عبادة أو عمل صالح يخدم الدين والدنيا يحتج بأن وقته وإمكاناته تقعد به عن ذلك، وتجيء الامتحانات وإذا بذلك الشخص نفسه يقرأ في اليوم الواحد مئات الصفحات، ويسهر إلى الفجر، ويحفظ عشرات المعلومات، وينجز أشقّ المهمات. فهل تغير الإنسان في يوم وليلة؟! أماذا حصل؟! كل ما في الأمر ـ عباد الله ـ أن المرء في أيام الاختبارات يستثير همته الكامنة، ويبرز مواهبه المدفونة، ويخرج طاقته التي غطّاها ركام الكسل والفتور والتواني.
عباد الله، إن عند كل واحد منا من الطاقات والملكات والقدرات ما لا يمكن الاستهانة به، وما نستطيع به لو استثمرناه أن نحقق أقصى درجات النجاح. تصور ـ أخي الطالب ـ لو أنك بذلت في حياتك مثل الجهد الذي تبذله في الاختبارات أو نصفه إلى أين كنت ستصل؟! وماذا ستحقق من الطموحات؟!
عباد الله، إن ما يعانيه الطالب من المشقة والنصب لتحصيل قدر محدود من العلم ولمدة محدودة لا تتجاوز الاختبار، إن هذا يشعرنا ويذكرنا أن طلب العلم ليس أحلامًا ولا أماني، إنما هو بذل واجتهاد، والراغب فيه لا بد أن يتنازل عن كثير من مرغوباته ومحبوباته، ولئن كان هذا هو شأن العلم ـ عباد الله ـ فإنه أيضًا شأن كل شيء سام في الحياة، فلا تحقق الأهداف والآمال إلا بالبذل والجهد والنصب، ومن يظن أنه يحقق ما يريد بدون أن يقدم ثمنًا فهو واهم. رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يلعب بالحصى ويقول: اللهم زوّجني من الحور العين، فقال له: يا هذا، لقد أعظمت الخطبة وأسأت المهر.
فيا أيها الراغبون في الجنة، ويا أيها الراغبون في العلم، ويا أيها الراغبون في النجاح والتفوق، لن تبلغوا آمالكم إلا بالجهد والنصب، فهل أنتم باذلون؟!
دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا المجد حتى ملّ أكثرهم وعانق المَجد من أوفى ومن صَبَرا
لا تحسبن المجد تَمرًا أنت آكله لن تبلغ المَجد حتَّى تعلق الصّبِرا
أخي الطالب الموفق، هذه بعض النصائح على وجه الاختصار؛ علّها أن تجد حيزًا في قلبك وعقلك:
أولاً: احرص على بر والديك وطلب الدعاء منهم قبل الامتحان وأثناء الذهاب إليه وبعده.
ثانيًا: إياك والقلقَ وعدم الثقة بالنفس، ولا تجعل لوساوس الشيطان عليك سبيلا، وليكن التفاؤل حاديك في كل أعمالك.
ثالثًا: احذر من مصاحبة البطالين والكسالى، واربأ بنفسك عن مجالسهم، وخاصة أهل المعاصي والموبقات، واعلم أن من أقلّ أضرار المعاصي عدم التوفيق في شؤون الحياة.
رابعًا: أخي الطالب، احذر من الغشّ، واعلم أنه حيلة العاجزين وطريق الفاشلين وصفة ذميمة لا تليق بالمؤمنين، كيف والنبي قال: ((من غش فليس منا)) ؟! فكيف ترجو السداد والنجاح ونبيك يتبرأ من عمل ترتكبه؟!
خامسًا: إذا دخلت صالة الامتحان فأكثر من ذكر التبرؤ من حولك وقوتك، ولا تغتر بحافظتك أو جهدك، وتوكل على الله، والجأ إليه، فإن الله يحب من عبده كثرة الدعاء والإلحاح عليه في ذلك، وقد وعدك ربك الإجابة إن أنت أقبلت إليه بصدق، قال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
سادسًا: تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وليكن إقبالك إلى الله وحرصك على طاعته في هذه الأيام دافعًا لك للاستمرار والثبات عليها إلى يوم تلقاه.
يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن العبد إذا كان يدعو الله في الرخاء ثم نزلت به شدة فدعا الله قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت معروف، فيشفعون فيه، فإذا كان لا يدعو من قبل ودعا زمن الشدة قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت غير مألوف، لا يشفعون فيه).
فاحذر ـ أخي ـ أن تكون ممن يدعو الله في شدته وينساه عند رخائه، وكن كما قال تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا الآية.
إخواني الطلاب، إن تكونوا صغارَ قومِ اليوم فغدًا أنتم كباره، وبقدر تحصيلكم وتفوقكم الدراسي توكّل إليكم المسؤوليات وتناط بكم الأمور والإدارات، وعندئذ تنصرون دينكم وتخدمون بلدكم وتحققون طموحاتكم.
إن الأمة الخاملة صِفر من الأصفار، لكن إن بعث الله لها واحدًا مؤمنًا صادق الإيمان داعيًا إلى الله صار صفر الأصفار مع الواحد مائة مليون، والتاريخ مليء بالشواهد، فحري بكم الاجتهاد في التحصيل والمذاكرة وإخلاص النية لله سبحانه حتى تنالوا أعلى الدرجات وتحوزوا على أسمى الجوائز والتكريمات، وليعلم العالم أنكم ـ يا أحفاد الصحابة ـ أهلٌ للتفوق والابتكارات والاختراعات، وليعلموا أيضًا أن ديننا الذي اتُّهِمنا من أجله هو مصدر تفوّقنا وتميّزنا، فلا تعارض بين الاستقامة والتفوّق، ولا تناقض بين الحجاب والاختراعات العلمية، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
ياشبابَ اليومِ يا رَكبَ العُلا حقِّقوا للدّين آمالَ الطّلابِ
بِكُمُ أمّتكم قد علَّقت كلَّ آمال لها بعد ارتِقاب
أنتم آمالُها لا تصبِحوا أنتم آلامَها مِن كلّ بابِ
جدَّ إبليس الهوَى في غيِّه يملأ الأفقَ بشرٍّ وتَبابِ
ملأَ الشرُّ الدُّنا من حولِكم فاملؤوا الكونَ بخيرٍ مُستطابِ
إن سَعَى قوم إلَى لذّاتِهم فانفِروا للَّهِ كالأُسدِ الغِضابِ
كم شَبابٍ في فَراغ فُتنوا ضيَّعوه بيْن لَهوٍ وتَصَاب
وسعى في مَركَباتٍ بعضُهم يَقطَع الآفاقَ فِي لمحِ الشِّهابِ
فِي فضائِيّات لَهو ماجنٍ أدمَنَ البَعضُ كآفاتِ الشَّراب
بَيْن أسفارٍ وَحِلٍّ مَن مَضَى يقنُص اللَّذاتِ نهشًا كالذّئابِ
أَوَيدري غافلٌ في لهوِه أيَّ وقتٍ ينتَهي عُمرُ الشبابِ
بَيْن فتحِ العين أو إغماضها يَنفَد العمر كإدبارِ السراب
يا شبابَ الخير يا كلَّ المنَى لِغدٍ يُرجِع أمجادَ الطِّلاب
أَقبِلوا لله في صِدق تَرَوا كلَّ سَعدٍ في حَياة وحِسابِ
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله، إن الشعور برهبة الامتحان من قبل الأبناء وذلك الخوف من قبل الآباء والأولياء لهو شعور طبيعي، قد يحمدون عليه، ولكن المصيبة أن ترى هذا الشعور أوفر ما يكون عند أمور الدنيا واختبارها اليسير، فإذا جاء ما يخص الآخرة واختبارها الحقيقي رأيت بعض الأولياء أبرد ما يكون شعورًا، ووجدت الأبناء أقل ما يلقون اهتمامًا.
كم من أب وأم حرصا على إيقاظ أبنائهم عند أذان الفجر في أيام الامتحانات، بل في أيام الدراسة، وبذلا في ذلك كلّ ما في وسعهم؛ لئلا يفوتهم موعد الدراسة أو الامتحان فيخفقوا، ولكن هذين الوالدين لم يهتمّا في يوم ما بإيقاظ الأبناء لصلاة الفجر أو صلاة العصر مع عِلمهما بأهمية الصلاة وخطورتها.
عباد الله، إن من الشقاء الواضح والخسارة الفادحة أن يظلّ اهتمام الإنسان منصبًّا على هذه الدنيا وزخارفها، وأن لا يظهر حرصه إلا عليها ومن أجلها، ثم لا يهمّه بعد ذلك أمر الآخرة، ولا أين موقعه منها إن في سعادة أو في شقاء.
عباد الله، ونحن مقبلون على امتحانات الطلاب لا بدّ أن نتذكّر بها السؤال والحساب يوم السؤال والحساب، وما أعد الله فيه من الثواب والعقاب، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103].
عباد الله، الطلاب يُسأَلون في الامتحانات ولن ينجح منهم إلا من كان مجتهدًا، ولن يفلح منهم إلا من اغتنم عامه من أوله، فيجب أن نعلم أن كل عبد سيسأل يوم القيامة عما سلَف منه وكان، ولن ينجح إلا أهل التقوى والإيمان، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93].
عباد الله، يحرِص أهل الدّنيا على إخفاء أسئلتهم في الاختبار عن الطلاب، ولكنّ الله من رحمته ولطفه بعباده جعل أسئلة اختبار الآخرة مكشوفة ومعلومة لكل أحد، فقد كشفها معلم البشرية بقوله: ((لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟)).
ألا فأعدوا للسؤال جوابًا، وأعدوا للجواب صوابًا، احفظوا الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكروا الموت والبلى، واتركوا زينة الحياة الدنيا؛ لتفوزوا بالآخرة والأولى.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الْموت راحة كل حيّ
ولكنا إذا متنا بُعثنا ونسأل بعدَه عن كلّ شيِّ
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5320)
تأملات في سورة العصر
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن هدى ونور. 2- الحث على تدبر القرآن. 3- عظم سورة العصر. 4- تفسير سورة العصر. 5- تعظيم السلف لسورة العصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، أنزل الله هذا القرآن لهداية البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور؛ ليرحمهم سبحانه وتعالى بذلك، جعله موعظة يتعظ بها أولو العقول الرشيدة والأنفس المطمئنة، هذا القرآن أعظم كتاب أنزله الله، وأشرف كتاب، من حكم به عدل، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، المتمسكون به هم الناجون يوم القيامة، السعداء في الدنيا والآخرة، المنصورون على من عاداهم، ((لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من عاداهم، حتى يأتي أمر الله)) ، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). ولقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أن خلق النبي القرآن، والله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
أيها المسلمون، لئن كان القرآن بهذه المثابة فإن في تدبر آياته نفعًا عظيمًا وعزًا دائمًا وعلمًا نافعًا، ولقد نعى الله على أقوام أنهم لا يتدبرون القرآن، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
عباد الله، هذه وقفات مع سورة من كتاب الله عز وجل، سورة عظيمة، جمعت خيرًا كثيرًا، كان من عظمتها أن قال فيها الإمام الشافعي رحمه الله ورضي عنه: "لو ما أنزل الله حجة على العباد إلا هذه السورة لكفتهم"، فهي كافية في إلزامهم بالحق، وقيامهم بما أوجب الله عليهم، وترك ما حرمه عليهم، سورة أخبر الله فيها بخسار الناس جميعًا، لم ينج منهم أحد إلا من جمع أوصافًا أربعة، جامعها هو الرابح الناجي، أتدرون ما هذه السورة وما هذه الأوصاف الأربعة؟ إنها سورة العصر.
يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، أقسم الله فيها بالعصر، وهو الدهر والزمان الذي تقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، وهو ميدان العاملين ومضمار المتسابقين، ويختلف الناس فيه اختلافًا عظيمًا، منهم من يعمل فيه بطاعة ربه ومولاه وإصلاح نفسه وأمته، وهذا هو الفائز المفلح، ومنهم من يقطعه في معصية الله إفسادًا لنفسه وأمته، أو يذهب هدرًا لا أفاد ولا استفاد، وهؤلاء هم الخاسرون.
ما أقسم الله بهذا الزمان إلا لأهميته وعظيم منزلته، فيه تستغلّ الأوقات في طاعة الله، وبه يعين المسلمون بعضهم بعضًا، ويزداد المرء شرفًا وجاهًا عند الله وعند خلقه، ((من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخطهم رضي الله عنه وأرضى عليه الناس)).
أقسم الله بهذا الزمان العظيم تنبيهًا لنا وحفزًا على استغلاله والعمل فيه بمرضاة الله والتقرب إليه بكل ما تستطيع. أقسم به على أن كل إنسان خاسر مهما كثر ماله وولده، إلا من جمع هذه الأوصاف الأربع التي بها حياة القلوب والأبدان والبلدان.
أحدها: الإيمان بالله، وبكل ما يقرب إليه سبحانه من عقيدة وعمل، إيمان يجعل تعلق الإنسان بربه وحده، لا رجاء ولا خوف ولا دعاء إلا له دون من سواه، عقيدة تسمو بنفس الإنسان وقلبه، حتى يصل به الحال أنه يعبد الله سبحانه كأنه يراه أمامه، فيجعل الغيب شهادة والخفي ظاهرا.
ثاني هذه الأوصاف: العمل الصالح المقرب إلى الله، يجمع بين الإخلاص لله فلا رياء ولا شرك، وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ، وبين اتباع رسول الله ، فقد قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، والله يقول: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ما أحوج الأمة في هذا الزمان إلى الإخلاص لله واتباع سنة رسوله ، في عصر تسلط فيه أعداء الله على عباده، ساموهم فيه سوء العذاب، وما ذاك إلا لبعد أهل الإسلام عن دينهم، ولن يرفع عنهم ذلك إلا بالرجوع إلى الله والتوبة إليه، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، ولا عز لنا إلا بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله.
وثالث هذه الأوصاف: التواصي بالحق، وهو فعل ما يقرب إلى الله والحث عليه والترغيب فيه. وليبدأ الإنسان بمن حوله من أقاربه وجيرانه.
ورابعها: التواصي بالصبر على فعل أوامر الله، والصبر على نواهيه، والصبر على قضاء الله وقدره، وهذا التواصي بالصبر وبالحق يدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قوام الأمة وعزها، فهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بسبب هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ.
أيها المسلمون، تفكروا في هذه السورة وتأملوها، واعملوا بما فيها، آمنوا بالله ورسوله واعملوا صالحًا، تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وخذوا على يد الجاهل والسفيه، وليعن بعضكم بعضًا على طاعة الله، واعلموا أن من عمل عملاً صالحًا آجره الله وكلّل عمله بالنجاح والتوفيق، ولن تؤتوا إلا من قبل أنفسكم، فلن يتخلف النجاح إلا بنقص في أحد الأمرين: إما الإخلاص أو الاتباع، فالله قد وعدكم بالنصر والعزة، والله لا يخلف الميعاد، ومن أراد الله والآخرة بعمله أعطاه الله الدنيا والآخرة، ومن أراد الدنيا فقد يعطاها أو يحرمها وهو في الآخرة من الخاسرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيًا وحين تظهرون، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بديع السماوات والأرض كل له قانتون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين المأمون، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم فيما عند الله راغبون.
عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، فإن طاعته أقوم وأقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، واعلموا أنكم غدا بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم مجزيون، وعن أفعالكم محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أيها المسلمون، تناصحوا وتواصوا بالحق، وليعن بعضكم بعضًا على طاعة الله سبحانه، فلن يبقى للإنسان إلا ما قدم من مال أو قول أو عمل، ولقد كان بعض الصحابة يلقى بعضًا فيقولون: (اذهب بنا نؤمن ساعة)، فيذكرون الله سبحانه، وقال السلف: كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر؛ لما فيه من أوصاف المفلحين.
أيها المسلمون، صلوا وسلموا على البشير النذير...
(1/5321)
الأعمال الصالحات سبب للنجاة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, فضائل الإيمان
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعرف إلى الله في الرخاء. 2- الاستعداد للموت. 3- قصة الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم. 4- إنجاء الله تعالى للمؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، ولازموا الأعمال الصالحة، وأكثروا من فعل الطاعات، فإنها سبب للنجاة من المهلكات العاجلة والآجلة، يقول تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ، والنبي يقول: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) ، يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة، فإذا وقع في شدة فإن الله ينجيه منها، فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإغاثة في حال شدته، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ.
أيها المسلمون، يروى أن يونس عليه السلام لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت معروف، من بلاد غريبة، فقال الله عز وجل: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومن هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا رب، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟! قال: بلى، قال: فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء. وقال الضحاك: اذكروا الله في الرخاء، إن يونس كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
أيها المسلمون، إن أعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشد منه، فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ، فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه واستعد حينئذ للقاء ربه عز وجل ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها وأعانه وثبته على التوحيد، وتوفاه وهو راضٍ عنه، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه ولم يستعد للقائه نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنه تركه وأعرض عنه ولم يعنه إذا وقع فيها.
وانظروا ـ حفظني الله وإياكم ـ إلى نجاة أهل التقوى والأعمال الصالحة في هذه الواقعة العجيبة التي أخبر بها أصدق الخلق نبينا محمد في الحديث المتفق على صحته قال: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آوهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فجلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً ومالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه، وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلي، فراودتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
فالأول منهم توسل إلى الله ببره بوالديه، وأنه كان لا يؤثر عليهما أهلاً ولا مالاً، والثاني توسل إلى الله بعفافه عن الفاحشة وتركه إياها بعدما قدر عليها خوفًا من الله عز وجل، والثاني توسل إلى الله بأداء حق الأجير وحفظ الأمانة، ففرج عنهم الشدة لما دعوه بصالح أعمالهم.
عباد الله، الأعمال الصالحة تكون سببًا للنجاة من المهالك في الدنيا والآخرة، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ؛ ولهذا أهلك الله عز وجل أعداء الرسل كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشياعهم، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحدًا، وأهلك الكافرين ولم يفلت منهم أحدًا.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على دينكم الذي به نجاتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، ولا تضيعوه فتهلكوا، فإن كثيرًا من الناس قد غرقوا في المعاصي والمحرمات، وهؤلاء إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب لا يحصلون على النجاة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5322)
الموت ومحاسبة النفس
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, خصال الإيمان
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع عام واستقبال عام. 2- الأيام دول. 3- العيش للآخرة. 4- الدنيا مزرعة الآخرة. 5- فضل محاسبة النفس. 6- وقفات اعتبار وتأمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فالأعمار تُطوى، والأجيال تفنى، والآجال تقضى، كم من الناس من عاش معنا بالأمس، عاجله أجله قبل اليوم، وكم من الناس من يعيش معنا اليوم لن يمهله أجله إلى الغد.
عباد الله، ها نحن هذا اليوم نستقبل عامًا هجريًا جديدًا بعد أن ودعنا عامًا مضى بالأمس، فماذا ادخرنا فيما مضى؟ وماذا أعددنا لما نستقبل؟ هل ادخرنا في صحفنا ما يسرنا أن نراه فيها غدًا أم ادخرنا غير ذلك؟!
في استقبال عام وتوديع آخر لا بد أن يعلم كل إنسان ويستقر في قلبه أن الدنيا دول، يوم لك ويوم عليك، وأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأن الإنسان لا يعلم ما في القدر، قُل لاَ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَ اللَّهُ.
ولئن كان الكافر يعيش حياته كالبهيمة، يحيا لدنياه ويموت لها، لا يرجو جنة ولا نارًا ولا جزاء ولا شكورًا، فإن المسلم يحيا لآخرته، ودنياه تبع لأخراه، وأمله متعلق بالله عز وجل: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً.
وليعلم الإنسان أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار الجزاء ولا عمل فيها، فليخلص لله عز وجل، والعمر قصير والأيام تطوى، وعمله سيلاقيه عند لقاء ربه، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ ، أي: إنك ساعٍ إلى ربك سعيًا، وعامل عملاً، فملاقيه، ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، فيجازيك الله على عملك ويكافئك على سعيك، في الحديث عن جابر قال: قال رسول الله : ((قال جبريل: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه)) رواه أبو داود الطيالسي.
أيها المسلمون، إن السعيد من حاسب نفسه قبل الموت على أعماله في هذه الحياة، هل سلك بأعماله طريق الجنة أم زاغت به نفسه الأمارة بالسوء إلى طريق الجحيم، هل قدّم مراد الله على مراد النفس والهوى أم قدم هوى نفسه على أوامر الله ورسوله، يقول عمر بن الخطاب : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر)، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ، وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه".
عباد الله، ها أنتم الآن في دار المهلة، فماذا أعددتم لما بعدها؟ وهل حاسبتم أنفسكم على أعمالها؟ وهل وقفتم معها موقف الناقد المحاسب الذي يسأل عن كل ما أمامه؟ فإن رأى خيرًا أمضاه، وإن رأى غير ذلك رجع إليه وأصلحه، لنقف مع أنفسنا هذه الوقفات القليلة؛ لعل الله أن يصلح حالنا ومآلنا ويسعدنا في دنيانا وأخرانا.
الوقفة الأولى: إنه يجب على المسلم أن يكون متجهًا إلى ربه في كل عمل يعمله، فهو الذي يجازي الناس بأعمالهم، وهو الفعال لما يريد، والله سبحانه لا يجازي الناس بصورهم وأجسامهم، وإنما يجازيهم بأعمالهم، في الحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). وإذا علم الله من عبده حب الخير والحرص عليه وفقه له وقواه عليه ويسره له. ثم اعلم أن طاعة الله سبحانه وتعالى مقدمة على طاعة كل أحد، ورضاه مقدم على رضا كل أحد، وفي الحديث عن النبي : ((من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) ، والناس عبيد الله، والعبد لا ينفك عن طاعة مولاه وامتثال أمره واجتناب نهيه.
الوقفة الثانية: إنه ينبغي لكل عاقل أن ينظر في أقرانه وأحبائه وأهل بلده كيف اختطفهم الموت من بين يديه، لم تغنهم أموالهم ولا قوتهم ولا كثرة أولادهم، ولو جُعل الخلد لأحد لكان لرسول الله ، يقول الله عنه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ، ويقول: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ، وليحرص الشاب على هذه النظرة؛ فالشاب يغره شبابه وقوته، ويطول به الأمل حتى يأخذه الموت على غرة، يقول ابن الجوزي رحمه الله: عجبت للشاب كيف يطول به الأمل، أوما علم أن من يأخذه الموت من الشباب أكثر ممن يأخذه من الشيوخ؟! قال: وانظر إلى من حولك، كم فيهم من معمِّر؟ أين البقية؟ لقد ماتوا شبابًا، ولئن عشت وطال بك العمر وهرمت فلن تكون في هرمك كشبابك، ستضعف القوة وتكثر الأمراض، وتشغلك الأعمال وكثرة الأولاد، ولهذا قال النبي : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك)). والسعيد ـ يا عباد الله ـ من استعد لما أمامه وجعل حياته ذخرًا لمماته واعتبر بالماضين ونظر في أحوال السابقين.
الوقفة الثالثة: الوقت هو رأس المال، وهو ميدان العمل ومرتع الطاعة والمعصية، فحافظ على وقتك، واقضه في طاعة الله عز وجل، فما مضى لن يعود، والغد غائب لا تدري أتدركه أم لا. وإن خير ما قضيت به الأوقات الإيمان بالله سبحانه والعمل الصالح، فهو الذخر والباقي لابن آدم، ولقد حثنا الله على استغلال هذا الزمان لما يقرب إليه فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، قال الشافعي رحمه الله: "لو لم ينزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم". وإن أعظم ما يفقده المسلم في هذه الأزمان المحافظة على الوقت واستغلاله في طاعة الله عز وجل، يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو قراءة كتاب لا يفيد، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار في الأسواق، قال: فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر".
فاتقوا الله عباد الله، والزموا طريق السلف الصالح في المحاسبة والعمل، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له نصلي ونسجد، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، رسول لا يكذب، وعبد لا يُعبد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما دعا الله داع وتعبد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الناس، اتقوا الله فتقوى الله عليها المعوّل، وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول.
عباد الله، محاسبة النفس تحقق للإنسان السعادة والعزة في الدنيا والآخرة، أليس إذا حاسب نفسه انشغل بنفسه عن الآخرين، فأصلح نفسه وراقبها، وشغلته عيوبه عن عيوب الناس؟! روي عن شداد بن أوس عن النبي : ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) رواه الترمذي.
وإذا كان هذا هو حال المحاسب نفسه فإن ذلك يثمر له محبة الله ورضوانه، فالله يحب المتقين ويرضى عنهم، يقول الله تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، وبهذا يبتعد الإنسان عن مزالق الشيطان، ولا يجد الشيطان إليه طريقًا.
ومحاسبة النفس دليل على الخوف من الله عز وجل وتقواه، ومن خاف من الله أسرع في السير إليه، ومن أسرع إلى الله وصل إلى الله، وفي الحديث: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)).
ثم اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن هذا الشهر شهر الله المحرم يستحب كثرة الصيام فيه، فقد قال النبي : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) ، فاغتنموا عامكم بطاعة الله عز وجل، لعلَّ الله أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل.
ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله بذلك في كتابه...
(1/5323)
محاسبة النفس مع مرور الأعوام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكر في مرور الأيام. 2- سرهة انقضاء الأعمار. 3- حتمية الموت. 4- الدعوة لمحاسبة النفس. 5- حقيقة الإيمان والتوبة. 6- المسارعة للخيرات. 7- توالي الفتن على المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله، وتفكروا في مرور الليالي والأيام، وأن كل ساعة تمر لا تعود إلى يوم القيامة، وإنما هي مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، فمن عمل فيها خيرًا فليحمد الله وليزدد منه، ومن فعل غير ذلك فليراجع نفسه وليخف ذنبه، فإنكم راجعون إلى الله، وموقوفون بين يديه، وسيوضع الكتاب بين أيديكم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وستجدون أعمالكم حاضرة أمامكم، ولا يظلم ربك أحدًا، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
عباد الله، بالأمس ابتدأ هذا العام، وكل منا ينظر إلى نهايته على أنها بعيدة، فما هو إلا أن قيل: قد انقضى العام وآذن بالزوال، وهكذا الأعمار تطوى والأيام تمضي، فماذا فعل الإنسان فيها؟ وبماذا قضاها؟ يقول أبو بكر الصديق : (إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد خفي عنكم علمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا)، وفي الحديث عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). فانظر ـ يا عبد الله ـ كيف جعل النبي قصر الأمل في الدنيا وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح يهيئ جهازه للرحيل.
أيها المسلمون، ها أنتم في آخر جمعة من هذا العام، وستبدؤون بعد أيام قلائل عامًا جديدًا، فكم ودعتم في العام الماضي من عزيز عليكم؟ وكم ولد لكم فيه من الأولاد؟ وكم افتقر فيه من الأغنياء واغتنى فيه من الفقراء؟ وهكذا الدنيا لا تدوم على حال، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ.
وإن كثيرًا من الناس ليفرح ببداية العام ويسر بها، وما درى هذا المسكين أن بداية العام محسوبة من عمره، وأن العام القادم شر من العام الماضي، كما في الحديث عن النبي : ((ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم)) ، وفي الحديث الآخر: ((ما من عام إلا وينقص الخير فيه ويزيد الشر)).
إن كل الناس موقنون بالموت، مسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم، ما من أحد منهم يحدث نفسه بالخلود، لكن الفرق بيننا وبين الكفار أن الكفار لا يرجون جنة ولا يخافون نارًا ولا بعثًا ولا نشورًا، ونحن مؤمنون موقنون بذلك، وأن مرجعنا إلى الله، وأن الكفار هم أصحاب النار، وموقنون أن كل صغير وكبير مستطر، وأنا مجزيون بأعمالنا؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
فكونوا ـ أيها المسلمون ـ كما قال أمير المؤمنين عمر: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله)، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ.
تذكروا بنهاية العام نهاية الدنيا، وإذا كانت منتهية وزائلة فهي هينة وضيعة، لا ينبغي للعاقل أن يتعب نفسه خلفها وفي البحث عن ملذاتها، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء. وتذكروا ببداية العام الدار الآخرة، فهي حياة جديدة ودار الأبد ومستقر العمر والحياة التي لا نهاية لها ولا انتهاء، وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، فطوبى لمن شغلته أخراه عن دنياه، ويا سعادة من كان مستقبل عمره خيرًا من ماضيه، والويل والخسران لمن كان غير ذلك.
وإن في الماضين من الأمم لعبرة للمعتبرين، وفي الأموات من الآباء والأجداد لذكرى للمتذكرين، فأين المشمرون إلى الله والدار الآخرة؟! وأين الذين يبدؤون بأنفسهم، فيصلحونها ويعيدونها إلى دين الله ومرضاته؟! فلو أن كل إنسان أصلح نفسه لصلح أمر الدين والدنيا.
وإن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، وليست التوبة مجرد قول اللسان دون عمل، بل الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، والتوبة ندم على ما مضى من العيوب وإقلاع عن الذنوب وإنابة إلى علام الغيوب.
وفي الحديث أن النبي وعظ رجلاً فقال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). هذه موعظة لاغتنام أوقات القوة والنشاط قبل أن ينزل على الإنسان وقت الفترة والضعف وقلة النشاط، ومن أصلح نفسه وحفظها على أمر الله سبحانه أصلح الله حاله وحفظه في دنياه وأخراه.
فاجعلوا الموت نصب أعينكم، وأكثروا من ذكره، وزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة، فلقد كانت هذه حال السلف، فقد قال بعضهم: "ما نمت نومة فحدثت نفسي أني أستيقظ منها".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يبدي ويعيد، ذي العرش المجيد، وهو فعال لما يريد، أمر عباده بالتوحيد، وحذرهم عقابه يوم الوعيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الرأي الرشيد والقول السديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، وأصلحوا أعمالكم، وعودوا إلى ربكم، فإن الأمة الآن في أمس الحاجة إلى مراجعة أمرها والعودة إلى كتاب ربها، فقد مرت عليها في السنين الماضية أحداث جسام هزت كيانها، وأبعدتها عن مصدر عزتها وكرامتها.
بموت علمائها نقصت في علمها ودعوتها، وكم مات في الأعوام الماضية من إمام وعالم، كانوا أركانًا للملة وأعلامًا للهدى ونجومًا يهتدى بها، وإن الله لا ينزع العلم انتزاعًا من صدور الرجال، وإنما يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
تسلط الأعداء على ديار المسلمين بغزوهم في بيوتهم وأماكن نزولهم، بإرسال الفساد عليهم عبر كل وسيلة يستطيعونها، ليبعدوا الأمة عن دينها، ثم تسلطهم على الديار بالحروب في كثير من بلاد المسلمين، وهم لا يرضون منا إلا اتباع دينهم، وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.
فهل من عائد إلى الله؟! وهل من قاصد لثوابه وجنته؟! وهل من مستنصر به؟! فالنصر قريب، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.
وإن في شهر الله المحرم لذكرى لنصر الله للمؤمنين على الكافرين، فأروا الله من أنفسكم خيرًا ينجز لكم ما وعدكم.
ثم صلوا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك...
(1/5324)
الحث على التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة اقتران الدعاء بالرجاء. 2- سعة رحمة الله تعالى. 3- فضل الاستغفار. 4- أفضل أوقات الاستغفار وأنواعه. 5- أهمية التوحيد وخطورة الشرك. 6- افتقار العبد إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا ربكم وتوبوا إليه من ذنوبكم، ولا تقنطوا من رحمته مهما بلغت ذنوبكم، فإنه يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها، كما روى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
عباد الله، هذا حديث عظيم تضمن أمورًا ثلاثة تحصل بها المغفرة:
الأمر الأول: الدعاء مع الرجاء، وهو في قوله: ((إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)) ، ففيه أنه لا بد من الجمع بين الدعاء ورجاء الإجابة، فلو دعا دون رجاء لم يستجب له؛ لأن ذلك قنوط من رحمة الله، والقنوط من رحمة الله ضلال، كما قال تعالى: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ، وإن رجا دون دعاء لم ينفعه هذا الرجاء؛ لأنه لم يفعل السبب الذي يحصل به المطلوب، والله قد ربط الأمور بأسباب لا بد من فعلها، ومن تركها كان عاجزًا مهملاً، كما روي عن النبي أنه قال: ((والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)).
وفي قوله تبارك وتعالى: ((غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)) بيان سعة مغفرة الله، وأنه مهما كثرت ذنوب العبد فإن الله يغفرها له، ولا يتعاظم كثرتها لأنه سبحانه لا يتعاظمه شيء ما دام العبد قد أتى سبب المغفرة.
أما من يكثر من الذنوب ويترك التوبة اعتمادًا على سعة مغفرة الله وعفوه فإنه خاسر لأنه أمن مكر الله، والله تعالى يقول: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ، ومكر الله هو استدراجه للعاصي ثم أخذه بالعقوبة على غرة وغفلة، قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن".
الأمر الثاني مما تضمنه الحديث: بيان أن الاستغفار ـ وهو طلب المغفرة ـ لا يبقي من الذنوب شيئًا، بل يمحوها ولو كبر حجمها وبلغ ارتفاعها العنان وهو السحاب فإن الله يغفرها.
وقد أمر الله بالاستغفار في مواضع من كتابه، ومدح أهله، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم وتكفير خطاياهم، ولا بد مع الاستغفار من عدم الإصرار على الذنب، بمعنى أن المستغفر يترك الذنوب المستغفَر منها، فإن لم يتركها لم ينفعه الاستغفار؛ لأنه حينئذ يكون استغفارًا باللسان فقط، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وللاستغفار ساعات يرجى قبوله فيها أكثر من غيرها؛ كأدبار الصلوات ووقت الأسحار، قال تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ، وقال: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وأفضل أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على الله، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة كما ثبت في الصحيح عن شداد بن أوس عن النبي أنه قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
وينبغي الإكثار من الاستغفار اقتداء بالنبي ، فقد ثبت عنه أنه قال: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
وينبغي أن يقرن الاستغفار بالتوبة فيقول: أستغفر الله وأتوب إليه كما في هذا الحديث، وكما في قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ، وذلك ليجمع بين الاستغفار باللسان والإقلاع عن الذنب بالقلب والجوارح، وهذا معناه عدم الإصرار على الذنب.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الاستغفار سبب للخصب، جالب للبركة، مكثر للنسل، مبعد للعذاب، مفرّج للهموم، منفّس للكروب.
الأمر الثالث مما تضمنه هذا الحديث أن التوحيد هو الشرط الأعظم بل هو الأساس لمغفرة الذنوب، فمن فقده فقد المغفرة، إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ، وفي هذا الحديث يقول الله تعالى: ((يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) ، وقراب الأرض ملؤها أو ما يقارب ملأها.
دلّ الحديث على أن الموحد ترجى له المغفرة ولو كثرت ذنوبه، فإن ما معه من التوحيد يكفر الله به الذنوب مهما عظمت ومهما كثرت، وهذا مقيد بمشيئة الله عز وجل، كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ، أي: ما دون الشرك لمن يشاء، ففيه فضل التوحيد، وبيان ما يكفر من الذنوب، وأن من لقي الله به ومات عليه فإنه ترجى له المغفرة، وفيه التحذير من الشرك؛ لأنه لا يغفر لصاحبه ولو أتعب نفسه بالعمل ولسانه بالاستغفار، ولو أنفق ما في الدنيا فلن يقبل منه، ولن يغفر له ما دام على الشرك.
ولكن ما هو الشرك الذي هذا خطره؟ إنه عبادة غير الله مع الله؛ كعبادة الأصنام والقبور والاستعانة بالأموات ودعائهم من دون الله وطلب المدد منهم والتوسل بهم والظن بأنهم يقربون من الله زلفى، وكذا السحر فإنه مخرج من الملة ولا يغفره الله سبحانه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصا له الدين، وأشهد أن محمدًا خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، ووثقوا صلتكم به؛ بطاعته وفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه والإكثار من دعائه، فإنه لا غنى بكم عنه طرفة عين، وهو يأمركم بدعائه واستغفاره مع غناه عنكم، وأنتم تعرضون عنه مع فقركم وحاجتكم إليه، وهذا من عجائب هذا الإنسان.
وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ، أي: لا يعرف إلا الساعة الراهنة التي هو فيها، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، هذه طبيعة الإنسان إلا مَن مَنَّ الله عليه بالإيمان، فإن المؤمن كما قال النبي : ((إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)).
وكذلك هذا الإنسان هو دائمًا في حاجة إلى ربه، لكنه لا يدعوه تكبرًا، كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، وقال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وكذلك هذا الإنسان لا يستغفر ربه وهو محمَّل بالذنوب ومعرض لعقوباتها، لكنه لا يستغفر إما لأنه أمن مكر الله، أو لأنه قانط من رحمة الله، كما قال تعالى عن المنافقين: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ.
فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من دعائه واستغفاره، وأخلصوا له العبادة، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة...
(1/5325)
فضل التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة التوبة. 2- التحذير من الأمن من مكر الله تعالى. 3- وقت التوبة. 4- أضرار الذنوب والمعاصي. 5- عقوبة قسوة القلب. 6- فرح الله تعالى بتوبة التائبين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وخذوا من دنياكم لأخراكم، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وتواصوا بالحق، وليعنْ بعضكم بعضًا.
أيها المسلمون، توبوا إلى الله فإنه يحب التوابين، وتطهروا من الذنوب والمعاصي فإنه يحب المتطهرين، واستغفروا الله فإنه خير الغافرين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
التوبة النصوح إخلاص لله، وإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وندم على فعلها، وعزم على عدم العودة إليها، ليست التوبة مجرد قول باللسان بأن يقول: اللهم تب علي وهو مصر على المعصية، أو يقول ذلك وهو عازم على العودة إلى المعصية، أو غير مبال بما سلف من الذنوب، لا بد من تواطؤ القلب واللسان والجوارح على التوبة، يخاف ذنوبه الماضية، ويخشى أن تهلكه، ويذكر الله بلسانه، ويعمل بطاعة ربه بجوارحه، يسأل الله بقلب خاشع ولسان ضارع أن يقبل منه وينجيه.
أيها المسلمون، أيأمن أحدكم الموت أن يفاجئه في أي وقت؟! أيأمن أحدنا مكر الله؟! أيأمن أحدنا عذاب الله أن يأتي ليلاً أو نهارًا؟! إن أحدًا من الناس لا يأمن ذلك، فما بالنا نسوف ونؤخر التوبة والرجوع إلى الله؟! أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.
التوبة ـ يا عباد الله ـ لها وقت لا بد أن تقع فيه، فإن تأخرت لم تنفع صاحبها، إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بروحه، فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
توبوا إلى الله قبل أن يفاجئكم الموت، وتذكروا نعم الله عليكم، اشكروه عليها، ولا تبارزوه بالمعاصي فتأمنوا مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
عباد الله، انظروا إلى من حولكم كيف حلت بهم المصائب والبلايا والنكبات بسبب بعدهم عن دين الله وطاعته، وليس ما أصابهم ببعيد عنكم إذا فرطتم، أفلا تخافون الله وتخشونه؟! أفلا تتوبون إلى الله وتستغفرونه؟! أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
ما بال القلوب قد قست وأعرضت عن دين الله، تسمع المواعظ فلا تنتهي عن المعاصي، وتسمع داعي الله فلا تستجيب له ولا تلبي نداءه؟! يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
إن أعظم عقوبة يصاب بها المرء قسوة القلب، وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا. ولقد عاب الله على أقوام قسوة قلوبهم فقال: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، واستعدوا للعرض الأكبر على الله، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
توبوا إلى الله فقد أمركم الله بها: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، ورغبكم فيها: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ، وإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا أي: أفلح من زكَّى نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وخاب من دسَّاها بالمعاصي والذنوب.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على رغم أنف من جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، والتزموا أمره واجتنبوا نواهيه، وتوبوا إليه واستغفروه لعلكم ترحمون.
أيها الناس، التوبة واجبة من كل ذنب، صغير أو كبير، وكل الناس خطاء، وخير الخطائين التوابون، والله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
عباد الله، أروا الله من أنفسكم خيرًا، فالله قريب مجيب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5326)
فضل العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم نور. 2- فضل العلم والعلماء. أهمية إخلاص النية في طلب العلم. 4- وقفات مع الآباء والأبناء بمناسبة الدخول المدرسي. 5- أهمية العلم الشرعي وفضله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ.
عباد الله، العلم نور يضيء لصاحبه الطريق، ويدله على الصواب، ويهديه إلى جنات النعيم، به ساد الأولون أقوامهم، وبه ارتفع دين الله وبلغ الآفاق، هو تَرِكَة الأنبياء، لم يخلفوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
أجره مستمر بعد وفاة بني آدم، ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
آثار العلم باقية مذكورة، وأفعال أهله مشكورة، لا يزال الناس يدعون لهم ويثنون عليهم في حياتهم وبعد مماتهم.
أيها الناس، لا بد في طلب العلم من إخلاص النية لله لتحصل البركة، ولا بد من العمل به، فالعلم يراد به العمل، لا المجادلة والمخاصمة، ولا يراد به المال والجاه، فهو أشرف من هذا، بل يراد به وجه الله سبحانه.
أيها الناس، في مثل هذا الوقت من كل عام يستعد أبناؤنا لدخول عام دراسي جديد، يتزوّدون فيه علمًا، ويزدادون به معرفة وفهمًا، ولنا مع الآباء والأبناء نصائح وتوجيهات:
أولها: تقوى الله سبحانه، فمن يتق الله يجعل له فرقانًا يفرق بين الحق والباطل والضار والنافع، وإذا اتقى العبد ربه يسر الله له أموره. وعلى الآباء تقوى الله بتوجيه أبنائهم وإرشادهم، وعلى الأبناء تقوى الله بالحرص والجد والمثابرة.
وثاني هذه التوجيهات: أن على المتعلمين احترام معلميهم وتقديرهم ورفع مكانتهم، وإن المتعلم اليوم معلم غدًا، فليحب لمعلمه ما يحب لنفسه بعد حين.
وعلى المتعلم أن يجد ويجتهد من أول العام حتى يدرك حظًا وافرًا من العلم، ويتدرج به شيئًا فشيئًا حتى لا تتراكم عليه العلوم وتكثر، فيعجز عنها ويندم على ما فرط في أول الأمر.
وثالث هذه التوجيهات يا عباد الله: أن على المتعلم أن يعمل بما علم، فمن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال السلف.
والعمل بالعلم مُثبت للعلم وحافظ له، وعلي بن أبي طالب يقول: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل).
أيها المسلمون، وإن أول ما ينبغي تعلمه وحفظه كتاب الله وسنة نبيه ، فهما العلم الباقي للعبد، وبهما تحصل خشية الله، ولهما الثناء المذكور للعلماء: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء أي: بشريعته.، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، وفي القيامة يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه.
هذا هو التوجيه والإرشاد، وقبل ذلك وبعده لا بد من عناية الآباء بالأبناء، ومَن جلساؤهم، ومَن أصحابهم، فإن المرء يُعرف بجليسه، وعليهم الدعاء لهم بالتوفيق والتثبيت وأن يرزقهم الله العلم النافع والعمل الصالح.
سدد الله الخطى، وبارك في الجهود، وجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5327)
قصة نوح: دروس وعبر
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعمة الله على هذه الأمة. 2- فوائد النظر في قصص الأنبياء والصالحين. 3- قصة نوح عليه السلام. 4- دروس وعبر من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعرفوا ما منّ به عليكم من النعم، أرسل إليكم خير الرسل، وأنزل عليكم أفضل الكتب، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس. وإن هذا القرآن الذي أنزله عبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين بين فيه سبحانه أحكام الدين وسنن المرسلين وقصص الماضين، كل ذلك ليعتبر أولو الألباب ويتذكروا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
وإن في النظر في سير الماضين لتسلية للنفس وتثبيتًا لها وتقوية للقلب وإسعادًا له، ينظر المسلم في تاريخ الأنبياء والصالحين فيرى أنهم قد ابتلوا وأوذوا حتى أتاهم نَصرٌ بعد تمحيصهم وتنقيتهم، فيطمئن قلبه، ويقوى جنانه، ويعلم أنه ليس وحيدًا في هذا الطريق، وأن الوصول إلى المقصود دونه قطع المفاوز كما قطعها من قد سبق.
عباد الله، لقد أكثر الله في القرآن من القصص تثبيتًا لقلب النبي ، وأمر رسوله أن يقص القصص ليتفكر فيها كفار قريش، لعلهم أن يتوبوا إلى ربهم ويعودوا إلى رشدهم: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، بل لقد أخبر الله أنه لم يقص عليه جميع قصص الأنبياء فقال: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ.
أيها المسلمون، قصص الأنبياء في القرآن كثيرة، وكل منها لها فوائدها وأحكامها، بينهم من طال انتظاره واشتدّ أذى قومه له، ومنهم من قتل، ومنهم من آمن به قومه في آخر الأمر، ومنهم من لم يؤمن به أحد، يقول النبي : ((عرضت علي الأمم فرأيت النبيّ ومعه الرهط، والنبيّ ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)). الله أكبر! نبي يبعثه الله في أمة من الأمم لم يؤمن به واحد منهم.
وأول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض نبي الله نوح، لقي من الأذى من قومه ما لقي، وصبر على أذى قومه صبرًا عظيمًا، يدعو قومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن النار إلى الجنة، فلم يلقَ مجيبًا، بل لقي سخرية وتكذيبًا.
دعاهم إلى توحيد الله، وهذه دعوة الرسل كلهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، لكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. جادل هؤلاء عن باطلهم، واتهموا نبيهم بالضلال، وأنه ليس له فضل عليهم ولم يتبعه إلا ضعاف القوم، وهكذا كل قوم يقولون لنبيهم، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ. يدعو النبي قومه بالتي هي أحسن، فيردون عليه بالسوء، يتودد إليهم ويلين معهم، ولكن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.
لبث نبي الله نوح في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فما استجاب له إلا القليل، وأكثر ما قيل في عدد المؤمنين أنهم ثمانون نفسًا، كل هذه المدة ولم يؤمن به إلا النزر اليسير، بل إن زوجته وابنه لم يؤمنا به، فما أشدَّ صبر الرسل! وما أعظم أثرهم على الناس!
ولما طال عليه الزمن أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأمره بصنع الفلك، فبدؤوا يمرون عليه ويسخرون منه على هذا العمل، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ.
ولما صنع الفلك قال الله عنه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ، وقال: رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَ فَاجِرًا كَفَّارًا الآية، قال الله تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ أي: نراها ونحفظها ثوابًا لنوح لأنه كفر به قومه، وأهلك الله قوم نوح، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، استجابة لنبيه، وتصديقًا لوعده، وغيرة على أوليائه، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((لو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي، لما نبع الماء وصار في السكك خشيت عليه وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله أحدًا لرحم أم الصبي)).
ولما أغرق الله الكفار وانتهى عذابهم قال: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، فهذا أثر الإيمان، وتلك عاقبة الكفر، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
هذه قصة نوح وقومه كما قصها الله في كتابه وعلى لسان نبيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شرح صدور المؤمنين للإيمان بفضله ورحمته، وأضل من شاء من عباده بعدله وحكمته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل للمتقين عقبى الدار، ولأهل الكفر والضلال الخزي والبوار، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم القرار.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما قص الله عليكم، فإنما قص الله علينا هذه القصص لنتعظ بها، ولنحذر مما وقعوا به، فيصيبنا ما أصابهم.
في قصة نوح من العبر صبر الداعية على الأذى وتحمل المشاق في تبليغ الدعوة ولو طال الأمد، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَ خَمْسِينَ عَامًا ، ما كَلَّ نوح ولا ملَّ إلى أن أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فحينئذ دعا على قومه.
ومما ينبغي للداعية أن ينظر فيه أن لا ييأس ويقول: هؤلاء قوم لا خير فيهم، فيترك دعوتهم، بل يعيد ويبدئ فيهم، فيكثر النصح لهم، فليس هو أول من لم تقبل دعوته، فَلَيَأتين بعض الأنبياء يوم القيامة ولم يستجب له أحد.
ولا يغضب الداعي والناصح والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عند عدم الاستجابة له، فإنما عليه البلاغ، وهداية الناس إلى الله، لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ، وليثق المسلم بنصر الله، ويطمئن إلى وعد الله، فالله لا يخلف الميعاد.
وفي الحديث عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسّد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)) رواه البخاري.
فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5328)
فضل العلم وتعليمه ووصية للمعلمين
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على طلب العلم الشرعي. 2- فضل العلماء. 3- نصائح للمتعلمين. 4- كلمات للمعلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتعلموا أحكام شريعته بطلب العلم النافع، فإن العلم نور وهدى، والجهل ظلمة وضلال، تعلموا ما أنزل الله على رسوله من الوحي، فإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء ما ورّثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر من ميراثهم، تعلموا العلم، فإنه رفعة في الدنيا والآخرة، وأجر مستمر إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، وقال النبي : ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
انظروا إلى آثار العلماء الربانيين، لا تزل موجودة إلى يومنا هذا طوال الشهور والسنين، آثارهم محمودة، وطريقتهم مأثورة، وذكرهم مرفوع، وسعيهم مشكور، إن ذكروا في المجالس ترحم الناس عليهم ودعوا لهم، وإن ذكرت الأعمال الصالحة والآداب العالية فهم قدوة الناس فيها.
أيها الناس، تعلموا العلم واعملوا به، فإن تعلم العلم جهاد في سبيل الله، والعمل به نور وبصيرة من الله، أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
عباد الله، إننا على أبواب عام دراسي جديد، يستقبل فيه المتعلمون ما يلقى إليهم من العلوم، ويستقبل فيه المعلمون من يتلقى عنهم الآداب والعلوم والأخلاق، فماذا أعد كل واحد منهم لما يستقبله؟!
إن على المتعلمين أن يعدوا لهذا العام الجد والنشاط، وأن يحرصوا ما استطاعوا على تحصيل العلم من كل طريق وباب، وأن يبذلوا غاية الجهد لرسوخ العلم في قلوبهم، فيجتهدوا عليها من أول العام، ففي ذلك سبب لرسوخ العلم وتيسير حصوله، لأنه إذا اجتهد من أول العام أخذ العلم شيئًا فشيئًا فسهل عليه، وأما إذا توانى في أول السنة فإنه يصعب عليه بعد ذلك، وتتراكم عليه العلوم، ويكون تصوره لها تصورًا سطحيًا لا يرسخ في قلبه، ولا يبقى في ذهنه.
وإن من واجب المتعلم إذا تعلم مسألة أن يطبقها على نفسه، ويعمل بها ليكون علمه نافعًا، فإن العلم النافع هو ما طبقه الإنسان عمليًا، والعمل هو ثمرة العلم، والجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به، فإن العلم سلاح، فإما أن يكون سلاحًا لك على عدوك، وإما أن يكون سلاحًا عليك.
أيها المتعلم، إذا علمت مسألة دينية فاعمل بها، وإلا فما فائدة العلم؟! أرأيت لو أن شخصًا تعلم الطب ولكن لم يتطبب ولم يعالج نفسه ولا غيره، فما فائدة علمه؟! فهكذا العلوم الشرعية إذا عملت بها كانت أنفع العلوم، وإن خالفتها فهي حجة عليك. واعلم أن ثبات العلم وقوة الحفظ لا يجتمع مع المعصية، لأن العلم نور من الله، والله لا يعطي نوره لمن يعصيه، كما قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
أيها المعلمون، إن عليكم لأمتكم ومن يتعلمون منكم حقوقًا عظيمةً، فقوموا بها لله مخلصين، وبه مستعينين، ولنفع أبنائكم ومن يتلقون العلم منكم قاصدين. أخلصوا في التعليم، واسلكوا أسهل السبل وأقربها للتفهيم، ونزلوا الطلبة منازلهم، فالطالب المبتدئ يحتاج ما لا يحتاج غيره من العناية والحرص.
وعليكم أن تتمثلوا أمام الطلبة بكل خلق فاضل كريم، وأن تتجنبوا كل خلق سافل لئيم، فإن المتعلم يتلقى من معلمه الأخلاق كما يتلقى منه العلوم.
ووجهوا أبناءكم الطلبة في كل مناسبة ترون فيها الفرصة لذلك، فإن المعلم الناجح من يجمع بين التعليم والتربية الحسنة، والله يحب المحسنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رفع شأن العلم والعلماء، وجعلهم أهل الخشية، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أهل المجد والثناء، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله إمام الأتقياء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وتعلموا من أمور دينكم ما تعبدون به ربكم على بصيرة، واعلموا أن أهل العلم معلمين ومتعلمين قد حازوا قصب السبق في ثناء ربنا سبحانه على عباده، قال الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ، وقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، وقال النبي : ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع)) ، ((إن العالم ليستغفر له كل شيء)) ، وفي الحديث: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) ، فاحتسبوا خطاكم إلى المدارس أنها لطلب العلم، لتكون طريقًا لكم يوم القيامة إلى الجنة.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا...
(1/5329)
أقسام القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القلب السليم. 2- القلب الميت. 3- القلب المريض. 4- علاج القلب المريض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأصلحوا قلوبكم يصلح لكم أعمالكم ويمدد لكم في آجالكم وييسر لكم الخير في دنياكم وأخراكم.
عباد الله، قلب الإنسان عليه مدار صلاح العمل وفساده.
والقلوب ـ يا عباد الله ـ ثلاثة:
1- قلب صحيح، وهو القلب السليم الذي ينفع صاحبه عند ربه، وينجيه من عذابه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وهذا القلب هو قلب أهل الإيمان والتقوى، المطيعين لله ورسوله، الذين قدموا محبة الله على محبة ما سواه، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
2- وقلب ميت، وهو قلب أهل الكفر والنفاق الذين لم يدخل قلوبهم الإيمان، ولم يرد الله بهم خيرًا، أعرضوا عن الله وعن رسوله، واتبعوا الشيطان والهوى، فلا هادي لهم بعد الله، ولا منجي لهم من عذاب الجحيم، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.
عباد الله، بالعمل الصالح تحيا القلوب، وتزداد نورًا يضيء لصاحبه الطريق، ليسير به في الناس طالبًا ما عند الله، وبالإشراك بالله وترك العمل الصالح تموت القلوب، ليسير الكافر في الناس هملاً لا غاية له ولا مقصد إلا إشباع رغباته في هذه الحياة، لتكون حياته كحياة الأنعام بل أضل، أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ، ولهذا قال الله في هذين القلبين: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. وكلما كانت حياة القلب أكثر كان إيمانه ونوره أكثر، فيكون توفيقه وسعادته عند الله أكبر وأعظم.
أيها المسلمون، بعث الله رسله إلى الناس والقلوب ميتة والحياة مظلمة، والأرض إذا لم تجد الماء والنور لم تحيَ، فجاء أنبياء الله بالنور والماء، فسقوا قلوب الناس من كلام الله ونوره، فكان من أقوامهم من قَبِلَ قلبه هُدى الله، فسرت فيه الحياة، أحياه الله بعد الموت، فكان من أئمة الدين والإصلاح وقادة نور الله إلى جنات النعيم، وأصحاب نبينا محمد خير مثال على ذلك، وأبو بكر مقدمهم وخيرهم.
وكان من الناس من ضل، فأضله الله لما استحب العمى على الهدى والكفر على الإسلام، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ، فهذا مثل القلب الحي والقلب الميت.
3- وقلب ثالث يا عباد الله، وهو القلب المريض الذي ابْتُلي بأمراض الشهوات والشبهات، يتنازعه المرض والسلامة، فهو لِمَا غلب عليه منهما، فتجده ميّالاً إلى الشهوات، لا يغض بصره عن عورة، ولا يخفض يده عن مال ليس له، ولا يكف لسانه عن غيبة ونميمة وعن أكل لحوم الناس، ولا يغلق سمعه عما حرم الله من آلات اللهو ونحوها، بل وأشد من ذلك أن لا يقوم بما أمره الله به ورسوله من أداء الطاعات، وتجد في قلبه الشبه التي تشككه في ربه ودينه ونبيه وفي إخوانه المسلمين من حوله.
أيها المسلمون، إن من توفيق الله لمريض القلب أن ييسر له الدواء في بداية مرضه وقبل أن يشتدّ، فإن المرض إذا اشتدّ مات القلب ولم يُرجَ له صلاح بعد ذلك؛ لعدم تفريقه بين المعروف والمنكر والخير والشر والصلاح والفساد، وقد يعلم الإنسان بمرض قلبه، لكن يصعب عليه تحمل الدواء، فيبقى حبيس مرضه وألمه حتى يلقى ربه كذلك، فيكون من الخاسرين؛ لأن المعاصي لا تزال بالعبد حتى تهلكه، وفي الحديث: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه)).
فاتقوا الله عباد الله، وامتثلوا أمر نبيكم في إصلاح قلوبكم، وابتعدوا عن معصية ربكم، واجتهدوا في طاعته يصلح لكم قلوبكم، وفي الحديث: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
اللهم أصلح لنا قلوبنا، واجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن شفاء القلوب بيد الله عز وجل، لكنه سبحانه جعل لكل شيء سببًا، وإن الدواء سبب من الأسباب المشروعة، فداوِ قلبك ـ يا عبد الله ـ ليستقيم على دين الله، وإن أنفع الأدوية وأطيب الأغذية كتاب الله سبحانه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ، ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ، فكتاب الله هو الشفاء من كل داء، فأكثروا من قراءته، والجؤوا إلى ربكم بقلب صادق ويقين.
(1/5330)
من أسباب انشراح الصدر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب, خصال الإيمان
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منن الله تعالى على نبيه. 2- نعمة انشراح الصدر. 3- أسباب انشراح الصدر: توحيد الله تعالى، العلم النافع، العمل الصالح، اجتناب المعاصي، التقليل من المباحات. 4- الحث على النظر إلى الأدنى في أمور الدنيا. 5- الحث على الاجتهاد في وقت الشباب والصحة. 6- ضرورة العناية بإصلاح القلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، واجتنبوا نهيه ولا تعصوه، واعلموا أن تقوى الله جماع الخيرات ومنبع المسرات، فيها سعادة الدارين والزلفى عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، بالتقوى تشرح الصدور وتنال المغفرة من العزيز الغفور، يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
أيها المسلمون، لقد امتن الله على نبيه محمد بمنن عظيمة وآلاء جسيمة، فشكرها نبيُّ الله وأدى حقها.
امتن عليه بالرسالة، وجعله خاتم النبيين، وامتن عليه بالإيواء من اليتم، فجعل له من يحوطه ويرعاه بعد وفاة أبيه وأمه، وهداه من الضلالة، وأغناه من الفقر، قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى.
وإن من أعظم ما امتن الله به عليه أن شرح له صدره، فقال ممتنًا عليه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، أي: جعل فيه نورًا، وجعله فسيحًا رحيبًا واسعًا، وهذه نعمة لا تقدر بثمن، وهي منة من الله سبحانه، إذا رأى في عبده الخير شرح له صدره، فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ، وإذا كان العبد ضالاً معرضًا ضيّق الله عليه صدره وجعله حرجًا شديد الضيق، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ، فبسبب عدم إيمانهم جعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان عدل لا يميل وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقى وصدق بالحسنى يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسيسره الله للعسرى.
عباد الله، إذا كان انشراح الصدر وسعته نعمة عظمى وفضيلة كبرى لا يدركها إلا الأقلون فإن العاجز الكسول من لم يتعب نفسه في الحصول عليها والظفر بها والعمل بأسبابها حتى يلقى ربه سبحانه، وإن اللبيب الفطن هو من جعل صلته بالله قوية باتباع شرعه والحذر من غضبه ومقته، وقد ذكر أهل العلم عددًا من الأسباب تشرح الصدر، ومن أهمها:
1- توحيد الله: فكلما كان الإنسان أكثر توحيدًا لله وأكثر معرفة بأسمائه وصفاته ونقى هذا التوحيد مما يضاده أو ينقصه كان صدره أوسع وعيشه أهنأ، وكلما نقص من هذا الأمر نقص من سعة صدره شيء حتى تضيق الحياة بأسرها على المشرك والملحد، يقول الله سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، وقال: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ، وقال سبحانه: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ.
وإن من أعظم العقوبات الدنيوية التي يصاب بها الإنسان ضيق الصدر والقلق والرهبة والخوف والاضطراب، ولهذا تهدَّد الله بها أعداءه المشركين عقوبة لهم، فقال: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ، وقال: فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ، وقال سبحانه: وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ، وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)) ، أي: فهو منشرح الصدر في الحالين؛ في حال السراء والضراء بسبب قوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى.
2- العلم النافع: فالعلماء هم أشرح الناس صدورًا وأكثرهم حبورًا وأعظمهم سرورًا؛ لما عندهم من ميراث الأنبياء وهو العلم الشرعي النافع، قال الله تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ، وقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ.
فمن أراد الحياة السعيدة فليكثر من العلم النافع تصلح له دنياه وأخراه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنها لتمر بقلبي ساعات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فهم في عيش طيب"، يقول هذا مع ما لقي من الأذى في هذه الحياة الدنيا، عودي وأوذي وسجن مرات، لكن لقوة إيمانه ويقينه وكثرة علمه لم يضق صدره، ولم تنشغل نفسه بما هو فيه. ولما سجن رحمه الله قال وهو يدخل باب السجن: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، فشبّه ما هو فيه من النعيم بالجنة.
3- ومما يشرح الصدر العمل الصالح، فإن للحسنة نورًا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، يقول سبحانه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ، وقال سبحانه عن بني إسرائيل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ.
4- ومما يشرح الصدر اجتناب المعاصي، فإنها كدر حاضر ووحشة جاثمة وظلام قاتم وسواد في الوجه دائم، وفي الحديث: ((ما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)) ، وهي تميت القلوب وتحجب الإنسان عن ربه، وكثرتها تورث الذل وتحرم العبد التوفيق.
5- ومما يشرح الصدر التقليل من المباحات، فلا يكثر من الكلام والطعام والمنام والاختلاط بالناس، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وقال: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
وليلجأ الإنسان إلى ربه، ولينطرح بين يديه، وليكثر من الدعاء والإلحاح على الله أن يشرح له صدره ويغفر له ذنبه، وليكثر من الصدقات والإحسان إلى الناس مخلصًا لله بهذا العمل، فإنه من أعظم أسباب شرح الصدور وإزالة القلق عن النفس.
وانظر ـ يا عبد الله ـ إلى من أسفل منك في أمور الدنيا لا أمور الآخرة أو العلم الذي يتحقق به خشية العبد لله، ولا تنظر إلى من هو أعلى منك، كما جاء في الأثر: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو أعلى منكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وفق من شاء لطاعته، وشرح صدورهم فجعلهم من أهل ذكره وشكره وحسن عبادته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الزلفى لديه في دار كرامته، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، ختم الله به رسالاته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لقائه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، من أتعب نفسه في أول الطريق جاءته الراحة في آخره، ومن أدلج في الليل في وقت الطمأنينة والهدوء واعتدال الجو أراح جسمه في وقت الشمس والحر والضنك في النهار، ومن أصلح قلبه وأكثر من عبادة ربه في حال شبابه وصحته وفقه الله وكتب له ذلك في مرضه وتعبه، يقول النبي : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) تفضلاً منه ورحمة.
والإنسان إذا أصلح قلبه وطهره من الغل والحقد والحسد وطهره من الالتفات إلى غير الله فأصلح سريرته أصلح الله له علانيته، فلم يقل إلا خيرًا، ولا يعمل إلا خيرًا، ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
فأصلحوا قلوبكم، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وأسروا أنفسكم على طاعة الله ما دمتم في زمن المهلة، فإن العمر قصير والدنيا زائلة، وإنكم موقوفون بين يدي الله، ومسؤولون عن أعمالكم، ومجزيون عليها، الحسنة بعشر أمثالها أو يتفضل الله عليكم بالزيادة، والسيئة بمثلها أو يتفضل الله سبحانه بالعفو، فيا خسارة من باع دنياه بأخراه، ويا حسرة من وجد صحف أعماله ليس فيها عمل صالح، ووجد عمله السيئ مكتوبًا بين يديه لم يترك منه شيء، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ، وستحاسب نفسك بنفسك، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ، قال الحسن البصري رحمه الله: "قد أنصفك من جعلك حسيب نفسك".
فاحذر أن تكون ممن قال الله فيهم: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا. واجتهد أن تكون ممن قال الله فيهم: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ، سرور في الأهل، وحساب يسير، ومناولة الكتاب باليمين؛ تشريفًا وتكريمًا لهم.
اللهم اجعلنا منهم بمنك وعفوك يا كريم.
(1/5331)
الإيمان بالملائكة وثماره
الإيمان
الملائكة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث جبريل في أركان الإسلام والإيمان. 2- عالم الملائكة. 3- الإيمان بالملائكة. 4- ثمار الإيمان بالملائكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه علي فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله : ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) ، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: أخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) ، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) ، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: ((أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) ، قال: ثم انطلق فلبثت مليًا ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري من السائل؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)).
أيها المسلمون، هذا الحديث حديث عظيم، جمع أنواعًا من العلوم والمعارف والآداب واللطائف، وهو أصل الإسلام كما قال أهل العلم. ولقد مر معنا الحديث عن الإيمان بالله تعالى، وسنتكلم عن الإيمان بملائكة الله.
عالم الملائكة عالم غيبي، وهم مخلوقون عابدون لله تعالى، وليس لهم من الألوهية شيء، قال الله عنهم: وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ.
وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وفي الصحيحين أن النبي رفع له ليلة المعراج البيت المعمور في السماء، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه.
ولا يتم الإيمان بالملائكة إلا بأربعة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بوجودهم.
الأمر الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم كجبريل وإسرافيل عليهما السلام، ومن لم نعلم اسمه نؤمن به إجمالاً، فنؤمن أن لله ملائكة موكّلين ببني آدم، وأن السماء ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك يعبد الله سبحانه.
الأمر الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة جبريل عليه السلام، فقد رآه النبي وله ستمائة جناح قد سد الأفق.
وقد يتحول الملك إلى صورة رجل بأمر الله تعالى، كما حصل لجبريل عليه السلام حين أرسله الله إلى مريم، وكما حصل حين جاء إلى النبي بين أصحابه، وكذلك حين أرسل الملائكة إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام.
الأمر الرابع: الإيمان بأعمالهم التي يقومون بها، من التسبيح والتعبد ليلاً ونهارًا، ولهم أعمال خاصة، فجبريل موكل بالوحي، رسول الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل موكل بالقطر المطر والنبات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، ومالك خازن النار ونحو ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وأشهد أن لا إله إلا الله اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتفكروا في مخلوقات الله، فإن التفكر فيها يزيد في إيمان المسلم ويقوي يقينه.
عباد الله، الإيمان بالملائكة يورث العبد علمًا بعظمة الله تعالى وقوته وسلطانه، فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، ويورث له ذلك شكرًا لله على عنايته ببني آدم، حيث وكل بهم هؤلاء الملائكة الذين يقومون بحفظهم وكتابة أعمالهم وغير ذلك من مصالحهم، ويورث محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى، والحذرَ من المعاصي لوجود هؤلاء الملائكة الكاتبين، كَلاَ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.
(1/5332)
المحبة من الإيمان
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الأخلاق السامية. 2- نفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه. 3- فضل محبة المسلم لأخيه ما يحب لنفسه. 4- من أخلاق اليهود. 5- واجب نشر العلم والدعوة إلى الخير. 6- التواضع وهضم النفس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، فتقوى الله هي المنجية من عذابه الموصلة إلى جنته وثوابه، وهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ.
عباد الله، ثبت في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، وعند الإمام أحمد: ((لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير)).
هذا الحديث فيه خلق من الأخلاق السامية الرفيعة التي جاء الإسلام بها وغرسها في قلوب المؤمنين، هذه الأخلاق التي تزيد الألفة والمحبة بينهم، وتجعلهم سواسية، يعطف كبيرهم على صغيرهم، ويحنو غنيهم على فقيرهم.
وهذا الدين الإسلامي هو دين الأخلاق، كما ثبت عن النبي أنه قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) ، وكان خلقه صلوات الله وسلامه عليه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها، والله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
في هذا الحديث نفى النبي الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمراد بنفي الإيمان هنا نفي كماله وبلوغِ حقيقته ونهايته، فإن الإيمان كثيرًا ما ينفى لذهاب بعض أركانه وواجباته، وليس المراد أنه يذهب جميع إيمانه. فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان، قال الله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ.
وقول النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) دليل على أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه بذلك.
عباد الله، محبة الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه دليل على قوة إيمانه بالله وثقته بما عنده، ففضل الله واسع يسع جميع الناس، فمهما أخذ أخوك من الخير فلن يضرك.
محبة الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه موصلة إلى الجنة، ففي الحديث أن النبي قال لرجل: ((أتحب الجنة؟)) ، قال: نعم، قال: ((فأحب لأخيك ما تحب لنفسك)) ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه قال: ((من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)).
من كان مقتديًا بالنبي فليحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ففي الحديث أنه قال لأبي ذر: ((إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مال يتيم)).
أما أعداء الله اليهود فإنهم يكرهون للناس ما يحبون لأنفسهم، فقد كانوا يقولون للعرب: يوشك أن يخرج منا نبي فنقاتلكم معه، فلما خرج رسول الله عادَوه وكرهوا ما جاء به؛ حسدًا من عند أنفسهم.
أيها المسلمون، الحسد والنميمة والبغضاء أخلاق تنافي هذا الحديث، فالمتصف بها ليس كامل الإيمان، فعلى المسلم الحذر منها.
وينبغي لمن علم علمًا أو فقهًا أن يبثه في الناس، فيكونوا مثله في هذا العلم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لأمرّ على الآية من كتاب الله فأودّ أن الناس كلَّهم يعلمون منها ما أعلم)، وقال الشافعي رحمه الله: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليَّ منه شيء".
إذا رأى المسلم في أخيه نقصًا في دينه اجتهد في إصلاحه، فهو يكره ما هو عليه من المعصية، ويرحم صاحبها، فيريد إخراجه منها؛ شفقة عليه أن تمسه النار، قال بعض السلف: "أهل المحبة لله نظروا بنور الله، وعطفوا على أهل معاصي الله، مقتوا أعمالهم وعطفوا عليهم، ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم، وأشفقوا على أبدانهم من النار، لا يكون المؤمن مؤمنًا حقًا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه".
عباد الله، اجتهدوا فيما يقربكم إلى الله ويجعلكم من أهل محبته ورضاه، وتنافسوا في الأعمال الصالحة، ففيها فليتنافس المتنافسون.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جمع قلوب المؤمنين على الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الديان، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، فمن اتقى الله جعل له نورًا يفرق به بين ما يبغضه ويرضاه.
عباد الله، يقول بعض السلف: ينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرًا عن الدرجات العالية، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين، أولهما: الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها، وثانيهما: النظر إلى نفسه بعين النقص.
وينشأ من هذين الأمرين أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه؛ لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه، بل هو يجتهد في إصلاحها، وقد قال محمد بن واسع أحد التابعين لابنه: أما أبوك فلا كثَّر الله في المسلمين مثله.
فمن كان لا يرضى عن نفسه فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم، بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه، ويحب لنفسه أن يكون خيرًا مما هو عليه، يقول بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بعرفة ينتقص نفسه: لولا أني معهم لقلت: إن الله غفر لهم. فانظر كيف ازدرى نفسه، فنظر إليها بعين النقص، ونظر إلى المسلمين بعين الكمال.
فاتقوا الله عباد الله، وأحبوا للمسلمين ما تحبون لأنفسكم.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5333)
الطهارة
فقه
الطهارة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الطهارة. 2- الطهارة المعنوية. 3- الطهارة الحسية. 4- صفة الوضوء. 5- من أحكام الوضوء. 6- صفة الغسل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعرفوا ما أوجبه عليكم من أحكام دينكم لعلكم تفلحون، وتمسكوا بهدي نبيكم، واتبعوا سنته إن كنتم مؤمنين، فلقد قال ربكم سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
أيها المسلمون، إن مما أوجب الله عليكم في كتابه وفي سنة نبيه محمد عبارة ذات أثر على البدن والقلب، رتب الله عليها الثواب الجزيل والأجر العظيم، تلكم هي الطهارة يا عباد الله؛ الطهارة من المعاصي وسيئ الأخلاق، وتطهير البدن بالغسل والوضوء.
الطهارة ـ يا عباد الله ـ تنقسم إلى قسمين: طهارة معنوية، وطهارة حسية.
أما الطهارة المعنوية فهي أن يطهر الإنسان قلبه ونفسه من الشرك والرياء والمعاصي وسيئ الأخلاق، وهذه الطهارة هي الأهمّ والأعظم، وهي التي أرسل الله جميع الرسل لأجلها فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ، وقال النبي : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
ولقد أقسم الله على هذه الطهارة أحد عشر قسمًا متواليا في كتابه فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا أي: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل، وقد خاب من دسّاها أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل.
وهذه الطهارة منها ما مخالفته خروج من الملة كالشرك بالله، ومنها ما مخالفته تنقص في الإيمان كالمعاصي وسيئ الأخلاق.
أما الطهارة الحسية ـ يا عباد الله ـ فهي رفع الحدث وإزالة الخبث والتطهر لله بالغسل من الحدث الأكبر وبالوضوء من الحدث الأصغر.
فمن أراد الصلاة فليتوضأ كما شرع الله ورسوله، وصفة الوضوء أن ينوي بقلبه ثم يقول: بسم الله، ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض ويستنشق ويستنثر ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه ثلاث مرات، وحدّ الوجه من الأذن إلى الأذن عرضًا، ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحية طولاً، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثًا، ويجب مع غسلهما غسل الكفين، فإن كثيرًا من الناس يغفل عن ذلك، ثم يمسح رأسه مرة واحدة، ويعمه بالمسح من مقدمته إلى قفاه، ويمسح معه الأذنين، ثم يغسل رجليه ثلاثًا، فمن فعل ذلك فقد تم وضوؤه، ومن نسي أن يسمّي فوضوؤه صحيح، ويسمي إن ذكر في أثناء الوضوء، ثم يقول بعد ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله، فمن قال ذلك فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء، كما رواه مسلم.
وينبغي للمسلم أن لا يسرف في الماء، فقد كان النبي يتوضأ بالمد. ومن كان في عضو من أعضائه جرح فلا يغسله، وإن شدّه بخرقة ونحوها فلتكن بقدر الحاجة، وليمسح عليها ولا يتيمم. ومن توضأ فإن وضوءه ينتقض بالحدث من بول أو غائط أو ريح، وكذلك أكل لحم الإبل ناقض حتى الشحم والكبد والأمعاء، سواء أكله نيئًا أو مطبوخًا، والنوم الكثير ناقض للوضوء. ومن شك بعد وضوئه: هل أحدث أم لا؟ فإنه لم يحدث لأن الأصل بقاء الطهارة.
عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء، فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم.
وأما الغسل فمن أراد أن يغتسل فليتوضأ هذا الوضوء، ثم يعمّ بدنه بالماء، وإن عمّم بدنه بالماء دون وضوء وتمضمض واستنشق كفاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5334)
عناية الإسلام بأمر الطهارة
فقه
الطهارة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين اليسر. 2- الإسلام دين النقاء والطهارة. 3- عناية الإسلام بتطهير الباطن. 4- الطهارة من الحدث الأكبر. 5- صفة الوضوء. 6- من أحكام الوضوء. 7- من آداب الوضوء وسننه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واحمدوه على ما أنعم عليكم من هذا الدين القويم والصراط المستقيم، واعرفوا نعمته بتيسيره وتسهيله، فإنه سبحانه لم يجعل عليكم فيه حرجًا ولا مشقة ولا تضييقًا ولا عسرة، وإنما بعث النبي بالحنيفية السمحة، ومع ذلك منَّ علينا بكثرة الأجور والثواب الجزيل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.
أيها المسلمون، الإسلام دين نقاء وطهارة وتهذيب ونزاهة، طهّر القلوب والأبدان، وهذّب السلوك والأخلاق، أخرج الله بمحمد الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم صراطه المستقيم، ورفع عنهم الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلهم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
عباد الله، كما اعتنى الإسلام بتطهير الباطن من الرياء والمعاصي والشرك فقد اعتنى بتطهير الظاهر من الحدث والنجس، ففي الحديث عن أبي هريرة أنه قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)) رواه مسلم. وفي القرآن الكريم: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ.
أيها المسلمون، إن طهارة الظاهر دليل وعنوان على طهارة الباطن، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ ، وإن الله جميل يحب الجمال.
عباد الله، إن مما شرع الله من الطهارة الطهارة للصلاة من الحدث الأكبر، وهو الجنابة من احتلام أو جماع، فمن أجنب وجب عليه أن يعم جميع بدنه بالماء تطهيرًا له وتقوية لبدنه واستعادة للنشاط
والأولى للمسلم أن يبادر بهذه الطهارة حتى لا ينقطع من قراءة القرآن ودخول المسجد والتنفل بنوافل العبادات، والأفضل في ذلك أن يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض الماء على رأسه، ويبدأ بميامن جسمه.
ومن أصابه الحدث الأصغر فليغسل أعضاء الوضوء التي شرع الله، وهي الوجه واليدان إلى المرفقين غسلاً، والرأس مسحًا، والرجلان إلى الكعبين غسلاً.
وصفة الوضوء أن ينوي بقلبه ولا يتكلم بذلك، ثم يقول: بسم الله، ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه كله ثلاث مرات، وحد الوجه من الأذن إلى الأذن، ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحية، ولا يجوز التفريط في شيء من ذلك، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثًا، وليلاحظ غسل الكفين معهما، فقد يغفل عنه كثير من الناس، ثم يمسح رأسه كله بيديه من مقدمه إلى قفاه مرة واحدة، ويمسح معه أذنيه، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرات.
ومن نسي التسمية فوضوؤه صحيح، وإن ذكرها في أثناء الوضوء سمّى وأكمل.
هذا هو الوضوء الكامل، فمن فعله منكم فاسمعوا إلى الفضل الذي أعده الله له، قال رسول الله : ((إن الرجل إذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه مع الماء، وإذا غسل يديه ورجليه خرجت خطايا يديه ورجليه، فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه حتى يخرج نقيًا من الذنوب)). فانظروا إلى عظيم فضل الله ونعمته، يشرع لكم الأحكام والعبادات، ثم يثيب عليها الثواب الجزيل، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا.
وإذا توضأ المسلم هذا الوضوء، فإنه ينتقض وضوؤه بالحدث من ريح أو بول أو غائط وأكل لحم الإبل كله حتى الشحم والكبد والكلى والأمعاء، سواء أكله نيئًا أو مطبوخًا، قليلاً أو كثيرًا. وينتقض الوضوء بالنوم الكثير، فأما النعاس أو النوم القليل الذي يغلب على ظنه أنه لم يحدث فيه فإنه لا ينقض الوضوء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل الطهور شطر الإيمان، وضاعف به المثوبة في الميزان. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الديان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد آدم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله، وأسبغوا الوضوء، واعتنوا به ينفعكم في دنياكم وأخراكم.
فبه تنال محبة الله ورضاه، وهو صحة للبدن وقوة للدين، وهو عبادة لا يطلع عليها إلا الله، فتكون دليلاً على صحة الإيمان، وهو وقاية من الأمراض والآثام ومكفر للذنوب والخطايا، فضائله كثيرة، وأجوره عظيمة، ولو لم يكن فيه إلا قول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ لكان كافيًا.
ثم لتعلموا ـ يا عباد الله ـ أن للوضوء آدابًا تكمله وتزيد في نفعه وفضله، فمن ذلك التسمية قبله والسواك، قال : ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)) ، والبدء بالأيمن من الأعضاء، فقد كان ذلك يعجب النبي ، والتشهد بعده، فمن فعل فتحت له أبواب الجنة الثمانية، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)) أخرجه الترمذي، وصلاة ركعتين بعده فهو من أسباب دخول الجنة.
فاتقوا الله عباد الله، وطهروا قلوبكم قبل أبدانكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
(1/5335)
أهمية الخشوع في الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهل التقوى. 2- أفضل الأعمال الصالحة. 3- منزلة الصلاة في الإسلام. 4- قلة المستفيدين من الصلاة. 5- الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها. 6- ذم الانشغال عن الصلاة وعدم الخشوع فيها. 7- السبيل لتحقيق الخشوع في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فتقوى الله خير الزاد، وهي أفضل ما ادخرتم، وخير ما عملتم، بها تنال محبة الله، تنجيكم من النار، وتقربكم من دار الأبرار، العون والنصر معلق بها، ومحبة الله لأهلها.
عباد الله، إذا ذكرت التقوى ذكر العمل الصالح، فالصالحون هم أهل التقوى، أخلصوا لله، واتبعوا سنة رسول الله ، ابتعدوا عن المعاصي، وجانبوا اللهو واللعب، أطاعوا الله واستجابوا لندائه؛ فنالوا رضاه.
أيها المسلمون، أفضل العمل الصالح الصلاة، هي عمود الدين وعنوان السعادة، أمر الله المؤمنين بالاستعانة بها عند الشدائد: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ، وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، هي الفارقة بين الكفر والإيمان، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي قرة عين المصطفى.
عباد الله، مكانة الصلاة عند الله عالية، ولهذا فرضها على رسوله بلا واسطة، فرضها على رسوله في ليلة الإسراء والمعراج، فرضها خمسين صلاة، ثم خفضها إلى خمس صلوات بالفعل وخمسين في الميزان، وفي هذا دليل كبير على فضلها ومكانتها.
أليس في الصلاة تعظيم لله ومناجاة له وقراءة من كتابه؟! أليست تنهى عن الفحشاء والمنكر وتقرّب إلى الله سبحانه؟! أليست قرة عيون الموحدين وراحة المؤمنين المتقين ((أرحنا بها يا بلال)) ؟!
إن صلاة هذا شأنها وهذه مكانتها لحقيقة بالعناية والاهتمام، حقيقة بأن يبذل الإنسان لها جهده كله، وأن تكون أكبر همه، وأن يكون مشتاقًا إليها غاية الشوق.
أيها المسلمون، فاعل الصلاة كثير، لكن أين المستفيد منها والمتعظ بها والمقيم لها حق إقامتها؟!
إن كثيرًا من المصلين لا يعرف للصلاة فائدة، ولا يقدرها حق قدرها، ولهذا ثقلت عليهم، وشق عليهم انتظارها، بل يشق عليهم فعلها، فنقروها نقر الغراب، لم يطمئنوا فيها، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً، وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً.
الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، فلا صلاة لمن لم يطمئن ولو صلّى ألف مرة، ولهذا قال النبي للرجل الذي لم يطمئن في صلاته: ((ارجع فصل فإنك لم تصلِّ))، فرجع فصلى عدة مرات، والنبي يقول له: ((ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ)) ، حتى علمه النبي وأمره أن يطمئن في صلاته.
إن من الناس ـ يا عباد الله ـ من يصلي بجسمه لا بقلبه، ليس في قلبه خشوع، قد دخل المسجد بجسمه وترك قلبه يهيم في كل واد، أمور لا مصلحة له منها إن لم يكن فيها ضرر عليه، كيف يرجو مثل هذا أن تكون الصلاة نورًا له وبرهانًا يوم القيامة.
إن الانشغال عن الصلاة وعدم الخشوع فيها يُنقصها نقصًا كبيرًا، ينقص أجرها وثوابها، ينقص أثرها وتأثيرها على القلب والجوارح والأخلاق.
وإن مما يعين المصلي على الخشوع أن يلجأ إلى الله، ويفتقر إليه، ويلوذ بجنابه سبحانه، ويسأله أن يعينه على إحسان العمل، وأن يبعد عنه الوساوس والأوهام، وأن يستحضر أنه يقف بين يدي الله سبحانه، بين يدي ربه وخالقه والمدبر له، الذي يعلم السر وأخفى، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، كيف يليق بالمسلم أن يقف بين يدي مالك يوم الدين وقلبه مشغول عنه؟!
لا بد للمسلم أن يعتقد أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، جَزَاء وِفَاقًا، والجزاء من جنس العمل.
إنّ لُبّ الصلاة وروحها هو الخشوع، فإذا ذهبت الروح زالت الحياة، وجسم بلا حياة لا خير فيه ولا فائدة.
أيها المسلمون، من أراد الخشوع في الصلاة فليحضر قلبه مع القراءة والذكر، وليتدبر ما يقول ويفعل.
التكبير تعظيم لله وذل بين يديه، ووضع اليد اليمنى على اليسرى ذل بين يدي الله، وفي الركوع والسجود تعظيم وتطامن أمام علوِّ الله. وليتذكر حين قراءة الفاتحة أن الله يجيبه من فوق سبع سماوات، فإذا قال: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. أليس هذا شرفًا عظيمًا للمصلي أن يجيبه الله هكذا؟!
تذكر أن الله يسمع صوتك إن خفضت الصوت أو رفعته. عظّم الله في ركوعك وسجودك، وأكثر من الدعاء في السجود. التزم السنة في النظر إلى موضع السجود والإشارة بالأصبع في حال الجلوس، واعلم أن الله يراك، وهو محيط بك علمًا وقدرة وتدبيرًا.
فاتقوا الله عباد الله، وأقيموا الصلاة، وحافظوا عليها، واخشعوا فيها؛ تنالوا عز الدنيا والآخرة.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المعز لمن أطاعه واتبع رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع هديه بإحسان ووالاه.
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أيها المسلمون، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ولقد كان النبي يقول لبلال: ((أقم الصلاة أرحنا بها)).
تذكروا ثواب الصلاة وما أعد الله من الأجر لمن أقامها وأتم واجباتها وسننها، وعقابه لمن أخل بشيء من ذلك.
صلوا صلاة مودع، وابتعدوا عن كل ما يلهيكم عن الخشوع، فقد صلى النبي في خميصة لها أعلام ـ أي: فيها خطوط ـ، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي)).
قال بعض السلف: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل.
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقربًا، فما الظن بالخالق عز وجل؟! وإذا أقبل على الخالق وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب؟!
فاتقوا الله عباد الله، وأروا الله من أنفسكم خيرًا تسعدوا وتفلحوا.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5336)
بالشكر تدوم النعم
الإيمان
خصال الإيمان
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله تعالى لا تحصى. 2- وجوب نسبة النعم إلى الله تعالى. 3- شكر الله تعالى على نعمه. 4- طلب الإعانة من الله على شكر نعمه. 5- شكر الناس. 6- الشكور من أسماء الله تعالى. 7- النظر إلى من هو دون في أمور الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، وتذكروا نعمه عليكم، واشكروه عليها بالعمل الصالح، فإن من شكر زاده الله توفيقًا ونعمة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
عباد الله، نعم الله كثيرة لا تحصى، فهو الذي خلقنا وأوجدنا في هذه الحياة من العدم، وهو الذي هدانا للإيمان، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أنعم علينا بالصحة والأمن، ورزقنا من الطيبات، وقد حُرم منها كثير من الناس، وفضلنا على كثير من خلق تفضيلاً، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.
أيها المسلمون، إن النعم إذا شكرت زادت واستقرت، وإذا كفرت وجحدت زالت، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
وإن أول ما يجب على الإنسان فعله إذا رأى نعمة الله أن ينسبها إلى ربه، فيعتقد موقنًا أن الله هو المنعم المتفضل بها، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).
فمن نسب نعمة الله إلى غيره دخل في هذا الحديث، فالله لم يجعل النوء سببًا لإنزال المطر، وإنما هو فضل من الله ورحمة، يحبسه إذا شاء، وينزله إذا شاء. فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره.
ومما يجب على الإنسان فعله عند النعم شكر الله عليها قولاً وفعلاً، فيحمد الله على نعمته، ويستعين بها على طاعة الله سبحانه. والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد، وهذا هو العمل الصالح الذي أمر الله به المرسلين وأمر به المؤمنين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ )).
ومِن شكر الله على نعمه التحدث بها؛ إظهارًا لنعمة الله وابتعادًا عن جحدها، لا افتخارًا على الخلق وازدراء لهم، فإن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه.
ومِن شكر نعمة الله أن الإنسان إذا رأى مبتلى ببلوى حمد الله إذ عافاه من هذا الابتلاء، فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير من عباده تفضيلاً.
ومما ينبغي للمسلم أن يطلب من ربه الإعانة على الشكر، فإنه إن لم يعنه لم يستطع شكر نعمة الله، عن معاذ بن جبل أن رسول الله أخذ بيده فقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك)) ، فقال: ((أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) رواه أبو داود والنسائي.
واعلم ـ يا عبد الله ـ أنك لن تشكر الله حقّ شكره حتى تشكر الناس على إحسانهم إليك، فتثيبهم وتدعو لهم وتثني عليهم بما هم أهله، ففي الحديث: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة، وفي الحديث الآخر: ((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، ومن صُنع إليه معروف فقال لصاحبه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ الثناء)) أخرجه الترمذي عن أسامة.
ومن أسماء الله سبحانه الشكور، الذي يشكر عباده على أعمالهم الصالحة فيثيبهم عليها، ويثني عليهم بها، ويباهي بهم ملائكته، والذي يشكره عباده فيعملون له صالحًا ويثنون عليه سبحانه بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله منّ علينا بكثير النعم، ودفع عنا النقم، وجعل أمة محمد خير الأمم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك خلقنا من العدم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى على سائر الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أعظم ما يجلب الشكر وييسره أن ينظر الإنسان إلى من هو دونه في الفضل والمال والصحة والخَلق، فيعلم مقدار نعمة الله عليه، ولهذا جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)).
أما في أمور الدين والعلم فإن الإنسان ينظر إلى من هو فوقه ليلحق به، ولهذا كان عمر ينظر إلى أبي بكر ويسابقه في أعمال الخير.
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا حق الله عليكم بشكر نعمه...
(1/5337)
من الهدي النبوي
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, خصال الإيمان
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين الإسلامي. 2- أنواع الأعمال الصالحة. 3- فضل الصمت وحفظ اللسان. 4- الوصية بالجار. 5- الحث على إكرام الضيف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فإن دين الإسلام دين كامل، به رفع الله أمة العرب وغيرهم؛ بما احتواه من فضائل وما ضمه من صفات كوامل، هذا الدين الذي أنزله الله على محمد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ، وما رضيه الله فلن يسخط منه أبد، اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
دين كامل في العبادات، كامل في السلوك والأخلاق، كامل في بعده عن المكروهات، ما مات رسول الله حتى ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وما مات حتى علم الأمة كل شيء، فصلوات الله وسلامه عليه، نشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فاللهم اجزه عن أمته خير ما جزيت نبيًا عن أمته.
عباد الله، ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من وصايا رسول الله أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)).
هذه أوصاف عظيمة صدرها النبي بوصف الإيمان ليبين أنها داخلة فيه، وأنها تزيده، وأن تركها ينقص الإيمان.
وأعمال الإيمان ـ يا عباد الله ـ تارة تتعلق بحقوق الله كأداء الواجبات وترك المحرمات، ومن ذلك قول الخير والصمت عن غيره، وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف وإكرام الجار والكف عن أذاه.
أيها المسلمون، هذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن:
أحدها: قول الخير والصمت عما سواه، فقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).
الإكثار من الكلام يورد الإنسان المهالك، ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) ، وفي الحديث أنه قال لمعاذ: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) ، وهو موجب لقساوة القلب التي تبعد الإنسان عن الله، فقد ورد عن ابن عمر: (لا تكثروا من الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي)، وقال عمر : (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به).
ولقد كان السلف رحمهم الله يخشون أشد الخشية من ألسنتهم، ويرون أنها سبب لكثير من ذنوبهم، كان أبو بكر الصديق وهو أكثر الأمة إيمانًا يأخذ بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، وقال ابن مسعود : (والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان)، وقال وهب بن منبه أحد التابعين: "أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت".
عباد الله، من تأمل قول الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وعلم علم اليقين أنه راجع إلى الله سبحانه فليحفظ لسانه، وليستعد للقاء ربه، فسيعرض على العبد يوم القيامة كل قول وعمل، ومن شغل نفسه بذكر الله لم يزلّ لسانه فيما يغضب الله عز وجل، ومن جاهد نفسه في حفظ لسانه وزلّ بعض الزلل فليذكر قول النبي : ((من جلس مجلسًا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا كفر له ما كان في مجلسه ذلك)) رواه الترمذي وقال": "حديث حسن صحيح".
الثاني مما أمر به النبي إكرام الجار، وفي بعض الروايات النهي عن أذى الجار، أما أذى الجار فإنه محرم، فإن الأذى بغير حق محرم لكل أحد، ولكن في حق الجار هو أشد تحريمًا.
خرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة، قال: ((لا خير فيها، هي في النار)) ، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بالأثوار ـ وهو الأقط ـ ليس لها شيء غيره ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: ((هي في الجنة)).
وقد أمر الله بإكرام الجار والإحسان إليه في قوله: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا.
وإكرام الجار والإحسان إليه أنواع كثيرة، منها مواساته عند الحاجة، ففي الحديث: ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)). ومنها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعدم الاستطالة عليه بالبناء، وعيادته إذا مرض، وتعزيته بمصابه، واتباع جنازته.
وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي، قال ذلك ثلاث مرات ثم قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله هدانا لأقوم طريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أيها الناس، اتقوا الله، فمن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
عباد الله، ومن وصايا النبي في هذا الحديث إكرام الضيف، وإكرام الضيف واجب يومًا وليلة، فما زاد فهو نافلة، قال الإمام أحمد: "له المطالبة بذلك إذا منعه؛ لأنه حق له واجب". وهي واجبة للمسلم والكافر.
وليس للضيف أن ينزل عند رجل لا يستطيع ضيافته، لقول النبي : ((ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه)).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
(1/5338)
حفظ اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة اللسان. 2- كثرة سقطات اللسان. 3- السبيل لصيانة اللسان. 4- السكوت المذموم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، فيجازي كلاً بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه.
عباد الله، الأعضاء والجوارح تقول وتعمل في هذه الحياة، وهي مسؤولة ومستنطقة يوم القيامة، فإن لم يشغلها الإنسان بالخير شغلته بالشر. وإن من أشدها خطرًا وأكثرها ضررًا وأعظمها أثرًا هذا اللسان الذي تتكلم به.
اللسان ـ يا عباد الله ـ سيد من سادات الجوارح، تذل وتخضع له، وتقول له صباح كل يوم: إنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.
هذا اللسان سبب عظيم لفساد الدنيا والدين، يتكلم الإنسان بالكلمة ما يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب؛ ولهذا لا عجب أن يقول نبيكم محمد : ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة)).
عباد الله، كم من إنسان أطلق للسانه العنان، يتكلم به فيما يعنيه وما لا يعنيه، ففسد دينه، وذهب أجره، وتراكمت عليه الذنوب. ولقد تحدث أقوام في عهد رسول الله بألسنتهم بكلام قليل، لكنه كبير عند الله، أحبط به أعمالهم، وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ.
أيها المسلمون، إن سقطات اللسان وعثراته كثيرة، تورد الإنسان موارد الهلاك، صغائر وكبائر، وكفر وشرك؛ الغيبة والنميمة، والكذب والبهتان، وقول الزور وشهادة الزور، وأشد من ذلك سب الله ورسوله، وسب الدين، والاستهزاء بعباد الله الصالحين، أنواع من الذنوب والمعاصي تخرج من هذا اللسان، وتورد الإنسان النار.
لقد استهان الناس باللسان، وأطلقوه يتكلم بما ينفع وبما لا ينفع، بل بما هو ضرر عليهم، فما العلاج؟ وما المخرج من هذا؟
إن المخرج والعلاج بمراجعة الإنسان لنفسه، وأسرها على الخير واستصلاحها، ولا بد من المداواة بالدواء، فمن صبر فإن الله يحب الصابرين.
وأول الدواء: تقوى الله سبحانه ويقين الإنسان أنه مجزي بعمله، وأنه مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ، ثم ماذا؟ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ.
وثانيه: اختيار الرفقة الصالحة التي تعينه على الخير وتمنعه عن الشر، ((مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة)).
وثالثه: شغل الوقت بما ينفع من قراءة القرآن وذكر الله والتفكر في مخلوقاته، كم من الفرق بين كلمة تكتب عليك بها سيئات وكلمة لك بكل حرف منها عشر حسنات.
ورابعه: أن يتذكر الإنسان أنه ما لم ينطق فهو المتحكم في نفسه، فإذا نطق صار حكمه في يد غيره.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مولي النعم، ودافع النقم، وخالق الخلق من عدم، أحمده سبحانه وهو للحمد أهل، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.
أيها المسلمون، إذا كان خطر اللسان هكذا والكلام يورد صاحبه المهالك فإن السكوت في بعض الأحيان يكون أشد ضررًا من الكلام.
اسمع إلى قول الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ، أتراهم لعنوا لأجل كلامهم؟! لا، إنما لعنوا لأجل سكوتهم عن إنكار المنكر.
والعاقل من يأخذ نفسه بالحزم، كلام في الخير، وسكوت عن الشر، أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ووقوف عند حدود الله.
وانظر إلى ما قرره الإمام ابن رجب رحمه الله قال: "فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لا بد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر، وكان السلف كثيرًا يمدحون الصمت عن الشر وعما لا يعني؛ لشدته على النفس، ولذلك يقع الناس فيه كثيرًا، فكانوا يعالجون أنفسهم ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم" انتهى كلامه، وهو كلام يكتب بماء الذهب.
فاتقوا الله، وأكثروا من ذكر الله؛ يسلم لكم دينكم ودنياكم.
ثم صلوا وسلموا على محمد رسول الله، فقد أمركم الله بذلك: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
(1/5339)
وسائل الثبات على دين الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الهداية للإسلام. 2- شكر هذه النعمة. 3- القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. 4- سبب زيغ القلب. 5- التحذير من الفتن. 6- سؤال الله تعالى الثبات. 7- مما يعين على الثبات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، والزموا طاعته في حال الصحة والقوة، يثبتكم على دينكم في حال المرض والضعف، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.
عباد الله، إن من نعم الله علينا ـ ونعمه سبحانه كثيرة لا تحصى ـ أن هدانا لدينه دين الإسلام، وقد أضل عنه أممًا كثيرة من بني آدم، وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ.
وإن من شُكرِ هذه النعمة المحافظة عليها، وذلك بفعل أوامر الله ورسوله، فيزداد المؤمن ثباتًا، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ، آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان الذي هو القيام بما وُعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات، يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد، فيُوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر، فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين عند الموت وفي القبر.
وأيضًا فإن العبد القائم بما أمر الله به لا يزال يتمرّن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات.
أيها المسلمون، إن المؤمن الحق لا يفرح بمتاع الحياة الدنيا ولا يحزن لزوالها، وإنما فرحه واستبشاره بأعماله الصالحة وبقدر ما يزداد في هذه الحياة من العمل الصالح، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ، وخوفه وحزنه على تفريطه في حقوق الله سبحانه ومعصيته له. وإن الله سبحانه أكرم من أن يزيغ قلب إنسان مهتد عامل بالطاعات، وإن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، عن النواس بن سمعان أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه)) ، وكان رسول الله يقول: ((يا مثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك)) ، وقال: ((والميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة)) رواه ابن ماجه.
عباد الله، إن زيغ القلوب يكثر مع المعاصي، ولا يزال الرجل يعمل بالصغائر فيجتمعن عليه حتى يهلكنه، ولا تزال المعصية بالرجل حتى ينقلب قلبه أسود بعد أن كان أبيض، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وإن الواجب على المسلم أن يكثر من التوبة والاستغفار في كل وقت وحين، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، ولقد كان النبي يقول: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
وإن زيغ القلوب يكثر في زمن الفتن مع قلة العلم والتقوى، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة أنه قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءَه، ومنا من ينتصل، ومنا من هو في حِشره، إذ نادى منادي رسول الله : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن فيرقق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) ، فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله، أأنت سمعت هذا من رسول الله ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. رواه مسلم.
عباد الله، إن مما ينبغي على المسلم أن يكثر من سؤال التثبيت في جميع أحواله، فهذا دعاء الصالحين من هذه الأمة وفي الأمم السابقة.
فلقد جاء بعض المشركين إلى رسول الله فقال: إن قريشًا قد جمعت لكم، تريد استئصالكم، فقال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) ، فأنزل الله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وحين ألقي إبراهيم في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
ومن دعاء الصالحين: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، ومن دعائهم: ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. ولا يوفق لذلك إلا من أطاع الله وعمل بمراضيه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله منَّ على من شاء من عباده بالتوفيق، وجعلهم بفضله ورحمته مهتدين لأقوم طريق، وأضل من شاء بعدله فما لهم في الآخرة من ولي ولا صديق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول.
عباد الله، إن الثبات على دين الله وطاعته مطلب لأولي الهمم العالية الذين يرجون ما عند الله من ثواب، ويخشون ما أعد من عقاب.
وإن مما يعين على الثبات تذكر ما أعد الله للمؤمنين، وتذكر ما في هذا العمل من الفوائد، فهو دليل على كمال الإيمان وحسن التوكل على الله عز وجل، وهو من طرق الوصول إلى الجنة، وفيه اقتداء بالنبي ، ويكسب المؤمن قوة في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومما يعين على الثبات في دين الله النظر في أحوال السابقين من هذه الأمة ومن قبلهم؛ كيف صبروا على الأذى حتى رفع الله ذكرهم ورفع قدرهم، يقول خباب بن الأرت : لما اشتد أذى قريش لنا أتينا رسول الله وهو مستظل بظل الكعبة فقلنا: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال: ((إن من كان قبلكم كان الرجل ينشر من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، ويمشط ما بين لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليُتمّنّ الله هذا الأمر حتى تسير المرأة من صنعاء إلى حضرموت ما تخاف إلا الله، ولكنكم قوم تستعجلون)).
اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه...
(1/5340)
فضل الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, فضائل الأعمال
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الصحابة على الخير. 2- أنواع الصدقة. 3- فضل الذكر على الصدقة. 4- فضل الجمع بين الصدقة والذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واذكروه ذكرًا كثيرًا، وسبحوه بكرة وأصيلاً.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن ناسًا من أصحاب رسول الله قالوا للنبي : يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).
هذا حديث عظيم، فيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم، فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء، ويحزنون على التخلف عن الخروج في الجهاد لعدم القدرة على آلته، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه فقال: وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ. وفي الحديث أن الفقراء غبطوا أهل الدثور ـ والدثور هي الأموال ـ بما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم، فدلهم النبي على صدقات يقدرون عليها.
عباد الله، لقد بين لنا نبينا في هذا الحديث أن الصدقة تكون بالمال وغيره، فمن عجز عن الصدقة بالمال فإن فضل الله واسع، فجميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة، فعن حذيفة عن النبي أنه قال: ((كل معروف صدقة)) رواه مسلم.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الصدقة بغير المال نوعان:
أحدهما: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق، فيكون صدقة عليهم، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دعوة إلى طاعة الله وكف عن معاصيه، وذلك خير من النفع بالمال، وكذلك تعليم العلم النافع وإقراء القرآن وإزالة الأذى عن الطريق والسعي في جلب النفع للناس ودفع الأذى عنهم، وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم، وفي الأثر عن ابن عمر : (من كان له مال فليتصدق من ماله، ومن كان له قوة فليتصدق من قوته، ومن كان له علم فليتصدق من علمه).
ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس، ففي الصحيحين عن أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله)) ، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا)) ، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعًا أو تصنع لأخرق)) ، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة)).
والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعه قاصر على فاعله، كأنواع الذكر من التكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة.
وقد جاءت النصوص الكثيرة بتفضيل الذكر على الصدقة وغيرها من الأعمال، عن أبي الدرداء عن النبي أنه قال: ((ألا أنبئكم بخير أعمالك، وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله عز وجل)) رواه الإمام أحمد.
عباد الله، هذا فضل الله لمن قل ماله وعجز عن العمل ببدنه، فعنده هذا الذكر الذي فضله رسول الله على غيره من الأعمال، فتمسكوا به، وأكثروا منه، فإنه رفعة في الدنيا والآخرة وسبب لصلاة الله وملائكته عليكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أمرنا بذكره، ووعد الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات مغفرة وأجرًا عظيمًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان يذكر الله على كل أحيانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن الله أمركم أن تذكروه ذكرًا كثيرًا وتسبحوه بكرة وأصيلاً؛ لأن ذكر الله تطمئن به القلوب، الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
عباد الله، لئن كان ما مر معنا وصية رسول الله للفقراء، فإن الأغنياء يجمعون بينها وبين صدقة المال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن الفقراء المهاجرين أتوا النبي فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم! قال: ((وما ذاك؟)) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله : ((أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة)) ، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله : ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه...
(1/5341)
موقف من مواقف الرسول
سيرة وتاريخ
غزوات
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية دراسة السيرة النبوية. 2- قصة صلح الحديبية. 3- فوائد ودروس من القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.
عباد الله، إن في النظر في سيرة رسول الله والاعتبار بها والتفكير فيها لصلاحًا للقلب وزيادة في إيمان العبد واستقامة للحال وسعادة في المآل؛ ولذا كان لزامًا على كل مؤمن ومؤمنة النظر في سيرته للاقتداء به، امتثالاً لقوله سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا.
لأجل ذلك ولتكالب الأعداء على الأمة ولحاجة الفرد والمجتمع إلى الإصلاح كانت هذه الوقفة مع حدث من أحداث الجهاد، ومواقف رسول الله والمؤمنين معه في مواجهة الكفار، وكيف استطاع المسلمون التغلب على عدوهم.
أيها المسلمون، في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة خرج رسول الله ومعه ألف وأربعمائة متوجهًا إلى مكة يريد العمرة، فلما كان بذي الحليفة ميقات أهل المدينة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة، وبعث عينًا له كافرًا من خزاعة يخبره عن قريش، فلما كان بعسفان أتاه عينه وأخبره أن قريشًا قد جمعوا له جموعًا وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت، فاستشار رسول الله أصحابه وقال: ((أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟)) فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي : ((فروحوا إذن)) ، فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي : ((إن خالد بن الوليد بالتنعيم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين)) ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبي حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي : ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)) ، ثم قال: ((والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا عطيتهم إياها)) ، ثم زجرها فوثبت به، فعدل بها حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله العطش، فتمضمض في ماء ومج فيه، وألقى فيه سهمًا من كنانته، فلم يزل يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه، فقال: يا رسول الله، ليس لي عشيرة تحميني، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعا رسول الله عثمان، فأرسله إلى قريش، وقال: ((أخبرهم أنا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا عمّارًا، وادعهم إلى الإسلام)) ، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش، فبلغ الرسالة، ثم أجاره أحد بني عمه، وحمله على فرس حتى دخل مكة، وقال المسلمون: خلص عثمان إلى البيت وطاف، فقال رسول الله : ((ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون)) ، قالوا: وما يمنعه؟ قال: ((ذاك ظني به، أن لا يطوف حتى نطوف معه)).
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، وقتل رجل منهم وتحاجزوا، وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة على أن لا يفروا، وأخذ رسول الله بيد نفسه وقال: ((هذه عن عثمان)) ، ولما تمت البيعة رجع عثمان فقال له المسلمون: اشتفيت ـ يا أبا عبد الله ـ من الطواف بالبيت؟ فقال: بئس ما ظننتم بي، والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ورسول الله مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله كان أعلمنا بالله وأحسننا ظنًا.
وسارت الرسل بين رسول الله والمشركين لأجل الصلح، فجاء عروة الثقفي من المشركين، فرأى الصحابة كلما تنخم رسول الله سقطت في يد أحدهم فدلك بها وجهه وجلده، فرجع عروة إلى المشركين، فقال: لقد وفدت على الملوك، على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ثم جاء رسول من المشركين وجاء آخر، حتى جاء سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله قال: ((قد سهل لكم من أمركم)) ، فقال: هات اكتب بيننا كتابًا، فدعا الكاتب، فقال: ((اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)) ، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: لا تكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي : ((اكتب: باسمك اللهم)) ، ثم قال: ((اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)) ، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك، اكتب محمد بن عبد الله، ثم قال: ((على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)) ، فقال سهيل: لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟!
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده هاربًا من مكة، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه، فقال: ((إنا لم نقض الكتاب بعد)) ، فقال: فوالله، لا أقاضيك على شيء أبدًا، فقال النبي : ((فأجزه لي)) ، فقال: ما أنا بمجيزه لك، قال: ((بلى، فافعل)) ، فقال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أُرد إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟! ألا ترون ما لقيت؟! وكان قد عذب في الله عذابًا شديدًا، قال عمر بن الخطاب: والله، ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي فقلت: يا رسول الله، ألستَ نبي الله؟! قال: ((بلى)) ، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: ((بلى)) ، فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبين عدونا؟! فقال: ((إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه)) ، قلت: أوَلست تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟! قال: ((بلى، أنا أخبرتك أنك تأتيه العام؟)) قلت: لا، قال: ((فإنك آتيه ومطوف)) ، قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له كما قلت لرسول الله ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.
فلما فرغ رسول الله من الكتاب قام فنحر هديه وحلق شعره، وكاد المسلمون أن يقتل بعضهم بعضًا في سرعة امتثالهم لما رأوا رسول الله يحلق شعره، وكتبت لهم عمرة، واستثنى الله المؤمنات إذا قدمن من عند الكفار أن لا يعدن إليهم، وكر رسول الله راجعًا إلى المدينة، فأنزل الله عليه في الطريق: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ، فقال عمر: أهو فتح يا رسول الله؟! قال: ((نعم)) ، فقال الصحابة: هنيئًا لك يا رسول الله، فما لنا فأنزل الله: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
عباد الله، هذه قصة الحديبية، سماها الله فتحًا لما ترتب عليها من الخير العظيم للمسلمين ودخول الناس في دين الله وانتشار الدعوة، وإن كان الصلح في ظاهره فيه ظلم للمسلمين ومشقة عليهم، لكن حكمة الله وعلمه أعظم من كل شيء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واقتدوا بسنة نبيكم، يجعل لكم ربكم من كل كرب فرجًا، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا.
عباد الله، لما رجع رسول الله من الحديبية أمره الله أن يخرج بمن كان معه في الحديبية إلى خيبر، فخرج إليها ففتحها الله عليهم، وحصل فيه من الغنائم الشيء الكثير، وكانت خالصة لأهل الحديبية لم يشاركهم فيها غيرهم.
وفي قصة الحديبية صالح رسول الله قريشًا على وضع الحرب عشر سنوات، وأنه يعتمر في السنة السابعة.
وفي قصة الحديبية فوائد عظيمة، منها استحباب التفاؤل وأنه ليس من الطيرة المذمومة لقوله لما جاء سهيل: ((سهل أمركم)) ، ومنها تعظيم كبراء المسلمين أمام رسل العدو وإظهار مكانتهم كما فعل الصحابة بالرسول، ومنها أن المسلم يحتمل ما ظاهره الظلم والشدة إذا كان سيؤدي إلى عز ونصر في النهاية، فإن ظاهر الصلح ضيم وهضم للمسلمين، لكن حقيقته نصر وعز لهم، ومنها طاعة الله ورسوله والثبات للحق ولو كان في النفس شك وريبة، واستشارة أهل العلم والخير والصلاح في زمن الفتن كما حصل من عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما.
عباد الله، هذا بعض من سيرة رسول الله ، فاقتدوا به تفلحوا، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
(1/5342)
فضل القرآن في شهر رمضان
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على قراءة القرآن. 2- فضل تلاوة القرآن. 3- آداب التلاوة. 4- الحث على الإكثار من قراءة القرآن في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وأكثروا من قراءة القرآن في هذا الشهر، يعظم الله لكم بذلك الأجر؛ لأن في كل حرف من القرآن عشر حسنات، وقد وردت الأحاديث بفضل تلاوة القرآن عمومًا وبعض السور خصوصًا.
ففي صحيح مسلم أن جبريل قال للنبي : (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته)، وقال : ((البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان)) رواه أحمد ومسلم.
وكان أسيد بن حضير يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده، وله ابن قريب منها، فجالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس مرة ثانية، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ابنه، فانصرف ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي بذلك فقال: ((أتدري ما ذاك؟)) ، قال: لا، قال: ((تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها؛ لا تتوارى فيهم)).
وأخبر النبي أن سورة البقرة وآل عمران تظلّلان صاحبهما يوم القيامة وتحاجان عنه، وقال النبي : ((سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ )) ، وقد ورد أنها تنجي من عذاب القبر، وثبت أنه قال: ((إن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن)) ، وقال له رجل: أحبها، فقال: ((حبك إياها أدخلك الجنة)) ، وقال رجل آخر: إنها صفة الرحمن، وأنا أحبّ أن أقرأها، فقال النبي : ((أخبروه أن الله يحبه)).
وقال لرجل من أصحابه: ((ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ )).
فاقرؤوا القرآن بتدبر وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد فتعوذوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا في أي وقت كان، فالسجود لا نهي عنه لأنه تابع للتلاوة، وإذا سجدتم فكبروا، وقولوا: سبحان ربي الأعلى في السجود، وإذا رفعتم من السجود فلا تكبروا ولا تسلموا؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي ، إلا إذا سجد القارئ وهو يصلي فإنه يكبر للسجود والرفع منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وفق من شاء من عباده لكثرة الطاعات، وجعل لهم الأجر العظيم وكثرة الحسنات. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق المخلوقات ومجزل العطايا والهبات، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، قام يصلي حتى تفطرت قدماه من كثرة الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، وأكثروا من قراءة القرآن، ولا سيما في هذا الشهر المبارك، فإن لكثرة القراءة فيه مزية خاصة، وكان جبريل يعارض النبي القرآن في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيدًا وتثبيتًا، وكان السلف الصالح يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان وغيره في الصلاة وغيرها.
كان الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم وأقبل على قراءة القرآن من المصحف، وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة، وكان إبراهيم النخعي يختم في رمضان في كل ثلاث ليال، وفي العشر الأواخر في كل ليلتين.
(1/5343)
أضرار الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النهي عن الحسد. 2- المتصفون بالحسد. 3- حقيقة الحسد. 4- مفاسد الحسد. 5- وقف المؤن مما يراه من نعم غيره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واشكروه على نعمه، فقد فضلكم على كثير من عباده.
خصلة ذميمة حذركم الله منها، فطهروا أنفسكم من الاتصاف بها، ألا وهي خصلة الحسد التي هي من أعظم خصال الشر، فقد حذر منها النبي فقال: ((لا تحاسدوا)) ، وقال: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء)) رواه أحمد، وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) أو قال: ((العشب)).
والحسد صفة شرار الخلق، فقد اتصف به إبليس، فحسد آدم لما رآه فاق الملائكة؛ حيث خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه جنته، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها.
والحسد هو الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه ظلمًا، لما وهبه الله النعمة وتقبل القربان، وقد قص الله خبرهما في القرآن؛ تحذيرًا لنا من الحسد وبيانًا لعواقبه الوخيمة.
والحسد صفة اليهود كما ذكر الله في مواضع من كتابه، فقد حسدوا نبينا على ما آتاه الله من النبوة والمنزلة العظيمة، فكفروا به مع علمهم بصدقه وتيقنهم أنه نبي الله، وحسدوا هذه الأمة على ما منَّ الله به عليها من الهداية والإيمان، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
عباد الله، الحسد هو كراهية وصول النعمة إلى الغير، سواء تمنى زوالها أو لم يتمنَ ذلك، وله من الآثار السيئة ما لا يحصى، فمنها:
أن فيه اعتراضًا على الله في قضائه، واتهامًا له في قسمته بين عباده؛ لأن الحاسد يرى أن المحسود غير أهل لما آتاه الله، وأن غيره أولى منه.
ومنها أن الحاسد منكر لحكمة الله في تدبيره، فهو سبحانه يعطي ويمنح لحكمة بالغة، والحاسد ينكر ذلك.
ومن آثار الحسد أنه يورث البغضاء بين الناس؛ لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين، يقول النبي : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا)).
ومن أضرار الحسد أنه يحمل الحاسد على محاولة إزالة النعمة عن المحسود بأي طريق ولو بقتله، كما قص الله تعالى عن ابني آدم في قوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، وأخيرًا نفذ الجريمة، وباء بالإثم وخسارة الدنيا والآخرة، وصار عليه كفل من دم كل نفس تقتل ظلمًا؛ لأنه أول من سن القتل. وسبب ذلك كله والدافع إليه هو الحسد.
ومن أضرار الحسد أنه يمنع الحاسد من قبول الحق إذا جاء عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار في الباطل الذي فيه هلاكه.
ومن أضراره أنه يحمل الحاسد على الوقوع في الغيبة والنميمة، فيغتاب المحسود ويسعى فيه بالنميمة، وهما خصلتان قبيحتان وكبيرتان من كبائر الذنوب.
ومن أضرار الحسد أنه يذهب بالحسنات والأعمال الصالحة، كما في الحديث: ((إياكم والحسد؛ فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
ومن أضراره أن الحاسد لا يزال في همّ وقلق وغيظ لما يرى من تنزل فضل الله على عباده، يقول معاوية : (ليس من خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود).
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي أولاكم إياها، وتذكروا حكمته في الإعطاء والمنع، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة.
عباد الله، من رأى شيئًا يعجبه في هذه الحياة الدنيا فليتذكر ما أعد الله للمؤمنين في الآخرة، وليقل كما قال النبي : ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)) ، وليسعَ في إزالة ما في نفسه من الحسد بأن يتذكر ضرر الحسد في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود، وليتذكر أن الأمور بيد الله عز وجل، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وليسأل الله من فضله، ولينظر إلى من هو أسفل منه، فإنه أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه.
(1/5344)
آثار الأعمال الصالحة
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, فضائل الأعمال
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التواصي بالحق. 2- فضل الأعمال الصالحة والتحذير من إضاعتها. 3- خطر التدنس بالمعاصي. 4- معوقات العمل الصالح. 5- مفاسد التسويف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واغتنموا أوقاتكم بالعمل الصالح المقرب إلى الله سبحانه، فإن لكم آجالاً ستلقونها، وإن لكم يومًا ستبعثون فيه فتجزون على أعمالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه.
عباد الله، ما تواصى العباد بمثل طاعة الله، ولا أسدى أحدٌ لأحدٍ معروفًا خيرًا من نصيحة يوجهه فيها إلى الله، ويخوفه فيها من اليوم الآخر، وإن زمانكم هذا زمان فتنة وابتلاء، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا، يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. وإن الله سبحانه أكرم وأجل من أن يتخلى عن عبده المقبل عليه المداوم على طاعته؛ إذ كيف يكون ذلك وهو القائل كما في الحديث القدسي: ((من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا)).
أيها المسلمون، إن لعمل اليوم والليلة من الصلوات المكتوبة والسنن الرواتب وقيام الليل وصلاة الضحى وأذكار الصباح والمساء وأذكار ما بعد الصلاة والاستغفار وقراءة القرآن والذكر والدعاء، إن لهذه الأعمال أثرًا ظاهرًا في إصلاح القلب والبدن وفي الحياة الطيبة التي تحفظ الإنسان في نفسه وماله وأهله. وإن في إضاعتها والتهاون بها لإضاعةً لخير عظيم، وحرمانًا لعون الله وتوفيقه لعبده، واضطرابًا وقلقًا نفسيًا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ، وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن للقلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله".
عباد الله، إن التدنس بالمعاصي وعدم الاحتراس منها والتهاون بصغائر الذنوب سبب عظيم لحرمان العمل الصالح والتفريط فيه، وقد وعى السلف مثل هذا السبب وأثره، وتنبهوا إليه كثيرًا، يقول الضحاك: "ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب"، ثم قرأ: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ، ثم يقول الضحاك: "وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟!". وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال: ذنوبك قيدتك، وقال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل: وما ذاك الذنب؟ قال: رأيت رجلاً يبكي فقلت في نفسي: هذا مراء.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن آثار المعاصي حرمان الطاعة، فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن تصد عن طاعة تكون بدله وتقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جرًا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها، والله المستعان".
ومما يقطع من العمل الصالح التوسع في المباحات والإكثار من الأكل والشرب واللباس والإسراف في ذلك، ولقد كان بعض العارفين يقف على المائدة ويقول: معاشر المؤيدين، لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فترقدوا كثيرًا، فتتحسروا عند الموت كثيرًا. والنبي يقول: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه)) ، وأبلغ من ذلك وأعظم قوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ.
عباد الله، إن التسويف والتأخير في الأعمال الصالحة سبب قاطع لكثير من الخير، جالب لكثير من الشر، مانع لكثير من الأجر، فالصغير يدع العمل حتى يكبر، والشاب حتى يشيب، والكهل حتى يهرم، وما يدري كل واحد منهم لعل الموت أن يأتيه فجأة فيقطع عليه حياته، فيندم حين لا ينفع الندم، أوَما علم هؤلاء أن من يأخذه الموت من الشباب أكثر مما يأخذه من الشيوخ؟! أوَما سمع الشاب أن الله يعجب من شاب ليست له صبوة، وأن الله يظل في ظله يوم القيامة سبعة منهم شاب نشأ في طاعة الله؟! أليس هناك حافز لك على العمل في قوله : ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) ؟!
أيها المسلمون، إن العمل الصالح فيه إصلاح النفس والبدن، وهو سبب لصلاح الذرية التي ترى وليها محافظًا على أوامر الله ورسوله فتقتدي به، ولعل هذا هو أحد الأسباب التي فضل بها رسول الله صلاة النوافل في البيت حين قال: ((خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة)) ليراه أولاده فيقتدون به، فتصلح حالهم وهم صغار قبل أن يبلغوا الحِنْث. وإن من الإفساد لهم إظهار المعاصي أمامهم، فيألفونها فتشربها قلوبهم فلا ينكرونها، فيكون إثمها عليهم وعلى من جرأهم عليها، والله المستعان.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له السميع العليم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، عليهم من ربهم الرحمة والتسليم.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أنفسكم على النار لا تقوى.
عباد الله، إن لترك الأعمال اليومية أو بعضها آثارا على الإنسان قد تصل به إلى درجة الهلاك أو الضعف، فيكون نهبة لشياطين الإنس والجن، يهيمون به في كل واد، ويقطعون عليه كل طريق للخير والصلاح، وإنهم لن يألوكم جهدًا في الإضلال، فاقطعوا عليهم طرقهم وأفسدوا عليهم خططهم بطاعة الله ورسوله والالتزام بالأعمال اليومية من الصلوات والدعاء والأذكار، واعلموا أن الله معكم في ذلك، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ.
وعليكم بوصية النبي لابن عمه عبد الله بن عباس: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
(1/5345)
مكفرات الذنوب
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل ابن آدم خطاء. 2- من أسباب تكفير الذنوب. 3- فضل الدعاء. 4- أسباب إجابة الدعاء. 5- فضل الاستغفار. 6- أهمية التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، فلا نجاة ولا خلاص إلا بتقوى الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ. واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن من تقوى الله التعلق واللياذ بجنابه والالتجاء إليه والاعتصام به.
أيها المسلمون، كل بني آدم خطاء، ما من أحد من الناس إلا وقد وقع في ذنب وخطيئة، ولكن السعيد من خاف ذنوبه وسعى لإزالتها وعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به. وإذا كان هذا هو حال السعداء وهذه سبيل المفلحين فلنراجع أنفسنا، ولنسلك سبيل أولئك الصالحين.
عباد الله، هذه نظرات في سنة نبينا محمد ، نلتمس بها مغفرة ربنا، ونراجع بها أنفسنا، ونعمل فيها بمكفرات ذنوبنا. الله يدعو عباده إليه، ويتلقاهم بعفوه ومغفرته، ويناديهم بما كرمهم به، يقول النبي : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
هذه ثلاثة أسباب لتكفير الذنوب: دعاء الله سبحانه، والالتجاء إليه، والإلحاح في الدعاء، فالدعاء سلاح عظيم من أسلحة المؤمن، يحبه الله، ويرغب فيه، ويدعو عباده إليه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، أكثر منه الأنبياء والصالحون، وألح فيه المحسنون، وحمل همه المؤمنون، أثنى الله على الأنبياء به: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ. استجاب الله فيه للمريض والغريق والمهموم ومن أحاطت به الشدائد، بل دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
لإجابته أسباب كثيرة: الإلحاح، وتخيّر أوقات الإجابة، وإظهار الذلة والافتقار، ((رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره))، ولا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، ولإجابته موانع أعظمها أكل الحرام والتغذي به، ((يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) ، وفي الحديث الآخر في وصف حال بعض الداعين أنه يدعو ((ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!)). والله لا يقبل دعاءً من قلب غافل لاهٍ.
وثمة مكفر آخر لا يقل أهمية عما قبله، يمحو الذنب، ويزيل الجدب، ويلين القلب، فيه الفرج من كل هم، فيه كثرة النسل والنماء، به دخول الجنات بإذن الله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ، يقول النبي : ((والله، إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)) ، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب. ولا بد مع الاستغفار من البعد عن الذنوب، فمن استغفر وهو مُقِرٌ على ذنبه فهو مستهزئ بالله سبحانه.
بل إن الصالحين من عباد الله يكثرون من الاستغفار مع الأعمال الصالحة خشية أن لا يكونوا أدوها على وجهها، كما كان النبي يستغفر بعد الصلاة ثلاثًا، والله يقول: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أيها المسلمون، هذا ربكم يناديكم للرجوع، فأجيبوا داعي الله: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، رحم عباده، فبين لهم طرق الخلاص، ووفق من شاء منهم لسلوك طريق الإخلاص، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: أيها الناس، اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إن من أعظم مظاهر التقوى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهو سبب عظيم لتكفير الذنوب، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) ، فلا إله إلا الله، ما أعظم حِكم الله، سبقت رحمته غضبه، ووسعت رحمته كل شيء.
عباد الله، حققوا توحيدكم، وخافوا من الشرك، فقد خافه من قبلكم، قال الله عن إبراهيم أنه قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ، ولا تأمنوا مكر الله، ولا تقنطوا من رحمة الله، وألحوا على ربكم بالدعاء، فقد كان من دعاء نبيكم: ((اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك)) ، والزموا الاستغفار وتوبوا إلى الله.
(1/5346)
زيادة الإيمان ونقصانه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, فضائل الأعمال
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس تجاه الرسالة المحمدية. 2- الإيمان فضل من الله تعالى. 3- أقسام حملة الرسالة. 4- زيادة الإيمان ونقصانه. 5- أسباب زيادة الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتزودوا من دينكم ما يسركم أن تلقوا به ربكم غدًا.
عباد الله، لقد جاء النبي مرسلاً من ربه إلى كافة الناس بشيرًا ونذيرًا، فانقسم الناس إلى قسمين: منهم من آمن وصدق به فكانوا من أهل السعادة، ومنهم من كذب وكفر فكان لهم الخزي والندم في الدنيا والآخرة.
والإيمان ـ يا عباد الله ـ منّة وفضل من الله سبحانه، علم من عبده الخير والميل إليه فوفقه وهداه إلى الإيمان به سبحانه، ولو شاء لأضله كما أضل غيره من البشر، ففي الحديث أن النبي اجتمع بالأنصار بعد غزوة حنين، وكانوا قد وجدوا في أنفسهم أنه لم يعطهم من الغنائم، فقال لهم: ((ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟)) ، قالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل.
والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولقد كان النبي يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك)) ، فمن دخل في الإيمان فقد أحرز نفسه من الشرك والخلود في النار، ومن عصى الله بما دون الكفر من المعاصي صار ظالمًا لنفسه بأعماله، وإن اقتصر على الواجبات وترك المحرمات ولم يزد على ذلك صار مقتصدًا في طاعة الله سبحانه، وإن سارع في الطاعات والخيرات واجتهد فيها فأدى الفرائض وأكثر من النوافل وترك المحرمات والمكروهات صار سابقًا للخيرات بتوفيق الله عز وجل، فلا يغتر بعمله، فما حاز ذلك إلا بمعونة الله وتوفيقه ليشتغل بشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه.
وهؤلاء الأقسام الثلاثة هم الذين اصطفاهم الله سبحانه لحمل كتابه ورسالته، وهم الموعودون بالنعيم المقيم يوم القيامة، قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.
عباد الله، إن المقرر عند أهل الإسلام أن إيمان العبد يزيد وينقص، كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله وأجمع عليه سلف هذه الأمة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم قال النبي في موعظة النساء: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن)) ، وقال ابن عبد البر رحمه الله: "وعلى أن الإيمان يزيد وينقص جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفُتيا في الأمصار".
إذا عُلم هذا ـ أيها المسلمون ـ فاعلموا أن لزيادة الإيمان أسبابًا تدور على طاعة الله سبحانه وترك معصيته، فمن ذلك معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته، فإن العبد كلما ازداد معرفة بها وبمقتضياتها وآثارها ازداد إيمانًا بربه وحبًا له وتعظيمًا. ومنها النظر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن العبد كلما نظر فيها وتأمل ما اشتملت عليه من القدرة الباهرة والحكمة البالغة ازداد إيمانه ويَقينه بلا ريب. ومنها فعل الطاعات تقربًا إلى الله سبحانه، وكلما كان العمل خالصًا على سنة رسول الله كانت زيادة الإيمان به أعظم، والواجب والفرض يزيد الإيمان بها أكثر من المسنون، وكلما كان العمل أكثر كانت زيادة الإيمان به أكثر. وكذا ترك المعاصي خوفًا من الله عز وجل، وكلما كان الداعي إلى المعصية أقوى كان زيادة الإيمان بتركها أعظم؛ لأنه يقدم ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه.
فاتقوا الله عباد الله، واشكروا ربكم واحمدوه أن هداكم للإيمان وقد أضل عنه كثيرًا من الناس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5347)
فضل كلمة التوحيد
التوحيد
شروط التوحيد
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع الأوامر الشرعية. 2- أعظم أركان الإسلام. 3- معنى كلمة التوحيد. 4- مقتضى كلمة التوحيد. 5- فضل كلمة التوحيد. 6- ثواب كلمة التوحيد. 7- الموت على التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، فبتقوى الله تزكو الأعمال، وتُحفظون في الحال والمآل. تقوى الله أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وأوامر الله سبحانه كثيرة، منها ما هو من أصول الدين وأركانه، فلا يصح الدين إلا به، ومنها ما هو من واجباته وفرائضه، فتاركه آثم معرّض للوعيد والهلاك، ومنها ما هو من سنن الدين ومكملاته، يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
وإن أعظم أركان الدين وأهم مهماته كلمة واحدة، يدخل بها الإنسان الإسلام، فيكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، إذا قالها الإنسان عصم ماله ودمه وحرم التعرُّض له بقتل أو سلب مال أو غير ذلك من الأذى. من قالها بإخلاص سعدت نفسه في الحياتين، وارتفع قدره في الدارين الآخرة والأولى، ومن كانت آخر كلامه في الدنيا دخل الجنة، ألا وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
عباد الله، هذه الكلمة الجامعة هي أساس دعوة المرسلين جميعًا، ما بعث الله الرسل إلا لتحقيقها، فكل نبي يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ. والله يقول عن جميع الرسل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ.
هذه الكلمة العظيمة التي بعث الله بها جميع الرسل يجب على المسلم أن يعرف معناها وفضلها وثوابها، وأن يعمل بمقتضاها.
أما معناها فإن معنى هذه الكلمة أن الذي يستحق العبادة هو الله وحده دون ما سواه، فلا معبود حق سوى الله، وكل معبود سواه فباطل، قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
وأما مقتضاها فإنه أن تفرد الله وحده بالعبادة، فلا تعبد معه غيره، وتتبرأ من كل معبود سوى الله، وتفعل أوامره وتجتنب نواهيه.
فمن عرف معنى هذه الكلمة لم يقلها إلا إذا كان سيعمل بمقتضاها، فإن المشركين من قريش لما قال لهم النبي : ((قولوا: لا إله إلا الله)) قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ؛ لأنهم فهموا معنى الكلمة، وهو عبادة الله وحده، أما مشركو اليوم فإنهم لا يعرفون معناها ولا يعملون بمقتضاها، فتجد الواحد منهم يقول: لا إله إلا الله ثم يتجه إلى الأصنام والأشجار والقبور يدعوها من دون الله سبحانه.
عباد الله، إن جميع أعمال الإسلام داخلة في شهادة أن لا إله إلا الله؛ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً وكلِّ أمر أمر الله به ورسوله واجتنابِ كل ما نهى الله عنه ورسوله، ولما منع بعض العرب الزكاة بعد موت النبي قاتلهم الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: إن الزكاة من حق لا إله إلا الله، ولما قيل لوهب بن منبه رحمه الله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟! قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح.
ومما يناقض هذه الشهادة الشرك بالله سبحانه بصرف شيء من العبادة لغيره، سواء كان من الشرك الأكبر أو الأصغر، وكذلك المعاصي فإنها تنقصها وتقلل من ثوابها وفائدتها.
وأما فضل هذه الكلمة فإن الله أرسل بها جميع الرسل، وجعلها الفارقة بين الإسلام والكفر، فلقد قال النبي : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)) أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة. وهي المنجية من النار، فعن عتبان بن مالك قال: قال النبي : ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) أخرجاه في الصحيحين.
وأما ثوابها فقد تواردت الأدلة الكثيرة عن النبي في فضل هذه الكلمة، فمن ذلك أن من قالها في يوم مائة مرة كان كمن أعتق عشرة أنفس من ولد إسماعيل، ومن قالها في يوم عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وعتق الرقبة من أفضل الأعمال في الإسلام. وكان النبي يذكر الله بها بعد كل صلاة وإذا أصبح وأمسى.
فاتقوا الله عباد الله، والزموا أوامر ربكم، وتعلموا أحكام دينكم وما ينجيكم من عذاب ربكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدجى، والتابعين لهم بإحسان ومن سار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
عباد الله، إن أحرج ساعة تمر على الإنسان هي ساعة الموت، حينما يذهل الإنسان عن كل شيء، في ذلك الموقف الصعب ينسى أهله وولده وماله، ولا يتذكر إلا نفسه، ولا يأسى إلا عليها، في ذلك الموقف ينجلي صبر الصابرين وصلاح الصالحين، فمن كان من أهل الخير والتُقى ظهر علامة صلاحه فيه.
وإن مما ينبغي للمسلم أن يعد لذلك اليوم عدته بالتأهب بالأعمال الصالحة واغتنام الأوقات الفاضلة، ولقد علمتم أن من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، ولن يستطيع الإنسان ذلك إلا إذا كان مكثرًا من قولها في هذه الحياة مخلصًا فيها لله سبحانه وتعالى.
أما من يضيع أوقاته وساعات عمره في اللهو واللعب وانتهاك حرمات الله ثم يرجو أن يقولها فذاك هو العاجز الكسلان، فقد ورد في الأثر: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)).
ولقد ذكر العلماء من أحوال المحتضرين والمرضى قصصًا تبين الفرق بين ذاكر الله في حياته ومستمع الغناء واللهو، فمن أراد العبرة فليراجعها، ليعلم أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا.
(1/5348)
سيرة الصديق رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية مطالعة سير الماضين. 2- فضل الصحابة رضي الله عنهم. 3- شيء من ترجمة أبي بكر وسيرته. 4- فضائل أبي بكر رضي الله عنه. 5- دروس وعبر من سيرة أبي بكر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وأصلحوا قلوبكم وأعمالكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.
عباد الله، قراءة التاريخ والتعرف على أحوال الماضين يورث الإنسان عزة ومهابة، ويكسبه إن كان عاقلاً صلاحًا في الحياة الدنيا ويوم القيامة، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى.
وفي تاريخنا الطويل من بعثة نبينا محمد إلى عصرنا الحاضر عبر ودروس في أحداث الزمان وسير العظماء.
وأول ما يتجه إليه النظر في هذا التاريخ الطويل سيرة أصحاب النبي ، فهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم الهداة المهتدون الذين عرفوا الحق وبه كانوا يعملون، لم يأت ولن يأتيَ مثلهم في الناس، وهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله، لهم من الفضائل ما ليس لغيرهم، ولهم من السبق والإيمان ما لو وزن بإيمان أهل الأرض لوزنهم، فالواجب على المؤمنين محبتهم واحترامهم ومعرفة فضلهم وسبقهم والاستغفار لهم، وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ.
وإن من أجلّ هؤلاء وأعظمهم وأقربهم من رسول الله منزلة صاحبه وخليفته أبو بكر عبد الله بن قحافة التميمي القرشي، أول من أسلم من الرجال، ولد بعد رسول الله بعامين وأشهر، وكان أبيض نحيفًا، خفيف العارضين، قليل اللحم، ناتئ الجبهة، كثير الشعر، وكان يخضب بالحناء والكتم.
كان في جاهليته أعلم الناس بالأنساب وفيما كان في قريش من خير أو شر، وكان تاجرًا، وصاحب خلق ومعروف، يألف ويؤلف، وكان صاحب رأي ومشورة، لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا في الإسلام، بل قد حرمها في جاهليته.
ولم يسجد لصنم، يقول لما ناهزت الاحتلام أخذني أبو قحافة إلى الأصنام، فقال: هذه آلهتك، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، إني عار فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه.
ولما بعث رسول الله ودعا الناس إلى الإسلام كان أولهم إسلامًا أبو بكر، ففي صحيح مسلم أن عمرو بن عبسة سأل رسول الله في أول البعثة: من معك في هذا الأمر؟ قال: ((حر وعبد)) ، وليس معه إلا أبو بكر وبلال.
ولما أسلم جعل من نفسه داعية إلى دين الله، فدعا من يجلس عنده، فأسلم معه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم.
واشتدّ أذى المشركين له لما أسلم ليصرفوه عن دين الله، فخرج يريد الهجرة إلى الحبشة، فلقيه رجل من سادات العرب فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض، فقال: مثلك لا يُخرج ولا يَخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فأرجعه إلى مكة في جواره، ووافقته قريش على ذلك.
وهاجر مع رسول الله إلى المدينة، ومكثا في الغار ثلاثة أيام، وطلبهما المشركون فلم يجدوهما، وقال رسول الله لأبي بكر: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)).
شهد المشاهد كلها مع رسول الله ، وبعثه رسول الله في بعض السرايا لقتال أهل نجد من المشركين، وكانت معه راية رسول الله في غزوة تبوك، ولم يفرَّ في غزوة حنين، بل ثبت مع من ثبت حتى جاء نصر الله، واستعمله رسول الله سنة تسع أميرًا على الحج.
ولما اشتد برسول الله المرض أمره أن يصلي بالناس فصلى بهم. ولما توفي رسول الله كان أثبت الصحابة جأشًا وأقواهم عزيمة، فخطب خطبة بيّن فيها وفاة رسول الله ، وأن الله ناصر دينه. واجتمع الصحابة لاختيار الخليفة، فرضوا بأبي بكر ، وبايعه الصحابة جميعًا، فكان أول عمل قام به إنفاذ جيش أسامة إلى الشام وقتال المرتدين.
ولما مرض مرض الموت استخلف على الناس عمر بن الخطاب، وأوصى أن يرد ما عنده من المال إلى الخليفة بعده، فوجدوا عبدًا وناضحًا وقطيفة جردة، فبعثوا بها إلى عمر، فبكى عمر وقال: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده.
وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، ودفن إلى جنب رسول الله.
وله من الفضائل والمناقب ما لم يكن لأحد بعده، فهو أول من أسلم من الرجال، وهو أول من يدخل الجنة بعد الأنبياء، ويدعى من أبواب الجنة كلها، وكان رسول الله يثني عليه دائمًا ويقول: ((جئت أنا وأبو بكر وعمر)) ، ويقول: ((ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر)) ، وقال: ((سدوا كل باب على المسجد إلا باب أبي بكر)) ، وهو أحب الناس إلى رسول الله ، وقال علي : ((خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر)) ، وهو الذي جمع القرآن لما خاف موت القراء، وكان رجلاً خاشعًا لا يكاد يسمع له صوت من البكاء، وهو أكثر الناس ورعًا وخوفًا وزهدًا في هذه الحياة الدنيا، رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد: فهذه بعض سيرة خليفة رسول الله ، حوت من الفضائل والعبر ما لم تحوهِ سيرة رجل بعد الأنبياء، فأين المقتدون به السائرون على نهجه وسيرته؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، والزموا طريق السلف الصالح تفلحوا.
عباد الله، في سيرة أبي بكر عدد من العبر منها:
1- تقديمه محبة الله ورسوله على محبة كل أحد حتى على نفسه، فلقد تصدق بماله كله لنصرة دين الله، وهكذا يكون المؤمن حقًا.
2- بذله ماله ونفسه في سبيل الله تعالى.
3- دعوته إلى دين الله، فقد دعا بلسانه وماله، وجعل من نفسه قدوة يقتدى به في الخير، فلم يخالف قوله فعله.
4- ورعه وزهده في متع هذه الحياة الفانية، وطلبه ما عند الله تعالى.
5- رباطة جأشه وثباته وقوته في دين الله، فإذا ثبت عنده الحق لم ينظر إلى ما سواه.
6- وكان صاحب خير ومعروف يوصله إلى عباد الله، فكان يقري الضيف، ويحمل الكل أي: المنقطع، ويكسب المعدوم أي: الفقير، ويعين على نوائب الدهر في المصائب العامة التي تصيب الناس.
7- ومن ذلك عبادته وبكاؤه عند ذكر الله، وهذه من أهم صفات المؤمنين، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
فيا عبد الله، إن أردت خير الدنيا والآخرة فعليك بهؤلاء فاقتدِ بهم، ومن أحب قومًا حشر معهم، يقول أنس بن مالك قال رسول الله : ((المرء مع من أحب)) ، قال أنس: فأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يحشرني الله معهم.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه...
(1/5349)
من وصايا الرسول
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الفتن
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة الرسول. 2- هداية النبي أمته لكل خير. 3- حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. 4- الوصية بتقوى الله تعالى. 5- الوصية بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة. 6- التحذير من سالك الفئة الضالة الخارجة عن الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما من به عليكم، إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم يتلو عليكم آياته، ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، فحققوا هذه النعمة باتباع سنة رسولكم والوقوف عند هديه وشريعته والبعد عما أحدثه أهل الأهواء والبدع مما لم ينزل الله به من سلطان.
عباد الله، لقد أرسل الله رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويدلهم على الصراط المستقيم، فأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده منذ بعثته إلى أن توفاه الله عز وجل، لم يترك خيرًا إلا دلنا عليه، ولا شرًا إلا حذرنا منه، فصلوات الله وسلامه عليه.
ولقد روى لنا أصحابه رضي الله عنهم من ذلك الشيء الكثير، وتناقله علماء المسلمين نصحًا للأمة وأداء للأمانة، وحفظًا للدين أن تنتهك جوانبه، وحرصًا على الأمة أن يكون عملها وبالاً عليها، أو تبتعد عن شرع الله فيذيقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وإن من أبلغ ما نقله الصحابة لنا من سيرته صلوات الله وسلامه عليه ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)).
عباد الله، هذه وصية أوصى بها النبي أصحابه، فوعوها وعملوا بها، وهي وصية للأمة جميعًا.
وكانت هذه الوصية في أواخر حياته ، ولهذا أبلغ في الموعظة ما لم يبلغ في غيرها، ففهموا أنها موعظة مودع، فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل، وقد كان النبي يعظ أصحابه كثيرًا امتثالاً لقوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
ولكنه لا يديم وعظهم، بل يتخولهم به أحيانًا، وكان ابن مسعود يذكر أصحابه كل خميس، فقال له رجل: إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم، إن رسول الله كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.
وينبغي للواعظ أن يكون بليغًا فيختار ألفاظه، ويقصر خطبته ويوجزها، فقد كان هذا هو هدي النبي ، ولهذا جمع في هذه الوصية البليغة خير الدنيا والآخرة، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)).
فأوصاهم بالتقوى، وهي كافلة لسعادة الآخرة لمن تمسك بها، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا. والتقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فيعمل بطاعة الله، ويجتنب معصيته. ولقد أوصى بها النبي في أحاديث كثيرة لا تحصر.
وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معيشتهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي : (إن الناس لا يصلحهم إلا إمامٌ بر أو فاجر، إن كان فاجرًا عبد المؤمن فيه ربه، وحمل الفاجر فيه إلى أجله)، وقال الحسن في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن والله طاعتهم لفرض، وإن فرقتهم لكفر".
ثم أخبر صلوات الله وسلامه عليه بما سيقع بعده من الفرقة والأمور المنكرة، ودل أمته على ما ينجيهم من تلك الفتن، وهي اتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين والسير على منهجهم، ومن سنته تقوى الله وطاعة أولي الأمر ما لم يأمروا بمعصية، وأوصى بالعض عليها بالنواجذ وهي الأضراس؛ كناية عن شدة التمسك بالسنة.
فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، جعل أمة محمد خير العالمين، وأرسل إليهم سيد ولد آدم أجمعين، وجعله خاتم النبيين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، فإن طاعته أقوم وأهدى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ، واحذروا أسباب سخط الجبار، فإن أجسادكم على النار لا تقوى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله، لئن كانت وصية النبي لأمته في آخر حياته بتقوى الله والسمع والطاعة واجبة على كل مسلم، فإن مما ينبغي على المسلم الحذر منه سلوك سبيل المغرضين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فقتلُ الآمنين المعصومين وترويع الناس والإفساد في الأرض بتدمير المباني وإضاعة الأموال ليس من سنة رسول الله ولا هدي السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وقد قال : ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)).
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن الكريم وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام...
(1/5350)
الحث على صلة الرحم والتحذير من القطيعة
الأسرة والمجتمع
الأرحام
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على تدبر آيات القرآن. 2- حق القرابة. 3- وجوب صلة الرحم. 4- فضل صلة الرحم. 5 التحذير من القطيعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وراقبوه وامتثلوا أوامره، وانتهوا عن نواهيه، وتذكروا نعمه عليكم التي لا يحصيها تعداد، وقوموا بأداء ما افترضه عليكم، وتدبروا كتاب ربكم فقد حثكم سبحانه على تقواه، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.
فهو يأمركم بأن تتقوه، تتقوه في جميع أحوالكم وأعمالكم، تتقوه بأداء أماناتكم وما استرعيتم عليه، تتقوه فيما بينكم وبين أقاربكم وأرحامكم، فيما بينكم وبين أولادكم وأهليكم، تتقوه فيما بينكم وبين نفوسكم، تتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، فهو الذي خلقكم ورباكم، وهو المستحق للعبادة وحده، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، أهل لأن يُتقى ويُخاف.
قال سبحانه: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ، ينبهكم بهذا على أنه يجب عليكم التعاطف والتآلف والتراحم فيما بينكم؛ لأن أصلكم واحد، فلا ينبغي أن يترفع أحد على أحد، ولا يفخر ولا يتعاظم عليه لنسبه أو جاهه أو ماله، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.
وإن للقرابة حقًا أوجبه الله، تجب مراعاته والقيام به، ومن كان أقرب فحقه ألزم وأوجب، فآكد حقوق القرابة حق الوالدين، فهما أحق بالبر والإحسان واللطف والإكرام، ثم الأقرب فالأقرب، كل على قدر قرابته وقربه منك.
عباد الله، إن صلة الرحم مما أمر به القرآن وحث عليه سيد الأنام، والاتصاف بها من محاسن الإسلام، فقد وعد الله بأن يصل من وصل رحمه، وعده على لسان نبيه أن يبسط له في رزقه وأن يطيل عمره، ففي الحديث عنه أنه قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)).
إن صلة الرحم سبب لسعة الرزق ولطول العمر مع الثواب الآجل المدخر لصاحبه يوم القيامة، روي عن علي عن النبي أنه قال: ((من سره أن يمدد في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) ، وروى أنس عن النبي أنه سمعه يقول: ((إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء، ويدفع بهما المكروه والمحذور)).
إن صلة الرحم من الأعمال الجليلة التي رغب فيها القرآن وحث عليها، ورغب فيها الرسول الكريم ، فالله يقول: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)).
عباد الله، إن صلة الرحم تضاعف ويعظم أجرها مع القطيعة، يقول الرسول : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)) ، وروي عنه أنه قال: ((إن أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك)) ، وروي عنه أنه قال: ((ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((تحلم عمن جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك)).
فاحذروا ـ عباد الله ـ من قطيعة الرحم، فإنها شؤم وخسران في الدنيا وعقوبة وعذاب في الآخرة، إنها سبب للعنة الله والإعراض عن الحق، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.
إن قاطع الرحم عرض نفسه للحرمان العظيم والوعيد الشديد، لقد قال : ((لا يدخل الجنة قاطع)) بمعنى: قاطع رحم، وروي عنه أنه قال: ((إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم)). وكان ابن مسعود جالسًا بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة ـ أي: مغلقة ـ دون قاطع رحم).
فحذارِ حذارِ ـ عباد الله ـ من قطيعة الرحم، واعلموا أن لصلة الرحم حدودًا، فهي فيما يعود على الأقارب بالنفع في دينهم ودنياهم في حدود الشرع. أما مناصرتهم على الباطل وعدم ردعهم عن غيهم وفسادهم فإن هذا لا يعد من الصلة، وإنما هو حمية الجاهلية، وقد ذم الله المتصفين بها بقوله: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ.
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا أرحامكم، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العظيم السلطان، الكريم المنان، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ الإنعام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صاحب الإحسان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار.
ما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقواه جُنة من عذابه، وهي الموصلة إلى مغفرته ومرضاته.
واعلموا أن صلة الرحم من أفضل الأعمال، ومن أكبر الأسباب لسعادة الدين والدنيا والفوز برضا الله سبحانه والحصول على كرامته وجنته.
وإن قطيعة الرحم سبب من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأسباب للتعرض لسخط الله وأليم عذابه، روى البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)).
فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5351)
توجيهات لطالب العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال العرب قبل الإسلام. 2- استقبال عام دراسي جديد. 3- الإخلاص في طلب العلم. 4- نصائح لطالب العلم. 5- أعظم ثمرات العلم. 6- واجب أولياء الأمور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فتقوى الله هي المنجية من المهلكات، المخرجة من الظلمات، يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ.
عباد الله، لقد أتى على العرب حين من الدهر يعيشون فيه في جاهلية جهلاء وظلام دامس، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، الجهل هو قائدهم، والأمية مركبهم، حتى بعث الله نبيه محمدًا ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فبث دعوته في أوساط قومه في مكة، ثم في المدينة، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وجعل لهذا الدين العظيم قواعد وأركانًا يعتمد عليها، وإن من أعظم هذا القواعد التي جاء بها نبينا محمد والتي تحفظ للأمة دينها تعلم العلم الذي جاء به من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، والنبي يقول: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)).
عباد الله، ها نحن نقف على أعتاب عام دراسي جديد، يبتدئ فيه أبناؤنا في طلب العلم وتحصيله، فما الواجب عليهم وعلى أولياء أمورهم تجاه أنفسهم ومعلميهم ومجتمعاتهم؟
أيها المسلمون، إن العلم عبادة يتعبد بها الإنسان لله سبحانه، والله لا يقبل من العبادات إلا ما كان خالصًا له، وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء ، وفي الحديث الصحيح: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، فليحرص المتعلم على إخلاص نيته، فإنه بإخلاصها يكون طلبه للعلم من أفضل العبادات، وبترك الإخلاص ينحط إلى أعظم المخالفات، فالرياء مفسد للدين والدنيا معًا، وفي الحديث: ((أول من تسعر بهم النار ثلاثة)) ، وذكر منهم: ((قارئ تعلم القرآن ليقال: هو قارئ)).
ولقد كان السلف أشد الناس حرصًا على إصلاح نياتهم، وكانوا يجدون في ذلك مشقة عظيمة، يقول سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئًا أشد علي من نيتي".
ومما ينبغي العناية به في طلب العلم محبة الله ومحبة رسوله، وذلك بأن لا يقدم عليهما أحدًا من الناس، لا في قول ولا فعل ولا اعتقاد، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ.
عباد الله، إذا اجتمع الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله حصلت التقوى التي يسهل بها طريق العلم، وإذا سلك الإنسان طريق العلم بنية خالصة سهل الله له طريق الجنة، فكان من المصلحين.
ومما يوجه إليه في طلب العلم اللجوء إلى الله وكثرة دعائه أن يفتح عليك العلم وييسره لك، وكان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: "اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني".
ومن أهم المهمات التي تحفظ العلم العمل به، فإن العمل بالعلم يثبته ويجعل الجوارح موافقة للعقل فيه، وقد قال السلف: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعمل". فإذا حفظ الإنسان شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله فليبادر بالعمل به حتى يثبت ويستقر، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ما سمعت حديثًا عن رسول الله إلا عملت به". فانظر مقدار ما حفظ، فقد حفظ رحمه الله مئات الآلاف من الأحاديث، وكلها عمل بها، ويقول علي بن أبي طالب : (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل).
واحذر ـ يا عبد الله ـ من جليس السوء، فإنه يود لك أن تكون مثله، والجليس متخلق بأخلاق جليسه، وجليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة.
وليحفظ الإنسان وقته، فهو غال الثمن رفيع القدر، ولا يسترد الزمان ولو بذل فيه الدنيا بأسرها.
وليتعب نفسه في طلب العلم والحرص عليه، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، ولتكن همة الإنسان معالي الأمور، وليبتعد عن ساقطها وسفاسفها.
واحرص أيها المتعلم على بر الوالدين، فإن في رضاهما رضا الله سبحانه، وإذا رضي الله عنك وفقك في دنياك وآخرتك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وهدانا صراطه المستقيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فتقوى الله هي الفارقة بين الحق والباطل، الموصلة بإذن الله إلى أعلى المنازل.
عباد الله، إن رفعة الأمم والأفراد بمقدار ما عندها من العلم النافع، وانحطاطها بقدر ما فيها من الجهل، ولقد رفع الله أهل العلم، وأعلى منازلهم في الدنيا والآخرة، وإن المقصود بالعلم في كتاب الله وسنة نبيه هو علم الشريعة الذي يورث خشية الله سبحانه، وإذا علم الإنسان ولم يعمل كان جهله خيرًا له من علمه.
وإن من أعظم ثمرات العلم وما يحفظه البعد عن معصية الله ودوام مراقبته سبحانه، فينال درجة الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). واعلم أن معصية الله تذهب العلم والفهم، وتضعف الحافظة، يقول الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي أرشدنِي إلَى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وإن مما يجب على أولياء الأمور حفظ أولادهم ومن تحت ولايتهم، وتربيتهم التربية الإسلامية؛ بإخراج المنكرات وما يؤدي إليها من البيوت والمجتمعات، وتحذيرهم منها ومن جلساء السوء، والحرص على تفقد أحوالهم وحفظ أوقاتهم. وعلى جميع الناس تقوى الله، وتقدير طالب العلم، وإنزاله منزلته، صغيرًا كان أو كبيرًا، فإن طالب العلم يسلك طريقه في هذه الحياة إلى الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهلها.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها...
(1/5352)
دعوة إلى الزهد
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الاتصاف بالزهد. 2- الزهد المشروع. 3- إبطال مفهوم خاطئ للزهد. 4- أقسام الزهد. 5- فوائد الزهد. 6- زهد النبي. 7- ما يعين على الزهد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، فمن اتقى الله كفاه، ووفقه لهداه، وبلغه في الدارين ما تمناه.
عباد الله، صفة عظيمة من صفات نبينا محمد تزيل عن النفس الشقاء والعناء، المتصف بها مؤمن راض بقضاء الله وقدره. حث الله على الاتصاف بها في كتابه، وأوصى بها النبي أصحابه، لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال الذين صبروا أنفسهم بتعاليم دينهم وسير سلفهم الصالح. ما ارتفع من ارتفع من سادة الأمة إلا وهذه الخصلة موجودة فيه، بها تنال محبة الله ومحبة الناس، كما أخبر بذلك المصطفى.
هذه الصفة هي الزهد يا عباد الله. الزهد في زينة الحياة الدنيا ومتاعها الزائل، والنظر إلى ما أعده الله لعباده في الدار الآخرة، وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الآخرة، وهو المباحات التي لا تعين على طاعة الله سبحانه". فمن أراد أن يعمل عملاً أو يقول قولاً فلينظر هل ينفعه يوم القيامة؟ فإن كان ينفعه فليعمله، وإلا فليزهد فيه.
أيها المسلمون، ليس المراد من الزهد أن يتخلى الإنسان عما يملك، فقد كان سليمان وداود عليهما الصلاة والسلام أزهد أهل زمانهما وقد ملكا الدنيا، وقد كان النبي أزهد الناس وقد تزوج من النساء تسعًا، وكان عدد من أصحابه زهادًا كبارًا وعندهم من الأموال ما لا يحصى، لكنهم ساروا بها على مراد الله سبحانه.
وهذا عمر بن عبد العزيز لا يذكر الزهد إلا ذكر معه، وهو ملك الدنيا في عصره، يقول الحسن : "ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال وإضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك".
أيها المسلمون، يقول ابن القيم رحمه الله: "الزهد أقسام: زهد في الحرام، فهذا فرض عين، وزهد في الشبهات، فإن كانت الشبهة قوية كان واجبًا، وإن كانت ضعيفة كان مستحبًا، وزهد في الفضول كالكلام والنظر والسؤال ولقاء الناس، وزهد في النفس، فتهون عليه نفسه في ذات الله سبحانه، والجامع لذلك كله أن تزهد في كل ما سوى الله".
عباد الله، بالزهد تنال محبة الله سبحانه ومحبة الناس، فقد جاء رجل إلى النبي فقال: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله : ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك)).
ولقد كان النبي أزهد الناس، فلقد أتته الدنيا مقبلة فردها، ولقد خيره الله بين أن يكون ملكًا رسولاً أو عبدًا رسولاً، فاختار أن يكون عبدًا، وقال في دعائه المشهور الذي رواه البخاري ومسلم: ((اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا)) أي: لا يزيد على حاجتهم.
ولما ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا قال: لقد رأيت رسول الله يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطنه. والدقل: رديء التمر. وكان فراشه من جلد محشوٍ ليفًا، كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها. وعن عبد الله بن مسعود قال: نام رسول الله على حصير، فقام وقد أثر في جنبه ، فقلنا: لو اتخذنا لك وطاء وهو الفراش اللين، فقال : ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
عباد الله، من ذكر الدار الآخرة وما فيها هانت عليه الدنيا وزهد فيها، وكلما كان الإنسان أكثر إيمانًا كان أكثر زهدًا، ولهذا لما زهد أبو بكر في الدنيا أنفق ماله كله في سبيل الله، وعثمان جهز جيش العسرة من ماله، بل جادوا بأعظم من ذلك، وهو زهدهم في أرواحهم في سبيل الله، فأين السائرون على طريقهم المهتدون بهديهم المقتفون لآثارهم؟!
جعلني الله وإياكم من الزاهدين، وحشرنا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، من أراد كمال الزهد فليتذكر أمورًا ثلاثة تعينه عليه:
أحدها: علم العبد أن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، فهي كما قال الله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ، وسماها الله متاع الغرور، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترّين، وحذرنا من مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها.
الثاني: تذكر الدار الآخرة، وأن يوقن الإنسان أن وراء هذه الدنيا دارًا أعظم منها قدرًا وأجل خطرًا، وهي دار البقاء، فيزهد في هذه الدنيا لما هو خير منها.
الثالث: أن يعلم الإنسان أن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئًا كتب له، فكل ما كتب له سيأتيه، وأن حرصه لن يجلب له ما لم يقدر له، وحينئذ يزهد في هذه الدار الفانية.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها وعملها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/5353)
حقوق المسلمين على بعضهم
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب أداء الحقوق إلى أهلها. 2- حق الله تعالى. 3- ثواب التوحيد في الآخرة والأولى. 4- حقوق المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
ألا وإن من أعظم ما يتقي الإنسان فيه ربه عز وجل أداء الحقوق إلى أهلها والتقرب إلى الله ببذلها، ليأتي الإنسان يوم القيامة سالمًا معافى ليس لأحدٍ عنده حق، فقد ورد في الحديث: ((إن الله ينادي يوم القيامة فيقول: لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده لأحد من أهل الجنة مظلمة، ولا لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعنده لأحد من أهل النار مظلمة)).
وإن من أعظم الحقوق التي يجب أداؤها والعناية بها حقين عظيمين أمر الله بهما، ورغب في العمل بهما، ورتب على الوفاء بهما الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، ولا عز ولا نصر ولا منعة إلا لمن التزم بهما، ولا فلاح ولا تمكين إلا للعاملين بهما. أولهما: حق الله سبحانه، وثانيهما: حقوق المسلمين.
يقول معاذ بن جبل كنت رديف النبي يومًا فقال: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)) ، قال معاذ: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: ((لا تبشرهم فيتكلوا)) رواه البخاري ومسلم.
هذا هو حق الله سبحانه، توحيده والتزام أمره، فلا يُعبد إلا هو، ولهذا خلق الله الجن والإنس كما قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ ، فانظر كيف رتب هذا الثواب الجزيل أن لا يعذب من لا يشرك به في عبادته سبحانه.
أما ثواب الدنيا للموحد فهو التمكين في الأرض والاستخلاف فيها والأمن بعد الخوف، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
أما الحقوق الأخرى التي يجب على الإنسان مراعاتها والإحسان فيها فهي حقوق المسلمين، ابتداء من كف الأذى عنهم، ثم الإحسان إليهم بالقول والفعل، بل وحتى بالقلب من إزالة الحسد والبغضاء والغل والحقد، تزيل ذلك كله من قلبك على أخيك المسلم، وقد جمع الله ذلك كله في آية واحدة من كتابه فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، والأخ يبذل لأخيه كل ما يستطيع من أجل رفعته وعلو شأنه، هذا في أخوة النسب، فكيف بما هو أقوى وهو أخوة الدين؟!
ولقد بيّن رسول الله حقوق المسلمين بعضهم على بعض بيانًا شافيًا كافيًا، وجمع ذلك كله في حديث واحد يجعله المسلم أمام عينيه في كل عمل يعمله، فلقد قال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، فلن يبلغ الإنسان درجة الكمال في الإيمان حتى يحب لإخوانه المسلمين ما يحبه لنفسه.
وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) أخرجه مسلم.
فانظر ـ يا عبد الله ـ كيف أرشد النبي إلى هذه الأمور التي فيها حفظ حقوق المسلمين فيما بينهم، ثم انظر إلى أثر هذه الأعمال على النفوس وما تؤدي إليه من التباعد والتخاصم وعدم الاجتماع على كلمة واحدة، ثم تأمل حال المسلمين اليوم وما هم فيه من الفرقة؛ تجد أن مرد ذلك إلى بعدهم عن شرع الله حتى وصل الحال إلى تخاصم الإخوة وتقاطعهم من أجل حطام الحياة الدنيا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم نرجو بعد ذلك نصر الله سبحانه! أضعنا أمره، وارتكبنا نهيه، وحاربناه بالمعاصي، والله لا ينصر إلا الصالحين المصلحين، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ. لن ينصر الله إلا من نصره باتباع أمره واجتناب نهيه، أما ما سوى ذلك فإن الله يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ، عفا عن كثير من ذنوبنا، وإلا فلو عاقبنا عليها لما ترك على ظهر الأرض من دابة، لكن رحمته سبقت غضبه، وهو قد وسع كل شيء رحمة وعلمًا.
الناس يبتعدون عنه بالمعاصي والمحاربة له، وهو يتقرب إليهم بالنعم، ولقد وعد الصالحين بالعز والتمكين، وأخبر أن مرد الناس جميعًا إلى الخسران إلا من عمل صالحًا، فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وفق من شاء من عباده لعمل الخيرات، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
عباد الله، حقوق المسلم على المسلم كثيرة جدًا، تشمل دفع كل شر عنه، وجلب كل خير له، والإحسان إليه بكل ممكن، وهذا هو خالص المحبة والأخوة، فالمؤمنون بعضهم لبعض كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك النبي بين أصابعه إشارة إلى قوة التماسك والترابط.
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) رواه مسلم.
هذه الحقوق ليست كل حقوق المسلم، ولكن الجامع بينها أنها تجلب الألفة والمحبة وتقوي الصلة وتشعر المسلم بأنه ليس غريبًا بين إخوانه، وأنهم معه في سرائه وضرائه، فتجعل قلبه منشرحًا وحياته هنيئة، ليس فيها تكدير ولا تنغيص. وعلى المسلم في حال أداء هذه الحقوق أن يستشعر النية الصالحة، وأن يكون عمله خالصًا حتى تؤتي هذه الأعمال ثمارها.
وفقني الله وإياكم لكل خير، وجعل عملنا خالصًا صوابًا، إنه على كل شيء قدير.
(1/5354)
فضل القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل القرآن الكريم. 2- بركة القرآن الكريم. 3- الحث على قراءة القرآن الكريم والعمل به. 4- فضل أهل القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، التقوى خير الزاد، فاستعدوا بها ليوم المعاد.
عباد الله، ما تحدث المتحدثون ولا درس الدارسون كتابًا أفضل من كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم، هو حبل الله المتين، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، قال الله فيه: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
أنزله الله من عنده فهو المتكلم به سبحانه، أنزله على قلب محمد ليكون من المنذرين، فيه البشارة للمؤمنين بالأجر العظيم، والنذارة لغيرهم بالعذاب الأليم، جعله الله مباركًا في كل شيء.
في أثره فهو مؤثر على القلوب والأبدان، تذل وتخشع عند سماعه، وتستكين لله سبحانه، لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، لو أنزل على جبل لتشقق الجبل وتكسر وتذلل خوفًا من الله سبحانه، هذا وهو جبل جامد، فكيف بالقلوب الحية؟!
ومن بركته أنه شفاء لأمراض القلوب والأبدان، فهو يليّن القلب القاسي ويشفي اللديغ ويداوي الجريح، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا.
أيها المسلمون، والقرآن مبارك في ثوابه، فمن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
والقرآن مبارك في آثاره، فبه فتح المسلمون مشارق الأرض ومغاربها، وبه دخلوا بلاد كسرى وقيصر، وبه فتحوا القلوب وأدخلوها في الإسلام، عزت الأمة وارتفعت حينما تمسكت وعملت به، وذلت وهانت حين تركته وأعرضت عنه، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.
أيها المسلمون، اقرؤوا هذا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا البقرة وآل عمران، فإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة، اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البَطَلَة، أي: السحرة.
أيها المسلمون، ما تأدب الناس بمثل القرآن، وما علّموا أولادهم مثله، وقد كان خلق نبيكم محمد القرآن، والله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
عباد الله، ومع القراءة لا بد من العمل، فالله قد أنزل القرآن للتعبد بتلاوته والعمل به، فاهتدوا بهديه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، تسعدوا في دنياكم وأخراكم.
عبادة الله وحده، والبعد عن الشرك، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى اليتامى، والبعد عن الغيبة والنميمة، وعدم أكل الربا، واجتناب قول الزور، كل هذه توجيهات في كتاب ربكم لتصلح دينكم ودنياكم.
أيها المسلمون، ينبغي للمسلم أن يجعل له مقدارًا من القرآن يقرؤه كل يوم، ليكون قريبًا من كتاب ربه، فيستقيم على أمر الله، ويسير على نهجه وشريعته. ومن لم يستطع القراءة فعليه بالاستماع، فمن استمع فله مثل أجر القارئ، وفضل الله واسع، وهو ذو الفضل العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أنزل كتابه هدى ورحمة، وجعله لمن عمل به عزة ورفعة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا لله وآمنوا برسوله، اتبعوه واتبعوا النور الذي أنزل معه لعلكم تفلحون.
عباد الله، خرج أمير المؤمنين عمر من المدينة إلى مكة، فاستقبله أميرها في الطريق، فقال له عمر: من خلفت في أهل الوادي، قال: خلفت فيهم ابن أبزى مولى من موالينا، قال: وخلفت فيهم مولى؟! قال: يا أمير المؤمنين، إنه حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قال: نعم، سمعت نبيكم محمدًا يقول: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)). فالتفضيل بالإيمان والعمل، لا بالنسب والحسب، وكان النبي في غزوة أحد يسأل إذا أراد دفن الميت: ((أيهم أكثر قرآنًا؟)) فيقدمه جهة القبلة.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بكتاب ربكم، واتلوه آناء الليل والنهار لعلكم تفلحون.
ثم صلوا وسلموا على عبد الله ورسوله محمد، فقد أمركم الله بذلك...
(1/5355)
توجيهات رمضانية
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بلوغ رمضان. 2- استعداد الأنفس للخير في رمضان. 3- أهمية التناصح بين المسلمين. 4- الحث على الإحسان فيما بقي من الشهر الكريم. 5- الحث على الدعاء للمسلمين. 6- الحث على الإكثار من قراءة القرآن الكريم. 7- الحث على إطعام الصائمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، وتذكروا نعمة الله عليكم بأن بلغكم هذا الشهر العظيم ورزقكم صيامه، وقد حرم منه كثيرًا من الناس.
عباد الله، الناس في هذا الشهر المبارك قريبة قلوبهم إلى الله تعالى، منقادون لطاعة الله سبحانه، متقبلون لما يلقى إليهم من نصائح وتوجيهات. وإنه يجب على المسلم أن يكون ناصحًا لإخوانه مشفقًا عليهم، فقد ثبت عن النبي من حديث أبي هريرة أنه قال: ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم، وقد ثبت عنه أنه بايع عددًا من أصحابه على النصح لكل مسلم، منهم جرير بن عبد الله البجلي. من أجل هذا كان لزامًا علينا التناصح، وأن يوجه بعضنا بعضًا ويدله على خير ما يراه له، وهذه عدد من التوجيهات في منتصف هذا الشهر الكريم.
فأولها: أن من كان محسنًا في أول هذا الشهر فليحمد الله وليزدد من الإحسان، فإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن أساء وقصر في أوله فليتدارك نفسه، وليتب إلى ربه، وليرجع إليه، فباب التوبة مفتوح، وقد بقي من الشهر أفضله، ومن أحسن فيما بقي غفر له ما مضى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، والله يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وثاني هذه التوجيهات: أن إخوانكم المسلمين في جميع أنحاء العالم يمرون بضيق وشدة وتسلط من الأعداء عليهم، ولهم حق عليكم بنصرتهم وتأييدهم كما قال النبي : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، و((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ، وأنتم تمرون كل يوم بساعة إجابة عند الإفطار كما في الحديث: ((للصائم عند فطره دعوة ما ترد)) ، فاجعلوا لهم من هذا الدعاء؛ عل الله أن ينصرهم ويوسع عليهم، وأحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم من الخير، فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ثالثًا: ينبغي للمسلم أن يكثر في هذا الشهر من قراءة القرآن وتدبره، فرمضان شهر القرآن، فيه نزل، وكان رسول الله يعرض القرآن على جبريل في كل رمضان مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عرضه عليه مرتين، وكان السلف الصالح رحمهم الله يتركون العلم والتعليم والعمل في رمضان، ويتوجهون إلى المساجد لتلاوة القرآن وذكر الله سبحانه.
رابعًا: احرص على أن تصوم أكثر من رمضان في هذا الشهر المبارك، وذلك بتفطير الصائمين، ففي الحديث: ((من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)). عمل قليل، وثواب جزيل، والله ذو الفضل العظيم. ولقد كان النبي جوادًا كريمًا، وكان أجود ما يكون في رمضان، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِّلْعَبِيدِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5356)
وداع رمضان
فقه
الزكاة والصدقة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأيام. 2- من أحكام زكاة الفطر. 3- صلاة العيد. 4- الأمر بحفظ اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وتفكروا في أعمالكم وأعماركم، ها هي الأيام تطوى وتزول، والأعمار لن تطول، وأنتم مفرطون في العمل، قد ألهاكم طول الأمل.
ها هو شهر الصيام قد قرب رحيله، وهو شاهد علينا بما أودعناه من الأعمال، فمن أودعه خيرًا فليحمد الله وليزدد من الصالحات، ومن أودعه غير ذلك فليراجع نفسه، وليخف ذنبه، وليتب إلى ربه من الخطايا والسيئات، وليقض ما بقي منه بالعمل الصالح؛ ليبدل الله سيئاته حسنات.
أيها المسلمون، إن حياتكم مآلها الزوال، حياة قليلة ليس لعاقل أن يجعلها في قلبه وينشغل بها عن أمور دينه، لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء. إن هي إلا سويعات وأيام، السعيد من عمر آخرته فيها، واستعد للقاء ربه بالعمل الصالح الذي يرفعه درجات عند الله، والخاسر من أضاعها في اللهو واللعب والانشغال بالحياة، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
وشرع الله لكم زكاة الفطر، وهي صاع من طعام من قوت البلد، من بر أو رز أو تمر أو غيرها، مما يتقوته بنو آدم، قال أبو سعيد : فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من طعام.
وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء فهو أفضل وأعظم أجرًا، فطيبوا بها نفسًا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد مقدار يسير لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على إخراج الطيب مع عظم الأجر وكثرة المثوبة؟!
عباد الله، مقدار هذه الزكاة صاع من قوت البلد، تخرج عن الصغير والكبير والذكر والأنثى، وتعطى للفقراء والمساكين، ولا تنقل من البلد إلا إذا لم يوجد به فقراء، ويسن إخراجها عن الحمل ولا يجب ذلك، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين.
ولا يجوز إخراج القيمة، لأن ذلك لم يرد عن رسول الله ، ولا عن أحد من أصحابه، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها أحد عن الصلاة بغير عذر لم تقبل منه.
أيها المسلمون، إن الحكمة من شرعية زكاة الفطر أنها تطهر الإنسان من اللغو والرفث الحاصل له في هذا الشهر، وشكر الله سبحانه على ما منّ به من إكمال الصيام والقيام، وكذا إغناء المساكين في هذا اليوم المبارك عن سؤال الناس والنظر إلى ما في أيديهم، فأخرجوها طيبة بها نفوسكم، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى.
بار الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله منّ علينا بإكمال شهر الصيام، وجعله ماحيًا للذنوب والآثام. وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الفضل والإنعام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عبد ربه حتى أتاه الحِمام، صلى الله عليه وعلى آله الكرام وأصحابه الأعلام، وسلم تسليمًا كثيرًا على الدوام.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، فيجازي كلاً بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
عباد الله، إن مما شرع الله لكم في ختام هذا الشهر صلاة العيد، فقد أمر الله بها، وأمر بها رسوله ، أمر بخروج الناس إليها حتى النساء، فاخرجوا إليها صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً، اخرجوا في أحسن هيئة، اغتسلوا وتطيبوا وتجملوا، ولتخرج النساء غير متجملات ولا متطيبات.
والسنة أن يأكل الإنسان قبل خروجه إلى الصلاة تمرات وترًا، ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا ونحوها من الوتر.
امشوا وعليكم السكينة والوقار، خاشعين لله سبحانه، معظمين له، ترجون رحمته، وتخافون عذابه.
أظهروا شعائر الإسلام بالخروج لهذه الشعيرة العظيمة، أروا الله من أنفسكم خيرًا، غضوا أبصاركم، احفظوا ألسنتكم عن اللغو والرفث وقول الزور، احفظوا سمعكم عما حرم الله من القيل والقال وسماع الأغاني والمعازف، احذروا مما يغضب الله في أيام الأعياد، فإن الطاعة تتبع بالطاعة لا بالمعصية، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ، وإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.
بروا والديكم، وأطيعوا من ولاه الله أمركم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، وصلوا أرحامكم.
وأخيرًا، لا بد من النظر والتأمل في سير الصالحين من سلفنا الصالح، فهذا نبينا محمد كان يذكر الله في كل أحيانه، وطلب منه رجل الوصية فقال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)). وأبو بكر كان يأخذ بلسانه ويبكي ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، وابن مسعود يقول: (والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحق بطول سجن من لسان)، وعمر يقول: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به)، ولما سأل معاذ النبي : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) وفي الحديث: ((لا يستقيم إيمان امرئ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).
واعلموا أن كثرة الكلام تعمي القلب، وأبعد القلوب من الله القلب العاصي، و((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأجارنا من زلات اللسان وعثراته، وهدانا صراطه المستقيم، وغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم.
(1/5357)
من أحكام الصيام
فقه
الصوم
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل طول العمر في طاعة الله تعالى. 2- حياة المؤمن وحياة الكافر. 3- فرصة إدراك مواسم الخيرات. 4- حكم صيام رمضان. 5- شروط وجوب الصيام. 6- مفسدات الصيام. 7- المفطرات المعنوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على بلوغ شهر رمضان، واسألوه التوفيق والإعانة على اغتنام أوقاته بالطاعة، وأن لا يجعلكم فيه من أهل التفريط والإضاعة، فإنه إنما يفرح بطول العمر لأجل إدراك مواسم الخيرات والإكثار من الطاعات؛ في الحديث: ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)) ، ولا يفرح بطول العمر من أجل العيش في الدنيا فقط؛ لأن العيش في غير الطاعة يفنى سريعًا، ويعقبه حسرة وندامة يوم القيامة، وأما العيش في الدنيا في الطاعة فإنه يبقى أثره ويمتد خيره إلى ما لا نهاية؛ لأنه يتصل بعيش الآخرة، وقد قال النبي : ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)) ، وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
فحياة المؤمن ممتدة متواصلة بالخير والسرور في دنياه وفي قبره ويوم نشوره، ففي الحياة الدنيا يستلذ بالطاعة، ويطمئن قلبه بذكر الله، فيعيش فيها منشرح الصدر قرير العين، وفي قبره يفتح له باب إلى الجنة فيأتيها من طيبها ونعيمها، ويقال له: نم نومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وفي بعثه يبعث على أحسن حال، فيحاسب حسابًا يسيرًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا، ويدخل الجنة دار النعيم خالدًا مخلدًا فيها، لا يمسه فيها نصب، ولا يخشى موتًا ولا همًا ولا مرضًا، وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ.
وأما الكافر فإنه وإن حيزت له الدنيا بحذافيرها فإنه يعيش فيها مهمومًا مذمومًا، وتزول عنه سريعًا، ثم يموت ويعذب في قبره، ثم يبعث إلى النار وبئس القرار، وهكذا عذاب متواصل كما قال تعالى: لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ.
عباد الله، وإن من أعظم ما يمر في عمر المؤمن إدراك مواسم الخير التي من أعظمها شهر رمضان المبارك، فإنه أعظم كسب في حياة المؤمن، وفي حديث الثلاثة الذين استشهد منهم اثنان وبقي الثالث بعدهما، ومات على فراشه، فرئي سابقًا لهما، فتعجب الناس من ذلك، فقال رسول الله : ((أليس قد عاش بعدهما، وصلى كذا وكذا، وأدرك شهر رمضان فصامه؟! والذي نفسي بيده، إن بينهما كما بين السماء والأرض)).
فاحمدوا الله ـ أيها المسلمون ـ على بلوغ هذا الشهر، وأكثروا فيه من فعل الطاعات واكتساب الحسنات.
واعلموا أن أعظم عمل شرعه الله في هذا الشهر بعد الصلوات المفروضة هو الصيام، فقد جعل الله صوم هذا الشهر أحد أركان الإسلام، فمن جحده فهو كافر مرتد عن دين الإسلام، ومن أقر بوجوبه ولم يصمه كسلاً فهو مستحق لأعظم الوعيد، ويجب عليه التوبة إلى الله وقضاء ما أفطر منه، ومن عَلِمَ بفطره من المسلمين وجب عليه أن يرفع عنه لولاة الأمور ليؤدبوه ويلزموه بالصيام.
ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم صحيح. أما الصغير الذي دون البلوغ فلا يجب عليه، ولكن يؤمر به إذا كان يطيقه ليعتاده ويتربى عليه، ويكون له نافلة، ولوليه أجرًا. وأما المسافر والمريض فيفطران ويقضيان من أيام أخر، ومن زال عقله بجنون دائم أو كبر وهرم فلا صوم عليه. وأما الكبير الذي يعقل ولكنه لا يستطيع الصيام لضعف بدنه وقواه فإنه يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، ومثله المريض الذي لا يستطيع الصوم والمرض مستمر معه دائمًا، فإنه لا صوم عليه ويطعم عن كل يوم مسكينًا.
عباد الله، الصوم تعبُّد لله بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
والمفطرات هي الأكل والشرب، فمن أكل أو شرب متعمدًا بطل صومه، ويجب عليه التوبة إلى الله والإمساك بقية يومه، ثم يقضي ما أفطره. ومن أكل أو شرب ناسيًا فلا حرج عليه وصومه صحيح.
ومثل الأكل والشرب في إفساد الصيام ما كان بمعناهما كالإبر المغذية والحبوب الدوائية والإبر التي تحقن عن طريق الوريد؛ لأن هذه الأشياء تدخل في الجسم وتخالط الدم أو تغذي وتفعل ما يفعل الطعام والشراب.
ومثل الأكل والشرب استعمال القطرة والسعوط في الأنف؛ لأنها تتسرب إلى الحلق وتدخل الجوف، فمن استعمل القطرة متعمدًا ووجد طعمها في حلقه فإنه يفسد صومه، لقول النبي : ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)) ، فقد نهى عن المبالغة في الاستنشاق للصائم لئلا يصل الماء إلى حلقه، وذلك يدل على الإخلال بصيامه، ومثله القطرة؛ لأنها سائل وصل إلى الحلق عمدًا فتفسد الصوم.
ومن مفسدات الصوم الجماع، فمن جامع في نهار رمضان فسد صومه، ويجب عليه أن يتوب إلى الله ويمسك بقية يومه، ثم يقضي هذا اليوم الذي جامع فيه، وعليه مع القضاء الكفارة المغلظة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا.
وعلى المسلم أن يتجنب كل الوسائل التي قد توقعه في هذا المحذور من نظر بشهوة أو تقبيل لزوجته بشهوة أو لمس لها بشهوة،.
ومن المفسدات للصوم إنزال المني دون جماع بسبب مما ذكرناه من نظر أو تقبيل أو لمس أو استمناء باليد، وهو ما يسمى بالعادة السرية. أما من احتلم وهو نائم في نهار رمضان فأنزل فإنه لا يؤثر على صيامه؛ لأنه بغير اختياره، وإنما يجب عليه الاغتسال.
ومن مفسدات الصوم استفراغ ما في المعدة عمدًا، وهو التقيؤ، أما من غلبه القيء وخرج دون اختياره فصيامه صحيح لقوله : ((من استقاء فليقضِ، ومن غلبه القيء فليس عليه شيء)).
ومن مفسدات الصوم استخراج الدم الكثير من البدن بحجامة أو فصد أو سحب للدم، فإذا فعل ذلك فقد أفطر لقوله : ((أفطر الحاجم والمحتجم)). أما من انجرح فخرج منه دم كثير أو خلع ضرسًا فخرج منه دم فلا حرج عليه، وعليه أن يتفل الدم من فمه.
ومن موانع صحة الصوم الحيض والنفاس، فالحائض والنفساء تفطران مدة الحيض والنفاس وجوبًا، ولا يجوز لهما الصيام، ولا يصح منهما، وتقضيان ما أفطرتا فيهما من أيام أخر.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على صيامكم من المفسدات، وقد جعل الله لكم الليل لتناول ما تحتاجون إليه أو تشتهونه مما أباح الله لكم، أما النهار فاحفظوه بالصيام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على فضله وإحسانه، شرع لنا الصيام والقيام لننال منه الأجر والإكرام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عليه وعلى آله وأصحابه أزكى الصلاة والسلام.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن هناك مفطرات معنوية إلى جانب المفطرات الحسية، فيجب عليكم معرفتها واجتنابها.
كل قول أو فعل محرم في غير الصيام فإنه يتأكد تحريمه ويتضاعف إثمه في وقت الصيام، وذلك كالغيبة والنميمة والشتم والسباب وقول الزور والنظر إلى ما حرم الله النظر إليه من النساء والصور الفاتنة والأفلام الخليعة والاستماع إلى ما حرم الله الاستماع إليه من الأغاني والمعازف والمزامير وسائر المعاصي، فإنها تؤثر على الصيام، وتوجب الآثام، فليس الصيام مجرد ترك الطعام والشراب والجوع والعطش، ولكنه مع ذلك ترك كل ما حرم الله من الأقوال والأفعال المحرمة والمؤثمة، يصوم البطن عن الطعام والشراب، والفرج عن الاستمتاع، والنظر عن المرائي الحرام، واللسان عن الألفاظ القبيحة. فترك الطعام والشراب لا يكفي مع عدم ترك هذه الأشياء، بل يصبح تعبًا بلا فائدة، وعملاً بلا أجر.
فاتقوا الله في صيامكم، وتمسكوا بكتاب ربكم...
(1/5358)
فضل القرآن الكريم وتدبره
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لاحسد إلا في اثنتين. 2- فضل تلاوة القرآن الكريم. 3- فضل الصدقة بالمال. 4- الحث على تدبر القرآن الكريم. 5- إيحاءات سورة النصر. 6- علم ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ.
عباد الله، في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الكتاب فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل أعطاه مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار)).
أيها المسلمون، دل هذا الحديث على أنه لا ينبغي أن يغبط المسلم أخاه المسلم إلا على إحدى هاتين الخصلتين؛ لأجل ما رتب الله عليهما من الثواب والأجر في الآخرة، وما سواهما من الأشياء فإنه لا يساوي عند الله شيئًا، فلا ينبغي للإنسان أن يحسد أخاه.
أولهما: القرآن العظيم، فهو فضل من الله سبحانه ومنّة، فمن تعلمه وقام بحقه قراءةً وعملاً وتعليمًا لا يفتر عنه آناء الليل والنهار، فقد رزق بخير كثير ينبغي لكل إنسان أن يرجو مثله.
وثانيهما: المال، فمن آتاه الله المال ووفقه لإنفاقه في سبيل الله والأعمال الصالحة فقد ادّخر هذا المال ذخرًا له عند الله عز وجل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والمقصود ـ يا عباد الله ـ بالحسد في الحديث تمني مثل ما عند الغير من غير كراهة لما منّ الله به عليهم من الفضل أو تمني زواله.
وأعظم هذين الأمرين وأجلهما قدرًا وأعظمهما أجرًا تعلم القرآن وتعليمه والعمل به وتدبره، فقد عاب الله على أقوام أنهم لا يتدبرون القرآن: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، بل أخبر أنه إنما أنزله للتدبر: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
عباد الله، من سور هذا القرآن العظيم: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ، هذه السورة العظيمة نزلت في آخر حياة النبي ، وبشره الله فيها ببشارة عظيمة، وأمره فيها بأمر إذا حصلت تلك البشارة.
بشره الله فيها بنصره وفتح مكة، وقد نصره الله على العرب كافة بل والعجم، وفتح عليه بلده مكة بعد أن أخرج منها قبل ثمان سنوات من هذا الفتح، ولما فتحت مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، ففي صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله ، وكانت الأحياء تلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي، وقالت العرب لما فتحت مكة: أما إذا ظفر محمد بأهل مكة وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به بد أن تدخلوا في دين الله أفواجًا، فلما حصل هذا النصر أمر الله نبيه أن يحمده على ذلك ويشكره فيكثر من التسبيح والاستغفار، وفي هذا الأمر شيئان:
أولهما: أن النصر سيستمر لهذا الدين ويزداد ما التزمت الأمة بتسبيح الله واستغفاره وشكره، والله يقول: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ، وقد كان ذلك ظاهرًا في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه غيره، حتى خالفت الأمة أمر الله، وابتعدت عن دينه، فتفرقت كلمتهم، وتسلط عليهم أعداؤهم، وضعفت قوتهم، ومع ذلك فلا زال في الأمة بقايا خير، وهي راجعة إلى دين الله ما ظهر فيهم تعظيم الله والتزام أمره.
وثانيهما: الإشارة إلى قرب وفاة رسول الله ، فأمر أن يختم حياته بالاجتهاد في العبادة، ولهذا كان بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن، وعن ابن عباس أن النبي لما نزلت هذه السورة أخذ في أشد ما كان اجتهاده في أمر الآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لِمَ يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد علم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليرِيَهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله أَعلمه له، قال: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، فذلك علامة أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
أيها المسلمون، في هذه السورة من الفوائد أنه ينبغي للمسلم أن يكثر من شكر الله على نعمه، فإن النعم إذا شُكرت قرت، وإذا كُفرت فرت. ومنها أنه ينبغي لكل إنسان أن يختم حياته بكثرة الأعمال الصالحة حتى يلقى الله على عمل صالح، ولن يستطيع ذلك إلا من جاهد نفسه على طاعة الله.
اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، وأعذنا من كيد الشيطان ونزغاته، واختم لنا حياتنا بصالح الأعمال.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
(1/5359)
توديع رمضان واستقبال العيد
فقه
الزكاة والصدقة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- استحباب التكبير عند نهاية الشهر. 3- وجوب زكاة الفطر وبعض أحكامها. 4- صلاة العيد وبعض آدابها. 5- الحث على الاستمرار في الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، وتدبروا كتابه، وتفكروا في مخلوقاته.
بالأمس القريب كنتم تستقبلون شهر رمضان، وها أنتم تودعونه، وقد أزف رحيله، فماذا أودعتموه من العمل؟ فهنيئًا لمن كان من المقبولين فغفر له، وويل لمن كان من المفرطين المسيئين. صعد النبي المنبر يومًا فقال: ((آمين، آمين، آمين)) ، ثم قال: ((أتاني جبريل فقال: رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين)).
عباد الله، ها هو الشهر قد تصرم وانقضى، وهو شاهد عليكم بما أودعتموه من خير أو شر، فمن أحسن فليزدد من الحسنات، ومن أساء فليتدارك ما بقي من عمره بالأعمال الصالحات، وإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.
وقد شرع الله لكم في ختام الشهر أعمالاً صالحة تجبرون بها نقص صيامكم، وتزدادون بها قربًا إلى ربكم.
فأول ما شرع لكم التكبير من غروب الشمس ليلة العيد إلى الصلاة، قولوا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، يجهر بها الرجال في المساجد والبيوت والأسواق، وتسر بها النساء، تكبرون الله على ما هداكم ووفقكم له من الصيام والقيام وغيرها من الطاعات، يقول الله تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وثانيها: زكاة الفطر، فقد فرضها رسول الله طهرة للصائم من اللغو والرفث الذي حصل منه في هذا الشهر، وطعمة للمساكين يستغنون بها عن السؤال في هذا اليوم. وهي صاع من طعام، وكلما كان الطعام أطيب كان أفضل وأعظم أجرًا؛ لقوله تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ.
والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز تقديمها قبله بيوم أو يومين، ويخرجها الرجل عن نفسه وعمن تجب عليه نفقته من الزوجات والأقارب، فعن ابن عمر قال: فرض رسول الله صدقة الفطر من رمضان على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. ولا تجب عن الحمل، وإن أخرجها فلا بأس، لعمل أمير المؤمنين عثمان. وتعطى لفقراء البلد، ولا تخرج عنهم، فإن لم يكن في البلد فقراء نقلت إلى بلد فيها فقير.
ومما شرع لكم في ختام الشهر صلاة العيد، فقد أمر بها رسول الله أمته رجالاً ونساءً، وأمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، حتى الحيّض ويعتزلن المصلى، مع أن البيوت للنساء خير فيما عدا هذه الصلاة، مما يدل على تأكد هذه الصلاة، بل لقد قال بعض العلماء: إن صلاة العيد فرض عين يجب الخروج إليها، والسنة تأخير صلاة عيد الفطر قليلاً حتى يتمكن الناس من إخراج زكاة الفطر في الوقت الفاضل.
ويسن أن يأكل الإنسان قبل الخروج إليها تمرات وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر يقطعها على وتر، لقول أنس بن مالك : كان النبي لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، يأكلهن وترًا.
ويخرج إلى المصلى ماشيًا لا راكبًا، لقول علي بن أبي طالب: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا. وليلبس المسلم أحسن ثيابه، وليكثر من ذكر الله ودعائه، ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، وليتذكر الموقف أمام الله حين يجمع الأولين والآخرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأولين والآخرين والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها، وتابعوا بين الحسنات، فإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.
عباد الله، لئن انقضى شهر الصوم فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، ولهذا قال الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. والأعمال الصالحة أكثر من أن تحصر، فلقد كان النبي يصلي من الليل في رمضان وغيره، ولم يكن يزيد على إحدى عشرة ركعة، وقال: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى)). والسنن الرواتب ثنتا عشرة ركعة في كل يوم وليلة، أربع قبل الظهر، وثنتان بعدها، وثنتان بعد المغرب، وثنتان بعد العشاء، وثنتان قبل الفجر. وصلاة الضحى، وبين كل أذانين صلاة.
ولئن انتهى شهر الصوم فإن الصوم بحمد الله لا يزال مشروعًا؛ ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الاثنين والخميس، وأيام البيض، وستّ من شوال...
وذكر الله مشروع في كل وقت وحين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا.
والصدقة والإحسان إلى الخلق ليس لها وقت محدد.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لعمل الصالحات والبعد عن المنكرات...
(1/5360)
خطبة عيد الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العيد يوم شكر وذكر. 2- أعياد المسلمين. 3- أهمية التوحيد وخطورة الشرك. 4- التذكير بأهمية الصلاة والزكاة. 5- الحث على الاستمرار على طاعة الله. 6- محاسبة النفس. 7- سنن العيد. 8- التذكير باليوم الآخر. 9- كلمة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر. الله أكبر كلما صام الصائمون، الله أكبر كلما أفطر المفطرون، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، اتقوا الله لترفع لكم الدرجات، اتقوه لتحط عنكم السيئات، اتقوا الله لتضاعف لكم الأجور والحسنات، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ، منّ عليكم بإكمال شهر الصيام صيامًا وقيامًا، اسألوه أن يتقبلها منكم، وأن يغفر لكم ما حصل فيها من تقصير.
عباد الله، هذا اليوم يوم شكر وذكر، وأكل وشرب وفطر، يحرم صومه لما في صومه من الإعراض عن ضيافة الله سبحانه ومخالفة أمره، حيث شرع الإفطار فيه، فإنه لما قدم النبي المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((إن الله قد أبدلكم يومين خيرًا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى)) ، فأبدل الله المؤمنين بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر والمغفرة والعفو، فليس للمؤمنين في الدنيا غير ثلاثة أعياد، كل عيد يأتي بعد استكمال عبادة من العبادات العظيمة في الإسلام.
عيد الأسبوع بعد استكمال عبادات الأسبوع من الصلاة وغيرها، وهو يوم الجمعة، وعيد الفطر بعد صيام رمضان وقيامه، كفر الله عنهم ذنوبهم، وأعتقهم من النار، شرع لهم هذا العيد ليشكروه ويكبروه وليفرحوا بمغفرة الله لهم، وعيد الأضحى بعد الحج، وهو أعظم هذه الأعياد وأفضلها، وليس وراء هذه الأعياد من عيد.
عباد الله، لئن كان العيد إنما شرع لذكر الله وشكره وحمده على هذه العبادات العظيمة فإنه لا بأس فيها من يسير اللهو المباح الذي يسلي النفس ولا يلهي عن طاعة الله، وينبغي الإكثار فيه من الاستغفار وتعظيم الله سبحانه والذل والخضوع له وعبادته حق عبادته.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، أحوج ما يكون المسلم إليه في حياته وبعد مماته توحيد الله سبحانه والإيمان به، فهو أصل الحياة الطيبة في الحياتين، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
العبادة لا تصرف إلا لله على سنة رسول الله ، ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) كما في الحديث القدسي عن ربنا سبحانه، ونبينا محمد يقول: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
وما ترك الله أمة إلا بعث فيها نذيرًا يأمرهم بتوحيد الله وينهاهم عن الشرك، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ، بل لقد خاف أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام على نفسه من الشرك فقال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ، وقال خاتم الرسل : ((اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)). أمر يخافه الأنبياء على أنفسهم حقيق بالمخافة والحذر، بل لقد بين النبي أن أشد ما يخافه على أمته الشرك الخفي: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي)) ، فسئل عنه فقال: ((الرياء)) ، وقال: ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء)).
شرك في العبادة، وشرك في الرجاء، شرك في الخوف والمحبة، ناهيك عن أنواع السحر والكهانة والذهاب إلى العرافين ونحوهم. أمور وأشياء يخشى الإنسان أن يدركه مقت الله وعذابه وغضبه بانتشارها ووقوعها بين الناس.
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ، ومن سلم من الشرك فقد سلم ونجا، ومن وقع فيه فقد هلك إن لم يتداركه الله برحمته.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، الصلاة عمود دينكم، لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ((بين المرء وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) ، ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، من ترك الصلاة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
أقيموا الصلاة كما أمركم الله بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، أدوها مع جماعة المسلمين في المساجد لتكون لكم ذخرًا عند الله سبحانه، مروا أولادكم بإقامتها، واعتقدوا أنها راحة لكم، تكفر ذنوبكم وخطاياكم، ولقد كان نبينا محمد يقول لبلال: ((أقم الصلاة، أرحنا بها)) ، ويقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
قرينة الصلاة الزكاة، أدوها طيبة بها نفوسكم، أنفقوا مما رزقكم الله، فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
لئن انتهى شهر الصيام فإن عمل المؤمن ليس له نهاية دون الموت، سن لكم نبيكم أنواعًا من الصيام، فليعمل كل بما تيسر له، وإن من أولاها في هذه الأيام صيام ست من شوال، فمن صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر، ومن كان عليه قضاء فلا يصمها حتى يقضي ما عليه.
ولئن انتهى شهر القيام فإن من هدي النبي أنه يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره.
اقرؤوا القرآن، وتدبروا كتاب الله، والزموا تلاوته آناء الليل والنهار لعلكم تفلحون.
الله أكبر.
العيد مناسبة كبرى لمراجعة النفس والعمل وإصلاح ذات البين وصلة الأرحام والرأفة باليتامى والمساكين والإحسان إليهم وإقامة أمر الله في الوالدين والأقربين والألفة والمحبة بين المسلمين والتزاور والتهنئة بهذه المناسبة، فلعل هذا العيد أن لا يمر مرة أخرى، فكم كان معنا في العيد الماضي من الأصحاب والأحباب، اخترمتهم يد المنون، وفرقهم مفرق الجموع، ولا يأمن الإنسان ذلك على نفسه، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، ولن يبقى للإنسان إلا ما قدمه من الأعمال، فهل من مشمر لطاعة الله؟! وهل من بائع نفسه لله؟! وهل طالب سلعة الله؟! ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.
فبادروا أعماركم، وتنافسوا فيما بينكم، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، بادروا بالأعمال سبعًا: فهل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ؟!
متى يصلح نفسه من لم يصلحها اليوم؟! ومتى يعبد ربه من لم يعبده اليوم؟! ومتى يحاسب نفسه الإنسان؟! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، منَّ علينا بصيام رمضان وإدراك العيد، وأمهل عباده ليتوبوا إليه ووعدهم سبحانه بالجنة والمزيد. أحمده سبحانه ما تعاقب الجديدان، وأشكره سبحانه في كل حين وآن. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الديان، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله إلى الثقلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه كرام النفوس والأبدان، بذلوا أرواحهم في طاعة الرحمن، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد.
أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، والتزموا أمره ولا تعصوه.
عباد الله، في يوم العيد سنن ينبغي أن لا تهمل إكثارًا من مواضع العبادة، وإظهارًا لشعائر الإسلام، واقتداء بنبي الإسلام، فقد كان من هديه الخروج إلى العيد بسكينة ووقار، يذهب من طريق، ويعود من آخر، يكثر من الذكر، ويغتنم الأجر، ويحسن إلى الناس.
التهنئة بالعيد من عمل السلف، فيها تأليف للقلوب وإزالة للضغائن بين المسلمين ودفع للشحناء والأحقاد.
الله أكبر.
عباد الله، تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر عند الله، حين تقومون من قبوركم لله رب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسادكم، شاخصة أبصاركم، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، يوم تفرق الصحف، فآخذ صحيفته باليمين، وآخذ بالشمال، يوم توضع الموازين، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ، يوم ينصب الصراط على متن جهنم، يمر عليه الناس على قدر أعمالهم.
استبقوا الخيرات، والتجئوا إلى فاطر الأرض والسماوات، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم.
يا نساء المسلمين، اتقين الله في أنفسكن، احفظن حدوده، عليكن بالستر والعفاف والحشمة والبعد عن أماكن الرجال، أطعن الله، وأطعن الرسول وأزواجكن، فمن صلت فرضها وصامت شهرها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها. ربين أولادكن تربية إيمانية تحفظهم في دينهم ودنياهم، حتى يكونوا ذخرًا لكنَّ عند الله عز وجل.
اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان، يرجون ثوابك وفضلك، ويخافون عذابك، اللهم حقق لنا ما نرجو، وآمنا مما نخاف، ولا تخزنا يوم الفزع الأكبر، واجعل لنا ذكرًا حسنًا في العالمين.
اللهم تقبل منا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
(1/5361)
دوام الأعمال الصالحة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- الحث على صيام النافلة وصلاة النافلة. 3- الحث على صلاة الوتر. 4- الحث على ذكر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، قد كنتم ترتقبون مجيء شهر رمضان، ولقد جاء شهر رمضان وخلفتموه وراء ظهوركم، وهكذا كل مستقبل سوف ينتهي إليه العبد ويصل إليه ويخلفه وراءه حتى الموت.
أيها الناس، لقد أودعتم شهر رمضان ما شاء الله تعالى أن تودعوه من الأعمال، فمن كان منكم محسنًا فليبشر بالقبول، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ومن كان منكم مسيئًا فليتب إلى الله، فالعذر قبل الموت مقبول، والله يحب التوابين.
عباد الله، لئن انقضى شهر الصيام فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت، ولئن انقضت أيام صيام رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعًا ـ ولله الحمد ـ في كل وقت، فقد سن لكم رسول الله صيام الاثنين والخميس، وقال: إن الأعمال تعرض فيها، وأوصى أبا هريرة بصيام ثلاثة أيام، وقال: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر)) ، وأمر أن تكون الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فمن أمكنه أن يجعلها في الأيام البيض فهو أفضل، وإلا ففي غيرها.
ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)).
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا الأوقات، فإن العمر الحقيقي للإنسان هو ما أمضاه في طاعة الله عز وجل.
أيها المسلمون، لقد يسر الله لكم سبل الخيرات، وفتح أبوابها، ودعاكم لدخولها، وبين لكم ثوابها، فهذه الصلوات الخمس آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان. وهذه النوافل التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر بسلامين، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، من صلاهن بنى الله له بيتًا في الجنة.
وهذا الوتر سنة رسول الله قولاً وفعلاً، وقال: ((إن الله وتر يحب الوتر)) ، أقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، ووقته من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وهو سنة مؤكدة، لا ينبغي للإنسان تركه، حتى قال الإمام أحمد: "من ترك الوتر فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل له شهادة".
وهذه الأذكار بعد الصلوات المفروضة، ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)).
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5362)
التفكر في قصر الحياة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصر الحياة الدنيا. 2- الحث على اغتنام الصحة والفراغ. 3- دقة المحاسبة يوم القيامة. 4- الحث على ذكر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، وبادروا بالعمل الصالح أعماركم فإنها ستفنى، واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن أجسادكم على النار لا تقوى، كم من مؤمل قصر به أمله، وكم ساه غافل أدركه أجله، ما أقصر الحياة وأقلها، دار دنيئة تغر المتعلقين بها، ثم تولي عنهم أحوج ما يكونون إليها، ((لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) ، و((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه)).
إذا كان هذا هو حال الدنيا وهذه نهايتها فاجعلوها في طاعة ربكم وفي مرضاته، ولقد أرسل الله محمدًا رحمة للعالمين، يخرجهم من الظلمات إلى النور، فكان من رحمته أن دل الأمة على كل خير، وحذرهم من كل شر، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
مهما كان الإنسان شابًا قويًا يفعل ما يريد ويصل إلى ما يشاء فإن مآله إلى الهرم والضعف وذهاب القوة، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ، فمن الذي يهب شبابه لله في منفعة عباد الله وفي طاعة ربه؟! إن الشباب إذا ذهب لا عوض له، ولا مرد له، وهو ميدان العمل وبناء المستقبل، ومن حفظ الله في شبابه حفظه الله في كبره وشيخوخته. فالشباب هم أمل الأمة ورجاؤها، وخابت أمة ليس لها منفعة في شبابها، يضاف إلى ذلك أن الله سبحانه يعجب من الشاب الصالح، ((عجب ربنا من شاب ليس له صبوة)).
وفي الصحة نعمة لا يقدر قدرها إلا من حرمها، فيود لو أنه عمل فيها عملاً يرفعه عند الله في الصحة والفراغ، غبن على المرء إن لم يكن من أهل الخير والتقوى، ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). لا يستطيع الإنسان أن يعمل ما دام مريضًا وما دام مشغولاً، وقد تأتي على الإنسان أوقات في حال صحته وشبابه أحسن ما تكون للعمل، فيفرط فيها، ثم يندم، ولات ساعة مندم، ما الذي أخّر أمتنا وجعلها في نهاية القوم إلا تفريط أهلها في وقت القوة والنشاط وركونهم إلى اللذات والمشتهيات، ثم تنبهوا بعد فوات الأوان وانتهاء الزمان وتكالب قوى الشر على الأمة من كل جانب، ما بالنا إذا كان الإنسان غنيًا لم ير لغيره في المال حقًا؟! أليست الزكاة واجبة بل ركنا من أركان الإسلام ولا يخرجها كثير من الناس؟! أليس في السنة: ((إن في المال حقوقًا سوى الزكاة)) ، وفي القرآن الكريم: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ؟!
أصبح كثير من الناس ينظر إلى كثرة ما عنده من المال، ولا ينظر إلى مقدار ما أنفقه في طاعة الله، أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ، وإن الزيارة لقصيرة، وإن بعدها لبعثًا وحياة أخرى، يسأل فيها الإنسان عن النعيم، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
الله لا يضيع أجر العاملين ولو كان قليلاً، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، تقول عائشة رضي الله عنها: كم في العنبة من مثاقيل الذر! وكم في الثمرة من مثاقيل الذر!
أين المشمرون إلى الله، المتجهون إليه قبل أن يأتيهم الموت، فيدع الإنسان ماله وأهله، ويبقى معه عمله؟! أين من يعمل على بناء دار مقره ودار منتهاه؟! وإن البناء ليسير على من يسره الله عليه.
لما كان ليلة الإسراء لقي النبي إبراهيم الخليل، فقال: ((يا محمد، أخبر أمتك أن الجنة قيعان، وأن غراسها التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير)). وفي القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ، فمن أكثر من ذكر الله حفظه الله في حال صحته وشبابه وفراغه وفي حياته وبعد موته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5363)
دروس من قصة موسى وفضل عاشوراء
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القصص
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر الله تعالى على نعمه. 2- نعمة الإسلام. 3- صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 4- طغيان فرعون في الأرض. 5- نصر الله موسى وقومه على فرعون وقومه. 6- استحباب صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق تقواه، واشكروه على ما أنعم عليكم من النعم؛ أمن في الأوطان، وصحة في الأبدان، ورغد في العيش. أنعم عليكم بنعم عظيمة، لم ينلها كثير ممن قبلكم، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً. وأعلى هذه النعم وأرفعها قدرًا نعمة الإسلام الذي هدانا الله له، وأضل عنه كثيرًا من الناس، فاللهم لك الحمد على نعمك، خلقتنا ورزقتنا وهديتنا للإسلام، كبتَ عدونا، ورفعت قدرنا وأمرنا، اللهم أتم علينا هذه النعمة، وأمتنا عليها يا رب العالمين.
عباد الله، إن نعمة الإسلام نعمة عظيمة، واجه أنبياء الله ابتلاءات وفتنًا عظيمة في سبيل هداية الناس وإرشادهم إلى دين الله، ولهذا فلا عجب أن يكون لكل نبي من هؤلاء مثل أجور من تبعه من الناس، ولقد كان من أشدهم ابتلاءً في ذلك رسول الله ، فقد لقي من كفار قريش أهوالاً عظيمة، وكان صلوات الله وسلامه عليه صابرًا محتسبًا في ذلك، وقد جعله الله أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، فإن أمته ثلثا أهل الجنة، كما صح بذلك الخبر.
وممن بلغ الغاية في الصبر والاحتساب وبلغ قومه الغاية في أذاه نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرسله الله سبحانه إلى رجل من طغاة الأرض، استعبد عباد الله وأذلهم، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
حكم هذا المفسد على بني إسرائيل أنه من ولد له ولد قتل ولده، فلما ولدت أم موسى موسى حارت ماذا تصنع به شفقة ورحمة بهذا الولد، فألهمها الله سبحانه أن تلقيه في البحر، وأن لا تخاف عليه، ووعدها بأن يعود إليها، فسار به البحر حتى ألقاه عند بيت فرعون، فالتقطه آل فرعون، وسخر الله له امرأة فرعون، فحفظته واتخذته ولدًا لها. وأبى هذا الولد أن يقبل الرضاع من أي امرأة حتى وجد أمه فرضع منها، فأعادوه إلى أمه تحقيقًا لوعد الله سبحانه: إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
ثم لما بلغ أشده آتاه الله العلم والحكم، وخرج هاربًا من بلاد فرعون، وتزوج في خروجه ذلك، ثم أوحى الله إليه وأرسله إلى فرعون، وأرسل معه أخاه هارون، ووعدهما بالنصر والتمكين، فجاءا إلى فرعون وأبلغاه برسالة الله ودينه، وأمراه بعبادة الله وحده، وأظهرا له آيات الله العظيمة التي أرسله الله بها، فكذب وأبى، وأنكر وجود الله سبحانه، وسأل موسى سؤال استهزاء وازدراء فقال له: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ، فأجابه موسى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ ، فزاد احتقار فرعون له وسخريته منه، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ، فأجاب موسى بما يعرفه كل عاقل سائر على الفطرة أنهم خلقوا من العدم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه آباؤهم، قال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ، ولما أعيت فرعون الحيلة وعجز عن مقارعة الحجة بالحجة لجأ إلى ما يلجأ إليه الضعفاء المتكبرون من التهديد والوعيد وبيان قوته وجبروته فقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.
وما زال يجادل عن باطله ويحاول كتمان الحق وإبطاله حتى قال لموسى: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى أي: لا يحجب الرؤية فيه شيء، فواعدهم موسى في يوم عيدهم في الضحى، فاجتمع الناس لهذا اليوم، وجاء السحرة، وجاء موسى واثقًا بنصر الله، متوكلاً عليه، مطمئن القلب، وقال لهم: وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ، فوقع النزاع والخصام بينهم وتفرقت كلمتهم.
وبدأ السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم، فمن شدة سحرهم وقوته أوجس في نفسه خيفة موسى، فأوحى الله إليه بما طمأن قلبه، وأمره أن يلقي العصا فألقاها: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. فظهر نصر الله سبحانه، وآمن السحرة وسجدوا لله، وهزم فرعون وقومه، فتهدد فرعون السحرة وتوعدهم، فآثروا ما عند الله.
وما زال فرعون في طغيانه مستخفًا بقومه وهم مطيعون له حتى كان في ليلة من الليالي في مثل هذا الشهر، وفي مثل هذا الأسبوع، أوحى الله إلى موسى أن يخرج بقومه من مصر ليلاً متجهًا إلى البحر الأحمر، فعلم فرعون فأرسل في أهل مصر فأخرجهم جميعًا، ولحق بموسى فأدركهم عند البحر الأحمر، فلما رآهم قوم موسى قالوا لموسى: إنا لمدركون، البحر أمامنا، وفرعون وقومه خلفنا، قال لهم موسى وهو واثق بالله: كَلاَ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: سيدلني على ما فيه النجاة، فأوحى الله إليه: أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ، فضربه فجعله الله اثني عشر طريقًا، فدخل موسى وقومه وتبعهم فرعون وقومه، فخرج قوم موسى وأوحى الله إلى البحر فانطبق على فرعون وقومه.
وأورث الله بلادهم وأملاكهم لموسى وقومه، كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ، وجعل الله عليهم العذاب من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة، وفي يوم القيامة يشتد عذابهم، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
عباد الله، صبر نبي الله موسى صبرًا عظيمًا حتى نصره الله، ولما أوذي نبينا محمد قال: ((رحم الله موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) ، وهكذا عاقبة المتقين الصابرين، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ، فاتخذوا ـ أيها المسلمون ـ منهم قدوة ومن صبرهم مثلاً.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وعد بالزيادة لمن شكر، والعذاب الشديد لمن كفر، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عز سلطانه فقهر، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خير البشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر.
أما بعد: اتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه وكثرة الطاعات، واشكروه على نعمه جميعًا، فبالشكر تدوم النعم.
وإن هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا فنجى موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه لنعمة عظمى تستوجب الشكر، وإن أحق الناس بموسى المؤمنون من هذه الأمة، ولهذا لما قدم النبي المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من شهر الله المحرم، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، نجى الله فيه موسى وقومه من عدوهم، فقال الرسول : ((أنا أحق بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه، وقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) ، ثم أمر بعد ذلك بمخالفة اليهود بأن يصام معه التاسع، وهو أفضل، أو الحادي عشر، وإن صام الإنسان الأيام الثلاثة ونواها مع ذلك أنها ثلاثة من شهر المحرم فلا حرج.
اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، وأعذنا من كيد الشيطان ونزغاته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5364)
فضل عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العمل في عشر ذي الحجة. 2- مشروعية صيام عشر ذي الحجة. 3- الحث على الإكثار من ذكر الله في هذه العشر. 4- فضل يوم عرفة. 5- فضل يوم النحر. 6- فضل أيام التشريق. 7- الحكمة من النهي عن صيام أيام التشريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممر، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسم عظيمة، تضاعف فيها الحسنات، وتكفر فيها السيئات.
ومن هذه المواسم شهر ذي الحجة، فقد جمع الله فيه من الفضائل ونوّع فيه من الطاعات ما لا يخفى إلا على أهل الغفلة والإعراض، ففي أوله العشر المباركة التي نوه الله بها في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ، فإن المراد بها عشر ذي الحجة، فقد أقسم الله بها تعظيمًا لشأنها وتنبيهًا على فضلها، وروى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)).
فدل هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء، وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله، إلا جهادًا واحدًا، وهو جهاد من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء، فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في هذه العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في هذه العشر أفضل وأحب إلى الله منها.
وقد شرع الله لعباده صيام هذه الأيام ما عدا اليوم العاشر وهو يوم النحر. ومما يشرع في هذه الأيام الإكثار من ذكر الله ولا سيما التكبير، قال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ، والأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء، وأما الأيام المعدودات فهي أيام التشريق.
فيستحب الإكثار من ذكر الله في هذه العشر المباركة من التهليل والتكبير والتحميد، وأن يجهر بذلك في الأسواق، فقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. وهذا من رحمة الله بعباده، فإنه لما كان ليس كل واحد يقدر على الحج جعل موسم العشر مشتركًا بين الحجاج وغيرهم، فمن لم يقدر على الحج فإنه يقدر على أن يعمل في العشر عملاً يفضل على الجهاد.
وفي هذه العشر المباركة يوم عرفة الذي يكفر صومه السنة الماضية والسنة المقبلة، ففي الحديث عن أبي قتادة أن النبي قال: ((صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله)) رواه مسلم. فيستحب صيامه لغير الحاج، أما الحاج فلا يصومه لأجل أن يتقوى على الوقوف وذكر الله تعالى، وهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة)) ، وروى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر عن النبي : ((ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة)).
وروى مالك في الموطأ أن النبي قال: ((ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام)) ، وروى الترمذي: ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
وفي هذا الشهر المبارك يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، يكمل فيه المسلمون حجهم الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام بعدما وقفوا في عرفة، وأدوا الركن الأعظم من أركان الحج، وحصلوا على العتق من النار، من حج ومن لم يحج من المسلمين، فصار اليوم الذي يلي عرفة عيدًا لأهل الإسلام جميعًا لاشتراكهم في العتق من النار.
وشرع لهم فيه ذبح القرابين من هدي وأضاحي، والحجاج يستكملون مناسك حجهم في هذا اليوم المبارك من الرمي والحلق والتقصير والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، وأهل الأمصار في هذا اليوم يؤدون صلاة العيد لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الشهر المبارك أيام التشريق التي هي أيام منى، روى مسلم في صحيحه من حديث نبيشة الهذلي أن النبي قال: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) ، والأيام المعدودات التي قال الله تعالى فيها: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وقد أمر الله بذكره في هذه الأيام المعدودات، وذكرُ الله في هذه الأيام أنواع متعددة، منها ذكر الله عز وجل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير المقيد في أدبارها، ومنها ذكره بالتسمية والتكبير عند ذبح النسك، ومنها ذكر الله عز وجل على الأكل والشرب، فأيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله، فإنه يسمي الله عند بداية أكله وشربه، ويحمده عند نهايتهما، ومنها ذكر الله تعالى بالتكبير عند رمي الجمار.
وبالجملة فشهر ذي الحجة قد تنوعت فيه الفضائل والخيرات التي أعظمها إيقاع الحج فيه إلى بيت الله الحرام، وهو من الأشهر الحرم، حرم الله القتال فيها لوقوع الحج فيه، فاشكروا الله ـ أيها المسلمون ـ على هذه النعمة العظيمة، واغتنموا خيرات هذا الشهر، ولا تكونوا من الغافلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار، المهاجرين منهم والأنصار، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه يحرم صيام أيام التشريق، قال النبي : ((أيام منى أيام أكل وشرب)) رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري.
وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكل والشرب فيها حكمة بالغة، وذلك أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الحجاج من مشاق السفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل من لحوم نسكهم، فهم في ضيافة الله عز وجل.
ويشاركهم أهل الأمصار غير الحجاج في ذلك؛ لأنهم شاركوهم في صيامهم عشر ذي الحجة وفي الذكر والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، فاشترك الجميع بالعيد والأكل والشرب والراحة، فصار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز وجل. وفي هذه الأيام يأكلون من رزقه، ويشكرونه على فضله، ونُهوا عن صيام هذه الأيام من أجل ذلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واشكروه على نعمه.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
(1/5365)
وصايا في عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأزمنة والأمكنة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الغفلة. 2- الحث على الإكثار من قراءة القرآن. 3- فضل يوم عرفة. 4- فضل يوم النحر. 5- حكم صلاة العيد وشيء من أحكامها وآدابها. 6- من أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فمن يتق الله يجعل له مخرجًا، اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، تمضي الأيام وتنقضي ونحن عنها غافلون، وعن الاستعداد ليوم المعاد لاهون، فهل نحن في هذه الحياة معمرون، أم نحن أبد الآباد خالدون؟! إن ضعفنا في العبادة وتكاسلنا عنها يدل على خلل في أنفسنا، لا بد من علاجه ومداواته، وإن القرآن لهو شفاء المؤمنين ورحمتهم، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا.
والقرآن هو الروح التي تحيا بها القلوب وتستعيد نشاطها به، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ، فأكثروا من قراءة القرآن ولا سيما في مثل هذه العشر المباركة؛ لعلكم أن تنالوا فضل آخرها، وتسعدوا بها في دنياكم وأخراكم.
عباد الله، ها هي أيام العشر قد أوشكت على الانتهاء، فماذا قدمنا فيها لأنفسنا؟! إن الله شرع في هذه العشر أعمالاً عظيمةً لا تجتمع في غيرها من أيام العام، والله قد فاضل بين الأيام لينشط المؤمن على العمل الصالح كلما زاد الفتور، جاء الزمان الفاضل، فينشط لعبادة ربه، ويتقوى على طاعته.
أيها المسلمون، إن في هذه الأيام العشر يومين هما أعظم أيامها وأشرفها وأجلها عند الله عز وجل، شرع فيها ما يشرع في بقية العشر من العمل الصالح.
أولها: يوم عرفة، صيامه يكفر سنتين: السنة الماضية والقادمة، والعمل الصالح فيه أحب العمل إلى الله، فأكثروا فيه من الذكر والصدقة والمعروف، واحذروا التفريط فيه، فإنكم لا تدرون أيعود مرة أخرى عليكم أم لا، والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاقل من استغرق أيامه في طاعة الله سبحانه.
وثاني هذه الأيام: يوم النحر، يوم الحج الأكبر، الذي يكمل المسلمون فيه حجهم، ويتقربون إلى الله بذبح قرابينهم، والتقرب إلى الله بصلاة العيد وذبح الأضاحي.
عباد الله، لا بد للمسلم أن يتنبه لعدد من الأمور في يوم العيد:
أولها: أن صلاة العيد واجبة، كما أفتى بذلك عدد من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لقول الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، ولأن النبي أمر النساء بالخروج إلى الصلاة حتى الحيّض، لكن يعتزلن المصلى، أمرهن بالخروج مع أن غير صلاة العيد بيوتهن خير لهن.
ووقت صلاة العيد بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، ويسن تعجيلها، ويسن صلاتها خارج البلد، إلا إن وجد عذر من مطر أو برد أو نحو ذلك لفعل النبي.
ومن دخل المسجد لصلاة العيد فالسنة له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين، يبين فيهما أحكام الأضحية وشروط الأضاحي، ويحث الناس على تقوى الله والتزام أمره واجتناب نهيه، ولا يجب حضور الخطبة، فمن شاء جلس ومن شاء ذهب؛ لترخيص النبي.
ومن أحكام العيد أنه يسن للإنسان أن يتنظف ويغتسل ويلبس أحسن ثيابه ويتطيب، ويمشي إليها بسكينة ووقار، ويكثر من ذكر الله وشكره وتعظيمه، ويتذكر بهذا اليوم يوم الحشر الأعظم إلى الله، فيحدث له ذلة وانكسارًا والتجاءً إلى الله سبحانه.
ومن أحكام الأضاحي أن لا يضحّي الإنسان إلا بعد الصلاة، لقوله : ((من ذبح قبل الصلاة فليعد أخرى مكانها)) ، والأكمل أن لا يذبح إلا بعد الصلاة والخطبة؛ لفعله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل، وهدانا صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله إليه، المرجع والمآب، أنزل على رسوله السنة والكتاب، وجعل فيهما الهداية لأولي الألباب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله والأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المرجع والمآب، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن للأضحية أحكامًا ينبغي للمسلم أن يعمل بها، فمن ذلك أن من أراد الأضحية فلا يأخذ من شعره ولا أظفاره ولا جلده شيئًا، لحديث أم سلمة في صحيح مسلم: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) ، وفي لفظ: ((فلا يمس من شعره ولا بشره شيئًا حتى يضحي)) ، وإن نوى الأضحية في أثناء العشر أمسك من حين ينوي.
والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء، وأما تخصيص الأموات بالأضاحي فليس من السنة؛ لأن النبي لم يضحِّ عن أحد من أمواته بخصوصه، فلم يضحّ عن عمه حمزة، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، ولا عن زوجته خديجة، ولم يفعل ذلك أحد من أصحابه. بل ينبغي للمسلم أن يضحي عن نفسه، ويشرك فيها من شاء من الأحياء والأموات، أما الوصايا فتنفذ بمقتضى الوصية لقوله تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
عباد الله، أكثروا من التهليل والتكبير والتحميد في هذه العشر، فإنه سنة نبيكم محمد ، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم ترحمون.
(1/5366)
خطبة عيد الأضحى
فقه
الذبائح والأطعمة
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم العيد. 2- من أحكام الأضحية. 3- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 4- شكر الله على نعمة الإسلام. 5- يسر دين الإسلام وكماله. 6- التذكير باليوم الآخر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن يومكم هذا يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، يقضي الحجاج فيه كثيرًا من مناسك الحج؛ يرمون الجمرة، وينحرون الهدي، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، فلذلك سمي يوم الحج الأكبر، ويذبح الناس فيه ضحاياهم تقربًا إلى الله سبحانه، وما عمل ابن آدم في هذا اليوم عملاً أحب إلى الله من إراقة الدم، وهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فطيبوا بها نفسًا.
واعلموا أن الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، لما فيها من إحياء السنة والأجر العظيم وموافقة ما يحبه الله سبحانه.
أيها المسلمون، الأضحية سنة مؤكدة، يكره للقادر عليها أن يتركها، بل قال بعض علماء المسلمين: إنها واجبة وإن تاركها يأثم. ولقد ضحى النبي وداوم على الأضحية عشر سنوات، وقال: ((من وجد سعة ولم يضحِّ فلا يقربن مصلانا)) ، وكان يظهرها للناس؛ لأنها شعيرة ظاهرة، ومن لم يجد الأضحية فقد ضحّى عنه النبي.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الأضحية ـ يا عباد الله ـ سنة للأحياء، ولا بأس أن يشرك الإنسان في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات، وفضل الله واسع. وإن من الحرمان ما يفعله بعض الناس من جعل الأضحية لوالديه المتوفيين، ويحرم نفسه وأهله من ثوابها، مع أن النبي لم يضحّ عن أحد من أمواته، فقد ماتت خديجة رضي الله عنها وهي أحب الناس إليه ولم يضحّ عنها أضحية مستقلة، ومات عمه حمزة ولم يضحّ عنه أضحية مستقلة. أما الوصايا فإنها يعمل بها على نص الموصي سواء أضحية أم غيرها.
ولا تجزي الأضاحي إلا من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، فتجزي الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، وللإنسان أن يشرك في أضحيته من شاء.
أيها المسلمون، إن الأضحية لا بد أن تكون موافقة لسنة النبي ، وإلا فهي مردودة على صاحبها لقوله : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). والموافق لسنته ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:
الأول: أن تبلغ السن المعتبرة شرعًا؛ خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، ونصف سنة في الضأن.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الأجزاء، وهي أربعة: العرجاء البين ضلعها فلا تعانق الصحيحة في المشي، والمريضة البين مرضها فظهرت عليها علامات المرض في أكلها أو شربها أو مشيها، والعوراء البين عورها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا تنقي. وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
الشرط الثالث: أن يذبحها في الوقت المحدد شرعًا، وهو من الفراغ من صلاة العيد إلى غروب الشمس في اليوم الثالث عشر.
والأفضل للمضحي أن ينتظر بالذبح حتى يفرغ الإمام من خطبته، ويجوز الذبح ليلاً ونهارًا، لكن النهار أفضل، ويذبح المضحي أضحيته بنفسه، فإن لم يحسن فإنه يحضر ذبحها، ويقول عند ذبحها: اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان أو فلانة، ولا يمسح ظهرها لعدم الدليل عليه من السنة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، الذكاة لها شروط لا تصح دونها، منها أن يقول عند الذبح: بسم الله، فمن لم يسمِّ فذبيحته ميتة حرام أكلها، لقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ، وقول النبي : ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)) ، وسواء تركها عمدًا أم نسيانًا فهي حرام؛ لأن الشروط لا تسقط بالنسيان. ومنها إنهار الدم، بأن يقطع الحلقوم وهو مجرى النفس، والمري وهو مجرى الطعام، والأوداج وهي مجاري الدم المحيطة بالعنق.
والسنة للمضحي أن يأكل منها ويتصدق ويهدي، وأفضل الصدقة والهدية ما كان للأقارب؛ لأنه صدقة وصلة رحم، ولا يعطي الجزار أجرته منها، وإن أعطي هدية فلا بأس.
عباد الله، هذه سنة نبيكم وشريعة ربكم، فاعملوا بها، والتزموا أوامره، واجتنبوا نواهيه، واعلموا أن العيد موسم للعودة إلى الله تعالى وترك الذنوب والآثام والالتجاء إلى ذي الجلال والإكرام وشكره على نعمه وسؤاله الزيادة والتمام.
متى يعود من لم يعد في هذه الأيام؟! ومتى يستيقظ أولو النهى والأحلام؟! أما علموا أن الدنيا دول، وأنها تتغير من ساعة إلى ساعة؟! كم إنسان أمسى غنيًا وأصبح فقيرًا! وكم من الناس كان في الدنيا ذا جاه فأصبح حقيرًا! أما في الأموات معتبر، وفي الماضين ذكرى لمن كان له سمع وبصر؟! أما كانوا بالأمس معنا، فأصبحوا رهنًا بأعمالهم؟! فماذا ينتظر المتأخرون؟! وعن أي شيء يبحث الباقون؟! أليس الله يقول في القرآن: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ؟! ولكن المؤمن يرجو ويخاف، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، وسلعة الله غالية، وهي الجنة، فاعملوا صالحًا، وأبشروا وأملوا، ومن حفظ الله حفظه الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واشكروه على نعمه، وأجلها نعمة الإسلام ويسره، أكمل الله الدين، وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ، يسر لا مشقة فيه، رفع الله عنا الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، وأعطانا من الأجر ما لم يعطه أحدًا من العالمين. دين كامل، جعله الله مهيمنًا على الشرائع السابقة، وحاكمًا عليها، لم يترك خيرًا إلا أمر به، ولا شرًا إلا حذر منه، فلله الحمد والمنة.
أمر بصلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى الناس جميعًا قريبهم وبعيدهم: ((إن الله محسن يحب الإحسان، وإن الله كتب الإحسان على كل شيء)).
أمر بعبادة الله وحده وترك ما سواه: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ، ورغب في العمل، وأن لا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا.
أمر بالعدل وترك الظلم: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ، ونهى عن العدوان وأكل أموال الناس بالباطل.
حفظ حقوق البشر، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، ((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)).
أوصى بالنساء خيرًا: ((اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم)) ، وإذا حفظت المرأة فرجها وصامت شهرها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها.
الله أكبر.
عباد الله، تذكروا في هذا اليوم وأنتم تجتمعون في هذا المكان العرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ، يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور، فأعدوا لذلك اليوم عدته من الإيمان والعمل الصالح، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لعلكم ترحمون.
اللهم إن هؤلاء عبادك، خرجوا استجابة لأمرك وطلبًا لرحمتك، اللهم فلا تخيب آمالهم، ولا تردهم عن بابك، ولا تحرمهم الأجر والمثوبة، اللهم آتهم من خير ما سألوا، وجنبهم ما خافوا، وأعذهم من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/5367)
استغاثة
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
فريح بن محمد الفريح
الذيبية
جامع بلدة السمار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قلة الأمطار. 2- الحث على التوبة والاستغفار. 3- مشروعية صلاة الاستسقاء. 4- أهمية الصدق والإخلاص في الدعاء. 5- حال المسلمين في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واحذروا عقابه، وحاسبوا أنفسكم، وتوبوا من ذنوبكم، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
عباد الله، إننا في هذا العام نشكو من امتناع المطر الذي به حياتنا وحياة مواشينا وزروعنا وأشجارنا، فتذكروا أنه ما حبس عنا إلا بذنوبنا، وأن الله غني كريم، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ.
وقد أمر الله عند انحباس المطر بالاستغفار من الذنوب التي هي السبب في منعه، فقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ، وقال تعالى على لسان هود: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ.
وقد شرع لنا نبينا محمد صلاة الاستسقاء عند انحباس المطر؛ ليرجع الناس إلى ربهم ويتوبوا إليه.
وليس الاستغفار مجرد لفظ يردد على اللسان، وليست صلاة الاستسقاء مجرد عادة تفعل في الأوطان، وإنما هي توبة وندم وعبادة وخضوع لرب العالمين وتحول من حالة فساد إلى حالة صلاح، فلا بد أن تكون حال المسلمين بعد صلاة الاستسقاء أحسن من حالهم قبلها إذا كانوا صادقين في توبتهم ومعترفين بذنبوهم.
لقد كان النبي يرفع يديه في دعاء الاستسقاء فلا يحطهما إلا وقد نشأ السحاب وسالت الأودية والشعاب؛ لأنه صادق مع ربه، وكذلك خلفاؤه الراشدون وصحابته الأكرمون، كانوا يستسقون فيسقون، ويسألون فيعطون؛ لصدقهم مع الله في توبتهم ورغبتهم إلى الله في دعائهم.
استسقى النبي في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله ، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيًا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبي فقال: ((أوَقد قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم)) ، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب، وأمطروا فأنعم السيل الوادي، فشرب الناس وارتووا.
ولما شكا المسلمون في المدينة إلى رسول الله قحوط المطر خرج فصلى بهم، ثم دعا الله تعالى، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)).
وعن أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله قائم يخطب، فاستقبل رسول الله قائمًا ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يغيثنا، قال: فرفع النبي يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا)) ثلاث مرات، قال أنس: فلا والله، ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سَلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله، ما رأينا الشمس سبتًا ـ أي: أسبوعًا ـ، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله يخطب فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) ، فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس.
فقد استجاب الله دعاء رسول الله في الحال بالاستسقاء والاستصحاء، كذلك هو سبحانه قريب مجيب يستجيب لعباده إذا دعوه صادقين مخلصين له الدين، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
أما إذا دعوه بألسنة كاذبة وقلوب غافلة وأفعال فاسدة وهم مصرون على الذنوب والمعاصي لا يغيرون من أحوالهم شيئًا فهؤلاء لا يستجاب لهم دعاء، قال بعض السلف: "أنتم تستبطئون نزول الغيث، وأنا أستبطئ نزول الحجارة من السماء"؛ ولذلك ترون الناس اليوم يستغيثون ويستغيثون ولا يستجاب لهم، لا لقلة في خزائن الله، ولكن لذنوبهم ومعاصيهم، أما ترون الصلاة قد أضِيعت؟! أما ترون المحرمات قد انتهكت؟! أما ترون جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد خف؟! أما ترون الأمانات قد ضيعت؟! أما ترون المعاملات قد فسدت؟! أما ترون الربا قد فشا وانتشر؟! أما ترون المعازف قد علت أصواتها في البيوت والأسواق؟! أما ترون الغيرة قد ذهبت؟! أما ترون المساجد قد هجرت فلا يرتادها إلا القليل؟! أما ترون أن الآباء قد أهملوا أولادهم والأولاد قد عقوا آباءهم؟! هل غيرنا من هذه الأمور شيئًا قبل أن نستسقي حتى يغير الله ما بنا؟!
لا نقول: إن هذه الأوصاف السيئة عمت جميع المسلمين، فهناك من عباد الله الصالحين من هم سالمون منها في أنفسهم، لكنهم لا يحاولون إصلاح غيرهم، ولا يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب استطاعتهم، والعقوبة إذا نزلت عمت الجميع، عمت العاصين لمعصيتهم، والصالحين لسكوتهم، قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) رواه النسائي بإسناد صحيح، وعن أبي الأحوص قال قرأ ابن مسعود: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا فقال: (كاد الجُعَل يعذَّب في حجره بذنب ابن آدم) رواه الحاكم. وجاء في تفسير قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللاَعِنُونَ أن الحشرات تلعن عصاة بني آدم وتقول: إننا منعنا القطر بمسيئهم. وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، أي: أصابهم الله بالجدب والقحط، وأصاب ثمارهم وغلاتهم بالآفات والعاهات؛ ليتعظوا بذلك ويتوبوا.
وها هي سنة الله لا تتبدل في عالمنا المعاصر، فكم أصابهم من احتباس الأمطار واجتياح الثمار والأمراض والمجاعات، فهل غيروا من حالهم وأصلحوا ما فسد من أعمالهم؟! هل تذكروا ذنوبهم فأصلحوا عيوبهم؟! إن الكثير والكثير في غفلة معرضون، ونخشى أن يصيبنا ما أصاب الأولين.
عباد الله، إن في تصريف الأمطار بإنزالها في بعض الأقطار وحبسها عن بعض الديار لعبرة لأولي الأبصار وعظة للعصاة والفجار، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَ كُفُورًا.
وإن القادر على منع نزول الأمطار قادر على تغوير المياه من الآبار، قال تعالى مخوفًا عباده من ذلك: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا ، وقال: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ، وقال: وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ أي: لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدائر والعيون، بل نحن الحافظون له فيها؛ ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ، أي: كما قدرنا على إنزاله فنحن القادرون على سحبه من مخازنه في الأرض وتغويره في أعماقها، فلا تستطيعون الحصول عليه مهما بذلتم في طلبه والبحث عنه حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم وحروثهم.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من هذه التهديدات، وتوبوا إلى ربكم، وادعوه أن يغيثكم ويسقيكم، فإنه قريب مجيب، يجيب من دعاه، ولا يخيّب من رجاه، وإياكم وقسوة القلوب عند نزول المصائب، فإنها سبب الهلاك والدمار، وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5368)
الإيمان بالكتب
الإيمان
الإيمان بالكتب
ماجد بن بلال شربة
الحوية
جامع الأبرار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الإيمان بالكتب. 2- ما يتضمنه الإيمان بالكتب. 3- تعريف القرآن الكريم وبيان خصائصه. 4- فضل القرآن الكريم. 5- آثار الإيمان بالكتب. 6- واجبنا نحو القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
بعد أن تكلمنا في جمع ماضية عن الإيمان بالله وربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته وتكلمنا عن الإيمان بالملائكة وأسمائهم وأوصافهم وأعمالهم نتكلم اليوم بمشيئة الله عن الركن الثالث من أركان الإيمان، ألا وهو الإيمان بالكتب.
الإيمان بالكتب ـ عباد الله ـ هو التصديق الجازم بأن لِلَّه تعالى كتبا أنزلها على رسله إلى عباده، وأن هذه الكتب كلام الله تعالى، تكلّم بها حقيقة كما يليق به سبحانه، وأن هذه الكتب فيها الحق والنور والهدى للناس في الدارين.
والإيمان بالكتب يتضمن ثلاثة أمور:
الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله حقًّا.
الثاني: الإيمان بما سمّى الله من كتبه؛ كالقرآن الكريم الذي نزل على نبينا محمد ، والتوراةِ على موسى، والإنجيل على عيسى، والصحف على إبراهيم، والزبور على داود عليهم أجمعين السلام.
الثالث: تصديق ما صح من أخبارها كأخبار القرآن.
والإيمان بالكتب أحد أركان الإيمان، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. فأمر الله بالإيمان به وبرسوله وبالكتاب الذي نزّل على رسوله وهو القرآن، كما أمر بالإيمان بالكتب المنزلة من قبل القرآن. وقال عن الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
وقد أخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد حرّفوا كتبهم، فلم تعد في صورتها التي أنزلها الله تعالى. فحرّف اليهود التوراة وبدّلوها وغيرّوها، وتلاعبوا بأحكام التوراة، قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. كما حرفّ النصارى الإنجيل، وبدّلوا أحكامه، قال تعالى عن النصارى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فليست التوراة الموجودة الآن هي التوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام، ولا الإنجيل الموجود الآن هو الإنجيل الذي أُنزل على عيسى عليه السلام.
إن التوراة والإنجيل التي في أيدي أهل الكتاب تشتمل على عقائد فاسدة وأخبار باطلة وحكايات كاذبة، فلا نصدِّق من هذه الكتب إلا ما صدّقه القرآن الكريم أو السنة الصحيحة، ونكذب ما كذّبه القرآن والسنة.
ولا يجوز للمسلم أن يقرأ في شيء منها، فعن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقال: يا رسول الله، إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب، قال: فغضب النبي وقال: ((أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟! فوالذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)).
إلا ما كان على سبيل الحكاية مما ما لم يرد تصديقه ولا تكذيبه، فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ )) الآيَةَ؛ لذا فقد فضل الله هذه الأمة كما فضل نبيها وفضل كتابها على سائر الكتب.
فقد فضل الله القرآن الكريم الذي هو كلام الله تعالى المنزّل على عبده ورسوله محمد المتعبد بتلاوته، المعجز بكل آية منه، وهو اسم لكتاب الله خاصة، ولا يسمى به شيء من سائر الكتب السماوية، هو الفرقان والكتاب والذكر والتنزيل، حفظه الله من التحريف، أنزله الله ليكون الكتاب المهيمن والرسالة الخاتمة والشريعة الباقية، رعاه عن عبث العابثين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين، محفوظ منذ اللحظة الأولى لنزوله وحتى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا زيادة فيه ولا نقصان، منقول بالتواتر، لم يختلف في عصر من العصور في سورة ولا آية ولا في كلمة واحدة منه، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42]، عجز المشركين عن أن يأتوا بآية مثله، فضلا عن سورة، فضلا عن أن يأتوا بمثله، ما أخبر عن أمر إلا وقع كفلق الصبح، قال تعالى: غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 2، 3] وقال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1]، وقال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
وهو حبل الله المتين والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الترداد. راحة النفس وطمأنينتها، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]. شفاء ورحمة للمؤمنين، وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82].
عجز عنه عدوه الوليد، فما استطاع أن يَكذِب عليه لما سئل عنه، فقال عنه لما سمعه من النبي غضّا طريًا: "وماذا أقول؟! فوَالله، ما من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لِقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته" رواه الحاكم والبيهقي.
خصه الله بمزايا كثيرة وخصائص متعددة ينفرد بها عن الكتب السماوية السابقة، منها:
1- أن القرآن الكريم قد تضّمن خلاصة الأحكام الإلهية، وجاء مؤيِّدا ومصِّدقا لما جاء في الكتب السابقة من الأمر بعبادة الله وحده، وناسخا لجميع الشرائع قبله، قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.
2- أن هذا القرآن العظيم يجب على جميع الناس التمسك به، ويتعيّن على جميع الخلق اتباع القرآن والعمل به، بخلاف الكتب السابقة فهي لأقوام معينين، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.
3- أن الله تعالى قد تكفّل بحفظ القرآن الكريم، فلم تمتد إليه يد التحريف، ولا تمتد إليه، كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
فضائله كثيرة شتى لا تنتهي، قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ، وقال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) ، وقال: ((إنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه)) ، وقال: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) ، وقال: ((الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) ، وقال عن البقرة وآل عمران: ((يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن أصحابهما)) ، وقال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) ، وقال عن سورة الملك: ((شفعت لرجل حتى غفر له وهي)) ، وقال: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)) وقال: ((قل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق ما تعوذ متعوّذ بمثلهما)) ، وهذا غيض من فيض، قال تعالى: لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول ما تَسمَعون، وأستغفِر الله لي ولَكم ولجميع المسلِمين من كلّ ذنب فاستَغفروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن للإيمان بالكتب السماوية آثارًا متعددة، منها:
1- عناية الله تعالى بعباده وكمال رحمته، حيث أن لكل قوم كتابا يهديهم به، ويحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
2- العلم بحكمة الله تعالى في شرعه، حيث شَرَع لكل قوم ما يناسب أحوالهم ويلائم أشخاصهم، كما قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.
3- شكر نعمة الله في إنزال تلك الكتب، فهذه الكتب نور وهدى في الدنيا والآخرة، ومن ثم فيتعيّن شكر الله على هذه النعم العظيمة.
إذا عرفنا كذلك بعض المزايا العظيمة والخصائص الفريدة لهذه الأمة بتخصيصها بهذا القرآن الكريم فما واجبنا نحو القرآن؟
يجب علينا محبة القرآن وتعظيم قدره واحترامه؛ إذ هو كلام الخالق عز وجل، فهو أصدق الكلام وأفضله، ويعظم الكلام بعظم قائله، فالقرآن هو كلام الله العظيم المتعال: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21].
ويجب علينا أن نقتطع له من أوقاتنا جزءا لتلاوته وقراءته، وأن نتدّبر آيات القرآن سوره، وأن نتفكر في مواعظ القرآن وأخباره وقصصه، وأن لا نكون كمن قيل فيهم: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30].
ويجب علينا اتباع أحكامه والطاعة لأوامره وآدابه. سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي فقالت: كان خلقه القرآن. ومعنى الحديث: أن الرسول هو التطبيق العملي لأحكام القرآن وشرائعه، فقد حقق كمال الاتباع لهدي القرآن، ومن ثمّ يتعيّن علينا الاقتداء برسول الله ، فهو القدوة الحسنة لكل واحد منا، كما قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا.
اللَّهُمَّ إِنِّا عَبْيدُكَ بْنُو عَبْادِكَ بْنُو إَماَئِكَ، نَواصِيَِنا بِيَدِكَ، مَاضٍ فِينا، حُكْمُكَ عَدْلٌ فينا قَضَاؤُكَ، نسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْوبِنا، وَنُورَ صَدْورِنا، وَجِلاءَ أحزانِنا وَذَهَابَ همومنا...
(1/5369)
أدعياء عمل المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
أحمد بن حسين الفقيهي
الرياض
5/4/1427
جامع الإحسان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة التنبه لما يكاد للمرأة المسلمة. 2- تلبيس دعاة عمل المرأة. 3- بداية المؤامرة على المرأة المسلمة. 4- أهداف دعاة توظيف المرأة. 5- وسائل دعاة عمل المرأة في إخراج المرأة المسلمة. 6- مفاسد خروج المرأة للعمل واختلاطها بالرجال. 7- كلمة للمفتي العام في التحذير من دعوات عمل المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن أهل العقل والعلم والنظر المتوازن ليسوا بمغرمين ولا بمبالغين في تصوير أن وراء كل حدث مؤامرة، وليسوا بالمتوهِّمين أن وراء كل قرار تآمرًا، لكنهم في الوقت ذاته لن يكونوا من أولئك الذين يسلمون القياد ويرخون الزمام لتقودهم أفكار فاسدة أو تضلّهم دعوات ماكرة أو أن يسيروا خلف كل ناعقة.
كم تحدث المتحدثون عن حقوق المرأة وعملها، وكم اجتمعوا من أجل بطالتها، وكم قرّروا لأجل إنقاذها وإخراجها من معاناتها، وهذه كلها كلمات جميلة ودعوات بريئة، كل يتمنى تحقيقها، ولكن هل الواقع هو ما يعلن عنه أولئك؟!
عباد الله، إن المرأة في بلادنا مستهدفة، تصبح وتنام على خطوات عملية تصحبها حملة إعلامية مكثفة، هدفها إخراج المرأة من بيتها ولو بلا هدف، والغاية أن تتجرد من حيائها وحجابها؛ لتصبح ألعوبة بأيديهم وأداة لتحقيق مآربهم.
لقد كانت بداية هذه المؤامرة على المرأة من قبل أعداء الإسلام من غير المسلمين، ثم جنّدوا لها من هذه الأمة من فقَدَ اعتزازه بعقيدته وتمسكه بدينه وانتماءه لأمته. يقول المنصّر زويمر: "إن خبرة الصيادين تعرف أن الفيلة لا يقودها إلى سجن الصياد الماكر إلا فيل عميل أتقن تدريبه".
عباد الله، إن من يقف وراء هذه الدعوات والمؤامرات على بنات المسلمين هم أصحاب الشهوات ودعاة الرذيلة والسفور من العلمانيين والمنافقين وعملاء الغرب الذين أنبتوهم في بلاد المسلمين. إن أدعياء حقوق المرأة يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، ويتكلمون بما لا يعتقدون، هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
عباد الله، إن بعض أدعياء توظيف المرأة يريد من دعوته تلك تحقيق عدد من الأهداف، من أهمها خروج المرأة من بيتها وتنكّرها لفطرتها؛ لأنهم يعلمون أن مجرد خروج المرأة من بيتها لغير حاجتها هو اجتراء منها على أمر الله سبحانه وتعالى لها ولغيرها من بنات جنسها بالقرار في بيتها، حيث يقول سبحانه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33].
ومن أغراضهم في خروج المرأة للعمل الافتتان بها ومن ثم فسادها وانحرافها، إنهم يعلمون مَيلَ الرجل إلى المرأة وافتتانه بها، وخروج المرأة من بيتها واحتكاكها بالرجل تعريض له للفتنة، ولقد صدق القائل:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
وأصدق من قول الشاعر تحذير النبي من فتنة النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)). بل لقد كانت المرأة هي أول فتنة لبعض الأمم السابقة، قال : ((فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
عباد الله، إن المرأة حين تتنكر لأمر الله تعالى بالقرار في بيتها وتخرج للعمل في بيئة مختلطة أو قابلة للاختلاط أو تعمل في عمل لا يتلاءم مع فطرتها لهي تفتح عليها بابًا من أبواب الفساد والانحراف، وهذا هو ما يرجوه أدعياء توظيف المرأة؛ لأن فساد المرأة ليس مقصورًا عليها فقط، بل فسادها فساد للأسرة التي تعيش فيها، وفساد للجيل الذي تتولى تربيته، وفساد لبيئة العمل التي تعمل فيها.
عباد الله، ومن أهداف أدعياء توظيف المرأة انهيار الأمم وسقوط الحضارات، لقد عد بعض العقلاء خروج المرأة من بيتها للعمل سببًا في سقوط الأمم، ومثلوا لذلك بالحضارة الرومانية، حيث كن النساء عند الرومانيين محباتٍ للعمل مثل محبة الرجال له، يقتحمون غمرات الحروب، وكان أهم أعمال النساء بعد تدبير المنزل الغزل وشغل الصوف، ثم دعاهم بعد ذلك داعي الهوى والترف إلى إخراج النساء من خدورهن ليحضرن مجالس الأنس والطرب، فخرجن كخروج الفؤاد من بين الأضالع، فتمكن الرجل من إفساد أخلاقهن وتدنيس طهارتهن وهتك حيائهن حتى صرن يحضرن المراقص ويغنين في المنتديات، وساد سلطانهن حتى صار لهن الصوت الأول في تعيين رجال السياسة وخلعهم، فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحال حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري.
عباد الله، ومن أهم أهداف أدعياء توظيف المرأة هو تنفيذ مخططات أوليائهم من الغرب، فها هي إحدى الصليبيات تقول: "ليس هناك لهدم الإسلام أقصر مسافة من خروج المرأة سافرة متبرجة".
عباد الله، وأما وسائل أدعياء توظيف المرأة في تحقيق أهدافهم فكثيرة، ومن أهمها البكاء والحزن على الأعداد الفقيرة من النساء اللاتي لا عمل لهن في بيوتهن، فبطالة المرأة وعدم إنتاجيتها وجلوسها معطلة في البيت سبب من أسباب دعوتها للخروج إلى الوظيفة.
ومن وسائلهم كذلك تسخير الإعلام من صحافة وقنوات ومجلات لإبراز النساء اللاتي يشتكين من مكثهن في المنازل بغير وظائف، ثم بعد أيام يخرج ذلك الإعلام صورًا لأولئك النساء وهن في وظائف مستقلة بلباسهن المحتشم؛ حتى تقنع المرأة الرافضة للوظيفة بنقاء مقاصدهم وسلامة أهدافهم، والله يشهد إنهم لكاذبون.
إن هؤلاء المفسدين ينهجون في سبيل تحقيق مآربهم نهج إمامهم الأول إبليس؛ إذ ما كان من إبليس إلا أن زيّن وأخفى عن الوالدين الحقيقةَ وألبس الحقّ لباس الباطل والباطل لباس الحقّ وزيادة، حيث أقسم لآدم وزوجه أنه لهما من الناصحين، وهكذا أتباعه في هذا الزمن ينزعون إلى الفساد بخطوات وأهداف لا يشكّ عاقل في نبلها، ولكنهم يحملون خلفها من الأهداف الدنيئة ما الله به عليم.
يقول أحد المفكرين الإسلاميين عن بلاده التي كانت تنعم بالحجاب سابقًا: "كانت الطالبات مستقلاّت عن الطلبة، وكنّ يأتين إلى المدارس ويرجعن مع آبائهن، ثم بدأ الاختلاط بدعوى نقص المدرِّسات، فخلطوا صغار الطالبات مع الطلبة، ثم خلطوا المرحلة المتوسطة ثم الثانوية تدريجيا، وتساهل الناس بتقبّل ذلك، ثم بدأ التغيير في الحجاب بألوان العباءات ورفع مستواها على الجسم وكشف للوجه ثم جزء من الرأس حتى ألغي الحجاب تماما" انتهى كلامه رحمه الله.
يا غافلا وله في الدهرِ موعظة إن كنت في سنة فالدهرُ يقظان
عباد الله، الحديث عن نتائج إخراج المرأة من بيتها يطول، فحدث عن إهمال البيت والزوج والأولاد ولا حرج، وحدث عن طلاق المرأة وتقليلها النّسل لأجل الوظيفة ولا حرج، وحدِّث عن تربية الخادمات والحاضنات لأبناء المسلمين ولا حرج.
وهاكم ـ أيها المسلمون ـ بعض الأرقام التي تتحدّث عن نتائج دعوة المرأة إلى ترك بيتها والخروج منه:
في دراسة أجريت على مجموعة من العاملات تقول: 84 في المائة من العاملات يقلن: إن خروجهن للوظيفة سبب إهمال الزوجة لزوجها وعدم إعطائه حقوقه. وفي استفتاء أجري بفرنسا على مليونين ونصف المليون فتاة أبدى 90 في المائة منهن الرغبة في العودة إلى البيت لتجنّب التوتر الدائم بسبب الوظيفة مع أزواجهن.
أما ما يترتب على إهمال المرأة العاملة زوجها فقد أجريت دراسة على 200 ممرّضة سعودية، كانت النتيجة كالآتي: 62 في المائة من الممرضات السعوديات عوانس، و25 في المائة مطلَّقات بسبب ظروف العمل، و12 في المائة متزوِّجات، و32 في المائة يرفضن الزواج.
ومما له تعلق بما سبق أجرى مكتب التوظيف النسويّ في إحدى مدن المملكة إحصائية عن نسبة العوانس بين العاملات فكانت النتيجة أن أكثر من نصف عدَد العاملات عوانس.
ومن نتائج خروج المرأة للعمل كثرة استقدام الخادمات والسائقين، ففي دراسة أجريت على 90 أسرة سعودية تبيَّن أن 50 في المائة من النساء يركبن مع السائق لوحدهن بلا محرم، وذكرت إحدى الصحف المحلية أنه يوجد 750 ألف خادمة في السعودية.
أما الطامة الكبرى من خروج المرأة للعمل ـ وهو ما يريده أدعياء المرأة ـ مضايقة المرأة والتحرّش بها في مكان عملها، ففي نتائج بحث قدّم إلى مؤتمر المرأة في بكين أظهرت الدراسة أن 66 في المائة من نساء العيّنة في البحث تعرّضن للإهانة في مكان عملهن، وقد اتخذت الإهانة في 70 في المائة من هذه الحالات الطابع الجنسي، و30 في المائة من الحالات التحرّش في الكلام، و20 في المائة الغزل المباشر.
وفي دراسة حديثة أجريت في هذا العام 2006م على بعض العاملات السعوديات في القطاع الخاص، حيث أظهرت الدراسة معاناة الموظفات من التحرّش والإيذاء الذي يتعرّضن له من قبل ضعاف النفوس من الرجال الذين يبدون تودّدًا لافتًا لبعض زميلاتهم في العمل. وتشير الصحيفة إلى أن قصص التحرش الجنسي الوظيفي الخفي كثيرة، لكن الصمت والخوف من الفضائح والخجل هو الذي يمنع الضحايا من الإفصاح عما يلاقينه من تعرض وإيذاء.
نذر وربِّك بالْمصائب تنذر وخطًى على درب الْهوى تتعثّر
فتن كليل مظلم يندى لها منّا الْجبين فنارها تستسعر
ما كنت أحسبنِي أعيش لكي أرى بنت الجزيرة بالْمبادئ تسخر
جهلت بأنا أمة مَحكومة بالشرع يحرسها الإله وينصر
أختاه يا بنت الجزيرة هكذا وخنادق الباغين حولك تحفرُ
أهكذا والْملحدون تَجمعوا من حولنا والطامعون تَجمهروا
عباد الله، يا أهل النخوة، ويا أهل الكرامة، أهذا نتاج الوظيفة التي يدعو لها الداعون؟! وهل هذه الخاتمة التي يريدون إيصال بناتنا إليها؟! أين أدعياء توظيف المرأة عن هذه التصرفات؟! وأين الشروط؟! وأين الضوابط؟! وأين القرارات التي تحفظ للمرأة عفتها وحياءها بدلاً من أن تخرج الفتاة الطاهرة لتعود مدنسة بتحرشات الذئاب البشرية؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد حفظت شريعة محمد للعلماء قدرهم، حيث جعلهم النبي ورثة الأنبياء، والمولى سبحانه أمرنا في كتابه بسؤال أهل الذكر فينا، فقال سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. ولقد كان لعلمائنا في هذا البلد دور بارز في الوقوف أمام كلّ من يريد بالأمة الانحراف والفساد، وفيما يلي ـ عباد الله ـ جزء من خطبة لمعالي مفتي هذه البلاد تحدّث فيها عمّن يريدون إخراجَ المرأة من بيتها بهدف فسادها، فقال حفظه الله:
"أيتها المرأة العفيفة ذات الدين والخلق والقيم، أيتها المرأة المسلمة، تربّيتِ بين أبوين مسلمين، ونشأت على فطرة الإسلام، وتعلّمت على هدي الإسلام، ونشأت على هذا الخلق الكريم، العفة والصيانة والحشمة، والبعد عن كل ما يخالف شرع الله، هكذا أراد الإسلام لك أيتها المسلمة: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33].
هكذا المأمول من فتيات الإسلام اللواتي تربين على الهدى والأخلاق الكريمة والبعد عن مواطن الريبة والشر والفساد. هذا خلق القيم والحشمة والعفة أغاظت أعداء الإسلام، وأغاظت أعداء الشريعة، أغاظت من يريدون بهذه الأمة كيدًا ومصيبة، ومن يريدون بهذا الدين العداء والذلة، ومن يكيدون للإسلام وأهله، من لا يريدون للأمة أن تبقى على خيرها وسماتها وكرامتها، فدعوها إلى العمل بجانب الرجال، وهيئوا لها الفرص، وادَّعوا بذلك أنهم ساهموا في سعوَدَة الأمّة وأنهم وأنهم... إلى آخر ما يقولون وما يعتذرون.
وإنها لخطوات سيئة غير موفّقة، وإن الواجب على المرأة المسلمة أن لا يكون خلقها ثمنا لدنيا تأخذها، بل يكون خلقها فوق هذا كله، فهي خلقت لعبادة ربها، وخلقت لتبني فتيات وأبناء المسلمة، وخلقت لتكون مساهمة في إصلاح مجتمعها وأفراد أسرتها؛ لتقدم للأمة فتيات وأبناء صالحين مستقيمين، خلقت لتكون راعية على بيت أهلها، لم تخلق لتمازج الرجال، ولم تخلق لتجعل عوضا لعرضها وكرامتها.
إنك ـ أيتها المرأة المسلمة ـ لا تظني تلك الدعايات من مصلحتك أبدا، ولا أن قصدهم بهذا إكرامك ورفع منزلتك، ولا أن الهدف من هذا إبراز شخصيتك، ولكن الغاية يعلم الله ما وراء أولئك من مكيدة للإسلام وأهله، وحرب على القيم والفضائل التي تميّز بها المجتمع المسلم، فلا يرضى أعداء الشريعة إلا أن يجردوا هذه المرأة المسلمة من قيمها وأخلاقها، فلا تخدعنك هذه الدعاية، ولا يغرنّك هذه المكاسب المادية، ففيك من الأخلاق والقيم ما هو فوق هذه المادة كلّها، فاستقيمي على الخير، والزمي البيت والوظائف المهيّأة لك، دون الاختلاط مع الرجال بأية ذريعة كانت، فإنها طريق مشوب بالشر، وطريق سائر بالفتاة المسلمة لأن تحاكي المرأة الغربية في قيمها وأخلاقها، فتفقد الأمة كرامتها، وتفقد سمعتها، وتفقد الأمة ما تميزت به من أخلاق وقيم وفضائل.
فيا أيها المنادون بهذه الذرائع السيئة، خافوا الله في مجتمع المسلمين، واعلموا أن سعيكم ضلال، وأن خطواتكم إلى الجور والنار، وأن هذا المجتمع المسلم أمانة في أعناق المسلمين، محافظةً على أخلاقه، ومحافظة على كرامته، ومحافظة على مبادئه وقيمه.
إن المرأة المسلمة هيئت لتربي الأجيال وتعمر البيت وتساهم في الخير، لا أن يزجّ بها كل النهار وأول الليل فيما يسمى بعملها، وفيما يسمّى بأنها تبيع للنساء، وفيما يقول أولئك، والله يشهد إنهم لكاذبون، والله يعلم أن مقاصدهم سيئة.
لنتب إلى الله، ولا يغرنّك ـ أختي المسلمة ـ ما يقول هؤلاء وما ينمقون وما يكتبه الكاتبون وبعض المنحرفين في كتاباتهم، الذين يكتبون بما تمليه قلوبهم من الحقد على الدين وأهله، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد: 26].
أقلام جائرة وألسنة كاذبة، ومقالات خاطئة، سطرت بأقلامها كل ما يحارب العقيدة والقيم والأخلاق، فاتق الله أيتها المسلمة، ولا تنقادي لتلك الدعاية، ففيها هدم لكرامتك وأخلاقك ونسخ لفضيلتك وزج بك في الشبهات التي لا نهاية لها سوى الانحلال من القيم..." إلى آخر كلامه حفظه الله تعالى.
اللهم يا سامع الدعاء ودافع البلاء، يا رحمن الأرض والسماء، نسألك باسمك الله العظيم إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت أن تذلّ أعداء الدين أجمعين...
(1/5370)
قرع الأبواب
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعاء هو العبادة 2- عِظم شأن الدعاء. 3- فضائل الدعاء. 4- شروط قبول وإجابة الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فاتقوا الله عبادَ الله، فإنها وصيةُ الله إليكم وإلى من كان قبلكم إذ قال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]. وأهلُ التقوى هم خيرُ الناس، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. مَن رامَ عزًا وفلاحًا وطلب خيرًا وصلاحًا وابتغى رشدًا ونجاحًا فعليه بتقوى الله، فتقوى الله خروجٌ من المضايق ونجاةٌ من المآزق، تقوى الله أمانٌ من الرزايا وسلامةٌ من البلايا، تقوى الله عصمةٌ من الفتن ونجاةٌ من المحن.
معاشر المسلمين، لقد خلقكم الله تبارك وتعالى لهدفٍ عظيم وأمرٍ جسيم، ألا وهو تحقيقُ العبودية له سبحانه، يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. فمَن الذي خلقكم غيرُ الله؟! ومَن الذي رزقكم غيرُ الله؟! ومَن الذي يكلؤكم بالليل والنهار غيرُ الله؟!
أيها المسلمون، إن الله تعالى نوَّعَ سُبُلَ العبادات وطرقَ الخيرات، وفضَّل بعضها على بعض، وكان بعضُها أعظمَ أجرًا من بعض، وكان منها ما يجمعُ الخيرَ كله. من ذلك ما قاله مطرِّفُ بن عبد الله: "تفكرتُ في جماع الخير فإذا الخيرُ كثير، صيامٌ وصلاةٌ وغيرُها، وكلُ ذلك بيد الله، وأنت لا تقدرُ على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماعُ الخير الدعاء".
والدعاءُ نعمةٌ كبرى ومنحةٌ جُلَّى، جاد بها المولى تبارك وتعالى وامتنَّ بها على عباده، حيثُ أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة والإثابة، فشأنُ الدعاء عظيم ونفعه عميم ومكانته عاليةٌ في الدِّين، فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم بمثله؛ ذلك أنه يتضمنُ توحيدَ الله وافرادَه بالعبادة دون سواه، وهذا رأسُ الأمر وأصلُ الدين، فما أشدَّ حاجةَ العباد إلى الدعاء، بل ما أعظمَ ضرورتهم إليه، فالمسلمُ في هذه الدنيا لا يستغني عن الدعاء بحالٍ من الأحوال، بل ومن في الأرض كلهم جميعًا بأمس الحاجة للدعاء وإخلاصه لرب الأرض والسماء، ليصلوا بذلك إلى خيري الدنيا والآخرة، فإذا كان الدعاءُ بتلك المنزلة العالية والمكانة الرفيعة فما أجدر بالعبد أن يتفقه فيه، ويُلِمّ بشيء من أحكامه ولو على سبيل الإجمال، حتى يدعو ربه على بصيرةٍ وهدى، بعيدًا عن الخطأ والاعتداء، فذلك أرجى لقبول دعائه وإجابة مسألته.
وإن عبدًا يجيدُ فنَّ الدعاء حريٌ أن لا يهتمّ ولا يغتمّ ولا يقلق، كلُ الحبال تتصرمُ إلا حبله، وكلُ الأبواب توصدُ إلا بابه، وهو قريبٌ سميعٌ مجيب، يجيبُ المضطر إذا دعاه، يأمرك وأنت الفقيرُ الضعيفُ المحتاج وهو الغني القوي الواحد بأن تدعوه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
أيها المسلمون، إن دعاء الله عز وجل إما أن يكون دعاءَ مسألة، وإما أن يكون دعاءَ عبادة، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "كلُ ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير الله والثناء على الداعين يتناولُ دعاءَ المسألة ودعاء العبادة، وهذه قاعدةٌ نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخولَ جميع العبادات في الدعاء، وهذا خطأٌ جرَّهم إلى ما هو شرٌ منه، فإن الآيات صريحةٌ في شموله لدعاء المسألة والعبادة".
ودعاءُ المسألة: أن يطلب الداعي من الله تعالى ما يحتاجه وينفعه وما يكشف عنه ضرره وبلواه؛ كأن يقول: اللهم أعطني وأكرمني وارحمني واغفر لي. وأما دعاءُ العبادة: فهو شاملٌ لجميع القربات الظاهرة والباطنة من صلاة وصيام وحج وغير ذلك.
وللدعاء ـ عبادَ الله ـ فضائلُ عظيمة وثمراتٌ جليلة وأسرارٌ بديعةٌ عجيبة، فمن ذلك:
1- أن الدعاءَ طاعةٌ لله تعالى وامتثالٌ لأمره عز وجل، فقد أمرَ بذلك عبادَه بأن يدعوه ويطلبوا منه حوائجهم ويسألوه مقاصدهم ويرفعوا أكفهم إليه، ووعدهم أن يجيبهم ويعطيهم سؤلهم ويدفع عنهم ما يضرهم، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [الزمر: 60]، وقال تعالى: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29]. فمَن دعاه فقد أطاعَ اللهَ واستجابَ لأمرِ مولاه.
2- أن الدعاءَ سلامةٌ من الكبر؛ لأن الذي لا يدعو الله متكبرٌ متغطرسٌ، متعالٍ على الله تعالى، مظهرٌ الغنى وعدم الحاجة لربه جل وعلا، ولهذا قال في الآية السابقة: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي أي: دعائي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ، فالدعاءُ تواضعٌ لله وتذللٌ له سبحانه.
3- الدعاءُ أكرمُ شيء على الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ليس شيء أكرمَ على الله عز وجل من الدعاء)) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
4- الدعاءُ محبوبٌ لله تعالى، فيحبُ من عبده أن يدعوه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحبُ أن يُسأل)) رواه الترمذي وضعفه، ومعناه صحيح وله شواهد.
5- أن الدعاءَ سببٌ لانشراح الصدر وتفريج الهموم وزوال الغموم وتيسير الأمور، دخل النبيُ المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلاً من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال النبيُ : ((ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) قال: همومٌ لزمتني وديونٌ أثقلتني يارسولَ الله، فقال: ((أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهبَ الله همك وقضى دينك؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذُ بك من الهم والحزن، وأعوذُ بك من العجز والكسل، وأعوذُ بك من الجبن والبخل، وأعوذُ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال)) ، قال: ففعلتُ ذلك فأذهبَ الله همي وغمي وقضى ديني. رواه أبو داود
6- أن الدعاءَ سببٌ لدفع غضب الله تبارك وتعالى، فقد صحّ عن رسول الله أنه قال: ((من لم يسأل اللهَ يغضب عليه)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وذلك أن العباد فقراءُ محتاجون إلى الله مهما كان لبعضهم مالٌ ومنصبٌ وجاه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15].
7- الدعاءُ دليلٌ على التوكل على الله والاستعانة به وتفويضُ الأمر إليه.
8- الدعاءُ دليلٌ على كبر النفس وعلو الهمة، فعلم الداعي أن الخلقَ ضعفاءُ فقراءُ وأن الذي بيده مقاليدُ الأمور يصرفها كيف يشاء وبيده قلوبُ العباد يقلبها متى يشاء هو الله جل جلاله، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الناس، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من منتهم، وهذا رأسُ الفلاح وأسُّ النجاح.
9- الدعاءُ سلامةٌ من العجز ودليلٌ على الكياسة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((أعجزُ الناس من عجز عن الدعاء، وأبخلُ الناس من بخل بالسلام)) رواه ابن حبان وقال الألباني: "صحيح".
10- أن الدعاءَ ثمرته مضمونةٌ بإذن الله تعالى إذا جاء العبدُ بشرائطه.، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من مسلم يدعو ليس بإثم ولا بقطيعة ِرحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها))، قال: إذًا نُكثر؟ قال: ((اللهُ أكثر)) رواه البخاري في الأدب المفرد وقال الألباني: "صحيح".
11- الدعاءُ سببٌ لدفع البلاء قبل نزوله ورفعه بعد نزوله، قال : ((لا يردُّ القدرَ إلا الدعاء)) رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني، وقال : ((لا يغني حذرٌ من قدر، والدعاءُ ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاءَ ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)) أخرجه الطبراني وحسنه الألباني.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة. أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، من أجل أن يجيب الله دعاء الداعين ويعطي سؤل السائلين لا بد أن تتحقق الشروط، فإذا تمت أجاب الله الدعاء ورفع البلاء ودفع القضاء، فمنها:
أولاً: أن يكون الداعي عالمًا بأن الله وحده هو القادر على إجابة دعائه، موقنٌ بذلك، ومحسنٌ بالله الظن، غير مرتاب ولا شاك، كما قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62].
ثانيًا: أن لا يسأل إلا الله ولا يستعيذ إلا بالله ولا يستغيث إلا به، فلا يجوز للعبد أن يدعو صنمًا أو ميتًا أو إنسانًا غائبًا أو عاجزًا، قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]. فلا تقل: يا بدوي، يا عبد القادر الجيلاني، يا حسن، يا حسين، يا علي. عن ابن عباس عن النبي قال: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي وغيره.
ثالثًا: أن يتوسل الداعي بالله أو بأسمائه أو بصفاته، كأن يقول: يا رحمن ارحمني، يا كريم أكرمني. قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]. أو يتوسل إلى الله بالعمل الصالح، كأن يتوسل بإيمانه بالله وبرسوله أو بحبهما، فيقول: اللهم بإيماني بك وبرسولك اغفر لي، أو بمحبتي لك واتباعي لرسولك، أو أن يذكر عملاً صالحًا أخلصه لله بين يدي دعائه مثل برِّه بوالديه أو عفافه عن الحرام أو بأمانته وصدقه مع الناس ونحو هذا. أو يتوسل بدعاء شخصٍ صالحٍ حيٍ قادرٍ حاضر، كما فعل الأعرابي حين توسل بدعاء النبي ربه أن يغيثهم، فأنزل الله المطر حتى سال على لحيته. رواه البخاري. ومن ذلك ما جاءَ من توسل الصحابة بدعاء العباس عم النبي ، وتوسل معاويةُ بدعاء الأسود بن يزيد الجرشي رحمه الله، وكذلك ما جاء في خبر أويس القَرَني صاحبِ الدعوة المستجابة لبره بأمه.
رابعًا: أن لا يستعجل الداعي بالإجابة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يستجابُ لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوتُ فلم يستجب لي)) رواه البخاري
خامسًا: أن لا يدعو بإثم أو قطيعة رحم، قال : ((يستجابُ للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحم)) رواه مسلم.
سادسًا: إطابة المأكل، كما في الحديث الذي رواه مسلم: ((إن الله طيب لا يقبلُ إلا طيبًا)) ، ثم ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: ((فأنى يستجابُ لذلك)).
سابعًا: تجنب الاعتداء في الدعاء، كأن يقول: اللهم اجعلني نبيًا، أو تقول المرأة: اللهم اجعلني رجلاً، أو أن يخلد في الدنيا، أو أن يرى الله في الدنيا، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55].
أيها المسلمون، إن التضرعَ إلى الله وإظهار الحاجة إليه والاعتراف بالافتقار إليه من أعظم عرى الإيمان، وبرهانُ ذلك الدعاءُ والالحاحُ في السؤال، فالله يحبه من عبده، ويحبُ أن ينطرح العبدُ بين يديه، وأن يتوجه بالشكوى إليه، أمر عباده بالدعاء ووعدهم بالإجابة، في الحديث القدسي الذي رواه مسلم وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه: ((قال الله تعالى: ياعبادي، كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)).
لقد غفلَ عن هذا كثيرٌ ممن قصروا نظرهم على الماديات، فكلَّت بصائرهم، وعشتْ أبصارهم عن إدراك سنن الله سبحانه وعجيب صنعه ولطيف أسراره، فلما رأى المؤمنون هؤلاء ورأوا سطوة الدنيا بأهلها وخداع الأمل لأربابه وتمكُّن الشيطانِ والانقياد لهوى النفس لجأوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، فرُّوا إلى جناب الله ولجؤوا بحماه، لقد أدركوا أن الخلائقَ فقراءَ إلى الله، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [فاطر: 3]، فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [الروم: 29]. من لم يتفضل الله عليه بالهداية والإيمان ومغفرة الذنوب فهو الهالك في الدنيا والآخرة. ولقد أدركوا فيما أدركوا أن المفزع في هذا الخضم من الحيرة والتذبذب والخوف والقلق بعد الإيمان هو الدعاءُ، السلاحُ الذي يستدفعُ به البلاء ويردُ به القضاء، وهل شيء أكرمُ على الله من الدعاء؟!
اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبردَ العيش بعد الموت، ولذةَ النظر إلى وجهك الكريم، وشوقًا إلى لقائك، من غير ضرَّاءَ مضرة، ولا فتنةٍ مضلة. اللهم إنا نسألك صحةً في إيمان، وإيمانًا في حسن خلُق، ونجاحًا يتبعه فلاح، ورحمةً منك وعافية، ومغفرةً منك ورضوانًا.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وعلى صحابته وأهل بيته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/5371)
الدجل والشعوذة
الأسرة والمجتمع, التوحيد
قضايا المجتمع, نواقض الإسلام
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
24/2/1426
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقل من الضروريات التي جاءت جميع الأديان السماوية بحفظه. 2- الغيب لا يعلمه إلا الله. 3- انتشار كثير من الدجالين والكهان والمشعوذين في العالم الإسلامي. 4- حكم إتيان الكهان والسحرة. 5- الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. 6- أسباب تدفع السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بدينكم؛ تنجوا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون، إن من أهم أسباب تكريم الإنسان واستخلافه في الأرض من المولى سبحانه ما وهبه اللهُ تعالى من عقلٍ به يعرفُ حقائقَ الأمور ويميزُ بين الحق والباطل، وبه يُفرِّقُ بين الخير والشر. والحفاظُ على العقل من الكليات التي عملت الأديانُ والشرائعُ السماوية ـ وبالخصوص خاتمتُها دينُ الإسلام ـ على حفظها، وحرَّمَ من أجل ذلك كلَ ما يمكنُ أن يجعلَ الإنسانَ يفقدُ هذا الميزان الدقيق.
ولقد جاء الإسلامُ ليحرّر الإنسان من الخرافات والأساطير التي كانت مُعَشِّشَةً في عقول الناس، حتى جعلتهم يعبدون الأصنام والأوثان، ويقدِّمون لها القرابين، ويتخذون بينهم وبين الله تعالى واسطة من الكهان والمشعوذين والدجالين ومدعي الغيب، يبتزون أموالهم ويستعبدونهم أسوأ استعباد.
ومن الأحاديث النبوية التي تعرضتْ إلى مسألة العقيدة بتوسعٍ ووضوحٍ لا يُحتاجُ معه إلى زيادة الحديثُ المعروفُ بحديث جبريل، والذي نورد منه ما يتعلق بموضوعنا: قال جبريل: أخبرني عن الإيمان؟ قال : ((الإيمانُ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)) ، قال: صدقت. متفق عليه.
فمن مقتضيات الإيمان بالله في دين الإسلام التسليمُ له سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية والتفرد الذي لا شرك معه، فاللهُ سبحانه وتعالى في عقيدة الإسلام له كلّ صفات الكمال، من ذلك اختصاصه سبحانه بعلم الغيب، يقول جل وعلا: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59]، وكذلك قوله جلّ من قائلٍ عليما: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]، وقوله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65].
فهذه الآياتُ البيناتُ وغيرُها كثير في كتاب الله العزيز كفيلةٌ بإقناع كلِ راغبٍ في الحق بأن عالِمَ الغيبِ وحده هو اللهُ سبحانه وتعالى، وهي كفيلةٌ أيضًا بإكبات وإسكات كلِ مروِّجٍ للدجل والشعوذة والكهانة، هذه الآفة التي استحوذت على عقول كثير من الناس قديمًا قبل بعثة الأنبياء، وعندما طال عليهم العهدُ في حقبٍ من تاريخ البشرية، وحديثًا عندما طغت الماديةُ الضارية، فنشأ عن ذلك خواءٌ روحيٌ رهيب، اضطر معه الإنسانُ في كثير من الأحيان إلى الارتكاس من جديد في ظلمات الجهل والجاهلية، وارتمى في أحضان المشعوذين والدجالين والكهان الكاذبين الذين وجدوا في إنسان هذا العصر وفي أكثر مجتمعاته تقدمًا وتحضرًا وتمدُنًا فريسةً انقضوا عليها ليزيدوه اضطرابًا على اضطراب وبؤسًا على بؤس.
وإذا كان غيرُ المسلمين يمكنُ أن يُعذروا إن انساقوا وراءَ تُرهات المشعوذين والدجالين بحثًا عن الخلاص والاطمئنان، فإنَّ المسلمين بما لديهم من هديٍ سماويٍ محفوظٍ لا يُقبلُ منهم مثلُ هذا التخبط، فعقيدةُ الإسلام واضحةٌ. وإذا كانت الغالبيةُ العظمى من أمةِ الإسلام ظلت متمسكةً بعرى عقيدة التوحيد الصافية النقية فإن فئامًا لا يستهانُ بهم من الأمة الإسلامية وقعت نتيجةَ الجهل بالدِّين في فخاخ هؤلاء الشرذمة الذين يدَّعون علمَ الغيب ويمتهنون الشعوذة والكهانة، ولا يمكن لنا أن ندعي أن شبح هؤلاء المخربين للدين الناشرين بين الناس الخرافة والدجل قد زال وذهب إلى غير رجعة، فكثيرٌ منهم ـ لا كثَّرهم الله ـ في أماكن عديدةٍ من البلاد الإسلامية الواسعة لا ينفكُ أحدهم يعاودُ الكرَّةَ مستغلاً نقصَ الوعي وضعفَ بعضهم أمامَ ما يعترضهم في حياتهم من مشاكلَ وصعوبات ومصائبَ وملمات، فيقدِّمون أنفسهم على أنهم مصلحون اجتماعيون ومحبّيون للخير صالحون، وهيهات لهؤلاء أن يقدروا على ذلك، فلن يزيدوا الطينَ إلا بِلة.
والناظرُ في تاريخ المجتمعات الإسلامية يرى أنها ما هانت ولا ضعفت وتخلفت وغُلبت وما دخل الاستعمارُ إلى بلدانهم إلا عندما انتشرت بين صفوف أفرادها بضاعةُ الدَّجاجلةِ والمشعوذين والكهنة والمفترين على الله الكذب، وما استطاعت أن تتحرر وتستقل إلا بعد أن خاض علماؤها ومصلحوها وزعماؤها حربًا إصلاحية على هؤلاء الدجالين المشعوذين.
واليوم ومجتمعاتُ المسلمين على مفترق طرق والعالمُ من حوله تزحفُ شعوبه تحقّقُ المنجزات في مختلف مجالات الحياة لا بُدَّ من التنبيه إلى أخطار المشعوذين والدجالين والكهنة والعرافين الذين يمكنهم أن يعرقلوا مسيرةَ تقدم المسلمين ورقيِّهم؛ بما ينشرونه من أوهام ودجل وافتراءات كاذبة، يستغلون بها عددًا كبيرًا من الجهَّال من أبناء وبنات الأمة الإسلامية. فهم يهدرون طاقاتهم ويعطلون قدراتهم عن البذل والعطاء والجد والنماء، فضلاً عما ينالون به عقيدة التوحيد السمحة التي لا تتسامح مع مثل هذا النيل من الدين الحنيف.
والمسلم المؤمن بما جاء به سيدنا محمدٌ لا يمكن أن تجتمع في قلبه عقيدة التوحيد مع التصديق بترهات الدجالين والمشعوذين، ألم يقل رسول الله في أحاديث عدة: ((ليس منَّا من تَطيَّر أو تُطيِّرَ له، أو تَكهنَ أو تُكُهِّن له، أو سَحر أو سُحِرَ له، ومن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه الطبراني والبزار وعبد الرزاق في مصنفه، وعند الطبراني: ((من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد برئَ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدِّقٍ له لم تقبل له صلاةٌ أربعين ليلة)) ، وقال أيضًا: ((من أتى كاهنًا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة، فإن صدَّقه بما قال كفر)) ، وقال: ((من أتى عرَّافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاةٌ أربعين ليلة)) رواه مسلم.
فهذه الأحاديثُ النبويةُ مع بعضها البعض وغيرُها كثير تسدُّ في مجتمع المسلمين كلَ منافذ وأبواب الكهانة والشعوذة والدجل، وتحذر المسلم من مغبة الانسياق وراء هؤلاء الضالين المضلين، وتخرج المسلم من الإسلام ومن دائرة المتبعين لهدي سيِّد الأولين والآخرين إنْ هو صدَّق كاهنًا أو منجمًا، فهؤلاء الكهنةُ والمنجمون كذَّابون مفترون على الله الكذب، وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وإنْ صادفَ أن تطابقت تكهناتهم مع الواقع فقد أخذها من القرين الذي هو مع كل إنسان، ولو كانوا يعلمون الغيب لاستكثروا من الخير وما مسهم الشر، ولكنهم قومٌ يكذبون.
ولقد تطرق القرآن الكريمُ في آياتٍ عديدة من سور مختلفة إلى مسألة السحر والسحرة، منبهًا إلى أخطارهم وشرورهم ومضرتهم، باعتبار السحر من الأوهام المخربة لعقول الناس وعلاقاتهم وأديانهم، فأصلُ السحر هو التمويهُ بالحيل والتخييل، وهو ما وقع من سحر الساحر، أشياءٌ يُخيَّلُ للمسحور أنها على خلاف ما هي عليه في الحقيقة، على غرار ما وقع من سحرة فرعون الذين ألقوا عصيَّهم لكي تصبح حيَّاتٍ تسعى، فقال جل وعلا: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه: 66].
والسحرةُ من شرار الجن يستعملون أخبث الوسائل لإلحاق الضرر بالناس، ألا إن كيد هؤلاء السحرة لا يحيقُ بإذن الله بالمؤمن المتحصن بالإيمان والذكر، المستعيذ بالله من همزات الشياطين ووسواس الموسوسين وشرّ النفاثات في العقد، وصدق الله إذ يقول: وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، إن من ينظر بعين الإنصاف والتجرد إلى حال كثير من المسلمين يرى أحوالاً تجعلُ الحليم حيران؛ يرى ويسمع أمورًا أطبق عليها الكثيرُ من الناس وأصبحت مألوفةً، مع أن بعضها قد تلجُّ بصاحبها إلى باب عظيم من أبواب الإثم والعصيان، قال ابن عقيل الحنبلي: "لو تمسَّكَ الناسُ بالشرعيات تمسَّكهم بالخرافات لاستقامت أمورهم".
وأعجب ـ أيها المسلم المعافى ـ من أناس جهال التبس عليهم حال السحرة الكذابين والمشعوذين، فتحيروا فيما يصدر من السحرة من خوارق العادات، كالطيران في الهواء والمشي على الماء وقطع المسافة الطويلة في زمن قصير والإخبار عن الغيب فيقع الخبر كذلك وشفاء المرضى، فيظن هؤلاء الجهال أن هذا الساحر من أولياء الله، وقد يؤول الأمر إلى أن يعبد من دون الله، ويرجى منه النفع والضر والعياذ بالله، فظن بعض الناس أن خوارق العادات التي تجري من السحرة والعرافين كرامات من الله، فالتبس عند الجهال حال أولياء الرحمن بحال أولياء الشيطان.
والشرع فرَّقَ بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فأولياء الله عز وجل هم الحافظون لحدود الله المتمسكون بشرعه ظاهرًا وباطنًا، الممتثلون لأوامر الله المجتنبون لنواهيه، المحافظون على صلاة الجماعة، قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].
عباد الله، ومما يدفع السحر التوكلُ على الله ودعاؤه والتحصن بالقرآن الكريم وأنواع الذكر الثابتة وكمال التوحيد والحذر من الوقوع في شَرَك الأشرار والفجار ومجانبة المفسدين الظالمين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208].
عباد الله، إن الوقاية من السحر هو بكمال التوحيد والتوكل على الله تعالى، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
والوقاية من السحر بالدعاء والاستعاذة منه، قال : ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل)) أخرجه البزار والطبراني في الأوسط.
ومن الوقاية من السحر التحصن بتلاوة القرآن وأنواع الذكر الصحيحة صباحًا ومساءً، قال : ((عليكم بسورة البقرة ، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) رواه مسلم، يعني: السحرة لا يقدرون على ضرر من قرأها وحفظها.
ومن الوقاية من السحر تحريق كتبه وقتل الإمام للسَّحَرة ورفع أمرهم إلى السلطان لكف شرهم وعظيم ضررهم عن الناس.
وإذا وقع السحر بأحد فعلاجه بإحراق مادته التي انعقد بها السحر إذا عُثر عليها وعُلمت، كما فعل النبي لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي لعنه الله، فإنه استخرج سحره من بئر ذروان في مشط ومشاطة فأحرقه. كما رواه مسلم.
وعلاج السحر بدوام الدعاء بالعافية منه، قالت عائشة لما سحر النبي : أطال ذات ليلة الدعاء ثم قال: ((يا عائشة، أشعرت أن الله أخبرني بمن سحرني وشفاني)) رواه البخاري ومسلم.
وسحرُ النبي نوعٌ من المرض لا يقدحُ في عصمته وتبليغه، ولم يتسلّط على عقله ، ولكنه نوع من الأذى من الجن، كما أوذي من الإنس، فأظهره الله على أعدائه من الجن والإنس، ونصره وعافاه من هذا المرض، والله تبارك وتعالى جعل هذا ليكون فعل الرسول تشريعًا وزيادةً في رفعة النبي وعظيم أجره.
ومما يعالج به السحر مداومةُ قراءة الفاتحة والمعوذات وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص] وآية الكرسي، فإنها تضعف سلطانه حتى يضمحل، وسواءً قرأ المسحور على نفسه أو قرأ عليه أحد الصالحين.
ولا يجوز أن يُحَلَّ السحرُ بسحرٍ مثله؛ لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حُرِّم عليها، ويجوز أن يتداوى المسحورُ من السحر بالعقاقير المباحة من الأعشاب ونحوها.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) رواه مسلم.
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرًا...
(1/5372)
الرحلة في طلب العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
7/7/1426
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم والعلماء الربانيين. 2- فضل التفقه في الدين. 3- فضل الرحلة في طلب العلم. 4- نماذج لبعضِ الجهود والرحلات التي قام بها سلفنا الصالح في سبيل طلب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ أعظمَ وخيرَ ما يُوصى به السائرون إلى الله تعالى والعاملون الذين يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا تقوى الله، فإنها وصية ُاللهِ لمن سبق من الأمم، وهي وصية ُ اللهِ لمن بعدهم أن يتقوه ويهتدوا بهداه، قال عز من قائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].
أيها المؤمنون، انشغلَ كثيرٌ من أبناء المسلمين اليوم بعلومٍ أحسنُ ما يقالُ عنها أنها من فروض الكفاية، إن لم يكن طلبُ بعضِها مكروهًا أو محرَّمًا، وبعضهم يشتغلُ بتحصيل ِعلمٍ ضرره أرجحُ من نفعه، أو بعلم العلمُ به لا ينفع والجهلُ به لا يضرّ، مع جهلهم التام والفاضح بأبجديات الإسلام وما أوجب الله عليهم معرفتَه من الإيمان باللهِ وبرسولهِ وما فرضَه اللهُ على عباده.
معاشر المسلمين، في القرآنِ العظيم والسنةِ المطهرة حثٌ على طلب العلم وبيانٌ لفضلِهِ ومكانتِهِ وعلوِ مرتبتِهِ وشرفِ حملَتِهِ والسائرين في طريقه، وبيانُ أن العلمَ المرادُ طلبُهُ والمرغوبُ فيه والمحثوثُ عليه هو العلمُ الشرعي، من معرفةِ الإيمانِ والإسلام ومعرفةِ الحلالِ والحرام والبدعةِ والسنة ونحوها، وكلُ علم يدلُّ على اللهِ تعالى ويزيدُ في الإيمان فهو علمٌ شريفٌ، يمتدحُ حامله وتُشكَرُ مساعيه.
ولقد حثَّ الربُ تبارك وتعالى على العلم والتزود منه، فقال جلَّ شأنه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 19]، فهنا أمر اللهُ سبحانه بالعلم وأوجبه قبل القول والعمل. وقال عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، فبيَّن أن المؤمنين العالمين أفضلُ وفي كلٍ خير.
ولم يأمر الله ُسبحانه وتعالى نبيَّه وخليلَه محمدًا بالاستزادةِ من شيء غيرَ العلم، فقال عز وجل: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]. ومدحَ الله ُسبحانه وتعالى العلماءَ بالعقل والفهم الصحيحين، فقال جل شأنه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43]. وأخبرَ سبحانه أنَّ استواءَ أهلِ العلم الشرعي العاملين بعلمهم مع الجهلةِ والغوغاءِ أمرٌ يستحيل، فقال جلَّ ثناؤه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]. وامتنَّ الله ُعلى رسوله محمدٍ بتعليمه له ما لم يكن يعلم من قبلُ، فقال: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]. وجعلَ الله ُ تفقهَ بعض ِالمسلمين وتخصّصهم في علوم ِالشريعة ِالمختلفة فرضَ كفايةٍ يأثمون بتركه جميعًا، فقال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122]. وقصرَ سبحانه خشيته والخوفَ منه على العلماء ِالربانيين، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ [القصص: 80]. وخصَّ الله ُالعلماءَ بالتفكرِ والتدبر، فقال: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم: 22].
ومن إكرام اللهِ تعالى واجلاله للعلماء استشهاده بهم على أجلِّ مشهودٍ به وهو توحيده، وقَرَنَ شهادتهم بشهادته وشهادةِ ملائكته الكرام، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]. فمما يستفادُ من هذه الآية: تعديلُ اللهِ تعالى لأهل العلم، فأيُّ فضيلةٍ للعلماء بعد هذا؟! وقال عز وجل في معرِضِ المدح للعلماء في سرعةِ استجابتهم وتسليمهم لله وما جاءَ عنه مما علموا صفته وكيفيته، ومما لم يعلموا يؤمنون به كما جاء من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران: 7]. وبيَّن تعالى عن المكان الذي يضعُ فيهِ آياتهِ وبيناتهِ، فقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49]، وقال عز وجل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]. قيل: إن الحكمة هي السُنَّة، وقيل: هيَ العلم.
وثمرةُ العلمِ العمل، فأسرعُ الناس إلى العمل بما عَلِم وأولاهم هم العلماءُ؛ فلذا نعى الله على قوم ٍمن أهل الكتاب أنهم أوتوا العلم ولكنهم لم ينتفعوا به، فهذا علمٌ نافعٌ ولكنَّ صاحبه لم ينتفع به، فدلَّ على أن ثمرة َالعلمِ العملُ والانتفاعُ به في الدنيا والآخرة، فقال جل ثناؤه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5]. ولقد ذمَّ الله قومًا تعلموا علمًا يضرُّهم ولا ينفعهم كما كان من السحرة،؛ تحذيرًا من مشابهتهم في تعلم ما لا ينفعُ صاحبه ولا يقرِّبُه إلى الله والدار الآخرة، قال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
أيها الأحبة، إنَّ الفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام مكرمةٌ ربانية، ومن يؤتاها يتحلى بالخيرية، ففي صحيح البخاري عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعتُ النبي يقول: ((من يُردِ الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين، وإنما أنا قاسمٌ واللهُ معطي، ولن تزالَ هذه الأمةُ على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيَ أمرُ الله)).
وبشَّرَ النبيُ طلابَ العلم ِ بالجنةِ ما داموا على طريق الطلبِ سائرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من نفَّسَ عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفَّسَ اللهُ عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّرَ على معسرٍ يسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله ُ فيمن عنده، ومن بطأَ به عمله لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم. وعن كثير بن قيس قال: كنتُ مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءَ رجلٌ فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول في حديثٍ بلغني أنك تحدثُ عن رسول الله ، قال: ما كانت لكَ حاجةٌ غيره؟ قال: لا، قال: ولا جئتَ لتجارة؟ قال: لا، قال: ولا جئتَ إلا فيه؟ قال: نعم، قال: فإني سمعتُ رسولَ الله يقول: ((من سلك طريقَ علم سهَّلَ اللهُ له طريقًا من الجنة، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتها رضًا لطالبِ العلم، وإنَّ السمواتِ والأرضَ والحوتَ في الماء لتدعو له، وإنَّ فضلَ العالم على العابد كفضلِ القمر على سائر الكواكب ليلة َالبدر، العلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍ وافر)) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه والدارمي، وصححه الحاكمُ وابنُ حبان وله شواهدُ تقويه.
وحثَّ النبيُّ الناسَ على التعلم، فعن معاوية بن أبي سفيان عن النبي قال: ((يا أيها الناسُ، تعلموا، إنما العلمُ بالتعلم، والفقهُ بالتفقه، ومن يردِ اللهُ به خيرًا يفقهه في الدين)) رواه الطبراني وابنُ أبي عاصم وقال الحافظُ ابنُ حجر: "إسناده حسن".
ودعا النبيُ بالنضارة ِوالبهاءِ في الوجه لطالب العلم، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((نضرَ الله امرأ سمعَ منَّا شيئًا فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مبلغٍ أوعى له من سامع)) رواه الترمذي وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيح". وقال الإمامُ الورعُ سفيانُ الثوري رحمه الله: "ليس عملٌ بعد الفرائض أفضلُ من طلب العلم"، وقال أيضًا: ما أعلمُ اليومَ شيئًا أفضلُ من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية.
وقال ابن القيم رحمه الله في مدح الفقهاء والعلماء: "فقهاءُ الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خُصّوا باستنباط الأحكام وعُنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم من السماء، بهم يُتهدى في الظلماء، حاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرضُ عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ [النساء: 59]، قال ابنُ عباس رضي الله عنه في إحدى الروايتين عنه وجابرُ بن عبد الله والحسنُ البصري وأبوالعالية وعطاءُ والضحاك ومجاهدُ في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر هم العلماءُ، وقال أبوهريرة رضي الله عنه: هم الأمراءُ، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس. والتحقيقُ أن الأمراءَ إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبعٌ لطاعة العلماء".
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاءً من كل داء.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسُنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشرالمسلمين، إنَّ تاريخنا الإسلامي مليء بالأمجاد وبالصفحات المشرقة لطلابِ علمٍ أهلِ فضل واجتهاد، ومن أبرز ما يميزُ تاريخنا الإسلامي جهودُ علمائنا الأماجد الذين بذلوا في سبيل العلم الأموالَ والأجالد، والذين رخُصَ عندهم في سبيل هذا الدِّين ونشره وحفظه كل طارفٍ وتالد، وقد أفنوا أعمارهم وتركوا أبناءهم وديارهم، وخرجوا بحثًا عن العلم والمعرفة والتثبت فيهما، وقد وسَمَ أهلُ العلم العلومَ الإسلاميةَ والعربيةَ بسمةٍ فريدةٍ لا نكادُ نجدها عند أمةٍ من الأمم سوى الأمة الإسلامية، وهذه السِمَةُ هي الاسنادُ وعلوّه، فلا يكادُ يُقبلُ خبرٌ من الأخبار خاصةً فيما يتعلقُ بآثار المصطفى إلا إذا أسندَ إلى العدول الثقات، وما لا يسندُ لا يعتدُّ به. قال الإمام الشافعي رحمه الله:
العلمُ ما كان فيه قال: حدثنا وما سوى ذلكَ وسواسُ الشياطينِ
ولقد سجل التاريخُ قصصًا ووقائعَ لطلابِ علمٍ أفذاذ، للهِمَم الضعيفةِ شُحّاذ، ضربوا أمثلةً كافية، ولبسوا أوسمةً غالية، وتبوؤوا في الناس منازلَ عالية، منهم موسى كليمُ الله ، رحلَ إلى الخضر عليه الصلاة والسلام، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66]. قال الخطيبُ البغدادي في كتابه الرحلةُ في طلب الحديث: "قال بعضُ أهل العلم: إن فيما عاناه موسى من الدَّأبِ والسفر والصبر عليه من التواضع والخضوع للخضر بعد معاناةِ قصده مع محلِّ موسى من الله وموضعه من كرامته وشرف نبوته دلالةٌ على ارتفاع قدر العلم وعلو منزلة أهله، وحسنِ التواضع لمن يُلتمسُ منه ويُؤخذُ عنه، ولو ارتفع عن التواضع لمخلوقٍ أحدٌ بارتفاع درجةٍ وسمو منزلةٍ لسبقَ إلى ذلك موسى، فلما أظهر الجدَّ والاجتهاد والانزعاجِ عن الوطن والحرص على الاستفادةِ مع الاعتراف بالحاجة إلى أن يصلَ من العلم إلى ما هو غائبٌ عنه دلَّ على أنه ليس في الخلق من يعلو على هذه الحال ولا يكبُرُ عنها".
ومن الرحلات رحلةُ أبي ذرٍ الغفاري رضي الله عنه من غفار إلى مكة للتثبت من أمر النبي ، فلما سمع منه وأسلم قال له النبيُ : ((يا أباذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورُنا فأقبل)) ، فقال أبو ذر: والذي بعثك بالحق، لأصرخنَّ بها بين أظهرهم، فجاءَ إلى المسجد الحرام وقريشٌ فيه فقال: يا معشر قريش، إني أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، فقاموا عليه فضربوه حتى كاد يهلك، فما أدركه سوى العباس فأكب عليه وقال: ويلكم! تقتلون رجلاً من غفار ومتجركم وممركم على غفار؟! فتركوه.
ورحل جابرُ بن عبد الله من المدينة إلى الشام مسيرةَ شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديثٍ واحدٍ سمعه من النبي يقول: ((يحشرُ الناس يوم القيامة عراةً غرلاً بهمًا)) ، قلنا: ما بهمًا؟ قال: ((ليس معهم شيء، فيناديهم ربهم بصوتٍ يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار وأحدٌ من أهل الجنة يطلبه بمظلمة)) ، قلتُ: كيف وإنما نأتي اللهَ عراةً بُهمًا؟ قال: ((بالحسنات والسيئات)).
ورحل أبو أيوبٍ الأنصاري إلى عقبة بن عامر رضي الله عنهما بمصر ليسمع منه حديث الستر على المسلم. ورحل رجلٌ من المدينة النبوية إلى أبي الدرداء في دمشق ليسمع منه حديثًا واحدًا. ورحل عقبةُ بن الحارث من مكة إلى المدينة ليسأل الرسول في شأن امرأةٍ تزوجها، فأخبرته عجوزٌ أنها أرضعته وإياها، فقال له النبيُ : ((كيف وقد قيل؟!)) ففارقها عقبة ُونكحت زوجًا غيره. وقال الحافظُ ابن حجر رحمه الله في الفتح: روى الدارمي بسندٍ صحيح عن بسر بن عبيد الله قال: إنْ كنتُ لأركبُ إلى مصرٍ من الأمصار في الحديث الواحد. وعن أبي العالية قال: كنَّا نسمعُ الحديثَ عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركبَ إليهم فنسمعه منهم.
عباد الله، هذه نماذج لبعضِ الجهود والرحلات التي قام بها سلفنا الصالح في سبيل طلب العلم والمحافظة عليه، فيها تبصرةٌ وذكرى وموعظةٌ وهدى، ومن رغبَ في حسنِ الذكرى انتهج منهجهم، وشمَّر عن ساعد الجد، وأخذ بالحزم والعزم، وترك التكاسلَ والتسويف، فبالسرى تبلغوا المنزل.
أأبيتُ سهرانَ الدجى وتبيته نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي
ألا وصلو وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5373)
البلوتوث نعمة ونقمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
18/1/1427
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التطور الهائل في مجالات كثيرة من الحياة. 2- استخدام كثير من النعم في ما يغضب الله. 3- كل أمتي معافى إلا المجاهرين. 4- واجب الآباء تجاه أبنائهم. 5- مكانة الأعراض في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعندما يكرر الله تبارك وتعالى وصيته بالتقوى فهذا لعظم شأنها وكبير أثرها، فعلى مدى الأيام والعصور ينادي الربُّ الرحمنُ الغفور: اتقوني يا أولي الألباب؛ فإني للذنب جميعًا ماحي وغفور، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ.
معاشر المسلمين، في هذه السنوات القليلة شهد الناسُ تطورًا هائلاً في مجالاتٍ شتى، في مجال الاقتصاد، وفي مجال الصناعة، وتطورًا سريعًا وهائلاً في مجالات الاتصال، حتى أصبح هذا العصر هو عصرُ الاتصالات، فصار بإمكانك التعرف على أحوال غيرك في الأماكن السحيقة، والاطمئنان على الظروف الجوية قبل أن تُزمع السفر إلى بلدٍ ما.
هذه بلا شك نعمٌ، بل وعجائبُ النعم، فإنّ الله عز وجل حينما عدد النعم على من كان قبلنا في قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً قال بعدها في ختام الآية: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. ففي هذا الزمان ترى عجيب خلق الله تعالى من وسائل النقل عبر البر والبحر والجو، في أشكالٍ مختلفة وألوانٍ متباينة وسرعةٍ هائلة، قرَّبت البعيد، وسهلت الصعب، ويسرت العسير، فأصبح الناس اليوم لا يجفلون من السفر، فبإمكان الإنسان أن يسافر إلى بلدٍ ما ويعود من يومه دون أن تلحقه مشقة السفر؛ من شعث الرأس واغبرار الوجه واتساخ الملابس والوهن والضعف.
معاشر المسلمين، إن هذه النعم جملة وتفصيلاً قد أُسيء استخدامها، بدلاً من إيقاع المزيد من الحمد والشكر والثناء على الله المتفضل الذي سخّر لنا ما في الأرض والسماء، كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، فأصبحت هذه الوسائل تروج بها المعاصي والمنكرات، وتظهرُ فيها الفواحشُ والموبقات، فكان الأمرُ كما قال الله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فهذا ربكم جل وعلا يكشفُ أمرًا فظيعًا ظهر في الكون من الفساد والشر بما كسبته أيدي الناس، فنطق الحديد، وانتقلت أصواتنا وصورنا عبر الأثير، حينما أصبحت هذه الوسائل لترويج الفواحش والتشجيع عليها، ولنقل الفضائح وكشف المستور، فكان عن طريق أجهزة الاتصال المحمول، وعبر خاصية البلوتوث، وخاصية الوسائط المتعددة في الجوالات، بإمكانك نقلُ ملفاتٍ صوتية وملفات فيديو إلى أماكن بعيدة، فبتنا نسمعُ عجبًا ونرى عجبًا، فتفنن أصحابُ هذه الأجهزة في نقل مقاطع مخزيةٍ، من كشف عوراتٍ قد أسبل الله عليها ستره، فأشاعوا بذلك الفواحش وشجعوا عليها، وفتحوا أعيُنَ الغافلين عنها، وفضحوا أعراض المسلمين، ونشروا خزيهم، وفيهم يقول الله الجبارُ المنتقم: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
وأسوأُ من ذلك ـ يا معاشر المسلمين ـ من يكون في بيته آمنًا مطمئنًا ويرتكبُ معصيةً عظيمةً، ومع ذلك يستره الله تعالى بحلمه ورحمته، لا يلبث أن يقوم بتصوير منكره وخزيه، وتسجيل فاحشته عبر وسيلة التصوير بالفيديو أو الثابت، ثم يقومُ بنشرها للناس ليريهم ما صنع في خلوته في ظلمة الليل والناسُ عنه غافلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) رواه البخاري. وهذا الوعيدُ لمجرد أن يحكي المرءُ بالقول ما فعله من معصيةٍ في ليلته، فكيف إذا صوَّر منكره بالفيديو وأطلع غيره ليرى بعينيه ما فعل من معصية؟! فهذا أشدُ وأقبح وأعظمُ جرمًا وأفظع.
وبات مرضى القلوب وضعافُ الإيمان يبتكرون من المخازي أشكالاً وألوانًا، في عرض الفاحشة وتهييج النفوس من الرجال والنساء، وتصوير عوراتهم أو خياناتهم، أو الاعتداء على عورات الناس في حالِ غفلةٍ من أصحابها. وهؤلاء وإن أخفوا وجوههم عن الناس فإن الله يعلمهم، وقد خبأ لهم عقوبةً أليمةً في الدنيا وأخرى في الآخرة إن لم يُحدثوا توبةً وندمًا على ما فعلوا، ومصداقُ توبتهم مسحُ هذه الملفات من أجهزتهم المحمولة وأجهزة الحاسب المكتبية، وهذا من الإصلاح المذكور في الآية: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وكما في قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.
وإن الأمر من الفظاعة بمكان، وله آثاره السلبية على المجتمع وعلى الأسرة والأفراد، إذ يظنُ الجهلة أنه مجردُ عبثٍ ودعابةٍ ليس إلا، وواللهِ إنه لشرٌ عظيم، وصدق الله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ. فها نحن نرى فجائع وفظائع تنشرُ عبر هذه الأجهزة؛ مما حدا ببعض أهل العلم إلى تحريم اقتنائها لما ظهر له من الشرور وعظائم الأمور. وهي أجهزةٌ مباحةٌ في الأصل إلا إذا استخدِمَت في الباطل، فهي حرامٌ على من يستخدمها؛ لسوء تصرفه وجهله وحمقه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:16-18].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنّه يسعى كثيرٌ من الآباء إلى توفير أجهزة الجوال المحتوية على خاصية البلوتوث والتصوير بنوعيه الثابت والفيديو لأبنائهم الصغار الذين لا يدركون خطورة ما يتناقلونه من هذه الملفات الشنيعة، غافلين أو متغافلين عن الشرور العظيمة المترتبة عليها، ولو أنه أخذ جوال ولده ودخل على مجلد الأستوديو ونظر إلى الملفات الصوتية والفيديو ونظر إلى الصور لوجد ما تقشعر له الأبدان، ووجد ما لا يحبُّ أن ولده يعرفه من مهيجات الشهوة ومثيرات الفتن، أو وسائل المعاكسات والترقيم بصورةٍ جذابة مغرية.
فأنتم ـ يا معاشر الآباء ـ مسؤولون عن أبنائكم وعن تصرفاتهم، فتفقّدوهم، ومن وجدتموه قد استخدم جواله في الشر واستقبال المنكرات فلا تبقِه معه أبدًا؛ قطعًا لمادة الشر والفتنة، حتى يصبح من الراشدين ويعرف حسن الاستخدام، وأن ذنبه وخطأه أوقعه في هذا الحرمان، وعرِّفه على السبب الذي دفعك لإعطائه هذا الجهاز، وأنه ليسهل الاتصال به ومعرفة مكانه وطلبه المجيء في حال الحاجة إليه، لا أن يعبث به ويستخدمه في الفساد والإفساد.
وتذكروا أن أعراض المسلمين عظيمة المكانة عند الله تعالى، وأنه قد لعن الذين يتعرّضون لأصحابها وهم غافلون، من الرجال والنساء على السواء، فأخرج أبو داود وابن المنذر وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله قال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين، فإنه من اتبع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته)) ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله حتى أسمع العواتق في الخدر ينادي بأعلى صوته: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته)) ، وأخرج ابن مردويه عن بريدة رضي الله عنه قال: صلينا الظهر خلف رسول الله ، فلما انفتل أقبل علينا غضبان متنفرًا، ينادي بصوتٍ يُسمعُ العواتق في جوف الخدور: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من يطلب عورة أخيه المسلم هتك الله ستره وأبدى عورته ولو كان في جوف بيته)).
لذلك احذروا عقوبة الله وسطوته، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 23-25].
وأكثروا من الصلاة والسلام على خير البشرية وأزكى البرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5374)
بداية عام ونهاية عام
الرقاق والأخلاق والآداب
مواعظ عامة
سالم بن مبارك المحارفي
الرياض
29/12/1427
جامع الشيخ محمد بن عساكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفات تأمل. 2- سرعة انقضاء الأعمار. 3- حدث الهجرة النبوية. 4- التأريخ الهجري. 5- مصارع الطغاة. 6- صوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، من الحيُّ الذي لا يموت؟! ومن القائمُ بذاته الذي لا يزولُ ولا يحولُ ولا يفوت؟! إنه اللهُ الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيوم، فلماذا ينصرفُ الناس عنه ويعتصمون بغيره ويتوجهون إلى سواه ويسألون غيره ويطلبون النفع ودفع الضر من الذي يموت ويزول ولا حول له ولا قوة؟!
معاشر المسلمين، مع إطلالةِ عام وذهابِ عام يبرزُ للمتأمل أحداثٌ عظام وقضايا جسام، يجدرُ بالعاقل الفطن أن يقفُ عندها وقفات، ويسترجعَ فيها الذكريات، يجددُ العهد، ويبرمُ العقد، ينظرُ في ماضيه وما أحدث فيه، ويتأملُ في مستقبله وما عزم على أن يفعله فيه، إن أمد الله في أجله وزاده في عمره وأدام له نعمه وفضله.
معاشر المسلمين، خمسُ قضايا تبرزُ في خلال هذه الأيام، ينبغي على المسلم أن يقفَ عندها ويجيل النظر ويحرك الفكر.
فأُولى هذه القضايا: بدايةُ عامٍ ونهايةُ عام، إننا حينما نستقبلُ عامًا ونستودعُ عامًا آخر لهو حدثٌ ينبغي الوقوفُ عنده وإن كان في نظر بعض الناس أمرًا عاديًا، ذلك أن هذا العام قد مضى من أيام أعمارنا، وذهبَ من سنيّ آجالنا، وأصبحنا إلى الموت أقرب منه إلى الحياة, ونحن تفرحنا الأيام إذا ذهبت لأننا نتطلع إلى الدنيا وزخارفها، وقد مددنا الآجال، وسوفنا في الأعمال، وبالغنا في الإهمال، حتى صرنا كما قال الأول:
إنّا لنفرحُ بالأيّام نقطعها وكلُ يومٍ مضى يدني من الأجلِ
فاعمل لنفسك قبل الْموت مُجتهدًا فإنما الرِّبحُ والخسرانُ فِي العملِ
فيا أيها المؤمن، احذر من الأيام وتسارعها فإنها غرارة، واحذر من الدنيا وزخارفها فإنها غدَّارة، كم من مؤملٍ بلوغَ آمالٍ أصبح رهنَ القبور مدفونًا، وكم من مفرطٍ في الأعمال أصبح بعدها مغبونًا، فاغتنم فرصةَ حياتك وشبابك وفراغك وصحتك وغناك قبل أن تفقدَها أو تفقدَ بعضها، فتصبح من النادمين.
وعلى الأمة الإسلامية جمعاء النظرُ في أحوالها ومآلها، والاعتبارُ بأسلافها وسابقيها. إن المسلمين في هذه العصور يعانون ضعفًا موهنًا وتفرقًا للأعداء مغريًا، وأصبحت دماؤهم تسيل في فجاجٍ كثيرة وبقاعٍ متعددة، فلا يدرون ما يتقون من سهام أعدائهم، ففي الخارج عدوٌ متربصٌ كامن، وفي الداخل عدوٌ منافقٌ خائن. فإلى متى تستمرُ هذه الأحداثُ دون تغيير، وتتفاقم الأوضاعُ من دون تحوير؟! ألا ينبغي لنا أن نقول للعدو المتسلط الكافر: قف انتهَى وقت الضّعف؟!
القضية الثانية: حدثٌ عظيمٌ من خلاله تغيَّرَ وجهُ العالَم، إنه حدثُ الهجرة النبوية، حينما خرج المصطفى محمدُ بنُ عبد الله صلواتُ الله وسلامه عليه من مكةَ مظلومًا مقهورًا مشردًا مطرودًا إلى طيبةَ الطيبةِ البلدةِ المباركة، فأسَّسَ فيها دولةَ الإسلام، وهيّأ فيها رجالاً ربَّاهم فأحسنَ تربيتهم، وأدَّبهم فأحسنَ تأديبهم، فساحوا خلالَ الدِّيار؛ يدعون إلى الله، وينصرون رسولَه، يدفعون عنه أذى الكفار، حتى يبلِّغَ دينَ الله الذي أمره أن يبلغه للعالمين: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة: 67]، ففعل ـ بأبي وأمي هو ـ حتى أتاه اليقين، وترك الناس على المحجة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلى هالك.
"إن في هذا الحدث العظيم من الدروس والعبر ما لو استلهمته أمةُ الإسلام اليوم وعملت على ضوئه لتحقق لها عزُها وقوتها ومكانتها، ولَعَلِمَت علمَ اليقين أنه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاحَ لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها والتزامها بإيمانها وعقيدتها، فواللهِ ما قامت الدنيا إلا بقيام الدِّين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة إلا لمَّا خضعوا لربِّ العالمين، وهيهات أن يحلَ أمنٌ أو رخاءٌ أو سلامٌ دون اتباع نهج الأنبياء والمرسلين".
القضية الثالثة: وهي قضيةٌ تعبرُ عن شخصية هذه الأمة واستقلالِ أتباعها عن غيرهم من سائر الأمم والنحل من العامة، إنها قضيةُ التاريخ الهجري، فشهرُ الله المحرَّم أولُ شهور السَّنة الهجرية، اتفق على ذلك صحابةُ رسول الله ، ولم يشابهوا أهل الكتاب في اعتماد التاريخ الميلادي، وذلك أن التاريخ الهجري متعلقٌ بمناسباتٍ دينيةٍ عظيمةٍ تتكررُ كلَ عام، من صيامٍ وزكاةٍ وحجٍ وغيرها، فعلينا اعتمادُ هذا التاريخ في جميع معاملاتنا، وأن لا نتشبه بقوم نهينا عن التشبه بهم، فمخالفتهم من صميم عقيدتنا، وقد قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داود.
القضية الرابعة: قضيةٌ ـ يا معاشر المسلمين ـ فيها عبرةٌ وعظةٌ لكل طاغيةٍ متجبرٍ كفار؛ أن نهايتَه وشيكةٌ على يد العزيز العظيم الجبار مهما طغى وعلا وأفسدَ وأرعدَ وأزبد، فإن الله له بالمرصاد, حتى إذا أخذه لم يفلته، أخذه أخذَ عزيزٍ منتقم، تلكم حادثةُ العاشر من المحرَّم في قصة كليم الرحمن موسى عليه الصلاة والسلام مع عدوِّ الله فرعون، حيثُ احتلت هذه القصةُ جانبًا كبيرًا من القرآن الكريم لا يخفى عليكم.
فهذه دعوة للطغاة الجبابرة المتكبرين: افعلوا ما تشاؤون، دمِّروا المباني، واقتلوا المرأةَ والطفلَ والعاني, اسحقوا كلَ شيء وحلُّوا وثاقه, وارموا البيوت بأسلحتكم الحديثةِ الفتاكة، زعزعوا الأمن، واعقدوا المؤتمرات لتبحثوا مع أهله السلام، واسرقوا مدخرات الشعوب وحقوقهم وأموالهم، واستخدموا العملاء والمنافقين لِيُكْثِرِوا الكلام، فمهما طال بكم الأمر وامتدَّ لدولتكم العُمر تذكروا مصيرَ فرعون حينما استغاث ونادى بأعلى صوته: قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 90]، فقال الله تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 91]. أيها الطغاةُ الجبابرة، اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: 40].
أيها المسلمون، تلكمُ ذكرى لمن كان له قلب، وفيها عِبرةٌ وعَبرةٌ لمن له لُبّ، وهي إشاراتٌ طارفة وتذكرةٌ خاطفة وموعظةٌ للدموع ذارفة وللقلوب واجلة وللعمل داعية. مواقفُ جديرةٌ بالتنبيه والانتباه، وحريَّةٌ أن يأخذ بها الطغاةُ والهداة، عسى الله أن يغير حالنا من حالٍ إلى أحسن حال، وأن يأخذ بنا إلى أحسن مآل، إنه خير مأمول وأكرمُ مسؤول، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون البَرَرَة، يا أهل السَّبْقِ لكل أمرٍ فيه خِيَرة، اتقوا الله وتوبوا إليه، إنه هو التوابُ الرحيم.
أما خامس القضايا فهي قضيةٌ مطَّردة وسنةٌ ماضية، إذا تحققت أسبابها تحققت، وإذا انتفت أسبابها انتفت، تلكم سنةُ الله عز وجل في نصرة أوليائه وقمع أعدائه، جاءت في قصة موسى عليه الصلاة والسلام فأعقبها بالشكر والثناء على المولى المنعم والقوي المنتقم، فصام هذا اليوم شكرًا لله، وصامه أتباعه، عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَدِمَ النبي الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يوم عَاشُورَاءَ، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذا يَوْمٌ نَجَّى الله بَنِي إِسْرَائِيلَ من عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قال: ((فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ)) ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه البخاري. وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فقال: ((أَحْتَسِبُ على اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ)) رواه مسلم.
إلا أن النبي كان من هديه أن يخالف أهل الكتاب في كل شيء، وهنا أمر النبيُ عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يصوموا هذا اليوم، وأمرهم أن يصوموا يومًا قبله. فعلى الراغبين في الأجر والثواب الجزيل أن يصوموه ويتحروه ويعملوا بهدي نبيهم ويستفتحوا عامهم بعملٍ صالحٍ وشكرٍ على وافر نعمه وجزيل فضله، ويكونوا على علمٍ ومعرفةٍ بصدق وعد الله في المؤمنين إذا صدقوه أن ينصرَهم على عدوهم ويُمَكََِّنَ لهم في الأرض ويستخلفهم فيها فينظرَ كيف يعملون.
هذا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على من بعثه ربه رحمةً للعالمين، النبي الهادي الأمين، فقد أمركم بذلك ربكم ربُ العالمين فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
(1/5375)
التحذير من السحر وأهله
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
8/5/1428
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم السحر. 2- خطورة السحر وضرره. 3- واجب المصاب بالسحر. 4- التحذير من معالجة السحر بالسحر. 5- تحريم إتيان السحرة والمشعوذين. 6- نصيحة للرقاة. 7- التحذير من الاغترار بما ينشر في الصحف والمجلات من الأبراج والطوالع. 8- علم النجوم. 9- حرمة دم المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوَى الله جلّ وعلا، فبها الخلاص من الفتن والمخرجُ من المحَن، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2].
أيُّها المسلِمون، من أصولِ القرآنِ والسنَّةِ تحريمُ السِّحرِ وتعلُّمِه وتعليمِه وتعاطيه واستعمالِه، يقول ربُّنا جلّ وعلا محذِّرًا من السحرِ ومُقارفَتِه: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
ومَن وَقَعَ في السحر وقَع في شرٍّ عظيمٍ وخُسرانٍ مُبينٍ وضَرَر جَسيمٍ، يقول ربُّنا جلَّ وعلا: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
السِّحرُ تَعلُّمًا وتَعلِيمًا وتَعاطِيًا واستِخدَامًا سَببٌ للطَّردِ مِن رَحمةِ الرّحمنِ الرَّحيم والوُقوعِ في نِقمةِ العَزيزِ الحكيمِ، يقول ربُّنا جلَّ وعلا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء: 51، 52]. قال عُمَر الفاروقُ رضي الله عنه: (الجِبتُ هوَ السِّحرُ، والطّاغوتُ هوَ الشّيطانُ).
ممارَسَةُ السحرِ ـ يا عباد الله ـ والوقوعُ فيه سببٌ للوقوع في الهلاك العظيمِ، يقول سيِّدُ الخلق في الحديثِ العظيمِ: ((اجتَنِبوا السبعَ الموبقات)) ، ثم ذكر منها السحر. متفق عليه.
السحرُ ـ أيها المؤمنون ـ عظيمُ الخطَرِ عَلَى الدّينِ، كبيرُ الضَّررِ على عقيدةِ المسلمين، أخرج البزّار بإسنادٍ جيّد عن النبي أنه قال: ((ليسَ منّا من تطيَّر أو تُطيِّر، أو تكهَّن أو تُكهِّن له، أو سحَر أو سُحِر له)) الحديث.
أيّها المسلمون، ومن ابتُلِي بالسِّحرِ في نفسِه فعليهِ التّعلُّق بالله جلّ وعلا وحدَه والاعتمادُ عليه في كشفِ الآلام والأسقامِ، فهو الذي إليه وحدَه المفزعُ وإليه الملجأ، فمن توكَّل على اللهِ والتَجَأ إليه بصدقٍ وانقَطَع إلى جنابِه كفاه ووقاه وحفِظَه وحماه. ثم على من ابتُلِي بشيءٍ من ذلك عليهِ بالرقية الشرعية بما ورَد في كتاب الله وسنّةِ رسول الله ، خاصّةً قراءة سورَةِ البقرة كامِلة وفاتحة الكتابِ والإخلاص والمعوّذَتين والآيات الواردة في السّحر.
أيّها المسلِمون، حصِّنوا أنفسَكم بالأورادِ المأثورَةِ، فهي حصنٌ حصين وحِرزٌ أمين بإذنِ الحيِّ القيّوم، كأَوراد الصباحِ والمساءِ وأدعيةِ الدّخول والخروج وأدعيةِ النّوم والاستيقاظ، وهي مذكورةٌ في كتبِ الأذكار المبثوثةِ في مكاتبِ المسلِمِين.
والحذَرَ الحذرَ ـ أخي المسلم ـ مِن معالجة السحر بسحرِ الساحر أو الذّهاب إلى السحرةِ والمشعوِذِين بزعم حلِّ هذا السحرِ، فذَلِك أمرٌ محرَّمٌ في الدين ومنهِيٌّ عنه عندَ علماء المسلِمين المحقِّقين، روَى جابرٌ أنَّ النبيَّ سئل عن النُّشرة فقال: ((هي من عمل الشيطان)) رواه أحمد بسند جيّد، ورواه أبو داود وحسّن الحافظ إسناده. وقال: سئل أحمد عنها فقال: "ابنُ مسعود يكرَه هذا كلَّه".
قال ابن الجوزيّ رَحمه الله: "النُّشرة حلُّ السحرِ عنِ المسحور، ولا يكادُ يقدِر عليهِ إلاّ مَن يعرِفُ السِّحرَ". ورُوِيَ عن الحسنِ أنه قال: (لا يحلّ السحر إلا ساحر) ذكره ابن الجوزيّ. وقال ابن القيِّم رحمه الله: "النُّشرة حلُّ السحر عن المسحور، وهي نَوعان: حلٌّ بسحر مثلِه، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمَل قول الحسَن، فيتقرَّبُ الناشر والمنتَشِر إلى الشيطان بما يحبُّ، فيبطل عمَلَه عنِ المسحور، والثاني ـ أي: النوع الثاني ـ: النشرةُ بالرقية والتعوُّذاتِ والأدويَة والدعوات المباحة، فهذا جائز".
أيّها المسلمون، ومن المحرَّمات بالدين إتيانُ السحرة والمشعوِذين وتصديقُ الكَهَنة والعرّافين والاغترارُ بالرّمَّالين والدّجّالين، عن أبي موسى قال: قالَ رَسول الله : ((ثلاثةٌ لا يدخُلُون الجنّةَ: مدمِن الخمر، ومصدِّقٌ بالسّحر، وقاطع الرّحِم)) والحديث صحيح. قالَ الشّيخ عبد الرحمن بنُ حَسَن رحمه الله: "أي: مصدّقٌ بالسِّحر مطلقًا، ومنه التنجيم".
ورَوَى مسلم عن النبيِّ أنه قال: ((من أتى عرَّافًا فسَأَلَه عن شيءٍ لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين ليَلة)) ، قال في فتح المجيد: "وظاهرُ الحديث أنَّ الوعيدَ مرتَّب على مجيئه ـ أي: السّاحر والعرّاف ـ وسؤالِه، سواء صدَّقَه أو شكَّ في خَبره" انتهى.
وقد جاء في حديثٍ آخر عن النبيِّ من حديثِ أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ قال: ((مَن أتى عَرّافًا أو كاهِنًا فصدَّقَه بما يقولُ فقد كفَر بما أُنزِل على محمّد)) رواه أحمد وأبو دَاود، وصحّحه غيرُ واحد من المحققين. وروى أحمد أيضًا والبيهقيّ والحاكم وقال: "صحيح على شرطهما" عن النبي أنه قال: ((مَن أتى عرّافًا أو كَاهنًا فصدَّقه بما يقول فقَد كفر بما أنزِلَ على محمّد)) وهو صحيح أيضًا عند المحقِّقين من أهل العلم.
وقد نصَّ أهلُ العلم على أنَّ من يصدِّق الكاهن في علمِ الغيبِ ويعتقِد ذلك وهو يعلَم أنّه لا يعلم الغيبَ إلاّ الله فهو كافِر كُفرًا أَكبر مخرجًا عن الملّة؛ لأنّه مكذِّبٌ بالقرآن القطعيّ بأنه لا يعلَم الغيبَ إلاّ علاّم الغيوب.
يا مَن تصدَّرتم للرقيةِ الشرعيّة، اتَّقوا الله جلّ وعلا، واعلموا أنكم مسؤولون أمامَ الله سبحانه، فإيّاكم وإدخالَ الوهمِ على الناسِ وإيقاعَهم في الوساوس والأوهام؛ بالجزمِ بأنَّ هذا بِه عينٌ، وهذا بِه سِحر، وهذا بِه مسٌّ؛ لمجرَّدِ أعراضٍ عرَضَت أو أمورٍ تُوُهِّمَت، واكتفوا ـ يا رعاكم الله ـ بالرقيةِ الشرعيّة من القرآن والسنّةِ، فالقرآن كلُه شفاء كما أخبر بذلك المولى جلّ وعلا: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت: 44].
أقول هذَا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانه، وأشهَد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ لَه تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله جلّ وعلا، فهي وصيّة الله للأولين والآخرين.
أيّها المسلمون، ومما افتتن به بعضُ الجهَلةِ ما يحصل في بعض الصّحُف والمجلاّت ووسائل الإعلام ما يُعرف بالطّالِع أو النّجم، ثم اعتقاد أن هذا من أسبابِ الوقائع والحوادِثِ، ورسولُنا قد حذَّر من ذلكَ أشدَّ الحذَر، ونهى عنه النّهيَ الكبير، فمِن ذلك ما وَرَد عن ابنِ عبّاس رضي الله عنهما قالَ: قالَ رَسولُ الله : ((مَن اقتَبَسَ شعبةً من النجوم فقد اقتَبَسَ شعبةً من السحر، زاد ما زاد)) والحديث صحّحه النوويّ والطبرانيّ والذهبي.
وعلم النجومِ عند أهلِ العِلم المحقِّقين علمان:
علم يعرَف به سَيرُها ومَدارها ومنازِلها وأبعادُها وأحجامُها، وهذا هو عِلم الفَلَك، لا بأسَ بتعلُّمه والعمل به، ممّا يسمَّى عند أهل العلمِ بعلمِ التَّسيير، وهو ما يُستَدَلّ به على الجهات والأوقاتِ، فهَذَا جائِزٌ.
وعِلمٌ وهو النَّوعُ الثّاني يُعرَف بالعِلمِ الرّوحَانيّ، يَزعمون به كذِبًا أنه معرِفَةُ روحانيّة النجوم والكواكِبِ وتأثيرها في الأرض ومَن عليها بالأمراضِ والحروبِ والضِّيق والسَّعَة والسعادة والشقاوة عند اقتِران كذا من النّجوم والكواكب بكذا، ولهم في ذلك ما يسمّونَه بالطالع، يعمَلونَ جَداولَ بالحوادِث التي ستحدُث من حوادثَ عامّة وخاصة، وهذا النوع من السِّحر المحرَّم ومِن استخدام الشياطين والقول على الله بلا علمٍ من علم التنجيم المحرَّم، ومَن اعتقد أنّ هذه النجومَ هي المدبِّرة للأمور أو أنَّ لها شِركًا مع الله جلّ وعلا فذلك كفرٌ مخرِج عن الملّة والعياذ بالله.
أيّها المسلمون في كلِّ مكان، من الخزيِ والعارِ أن تُحِكمَ المادّةُ سَيطَرَتَها على قلوبِ أبناء بعضِ المسلمين، حتى آل الأمر بهم ـ وهو أمرٌ محزن ـ أن يرفعَ المسلم السلاحَ على أخيه المسلم، كما نسمَعُه في وسائل الإعلام في بعض بقاعِ المسلمين، فأين هؤلاء من أعظَمِ هدفٍ أراده الإسلام وأرادَ تحقيقَه بين المسلمين بقوله جلّ وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وبقوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا)).
إنَّ دمَ المسلِمِ عظيمُ الحرمة عند الله جل وعلا، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، ورسولُنا يقول: ((كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمه وماله وعرضه)) ، ويحذِّر أشدَّ التحذير من ذلك فيقول: ((من حمَل عَلينا السلاحَ فليس منّا)) رواه البخاري، وفي الحديثِ الصحيح: ((إذا تواجَهَ المسلِمان بسيفهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار)) ، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنه أرادَ قَتلَ صاحِبِه)).
ثم إنَّ الله جلّ وعلا أمَرَنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصلاةُ والسّلام على النبيِّ الكريمِ.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا وقدوتِنا نبيِّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين والأئمّة المهديِّين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
(1/5376)
الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
25/7/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1-تعريف الصبر لغة وتفسير السلف له. 2- أنواع الصبر وبيان كل نوع منها بالتفصيل. 3- بيان ثواب الصبر وجزاء الصابرين. 4- الصبر على فتن الخير. 5- من أبواب الصبر الصبر على أذية الناس. 6- شروط نيل أجر الصابرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان، الصبر لفظة عظيمة المعنى كبيرة المغزى، تعبَّد بالتخلق بها الأنبياء والصديقون والصالحون، واتخذوها بضاعة وجسرًا يوصلهم إلى مرضاة الله سبحانه وإلى جنات عرضها السموات والأرض، ومعنى الصبر معنى شامل شاسع، يطال كل حياة المسلم، ولكننا اختزلناه في أمر واحد هو الصبر على المصائب؛ لهذا لم نستفد من الصبر ولم نستعمل عبادة الصبر كما ينبغي لها أن تستعمل، فتعالوا بنا نستكشف نعمة وفضيلة الصبر لعلنا نتعبد الله بها في قابل أيامنا.
يذكر القرطبي في تفسيره أن الصبر في اللغة الحبس، وقُتل فلان صبرا أي: أمسك وحبس حتى أتلف، وصبرت نفسي على الشيء: حبستها. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. وقال ذو النون المصري: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى. وقال أبو علي: الصبر حدُّه أن لا تعترض على التقدير.
هذه معان للصبر حام حولها علماء وصالحو الأمة، جديرةٌ بالتأمل والاهتمام، وقد درج العلماء على تقسيم الصبر إلى ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله سبحانه، وصبر عن معصية الله سبحانه، وصبر على قضاء الله سبحانه وقدره، وكل هذا مسطرٌ في كتاب الله وسنة نبيه وفي سيرته العطرة، ونحن إذا نظرنا إلى الصبر من هذه الزوايا رأينا أن الصبر يستوعب الحياة كلها؛ لأن الإنسان يقف بين هذه الأمور الثلاثة: طاعة الله ومعصيته وقضائه الذي يحيط بالإنسان من كل جانب.
فالصبر على الطاعة مطلوب لأن فيه تحصيل مرضاة الله، وفيه نجاة العبد من عذاب الله وسخطه؛ لهذا دلنا الله على هذا الصبر وحثنا عليه، يقول سبحانه مخاطبا نبيه والخطاب لعموم الأمة: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]، ويقول سبحانه: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]، فعبادة الله وطاعته تحتاج إلى صبر وجلد يطيقه الصادقون الحازمون مع أنفسهم الذين يستحضرون خشية الله وهيبته، ويضعف أمامه المتذبذبون المسوفون، فمن أيقن بالله وبقدرة الله وعظمته وأيقن بثوابه وعقابه وعلم أنه ملاقٍ ربه وأنه سيجزيه بالحسنة أضعافها وبالسيئة مثلها فإنه يصبر على طاعة الله ويتلذذ بعبادة الله سبحانه؛ لأنه ينظر من خلال صبره إلى ثواب الله سبحانه ورضاه فيثبت، ويصبّر نفسه ويمنّيها حتى تنصاع له، فلا بد إذًا من الصبر على طاعة الله لنيل مرضاة الله.
والصبر على الطاعة كما أنه مطلوب ومرغب فيه فإنه عزيز وصعب؛ لأنه مضاد لهوى النفس ورغباتها ومتعب للجسم، يحرم فيه الإنسان نفسه من الكثير من اللذائذ لكي يعبد ربه ويطيعه، لهذا بين لنا سبحانه أن هذا الأمر كبير إلا على الخاشعين الصادقين، يقول سبحانه: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45]، ويقول سبحانه: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35].
النوع الثاني من الصبر هو الصبر عن معصية الله سبحانه بالبعد عنها وإمساك النفس عن خوض غمراتها والتلوث بقذارتها، فالمعاصي والشهوات جذابة للقلوب ومذهبة للألباب، فما لم يقوِّ المسلم عزيمة نفسه على الصبر عن هذه المعاصي فإنها تستميله وتضر بآخرته؛ لهذا أنذرنا الله وحذرنا منها وأرشدنا إلى هذا الصبر عنها، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]. أورد ابن كثير في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور عن أبي هريرة أنه قال: ( اصْبِرُواْ أي: على الصلوات الخمس، وَصَابِرُواْ أنفسكم وهواكم)، فالمعاصي تحتاج أيضا إلى صبر عنها وعن قربانها، يقول سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151]، فلا بد من الصبر عن المعصية حتى يعلم الله من جاهد نفسه وجاهد شهوته وجاهد رغباته في سبيل الله عز وجل وصبر على ذلك، فيهديه سبل الخير والسداد، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينٍَ [العنكبوت: 69].
أما النوع الثالث من أنواع الصبر فهو الصبر على قضاء الله سبحانه، فهذا صبر عظيم وجزاؤه عند الله كبير، يقول سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155]، فالله سبحانه يقضي على عبده ما شاء سبحانه، فعلى العبد أن يصبر على قضاء الله سبحانه، فقد يقضي على العبد بمرض أو بفقد حبيب لديه أو فقد مال، فيكون العبد هنا أمام امتحان فاصل؛ هل يصبر فينال الثواب أم يجزع ويتذمر فيحرم الثواب؟ وفي كلا الحالين أمر الله نافذ، فلماذا لا يستغل المسلم هذا القضاء في كسب الحسنات والمنزلة الرفيعة عند الله؟! يقول فيما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: ((يقول الله تعالى: من أذهبت حبيبتيه ـ أي: عينيه ـ فصبر واحتسب لم أرض له ثوابًا دون الجنة))، ويقول أيضًا كما عند الترمذي من حديث أبي هريرة: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)).
صبرٌ على قضاء من الله سبحانه ينيلنا جنة عرضها السموات والأرض علام نفرط فيه؟! وعلام نزهد فيه؟! كل هذه الابتلاءات لا دواء لها مثل الصبر؛ لأنها من قضاء الله عز وجل، وقد سرد لنا القرآن الكريم عن صبر يعقوب عليه السلام وما قاله حين فقد ولديه، فقد قال حين فقد يوسف عليه السلام: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18]، وقال حين فقد ابنه الآخر: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 83]، وقد كانت عاقبة الصبر الجميل أن أعاد الله إليه ولديه وصار ابنه يوسف ملك مصر ورفع والديه على العرش، إذًا فالصبر على قضاء الله سبحانه وإن كان مرا فعاقبته حلوة سائغة مرضية مثلجة للصدر؛ لهذا يقول : ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) أخرجه مسلم عن صهيب.
هذه هي أنواع الصبر التي لا ينفك المسلم عنها ما دام على قيد الحياة، بل هي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم؛ لهذا كان جزاء الصبر جزاءً عظيما، بلغت عظمته وبركته أنه غير محدود، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]، وقال سبحانه: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 96].
جزاء الصبر عظيم إذا تتبعناه في كتاب الله علمنا كم نحن مفرطون في هذا الأمر، وكم ضيعنا من أجور وحسنات بتضييعنا للصبر والمصابرة، فمن ثواب الصبر عدم نفوذ كيد الكائدين في المسلم يقول سبحانه: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120]، ومن ثواب الصبر مضاعفة الأجر للصابر يقول سبحانه: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص: 54]، ومن ثواب الصبر التمكين والإمامة في الدين يقول سبحانه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، ومن ثواب الصبر النصر وتوريث الأرض والتخلص من الظلم والظالمين يقول سبحانه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137]، ومن ثواب الصبر الفوز في الآخرة يقول سبحانه: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون: 111]، ومن ثواب الصبر أن يجازى الصابرون بالغرفة وهي أعلى منازل الجنة يقول تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 75، 76]، ومن ثواب الصبر وجزائه جنات تجري من تحتها الأنهار وحرير وحور عين وولدان وغير ذلك كثير من نعم الجنة يقول سبحانه: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان: 12-14]، إلى آخر هذه الآيات التي تتكلم عن هذا النعيم المقيم.
فاتقوا الله عباد الله، وارغبوا في الصبر وتعلموه، ودربوا النفس عليه، واعلموا أن السعيد السعيد من وفق إلى هذا الخُلُق العظيم، والمحروم من حُرمه، يقول كما عند أبي داود من حديث المقداد: ((إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر)) ، هذا هو السعيد كما يعرفه رسول رب العالمين.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصابرين ومن السعداء، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، ويدخل ضمن الصبر على القضاء الصبر على فتن الخير، فقد يقضي الله على عبده بالخير اختبارًا وابتلاءً، فينظر مقدار صبره وثباته على دينه، يقول سبحانه: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]، ففتن الخير تحتاج أيضا إلى صبر وجهاد، بل قد تكون أشد من فتن الشر، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتلينا مع رسول الله بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر. أخرجه الترمذي بإسناد حسن.
ويدخل ضمن الصبر على القضاء الصبر على أذى الناس، فهذا الأذى يحتاج أيضا إلى صبر ومعالجة تمنع المسلم من أن ينتصر لنفسه، بل لا يكون انتصاره إلا للحق والدين، فالمؤمن الصابر على أذى الناس خير من الذي يتبرم بالناس ولا يطيق معاشرتهم، يقول : ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) أخرجه أحمد عن ابن عمر، بل يزيدنا توضيحًا وترغيبًا في هذا الأمر حين يبين لنا أن صبْرَنا على الأذى أو الظلم لن يزيدنا إلا عزا، عن أبي كبشة الأنماري أن رسول الله قال: ((ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عز وجل عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)) أخرجه الترمذي، فهذا الصبر على مظلمة من مظالم هذه الدنيا قد يصعب على الإنسان أو يلاحظ فيه بعض الهوان، لكنه لن يزيد الإنسان إلا عزا.
وللصبر ـ إخوة الإيمان ـ شروط أو أمور حتى يكون نافعا يثاب صاحبه، منها أن الصبر لا يؤجر عليه المسلم إلا إذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاته، أي: أن يصبر المسلم احتسابا وطلبا للأجر والثواب من الله سبحانه، ولا يصبر عن المعصية أو الأذى عجزًا أو بلاهة أو جبنا، وهذا ما بينه ربنا عز وجل في كتابه حين ذكر أن الصبر النافع هو الذي يكون في مرضاة الله سبحانه، يقول تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 22].
ومن هذه الشروط أيضا أن الصبر على المصائب إنما يكون عند حدوث المصيبة أو عند العلم بها مباشرة لا بعد أن تمر عليها ساعات أو أيام، يقول فيما أخرجه ابن ماجه عن أنس: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))، فهذا هو الصبر الحقيقي النافع، الصبر الذي يسترجع صاحبه ويحمد الله سبحانه عند سماعه بأي مصيبة تقع له في نفسه أو في ولده أو في ماله، ولا يجزع ولا يعترض، أخرج الترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمّوه بيت الحمد)).
أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من الصابرين المصابرين، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يثبتنا على صراطه المستقيم...
(1/5377)
الحياء
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
3/8/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء حاجز عن كثير مما يؤذي النفوس والأعراض. 2- الحياء من صفات الله جل جلاله. 3- الدعوة إلى الاهتمام بخلق الحياء. 4- أقسام الحياء. 5- الله جل وعلا أحق من يُستحيا منه. 6- قصة نبي الله موسى مع المرأتين. 7- الترغيب في الحياء من الناس. 8- من مظاهر ضعف أو تلاشي الحياء. 9- غياب الحياء شين ووجوده زين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نتكلم اليوم عن خَصلة إيمانيةٍ عظيمة وصفةٍ حميدة يحبها الله، نتكلم عن أدب إسلامي أصبح غريبًا علينا عزيزًا لدينا، وصار من الذكريات التي يُحكى عنها، نتكلم عن الحياء والاستحياء، هذا الأدب الذي إذا ضاع ارتُكِبت الذنوب واقتُرفت الآثام وكثرت المعاصي، هذا الخُلُق الذي إذا غاب جرحت المشاعر وأُوذيت الأسماع والأبصار وتدهورت الأخلاق، هذا الخلق الذي هو مانع وحاجز عن كثير من التردي والفجور.
الحياء صفة جليلة اتصف بها الخالق جل في علاه، فمن صفاته تعالى أنه حييٌّ، يقول : ((إن ربكم حيي كريم، يستحي أن يبسط العبد يديه إليه فيردهما صفرا)) أخرجه أبو داود عن سلمان. كما أن الحياء كان خلقا نبويا تخلق به رسول الله ، لقد وصف بقدر من الحياء لم يوصف به غيره، فعن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. متفق عليه.
الحياء ـ أيها الناس ـ أمر ضروري لا يصلح العيش إلا به، فإذا ضاع الحياء أصبح الناس كالدواب التي لا تفقه شيئا ولا تجد غضاضةً في أي أمر تقوم به، إذا ضاع الحياء أصبح الناس هَمَجا لا وازع يزعهم عن أي مقبوح أو مذموم من الأفعال، فكيف يعيش الناس وكيف تكون حياتهم إذا لم تكن لهم حدود يوقف عندها وأمور يستحيا منها؟! لا شك أن الحياة عندها تكون حياة بهيمية، وتكون ضنكا وضِيقا لكل مسلم، وهذا ليس بغريب؛ فغياب الحياء ليس بالأمر الهين، فالحياء من الإيمان، يقول كما عند مسلم من حديث أبي هريرة: ((الإيمان بضع وسبعون ـ أو: بضع وستون ـ شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))، بل إن الحياء قرين الإيمان، فذهابه ذهاب الإيمان، وذهاب الإيمان ضياع كل شيء، يقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عمر: ((الحياء والإيمان قُرِنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) ، لهذا ينبغي أن نولي الحياء اهتماما خاصا، يجب أن نستعيد هذا الخلق الضائع الذي نسيناه وابتعدنا عنه، يجب أن نستعيد الحياء في علاقتنا مع خالقنا ونستعيده في بيوتنا ونستعيده في شوارعنا ومؤسساتنا.
والحياء ـ إخوة الإيمان ـ يكون من الله ومن الناس، فالله سبحانه هو أول من يجب أن يستحي المسلم منه، فهو الخالق الرازق المنعم، صاحب الفضل الأعظم على الإنسان، أهل النعمة والثناء الحسن، فكيف يمكن أن يُستحيا من أحد قبله؟! وكيف يصح أن يُستحيا من أحد أكثر مما يستحيا منه سبحانه وهو القريب الرقيب الذي لا يخلو الإنسان من نظره أبدا، وهو سبحانه مطلع عليه في كل شأن من شؤونه؟! يقول سبحانه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس: 61]، فالإله المطلع علينا في كل أمورنا هو الأحق بهذا الحياء سبحانه، يقول : ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)) ، فلا بد أن يستحي الإنسان من الله، فلا يعصيه ولا يخالف أمره ولا يواجهه بالفواحش والمعاصي، يقول سبحانه: مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 13، 14].
بل إنه لا يكتفي بأن يوجهنا إلى أهمية الحياء من الله، بل يطلب منا أن نستحي من الله حقَّ الحياء، يقول : ((استحيوا من الله حق الحياء))، قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) أخرجه الترمذي عن ابن مسعود.
هذا هو الاستحياء من الله حق الحياء كما يبينه أعرف الخلق بالله ، أن نحفظ الرأس وما وعى، نحفظ هذا الرأس فلا نطأطئه ولا نسجد به ونذله إلا لله، وما وعى أي: ما وعى هذا الرأس واحتوى من جوارح، فقد جعل الله في الرأس أخطر الجوارح والحواس: البصر والسمع والنطق، لا بد أن نحفظ هذه الحواس من أن تستعمل فيما حرم الله سبحانه. وأن نحفظ البطن وما حوى، فالبطن يحوي المعدة مستودع المأكل والمشرب، ويحوي القلب، ويحوي الفرج، فالمعدة ينبغي أن لا يوضع فيها وأن لا تغذى إلا بالمطعم والمشرب الحلال، والقلب ينبغي أن يكون متجها لله مسترشدا بنوره، والفرج ينبغي أن لا نستعمله إلا فيما أحل الله لنا. ثم يأمرنا إذا أردنا أن نستحي من الله حق الحياء أن نذكر الموت والبلى، فإذا ذكر الإنسان الموت والبلى وأنه سيعود إلى هذه الأرض التي خلق منها وإلى هذا التراب الذي ابتدأ منه عندها سيحجم عن كثير من الظلم وكثير من الفسق والكفر، وعندها سيعلم أنه مخلوق ضعيف أمام هذا الخالق القوي، ومخلوق عاجز أمام هذا الخالق القادر، ومخلوق محتاج وفقير أمام هذا الخالق الغني، فيستحي من هذا الإله حق الحياء. ثم يبين لنا أن مصداق هذا الحياء ترك زينة الحياة الدنيا وإيثار الآخرة عليها.
والإنسان ـ إخوة الإيمان ـ مطالب كذلك بالاستحياء من الناس؛ لأن في ذلك إحسانًا للمسلمين وحجبًا للأذى عنهم، وفي ذلك تعاون على البر والتقوى ومنع لانتشار رذائل الأخلاق، فلا يمكن أن يتوقّع خير من إنسان لا يستحي من الناس ولا يهمه أن يرتكب أمامهم رذائل الأمور والأخلاق، فالحياء ضروري للمسلم، وقد سرد لنا القرآن الكريم قصة موسى مع المرأتين وكيف سقى لهما، وتطرق القرآن إلى هذا الحياء من الناس حيث يقول سبحانه: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ، يقول ابن كثير في تفسيره: " فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء أي: مشي الحرائر، جاءت مستترة بكم درعها، قال عمر رضي اللّه عنه: جاءت تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَع من النساء ولاّجة خرّاجة، ومعنى السلفع: الجريئة من النساء السليطة الجسور".
فالاستحياء من الناس إذًا أمر مرغوب، وقدوتنا في هذا الاستحياء من الناس رسول الله الذي كان يستحي من الناس كما أسلفنا حتى يظهر ذلك على وجهه، وها هو وهو الرسول الموحى إليه من ربه يستحي من أحد أصحابه وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه، فيقول كما عند مسلم من حديث عائشة: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!)) ، فالحياء من الناس خلق عظيم لا ينبغي أن نقصر فيه، ولا ينبغي أن نواجه الناس بما يُستحيا منه، فقد أنذرنا رسول الله من هذا إنذارا عظيما، لو فقهه المتجرئون لعلموا فضل الحياء وخطورة فقده، يقول : ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.
والآن أيها المسلمون، أين نحن من الحياء؟! وأين الحياء منا؟! أين نحن من أمر كله خير ونحن نزعم أننا نبحث عن الخير؟! يقول : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((الحياء كله خير)) ، أين نحن من هذا الخير؟! لقد أصبح الحياء ـ كما قلنا ـ كالتاريخ القديم الذي يحكى عنه، الأشكال التي نراها في الشوارع للرجال والنساء والألفاظ والكلام الذي يردّد ويقال لم يترك للحياء مكانا بيننا، أين نحن من الحياء وقد تعرى الرجال والنساء ولبسوا المكشوف والشفاف والضيق من اللباس دون حياء وتشبه بعضهم ببعض؟! أمن الحياء أن تخرج نساؤنا وبناتنا كاسيات عاريات بسراويل ما كنا نعرفها ولا نألفها تكاد تتمزّق فوق أجسادهن؟! أمن الحياء أن يجوب الشاب الشوارع كاشفًا عن أفخاذه ويدخل البيت على أبيه وأمه وأخواته وهو بهذا الشكل المزري؟! أما علم هؤلاء أن الله سبحانه يقول: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27]؟! أما علموا أن رسول الله يقول: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)) ؟! أين نحن من الحياء وقد جاهر الكثير من المسلمين بالمعاصي والآثام؟! يتباهون بذكر ذنوب اقترفوها وسترهم الله، ولكنهم يأبون إلا أن يهتكوا هذا الستر، والرسول يتوعدنا إن فعلنا هذا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه.
فاتقوا إخوة الإيمان، وحافظوا على حيائكم تفلحوا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، لا يُفقد الحياء في مجتمع إلا فشت فيه المعاصي واجترأ الناس فيه على كبائر الذنوب ونُزعت البركة من هذا المجتمع؛ فالحياء خلق جليل وقيد رباني مهم يمنع من انحدار المجتمعات وارتكاسها، هذا القيد بوجوده تعتدل الأمور وبغيابه تختل، يقول كما عند ابن ماجة من حديث أنس: ((ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه)) ، فغياب الحياء يشين الأمور ووجوده يزينها.
وأهمية الحياء أمر عرفه الناس من لدن النبوة الأولى، وسار على هذه القاعدة وهذا الخلقِ الرباني جميع أنبياء الله عليهم السلام، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) أخرجه أبو داود، قال الخطابي في المعالم: "معناه أن الحياء لم يزل أمره ثابتًا واستعماله واجبًا منذ زمان النبوة الأولى، فإنه ما من نبيٍ إلا وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه، وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم، وذلك أنه أمر قد علم صوابه وبان فضله واتفقت العقول على حسنه، وما كانت هذه صفته لم يجرِ عليه النسخ والتبديل" انتهى.
لهذا اهتم الإسلام بأمر الحياء وجعله ركيزة مهمةً وخُلُقا عظيمًا من أخلاق هذا الدين السمح الذي رضيه الله سبحانه لعباده ولم يرض لهم غيره، بل جعله خلق الإسلام، وهذا يكفي لبيان أهمية الحياء، يقول فيما أخرجه ابن ماجة من حديث أنس: ((إن لكل دين خُلُقا، وخلق الإسلام الحياء)) ، فكيف سيحفظ المسلم إسلامه إذا فرط في خلق الإسلام، وكيف سيُرضِي ربه سبحانه ونبيه إذا نزع عن نفسه جلباب الحياء الذي تخلق به أنبياء الله وأصفياؤه.
فتخلق بالحياء أيها المسلم، وتجمل به، وعوِّد النفس عليه، ولا تسترسل في اتباع الهوى، فالله سبحانه ناظر إليك مطلع على سرك وعلانيتك، فاحذر أن تجعله أهون الناظرين إليك.
وإذا خلوت بريبة فِي ظلمة والنفس داعية إلَى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وازرع ـ أيها المسلم ـ خُلُق الحياء والأدب وغيره من الأخلاق الحسنة والشمائل الطيبة في أهلك وبنيك، فهي أفضل تَرِكةٍ وأفضل ميراث، يقول : ((خير ما أعطي الناس خلق حسن)) أخرجه أحمد عن أسامة بن شريك.
اللهم احفظ علينا ديننا وحياءنا وحشمتنا، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/5378)
معنى الإسلام
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, حقيقة الإيمان, مواعظ عامة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
21/10/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام هو الدين الذي وصى به الأنبياء. 2- معنى الإسلام. 3- توحيد الرب سبحانه من أجل وأسمى معاني الإسلام. 4- من معاني الإسلام المساواة والوحدة بين المسلمين. 5- من معاني الإسلام الرضا بحكم الله ورسوله. 6- وجوب اتباع النبي. 7- من معاني الإسلام الاهتمام بأمر المسلمين. 8- أهمية الاستعداد للدار الآخرة. 9- وجوب تفقد معاني الإسلام في النفس. 10- امتثال أوامر الله ورسوله مفتاح لحل جميع مشاكلنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان، الإسلام دين الله الذي شرعه لعباده ورضيه لهم، يقول سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]. والإسلام منهجٌ وصّى به الأنبياء عشيرتهم وأقوامهم، يقول سبحانه عن نبيه إبراهيم ونبيه يعقوب عليهما السلام في وصيتيهما لأبنائهما: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة 132].
هذا الإسلام ينبغي أن ندرك معانيه وأن نفهم مراميه وأن نسعى لأن نكون من أهله حقًا وصدقا، لا ينبغي أن نحصر الإسلام في لفظ نقوله لأن الإسلام أكبر من ذلك، ولا ينبغي أن نربطه بشعيرة معينة لأن الإسلام أوسع من ذلك. فتعالوا بنا نستكشف الإسلام ونحاول أن نتذكر من معانيه ما يمكن أن يكون غاب عن أذهاننا في غمرة هذه الحياة ذات المشاغل والمشاكل والهموم.
الإسلام ـ أيها الإخوة ـ أن نسلّم أنفسنا لله، وأن نجعل له وحده سبحانه حق التصرف فيها وتوجيهها حيث أراد سبحانه، يقول ربنا تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83]. فلا بد من الاستسلام لهذا الرب الذي أسلم له الكون كلّ الكون طوعًا وكرها، فكيف لا يُسلم له الإنسان الذي عرف قدرة هذا الرب وعظمته، ورأى آثار صنعته وإبداعه في هذا الكون المترامي وهذه المخلوقات المختلفة؟! فالاستسلام لله والانقياد له من أهم معاني الإسلام التي يجب أن نحققها، يقول تعالى: فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين [الحج: 34].
الإسلام ـ أيها المسلمون ـ أن نتوجه إلى الله سبحانه بعقيدة صافية خالية من كل شائبة شركية أو خرافة، وأن نوحّده سبحانه حق توحيده، يقول سبحانه: قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 71]. فالإسلام أن نسلم لرب العالمين، لا بد أن نسلم للرب وحده ولا نشرك به شيئا، ولا بد أن نُخلص له العمل والعبادة وحده، لا نتوجه بشيء منها لغيره، فهو المستحق للعبادة وحده سبحانه، وأن نشمّر عن ساعد الجد لننال رضاه، يقول سبحانه: قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ [الأنعام:14].
الإسلام ـ أيها المسلمون ـ أن لا نفتخر في هذه الدنيا بنسب غير نسب الإسلام، ولا نباهي بانتماءٍ قبله؛ لأنه الرابطة الحقة التي تربط كل مسلم بأخيه مهما بعدت بينهم المسافات وفرقت بينهم المساحات، فالإسلام جاء ليبين لجميع الناس أن الفوارق بينهم والامتيازات العرقية مرفوضة إذا جردت عن التقوى والعمل الصالح، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]، فالفخار والافتخار إنما يكون بالإسلام، هذا الدين الذي أكرمنا الله به وهدانا به من الضلالة إلى الهدى، وشعار المسلم الذي ينبغي أن يرفعه أمام أيّ انتماءٍ أرضي ضيق هو:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
الإسلام ـ أيها الإخوة ـ أن نرضى بحكم الله ورسوله في كل معاملاتنا وأقضيتنا وفي كافة نزاعاتنا وخلافاتنا وعلاقاتنا الاجتماعية، وأن يكون ذلك أحبَّ إلينا وأقرب إلى نفوسنا، وأن لا نغلّب أهواءنا أو نتذرع بحاجاتنا وظروفنا الاجتماعية في التفلت من أحكام الشرع الواضحة، يقول سبحانه: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65].
الإسلام أن يكون محمد بن عبد الله النبيّ الأمي صلوات ربي وسلامه عليه قدوتنا وأسوتنا، لا نرفع على قوله قول بشر كائنًا من كان؛ لأنه المبلِّغ عن الله وصاحب الشريعة الخاتمة والسبيل القويم، يقول سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا [الأحزاب: 21]. هذه الأسوة توجب علينا طاعته واتباعه حتى ننال رضا الله علينا وحبه لنا، يقول سبحانه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31]، فاتباع هذا النبي واجب على كل مسلم، بل إن الأنبياء لو أدركوا رسول الله ما وسعهم إلا أن يتبعوه، يقول : ((والذي نفسي بيده، لو أن موسى عليه السلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) أخرجه البيهقي عن جابر، ويقول الإمام مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه: "ما منا إلا رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر رسول الله.
الإسلام ـ أيها الناس ـ أن نهتم بأمر المسلمين في كل مكان، وأن نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، وأن لا يكون هم كل واحد منا بطنه وفرجه وبيته وأبناءه وسيارته ثم ليكن بعد ذلك ما يكون، بل لا بد أن يضيف المسلم إلى اهتماماته اهتمامه بأمته وبإخوانه المسلمين في كل مكان، وأن يحس بمعاناتهم وكأنها تصيبه هو بدلاً عنهم، يقول فيما أخرجه مسلم من حديث النعمان بن بشير: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
الإسلام ـ أيها المسلمون ـ أن يسْلم منا المسلمون ومِن أذانا، وأن لا نكون أشداء على المسلمين رحماء على غيرهم، وأن نقبل عذر إخواننا، وأن نكون هينين لينين رفيقين مع إخواننا، لا نؤذيهم بألسنتنا ولا بأيدينا، هكذا نكون حقًّا مسلمين، وهكذا عرّف رسول الله المسلم فقال عليه الصلاة والسلام: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة. فهل تخلّق فعلاً بالإسلام وتشرَّبه من يؤذي المسلمين ولا يحسن إلى جيرانه ولا يُؤمَن جانبه؟! هذا يتنافى مع تعاليم الإسلام وإرشاداته؛ لهذا يحذرنا رسول الله ويؤكّد هذا التحذير بالقسم ثلاثا فيقول: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه)) أخرجه البخاري عن أبي شريح.
الإسلام ـ أيها المسلمون ـ أن نعرف لأهل الفضل فضلهم فنشكرهم ونحسن إليهم، وأن نعرف لأهل العلم مكانتهم فنجلهم ونحترمهم، وأن نكون معهم عادلين مقسطين منصفين وإن اختلفنا معهم، وأن نتهم آراءنا قبل أن نتهم آراءهم، بهذا نكون مسلمين، وبعكسه نبتعد شيئًا فشيئًا عن هدي الإسلام وسماحته. وقد بيّن هذا رسول الله ووضّحه أفضل توضيح، فهو القائل كما في صحيح الجامع من حديث عبادة بن الصامت: ((ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه)). فليس من هدي الإسلام أن يعجب المرء بنفسه، أو يتشبث برأيه في كل الأحوال، أو يتجرأ على أهل الفضل فيغمطهم حقهم، أو يتجرأ على أهل العلم فيصوِّب من شاء ويخطِّئ من شاء، بل هذا من المهلكات كما بيّن رسول الله حيث يقول فيما صح عنه: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)).
الإسلام ـ أيها المسلمون ـ أن نستعد لمغادرة هذه الدار إلى دار القرار بزاد من العمل الصالح، فلا ينبغي أن نتشبث بدارٍ نحن مفارقوها، فقد فارقها من هو أحب إلى الله منا، بل هو أحب خلق الله إلى الله رسولنا محمد ، يقول كما عند البيهقي من حديث سهل: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئتَ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به)). هذا معنى من المعاني المهمة التي يبينها الإسلام لأهله حتى لا يغتروا بهذه الدار، فأين نحن من هذا المعنى الإسلامي؟! وهل نظرنا إلى الدنيا والآخرة نظرةَ تبصّر وتعقل لندرك قيمة كل منهما؟! يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 77، 78].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، ما ذكرناه في الخطبة الأولى من أمور وتعاليم وأخلاق إسلامية وغيرها مما لم نذكره من هذه الأخلاق والتعاليم التي حث عليها ديننا الحنيف وشدد عليها، هذه التعاليم علينا أن نجاهد أنفسنا في تحقيقها والتحلي بها، كل مسلم مأمور بأن يتفقد نفسه وينظر ما الذي ينقصه من هذه التعاليم والآداب الإسلامية فيسعى جاهدًا لتحقيقه، على الأمة جمعاء إذا أرادت أن يعود لها عزها وسؤددها أن تعيد لهذه التعاليم اعتبارها، وأن لا تبقي هذه الأوامر الإلهية والتعاليم النبوية تراثا نقرؤه ولا نحققه في حياتنا وواقعنا؛ لأن تحقيق هذه الأمور يعني الامتثال لأوامر الله ورسوله ، وهذا الامتثال هو مفتاح الحل في كافة مشكلاتنا ومعضلاتنا، فالرخاء المعيشي يتحقق لنا بتحقيق إسلامنا والتقيد بتعاليمه وأحكامه، والأمن والأمان يتحقق لنا بذلك، والنصر على الأعداء يتحقق لنا بذلك، وسعادة الدنيا والآخرة إنما هي في تحقيق الإسلام واستكمال خصاله، يقول سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55]، ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10-13].
هذا ـ إخوة الإيمان ـ بعض ما يعدنا الله به إن نحن حققنا تعاليم الإسلام وآدابه، فلنسع في هذا السبيل، ولنتخلق بأخلاق الإسلام؛ عسى الله أن يوفقنا ويأخذ بأيدينا، ولنعلم أن الله سينصر الإسلام وتعاليم الإسلام بإذنه تعالى بنا أو بغيرنا إن نحن تقاعسنا عن ذلك، يقول سبحانه: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38]، ويقول : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو ذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)).
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يحققون تعاليم الإسلام ويمتثلون أوامر الله ورسوله فيعز الله بهم الدين.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/5379)
التكافل الاجتماعي
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
11/12/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غياب مبدأ التكافل في هذا العصر. 2- معنى التكافل. 3- الحث على التكافل الاجتماعي وبيان فضله. 4- دعوة الإسلام إلى مبدأ التكافل بين أفراد المجتمع المسلم. 5- ثناء الله على من يتصفون بخلق التكافل. 6- قصة الأشعريين. 7- بيان ثواب التكافل في الدنيا والآخرة. 8- من صور التكافل في حياة النبي. 9- غياب التكافل الاجتماعي سبب في انتشار الرذائل في المجتمع. 10- التكافل معنى شامل. 11- بعض مواقف السلف في التكافل الاجتماعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نتكلم اليوم بإذن الله عن أمرٍ عظيم من أمور الإسلام، أمر حثّ عليه الله سبحانه في كتابه العزيز وأرشد إليه رسولنا الكريم في الكثير من أقواله وأفعاله، إنه مبدأ التكافل الاجتماعي، مبدأ تكاتف المسلمين بعضهم مع بعض، مبدأ تفقّد المسلمين بعضهم لبعض، مبدأ إعانة المسلمين بعضهم بعضا. هذا المبدأ الذي كان من المفترض أن يتعامل به المسلم مع أخيه المسلم مهما ابتعدت بينهما الأجناس والأرحام أصبح وللأسف غائبًا حتى بين من تربطهم الرحم والقرابة؛ فلا يدري بعضهم عن بعض شيئا، بل قد ترى إنسانًا يكاد يتفجر من الغنى والأموال وأقرب الناس إليه تحت خط الفقر ولا يشعر نحوه بشيء فالله المستعان.
والتكافل لغة: من الكفل والكفالة، والكفالة معناها الضمان، تقول: تكفلت بالشيء أي: ضمنته، يقول سبحانه: وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل: 91]، أي: شهيدًا وضامنا، ويقول عز وجل: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران: 44]، أي: يحضنها، فالكفالة إذًا هي ضمان الشيء وتحمّله.
ويتمثل التكافل الاجتماعي في التعاون بين المسلمين وتناصحهم وموالاة بعضهم لبعض، ويتمثل في مساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين بأن يساهم المسلمون في توفير حاجاتهم وتخفيف معاناتهم، ويتمثل أيضا في مساعدة الأيتام وكفالتهم، وفي مساعدة الأرامل وتوفير احتياجتهن، إلى غير ذلك، يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].
ولقد أمرنا الله سبحانه في الكثير من آيات كتابه بهذا المبدأ العظيم مبدأ التكافل، وحثنا على الإحسان إلى كل من يحتاج إلى ذلك، يقول سبحانه: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء: 36]، ويقول سبحانه: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَاب [البقرة: 177]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي توجهنا إلى هذا المبدأ العظيم وهذا الخلق الكريم الذي يحفظ كيان المجتمع وكرامة أفراده.
وحث أيضا رسول الله على هذا الأمر المهم، وكان أولَ العاملين به، فهو القائل فيما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه: ((أنا أولى بكل مسلم من نفسه، من ترك مالاً فلِوَرثته، ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا فإليَّ وعليّ)) ، وأرشد الأمة إلى هذا المبدأ مبينًا لمكانته العظيمة من دين الله عز وجل، يقول : ((من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري، وهذا تحريك لشعور المسلمين وأحاسيسهم حتى يتضامنوا ويتعاونوا على البر والتقوى، وحتى يحس من عنده شيء من فضل الله بمعاناة وشعور من ليس عنده فيعطيه مما عنده، يقول النووي في شرح هذا الحديث: "في هذا الحديث الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج" انتهى.
ويقول : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. فهذا حثٌ على أن يقف المسلم بجانب أخيه إذا احتاج إليه، وله في ذلك الجزاء الحسن من رب العالمين.
ولا يكتفي بهذا، بل يصور لنا المجتمع الإسلامي الحقيقي المتكافل المتكاتف تصويرًا جميلا غايةً في التماسك، فيشبهه بالجسد الواحد الذي يربط أعضاءه نسيج واحد، فلا يصاب فيه عضوٌ إلا أحست به سائر الأعضاء وتأثرت بسبب النسيج الذي يربط بينهم، يقول فيما رواه مسلم عن النعمان بن بشير: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). فالمسلمون أيضا لهم نسيج يربط بينهم ويجعلهم يحسون بمعاناة بعضهم، هذا النسيج هو وحدة العقيدة وآصرةُ الأخوة في الله سبحانه، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يجمع بيننا هذا النسيج ثم لا يحس بعضنا بمعاناة بعض، ولا يسعى بعضنا إلى مساعدة بعض، لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في أنفسنا خلل والعياذ بالله.
ولقد أثنى رسول الله على من يتصفون بخلق التكافل ويحققون مبدأه ويحرصون عليه، أثنى عليهم واعتبر نفسه منهم وهم منه، وهؤلاء هم الأشعريون قوم أبي موسى الأشعري الصحابي الجليل رضي الله عنه، يقول فيما رواه الشيخان عن أبي موسى: ((إن الأشعريين إذا أرملوا ـ أي: إذا قارب زادهم على النفاد ـ في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)). فانظروا إلى هذا التوحد في إحساس هؤلاء القوم ببعضهم، حتى صار من يملك شيئًا يقتسمه مع من لا يملك بكامل الرضا والسماحة، وانظروا إلى الشرف العظيم الذي نالوه بهذا الصنيع، وأي شرف أكبر من أن يقول عنهم رسول الله : ((فهم مني وأنا منهم)) ؟!
هذه ـ إخوة الإيمان ـ أهمية هذا الأمر العظيم ومنزلته من ديننا الحنيف، فلا بد أن نعطي هذا الأمر حقّه، ولا بد أن نسعى في أن نكون متكافلين متعاونين في ظل تعاليم ديننا.
أما عن ثواب هذا التكافل ـ يا عباد الله ـ فإنه ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، فلقد عدّه رسول الله كالجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، يقول في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله))، فهل نعجز عن تحصيل ثواب هذا الجهاد بمثل هذا العمل الذي قد يكون أيسر على كثير منا من الجهاد بالنفس؟! بل ويرفع رسول الله هذا المبدأ ويشجع عليه حتى يجعل من يقوم بهذا الواجب الإسلامي العظيم رفيقًا له في الجنة، فيقول فيما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما. فمن ذا الذي يرغب عن مصاحبة رسول الله في الجنة؟! ومن ذا الذي يزهد في هذا الفضل العظيم؟!
هذا هو التكافل الاجتماعي الذي نادى به الإسلام قبل أن تنادي به النظريات الاجتماعية الوضعية، وحث أتباعه عليه، وكان قدوةَ الناس في هذا، شاعرًا بمعاناة المسلمين، يعيشها معهم بكل جوارحه، ولم يكن محجوبًا عنهم متعاليًا عليهم، كان يجوع إذا جاعوا، ويأكل إذا أكلوا، بل قد يأكلون ولا يأكل ، كل ذلك ليعلم الأمة أهمية أن يشعر بعضهم بهموم بعض، وأن يساعد بعضهم بعضا.
فاسعوا ـ عباد الله ـ في هذا السبيل العظيم الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ولا يدفعنكم التكاثر في الأموال والأولاد والتسابق على الاستزادة من متاع الحياة الدنيا إلى نسيان الفقراء واليتامى والأرامل والمعوزين، فقد يكون هذا التكاثر في الأموال وبالا عليكم في الآخرة، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا أو كسبه من طيب)) أخرجه ابن ماجة. يبين أن الأكثرين الذين يملكون الأموال في هذه الحياة الدنيا ويتكاثرون فيها سيكونون أقل الناس حظًا وفوزًا يوم القيامة إلا من كسَبَ أمواله من حلال وقال بالمال هكذا وهكذا أي: أنفق من هذا المال في سُبل الخير وفي مصالح المسلمين وفي مساعدة الفقراء والمحتاجين، فمن فعل هذا كان المال بالنسبة له نعمةً ينال ثمرتها يوم القيامة.
فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا وتآزروا وتناصحوا، ولا يقل كل واحد منا: نفسي نفسي؛ لأنه لا غنى لمسلمٍ عن إخوانه.
أسأل الله أن يوفقنا إلى العمل بمرضاته، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، إن قوةَ أيّ مجتمعٍ وسلامته إنما هي في قوة العلاقة والترابط بين أفراده، فإذا كانت علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض علاقة حبّ وتعاون على الخير ازدهرت حياة المجتمع واستقرت أموره، وإذا كانت العلاقة علاقة مصالح محضة وعلاقة أنانية فإن هذا يعود على المجتمع بالتفرق وذهاب الريح، يقول تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، ويقول فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)).
وموضوع التكافل الاجتماعي نحن مأمورون بإحيائه والعمل به؛ أولا: لإرضاء ربنا عز وجل وما يترتب على هذا من ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، وثانيا: لحفظ أنفسنا وإخواننا ومجتمعاتنا من التمزق وانتشار الرذائل والجرائم، والناظر في الانحرافات والجرائم المنتشرة في المجتمع يرى أن العامل الأساسي المشترك بينها هو غياب التكافل الاجتماعي وغياب إحساس المسلمين بعضهم ببعض، لهذا حثنا على كثير من أمور التكافل الاجتماعي التي تحفظ المجتمع وتمنع من استفراد الشيطان ببعض أفراده، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال: ((فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض)) أخرجه أحمد.
واعلموا ـ إخوة الإيمان ـ أنه لا يشترط في التكافل أن يكون بالمال والطعام وحسب، بل إن الزيارة في الله من التكافل، والنصيحة من التكافل، والكلمة الطيبة من التكافل، بل قد يكون أثر مثل هذه الأمور أعظم من أثر المال. فسارعوا ـ عباد الله ـ إلى إحياء هذا المبدأ العظيم في أُسَرِكم وجيرانكم وإخوانكم المسلمين، واقتدوا بسلفكم الصالح الذين عرفوا هذا الأمر وقاموا به حق القيام، فقد كان رسول الله وصحابته رضوان الله عليهم يتفقدون ذوي الحاجات ويعينونهم، وجاء من بعدهم من المسلمين فحرصوا على هذا أشد الحرص، فقاموا به جماعات وأفرادا، يبتغون رضوان الله. يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن القاضي محمد بن علي المروزي عُرف بالخياط لأنه كان في الليل وفي وقت فراغه يخيط الثياب للأيتام والضعفاء، ويذكر أيضًا أن أبا العباس الرفاعي ـ وكان فقيهًا شافعيًا ـ كان يجمع الحطب ويجيء به إلى بيوت الأرامل ويملأ لهم الماء بالجرة، فأين نحن من سيرة سلفنا الصالح؟! وأين نحن من مثل هذه الأخلاق وهذه المكارم؟!
فاتقوا الله معشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن؛ تفلحوا وتسعدوا.
اللهم وفقنا إلى ما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/5380)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
18/12/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرحم وشيجة بين الناس. 2- وجوب صلة الرحم. 3- فضائل صلة الرحم. 4- الوعيد الشديد لمن قطع رحمه. 5- التحذير من قطع الرحم. 6- صور وأشكال صلة الرحم. 7- أصناف الناس في صلة الرحم. 8-حرص الصحابة على صلة الرحم. 9- قصة أبو بكر رضي الله عنه مع مسطح بن أثاثة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بتّها بتته)) أخرجه أحمد وأبو داود عن عبد الرحمن بن عوف.
الرحم ـ يا عباد الله ـ هذه الوشيجة وهذه الصلة العظيمة التي جعلها الله سبحانه مدعاة لتواصل الناس وتراحمهم وتزاورهم، هذه العلاقة التي تربط بين كل مجموعة من الناس فيما بينهم، ثم تربطهم جميعًا برباطٍ واحد وهو انتماؤهم لآدم وحواء، هذه الرحم توعّد الله سبحانه قاطعها بوعيد شديد، فاحذروا هذا الوعيد أن يصيبكم، واحذروا هذا النذير أن يشملكم.
كنا في الجمعة الماضية نبحث في صلةٍ أوسع من الرحم وهي التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع الإسلامي، والذي لا قوام لمجتمعٍ بدونه، والآن نحن في دائرةٍ أضيق هي صلة الرحم ورابطة القرابة، ولعلنا في المستقبل إذا أذن الله سبحانه نتحدث عن صلة أضيق هي العلاقات الزوجية وحقوق الزوجين.
اعلموا ـ عباد الله ـ أن الرحم تناشدكم وتناديكم أن لا تقطعوها، اعلموا أنها تبرأ إلى الله منكم وأنها تعلّقت بالعرش ـ كما ورد في الأثر ـ حتى أعطاها الله سبحانه عهدًا عظيمًا وميثاقًا غليظا، فما هذا العهد؟ وما هذا الميثاق؟ يقول فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أصِل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: ذلك لكِ)) ، إذًا فليحذر من كان يعلم هذا، فليحذر من قطيعة الأرحام، وليعلم من لم يكن يعلم أن الأمر جدُّ خطير وأن وراءه عذاب عسير وغضب من العزيز القدير.
أيها المسلمون، لقد أمر الله سبحانه في أكثر من آية من آيات كتابه بصلة الرحم، وأنذر المتهاون فى هذا الأمر المهم، فلا تحسبوا أن صلة الرحم أمر لنا الخيار في أن نقوم به أو نتركه. وإن كان معظمنا مقصر في هذا الواجب العظيم، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نتواصى ونذكر أنفسنا به، لقد بلغ من عظمة هذه العلاقة وأهميتها أن جعلها رسول الله شعارًا للإيمان وعلامةً من علامات المؤمن الصادق، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحم)) رواه البخاري، ولقد مدح الرحمن عز وجل واصلي الرحم في كتابه العزيز، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 21، 22].
هذا إنعام من الله على الذين يصلون رحِمهم وبشارةٌ عظيمة بأن العاقبة لهم والفوز من نصيبهم، ولقد بشّرهم رسول الله أيضًا في أكثر من حديث من أحاديثه الشريفة المباركة، وعدد لنا من الآثار والفوائد العظيمة في صلة الرحم ما لا يملك الإنسان أمامه إلا أن يندهش ويتساءل: أين المسلمون من هذه المنح الإلهية وهذه الفوائد الدنيوية والأخروية العظيمة التي تجلبها صلة الرحم؟! فمن ذا الذي يكره طول العمر والبركة في العمر وبسط الرزق وعمران الديار والبركة في النسل ودخول جنة رب العالمين سبحانه؟! كل هذا وغيره في صلة الرحم، يقول : ((يا أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصَلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) أخرجه أحمد والترمذي عن عبد الله بن سلام، ويقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أنس: ((من سرّه أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه))، ويقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي سعيد: ((صدقةُ السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((صلة الرحم وحُسن الخلق وحُسن الجوار يعمُرنَ الديار ويزدن في الأعمار)) أخرجه أحمد عن عائشة، إلى غير ذلك من الأحاديث التي لو ذهبنا نستقصيها لما وسعنا المجال.
أما قطع الأرحام فإن الله ـ كما قلنا ـ توعد صاحبه بوعيد عظيم، يقول تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 22، 23]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25]، فهل نسمع ـ يا عباد الله ـ هذا الوعيد بعقولنا؟! وهل نفرّ منه بصلة أرحامنا؟!
لقد بينت هذه الآيات القرآنية الكريمة فداحة هذا الأمر، وبينت بعض عقوباته وعواقبه، كما عددت أحاديث رسول الله عقوبات قطع الرحم وبيّنتها، فمن هذه العقوبات أن الله يقطع من قطع الرحم، ومن هذه العقوبات اللعنة، ومنها الحرمان من الجنة، ومنها تعجيل العقوبة في الدنيا قبل عقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الخزي والإبعاد لقاطع الرحم.
وإليكم هذه الأحاديث والتحذيرات النبوية، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) متفق عليه، وقال فيما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي بكرة: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ، ويقول كما في صحيح الجامع: ((من قطع رحمًا أو حلف على يمين فاجرة رأى وبال ذلك قبل أن يموت)).
فاحذر ـ يا عبد الله ـ من قطيعة الرحم، احذر من خراب تجلبه على نفسك ومن غضب الله يحل بك، واعرف لأهلك وأقربائك حقهم الذي بينه الله سبحانه بقوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء: 26]، وبينه رسول الله بقوله: ((أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك)) أخرجه الطبراني والحاكم.
بل لقد زاد إسلامنا الحنيف في المحافظة على هذه الوشيجة بأن منع من اليمين أو النذر بقطيعة الرحم، فليس للمسلم أن يحلف أو ينذر لله نذرًا بأن يقطع رحمه، فلا يمين في هذا ولا نذر، وليس مطالبًا ببر هذه اليمين ووفاء هذا النذر، يقول : ((لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا تملك)) أخرجه أبو داود عن عمران بن حصين.
وأشكال صلة الرحم تختلف وتتعدد، فمنها زيارتهم وعيادتهم والدعاء لهم وإجابة دعوتهم وتوقير كبيرهم إلى غير ذلك، يقول ابن أبي جمرة كما في تحفة الأحوذي: "تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة" انتهى.
فيا أيها المسلم، ويا من ترجو رضا رب العالمين، حافظ على هذا الأدب الإسلامي الكريم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ولا تقل: أنا لا أواصل أقربائي ولا أصل رحمي لأنهم أيضًا لا يأتون إليّ ولا يصلوني، فهذا قول غير مقبول؛ لأن صلة الرحم ليست ردًا لحقٍ قام به أولو الأرحام نحوك، بل هي واجب أنت تقوم به وتبدؤهم به وإن لم يبدأوك، بل إن صلة الرحم الحقيقية إنما تكون عندما تصل من قطعك وتزور من لا يزورك منهم، فهذه هي صلة الرحم الحقيقية التي يكابد فيها المسلم أهواءه ويجاهد نفسه، والتي يجزي الله عنها أفضل الجزاء، يقول فيما أخرجه البخاري وأحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((ليس الواصل بالمكافي، ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها)). هذا هو الواصل حقيقة، واصل لرحمه، وواصل إلى رحمة الله عز وجل ومغفرته، فما أحرانا ـ عباد الله ـ إلى أن نصل ما انقطع من حبال الود بيننا وبين أهلنا وذوي رحمنا.
والناس ـ إخوة الإيمان ـ في هذا الأمر صنفان: صنف مقصر في صلة الرحم، وهذا عليه أن يعالج هذا القصور ويصلح هذا الخطأ، وصنف قاطع للرحم بالكلية، فكم من ابن قاطع لأبويه، وكم من إخوة خرجوا من رحم واحد ولكن حبال الود والخير بينهم مقطوعة، بل قد تجد أخوين متقاطعين حتى إن أبناءهم لا يعرفون بعضهم، وكم وكم من جناة على الرحم، وهؤلاء كلهم على خطر كبير إن لم يتوبوا من ذلك ويصلحوه، فليعلم هؤلاء جميعا أن هذه الرحم التي يقطعونها قد أجارها الله سبحانه ووعدها بقطع من قطعها، فهل لهم طاقة بقوة الله وجبروته؟!
فاتق الله يا قاطع الرحم، واتق الرحم أن تقطعها، وعُد إلى ربك ومولاك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، لصلة الرحم بركة وقبول، ولصاحبها تقدير وإجلال لدى جميع الناس باختلاف دياناتهم وانتماءاتهم. ولقد علمت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها منزلة صلة الرحم قبل أن تسلم وقبل أن يُبعث رسول الله ، وعلمت أن واصل الرحم لا يخيب، فقد جاءها رسول الله وهو يرجف ويقول: ((زملوني زملوني)) عندما جاءه الوحي لأول مرة في الغار، وقال لها: ((لقد خشيت على نفسي)) ، فماذا قالت له خديجة رضي الله عنها؟ قالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتحمل الكل، وتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. متفق عليه. لقد علمت بفطرتها السليمة أن رسول الله لن يخيَّب لأن من صفاته أنه يصل الرحم، فيا لها من فطرة! ويا لها من فراسة إيمانية عظيمة!
ولقد علم أصحاب رسول الله منزلة الرحم فحافظوا عليها ووجهوا إليها، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال كما في البداية والنهاية: (أوصيكم بصلة الرحم، فإنها مثراة في المال منسأة في الأجل محبّة في الأهل)، وقال أيضا: (ألا وقولوا الحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا رحم من قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم).
حافظ صحابة رسول الله على هذا الأمر في كل الظروف حتى عندما قطعهم أقرباؤهم وأساؤوا إليهم، عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويُسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال: ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) أخرجه مسلم.
ومن أشهر قصص صلة الرحم ما كان من أمر صديق الأمة أبي بكر رضي الله عنه مع أحد قرابته وهو مسطح بن أثاثة الذي كان فقيرا، فكان أبو بكر ينفق عليه، ولكن مسطحا تكلم في أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها في قصة الإفك، فماذا كان من أبي بكر نحوه؟ أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة الطويل في قصة الإفك أنها قالت: فأنزل الله عز وجل: إِنّ الّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عَشْرَ آيَاتٍ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ بَرَاءَتِي، قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَىَ مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الّذِي قَال لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللّهُ الآية: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، فقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللّهِ، إِنّي لأُحِبّ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النّفَقَةَ الّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.
هذا هو صنيع أصحاب رسول الله مع رحمهم، وهذا دأبهم، واصلون لرحمهم حتى إن أساؤوا إليهم إساءة بهذه الدرجة، أما في عصرنا فإن الرحم تقطع لأتفه الأسباب، فالله المستعان.
اللهم وفقنا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على صلة الرحم ووفقنا إليها، ولا تجعلنا من قاطعي الأرحام برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ألن قلوبنا واجعلنا إخوة متحابين فيك...
(1/5381)
اقتربت الساعة
الإيمان
أشراط الساعة, اليوم الآخر
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
25/12/1425
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قرب موعد يوم القيامة. 2- عدم الشعور بمضي الأعوام وانصرام الأيام. 3- وجوب التصديق بالغيب الذي أخبر الله ورسوله به. 4- موقف أبي بكر رضي الله عنه في حادثة الإسراء. 5- أهمية الاستعداد ليوم القيامة. 6- بعض علامات الساعة. 7- الغرض من تذكر يوم القيامة. 8- كيف يكون الاستعداد ليوم القيامة؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تعالى في كتابه العزيز: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1]، ويقول سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 1، 2].
إخوة الإيمان، يخبرنا الله سبحانه في هذه الآيات عن قرب الساعة، ويبين لنا أن حساب الناس اقترب، وأن يوم القيامة دنا منهم، وأنهم مع ذلك لاهون غافلون منغمسون فيما هم فيه، منغمسون من أمر الدنيا، منشغلون بها وليسوا منشغلين بما ينتظرهم من هول هذا اليوم العظيم وما يتلوه من حساب ومصير.
دنو هذا اليوم وقربه أمر لا ينبغي أن يجادل فيه مسلم أو يشك فيه مؤمن، أفلا يكفي لليقين بقرب هذا اليوم أن الله يقول في بيان واضح: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63]؟! ألا يكفي أننا آخر الأمم وشريعتنا خاتمة الشرائع ولا نبي بعد نبينا ؟!
لقد بين رسولنا هذا الأمر بيانًا لا بيان بعده عندما قال كما عند مسلم من حديث جابر: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ولكننا نشعر أن هذا اليوم بعيد، وأن المسافة بيننا وبينه طويلة، وهو في الحقيقة قريب، فالله سبحانه يقول في كتابه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج: 6، 7]، ونحن أيضا نستطول ونستطيل هذه السنين منذ بعثة رسول الله ونعدها زمانًا طويلا، ويتساءل بعضنا ويقول في نفسه: كيف تكون بعثة الرسول مقترنة بالساعة وقد مضى على بعثته أكثر من ألف وأربعمائة سنة؟! وهذه نظرة قاصرة يرى صاحبها أن هذه السنين مدة طويلة، وهي في ميزان الله تعالى زمن قصير، يقول سبحانه: وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47]، إنه والله زمن يسير لا يُعدُّ عند الله سبحانه شيئًا مذكورا، ونحن إذا سألنا الآن من أمضى في هذه الدنيا أربعين سنة: ماذا تُمثل له هذه الأعوام؟ لقال: إنه لا يدري كيف مضت ولا ماذا فعل فيها.
أيها المسلمون، إن الأساس في تلقي الأخبار الغيبية عن الله وعن رسوله هو التصديق واليقين الكامل بصحة هذه الأخبار، فإذا كنا موقنين مؤمنين بكلام الله ورسوله صار ما يخبرنا به الله ورسوله كأنه حقيقة ماثلة أمامنا، لا نشك في حدوثها، ولا نتردد في قبولها، بل ونعمل وفق هذه الأخبار، هذا هو الإيمان الحق، الإيمان الذي يدفع صاحبه إلى الجد والحزم، هذا الإيمان مثّله صحابة رسول الله أحسن تمثيل في تلقيهم عن الله ورسوله، فما نزل أمر في كتاب الله إلا آمنوا به علموا حقيقته أم لم يعلموها، وما يخبرهم رسول الله عن شيءٍ من الغيب أو الشهادة إلا كانوا كأنهم يرونه رأي العين، والمواقف والأدلة على هذا كثيرة، من ذلك ما ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن حادثة الإسراء، تقول رضي الله عنها: لما أسري بالنبي إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟! قال: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أوَتُصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم؛ إني لأُصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أُصدّقه بخبر السماء في غدوةٍ أو رَوحة؛ فلذلك سمي أبو بكر: الصديق. أخرجه الحاكم والبيهقي.
ومن الأدلة أيضًا على إيمان ويقين الصحابة رضوان الله عليهم أن رسول الله أخبر صحابته يومًا عن المسيح الدجال الذي يأتي آخر الزمان، فبلغ من يقينهم بكلام رسول الله أنهم ظنوا أن الدجال على أبواب المدينة. أخرج الترمذي وابن ماجة عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله الدجّال ذات غداة، فخفّض فيه ورفّع حتى ظننا أنه في طائفة النخل. الحديث.
هكذا هو التلقي عن الله وعن رسوله ، فالله سبحانه يقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء: 1]، إن هذا اليوم من القرب بحيث أن الله سبحانه تحدَّث عنه في أكثر من آية بصيغة الماضي الذي حدث لا بصيغة المضارع أو المستقبل، وهذا زيادة في التأكيد على حدوث هذا اليوم لا محالة وعلى قربه، يقول سبحانه: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل: 1]، ويقول سبحانه: أَزِفَتْ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [النجم: 57، 58]، إلى غير ذلك من الآيات.
هذا الحساب الذي اقترب ـ إخوة الإيمان ـ وهذا الأمر الذي أتى وهذه الآزفة التي أزفت ماذا أعددنا لها؟ وبماذا سنلقاها؟ لا تُعِدُّوا لها الأموال فإن الأموال لن تجدي، ولا تُعِدُّوا لها الأملاك فإنها لن تجدي، ولا تُعِدُّوا لها الجاه والسلطان فإنه لن يُجدي، ولا تُعِدُّوا لها الأجسام الفتية والمنظر والقوام الجميل فإنه لن يجدي، أعدوا لها ـ رحمني الله وإياكم ـ الإيمان والعمل الصالح، واعلموا أنها آتية لا محالة، وليسأل كل مقصر نفسه: يومها ماذا أقول؟!
هذا اليوم العظيم ـ إخوة الإيمان ـ أشارت إلى قربه الآيات القرآنية كما أسلفنا، وأشارت الأحاديث النبوية الصحيحة أيضا إلى ذلك، فرسول الله يبين أنه بُعث وكأنه في سباق مع الساعة أيهما يأتي أولاً، فيقول كما في صحيح الجامع من حديث أنس : ((لست من الدنيا وليست مني، إني بعثت والساعة نستبق)) ، ويقول في تبيين أمر قرب الساعة وحال الناس من هذا الأمر، يقول : ((اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا، ولا يزدادون من الله إلا بُعدا)) أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود، وعن عبد الرحمن السلمي قال: نزلنا من المدائن على فرسخ، فلما جاءت الجمعة حضرنا فخطبنا حذيفة فقال: إن الله عز وجل يقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، فقلت لأبي: أيستبق الناس غدًا؟! قال: يا بني، إنك لجاهل، إنما يعني العمل اليوم والجزاء غدا. ذكره المنذري في الترغيب والترهيب.
هذا ـ إخوة الإيمان ـ عن قرب هذا اليوم العظيم، ويكفي في قربه أننا نؤمن بأنه قادم وآت، فكل ما هو آتٍ قريب، ومع هذا لم يكتف رسول الله بإخبارنا بقرب هذا اليوم، بل زاد على ذلك بأن بيّن لنا بعض أماراته وإشاراته وعلاماته التي متى رأيناها أيقنّا بقرب هذا اليوم، وكنا على أُهبة الاستعداد لملاقاته وملاقاة الله عز وجل، وقد ذكر رسول الله الكثير من علامات الساعة وأماراتها، ولكننا نذكر بعضها لوضوحها ووضوح دلالتها في وقتنا هذا بالذات، عسى الله أن يقوِّي بها إيماننا بهذا الأمر العظيم، ويجعلنا ممن يستعدون له بالإيمان والعمل الصالح.
من هذه العلامات كثرة الهرج، أي: كثرة القتل، يقول : ((لا تقوم الساعة حتى يفيض المال، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج)) ، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: (( القتل القتل القتل)) ثلاثا. أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة. ودلالة هذا الحديث واضحة؛ فلا زمان كثُر فيه القتل وسفك الدماء وإزهاق الأرواح في كل ناحية من نواحي الأرض أكثر من زمننا هذا، حتى إن القاتل لا يدري فيم قَتل ولا المقتول فيم قُتل كما ورد في الأثر.
ومن هذه العلامات تقارب الزمان وسرعة مضيّه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار)) أخرجه الترمذي. وهذا الأمر لا تجد أحدًا من الناس يناقش فيه أو يماري، فكل الناس يصرّحون بأن الزمان أصبح من السرعة بحيث أنهم لا يشعرون بمروره، فالأسبوع كاليوم، فنحن نصلي الجمعة اليوم ثم لا نشعر إلا والجمعة الأخرى غدا! بل إن العام ما إن يقال: إننا نستقبل عامًا جديدا حتى يقال: إننا نودعه ونستقبل غيره وهكذا
ومن العلامات المميزة والواضحة لنا وضوح الشمس ضياع الأمانة والذِّمّة، عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة)) أخرجه البخاري. وهذا هو والله زمان ضياع الأمانة، لا أمانة ولا أمان، لقد وصل ضياع الأمانة إلى الحد الذي يخشى فيه المسلم أن يتعامل بالمال مع جار أو صديق أو أخ حتى لا يفقد هذا الأخ أو الصديق فالله المستعان. والأمانة الضائعة في وقتنا ليست الأمانة في الأمور المالية فقط، بل إنها أمانات متعددة، فالأمانة المالية والأمانة العلمية والأمانة الوظيفية وأمانة القول والكلمة، إلى آخر أنواع الأمانات التي أصبحت أثرًا بعد عين، نسأل الله السلامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 16-22].
بارك الله لي ولكم في آيات كتابه، وجعلنا من حزبه وأحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
معشر المسلمين، عندما نذكر يوم الحساب أو يوم القيامة هذا اليوم العظيم إنما نحاول أن نحييَ موات أنفسنا ونُلِين قسوة قلوبنا، ونحاول أن نستدرك بالعمل الصالح والتوبة قبل فوات الأوان، فالناظر في أحوالنا لا يرى وجودًا لهذا اليوم العظيم في قاموس حياتنا، ولا استعدادًا له أو خوفًا منه، بل لعل الكلام عن هذا اليوم يُعدّ الآن من قبيل الدروشة والتخلف، وهذا هو الواقع لا مبالغة فيه، فمن الطبيعي أن من آمن بشيء عمل له، أمّا نحن فإننا نغترف من ملذات الحياة الدنيا حلالاً وحرامًا، ونطلق العنان لألسنتنا وشهواتنا، ونظلم الناس ونأكل أموالهم بالباطل، وهذا كله يدل على أننا نعيش كأننا مخلدون في هذه الدنيا وليس وراءنا يوم تنتهي فيه الدنيا هو يوم القيامة، ويوم نقف فيه بين يدي الله للحساب عن كل ما اقترفنا.
فالمقصود ـ بارك الله فيكم ـ ليس مجرد الخوف والشفقة من هذا اليوم أو الحديث عنه بين الحين والآخر؛ إنما المقصود إعداد العدة لهذا اليوم بقلوب سليمة وأعمال صالحة، هذا هو الخوف الحقيقي من هذا اليوم، وهذا هو الخوف النافع في هذا اليوم، فالله ينفي النفع في هذا اليوم عن أيّ مكسب من مكاسب الدنيا، ويجعل النفع فقط فيما حصلته القلوب السليمة من إيمان وعمل صالح، يقول سبحانه: يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]. إذا عبَّدت قلبك وجسدك لله سبحانه ووحّدت الله حق توحيده وعبدته حق عبادته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه تكون بالفعل خائفا من هذا اليوم مدركًا لخطورته وعظمته، إننا لو قدّرنا هذا اليوم حق قدره وعرفنا هوله وشدته مَا هنأنا بعيش ولا تلذذنا بدنيا.
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهل ومن أوطان
يوم تشققتِ السماء لِهوله وتشيب فيه مفارق الولدان
يوم عبوسٌ قمطريرٌ شره في الْخلق منتشر عظيم الشان
ينبغي ـ إخوة الإيمان ـ أن لا نغامر بمصيرنا الذي سيقرر في هذا اليوم العظيم، لا نغامر به في سبيل هذه الدنيا الفانية؛ لأن الإنسان سيعلم القيمة الحقيقية لهذه الدنيا يوم القيامة، ويتمنى النجاة بكل ما في الدنيا، فلا يعطى ذلك، عن أنس قال: قال رسول الله : ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم، فيقول الله: كذبتَ، قد أردتُ منك أهون من ذلك، قد أخذتُ عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك)) متفق عليه.
فاتقوا الله عباد الله، واستعدوا لهذا اليوم بإخلاص العمل وحسن الاعتقاد وأكل الحلال ورد المظالم واسترضاء من أخطأتم في حقه من الخلق، ولا تأخذكم العزة بالإثم، فهذا أوان الاستدراك، وهذا أوان الرجوع.
اللهم خذ بأيدينا إلى البر والتقوى، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا...
(1/5382)
ظلم الأبناء للآباء
الأسرة والمجتمع
الوالدان, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
29/1/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب كثرة العقوق. 2- ذكر فضائل الوالدين. 3- النهي عن الإساءة للوالدين. 4- صور من حياة السلف في البر بالوالدين. 5- الوعيد الشديد لمن أساء إلى والديه. 6- الأمر بصلة الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف ولو كانا كافرين. 7- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان، العلاقة بين الوالد والولد من أهم العلاقات وأوثقها في هذه الحياة، شدد الشرع على أهميتها وحذر من التقصير فيها، ولكن هذه العلاقة كثيرًا ما تقوم على التقصير والظلم من أحد الطرفين، وقد يُحتمل أن يظلم الوالدان الولد، أما أن يظلم الولد والديه فتلك هي الرزية والمصيبة.
نتكلم اليوم بإذن الله عن تقصير الولد تجاه والديه، وهو نوع من الظلم والعقوق حذر منه الله سبحانه أشد تحذير، إنه معصية عظيمة لا زالت المجتمعات الإسلامية تعاني منها ومن آثارها، ولا زالت البيوت تُهدم والأرحام تقطع بسببها. هذا الذنب الكبير الذي وقع فيه الناس وأوغلوا لأنهم أولاً ابتعدوا عن دينهم وعن ربهم، ولأنهم ثانيًا استهانوا بهذا الذنب وعدوه من الأمور البسيطة مقارنة بالزنا وشرب الخمر وغيرها، وثالثا لأن حدود هذا الذنب غابت عنهم فلم يستطيعوا أن يميزوا بين ما هو ظلم وعقوق وما هو غير ذلك.
نتكلم اليوم عن هذا الأمر الخطير ونذكر أنفسنا وإخواننا، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، وهذا الأمر لا بد أن نهتم به ونعطيه حقه لأننا نسمع قصصًا وأحداثًا ترتكب ضد الآباء والأمهات يشيب لهولها الولدان، ولا يكاد المرء يصدقها لولا أنه يراها بعينه أو تنقل له من ثقات، والملاحظ ـ عباد الله ـ أن النفوس تحجرت والقلوب تكلست حتى بات الناس لا يتأثرون بهذه الحوادث والأمور رغم أنها تدمي قلب المؤمن:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
هل نحن في حاجة ـ عباد الله ـ إلى أن نسرد للظالم العاق أو للذي يضيع حق والديه عليه، هل نحن في حاجة إلى أن نسرد عليه أوامر الله ورسوله في هذا الأمر؟! هل نحن مضطرون إلى أن نبين له أن هذا الرجل الكادح وهذه المرأة الضعيفة اللذيْن أنجباه لهما حق لازم في رقبته؟!
لقد أمرنا الإسلام بصلة الرحم وعدم قطعها، ففي صحيح مسلم عن عائشة يقول : ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)) ، وأعلى مرتبة في الأرحام هم الآباء والأمهات الذين في رضاهم رضا الله وفي سخطهم سخط الله، يقول في الحديث الذي أخرجه الطبراني عن ابن عمرو: ((رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما)) ، فهل نجهل هذا ونحتاج إلى من يذكرنا به؟!
الحقيقة أنه كان من المفروض أن يكون الإنسان بارّا بمن كانا سببًا في وجوده، وكانا راعيَيْن له وهو في أضعف حالاته العقلية والبدنية كما ترعى الطير فِراخها، يحميانه من كل خطر أو مكروه، ولكن الإنسان يطغى وينسى ويتكبر ويتجبر حتى تصل به الوقاحة إلى ضرب البطن التي تخبط فيها واليد التي هدهدته؛ لهذا فقد أكثر الله سبحانه ورسوله من وصية الولد بوالديه، أما الوالدان فإنهما لا يحتاجان إلى الوصية بولدهما لأنهما بدون وصية يمرضان من أجله ويجوعان من أجله بل ويموتان من أجله.
يقول سبحانه ناهيا عن الإساءة إلى الوالدين: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء: 23]، لقد ذكر سبحانه أدنى الأمور لكي نتجنب تلقائيا ما هو أعلى منها، فـ(أف) كلمة تأفّف تتكون من حرفين هي ممنوعة في حق الوالدين، والانتهار ممنوع أيضا بأي صورة وعلى أي شكل؛ لهذا عرف سلفنا الصالح حدود العقوق فوقفوا عندها ولم يتعدوها طلبا لما عند الله من فضل وهربا من سخط الله وعذابه. أخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال: قلت للحسن: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: أن تحرمهما وتهجرهما وتحدّ النظر إليهما. وأورد أبو نعيم في حلية الأولياء عن بعض آل سيرين قال: ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع، وعن ابن عون أنه نادته أمه فأجابها، فَعَلا صوته صوتَها فأعتق رقبتين، وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. هذه هي نظرة الصالحين للوالدين، وهذا هو خوفهم من ظلم الوالدين وعقوقهما.
الإساءة للوالدين ـ أيها الناس ـ يكفينا فيها إن كنا نريد معرفة عظمتها عند الله وشدة خطرها قول رسول الله في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وشهادة الزور)).
عقوق الوالدين ـ يا من تجهله، يا من تستهين به ـ جاء بعد الإشراك بالله وقتل النفس، فارحم نفسك يرحمك الله، واعلم أنه ليس الظلم أو الأذى المباشر للوالدين بأي شكل من الأشكال هو وحده من الكبائر، بل إن من الكبائر أن تتسبب في إلحاق الأذى بوالديك، فسبّ الوالدين كبيرة لأنه عقوق، وكذلك إذا تسبّبت في سبّ والديك وشتمهما فاحذر، يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ((إن من أكبر الكبائر أن يسبّ الرجل والديه)) ، فقال الصحابة: وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: ((نعم، يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
ونظرًا إلى أن المضيع لرضا الوالدين مضيع لخير كبير ومعرِض عن رحماتٍ منشورة من رب العالمين فقد أخبر رسول الله أو دعا بالخسران على من لم يدخل الجنة بوالديه لعقوق أو لغيره، يقول فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة))، فما أخسرك يا من ضيعت برك بوالديك فضيعت الجنة، وما أخسرك يا من لا زلت تضيّع هذه الفرصة العظيمة.
بل تصل فداحة ذنب العاق أن الله سبحانه لا ينظر إليه يوم القيامة، وهذا يعني أنه سيعذبه عذابا أليمًا والعياذ بالله، يقول : ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة)) وذكر منهم العاق لوالديه.
فإذا لم نتعظ بكل هذه العقوبات الأخروية فلعلنا نتعظ بالعقوبات الدنيوية؛ لأن ظلم الوالدين وعقوقهما من الذنوب التي تعجل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فانتبه يا من سُدت في وجهك السبل، وانتبه يا من ضاق عليك الرزق، وانتبه يا من أصيب بمشاكل عائلية، وانتبه يا من ابتلي بزوجة متسلطة أو ذرية غير صالحة، فليتنبه كل مهموم ومغموم وبائس، وليتفقد حاله مع والديه، ولينظر إلى علاقته بهما، فإن كان عاقًا ظالمًا لهما فلا يطمع في راحة نفس ولا تيسير أمور؛ لأن عقوبة عقوقه تعجل له في الدنيا، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أنس: ((بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق)) ، بل تكون هذه العقوبة الدنيوية لمن عق والديه من نفس جنس معصيته، تكون عقوبته بأن يعقه أبناؤه هو أيضا، وهذا نراه كثيرا، فالكثير ممن كانوا عاقين لآبائهم وأمهاتهم ابتلاهم الله بأبناء يعقونهم، ولولا أن يقال: إننا نرجم بالغيب لقلنا: إن كل عاق لا بد أن تسْودّ معيشته عاجلا أم آجلا إن لم يتب ويتصدق ويدعو لوالديه ويطلب الغفران من الله لإساءته في حقهما.
ومع كل هذا لا زلنا ـ عباد الله ـ نسمع قصصا وأحداثا في حق الوالدين تصل إلى حدود لا يتصورها مسلم، لا زلنا نسمع عن طرد الوالدين، لا زلنا نسمع عن حبس الوالدين في غرفة أو في بيت دون رعاية أو حنان يرمى لهم الطعام كما يرمى للكلاب، لا زلنا نسمع عن ضرب الوالدين، نعم ضرب الوالدين، هذه اليد التي نبتت من حليب الأم وشقاء الأب، هذه اليد التي طالما قبلتها الأم وطالما لعقها الأب وداعبها، هذه اليد يرفعها الابن في يوم من الأيام ليصفع بها الأب أو يدفع بها الأم، قُطعت هذه اليد قبل أن تهين من أنجبها، شلت هذه اليمين قبل أن ترفع في وجه من رباها، إنها مصائب وطوام وكوارث نعيشها ونسمعها والله المستعان، ولكن على من يفعل هذا أن يستعدّ لجني الثمار المُرة والعواقب الوخيمة لهذا الظلم في الدنيا والآخرة، وعليه أن يحذر من دعوات الوالدين المظلومين الذين لا تردّ دعوتهما، وعليه أن يعرف أن شكر الوالدين من شكر الله سبحانه، يقول ابن عباس كما في كتاب الكبائر للذهبي: (ثَلاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلاثِ آيَاتٍ، لا يُقْبَلُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا، أوّلها: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ، فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لا تُقْبَلُ مِنْهُ الصَّلاةُ، وَالثَّانِية: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ َ، فَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرْ وَالِدَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَالثَّالِثُة: قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعِ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ).
فاعرفوا ـ رحمني الله وإياكم ـ حقَّ الوالدين، وابتعدوا عن الإساءة إليهما، واعلموا أن المحروم من حرم فضل البر وجزاءه الحسن الذي أعده الله سبحانه للصالحين من عباده.
أسأل الله أن يأخذ بأيدينا إلى البر والتقوى، وأن يجنبنا مساخطه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، إن الإساءة للوالدين ليست بالأمر الهين كبعض الذنوب التي يسمح للإنسان بأن يتدرج في مجاهدة نفسه والرقي بها حتى تتخلص من هذه الذنوب، إن الإساءة للوالدين مهلكة لا بد للإنسان أن يبرأ منها ويفارقها. إن ظلم الأبناء لآبائهم وأمهاتهم أمر عظيم ينبغي أن نقف عنده وينبغي أن نسائل أنفسنا: ما الذي يدعونا إلى ظلم والدينا أو حتى التقصير في حقهم؟
إن أعظم أمر قد يبرر للإنسان أن يجور على والديه هو الكفر أي: أن يكون والداه مشركين، ومع هذا نحن مأمورون بالإحسان إليهما حتى وإن كانا مشركين، يقول سبحانه: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15]، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدِمت عليَّ أمّي وهي مشركة في عهد قريش، فقلت: يا رسول الله، إن أمّي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصِلها؟ قال: ((نعم صليها)) متفق عليه. إذًا فحتى الكفر ليس مبررا للإساءة إلى الوالدين، فهل مال الدنيا ومتاعها مثلا هو المبرر لظلم الوالدين؟! إن كان هذا هو المبرر فقد حسمه رسول الله حينما جعل الابن وماله لأبيه، فعن جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: ((أنت ومالك لأبيك)) أخرجه ابن ماجة.
كيف يهنأ من ضايق والديه أو أحزنهما أو أبكاهما ظالما؟! هذا مما لا ينبغي لمسلم يريد وجه الله والدار الآخرة أن يفعله، إن رسول الله قال لمن خرج مجاهدا في سبيل الله وترك والديه يبكيان: ((ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما)) أخرجه ابن ماجة. يقال هذا الكلام لمن أبكاهما في طاعة الله سبحانه وخرج مجاهدا مضحيا بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الله، فكيف بمن أبكاهما عاصيا ظالما من أجل الدنيا أو من أجل الزوجة أو من أجل غير ذلك؟!
إن الإنسان قد يُحرم الرزق والتوفيق بذنب يصيبه، وقد يكون هذا الذنب نظرة أو كلمة، فكيف إذا كان هذا الذنب عقوق والدين أو قطيعة رحم أو غيرها من الذنوب العظيمة التي حذرنا الله منها؟! يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((ليس شيء أطيع الله تعالى فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع)) ، أي: تدع الديار قفرا وخرابا، فالذنوب إذًا تخرب الديار وتمنع البركة ويتأذى منها الملائكة والصالحون، بل وحتى الدواب تتأذى من ذنوب بني الإنسان، أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: (كاد الجُعَل يعذَّب في جحره بذنب ابن آدم) ثم قرأ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [النحل: 61]، فلا توفيق ولا استقرار مع تفشي الذنوب والمعاصي فينا، فكيف إذا كانت هذه الذنوب من الكبائر؟! فكيف إذا كانت من أكبرها؟! والعجيب أن الإنسان تسوء أموره وتصعب عليه مطالب الحياة وهو عاقّ ظالم لوالديه ثم لا يفطن إلى ذلك ولا يسعى إلى تدارك الأمر.
فلنتق الله عباد الله، ولنحسن إلى آبائنا وأمهاتنا، ولنبتعد عن العقوق ونفر منه فرارنا من الموت؛ حتى لا نستوجب لأنفسنا عقوبة الله وعذابه، وحتى ننعم بتوفيق الله سبحانه ومعونته.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/5383)
ظلم الآباء للأبناء (1)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
15/2/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل مولود يولد على فطرة الإسلام. 2- أشكال ظلم الآباء للأبناء كثيرة ومنها القسوة في التربية. 3- الحث على مداعبة الأبناء وتقبيلهم. 4- صور من رحمة النبي بالأطفال. 5- الآثار السيئة على شخصية الطفل بسبب القسوة في التعامل. 6- التربية الصحيحة بين القسوة والدلال. 7- من صور الظلم عدم تربيتهم على الأخلاق الحسنة. 8- أهمية التوجيه والنصح للأبناء. 9- وجوب الاهتمام بالأهل والأبناء. 10- صور سيئة في تعاملاتنا مع أبنائنا. 11- فضل الولد الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد تكلمنا في الجمعة الماضية عن أمرٍ عظيم هو ظلم الأبناء للوالدين، وهو جريمة عظيمة وعقوق من الأبناء في حق الآباء والأمهات. ونتكلم اليوم عن ظلم الوالدين في حق الأبناء؛ لأنه كما أن للوالدين حقوقًا إذا فرط فيها الابن كان ظالما في حق والديه فإن للأولاد حقوقًا إذا فرط فيها الوالدان كانا ظالمين في حق الولد. نتكلم عن هذا الأمر في هذه الخطبة مركزين على ظلم الآباء في التنشئة والتربية، وهي أخطر أنواع ظلم الآباء للأبناء؛ لأن الأمور المترتبة على سوء التربية أمور عظيمة، ونتكلم عن جوانب أخرى من ظلم الوالدين للولد في الخطبة القادمة بإذن الله.
إخوة الإيمان، ظلم الوالدين للولد يبدأ من نشأته، فلا بد للوالدين إذا أرادا أن لا يكونا ظالمين في حق ولدهما أن يقوما بما يمليه عليهما دينهما، وأن يتقيا الله سبحانه في هذا الولد الذي رزقهما الله؛ لأن الولد يولد على الفطرة فطرة الإسلام التي فطر الله الناس عليها، والذي يؤثّر على هذه الفطرة ويساهم في إفسادها والداه ثم المجتمع، يقول كما في صحيح الجامع من حديث الأسود بن سريع: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))، فالولد في صغره كقطعة الطين اللين سهلة التشكيل، يتجه إلى الخير إن وجهته إليه، ولكن الآباء والأمهات يضيعون هذا الواجب نحو الولد، فلا يوجهونه ولا يعلمونه، فيظلمونه ويظلمون أنفسهم، وظلم الأبناء للآباء الذي تكلمنا عنه في الجمعة الماضية أول أسبابه الوالدان، فما وُجِد عاقٌ ظالم لوالديه في أكثر الأحوال إلا بسوء تربيةٍ وإهمال وسوء تصرف من الوالدين.
أول أشكال ظلم الآباء للأبناء القسوة على الأبناء في مرحلة الطفولة، فالطفل الصغير يحتاج إلى رعاية وحنان وعطف ومداعبة؛ لكن الآباء والأمهات يضيّعون هذا الأمر ويهملون هذه الجوانب المهمة للطفل، فينشأ الطفل معقدا أو عصبيّا، وإذا كبر نشأ محبًا للشارع كارهًا للبيت؛ لأنه لا يجد فيه راحته ولا الاهتمام به.
إنّ من الآباء من يعتبر مداعبته لولده أو تقبيله له عارًا أو جريمة، فهو لا يعامل أولاده مهما صغرت سنهم إلا بالقسوة والغلظة، وهذه أول أسباب نشوء العقوق في أنفسهم. إن مداعبة الابن ليست عارًا، وليست منقصة، وليست منافية للرجولة، وها هو رسول الله يعلمنا هذا الأمر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل رسول الله الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ثم قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)) أخرجه الشيخان.
حقًّا، إن من لا يرحم لا يُرحم، من لا يرحم غيره لا يرحمه الله، كما أن من لا يرحم أبناءه سوف لن يرحمه الأبناء عند كبره.
بل إن رسول الله يرحم هؤلاء الأطفال حتى وهو في أهمّ أمر يقوم به وهو الصلاة، فقد يؤخر سجوده وهو يصلي بالناس مراعاةً للحسن بن علي رضي الله عنهما الذي صعد على ظهره، ولننظر كيف كان الحسن في كبره بسبب هذه المعاملة الرحيمة بينما نحن لا نتحمل بكاء طفل في المسجد ونقيم الدنيا ولا نقعدها، فينشأ أطفالنا بعُقَد ونشوز فالله المستعان.
وبعض الآباء لا يقف ظلمه عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى حدٍ خطير، وهو أنه يتعامل مع أبنائه منذ صغرهم بالضرب حتى لمن عمره أربع أو خمس سنوات، ويصفعه على وجهه؛ مما يسبب في ضياع شخصية الطفل وفقده لاتزانه، ومما يخلف في ذاكرته شيئًا من الحقد على والده أو أمه، بينما يعلمنا ديننا الحنيف أن أهم واجب في الحياة وأهم شيء خلق الله من أجله الإنسان العبادة، وعلى رأسها الصلاة، لا يضرب من أجلها الإنسان حتى يبلغ العاشرة، يقول : ((واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا))، فأي جريمة ترتكب يوميًا في حق الأطفال؟! ثم تتعجب بعد ذلك من العقوق، ونتعجب من جنوح الأحداث، والواقع يقول بأننا نحن من أسهمنا في هذا العقوق وهذا الجنوح. وكلامنا هذا لا يعني الدعوة إلى تدليل الأطفال والمبالغة في الاهتمام بهم وتلبية كل مطالبهم، بل التوسط هو السبيل، لا إفراط ولا تفريط، ورحمة الصغير أمر شدد عليه ديننا الحنيف، يقول في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن ابن عمرو: ((من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا)).
ومن ظلم الآباء للأبناء عدم تربيتهم على الأخلاق الحسنة والسجايا الكريمة، بل يتركونهم ينشؤون دون توجيه أو رعاية، فيكتسبون أخلاقًا وسجايا ذميمة، والله أمر بتوجيه الأهل إلى الخير والبر فقال سبحانه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]، وأثنى على الذين يسعون في هذا السبيل فقال سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]، وبيّن لنا أن الأنبياء عليهم السلام وهم قدوتنا كانوا يرغبون في الذرية الصالحة، وليس مجرد الذرية، يقول سبحانه على لسان إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100]، ويقول على لسان زكريا عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38].
وأول ما يوجّه الوالدان إليه الولد الإيمان بالله والبعد عن الشرك وغيره مما ينافي العقيدة الصحيحة؛ لأن الإنسان إذا آمن بوجود الله واستشعر رقابته صلحت أموره كلها، وها هو العبد الصالح لقمان يوجه ولده هذه التوجيهات الإيمانية، يقول سبحانه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، ويقول: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُر ْبِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 17-19].
فلا بد للإنسان حتى لا يكون ظالمًا في حق ولده أن يوجهه ويرشده إلى الخير وإلى الإيمان والإحسان، وأن يبعده عن الشرك والفجور، لا بد أن يعلمه القرآن، ويبين له حقوق الله عليه وحقوق الناس؛ لينشأ نشأة كريمة، أما إذا ضيع هذا فقد أساء إلى ولده أيما إساءة، يقول ابن القيم في كتاب تحفة المودود: "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم" انتهى.
فلا بد إذًا من التوجيه والنصح، وهذا التوجيه للأبناء أمرنا به رسول الله ، فهو القائل كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((علموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا، وفرقوا بينهم في المضاجع)) ، فإذا فرطت في تعليمهم الصلاة صغارًا فلا تتعجب من تضييعهم لها كبارا، وإذا ضيعوا الصلاة فهل ترجو الخير من إنسان عديم الصلة بالله سبحانه؟! ويقول أيضا لعمر بن أبي سلمة وهو يوجهه في صغره أثناء الطعام: ((يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) أخرجه الشيخان، فأين نحن من مثل هذه التعليمات التي إذا ضاعت في الصغر صعب تحقيقها في الكبر؟!
إن التفريط في هذه التعليمات والتوجيهات وغيرها من أعظم الظلم للأبناء، حيث ينشؤون في جاهلية جهلاء، في بيوت لا تعرف لله حقا ولا مكان للأخلاق فيها، فيسهل عليهم سلوك سبيل الفساد والرذيلة، ويكون سوء التربية من أهم الأسباب في انتهاجهم لهذه السبيل، ورسول الله يبين لنا هذه المسؤولية حتى لا نتهاون فيها، فيقول في الحديث الذي رواه النسائي عن أنس: ((إن الله تعالى سائلٌ كل راع عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) ، فلا يظنن ظان أن أمر الاهتمام بالأهل والأبناء وتوجيههم أمر اختياري، لا بل هو مسؤولية يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة.
وليت الآباء يقفون عند هذا الحد من التفريط في توجيه الأبناء وتربيتهم، بل إنهم يقومون بأسوأ من هذا، وهو تعليم أبنائهم الأخلاق السيئة وتربيتهم على الكذب والوقاحة، فنجد الأب والأم يعلم ابنه كيف يقول لغيره: يا حمار، وكيف يبصق على الناس، وكيف يضرب الصغار، كما أنه يعلمه الكذب، فإذا جاء من يبحث عن الأب أمر ابنه بأن يذهب إليه ويقول له: أبي غير موجود وهو موجود، بل ويكذب الأب على الابن أكثر من مرة حتى ينشأ على عدم تصديق أبيه وعدم الثقة به، وهذا الأمر يفعله الكثير من الآباء والأمهات وللأسف، من ذلك أننا إذا أردنا أن نمسك بطفل فإننا نقول له: تعال خذ، متظاهرين بأننا سنعطيه شيئا، فإذا جاء أمسكنا به ولم نعطه شيئا، فإذا كررنا هذا مرارا تخلَّق الطفل بأخلاق ذميمة نحن السبب فيها، من هذه الأخلاق عدم الطاعة إذا ناديناه وفقد ثقته فينا وتكذيبنا لأنه جرب علينا الكذب، وهو أيضا درس عملي في الكذب يتعلم منه كيف يكذب، وهذه معاملة نهى عنها رسول الله ، فعن عَبْدِ الله بن عَامِرٍ أَنّهُ قالَ: دَعَتْنِي أُمّي يَوْمًا وَرَسُولُ الله قاعِدٌ في بَيْتِنا، فقالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقالَ لَهَا رَسُولُ الله : ((وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟)) قالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فقالَ لَهَا رَسُولُ الله : ((أُمَا إِنّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكَ كَذِبَةٌ)) أخرجه أبو داود.
فلا تستهزئ بالطفل ـ يا عبد الله ـ وتقول: هذا طفل لا يفقه شيئا، بل إن الكذب كذب على الصغير أو على الكبير، بل هو مع الصغير أخطر؛ لأنه في طور التعليم، يحفظ كل ما يلقى إليه.
كل هذا وغيره ـ عباد الله ـ ظلم من الآباء للأبناء، يترتب عليه في أكثر الأحيان خروج نشءٍ لا يعرفون حقا لله ولا لعباد الله، يعقون آباءهم، ويظلمون الناس.
فاتقوا الله في أبنائكم عباد الله، وكونوا عونًا لهم في معرفة حق الله وحقكم عليهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أيها الإخوة الأحبة، لا بد أن نقوم بواجبنا نحو أبنائنا إن كنا نرغب في أن لا نظلمهم، وإن كنا نرغب في أن يكونوا بارّين بنا محسنين إلينا، وهذا مقتضى العدل أن نعطي لكي نأخذ، أما إن ضيعنا هذا الواجب فإننا سنعاني آثاره في الدنيا، وسنحاسب عليه في الآخرة، وليس هذا وحسب، بل إننا إذا قمنا بواجبنا نحو أبنائنا في تربيتهم التربية الحسنة ووجهناهم إلى مرضاة الله فإننا نحصل على حساب جارٍ للحسنات بعد موتنا، يفتحه لنا أبناؤنا، فيضيفون به الحسنات والخيرات إلى سجل أعمالنا ونحن موتى، فهل يضيِّع هذا عاقل؟! وهل يزهد في هذا مسلم؟! يقول في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)). وأما إذا فرطنا في تربية أبنائنا ولم نقم بأمانتنا نحوهم فقد تلحقنا اللعنات في قبورنا والعياذ بالله.
والملاحظ عندنا في أمر التربية ـ إخوة الإيمان ـ أن حال الوالد يكون على أحد شكلين إلا من رحم الله، فالوالد عندنا إما أن يكون مهملا أو يكون قاسيا فقط، أما أن يكون صديقا لولده رفيقًا به يتبادل معه المحبة والود فهذا مستحيل أو قليل، ثم بعد ذلك يتعجب من عقوق هذا الولد وهو لم يحسن إليه ولم يبذل جهده في تربيته ولم يعلمه حتى معنى العقوق وخطورته، بل تركه ينشأ معوجًا، ثم لما اشتد عوده وكبر جاء ليقومه وهذا مستحيل:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قوّمته الخشب
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بواجبكم نحو أبنائكم وبناتكم؛ تنالوا برهم وإحسانهم.
أسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يقر أعيننا بأبنائنا، وأن يعيننا على القيام بواجبنا نحوهم، وأن يجعلهم ذخرا لنا، اللهم آت نفوسنا تقواها...
(1/5384)
ظلم الآباء للأبناء (2)
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
22/2/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإهمال وقرناء السوء من أخطر الأدواء التي تفتك بالأسر. 2- الحرص على الأبناء وحمايتهم من شياطين الجن. 3- من صور ظلم الأبناء عدم الإنفاق عليهم. 4- من صور الظلم الدعاء عليهم وإهانتهم والقسوة عليهم. 5- من صور الظلم التفريق بينهم وتفضيل بعضهم على بعض. 6- من صور الظلم بغض البنات وظلمهن. 7- أخطاء الوالدين لا تبرر العقوق.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: لا زلنا مع موضوع ظلم الآباء للأبناء، وهذا موضوع مهم يجب أن نركز عليه وأن نعطيه حقه من البحث والاستقصاء؛ حتى يعلم كل أب ما له وما عليه، وحتى لا نترك عذرا للمقصرين في هذه الأمور المهمة، أسأل الله أن يعين الآباء والأبناء في تأدية ما عليهم، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يزيننا بزينة الإيمان.
إخوة الإيمان، من جوانب ظلم الآباء للأبناء ـ كما ألمحنا في الجمعة الماضية ـ الإهمال، وهو داء خطير، فلا شيء في هذه الدنيا يصلح مع الإهمال، بل الإهمال مفسد لكل شيء، حتى المزروعات والآلات إذا أهملت فسدت، فكيف بالإنسان الذي يحس ويشعر وتؤثر فيه الظروف والأشخاص؟! كيف سيصلح مع الإهمال؟! لهذا فلا ينبغي للوالد أن يكون مهملا لأبنائه لا يدري عنهم شيئا ولا عن أخلاقهم ولا عن صداقاتهم، هذا من أهم أسباب الضياع والانحراف؛ لهذا حذرنا الله سبحانه من التعرض للمؤثرات التي تحيد بالإنسان عن الطريق السوي، ومن هذه المؤثرات قرناء السوء من الإنس والجن فقال سبحانه: شيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112]، فعلى الأب أن يحمي ابنه من تأثير شياطين الإنس من البشر بمعرفته لسلوك ولده وإبعاده عن الصحبة السيئة، كما أن لشياطين الجن تأثيرا على أطفالنا، لهذا حثنا رسول الله على كف أطفالنا عن الخروج من البيت في أوقات معينة؛ حتى نحفظ أبناءنا من هذا السوء، يقول : ((إذا جنح الليل وأمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم)) الحديث متفق عليه، قال النووي في شرح مسلم: "ومعناه أنه يُخاف على الصبيان ذلك الوقت من إيذاء الشياطين لكثرتهم حينئذ، والله أعلم" انتهى. فالإهمال إذًا واللامبالاة من أشد أنواع الظلم في حق الأبناء، فإذا أهمل المسلم أبناءه ولم يدر أين يذهبون وماذا يفعلون ومن يصادقون فقد فرط في حق عظيم من حقوق أبنائه وظلمهم.
ومن ظلم الآباء للأبناء عدم الإنفاق عليهم وهم صغار مع قدرة الوالد على ذلك؛ لأن في هذا تضييعا لهم وتقصيرًا في حقهم وتعريضَهم للفتنة والانحراف ودفعهم إلى تحصيل حاجاتهم بغير ما أحل الله سبحانه، ولقد حذر رسول الله مِن هذا وعَدَّه من الإثم، فقال كما عند أبي داود من حديث عمرو بن العاص: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) ، بل إنه بين أن نفقة الإنسان على أهله من أعظم وأفضل أنواع النفقة التي يجزي الله عليها العبد فقال: ((دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك)) أخرجه مسلم. وهذا الإنفاق على الأهل الذي فاق كل وجوه الخير المذكورة ليس المقصود به أي إنفاق، إنما المقصود به الإنفاق البعيد عن الإسراف والتبذير.
ومن ظلم الآباء للأبناء الدعاء عليهم بالشر، فقد تلجأ الأم أو يلجأ الأب إلى الدعاء على أبنائه في حالة الغضب، ولكن الشرع نهى عن ذلك؛ لأن ذلك لا يكون في صالح الأبناء ولا الآباء في الغالب، فلا ينبغي للوالدين أن يدعوا على أبنائهم بالشر، وليصبروا وليحتسبوا، فإن في ذلك الخير لهم ولأبنائهم، عن جابر أن رسول الله قال: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم)) أخرجه مسلم. إن رسول الله يحذر الوالدين من أن الله قد يستجيب لهذه الدعوة على الولد، فتسوء أموره، ثم لا تلبث الوالدة أو الوالد أن يندم، ولات حين مندم.
ومن ظلم الآباء للأبناء الإهانة والقسوة، وهذا أمر خطير يفعله الكثير من الآباء والأمهات دون أن يشعروا بآثاره السيئة على الأبناء، والتي قد لا تمحى مدى الدهر. والعجيب أن الوالدين يفعلان هذا مهما كبر أبناؤهم؛ لأن الابن عند الوالد دائما صغير ولو تزوج وصار له أبناء، وهذا لا ينبغي، بل ينبغي إكرام الابن والتلطف معه ومصادقته وعدم الإغلاظ عليه باستمرار أو إهانته وخاصة أمام الناس؛ لأن في ذلك أسوأ الأثر، وهو من أهم أسباب جنوح الولد إلى ظلم والديه لاحقا، بل السعي للانتقام ورد الصاع صاعين.
أورد القرطبي في كتاب بهجة المجالس أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل الأحنف بن قيس عن الولد فقال: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، نحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة، وبهم نصول ونجول عند كلّ جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم قفلا فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك.
ومن هذا الظلم أيضا ـ إخوة الإيمان ـ التفريق بين الأبناء في المعاملة والعطاء، فتجد الأب رفيقا لطيفا مع بعض الأبناء وقاسيا مع الآخر، أو تجده يعطي أحد أبنائه مالا وهبات وعطايا ولا يعطي الآخرين، وهذا أمر لا يجوز ومعاملة حرمها ديننا الحنيف، فالعدل بين الأبناء أمر لا ينبغي أن يهمله مسلم يريد وجه الله سبحانه، أخرج الشيخان عن النعمان بن بشير أن والده بشير أراد أن يهبه شيئا دون إخوته، فذهب إلى رسول الله يسأله ويشهده على ذلك، فقال رسول الله : ((يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟)) قال: نعم، فقال: ((أكلهم وهبت له مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور)). فعلى الآباء أن يتقوا الله في أبنائهم، ولا يفعلوا أمورا تسبب في بغض أبنائهم لهم، وتسبب في بغض أبنائهم بعضهم لبعض وفي تقاطعهم وتدابرهم بل وتقاتلهم. إن هذه المعاملة غير العادلة تحول دون بر الأبناء بالآباء؛ لهذا قال كما في صحيح الجامع من حديث النعمان بن بشير: ((اعدلوا بين أولادكم في النِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف)).
ومن ظلم الآباء للأبناء بغض البنات وظلمهن، وهذه عادة كانت متأصلة في عرب الجاهلية، يقول سبحانه: وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58، 59]. ورغم أن هذه العادة عادة جاهلية ورغم أن الله سبحانه قد ذمها في كتابه إلا أننا لا زلنا نرى أن البنت مهضوم حقها، وكفة الميزان دائما مائلة تجاه الولد الذكر، وهذا حرمان للبنت الضعيفة من حق شرعه الله لها، ولكنه بالمقابل حرمان للوالد أيضا من فضل عظيم كان يمكن أن يحصل عليه لو أحسن إلى بناته، يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث عائشة: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار)) ، ويقول أيضا: ((من ولدت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله بها الجنة)) أخرجه أبو داود.
وظلم البنات ـ إخوة الإيمان ـ لا يقتصر على هذا، بل هناك ظلم عظيم يقع عليهن، وهو يحدث في كثير من المجتمعات الإسلامية، هذا الظلم هو حرمانهن من الميراث أو بخس حقهن، وهذا جور عظيم ورَدٌ لما جاء في كتاب رب العالمين الذي أوصى للبنت بحقها في الميراث أسوةً بالذكر دونما نقصان، يقول سبحانه: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [النساء: 7]، ويقول سبحانه: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك الآيات، هذا القرآن المحكم وهذا القول الفصل من رب العالمين كيف لمسلم يخاف الله سبحانه أن يتخطاه أو يتجاوزه أو يتجرأ عليه،؟! إن معنى قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ أي: يأمركم الله، فكيف نضيع أمر الله ونحجب حقا فرضه الله علينا اتباعا لعادات جاهلية ونعرات عمية؟! أليس هذا ظلما ما بعده ظلم؟!
أيها الإخوة، ونختم وجوه الظلم بأمر يقع من الآباء على الأبناء، هو أمر بسيط يسير في نفسه قد لا يدرك خطورته الآباء والأمهات، ولكنه عظيم في أثره على الولد، هذا الأمر هو سوء التسمية، فأحيانا يصر الأب على تسمية ابنه اسما غير لائق ولا موافق لعصر الولد وبيئته، اسم غريب لأحد جدوده الغابرين أو غير ذلك من أسماء غريبة عن عصر الولد أو لا معنى لها، فيعيش الابن معقدا متحرجًا من هذا الاسم منطويا على نفسه، يستحي إذا سئل عن اسمه أن يذكره، ولا أريد أن أذكر أمثلة لهذه الأسماء احتراما لأصحابها، ولكن يعلم الله أن هناك من الأسماء ما يثير العجب والاستغراب والاستهجان، فلماذا نظلم الإنسان في أخص وألصق شيء به وهو اسمه الذي لا ينفك عنه حتى بعد موته؟!
إن حسن التسمية أمر حثّ عليه الشرع، وليس هو أمرًا للوالد الحريةُ المطلقة فيه، فلا بد أن يتخير الوالد لابنه اسما جميلا يرضاه الشرع ويتماشى مع عصر الابن وبيئته لا مع عصر الوالد، يقول : ((إن من أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) أخرجه مسلم، ويقول أمير المؤمنين على بن أبي طالب: (ينبغي لأحدكم أن يتخير لولده إذا ولد الاسم الحسن).
هذه إخوة الإيمان جملة من أخطاء الآباء في حق الأبناء، أسأل الله أن يجنبنا الوقوع فيها، وأن يوفقنا إلى كل خير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
إخوة الإيمان، ما ذكرناه فيما مضى من الخطبة من أمور هو توجيه لأنفسنا وإخواننا، علينا فهمه وتطبيقه إذا أردنا حقا القيام بما علينا، وهو تذكير للناسي منا والغافل، والله سبحانه أمر بالتذكير والذكرى، فقال عز من قائل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، فإذا ذُكِّر المؤمن فلا بد أن يذكر ويتذكر، ولا بد أن يبذل جهده في العمل بأوامر الله سبحانه والاستقامة على صراطه؛ حتى يبتعد عن المؤاخذة ويفوز بالرضا.
وليعذرنا الآباء والأمهات إذا أكثرنا عليهم بتعديد حق أبنائهم عليهم، فهذا أمر لا بد من التركيز عليه؛ لأن انحراف الأبناء وظلمهم للوالدين مترتب على هذه الأمور في الغالب، ولأن واجب الوالدين نحو الأبناء مقدم من حيث الزمن على واجب الأبناء نحو الوالدين؛ لأن الوالد هو السابق وليس الولد، وما دام هو السابق فهو المطالب بأن يرسي هذه العلاقة على ما يحب الله سبحانه ويرضى وعلى ما يفضي بها إلى النتائج الطيبة المرجوة.
وليعلم الوالدان أن الإيفاء بحق أبنائهم هو من أهم الضمانات لأنْ يعرف الأبناء حق الوالدين ويقوموا به على أكمل وجه، فلا بد أن يقوم الوالدان بما عليهما تجاه الأبناء؛ حتى يغلقوا أو يضيقوا عليهم منافذ الظلم والعقوق، وحتى يساعدوهم على برهم والإحسان إليهم.
كما أن على الأبناء أن يعلموا أن هذه الأخطاء من الآباء والأمهات ليست مبررا للعقوق والظلم وإن كانت سببا مباشرا فيه، بل إن ظلم وعقوق الوالدين أمر مذموم على كل حال، فعلى المسلم أن يظل محسنا لوالديه مهما كانت الظروف، داعيا لهما بالخير، مستغفرا لهما عما أخطآ في حقه، مرددا قوله تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف: 15].
أسأل الله سبحانه بمنه وكرمه أن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا...
(1/5385)
عباد الرحمن
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
29/2/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعداد صفات عباد الرحمن وأولها أنهم يمشون على الأرض هونا. 2- ومن صفاتهم: عفوهم عمن أساء إليهم. 3- ومن صفاتهم: قيام الليل. 4- ومن صفاتهم: خوفهم من النار ووجلهم منها ودعاؤهم الله أن يصرفا عنهم. 5- ومن صفاتهم: التوسط والاعتدال في النفقة. 6- ومن صفاتهم: التوحيد الخالص. 7- ومن صفاتهم: بعدهم عن القتل والزنا ودواعيهما. 8- ومن صفاتهم: أنهم لا يشهدون الزور ومواطن اللهو الباطل. 9- الغرض من ذكر الله لصفات عباد الرحمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في كتابه العزيز: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 63-76].
هذه ـ إخوة الإيمان ـ آيات من كتاب الله سبحانه تصف لنا عباد الرحمن الذين رضي الله عنهم وأثنى على أعمالهم، فعدّد هذه الأعمال لنعرفها فنفعلها ونسعى لأن نكون من هؤلاء العباد، والمسلم الحق أينما وجد ثناءً في كتاب الله على صنف من عباد الله سعى إلى أن يكون من هذا الصنف وأن يتخلق بأخلاقه.
والله سبحانه يعدد أعمال هؤلاء العباد الصالحين فيقول: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ، يقول ابن كثير: " الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا أي: بسكينة ووقار من غير تجبر ولا استكبار، كقوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا الآية [الإسراء: 37]. وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنّعًا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم محمد إذا مشى كأنما ينحطُّ من صَبَب، وكأنما الأرض تُطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع" انتهى.
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ، هم لا يقابلون من أساء إليهم وسَفِهَ عليهم بالإساءة، بل يعفون ويقولون خيرا، فهذا هو الإحسان؛ لأن من قال لك خيرًا فرددت عليه خيرًا فأنت تردّ له ما قاله لك أو تكافئه، أما الإحسان الحقيقي فهو أن تحسن لمن أساء إليك وأن ترد بالكلمة الطيبة مقابل الكلمة الخبيثة؛ لهذا يقول كما في صحيح الجامع من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((صِلْ من قطعك، وأحسن لمن أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك)).
ثم يذكر الله عز وجل صفة أخرى من صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ، هم أناس إذا بات الناس نيامًا باتوا يصلون، ويتضرعون للباري عز وجل، ويأخذون من الليل ما يعبدون فيه رب العالمين، ويسبحونه ويستغفرونه، وهذه صفة من صفات الصالحين على مرّ القرون، يقول سبحانه عنهم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 15-18]، هؤلاء هم الموفقون من عباد الله سبحانه، الذين أقلقهم الخوف فلم ينعموا بنوم كنوم غيرهم:
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوعُ
أطار الْخوف نومهمُ فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ
لهم تَحت الظلام وهم سجود أنينٌ منه تنفرج الضلوعُ
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ، عباد الرحمن يخافون جهنم، ويعلمون أن عذابها كان غراما، أي: ملازما لصاحبه دائما لا يفارقه، ويعلمون أنها أسوأ مستقر وأسوأ مقام؛ لهذا هم يتضرعون إلى الله سبحانه أن يصرف عنهم عذابها ويبعدهم عنها؛ لأنهم فقهوا تحذير الله وتحذير رسوله من النار، فقهوا معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، وفقهوا معنى قوله كما عند الترمذي من حديث أبي هريرة: ((استعيذوا بالله من عذاب جهنم)) الحديث. يمرون على ذكر النار مرور خوف وإشفاق، ولا يمرّون عليها مرور الغافل الخالي من أي تدبر حتى أن بعض الناس يسمعون قارئ القرآن يقول: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 15-18] فيرفعون أصواتهم: الله الله، وكأنهم يسمعون بشارة من البشارات.
ثم يقول سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ، إنهم عباد رزقوا التوسط في الإنفاق، فلم يتمادوا في المأكولات والمشروبات والملهيات وغيرها من متاع، ولم يقتنوا كل ما أعجبهم أو اشتهته أنفسهم، ولكنهم أيضا لم يضيّقوا على أنفسهم ويبخلوا في الإنفاق، بل هم متوسطون عاملون بقوله تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29].
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ، عباد الرحمن لا يتوجّهون لغير الله بعبادةٍ مهما صغرت، فلا نذر ولا ذبح ولا قسم ولا دعاء ولا توكل ولا استغاثة ولا استعاذة ولا خوف ولا رجاء ولا خضوع إلا لله سبحانه فاطر السموات والأرض الذي حذر من أن يُعبد غيره أو يُتوجه إلى غيره بأي نوع من أنواع العبادة، فهو القائل سبحانه: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106]، ويقول رسوله : ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)) أخرجه أحمد عن أبي سعيد.
ثم يقول سبحانه: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ، يذكر سبحانه هنا كبيرتين عظيمتين يجتنبهما عباد الرحمن ويبتعدون عن كل ما يؤدي إلى هاتين العظيمتين، فهم لا يقتلون النفس التي حرم الله؛ لأنهم يخافون وعيد الله سبحانه وعذابه، يقول : ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حراما)) أخرجه أحمد عن ابن عمر. كما أن هؤلاء العباد الربانيين لا يزنون ولا يرتكبون هذه الموبقة وهذه الكبيرة التي مقتها الله ومقت أصحابها، وهذا يعني أيضا أنهم لا يقتربون من مسببات هذه المعصية العظيمة من تردد على أماكن اللهو والفجور والاختلاط، ومن إطلاق للبصر والنظر إلى ما يثير هذه الشهوة ويدفع إلى تحصيلها، يقول سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء: 32]، فالمسلم المؤمن الحق لا يرضى بالزنا لأنه يعلم أن الله حرمه ومقته وتوعد مرتكبيه بالعذاب الشديد، كما أنه لا يرضى أن تُرتكب هذه الفاحشة في حق أهله ومحارمه، فكيف يرضاها في حق الناس؟!
عُفُّوا تعفّ نساؤكم فِي الْمحرم وتَجنّبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دَين فإن أقرضته كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم
من يزن يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيبا فافهم
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ، عباد الرحمن ـ أيها الإخوة ـ لا يشهدون زورًا مهما كانت الأسباب، ولا يلفقون الأقوال ليضروا بعباد الله البرءاء أو ليسلبوا منهم حقا من حقوقهم؛ لأنهم يعلمون أنهم سيقفون في يوم عظيم بين يدي رب العالمين، فيقتصُّ منهم وينتصر لمن ظُلم، ويعلمون أن أقوالهم وما تخطه أيديهم محفوظ ومحسوب عليهم، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]؛ لهذا فهم أبعد الناس عن اللغو والكذب والقيل والقال والفحش والتفحش، فإذا هم مروا باللغو مرّوا كراما لم يعلق بهم منه شيء.
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ، قال قتادة كما عند ابن كثير: "لم يصموا عن الحق، ولم يعموا فيه، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا". إنهم ـ إخوة الإيمان ـ قوم إذا تليت عليهم آيات الله سبحانه أثّرت فيهم، فلانت جلودهم وصلحت قلوبهم، فهم الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، لا تمرُّ عليهم الآيات مرورها على الصم العمي، بل يسمعون فيعقلون، ويُنذَرون فيحذرون.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أي: أن هؤلاء العباد الصّالحين لا يكتفون بأن يكونوا صالحين موحدين في أنفسهم، بل إنهم يدعون الله بأن يصلح أزواجهم، ويتضرعون إليه أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، وهذا فيه حرص على الولد وصلاحه، وفيه فائدة للوالد لأن الولد الصالح يزيد في أجر الوالد بالدعاء له والتصدق عليه، يقول : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) ؛ لهذا فهم يهتمون بأبنائهم، ويدعون لهم بالصلاح والسداد، كما أنهم يتضرعون إلى الله أن يجعلهم للمتقين إمامًا، أي: قدوة يقتدى بهم في الخير.
هذه أهم صفات عباد الرحمن، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر المسلمين، إن الله عز وجل عندما يخبرنا عن عباده الذين رضي عنهم ورضوا عنه، وعندما يذكر لنا مآثرهم ونعيمهم؛ إنما يدعونا لنحذو حذو هؤلاء القوم الذين عبَّدوا أنفسهم لله وفازوا برضوانه؛ لهذا يعدّد لنا سبحانه أعمالهم التى صاروا بفضلها عبادًا يُنسبون إلى الرحمن، وما أعظمها وأشرفها من نسبة. ولا يكتفي سبحانه بهذا، بل ويبين لنا جزاءهم وثوابهم زيادةً في الترغيب وتأكيدًا بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا؛ ولهذا يقول سبحانه بعد كل الآيات السابقة عن جزاء هؤلاء العباد الذين عملوا بما يرضيه عز وجل يقول: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا. جزاء هؤلاء الصالحين الأبرار الغرفة أعلى منازل الجنة، تلقى عليهم التحية الطيبة والسلام من ملائكة الرحمن، وهم في خلود ونعيم دائم، فكما تضرّع هؤلاء العباد إلى الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم ووصفوها بأنها ساءت مستقرًا ومقاما بشرهم الله بالجنة ووصفها بالمقابل بأنها حسنت مستقرًا ومقاما، أي: كما اتقيتم الله وفررتم من المستقر السيئ فإني أجزيكم بالمستقر الحسن.
ونعيم الله سبحانه لعباده الصالحين لا يمكن أن يخطر على عبد مهما أوتي من تصور أو خيال؛ لهذا يقول : ((في الجنة ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة. إنه نعيم عظيم لا يزهد فيه إلا عبد ضلّ وطغى، فطمس الله على بصيرته، هل يزهد في الجنان والوِلْدان والحور العين إلا محروم؟! أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: ((لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)).
فإذا أردنا ـ عباد الله ـ أن ننعم بهذا النعيم المقيم فعلينا أن نكون من عباد الرحمن حقًّا وصدقا، وهذا لا يكون بالأماني والدعاوى، إنما يكون بالعمل والكدّ والصبر وجهاد النفس والهوى، يكون بالاعتصام بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه ، يكون بالتقوى والعمل الصالح، علينا أن نتقي الله في أنفسنا، وأن نتقيه سبحانه في أهلنا، وأن نتقيه في المسلمين، هذا الذي يحقق لنا الانتساب إلى عباد الرحمن.
أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من عباده الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليّها ومولاها...
(1/5386)
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
27/3/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة التغيير. 2- إعزاز الله للفئة المستضعفة آية من آيات التغيير. 3- فضل الشكر. 4- فضل إقامة شعائر الدين. 5- صلاح أحوال المسلمين متعلق بعودتهم ورجوعهم إلى ربهم. 6- الالتجاء والاعتصام بالله عنوان السعادة والنجاة في الدارين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد: 1].
هذه الآية ـ أيها المسلمون ـ مفتاح من مفاتيح العلاقة بين الله وخلقه، هذه الآية سنة كونية يسطرها لنا الباري عز وجل في كتابه حتى نكون على بينة، وحتى لا نبتعد عن الجادة ونتوه عن الصواب، وحتى لا نضيِّع العروة الوثقى. هذه آية تمثل معادلة ثابتة مفادها أن الله لن يغير حال قوم من وضع مرضي مريح إلى وضع ضنك مذموم أو العكس إلا إذا غير هؤلاء القوم ما في قلوبهم، فإذا وجهوا قلوبهم إلى مولاهم وامتثلوا أوامره وابتعدوا عن نواهيه غيّر الله حالهم إلى أحسن حال، وإذا توجهت قلوبهم إلى الشهوات وارتكست أنفسهم في حمأة الرذيلة غيّر الله حالهم إلى أسوأ حال، يقول سبحانه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123، 124].
هذا القانون الإلهي ـ عباد الله ـ يعلمنا أننا لكي ننعم بحياة آمنة مرضية يأتينا رزقنا رغدًا فإننا لا بد أن نتفقد قلوبنا ونتفقد علاقتنا بمولانا، لا بد أن نرضي مولانا عز وجل، وعبثًا نحاول أن نصلح أحوالنا إذا نسينا هذا القانون الإلهي أو تجاهلناه، فسنن الله سبحانه لا تتغير ولا تتبدل، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 62].
كثيرا ما يتذمر الناس من ضيق الرزق، وكثيرا ما يتذمرون من واقع الحال إذا لم يكن مواتيا لهم، ولكنهم قليلا ما يسألون أنفسهم أو يسائلونها: ما حالها مع خالقها ومع بارئها؟ هل انصاعت له حتى تنصاع لها الأمور؟ وهل انقادت له حتى تنقاد لها الأسباب؟ هل فارقت أهواءها وشهواتها؟ هل نظرت إلى الدنيا نظر من علم حقيقتها وقدرها ونظر من علم أنه سيفارقها إلى لقاء مولاه وخالقه سبحانه؟ هل سعت إلى إصلاح حالها كي تنصلح أحوالها؟ يقول : ((من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)) أخرجه الترمذي عن أنس. إن الله إذا غيّر حال الناس من الشر إلى الخير فبشيء فعلوه، وإذا غيّر حالهم من الخير إلى الشر فبشيء فعلوه، يقول سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53].
ما بالنا ـ إخوة الإيمان ـ نتخبط ونشرد عن آيات هذا الكتاب الذي ينير لنا الطريق ويعطينا الدواء الشافي لكل داء يلم بنا؟! إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9].
إن الله سبحانه غيّر حال أقوام من الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العز لما رجعوا إليه واتقوه، يقول سبحانه ممتنا على المهاجرين من أصحاب رسول الله الذين فارقوا ديارهم وضحوا بأموالهم في سبيل دينهم، يقول سبحانه: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26]، قال قتادة كما عند ابن كثير: "كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه جلودًا، وأبينه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقيًا، ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، واللّه ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم، حتى جاء اللّه بالإسلام، فمكّن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى اللّه ما رأيتم، فاشكروا اللّه على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من اللّه" انتهى.
إن الله ـ أيها المسلمون ـ ينزل نصره على عباده إذا هم توكلوا عليه وأسلموا الأمر إليه واستجابوا لأمره، يقول سبحانه عن طالوت ومن معه من المؤمنين الذين جاوزوا النهر لملاقاة جالوت وجنده، يقول سبحانه: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: 249-252]، هكذا يتغير الحال من حال الضعف إلى حال القوة إذا أناب العباد إلى الله ووحدوه، وهكذا ينصرهم سبحانه، وكيف لا ينصر الله عباده المؤمنين وقد جعل نصرهم حقا لازما عليه سبحانه حيث يقول: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]؟!
إن الله سبحانه يغير حال الفقر إلى حال الغنى وييسر الأرزاق إذا غيّر الناس ما بأنفسهم، فوثقوا فيما عند الله، وابتعدوا عن الحرام، وسعوا إلى طلب الحلال، يرزقهم إذا حققوا التقوى والتوكل، فهو القائل: وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 2، 3].
لا يمكن طلب الرزق بدون توكل على الله ويقين كامل بأن المخلوقين مهما عظموا لا يملكون من رزق العبد شيئا، فإذا غاب التوكل اختلطت الأمور وساء الحال، يقول : ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا)) أخرجه ابن ماجة عن عمر رضي الله عنه.
إن الله يرزق عباده ويزيدهم من فضله إذا هم شكروه على نعمه وبذلوا منها في سبيله، يقول سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]. يأتي الرزق الطيب ويتيسر ـ عباد الله ـ بقدر الرجوع إلى الله وبقدر خشيته وبقدر معرفة حق الله في المال، أما إذا خبثت النفوس وابتعد الناس عن جادة الحق فإن الأرزاق تتعسر وتصعب، يقول سبحانه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف: 58].
إن البركات لا تنزل إلا حيث يريد الله عز وجل، والبركات ليست في كثرة العرض، ولكن في العيشة الراضية وتيسر الأمور. هذه البركات ينزلها الله سبحانه ويفتحها على عباده من السموات والأرض إذا أحلوا الإيمان في قلوبهم محل الكفر والفجور واتقوا ربهم عز وجل حق تقاته، يقول سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
ومما يحفظ النعم على أصحابها البذل منها ونفع الناس بها ومعرفة حق الفقير والمسكين والبائس، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبن عمر: ((إن لله تعالى أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم)) ، وصح عنه أنه قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
إن الله سبحانه يغير من حال الخوف والتوجس إلى حال الأمن والتمكين إذا عرف الناس ربهم وعبدوه وتناصحوا فيما بينهم وأقاموا شعائر دينهم كما أمرهم سبحانه، يقول تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55]. هذا وعد إلهي من الله لا يتخلف أبدا؛ لأن الله تعالى لا يقول إلا الصدق، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً [النساء: 122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 87]. هذا الوعد يقول للعباد: حققوا الإيمان والعمل الصالح يتحقق لكم الاستخلاف في الأرض وتمكين الدين، وتبدلون من بعد خوفكم أمنا، بل إنه سبحانه يتخذ من عباده أئمة يقودون الناس إلى الخير ويعرفونهم بربهم إذا هم صبروا وآمنوا، يقول سبحانه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، ويقول فيما أخرجه أحمد من حديث أبيّ: ((بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)).
هذه ـ إخوة الإيمان ـ سنن الله في تغيير أحوال الناس، وهذه تعاليمه سبحانه وتوجيهات نبيه للمسلمين؛ لكي ينالوا سعادة الدنيا والآخرة، فعضوا عليها بالنواجذ، وضعوها في سويداء القلوب، وذكروا أنفسكم بها، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى ورسوله المجتبى، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والتقى.
أيها المسلمون، إن أحوال المسلمين على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمة ككل لن تنصلح إلا إذا أصلح الناس أحوالهم وعادوا إلى حياض دينهم وابتعدوا عن الذنوب والمعاصي وخرجوا من غمرات الملاهي والغفلات واستسلموا لله بدل استسلامهم للشهوات، لا بد أن ننصر الله ودينه حتى ينصرنا عز وجل، فهو القائل: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]. لا بد من الصبر والتقوى حتى نتخذ حصانة من كيد الأعداء، يقول سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120]. لا بد أن نستجيب لله سبحانه حتى ننعم بعفوه ورضوانه، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].
يقول ابن القيم كما في الفوائد: "تضمنت هذه الآية أمورًا: أحدها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كان له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان؛ ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول ، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول" انتهى.
هكذا ـ إخوة الإيمان ـ لا تكون السعادة ولا تكون الحياة الطيبة الهنية ولا يكون الجزاء الحسن يوم القيامة يوم الحسرة والندامة إلا بالالتجاء إلى الله وبالاعتصام بدينه والتمسك بحبله والاتباع الصادق لنبيه ، يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في السر والعلن، واعلموا أن النجاح لا يكون إلا بالجد، وأن الثواب لا يكون إلا بالعمل، وأن الموت بالمرصاد، فإذا نزل بساحة ابن آدم حيل بينه وبين العمل، ولم ينفعه عندها إلا ما قدم.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين، وثبت أقدامنا على الصراط المستقيم، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد ، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد...
(1/5387)
التقوى: معان وثمار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
5/4/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التقوى وصية الله للأولين والآخرين. 2- التقوى وصية الله لأنبيائه ورسله ووصية الأنبياء للناس جميعا. 3- أنفة البعض من قبول كلمة: اتق الله دليل على جهلهم. 4- شمولية التقوى لكل ما يرضي الله تعالى. 5- تعاريف السلف للتقوى. 6- فوائد وثمرات التقوى في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
التقوى ـ إخوة الإيمان ـ كلمة عظيمة ومعنى شريف من المعاني التي رغَّب الله فيها وحث المسلمين على أن يتحلوا بها ويحققوها؛ لأنها قنطرةُ النجاة لكل من أراد أن يُرضي مولاه عز وجل، ولقد وصى الله عز وجل عباده بالتقوى في آيات كثيرة من آيات كتابه العزيز، وهذا يدلنا على أهميتها وعظم مكانتها، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، ويقول عز وجل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء: 131]. كما وصى أنبياء الله ورسله أقوامهم بتقوى الله سبحانه، يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام مخاطبا قومه: وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران: 50]. وأورد سبحانه في كتابه وصية مجموعة من رسله لأقوامهم، كل رسول ينادي قومه: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ.
هذه هي أهمية هذه الكلمة وخطورة موقعها، ولم يكن نبينا بدعًا من الرسل، بل إنه حرص على وصية أصحابه رضوان الله عليهم والأمة من بعدهم بتقوى الله دلالة لهم على الخير وتحذيرًا لهم من التهاون والتفريط، أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال له: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء)) الحديث، وعن أبي ذر ومعاذ رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) أخرجه أبو داود.
ولعل أحدنا إذا قيل له: اتق الله ظنّها مسبة ومنقصة، وبادر بالقول: وماذا فعلت حتى تقول لي: اتق الله؟! وهذا ـ إخوة الإيمان ـ جهل مطبق وقسوة تجتاح القلوب؛ لأن الله سبحانه خاطب بهذه الكلمة العظيمة أعظم خلقه وأشرف رسله محمد بن عبد الله فقال له سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب: 1]، فهل تأنف ـ أيها المسلم ـ وتتضايق من كلمة قيلت لرسول الله ؟! وهل الوصية بتقوى الله ستضرك بشيء؟! ما أحرانا ـ أيها المسلمون ـ إلى إحياء هذه الكلمة: اتق الله، ما أحرانا إلى إحيائها والتواصي بها فيما بيننا حتى يزكّي الله بها نفوسنا ويصلح شأننا. أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء أن رجلا قال لأبي حنيفة: اتق الله، فانتفض واصفر وأطرق وقال: جزاك الله خيرا، ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا. انتهى.
ولكن ما هي التقوى؟ وما حدودها؟ هذا أمر لا بد أن نعرفه، فبعض الناس يظن التقوى كثرة التعبد أو كثرة الذكر، ودرجوا على وصف المتعبّد بالتقي، والتقوى أشمل من هذا، التقوى معنى إذا تحقق انطبع على كل أعمال وعبادات المسلم؛ لهذا ربطها رسول الله بالقلب الذي هو مضغة الصلاح أو الفساد في الإنسان، والذي يعوّل عليه في صلاح الأعمال وصدقها، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام؛ عرضه وماله ودمه، التقوى ها هنا ـ وأشار إلى القلب ـ ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) أخرجه الترمذي. إذا فالتقوى أمر يحصل في القلب، فتتسدّد به أعمال ابن آدم وتصلح.
ولقد عرّف سلفنا الصالح التقوى تعريفات تدلّ على شمولها وتدل على دقة فهمهم رضي الله عنهم، فماذا قالوا عن التقوى؟ قال ابن عباس: (المتقون هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله)، وقال طلق بن حبيب كما في سير أعلام النبلاء: "التقوى هي العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله"، وعن أبي سليمان الداراني قال: "التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك"، وقال كثير من أهل العلم: إن التقوى أُخذت من الوقاية، ومعناها أن يتّخذ العبد لنفسه وقاية من الشر ومن مساخط الله ويتوقى أن يقع فيما حرم الله، يقول القرطبي في تفسيره: "إن التقي هو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزًا بينك وبينه" انتهى، وفي هذا السياق عرّف الصحابي الجليل أبي بن كعب التقوى تعريفًا جميلاً عندما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن التقوى فقال كما في تفسير ابن كثير: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟! قال عمر: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمّرت واجتهدت ـ أي: اجتهدت في تفادي الشوك ـ، قال: فذلك التقوى. قال ابن كثير: وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يَحذر ما يرى
لا تَحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
هذه هي التقوى إخوة الإيمان، وهذه هي معانيها السامية اللطيفة التي يجدر بكل مسلم أن يتفهمها ويتشربها ويعمل بها. التقوى كلمة لا ينبغي أن نبقيها بيننا كمعنى جميل يحبه الله دون أن نعملها في الحياة ونتعامل بها، إن الحياة ستكون أسعد وأهنأ وأرحب إذا تعاملنا مع بعضنا بشيء من التقوى، فكيف إذا تعاملنا بكل التقوى؟! المجتمع سيكون أكثر تماسكا وأكثر قوة إذا اتقى الله بعضُنا في بعض، وإذا استحضرنا مخافة الله واتقائه في تعاملنا مع الخالق العظيم ومع خلقه أجمعين.
التقوى مهمّة، ولا يمكن تصور مسلم يريد النجاة ثم لا يتحلى بهذه الخصلة العظيمة. التقوى شرط لقبول العمل، فكيف يقبل الله عمل من لا يتقيه ولا يستحضر هيبته ويخلص له العمل؟! إن غياب التقوى مفسد للعمل، وحضورها سبب للقبول، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]. التقوى باب للفقه عن الله سبحانه وفهم آياته المقروءة في الكتاب والمنظورة في الكون والآفاق، يقول سبحانه: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة: 1، 2]، ويقول تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 6]. لا بد إذًا من التقوى حتى تنفتح مغاليق القلوب وتتأهل للتَّلقي عن الله عز وجل. التقوى أفضل زاد يتزود به العبد، قال تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197]. التقوى نسب لا ينقطع يوم تنقطع الأنساب وتضيع القرابات، يوم يتبرأ القرناء بعضهم من بعض ويتعادى الأخلاء، يقول سبحانه: الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: 67-69].
ولما كانت التقوى بهذا الوزن وبهذه الأهمية من دين الله عز وجل فقد حث عليها نبي الله أهله، فهو القائل لزوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما عند أبي داود: ((يا عائشة، عليك بتقوى الله والرفق، فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)) ، بل إنه جعل للتقوى نصيبًا في دعائه، فقد كان يتضرع إلى الله سبحانه ويسأله التقى، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى التقى والعفاف والغنى)) أخرجه مسلم. هكذا يسأل خير خلق الله وأتقاهم يسأل مولاه التقوى ليعلمنا التواضع وليعلمنا التضرع وليبين لنا أهمية التقوى.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على أن تجعلوها زادا لكم في سفركم إلى الله، فإنها نعم الزاد ونعم المطية إلى دار المعاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 18-20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
التقوى ـ أيها المسلمون ـ صفقة رابحة، ما جعلها مسلم في رحله وتعامل بها في الدنيا إلا حالفه التوفيق، وما دخل بها سوق الآخرة سوق التنافس على إحراز الحسنات إلا ربحت صفقته وراجت تجارته، وهذا ما بينه لنا الخالق العظيم عندما تعرض لثمار التقوى، تلك الثمار الطيبة التي يطمح كل مسلم أن يحصل عليها، فلننظر في كتاب الله نظر تدبّر وتفهّم، ونبحث فيه عن بعض ثمار التقوى.
من ثمار التقوى أنها سبب للعلم النافع الذي يفتح الله به على عبده، قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. التقوى سبب لحصول الفرج وباب من أبواب الرزق، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]. التقوى سبب لتيسير الأمور وسهولتها، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4]. التقوى بوصلة للعبد يرى بها الأمور على حقيقتها، فلا يزيغ ولا يتوه، قال تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29]. التقوى مجلبة لحفظ الله وتأييده والنجاة من انتقامه، قال تعالى: وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 53]. التقوى طاردة للخوف والحزن، قال تعالى: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف: 35]. التقوى حرز من الشيطان، والمتقون محفوظون من الشيطان ونزغاته، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف: 201]. التقوى سبب رئيسي في النجاة من النار، قال تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 71، 72]. التقوى ـ أخيرًا وليس آخرًا ـ سبب في دخول جنة النعيم، وسبب في التلذذ فيها بالخيرات الحسان والجنان الوارفة والأنهار الجارية والحور العين والثمار اليانعة والشراب الطيب وسائر أنواع النعيم التي لا ينغصها شيء مما ينغص متاع هذه الدنيا الفانية، قال تعالى: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ [الرعد: 35]، وقال عز وجل: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر: 20].
إخوة الإيمان، وإذا كانت التقوى بهذا القدر وهذا الخطر فإن المغبون حقًّا هو من حُرم التقوى، والخاسر حقًّا هو من لم يضرب فيها بسهم ولم يسابق في مضمارها.
أسأل الله أن ييسّر لنا سلوك طريق التقوى، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت...
(1/5388)
بلوغ المرام في اتقاء الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
12/4/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبيين الله للمحرمات. 2- من آثار الذنوب والمعاصي. 3- فضل اتقاء المحارم. 4- أهمية محاسبة المرء نفسه فيما يكسب ويطعم. 5- أهمية مساءلة المرء نفسه عن حفظ عينيه. 6- أهمية مساءلة المرء نفسه عن حفظ لسانه. 7- تعظيم حرمات الله تعالى دليل إيمان العبد وتقواه لربه. 8- أصناف الناس في وقوعهم في الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن من صفات خالقكم عز وجل أنه حكيم عليم رحيم سبحانه، ومن حكمته الكاملة ورحمته بخلقه وعلمه بطبيعة عباده أنه حرّم عليهم أمورًا ووصاهم أن لا يقترفوها، وحدّ لهم حدودًا أمرهم أن لا يتعدوها وأن لا يتجاوزوها، وجعل تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية متوقفا على ذلك، فبين في كتابه في أكثر من موضع الأمور التي حرمها على عباده وحذرهم منها، يقول سبحانه: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151]، ويقول عز وجل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]، إلى غير ذلك من محرمات وموبقات أمرنا الباري عز وجل أن نبتعد عنها.
هذه المحرمات التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها لا تقوم سعادة المسلم ولن ينال الطمأنينة والهناء إلا إذا ابتعد عنها. إن بلوغ المسلم لما يرومه وما يبتغيه من فضل الله الواسع هو في اجتناب واتقاء الحرام، ومعظم ما يصيب المسلمين من ضنك وضيق وهمٍ وغمٍ وتعسّر أمور هو بسبب ما اقترفوا من حرام تلبست به ألسنتهم وأعينهم وبطونهم وفروجهم وكافة جوارحهم، قامت هذه الجوراح بفعل الحرام فكان أثر ذلك أن عشّش الران على القلوب وغاب عنها الإيمان والسكينة.
لا بد أن نتّقي المحارم ونبتعد عنها إذا أردنا الوصول إلى ما نصبو إليه في الدنيا والآخرة، وإذا أردنا أيضًا أن نتلذّذ بالعبادة وأن تكون القربات قرة عين لنا، فأعظم ما تكون لذة العبادة وشدّة المجاهدة في اتقاء الحرام؛ لأنه أينما وُجد الحرام نصب إبليس ـ عليه لعنة الله ـ شِباكه ليوقع بالمسلم فيما حرم الله، فإذا تفادى المسلم هذا الحرام وجاهد نفسه وهواه في سبيل مرضاة الله أحسّ براحة عميقة؛ لأنه أرضى مولاه وانتصر في هذه المواجهة الصعبة.
هكذا هو الأمر، وهكذا قضى الله سبحانه، فهو الذي حرّم الحرام وأحل الحلال وحدّ الحدود، فإذا وقف العباد عند هذه المعالم والتنبيهات نالوا الرضا والسعادة، وإذا ولغوا في الحرام وخاضوا فيه خيّمت عليهم التعاسة والمحن، يقول : ((ضرب الله تعالى مثلاً صراطًا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستورُ مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم)) أخرجه أحمد عن النواس.
والآن لنسأل أنفسنا إخوة الإيمان: هل حفظنا جوارحنا عن الحرام؟ هل اتقينا الحرام في حياتنا وابتعدنا عنه كما أمرنا مولانا عز وجل، أم أننا نرتكب المحرمات يوميًا ونقترفها دون تفكير ولا وجل؟ بل إن من الناس من يضع التبريرات الواهية والمعاذير الكاذبة ليسوّغ لنفسه أكل الحرام وفعل الموبقات.
إننا مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن بطوننا بطلب الحلال والبعد عن أي معاملة يشوبها الحرام، فهل قمنا بهذا؟ هل سأل المسلم نفسه عن ماله؟ هل نقّاه وصفاه من الحرام؟ هل سأل نفسه عن اللقمة التي يأكلها هو وأهله: هل هي مما أحله الله له أم أن المهمّ عنده أن يأتي بالمال وبالطعام وبأيّ طريقة كانت؟ يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل ، ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، ويقول : ((وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطاه المسكين واليتيم وابن السبيل، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة)) أخرجه النسائي عن أبي سعيد.
هذا هو الموقف الصحيح من المال ومن الكسب، ولقد حذرنا من وقت يكون فيه المال فتنة يجري الناس خلفها دون وعي ولا شعور، حيث يقول كما عند النسائي من حديث أبي هريرة: ((يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام)).
إننا مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن أعيننا، فهل حفظنا هذه العين التي هي باب من أبواب القلب؟ إن أدخلت عليه خيرًا انتعش وازداد إيمانا، وإن أدخلت عليه شرًا اسودّ وانتكس، هل حفظنا هذه العين من مشاهدة ما حرم الله سبحانه؟ هل غضضنا هذا البصر عن مناظر أمرنا الله سبحانه أن نجتنبها أم أننا أرسلنا الطرف وراء كل فتّان من المناظر ومهلكٍ من المشاهد؟ يقول تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وعن أبي سعيد أن رسول الله قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات، فإن أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) متفق عليه، ويقول ناصحا ابن عمِّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة)) أخرجه أبو داود عن بريدة.
إننا مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن ألسنتنا؛ وذلك بحفظها عن الكلام البذيء وعن الخوض في أعراض المسلمين وعن تجريح غيرنا وعن القول على الله بغير علم، فهل قمنا بهذا أم أننا فرطنا فيه ناسين أن ديننا يحذرنا من التمادي في إهمال ألسنتنا حتى لا تودي بنا إلى الهلاك؟ يقول : ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)) أخرجه البخاري، ويقول أيضا كما في حديث معاذ: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) الحديث أخرجه الترمذي.
إننا أيها ـ الإخوة مأمورون ـ باتقاء الحرام وإبعاده عن آذاننا وأسماعنا، فلا ينبغي أن نسمع الخنا والفحش وما نهى الله عنه من أمور، فهل نزّهنا أسماعنا عن هذا؟ وهل ابتعدنا عن مواطن الرذيلة ومجامع اللغو والفحش؟ قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]، ويقول : ((كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدركٌ ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
إننا ـ أيها المسلمون ـ مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن فروجنا، فلا ينبغي لنا أن نستعمل فروجنا إلا فيما أحله الله لنا من أزواج، فهل قمنا بهذا أم أن الفاحشة شاعت والزنا استشرى وولغ المسلمون في الرذيلة دون وازع من دين ولا خلق؟ رغم أن ربهم يحذرهم من ذلك بقوله: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء: 32]، ورسوله يبين لهم أن الزنا شرٌ عظيم، فيقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عباس: ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)). فهل أدركنا أن الفواحش والعري والفسق الذي انتشر بيننا يحول بيننا وبين الحياة الطيبة والخاتمة السعيدة؟!
هذه ـ أيها المسلمون ـ وجوه من الحرام الذي ينتشر بيننا، والذي ينبغي أن نتقيه ونتجنبه؛ لأن الله سبحانه أمرنا بذلك، ولأن الأمور لن تستقيم والنفوس لن تهنأ إلا بذلك.
بعد عرضنا لهذه الأوجه من المحرمات يرد سؤال إجابته هي الشفاء لحيرتنا وذهولنا واضطرابنا، هذا السؤال: هل تجنبنا هذه المحرمات التي ترتكبها أعيننا وأسماعنا وبطوننا وفروجنا وألسنتنا أم لا؟ إن كنا بذلنا ما نستطيع في تجنبها فهذا هو الأمر المحمود الذي يريده الله عز وجل منا، والذي سيحقق لنا ما نصبو إليه من راحة واطمئنان، أما إذا كنا نخوض في الحرام بكافة جوارحنا وحواسنا ونقترفه في اليوم مرات ومرات فقد سددنا على أنفسنا طريق السكينة والاطمئنان، وأوصدنا بأعمالنا أبواب الرحمات والبركات التي يأتينا منها الروح والريحان.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوا جوارحكم في ذات الله، وعبّدوها لله، وإياكم والاستهانة بأي ذنب، فإن المرء لا يدري ما الذنب الذي تكون به هلكته، يقول : ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)) الحديث أخرجه أحمد.
أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه مرضاته، أقول قولي هذا، وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، إن تعظيم حرمات الله سبحانه وعدم هتكها هو دليل إيمان العبد ودليل تقواه؛ لأن تعظيمها هو تعظيم لله الذي حرمها، لهذا بين سبحانه أن تعظيم هذه الحرمات خير وبركة على المسلم، فقال عز من قائل: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ، كما بين رسوله أن قمة التعبد والعبودية لله هي في اتقاء المحارم والحرام، فقال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحبّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، وقال أيضا كما في صحيح الجامع من حديث النعمان بن بشير: ((اجعلوا بينكم وبين الحرام سترا من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه)).
والناس ـ إخوة الإيمان ـ في وقوعهم في الحرام فريقان:
فريق يقع في الحرام بسبب الشهوات وقلة الإيمان وعدم الثقة فيما عند الله، وهؤلاء وجههم رسول الله بقوله: ((أيها الناس، اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم)) أخرجه ابن ماجة عن جابر، فلا بد أن نجمل في طلب المباحات، ونعلم أنه لن يضيع منا شيء كتبه الله عز وجل لنا.
أما الفريق الثاني فهم الذين يرتكبون الحرام بسبب الشبهات التي تجعل الناس يخوضون في الحرام لعدم تورعهم وعدم تثبتهم وتهافتهم على كل أمر دون روية ولا تثبت ولا معرفة لحكم الله فيه، وهؤلاء وجههم رسول الله بقوله: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) متفق عليه.
فاتقوا عباد الله، واعلموا أن سعادتكم في اتقاء ما حرم الله عليكم والبعد عنه والتثبت فيما تأتون وما تذرون من أمور، فإن التثبت والتحوط في هذه الدنيا خير من التحسر والتندم عند لقاء الله عز وجل.
أسأل الله أن يجنبني وإياكم الحرام، وأن لا يجعل لنا فيه نصيبا، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/5389)
آداب يفقدها الكثير من المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
19/4/1426
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- على المسلم أن يتصف بالشمولية والمثالية في التمسك بتعاليم الإسلام. 2- أخلاق وآداب كثيرة تضيع على المسلمين بسبب عدم اعتنائهم بها. 3- أدب الحلم. 4- أدب التأني. 5- أدب الرفق. 6- أدب الصمت. 7- أدب المطاوعة والليونة. 8- ضرورة تفقّد النفس في هذه الآداب والسعي إلى تحقيقها. 9- عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الجاهلية والإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي أكمل الأديان وأشملها وأنسبها لكل زمان ومكان، وما دام ديننا بهذا الوصف وهذا الكمال فإن على المسلم أن يستمد من هذا الدين صفة الشمول والمثالية، فيكون مسلمًا مثاليًا قائما بأصول الدين وفروعه؛ لأن شخصية المسلم لا تكتمل إلا إذا تمثلت فيه الآداب والأخلاق التي جاء بها الإسلام.
إن تعاليم ديننا الحنيف تسعى إلى بناء المسلم المثالي الذي تتجلى فيه كل الأخلاق الإسلامية، لا أن يكون متصفا ببعض الأخلاق ومبتعدًا عن بعضها، عاملاً ببعض الواجبات وتاركًا غيرها، كل خلق من أخلاق الدين الإسلامي حث عليه الله سبحانه في كتابه ودعا إليه نبيه واتصف به هو والصالحون من بعده وجب على المسلم أن يتحراه ويتحلى به، فما جاء رسول الله إلا لتقرير الأخلاق الحسنة وتتميم مكارمها فهو القائل: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) أخرجه البيهقي والحاكم.
ولا شك ـ إخوة الإيمان ـ أن المسلمين في عمومهم تضيع منهم الكثير من الأخلاق والآداب الإسلامية ويرتكبون الكثير من الانحرافات والمخالفات، هذا أمر لا خلاف فيه، لكن هناك بعض الأخلاق والآداب تضيع حتى على المسلمين الصالحين القائمين بفروض دينهم وواجباته، وهذه الأخلاق والآداب حساسة لا يشعر المسلم بأهميتها رغم أنها ضرورية مهمة، فتجد الكثير من المسلمين يتمسكون ببعض الأخلاق والآداب الإسلامية وتضيع منهم آدابٌ أخرى مهمة، فلا يفطنون لها ولا يهتمون بها، وهي آداب مهمة يحتاجونها في إكمال شخصيتهم الإسلامية، ويحتاجونها في التعامل مع إخوانهم المسلمين، نتكلم عن بعض هذه الآداب التي يفقدها الكثير من المسلمين، سائلين الله سبحانه أن ينفعنا بما نقول ونسمع، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
من الآداب التي يفقدها الكثير من المسلمن أدب الحلم، والحلم ـ كما يقول الراغب الأصفهاني ـ هو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب. ولقد مدح الله سبحانه بهذه الصفة نبيه إبراهيم عليه السلام فقال عز من قائل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75]، ومدح رسول الله أيضًا أحد أصحابه بهذه الصفة الحميدة، هذا الصحابي هو الأشج بن عبد القيس، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال للأشج: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)).
هذا هو الحلم وهذه منزلته، ولكننا مع هذا نجد بعض المسلمين من المحافظين على الصلاة وعلى أركان الدين وآدابه؛ نجده غضوبًا سريع الغضب، لا يتحلى بصفة الحلم، وهي صفة إذا فقدها المسلم اهتزت شخصيته وتصرف تصرفات لا تحمد عقباها، فكيف لا نتحلى بخصلة يحبها الله سبحانه ويدعو إليها رسوله ؟!
وليس المقصود بالحلم ـ إخوة الإيمان ـ أن لا يغضب المسلم نهائيا، فهذا مستحيل، وهو غير محمود أيضا، ولكن المقصود أن لا يغضب لكل شيء ولأتفه الأسباب، وأن يكون غضبه في الحق، وأن يملك نفسه عند الغضب، فلا يخرجه الغضب عن جادة الحق فيقول ما لا ينبغي أو يفعل ما يجرّ عليه الويلات ولا يجني من ورائه إلا الحسرة والندامة، قال : ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) أخرجه الشيخان.
ومن هذه الآداب المهمة أدب التأني، ومعنى التأني التثبت والاتِّئاد وعدم العجلة. وهذه الصفة مهمة حتى يصل الإنسان إلى ما يريد، وحتى يكون مصيبًا في أعماله وأحكامه، فغالب الأفعال والأحكام والتصرفات المبنية على التسرع والاستعجال تكون نتائجها غير مرضية، يقول : ((التأني من الله، والعجلة من الشيطان)) ، هكذا يبين أن التأني من الله والاستعجال من الشيطان، ومع هذا تجدنا لا نتأنّى في أمورنا، بل تأخذنا العجلة فتكون نتائج أعمالنا نتائج لا تسر، كل ذلك بسبب عجلتنا واستعجالنا، وقد صدق الله عز وجل حين وصف الإنسان بقوله: وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [الإسراء: 11].
إن الاستعجال ليس مذمومًا فقط في أمورنا الحياتية وعلاقتنا مع الخلق، بل هو مذموم حتى في علاقتنا بالخالق عز وجل، من ذلك أن المسلم مطالب بأن لا يستعجل في الدعاء، فيدعو مرة أو مرتين ثم يترك الدعاء بسبب عدم حصول الاستجابة، هذا أمر نهى عنه رسول الله ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل)) ، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أرَ يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)) أخرجه مسلم.
ومن الآداب المهمة التي يفقدها الكثير من المسلمين أدب الرفق، والرفق لين الجانب، وهو خلاف العنف. فالمسلم يجب أن يكون سهلاً لينا رفيقا في تعامله مع سائر خلق الله، لكننا نجد الكثير من المسلمين لا يعالج الأمور برفق وسماحة، بل المعالجة في الغالب تشوبها الرعونة والغلظة، وهذا أمر لا يرضاه الله، ولا يمكن أن يؤدي إلى ما نرجوه من نتائج.
إن الرفق ليس من الكماليات في أخلاق المسلم وشخصيته، بل هو صفة مهمة جعلها رسول الله زينة للأمور كلها، وغيابها عن أي أمر يشين هذا الأمر، يقول : ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)). هذا يعني ـ أيها المسلمون ـ أن المسلم لا غنى له عن الرفق في كل مجالات حياته ومع كافة من يتعامل معهم، ويقول أيضا: ((إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق)). فعليكم بالرفق ـ أيها المسلمون ـ مع أهلكم ومع أبنائكم ومع إخوانكم، ولن تعدموا بالرفق الأجر عند الله سبحانه وراحة البال وإنجاز الأمور على أتم وجه في هذه الحياة.
ومن الآداب المهمة التي تغيب على أكثر المسلمين ويعجزون عنها أدب الصمت، فالإنسان مأمور بالصمت والسكوت طالما لا يوجد مبررٌ أو فرصةٌ للكلام الحسن، لهذا فإن من تعاليم رسول الله الخالدة المشهورة قوله: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) الحديث أخرجه أبو داود. فليس من تمام شخصية المسلم وكمالها أن يكون ثرثارًا مهذارا، بل عليه التعود على الصمت بين الحين والآخر؛ لأن الصمت يفتح مجالاً للتفكر، ويفتح مجالاً للاعتبار، ويفتح مجالا لمراجعة النفس، ويبعد الإنسان عن كثير من سقط الكلام، أما الثرثرة فإنها في أغلب الأحيان تجرّ على الإنسان الذنوب والآثام؛ لهذا كان من أوصاف النبي أنه كان يطيل الصمت، فعن جابر بن سمرة قال: كان طويل الصمت قليل الضحك. أخرجه أحمد.
ولم يكن الصمت موجودًا في صفاته فقط، بل كان موجودًا في تعاليمه التي وجهها للأمة كما أسلفنا، بل إنه بين أيضًا أن الصمت من أفضل ما يتجمل به الناس، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أنس: ((عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمّل الخلائق بمثلهما)). ها هو يقسم بالذي يملك نفسه يقسم بالله سبحانه أن الصمت زينة لم يتجمل الخَلق بمثلها، فما لنا لا نتجمل بهذه الزينة؟! وما لنا لا نُحيي هذا الأدب فيما بيننا؟!
ولا يكتفي بهذا، بل إنه يجعل النجاة التي يسعى وراءها كل مسلم صادق، يجعلها في الصمت وإمساك اللسان، فعن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابْكِ على خطيئتك)) أخرجه الترمذي. هذه هي فوائد الصمت، فلماذا لا نلجم أفواهنا؟! ولماذا لا نتحرى مواقع ألسنتنا كما نتحرى مواقع أقدامنا؟!
مُت بداء الصمت خيْر لك من داء الكلام
إنَّما السالِم من ألـ ـجَم فاه بلجام
ومن الآداب المهمة المفقودة بيننا التطاوع والليونة والتنازل، وهذا الأمر يكون في الجدال والنقاش وغيره من معاملات تحدث بين المسلمين، يتشبث فيها كل طرفٍ بموقفه أو رأيه دون أن يعطي أدنى تنازل ولا سماحة، وهذه صفة ذميمة لا ينبغي للمسلم أن يتصف بها؛ لهذا كان يوصي أصحابه بالتطاوع فيما بينهم حتى تنجح أمورهم وتتآلف قلوبهم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله بعثه ومعاذًا إلى اليمن، فقال: ((يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) ، بل إنه يوصينا في باب الجدال أن لا نطيله إذا تحول إلى مِراء ومعاندة وملاحاة، بل علينا أن نترك هذا الجدال حتى ولو كان الحق معنا؛ لأن الفائدة معدومة من نقاش كهذا، ويعدنا إن ابتعدنا عن هذا المراء ببيت في ربض الجنة أي: في جوانب الجنة ونواحيها، عن أبي أمامة أن رسول الله قال: ((أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحِقًّا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) أخرجه أبو داود.
فاتقوا الله عباد الله، وتفقدوا أنفسكم، وتناصحوا، وليعزم كل من كان متصفًا بصفة ذميمة فاقدا لصفة حميدة أن يستبدل هذه بهذه مخلصا في ذلك لله عز وجل.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، ما ذكرناه من آداب إسلامية نبيلة وصفات إيمانية حميدة ليست للمعرفة النظرية، ولكنها صفات كل مسلم مطالب بأن يسارع إلى تحقيقها ما دامت من الآداب التي يحبها الله ورسوله ، لا بد للمسلم أن يتفقد نفسه ما الذي ينقصه من هذه الصفات فيحاول أن يتحلى بها، وأن يحققها في نفسه؛ لأن التحلي بها مكسب كبير، والافتقار إليها خسارة عظمى.
ولا شك أن التحلي بهذه الآداب الرفيعة أمر صعب غير يسير، ويحتاج إلى دأب وجهد، وليس من السهولة أن يكون الإنسان ثرثارا كثير الكلام فيصبح فجأة صموتا قليل الكلام، ومن الصعب أيضا أن يكون المرء غضوبا تستثيره أبسط الأمور فيصبح بين عشية وضحاها حليما صبورا، هذا أمر مستحيل، ولكن بالإخلاص والاستعانة بالله وبالتدرب ييسر الله سبحانه هذه الأمور على العبد، فلا بد أن يدرب المسلم نفسه على هذه الصفات الحميدة حتى يحصلها، فبالتدرب والتعود تسهل الأمور وتتحقق؛ لهذا يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي الدرداء: ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوقَّ الشر يوقه)).
إذاً فأمر تغيير الطباع ليس أمرًا مستحيلا، ولا يُقبل من مسلم أن يتمسك بصفة ذميمة أو طبع رديء ويقول: هذا طبعي ولا أستطيع تغييره، بل عليه أن يجاهد نفسه في ذات الله عز وجل، ويسعى إلى تحقيق مرضاة الله، وله في ذلك الأجر والثواب الحسن.
ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة في جهادهم لأنفسهم وتغييرهم لطباعهم حتى تلائم ما جاء به الإسلام، فقد نقل لنا أصحاب السير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان غضوبًا فتاكًا بطاشًا في الجاهلية حتى روي عنه أنه ضرب أخته فاطمة لما علم بإسلامها حتى أدمى وجهها، هذه هي أوصافه قبل الإسلام رضي الله عنه، ولكنه لما أسلم وخالطت بشاشة الإيمان قلبه وعرف الحق جاهد نفسه وتخلص من هذه الصفات حتى نقل إلينا من صفاته أنه كان رقيق القلب بكاءً من خشية الله وأنه كان وقافًا عند كتاب الله، إذا ذكّر بكلام الله وقف عنده. هكذا ينبغي أن يكون المسلم؛ سبّاقًا إلى التخلق بما يرضي مولاه عز وجل، مبتعدا عن مساوئ الأخلاق وسفاسفها التي يكرهها الله سبحانه، قال : ((إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها)) أخرجه الحاكم.
أسأل الله أن يعيننا على التحلي بما يرضيه من آداب وأخلاق، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/5390)
أضرار المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
صالح بن عبد الرحمن السعد
جدة
جامع الخيرات
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طبيعة التقصير والخطأ. 2- أصناف الواقعون في المعاصي. 3- أضرار المعاصي وآثارها. 4- أهمية استعظام الذنب. 5- شدة خوف الصحابة من ذنوبهم. 6- التحذير من احتقار الذنوب. 7- التحذير من المجاهرة بالمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرمه واصطفاه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وأودع في النفس البشرية خلالاً وصفاتٍ وسجايا وطبائع، ومن تلك السجايا والصفات التي فُطرت عليها النفس البشرية طبيعة التقصير والخطأ والانحراف والهوى، فالمعصية طبعٌ جبلّي وخلق بشري، متى ما كان الوقوع فيها بدافع الشهوة والشبهة دون محبةٍ أو رغبة مع كره القلب لها ونفور النفس منها.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى واتّصافه بصفات المغفرة والرحمة أن يقع العباد في الذنوب والآثام ثم يرجعون إلى الله مقبلين تائبين، فيغفر لهم ويتجاوز عنهم بمنّه وكرمه، ولو شاء الله لآمن من في الأرض أجمعين ولهدى الناس كلهم، لكن حكمته اقتضت أن يملأ الجنة والنار من خلقه.
ما للعباد عليه حقٌ واجب كلا ولا سعيٌ لديه ضائع
إن عُذّبوا فبعدله أو نُعّموا فبفضله وهو الكريم الواسع
عباد الله، من ذا الذي لم تصدر منه زلّة؟! ومن الذي لم يقع منه هفوة؟! ومن لم يقع في معصية؟! وقد قال المصطفى : ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) رواه مسلم في صحيحه، وروى الترمذي وابن ماجة أنه قال: ((كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)). فأيّ نفس ـ يا عباد الله ـ غير نفوس الأنبياء المعصومة ترتقي إلى درجةٍ ومنزلةٍ لا تدركها كبوة ولا تغلبها شهوة؟! ولكن المؤمن الصادق في إيمانه مع ذلك كلّه يدرك خطورة المعصية وشناعتها وأنها جرأةٌ على مولاه، فإذا وقع فيها تحت ضعف بشريّ واقعها مواقَعةَ ذليل خائف يتمنّى ذلك اليوم الذي يفارق فيه الذنب ويتخلّص من شؤم المعصية.
أيها المسلمون، إنّ الواقعين في المعاصي أحد رجلين:
إما رجلٌ يقع في المعصية حبًّا لها وشغفًا بها، تتحكّم المعصية في قلبه وتسطو على تفكيره، حتى يسعى بكل جوارحه للوقوع فيها، وقد يبذل مالاً أو جاهًا حتى يقع فيها، فإذا حال بينه وبين الوقوع فيها حائل أخذته الحسرات وعصره الندم على أنه لم يتمكن من فعلها، كل ذلك دون رادعٍ من دين أو خلق أو ضمير، فلا يفكر بالتوبة ولا يقيم لها وزنًا، فهذا وأمثاله لا تزال خطواته تقوده من معصية إلى أخرى ومن صغيرة إلى كبيرة حتى تكبّه على وجهه في النار عياذًا بالله. هذا هو الرجل الأول.
وأما الآخر فهو يبغض المعصية ويُقبل على الطاعة، لكنه تأخذه في لحظةٍ من اللحظات حالة ضعف بشري، فيواقع المعصية أيًا كانت، وما إن يفارقها حتى يلتهب فؤاده ندمًا وحسرةً وخوفًا ووجلاً من الله تعالى، فيحتقر نفسه ويمقتها، ثم يتجه إلى الله طارقًا بابه راجيًا عفوه وغفرانه، فهذا وأمثاله ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135]. ولقد صوّر ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن مع المعصية تصويرًا بليغًا دقيقًا فقال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرّ على أنفه فقال به بيده فطار). قال المحب الطبري رحمه الله تعالى: "وإنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته وسخطه؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قلّ خوفه من الله واستهان بالمعصية".
أيها المسلمون، المعاصي سببُ كل عناء وطريق كل تعاسة وشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب، وما نجا من نجا وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، فإن ما أصاب الناس من ضُرّ وضيق في كل مجال من المجالات فرديًا كان أو جماعيًا إنما بسبب معاصيهم وإهمالهم لأوامر الله عز وجل ونسيانهم شريعته، وصدق الله سبحانه إذ يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
وكتاب الله تعالى خير شاهد، فقد عمّ قومَ نوح الغرق، وأهلكت عادًا الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقُلبت قرى قوم لوط عليهم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
أيها المسلمون، وحين طغت على كثير من الناس النظرة المادية فضعف عندهم ربط الأسباب بمسبباتها وغفلوا عن إدراك سنن الله الكونية وآياته الظاهرة ـ يؤازر ذلك ويساعده تتابع الفتن والشهوات على الناس ـ صُدّوا عن السبيل ووقعوا في المعاصي دون أدنى رقيب أو محاسبة.
نعم عباد الله، لقد انتشرت الفواحش، وعمّت المنكرات، واستبيحت المحرمات، ووقع الناس في الذنوب والموبقات لمّا غاب عنهم الرقيب وضعف في نفوسهم الإيمان، فهانوا على الله فلم يبال بهم في أيّ أوديته هلكوا. ذُكر للحسن البصري رحمه الله أن قومًا وقعوا في المعاصي فقال: "هانوا على الله فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم". نعم أيها الإخوة، لقد وقع الناس في المعاصي والذنوب لمّا استحكمت الغفلة من القلوب، وران حب الدنيا على النفوس، فأمنت مكر الله.
عباد الله، المعاصي مزيلة للنعم جالبة للنقم مؤدية إلى الهلاك والدمار، فقد روى ابن ماجة وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
أيها المسلمون، إن أضرار المعاصي وشؤم الذنوب عظيمٌ وخطير، فهي موجبةٌ للذل والحرمان، جالبة للصد عن سبيل الرحمن، تفسد القلوب، وتورث الهوان، وتوجب اللعنة من الله ومن رسوله، تزيل النعم، وتجلب النقم، وتلقي الرعب والخوف في القلوب، تعمي البصيرة، وتسقط الكرامة، توجب القطيعة، وتمحق البركة، ما لم يتب العبد منها ويرجع إلى الله تعالى خائفًا وجلاً تائبًا طائعًا، قال ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلّ إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانُها
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدّت السّنة وأمسك المطر تقول: هذا بشؤم معصية بني آدم".
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن للمعصية ظلمة يجدها العاصي في قلبه لا يبددها ويجلوها إلا التوبة إلى الله تعالى والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياءً في الوجه ونورًا في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب ووهنًا في البدن ونقصًا في الرزق وبغضًا في قلوب الخلق"، قال : ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) رواه الإمام أحمد. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إني لأعصي الله تعالى فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي".
إن للمعاصي ـ أيها المسلمون ـ من الآثار القبيحة المذمومة المضِرّة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمها إلا الله؛ من حرمان للرزق ووحشة يجدها العاصي بينه وبين الناس وبينه وبين الله، ومِن تعسّر الأمور عليه وحرمان التوفيق، ومن الظلمة في القلب وحرمان الطاعة ونقص في العمر ومحق للبركة، وأعز من ذلك كله نقص العلم وحرمانه، قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك الْمعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
وكذا هوان العبد على ربه وسقوطه من عينيه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18]. ووقوع العاصي في الذل والمهانة لأنّ العزّ كله في طاعة الله، قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إنّ ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 96-99].
بارك الله لي في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن المعاصي إنما تُحارَب بطاعة الله تعالى ومراقبته والخوف منه واستعظام الذنوب والتوبة منها عند الوقوع فيها، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
عباد الله، إن استعظام الذنب يتولد منه لدى صاحبه استغفار وندم وتوبة وإلحاحٌ على الله عز وجل بالدعاء وسؤاله سبحانه أن يخلصه من شؤمه ووباله، وما يلبث ذلك أن يولّد لدى الإنسان دافعًا قويًا يمكّنه من الانتصار على الشهوات والسيطرة على الهوى. أما أولئك الذين يحتقرون الذنوب فقد يشعر أحدهم بالندم ويعزم على التوبة، لكنها عزيمة باردة ضعيفة سرعان ما تنهار مرةً أخرى أمام دواعي المعصية. قال بعض السلف: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت". روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنّا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات). وروى ابن أبي عاصم عن حذيفة رضي الله عنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله فيصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المجلس الواحد أربع مرات).
إن المسلم ليقف أمام هذه الآثار متسائلاً: ماذا عسى خير القرون أن تقول أو تفعل من أفعال تعدّ من الموبقات إذا ما قورنت بما نقع فيه ـ يا عباد الله ـ من الجرائم العظام والذنوب الكبار التي لا نبالي بها؟! والله المستعان.
إن احتقار الذنوب ـ معاشر الإخوة ـ والتهاون بها أمر خطير، فقد روى الإمام أحمد والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهنّ يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن الرسول ضرب لهنّ مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا وأججوا نارًا وأنضجوا ما قذفوا فيها. وهذا تشبيه بليغ من أفصح الناس لشؤم المعصية وخطرها على العبد وهو لا يبالي بها، فالعود لا يصنع شيئًا، والثاني كذلك، لكنها حين تجتمع تصبح حطبًا يُشعل النار ويأكل الحسنات. ورحم الله ابن المعتز حين قال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يَحذر ما يرى
لا تحقرنّ كبيرةً إن الجبال من الحصى
أيها المسلمون، وبقدر ما يصغر الذنب عند العاصي بقدر ما يعظُم عند الله، وبقدر ما يعظم عند العاصي يصغر عند الله. فكم ـ يا عباد الله ـ من كلمة لا نلقي لها بالاً يهوي بها الواحد منا في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ سخرية بمسلم أو همز له أو وقوع في عرضه أو كلمة غير صادقة، وكم من تقصير في واجبٍ لا نعبأ به وارتكاب لمحرم لا نتورع عنه، وهكذا تتراكم علينا الذنوب وبعد ذلك نسأل: لماذا تقسو القلوب؟! ولماذا تُظلم النفوس وتضيق الصدور؟! ولماذا ندعو فلا يستجاب لنا ونسألُ فلا نعطى ونستغفر فلا يغفر لنا؟!
نحن ندعو الإله فِي كلّ كربٍ ثُم ننساه عند كشف الكروبِ
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ قد سددنا طريقه بالذنوبِ
وأخيرًا، إياك ثم إياك ـ يا عبد الله ـ إن وقع منك شيء بالمجاهرة بالمعصية، فبِتّ وقد سترك الله فتصبح تكشف ستر الله عليك، فهذا ـ أيها الأحبة ـ إثمه أعظم من إثم المعصية وخطره أكبر وعقابه أشدّ، قال : ((كل أمتي معافى إلاّ المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عنه)) رواه البخاري ومسلم.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا المعاصي صغيرها وكبيرها، وعليكم بملازمة الاستغفار والتوبة، فإن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، وبعدها لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات...
(1/5391)
بركة الرزق
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الربوبية, فضائل الأعمال
ماجد بن بلال شربة
الحوية
جامع الأبرار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله خلق الخلق وقدر أرزاقهم. 2- البركة في الرزق تجعل القليل كثيرًا. 3- التقوى سبب من أسباب البركة. 4- الدعاء سبب من أسباب البركة. 5- صلة الرحم سبب في البركة. 6- الإنفاق في سبيل الله من أسباب البركة. 7- الاستغفار من أسباب الرزق. 8- الكسب والعمل الطيب كسب مبارك. 9- عدم الحزن على ما فات من الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عباد الله، إن الله أنعم علينا بنعم عظيمة ومنن جليلة كريمة، نعم لا تعدّ ولا تحصى، ومننٍ لا تكافأ ولا تجزَى، فما من طرفة عين إلا والعبد ينعم فيها في نعم لا يعلم قدرها إلى اللهُ جل وعلا، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6]. خلق الخلق فأحصاهم عددًا، وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا، فما رَفَعْتَ كف طعام إلى فمك إلا والله كتب لك هذا الطعام قبل أن يخلق السموات والأرض، سبحان من رزق الطير في الهواء والسمكة والحوت في ظلمات الماء، سبحان من رزق الحية في العراء والدود في الصخرة الصماء، سبحان من لا تخفى عليه الخوافي فهو المتكفل بالأرزاق، كتب الآجال والأرزاق وحكم بها، فلم يعقب حكمه ولم يُردّ عليه عدله، سبحان ذي العزة والجلال مصرف الشؤون والأحوال.
وإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أولاه من النعم, البركة في الأموال والبركة في العيال والبركة في الشؤون والأحوال نعمة من الله الكريم المتفضل المتعال, الله وحده منه البركة ومنه الخيرات والرحمات، فما فتح من أبوابها لا يغلقه أحد سواه، وما أغلق لا يستطيع أحد أن يفتحه؛ لذلك ـ عباد الله ـ إذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه وقوته، إنها البركة التي يصير بها القليل كثيرًا، ويصير حال العبد إلى فضل ونعمة وزيادة وخير، فالعبرة كل العبرة بالبركة, فكم من قليل كثره الله، وكم من صغير كبره الله، وكم من كثير محقت بركته فأصبح صاحبه لا يهنأ بعيش بسبب محق بركته.
وإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله هيأ له الأسباب وفتح في وجهه الأبواب، ومن أعظم الأسباب التي تفتح بها أبواب الرحمات والبركات تقوى الله جل جلاله، تقوى الله التي يفتح الله بها أبواب الرحمات ويجزل بها العطايا والخيرات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 96]. الخير كل الخير وجماع الخير في تقوى الله جل وعلا، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، فلن تضيق أرض الله على عبد يتقي الله، ولن يضيق العيش والرزق على من خاف الله واتقاه.
عباد الله، ومن أسباب البركات ومن الأمور التي يفتح به الله أبواب البركات على العباد الدعاء والالتجاء إلى الله جل وعلا، فهو الملاذ وهو المعاذ, فإن ضاق عليك رزقك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دينك فاقرع باب الله الذي لا يخيب قارعه، واسأل الله جل جلاله فهو الكريم الجواد، وما وقف أحد ببابه فنحّاه، ولا رجاه عبد فخيبه في دعائه ورجاه، دخل النبي يومًا إلى مسجده المبارك فنظر إلى أحد أصحابه فوجده رجلاً وحيدًا فريدًا، ونظر إلى وجه ذلك الصحابي فرأى فيه علامات الهم والغم، رآه جالسًا في مسجده في ساعة ليست بساعة صلاة، فدنا منه الحليم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه، وكان بأصحابه أبر وأكرم من الأب بأبنائه كما وصفه الله تبارك وتعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]، وقف عليه رسول الهدى فقال: ((يا أبا أمامة، ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟)) قال: يا رسول الله، هموم أصابتني وديون غلبتني أي: أصابني الهم وغلبني الدين الذي هو همّ الليل وذل النهار، فقال: ((ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك؟)) صلوات ربي وسلامه عليه، ما ترك باب خير إلا ودلنا عليه, ولا سبيل هدى ورشد إلا أرشدنا إليه، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته، ((ألا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) ، قال رضي الله عنه وأرضاه: فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني.
الله أكبر عباد الله، الدعاء حبل الله المتين وعصمة بالله رب العالمين؛ لذلك في كل صلاة نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]. فإذا أراد الله أن يرحم المهموم والمغموم والمنكوب في ماله ودينه ألهمه الدعاء، وشرح صدره لسؤال الله جل وعلا، ومن بيده خزائن السموات والأرض إلا الله؟!
ومن أسباب البركات ومن الأسباب التي يوسَّع بها على أرزاق العباد صلة الأرحام، قال : ((من أحب منكم أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره وأن يزاد له في عمره فليصل رحمه)). صِلُوا الأرحام فإن صلتها نعمة من الله ورحمة يرحم الله بها عباده، أدخل السرور على الأعمام والعمات والأخوال والخالات وسائر الأرحام والقرابات، فمن وصلهم وصله الله وبارك له في رزقه ووسع له في عيشه.
ومن أسباب البركات التي توجب على العباد الرحمات النفقات والصدقات، فمن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، ومن فرج كربة المكروب فرج الله كربته في الدنيا والآخرة، فارحموا عبادَ الله يرحمكم من في السماء، والله يرحم من عباده الرحماء، وما من يوم تصبح فيه إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا.
وإذا علم الله من العبد أنه ينفق المال على الضعفاء من الآباء والأمهات والأقارب والجيران من الفقراء والمساكين فتح الله له أسباب الرزق، وذلك مصداق قول الحبيب المصطفى : ((وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ؟!)).
يا ابن آدم، أنفق ينفق الله عليك، وارحم الضعفاء يرحمك من في السماء، فرّجوا الكربات وأغدقوا على الأرامل والمحتاجين فإن الله يرحم برحمته عباده الراحمين، قال : ((يا أسماء، أنفقي يُنفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك)) ، فمن أنفق لوجه الله ضاعف الله له الأجر؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ولك الخلف من الله، فما نقصت صدقة من مال.
ومن أسباب الرزق والغيث وكثرة الخيرات والبركات والأمطار ـ عباد الله ـ الاستغفار، قال سفيان الثوري: "إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار"، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيقٍ مخرجًا ومن كل همٍ فرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب)) رواه أبو داود، ويكفينا قول الله جل وعلا على لسان نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 11-14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: عباد الله، ومن الأسباب التي يبارك الله بها في الأرزاق بل يبارك بها في الأعمار وفي أحوال الإنسان العمل والكسب الطيب، الإسلام دين العمل، دين الكسب الحلال الذي يعف الإنسان به نفسه عن القيل والقال وسؤال الناس، فـ ((من سأل الناس تكثرًا جاء يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم)) والعياذ بالله.
خذ بأسباب الرزق وابحث عن مظانه تجده بإذن الله، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15]. بسط الله الأرض، وأخرج منها الخيرات والبركات، وجعل الخير في العمل والشر في البطالة والكسل، والإسلام دين الجهاد والعمل، قال يرشدنا إلى فضل الأعمال وما فيها من الخير في الأرزاق: ((وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي)). فليست الأرزاق أن يجلس الإنسان في مسجده، فلا رهبانية في الإسلام، فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، خذوا بالأسباب واطلبوا الرزق الحلال من أبوابه يفتح الله لكم من رحمته، وينشر لكم من بركاته وخيراته. الرجل المبارك يسعى على نفسه وأهله وولده، فيكتب الله له أجر السعي والعمل، ليس العمل بعيب ولا عار، فقد عمل أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كان نبي الله داود يعمل صنعة لبوس، فكان يعمل في الحدادة، فكانت منة من الله على عباده. ليس بعار أن تكون حدادًا أو نجارًا، ولكن العار كل العار في معصية الله جل وعلا والخمول والكسل والبطالة، حين يعيش الإنسان على فتات غيره، حين يعيش الرجل على فتات غيره مع أنه صحيح البدن قوي في جسده، فهذا من محق البركة في الأجساد.
فخذوا ـ رحمكم الله ـ بأسباب البركة بالعمل المباح والكسب المباح، فلن يضيق الرزق بإذن الله على من اكتسب, قال : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا)). فأخبر أنها تغدو وتروح، فمن ذهب للرزق يسر الله أمره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب فيحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلا يعطيه أو يمنعه)) رواه مسلم (2/721).
إذا المرء لم يكسب معاشًا لنفسه شكا الفقرَ أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاً وأوشكت صِلات ذوي القربَى له أن تنكَّرا
فسر فِي بلاد الله والتمس الغنى تعش ذا يسار أو تَموت فتُعذرا
فما طالب الحاجات من حيث يبتغي من الناس إلا من أجدّ وشمرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم وكيف ينام الليلَ من كان معسرا
ولا تحزن ـ يا عبد الله ـ إذا لم يصبك شيء من متاع الدنيا، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب، وليكن لسان حالك الحمد لله على كل حال. عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ)).
اللهم بارك لنا فيما أعطيت، اللهم لا تجعل الدنيا أكبرَ همِنا ولا مبلغَ علمِنا ولا إلى النار مصيرنا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله عل الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذا بالله.
وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك وحبيبك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين من اليهود والنصارى والزنادقة الملحدين...
(1/5392)
أشراط الساعة (1): العلامات الصغرى
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
20/12/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدلة على أن للساعة أشراطًا. 2- أهمية الموضوع. 3- الحكمة منها. 4- أقسامها. 5- من الأشراط: البعثة النبوية، موت النبي ، فتح بيت المقدس، طاعون عَمْواس، استفاضة المال، ظهور الفتن، ظهور مدعي النبوة، صبي منقوش على رأسه: "لا إله إلا الله".
_________
الخطبة الأولى
_________
بعد: فإنه لا يتم إيمان أحد بالله إلا إذا آمن برسول الله ، ولا يتم إيماننا برسول الله إلا إذا آمنا بجميع أخباره وصدقناه؛ فقد زكى الله منطقه بقوله: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]. وقد دخل في هذه الجملة الإيمان بما أخبر به من أشراط الساعة.
وقد دل القرآن الكريم على هذه الأشراط، قال تعالى: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد: 18]. وفي حديث جبريل الطويل لما سأل النبي عن الساعة قال له: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) ، فقال جبريل: فأخبرني عن أماراتها أي: علاماتها، فذكر النبي بعضها.
عباد الله، تكمن أهمية طَرق هذا الموضوع في:
1- أنَّ الإيمان به من الإيمان بالغيب، ولا يتمّ الإيمان بالله إلا إذا آمن المرء بالغيب. وقد مدح الله عباده المؤمنين بالغيب بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3].
2- لكثرة من أنكر هذه الشروط من العقلانيّين وغيرهم ممن يسير على دَرَج المعتزلة والجهمية وأئمة الكفر ورؤوس الضلال، فلا جرم أن الحديث عنها نصرةٌ لسنة المصطفى.
3- يبعث الكلام عنها على زيادةِ الإيمان والإشفاق مِنها، وقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:48، 49].
4- الإيمان بها من الإيمان باليوم الآخر، وهو ركن من أركان الإيمان.
أيها المؤمنون، لسائل أن يقول: ما الحكمة في أنْ جعل الله للساعة أشراطًا؟ والجواب ما قاله ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/350): "والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين وحثّهم على التوبة والاستعداد". وغير الغافلين يزدادون حرصًا ونشاطًا إذا عاينوا هذه الأشراط.
وأشراط الساعة منقسمة إلى قسمين:
1- أشراط صغرى، وهي من قبيل الأمور التي لا يُستغرب لوقوعها، وغالبها يكون بينها وبين الساعة أمد طويل جدًا مقارنةً بالمدة بين الكبرى والساعة. والصغرى ثلاثة أقسام: قسم ظهر وانقضى أمره كبعثة النبي ، وقسم ظهر ولا يزال يظهر كانتشار الزِّنا، وقسم لم يظهر إلى الآن كقتال اليهود.
2- أشراط كبرى، وهي التي ليس بعدها إلا قيام الساعة، وتكون من الأمور غير المعتادة، كطلوع الشمس من مغربها.
ولعلي في هذه الخطبة والخطب التالية أتناول هذه الشروطَ بشيء من الإيجاز، وأبدأ بالعلامات الصغرى وهي:
1- بعثة النبي :
قال سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الِْبْهَامَ: ((بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ)) رواه البخاري ومسلم. أي: بيني وبين قيامها مقدار ما يفضل به أحدهما على الآخر. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/442) موردًا هذا الإشكال: "قال الكرماني: قد انقضى من يوم بعثته إلى يومنا هذا يعني سنَةَ سبع وستين وسبعمائة سبعمائة وثمانون سنة، فكيف تكون المقاربة؟! وأجاب الخطابي أن المراد أن الذي بقي بالنسبة إلى ما مضى قدر فضل الوسطى إلى السبابة". وقد فسَّر بعض المفسرين قوله تعالى: فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا ببعثة النبي.
2- ومن أشراط الساعة موت النبي :
قال عَوْفُ بنُ مَالِكٍ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: ((اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ: مَوْتِي...)) رواه البخاري. فبموت النبي انقطع الوحي من السماء، وأظلمت الدنيا على أصحابه. تقول أم أيمن وقد بكت بعد موت النبي : مَا أَبْكِي أَنْ لا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ. رواه مسلم. وتقول صفية رضي الله عنها:
لعمروك ما أبكي النبيَّ لفقده ولكنَّ ما أخشى من الفقر آتِيا
3- ومن العلامات الصغرى فتح بيت المقدس:
ففي الحديث السابق: ((اعدد ستًا... وفتح بيت المقدس)) ، وقد وقع هذا زمن عمر بن الخطاب لما حاصر أبو عبيدة أهلَه ووافقوا على الصلح بشرط أن يقدِم عليهم عمر، فأشار إليه عثمان أن لا يفعل ليكون أذلّ لهم، وأشار عليّ بأن يذهب إليهم، فهوى قوله واستلَم مفاتيحه، نسأل الله أن يطهّره وما حوله من دنس يهود.
4- ومنها طاعون عمواس، فقد قال النبي في حديث البخاري السابق: ((ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ)). والموتان: الموت الذي يذهب فيه جمع كبير. وقُعاص: داء يصيب البهائم فيميتها.
يقول ابن حجر في الفتح (6/278): "ويقال: إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس". وقد مات فيه خمسة وعشرون ألف شخص، منهم أمين الأمّة أبو عبيدة.
5- ومنها استفاضة المال:
فقد ورد ذكره في حديث الستذ السابق، وفي قوله : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لا أَرَبَ لِي)) رواه البخاري ومسلم. وقد وقع هذا زمن عمر بن عبد العزيز كما في كتب السير والتاريخ، وسيقع عندما تُملأ الأرض عدلاً زمن عيسى والمهدي عليهما السلام.
6- ومنها كثرة الفتن:
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: ((تَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يبيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)) رواه الترمذي وصححه في صحيح الجامع (2993). والفتن: الأمور التي يختلط الحقّ فيها بالباطل.
وفي صحيح مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ : الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ((إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر)).
وقد ظهرت هذه الفتن بموت عمر ، فعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْفِتْنَةِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ، قَالَ: هَاتِ، إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ)). قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ، وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: يُفْتَحُ الْبَابُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: لا، بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لا يُغْلَقَ، قُلْنَا: عَلِمَ عُمَرُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ وَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ. رواه البخاري ومسلم.
فإذا أراد المسلم النجاة من مظاهر الفتن وأنواعها فليعتصم بالدعاء وسؤال أهل العلم عن كل ما يشكل عليه في أمور دينه.
6- ومنها ظهور مدّعي النبوة:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ)) رواه البخاري ومسلم.
ومنهم أربع نسوة، فعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: ((فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ وَدَجَّالُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، مِنْهُمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَإِنِّي خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لا نَبِيَّ بَعْدِي)) رواه الإمام أحمد وهو في صحيح الجامع (4258).
فهذه جملة من الأشراط الثابتة عن رسول الله يجب علينا أن نؤمن بها.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيّين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
لا تزال آيات الله تتّابع ـ أيها المؤمنون ـ في هذا الكون، ومن هذه الآيات ما كان في الأسبوع الماضي بمنطقة (سنجه) في هذه البلاد أنَّ طفلاً وُلِد على رأسه منقوش: "لا إله إلا الله"، يقرؤها كلّ قارئ لوضوحها، فما أعظمها من آية! إنها لآية أرى أنَّها تحمل رسالتين:
الرسالة الأولى: أنَّ الله تعالى على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء.
الثانية: أنَّ المسلمين عليهم أن يهتمّوا بتحقيق هذه الكلمة؛ لأن كثيرًا منهم يقولها ولا وجودَ لها في واقع حياتهم، فهم تائهون في ظلمات الشرك، متشبّعون به على اختلاف صوره؛ من دعاء غير الله، والتمرّغ بأتربة قبور الأموات حيث تُسكَب العبرات ويُفصَح عن الحاجات التي لا قادر على إنفاذها وإيجادها إلا ربّ الأرض والسماوات.
عباد الله، لي ثلاث وقفات حول هذه المعجزة:
الأولى: لا يظنّنّ أحد أن محلّ آيات الله لا بد أن يكون صالحًا؛ لئلا يُعبَدَ هذا الصبيّ إذا كبِر، ولئلا يُتَّخَذ قبره عيدًا إذا مات، فقد جعل الله آياته في الجماد، وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس:33]، وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]، والبشر كافرهم ومؤمنهم من آيات الله، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم:20]، والزمان آية ناطقة بأن الله رب الكون، وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ [يس:37]. ولا ننسى أننا قبل أعوام سمعنا ببهيمة قد نقشت هذه الكلمة على جنبِها، وفي الآخر: "محمد رسول الله".
الثانية: يتساءَل بعض الناس: ما بال هذه الآيات تكثر في هذه الأزمنة المتأخرة وقد قلَّت في الأزمنة المباركة في صدر الإسلام؟! والجواب: إنهم لم يكونوا بحاجة إليها؛ لشدة إيمانهم بالله، ولكن في هذه الأزمنة طغت الماديات واحتاج العباد إليها لتدلَّهم على ربهم وتذكّرهم به.
الثالثة: على الإعلاميّين أن يقوموا بإشاعة هذه الآية في متنوّع وسائلهم: المقروءة والمرئية والمسموعة؛ لأن في إشاعتها وإظهارها إعلاءً لشأن هذه الكلمة.
أسأل الله أن نكون من خير عباده المتفكرين في آياته...
(1/5393)
أشراط الساعة (2): العلامات الصغرى
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
11/1/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظهور الشح. 2- كثرة التجارة. 3- كثرة الزلازل. 4- ذهاب الصالحين. 5- ارتفاع الأسافل. 6- التحية للمعرفة. 7- التماس العلم عند الأصاغر. 8- فشو التبرج. 9- انتشار شهادة الزور. 10- ظهور موت الفجأة. 11- نزع البركة. 12- حسر نهر الفرات عن جبل من ذهبٍ أصفر. 13- كلام الحيوان والجماد للإنسان. 14- كثرة الفتن. 15- كثرة النساء وقلة الرجال. 16- قتال المسلمين للرُّوم وانتصار المسلمين. 17- قتال اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ففي هذه الخطبة سأذكر بقية العلامات الصغرى للساعة، لنشرع الجمعة القادمة بمشيئة الله في ذكر العلامات الكبرى.
وإن من أمارات الساعة الصغرى ظهور الشح، والشح هو أعظم البخل، قال نبينا : ((إن من أشراط الساعة أن يظهر الشح)) أخرجه الطبراني في الأوسط، وثبت في صحيح البخاري قوله : ((يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ)) أخرجه البخاري ومسلم. والشح هلاك في الدنيا والآخرة، يقول النبي محذرًا منه: ((إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا)) أخرجه أحمد وأبو داود.
ومن علاماتها ـ أي: الساعة ـ كثرة التجارة، وقد سبق لنا أن كون الشيء علامةً للساعة لا يعني أن يكون حرامًا، فكثرة التجارة مما لا حرج فيه، ومع ذلك فهي من علامات الساعة؛ لقول النبي : ((إنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ)) أخرجه أحمد. وهذا من الأسباب العامة التي تفضي إلى التعلق بالدنيا، وقد خاف النبي على أمته من ذلك.
ومن علاماتها كثرة الزلازل، لقول النبي : ((لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل)) أخرجه البخاري. وقد كان في السابق يؤرِّخون بالزلازل لتباعد وقوعها، أما في آخر الزمان فتقع متقاربة شاملة لعدد من الأماكن كما نص عليه ابن حجر رحمه الله. وثبت في المسند قول النبي : ((بين يدي الساعة سنوات الزلازل)).
ومنها ذهاب الصالحين وبقاء المفسدين الضالين، وعليهم تقوم الساعة كما جاء عن سيد المرسلين، قال : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ شَرِيطَتَهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَيَبْقَى فِيهَا عَجَاجَةٌ لا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا)) أخرجه أحمد، وقال: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً، يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا، فَكَانُوا هَكَذَا)) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَدَعُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ)) أخرجه أحمد.
ومنها ارتفاع الأسافل، يقول في ذلك: ((لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى تَصِيرَ لِلُكَعِ ابْنِ لُكَعٍ)) أخرجه أحمد. وهذا بسبب إسناد الأمر إلى غير أهله، فيُنحَّى الصالحون ويُولى المفسدون. وإن من الأمانة أن يُسند أمر الناس إلى أكرمهم عند ربهم؛ ولذا رأى عمر بن عبد العزيز مزاحمًا يصلي الضحى متخفيًا في إحدى الشِّعاب، فقال له: يا مزاحم، إني رأيتك تصلي الضحى في مكانٍ لا يراك فيه أحد إلا الله، فأحببتك والله، وإني موليك، فكن عوني على نفسي، فإن مِلتُ فأمسك بتلابيبي وقل: اتق الله يا ابن عبد العزيز.
ومن أماراتها الصغرى أن تكون التحية للمعرفة، قال رسول الله : ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ لا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلا لِلْمَعْرِفَةِ)) أخرجه أحمد. والذي ينبغي أن يُفشى السلام ليسود الوئام؛ لقول نبينا : ((لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ)) أخرجه مسلم؛ ولذا قال الإمام البخاري في الصحيح: "باب: السلام للمعرفة وغير المعرفة".
ومن علاماتها التماس العلم عند الأصاغر، لقول النبي : ((إن من أشراط الساعة ثلاثة، إحداهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر)) أخرجه الطبراني في الكبير. والمراد بهم أهل البدع، وأما الصغير الذي يحدث بكتاب الله وسنة رسوله فنعم المحدث هو ونعم الكلام كلامه.
ومنها فشو التبرج، لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ((سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي رِجَالٌ يَرْكَبُونَ عَلَى السُّرُوجِ كَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ، يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ عَلَى رُؤُوسِهِمْ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ، الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ)) أخرجه أحمد؛ إشارة إلى اهتمامهم بإصلاح أنفسهم دون أهلهم.
ومنها انتشار شهادة الزور، لقول النبي : ((إنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ)) أخرجه أحمد. وهي من أكبر الكبائر كما جاء في حديث نبينا : ((أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟)) ثَلاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ((الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ))، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: ((أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ)) ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. أخرجه البخاري ومسلم.
ومنها ظهور موت الفجأة، واتخاذ المساجد ممرات وطرقًا، وانتفاخ الأهلة، لقول النبي : ((من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال: لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقًا، وأن يظهر موت الفجاءة)) أخرجه الطبراني في الأوسط. وموت الفجأة أن يسقط الإنسان ميتًا وهو قائم يكلم صاحبه أو يتعاطى مصالحه.
ومنها نزع البركة، لقوله : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُمْطَرَ النَّاسُ مَطَرًا عَامًّا وَلا تَنْبُتَ الأَرْضُ شَيْئًا)) أخرجه أحمد، وقال: ((لَيْسَتْ السَّنَةُ بِأَنْ لا تُمْطَرُوا، وَلَكِنْ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا)) أخرجه مسلم.
ومنها أن يحسر نهر الفرات عن جبل من ذهب أصفر، لقول النبي : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو)) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، وللبخاري: ((يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا)). وهذه الرواية كافية في دحر قول من قال: "إن المقصود هو النفط"، وهل قال أحد بأن النفط منهي عن أخذ شيء منه؟!
عباد الله، ليحذر المسلم غاية الحذر من إنكار حديث رسول الله بحجة عدم قَبول العقل له، أيُّ عقل هذا الذي لا يقبلها؟! الناس متفاوتون في فهومهم متباينة عقولهم، فعقل من نحكِّم؟! إن العقل السليم لا يمكن أن يعارض ما ثبت بالوحي من النص الصحيح.
ومن العلامات كلام الحيوان والجماد للإنسان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ ذِئْبٌ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْهُ، قَالَ: فَصَعِدَ الذِّئْبُ عَلَى تَلٍّ فَأَقْعَى وَاسْتَذْفَرَ فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْتَزَعْتَهُ مِنِّي! فَقَالَ الرَّجُلُ: تَاللَّهِ، إِنْ رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ذِئْبًا يَتَكَلَّمُ! قَالَ الذِّئْبُ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا رَجُلٌ فِي النَّخَلاتِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ يُخْبِرُكُمْ بِمَا مَضَى وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِيًّا، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ فَأَسْلَمَ وَخَبَّرَهُ، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ : ((إِنَّهَا أَمَارَةٌ مِنْ أَمَارَاتٍ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ، قَدْ أَوْشَكَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ فَلا يَرْجِعَ حَتَّى تُحَدِّثَهُ نَعْلاهُ وَسَوْطُهُ مَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ)) أخرجه أحمد.
من العلامات أن يتمنى الإنسان الموت لكثرة ما يكون من الفتن والمدلهمات، قال : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومنها خروج القحطاني، فقد أعلمنا نبينا أن رجلاً يخرج من قحطان ينقاد الناس له، قال صلوات الله وتسليماته عليه: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ)) أخرجه البخاري ومسلم.
من العلامات كثرة النساء وقلة الرجال، قال أنس بن مَالِكٍ: لأُحَدِّثَنَّكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ لا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ فِي الْخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ)) أخرجه أحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمن العلامات التي يفرح بها كل مؤمن قتال المسلمين للروم وانتصار المسلمين، ففي صحيح الإمام مسلم قولُ نبينا : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لا وَاللَّهِ، لا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاؤُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ)).
وفي الحديث أنَّ القسطنطينية لا بد من فتحها آخر الزمان، ففي الحديث أن المسيح يظهر بعد فتحها مما يدل على أن الفتح الأول لها ليس هو المراد، ولا شكَّ عندنا في أن ذلك سيقع؛ لأن الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى.
ومن الأمارات التي تنشرح بذكرها صدور المؤمنين ما جاء في حديث النبي الأمين : ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)) أخرجه البخاري ومسلم.
نسال الله أن يُعز الإسلام وأهله...
(1/5394)
أشراط الساعة (3): المسيح الدجال
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
18/1/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث تميم الداري عن الجساسة والدجال. 2- معنى المسيح والدَّجال ولماذا سُمِّي بهما؟ 3- صفة الدجال. 4- ابن صياد والدجال. 5- أتباع الدجال. 6- فتنة الدجال. 7- الرد على منكري الدجال. 8- مدة لبثه بعد خروجه. 9- سبل الوقاية منه. 10- هلاك الدجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد ثبت في صحيح الإمام مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت: سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ يُنَادِي: الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: ((لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلاهُ)) ، ثُمَّ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((إِنِّي ـ وَاللَّهِ ـ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلا نَصْرَانِيًّا فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلاثِينَ رَجُلا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بِهِمْ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَؤُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ، قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا وَفَزِعْنَا مِنْهَا وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ؟ قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ، قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي، إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الأَرْضِ فَلا أَدَعَ قَرْيَةً إِلا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ؛ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً ـ أَوْ: وَاحِدًا مِنْهُمَا ـ اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلائِكَةً يَحْرُسُونَهَا))، قَالَ رَسُولُ َ وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ: ((هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ ـ يَعْنِي الْمَدِينَةَ ـ أَلا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟)) فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، قال: ((فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنْ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ)).
عباد الله، لفظ المسيح من الأضداد، يُطلق على الصِّدِّيق والضِّليل، وسُمِّي المسيح مسيحًا لأنه ممسوحُ العين، قال : ((المسيح الدجال ممسوح العين)) رواه مسلم. وسُمي دجالاً لأنه يُلبِّس على الناس بما معه من الشبهات، فالدَّجل تغطية الشيء، والدجَّال المموِّه الكذاب.
وصفة المسيح الدجال بينها النبي في أحاديث كثيرةٍ في الصحيحين وفي غيرهما، فبين النبي أنَّ شعره قَطَطٌ أي: شديد الجُعودة، جُفال أي:الغزير الكثير، وأنه شاب أحمر جسيم قصير، أجلى الجبهة أي: ينحسر الشعر عن مقدمة الرأس، عريض النَّحر، فيه دَفَأ والدفأ: الانحناء، أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافئة أي: بارزة، وأعور اليسرى، ولكن العور في اليمنى أظهر، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤها الكاتب وغير الكاتب. وبيَّن النبي ذلك لئلا يغتر الناس به، وليعلموا إذا خرج عليهم أنه الدجال الذي حذر منه، ومبالغة في الحرص منه على عدم التباس أمره قال: ((وإن ربَّكم ليس بأعور)) أخرجه البخاري ومسلم.
وقد اختلف علماؤنا رحمهم الله في ابن صياد الذي قابله النبي هل هو المسيح الدجال؟ ولعلَّ في التوقف في أمره اقتداءً بالنبي ، فإنه قال لعمر بن الخطاب لما أراد قتله وكان عمر يرى أنه الدجال: ((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)) أخرجه البخاري ومسلم. ونحن نقول: سواء أكان ابن صياد هو المسيح الدجال أم لم يكن فلا شكّ في خروجه آخر الزمان كما أخبر بذلك رسولنا.
عباد الله، من أين يخرج الدجال؟ يخرج الدجال من جهة المشرق، قال النبي : ((الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال : ((يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ، مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ التِّيجَانُ)) رواه أحمد. فإذا خرج طاف الأرض إلا مكة والمدينة كما جاء في حديث الجساسة.
فمن أتباعه؟ أتباعه اليهود، قال : ((يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ)) أخرجه مسلم. وكثير من أتباعه من النساء، يقول نبينا في ذلك: ((يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّ قَنَاة، فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا؛ مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ)) رواه أحمد.
أيها المؤمنون، إنَّ فتنة الدجال لا عاصم منها إلا الله؛ لما معه من الشبهات والأمور العظام، فللدجال جنة ونار، يقول : ((الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ)) أخرجه مسلم، وقال : ((مَعَه ـ أي: الدجال ـ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ، أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ، وَالآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا، وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ)) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له.
ومن فتنته أن يأمر الأرض فتخرج كنوزها، ويمر على القوم يؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ويمر على من يردون قوله ويكذبون حديثه فيصيبهم القحط؛ ابتلاء واختبارًا من الله تعالى. يقول النبي : ((فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ)) أخرجه مسلم.
ومن فتنته ما جاء في خبر الصادق المصدق المصدوق : ((ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ)) أخرجه مسلم. ولهذه الفتن العظام ما من نبيٍّ إلا وأنذر أمته الدَّجال.
عباد الله، كثير ممن تخرج في المدرسة العقلانية أنكر هذه الأحاديث بحجة أن العقل لا يقبلها! وتالله، إن عقلاً لا يقبل ذلك لهو عقل عليل قاصر، وإن التصديق بهذه الأخبار الثابتة دليل على صحة تصور أصحابها ورجاحة عقولهم واتساع أفقهم وخصوبة مداركهم؛ ذلك لأنهم أدركوا أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنَّ رسول الله لا ينطق عن الهوى، وفي الأثر: (أَلا وَإِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالدَّجَّالِ وَبِالشَّفَاعَةِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَبِقَوْمٍ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ بَعْدَمَا امْتَحَشُوا) أخرجه أحمد. فعلى المسلم أن يختار أقوم الطريقين وأحسن السبيلين، أعني سبيل التصديق والإيمان عوضًا عن التكذيب والنكران.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: كم يلبث المسيح الدجال في الأرض؟ سؤال سأله الصحابة للنبي فكانت الإجابة: ((أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ)) ، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: ((لا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ)) أخرجه مسلم.
وهذا الحديث يدل على كمال تصديق الصحابة لنبينا ، ولولا هذا السؤال منهم والإجابة عليه لأنكره كثير من المفكرين والمنظرين، كأني بهم وقت ذاك يقولون: هذا دليل على الشدة والكرب! وأن أول يوم من ظهوره يشق أمره، تمر الساعات بطيئةً حتى يكون اليوم كسنة! ولكن الله سلَّم بطرح هذا السؤال والإجابة عليه، فهو يوم تطلع الشمس فيه ولا تغرب إلا بعد أربعين وستمائة وثمانية آلاف ساعة؛ ولذا سأل الصحابة: أتكفي صلاة يوم واحد؟ فبين أنه لا بد في كل أربع وعشرين ساعة من خمس صلوات، وهكذا التقدير في اليومين اللذين كشهر وأسبوع.
عباد الله، كيف يتقي المسلم هذه الفتنة؟ تُتقى بأمور:
الأول: بتصحيح المعتقد في الله، فمن علم أسماء الله وصفاته علم أن لله عينين وأنه ليس بأعور والدجال أعور، وعلم أن الله تعالى لا يأكل ولا يشرب والدجال يأكل ويشرب، والله لا يُرى في الدنيا والدجال يُرى.
الثاني: بالاستقامة على دين الله وسلوك سبيل الصالحين، فإن النبي قال: ((إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) أخرجه مسلم، أي: والله يتولى المسلم، والمسلم الذي يحظى بحفظ الله هو الصالح، قال تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196].
وقد ثبت في سنن ابن ماجه أنَّ شابًا صالحًا لا يقدر الدجال على زعزعة إيمانه بشبهاته، قال : ((وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَيَقْتُلَهَا وَيَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ، حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْنِ ثُمَّ يَقُولَ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا، فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الآنَ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ وَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَنْتَ الدَّجَّالُ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ)). إن الإيمان إذا تمكن من القلب لهو أرسخ فيها من رسوخ الجبال في الأرض.
الثالث: أن يُتعوَّذ بالله بعد التشهد في الصلاة من فتنته، قال : ((إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)) أخرجه البخاري ومسلم.
الرابع: حفظ عشر آيات من أول الكهف؛ لقول النبي : ((مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ)) وفي راوية: ((من آخر)) أخرجه مسلم. وقال: ((من أدركه فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)) أخرجه مسلم. وحري بالمسلم أن يحفظ هذه السورة كلها ويرددها كل جمعة؛ لقول النبي : ((إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) أخرجه الحاكم.
الخامس: الفرار منه؛ لقول النبي : ((مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ)) أخرجه أحمد وأبو داود.
وأما هلاك الدجال فعلى يد عيسى ابن مريم عليه السلام عند باب لد، فإذا قُتل خنس أتباعه من اليهود، فاختبؤوا وراء الحجر والشجر، فيُنطق الله الحجر والشجر، قال : ((فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ـ أي: إلى عيسى ـ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، وَيَنْطَلِقُ هَارِبًا، وَيَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام: إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ فَيَقْتُلُهُ، فَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ، فَلا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ يَتَوَارَى بِهِ يَهُودِيٌّ إِلا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ لا حَجَرَ وَلا شَجَرَ وَلا حَائِطَ وَلا دَابَّةَ، إِلا الْغَرْقَدَةَ فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لا تَنْطِقُ، إِلا قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ، هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ)) أخرجه مسلم.
نسأل الله أن يقينا عذاب جهنم والقبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال...
(1/5395)
أشراط الساعة (4): نزول عيسى عليه السلام
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
25/1/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف عيسى عليه السلام. 2- الأدلة من القرآن على نزول عيسى آخر الزمان قبل قيام الساعة. 3- الأدلة من السنة على نزول عيسى. 4- أقوال العلماء في ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ من أشراط الساعة الكبرى نزول عيسى عليه السلام، ولا إيمان لمن لم يؤمن بذلك؛ لتواتر النقل عن رسول الله به كما سيأتي بيانه.
عباد الله، في الليلة التي عُرِج فيها بالنبي رأى عيسى عليه السلام فنعته لأمته، فجاء في نعته أنه رجل رَبْعةٌ، والرَّبْعَةُ: معتدل الطول ليس بالطويل ولا بالقصير، عريض الصدر، آدم أي: أسمر، وأنه أحمر، ولا منافاة بين الروايتين، فعيسى عليه السلام أسمر وفي سمرته حمرة، وهو جَعد أي: الخشن شعره أو المجتمع بعضه إلى بعض، وشعره لِمَّةٌ، واللِمَّة من استرسل شعره إلى شحمة أذنيه، فإن بلغ منكبيه فهو جُمَّةٌ.
وقد دلَّت ثلاث آيات على نزوله قبل قيام الساعة:
الآية الأولى: قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 157-159].
يقول العلامة ابن كثير رحمه الله: "والضمير في قوله: قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم؛ لأنه يضع الجزيةَ ولا يقبل إلا الإسلام"، فيضع الجزية لأنهم يدخلون في الإسلام.
والضمير في قوله تعالى: إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ راجع لعيسى عليه السلام كما قال ابن كثير، ويؤيد هذا ما يلي:
1- أن هذا هو الظاهر وبه تنسجم الآيات.
2- أن على هذا القول يكون مُفَسَّرُ الضمير ملفوظًا به، وإذا اخترنا غير ذلك احتاج الكلام إلى تقدير، وحمل الكلام على ما لا يحتاج إلى تقدير هو الأصل.
3- الأحاديث التي تبين نزوله آخر الزمان كما سيأتي.
4- أن هذا قول الأكثرين، قال الحافظ في الفتح (6/492): "وبهذا جزم ابن عباس فيما رواه بن جرير من طريق سعيد بن جبير عنه بإسناد صحيح، ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قال: قبل موت عيسى، والله إنه الآن لحي ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. ونقله عن أكثر أهل العلم، ورجحه ابن جرير وغيره".
وهو الظاهر من حديث أبي هريرة الذي سيأتي معنا.
الدليل الثاني من القرآن قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [الزخرف: 57-61]. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ أي: نزوله علامة من علامات الساعة، قال ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قَالَ: (هُوَ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أخرجه أحمد. وقال القرطبي رحمه الله: "وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك: وإنه لعَلَمٌ للساعة، بفتح العين واللام، أي: أمارة".
وأما الدليل القرآني الثالث فقوله تعالى عن عيسى عليه السلام: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 46]، وقد ذكر لنا كلامُه في مهده: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 30-33]. وأما كلامه حال كهولته فعندما ينزل آخر الزمان، فقد أورد الطبري عن ابن زيد رحمه الله: "قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهل". ونقل البغوي عن الحسين بن الفضل في تأويل قوله تعالى: وَكَهْلاً قال: "بعد نزوله من السماء". وقال البيضاوي: " وَكَهْلاً : بعد نزوله". ونقل ذلك ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما الأدلة من السنة النَّبوية فأكثر من أن تحصر في هذا المقام، ولكني أذكر منها ما يلي:
الحديث الأول: عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) ، قال أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا أخرجه البخاري ومسلم. فبين النبي عليه السلام في هذا الحديث أنه ينزل آخر الزمان، فيسود العدل ويدعو إلى الإسلام. وقد فسر أبو هريرة الآية بنزول عيسى آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب به؛ لأنه لا يقبل إلا الإسلام.
ومن الأحاديث ما جاء عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟!)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومنها قوله عليه السلام: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام حَكَمًا مُقْسِطًا)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومنها حديث حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ عليه السلام عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: ((مَا تَذَاكَرُونَ؟)) قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: ((إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ: الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ)) أخرجه مسلم.
ومن الأحاديث في ذلك قوله عليه السلام: ((عِصَابَتَانِ مِنْ أُمَّتِي أَحْرَزَهُمَا اللَّهُ مِنْ النَّارِ: عِصَابَةٌ تَغْزُو الْهِنْدَ، وَعِصَابَةٌ تَكُونُ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلام)) أخرجه أحمد والنسائي.
ومنها قوله عليه السلام: ((لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ـ يَعْنِي عِيسَى عليه السلام ـ ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ)) أخرجه أبو داود.
فكيف لإنسانٍ يؤمن بالله أن ينكر هذه الأحاديث؟! ألا لا إيمان لمن أنكر هذه الأحاديث، وسأورد من كلام علمائنا رحمهم الله ما يدل لذلك.
عباد الله، إنَّ أحاديث نزول عيسى عليه السلام بلغت حدَّ التواتر، وهذه أقوال بعض علمائنا رحمهم الله التي تدل لذلك:
قال الإمام الطبري رحمه الله بعد ذكر الخلاف في مسألة وفاة عيسى عليه السلام: "وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إلي؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله أنه قال: ((ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال)) ".
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله عليه السلام أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إمامًا عادلاً وحكمًا مقسطًا".
وقال العلامة صديق حسن خان بعدما أورد أحاديث نزوله عليه السلام: "جميع ما سقناه بالغ حدَّ التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطِّلاع".
وللشيخ العلامة محمد أنور شاه الكشميري كتاب: (التصريح بما تواتر في نزول المسيح).
وقال الغُماري: "تواتر هذا ـ أي: أحاديث نزول عيسى عليه السلام ـ تواترًا لا شكَّ فيه، بحيث لا يصح أن ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ كالقاديانية ومن نحا نحوَهم".
وقال في عون المعبود: "تواترت الأخبار عن النبي عليه السلام في نزول عيسى ابن مريم من السماء بجسده العنصري إلى الأرض عند قرب الساعة، وهذا هو مذهب أهل السنة".
وقال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله: "نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان مما لم يختلف فيه المسلمون؛ لورود الأخبار الصحاح عن النبي عليه السلام بذلك، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، لا يُؤمِنُ من أنكره". ماذا تقول يا إمام؟! لم يختلف فيه المسلمون؟! إذًا فمن أنكر ذلك فليبحث عن موضعٍ لقدميه؛ فإنه ليس بمسلمٍ.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: "اعلم أن أحاديث الدجال ونزول عيسى عليه السلام متواترة يجب الإيمان بها".
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/5396)
أشراط الساعة (5): نزول عيسى عليه السلام
الإيمان
الجن والشياطين
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
3/2/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفة نزول عيسى عليه السلام. 2- الوظائف التي يقوم بها بعد نزوله عليه السلام. 3- الحكمة من نزوله عليه السلام. 4- حال الناس معه. 5- مدة بقائه عليه السلام. 6- شبهات المنكرين لنزوله عليه السلام. 7- الفرق التي أنكرت نزول عيسى عليه السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لا يزال الحديث عن نزول عيسى عليه السلام، وحديثنا اليوم عن سبع مسائل تتعلق بنزوله لا بد من بيانها.
عباد الله، بيَّن نبينا الصفة التي ينزل عليها عيسى عليه السلام بقوله: ((يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ ـ أي: حبَّات الفضة، تشبيهًا لقطرات الماء التي تنحدر منه ـ كَاللُّؤْلُؤِ فَلا يَحِلُّ ـ أي: لا يمكن ـ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ)) أخرجه مسلم.
فما الوظائف التي يقوم بها عليه السلام إذا نزل؟
1- يدعو عليه السلام إلى دين الإسلام، وهذا معنى قوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ كما مرَّ معنا في الجمعة الماضية، وقوله : ((ويضع الجزية)) أي: لا يقبل من أهل الكتاب إلا الإسلام، ويكسر الصليب إبطالاً لعقائد النصارى، ويقتل الخنزير ويحكم بالعدل. وقد مضت الأدلة على ذلك، ومن الأدلة قوله : ((لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلاً، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلاصُ فَلا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ)) أخرجه مسلم.
2- يقتل المسيح الدجال عند لد، فإنَّ عيسى عليه السلام يطلبه ويلحقه بباب لد، فإذا رآه الدجال ذاب، فيطعنه عليه السلام برمحه.
3- يدعو الله أن يخلِّص الناس من شر يأجوج ومأجوج، كما سيأتي بيانه في الخطب القادمة إن شاء الله.
4- يقوم بالحج أو العمرة أو يجمع بينهما؛ لقول النبي : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا)) أخرجه مسلم. وإننا نؤمن بذلك كلِّه؛ لأن محمدًا هو الذي أخبر به.
عباد الله، فما الحكمة من نزوله عليه السلام؟ ذكر أهل العلم ثلاث حكم لذلك:
الأولى: إبطال عقيدة التثليث والصلب بكسر الصليب ودعوته للإسلام.
الثانية: إبطال دعوى اليهود أنهم قتلوه، وإبطال دينهم بدعوته للإسلام، فينزل ويقتل زعيمهم الدجَّال.
الثالثة: أن الله تعالى قد قضى وقدر أنَّ كلَّ مخلوقٍ لا بد أن يُدفن في الأرض، قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55].
فما حال الناس إذا نزل فيهم عيسى عليه السلام؟
الجواب يأتيك من نبيك إذ يقول: ((ثُمَّ يُقَالُ ـ بعد هلاك يأجوج ومأجوج ـ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنْ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إنَّ اللِّقْحَةَ مِنْ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنْ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنْ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنْ النَّاسِ)) أخرجه مسلم، وقال : ((وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، وَتَقَعُ الأَمَنَةُ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِلِ، وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لا تَضُرُّهُمْ)) أخرجه أحمد.
عباد الله، كم يمكث عيسى بعد نزوله؟
ثبت في صحيح الإمام مسلم أنَّ نبينا بين أن مكثه سبع سنين، وفي مسند الإمام أحمد: ((فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ)). ولا يمكن أن يقع تعارض في حديث النبي ، فأقول: لما رُفع عيسى عليه السلام كان له من العمر ثلاث وثلاثون سنة، ثم ينزل فيمكث سبع سنين، فتكون جملة السنوات التي مكثها أربعين سنة.
أيها المؤمنون، لقد أنكرت شرذمة من الجهلة نزول عيسى عليه السلام، واستدلوا بأمور:
الشبهة الأولى: استدلالهم بقول الله تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [آل عمران: 55]. والجواب من وجوه، فهذه الآية فيها ثلاثة أقوال:
الأول: مُتَوَفِّيكَ أي: منيمك؛ لأن النوم وفاة، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر: 42]، فالنوم وفاة، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] أي: بالنوم.
الثاني: مُتَوَفِّيكَ أي: قابضك، قال الإمام الطبري: "وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض فرافعك إليَّ، قالوا: ومعنى الوفاة القبض، كما يقال: توفيتُ من فلانٍ ما لي عليه، بمعنى قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ أي: قابضك من الأرض حيًا إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك".
الثالث: مُتَوَفِّيكَ مميتك، فمعنى الآية على ذلك: رافعك ومتوفيك بعد نزولك؛ لأن الواو لا تفيد الرتبة. قال ابن هشام في شرح قطر الندى وبلِّ الصدى: "أجمع النحويون واللغويون من البصريين والكوفيين أن الواو تفيد الجمع ولا تفيد الترتيب"، فتكون الوفاة بعد نزوله. قال الإمام الطبري: "وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله: يا عيسى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا". وقال القرطبي رحمه الله: "وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ : على التقديم والتأخير؛ لأن الواو لا توجب الرتبة، والمعنى: إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقوله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه: 129]، والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزامًا".
ولو سلَّمنا جدلاً ـ ولا نسلم بذلك أبدًا ـ أن عيسى مات وثبتت النصوص بأنه سينزل فما الذي يمنع من إحياء الله له لينزل إلى الأرض؟! وقد ذكر الله عددًا من مخلوقاته أماتهم ثم أحياهم في الدنيا الحياة التي نعيشها، كقتيل بني إسرائيل وطير إبراهيم والذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الموت والذي مر على قرية وهي خاوية ومعه حماره قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟!
والأظهر أنَّ المراد هو القول الثاني.
الشبهة الثانية: الاستدلال بقوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117].
وللإجابة عن هذا اسمحوا لي بفسح المجال لشيخ المفسرين ليخبرنا عن معنى الآية ومراد الله بها، قال الإمام الطبري: "فلما قبضتني إليك".
الشبهة الثالثة: استدلالهم بحديث النبي : ((لا نَبِيَّ بَعْدِي)) أخرجه البخاري ومسلم. والجواب من وجوه:
الأول: أن عيسى سينزل حكمًا وداعيًا إلى دين الإسلام، وليس ناسخًا لدين الإسلام.
الثاني: قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاءه رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته". فلا مانع إذًا من أن يأتي رسول بعد رسولنا مصدقًا به وإلا لكان الكلام معيبًا.
الثالث: جمع الله الأنبياء للنبي وصلى بهم عند بيت المقدس، فهل ننكر ذلك أيضًا؟!
الشبهة الرابعة: قالوا: أحاديث نزول عيسى عليه السلام ضعيفة مردودة. والجواب:
وليس يَصِحُّ في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وقد سبق في الخطبة الماضية بيان تواتر أحاديث نزوله عليه السلام.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكبير المتعال، مقلب الليل والنهار، إليه المرجع والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى الصحب والآل.
أما بعد: فقد اعتذر بعض الصحافيين لهذا الذي أنكر نزول عيسى عليه السلام بأنه مجتهد، والمجتهد مأجور. وهذا مما يندى له الجبين ويتفطر له القلب، ألا يعلم هؤلاء أنَّ الاجتهاد لا يمكن أن يكون في القطعيات؟! أيمكن أن يأتي منظرٌ غدًا ويقول: الواجب على المسلم أن يصلي الظهرَ خمسًا أو يصوم يوم الشك وأنَّ الحجَّ يجب مرتين على القادر؟!
إن عمرَ بن الخطاب يعلِّمُنا كيف نتعامل مع من يعبث بثوابتِ الدِّين بمتشابه النصوص، فقد كان صُبيغ بن أسلم يشوش على الناس بمتشابه القرآن، فطلبه عمر ثم جلده بجرائد النخل، حتى سالت دماؤه، ثم أراد عمر أن يعيد ضربه ثانيةً، فقال صبيغ: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي كنت أجده.
إنَّ مثل هذه المسائل لا تحتمل العبث بها ولا التشكيك فيها، فمن سلف المنكرين لهذه العقيدة؟! يقول الثعالبي رحمه الله: وأجمعت الأمةُ على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجَّال ويفيض العدل، ويُظهر هذه الملة ملةَ محمد ، ويحج البيت ويعتمر. ولم ينكرها إلا شرذمةٌ لا يُعتدُّ بخلافهم ولا يُفرح بوفاقهم، وهم بعض المعتزلة والجهمية.
أسأل الله أن يجعلنا من خير عباده المؤمنين المصدقين بما أخبر به النبي الكريم...
(1/5397)
أشراط الساعة (6): المهدي
الإيمان
الجن والشياطين
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
17/2/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اسم المهدي ونسبه. 2- صفات المهدي الخَلْقِية. 3- مكان خروج المهدي. 4- الأدلة على خروج المهدي. 5- تواتر الأحاديث الواردة في المهدي. 6- ذكر المهدي في كتب الاعتقاد. 7- شبهات من أنكره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أشراط الساعة خروج المهدي الذي بشر به النبي ، واسمه محمد أو أحمد كاسم النبي ، واسم أبيه كاسم أبيه، ونسبه من ولد الحسن بن علي، فهو علوي فاطمي حَسَني قُرَشي.
وقد وردت له صفتان في سنة النبي ، وهما: أجلي الجبهة أي: انحسر شعره عن جبهته، وأقنى الأنف أي: طويل مع تحدب في وسطه.
وقد أوضح النبي مكان خروجه، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ ثَلاثَةٌ كُلُّهُمْ ابْنُ خَلِيفَةٍ، ثُمَّ لا يَصِيرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، فَيَقْتُلُونَكُمْ قَتْلاً لَمْ يُقْتَلْهُ قَوْمٌ ـ قال: ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا لا أَحْفَظُهُ ـ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ)) أخرجه ابن ماجه. قال ابن كثير: "المراد بالكنز كنز الكعبة".
عباد الله، كثرت الأدلة الدالة على خروج المهدي آخر الزمان، وجملة الأحاديث والآثار الواردة في المهدي 330 حديثًا وأثرًا، ولعلي أسرد عليكم منها عشرة أحاديث:
الأول: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((يخرج في آخر أمتي المهدي)) أخرجه الحاكم وصححه الألباني في السلسلة (711). فالحديث واضح الدلالة على خروجه آخر الزمان.
الثاني: عن علي قال: قال رسول الله : ((المهدي منَّا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة)) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع (6611). قال ابن كثير: "أي: يتوب عليه ويوفقه ويلهمه ويرشده بعد أن لم يكن كذلك". وفيه دليل على ما سبق تقريره، فهو من آل بيت رسول الله.
الثالث: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((الْمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى الْجَبْهَةِ أَقْنَى الأَنْفِ، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ)) أخرجه أبو داود وحسنه الألباني. وفيه بيان مدة خلافته، وبيان صفاته، وأنه يحكم بالعدل بين الناس.
الرابع: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ)) أخرجه أبو داود وصححه الألباني. وعترة الرجل: أخص أقاربه.
الخامس: قول النبي : ((لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ؛ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ)) أخرجه مسلم.
وقد جاء مصرحًا باسمه في مسند الحارث بن أبي أسامة، قال الحارث: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن عقيل، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن جابر قال: قال رسول الله : ((ينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض؛ تكرمة الله لهذه الأمة)). قال ابن القيم: "وهذا إسناد جيد".
السادس: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((منَّا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه)) صححه الألباني في السلسلة (2293)، وهو مفسَّر بالحديث السابق.
السابع: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ؛ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسمَ أَبِي، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (8160).
الثامن: عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا لا يَعُدُّهُ عَدَدًا)) ، قَالَ الجريري: قُلْتُ لأَبِي نَضْرَةَ وَأَبِي الْعَلاءِ: أَتَرَيَانِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ فَقَالا: لا. أخرجه مسلم.
التاسع: وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((يَكُونُ فِي أُمَّتِي الْمَهْدِيُّ، إِنْ قُصِرَ فَسَبْعٌ، وَإِلا فَتِسْعٌ، فَتَنْعَمُ فِيهِ أُمَّتِي نِعْمَةً لَمْ يَنْعَمُوا مِثْلَهَا قَطُّ، تُؤْتَى أُكُلَهَا وَلا تَدَّخِرُ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَالْمَالُ يَوْمَئِذٍ كُدُوسٌ ـ أي: مجتمع ـ فَيَقُومُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ، أَعْطِنِي، فَيَقُولُ: خُذْ)) أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.
العاشر: قالت حَفْصَةُ رضي الله عنها: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: ((لَيَؤُمَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ يَغْزُونَهُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوْسَطِهِمْ، وَيُنَادِي أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ ثُمَّ يُخْسَفُ بِهِمْ، فَلا يَبْقَى إِلا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ)) أخرجه مسلم، وعنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ ـ يَعْنِي الْكَعْبَةَ ـ قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلا عَدَدٌ وَلا عُدَّةٌ، يُبْعَثُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ)) أخرجه مسلم. وأخرجه أبو داود بطريقٍ آخر في كتاب المهدي، قال: وعن أم سلمة عن النبي في قصة جيش الخسف قلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: ((يخسف بهم، ولكن يبعث يوم القيامة على نيته)).
عباد الله، اعلموا أنه لا يسَع أحدًا أن ينكر هذه الأحاديث، فهي أحاديث متواترة كما بين علماؤنا رحمهم الله، كابن كثير والشوكاني وصديق حسن خان وابن باز والتويجري والعبَّاد وغيرهم من أئمة الهدى. يقول العلامة الألباني رحمه الله: "قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى بمجيء المهدي، وأنه من أهل بيته... وأنه يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتل الدجال... وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه".
وقد ذُكرت هذه العلامة في كتب الاعتقاد، يقول محمد صديق حسن خان: "ويظهر المهدي المنتظر". ويقول الإمام البربهاري: "والإيمان بالمسيح الدَّجَّال، والإيمان بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ينزلُ فيقتلُ الدجَّالَ، ويتزوجُ، ويُصلِّي خَلفَ القائمِ من آلِ محمَّدٍ ، ويموتُ ويَدفنه المسلمون". وأفرده بالتصنيف جمع من أهل العلم، كابن كثير كما ذكر ذلك في النهاية في الفتن والملاحم.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيد الهداة المهتدين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد حاول بعضهم أن يشوش ببعض الشبه لإنكار هذه العقيدة، ومن تلك الشبه:
الأولى: قولهم: أحاديث المهدي ليست في الصحيحين.
والجواب بالمنع والتسليم؛ أما المنع فلِما سبق من ذكر حديثين في صحيح الإمام مسلم. ثم لو سلمنا بذلك فهل يظن أحد أن البخاري أو مسلمًا التزما بإخراج كل حديث صحيح، أريد نقلاً واحدًا من أحدهما يدل لذلك، وهيهات. لقد التزما إخراج الصحيح ولم يلتزم أحدهما الإحاطة بكل حديث صحيح، وفرق بين الأمرين.
قال ابن كثير: "إن البخاري ومسلمًا لم يلتزما بإخراج جميع ما يُحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده، بل في السنن وغيرها". مثالٌ: حديث: ((مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ))، قَالَ أَبُو عِيسَى: "وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ"، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم. وقال الحاكم: "فهذه أقسام ذكرتها لئلا يتوهم متوهم أنه ليس يصح إلا ما أخرجه البخاري ومسلم".
الشبهة الثانية: قولهم: أحاديث المهدي فيها الكثير من الضعيف.
والجواب: هذا يقضي برد الضعيف، ولكن كيف نرد ما ثبت منها. ثم إنَّ هناك أحاديث ضعيفةً في كتاب الصلاة يستشهد بها بعض الفقهاء، وكذا في سائر أبواب فقه العبادات والمعاملات، فهل هذا يعني أن ننبذ جميع أحاديث الصلاة والفقه؟! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
الشبهة الثالثة: استدلوا بحديث ابن ماجه، وهو قوله : ((لا يَزْدَادُ الأَمْرُ إِلا شِدَّةً، وَلا الدُّنْيَا إِلا إِدْبَارًا، وَلا النَّاسُ إِلا شُحًّا، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَلا الْمَهْدِيُّ إِلا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)).
لتعلموا أنَّ إنكار هؤلاء لعقيدة المهدي نتاج هوى وتعصب للآراء وحبٍّ لمخالفة السنة. قبل قليل شوشوا بأن من الأدلة على إنكاره أنَّ أحاديثه ليست في الصحيحين، ولا يستدل إلا بما في الصحيحين، ثم يشوشون بحديث انفرد به ابن ماجه! وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا [المائدة: 41].
والجواب من وجهين:
الأول: الحديث منكر لا يثبت وهذه أقوال العلماء فيه: قال الإمام الحاكم في المستدرك (4/488): "فذكرت ما انتهى إلي من علة هذا الحديث تعجبًا لا محتجًا به"، وقال الألباني: "ضعيفٌ جدًا"؛ لأنَّ مداره على محمد بن خالد الجَنَدي، قال الحافظ في التقريب: "مجهول"، وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (8/256): "وهو ممن لا يُحتج به".
وأما التسليم: فلو سلَّمنا بصحة الحديث فلا تعارض بينه وبين أحاديث المهدي، قال الحافظ ابن كثير: "فعند التأمل لا منافاة، بل يكون المراد من ذلك أنَّ المهدي حق المهدي هو عيسى ابن مريم، ولا ينفي ذلك أن يكون غيره مهديًا أيضًا". وقال القرطبي: "ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا مَهدي إلا عيسى)) أي: لا مهدي كاملاً معصومًا إلا عيسى، وعلى هذا تجتمع الأحاديث ويرتفع التعارض".
ويدل لذلك أنَّ في الأمة مهديين غير المهدي المنتظر، قال : ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
الشبهة الرابعة: قولهم: إنه لم يُذكر في القرآن.
والجواب: كلُّ ما ذُكر في السنة فيجب الأخذ به بنص القرآن، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [النساء: 61]، وقال: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] ، وقال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7]. فاحذر ـ أيها المسلم ـ من ردِّ حديث رسول الله.
نسأل الله أن يجعلنا من خير عباده المؤمنين المصدقين...
(1/5398)
أشراط الساعة (7): يأجوج ومأجوج
الإيمان
الجن والشياطين
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
24/2/1427
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طرف من خبر يأجوج ومأجوج. 2- وجه الشبه بين ذي القرنين ونبي الله سليمان عليه السلام. 3- الدخان. 4- الخسف. 5- طلوع الشمس من مغربها. 6- خروج الدابة. 7- خروج نار من أرض اليمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فهذه هي الخطبة الثامنة والأخيرة في أشراط الساعة التي ذكرها سيدنا محمد.
ولعلي أقدم ذكر يأجوج ومأجوج، وهي من الآيات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، يقول رب العالمين: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء: 96]. إذا خرجت هاتان القبيلتان خرجوا من كل نَشَز ومكانٍ عالٍ يُسرعون.
وقال تعالى عن الملك الصالح ذي القرنين: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 93-99].
يخبر الله تعالى عن قوم من الأعاجم مُنح ذو القرنين القدرة على فهمهم، طلبوا من ذي القرنين بناء سدٍّ مانع من هاتين القبيلتين الدمويتين، وعرضوا عليه قبول أجر لذلك فرفضه، وطلب عونهم، فجاؤوا بقطع الحديد، وسُدّ ما بينها بالنحاس المذاب، وأخبر بأنهم لا قدرة لهم على الخروج من هذا السد إلا عند الوقت المحتم.
إنَّ المتأمل لقصة ذي القرنين يجد أنه شابه نبي الله سليمان عليه السلام في أمور:
الأول: أُعطي سليمان القدرة على فهم غريب اللغات، وفهم ذو القرنين هؤلاء الذين لا يُفهمون أحدًا، قال السعدي في قوله تعالى: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً : " لعجمة ألسنتهم واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أَعطى اللهُ ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به ألسنة أولئك القوم ".
الثاني: لما طلب منه أخذ الأجر امتنع ذاكرًا فضل الله عليه، مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ، وقال الله عن سليمان عليه السلام: فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36].
الثالث: أيده الله بالملك العظيم وخوارق العادات، وهيأ له من الأسباب ما بلغ به مطلع الشمس ومغربها، وبنى بها السد العظيم.
الرابع: في إسناده هذا الخير إلى الله، فلما فرغ من بناء السَّد قال: هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ، قال السعدي: "أي: من فضله وإحسانه علي، وهذه حال الخلفاء والصالحين إذا مَنَّ الله عليهم بالنعم الجليلة ازداد شكرهم وإقرارهم واعترافهم بنعمة الله، كما قال سليمان عليه السلام لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل: 40]. بخلاف أهل التجبُّر والتكبر والعلو في الأرض، فإن النعم الكبار تزيدهم أشرًا وبَطَرًا، كما قال قارون لما آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحة لتنوء بالعصبة أولى القوة: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص: 78]".
هاتان القبيلتان لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، فقد قال النبي : (( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟! قَالَ: ((أَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلاً وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا)) أخرجه البخاري ومسلم. وقال : ((إن يأجوج ومأجوج يموت منهم الرجل وأقل ما يدع من ذريته ألفا أو يزيدون)) أخرجه النسائي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الأوسط وضعفه الألباني.
وجلَّى نبينا صفاتهم بقوله: ((إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: لا عَدُوَّ، وَإِنَّكُمْ لا تَزَالُونَ تُقَاتِلُونَ عَدُوًّا حَتَّى يَأْتِيَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، عِرَاضُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الْعُيُونِ، شُهْبُ الشِّعَافِ ـ أي: سواد وبياض، والشعاف هنا: الشعور ـ ، مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمجَانُّ الْمُطْرَقَةُ)) أخرجه أحمد. والمجان التِّراس، والمطرقة: طرق الشيء الشيء أي: تراكم عليه. والذي يُفهم من الحديث: كثرة تجاعيد وجوههم حتى إن لحمها بعضه على بعض.
وفي السنة بيان أنَّ سدهم فُتح زمن النبي فتحة كالحلقة، فعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ: ((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ)) وحلق بالإبهام والسبابة. أخرجه البخاري ومسلم.
ولكنهم لن يخرجوا إلا في آخر الزمان بعد نزول عيسى عليه السلام ؛ فعَنْ النَّبِيِّ فِي السَّدِّ قَالَ: ((يَحْفِرُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَخْرِقُونَهُ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مُدَّتَهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاسْتَثْنَى، فَيَرْجِعُونَ فَيَجِدُونَهُ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَخْرِقُونَهُ فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ)) أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
وقد بُين لنا بعض صور فسادهم، ففي مسلم: ((يَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ ـ أي: قوم يأجوج ومأجوج ـ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ)) ، وقال : ((يَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُمْ فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ فِي السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ؛ قَسْوَةً وَعُلُوًّا)) أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
وأما هلاكهم فقد ثبت أنه لا يد لأحد في قتالهم، فيدعو عليهم نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، قال : ((أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ... فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ ـ وهو الدود الذي يكون في أُنوف الإبل والغنم ـ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلا يَجِدُونَ فِي الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلا مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ)) أخرجه مسلم.
لا يد لأحد في قتالهم، ويكون موتهم بالنَّغف! لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
عباد الله، ومن الأشراط التي ورد ذكرها في القرآن الدخان، قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ [الدخان: 10]. وقد جنح عبد الله بن مسعود إلى أنَّها آية قد وقعت زمن النبي ، فقال: (مَضَى خَمْسٌ: الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ) أخرجه البخاري ومسلم. وقال في الآية: إِنَّمَا كَانَ هَذَا لأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ أخرجه البخاري ومسلم. وذهب ابن عباس إلى أنَّها لم تقع، ففي تفسير الطبري عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت. ومما يرجح قوله أنَّ الدخان في أثر ابن مسعود مُتخيَّل، والله يقول: بِدُخَانٍ مُبِينٍ ، والعلم عند الله تعالى.
ومن أشراطها الكبرى ثلاثة خسوفات كما في حديث حذيفة بن أسيد، قال: اطَّلَعَ النَّبِيُّ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: ((مَا تَذَاكَرُونَ؟)) قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: ((إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ... وَثَلاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ)) رواه مسلم. والخسفُ: أن تَبْلَعَ الأرضُ بعضَ أجزائها بمن فيه.
ومن العلامات طلوع الشمس من مغربها، وهي من الآيات التي حدثنا عنها القرآن الكريم، يقول سبحانه وتعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158]. وقد فسَّر النبيُّ ذلك بطلوع الشمس من المغرب، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ يَوْمًا: ((أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا، أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، ومن الأشراط أيضًا خروج دابة الأرض التي نطق بها القرآن الكريم، يقول تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل: 82].
يقول ابن مسعود : أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في صدور الرجال؟! قال: يُسرى عليه ليلاً فيصبحون منه فقراء، وينسون قول لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع عليهم القول. أخرجه الدارمي في السنن والطبراني في المعجم الأوسط وعبد الرزاق في المصنف.
وهذه الدابة لا يليق بالمسلم أن يبحث عن أمور بشأنها لم ترد في الكتاب ولا في السنة، كصفتها وفصيلتها ونحو ذلك، فنؤمن بأنها دابة من خلق الله تكلم الناس ونسكت عما سُكت عنه.
وهذه الدابة لها وظيفتان:
الأولى: تكلم الناس وتقول: إنَّ الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، هذا على قراءة من فتح همزة (أنَّ)، وأما على قراءة من كسر همزة (إنَّ) فيكون كلامها غير مبين في الآية؛ لأن الجملة استئنافيةً، ولكن القراءات يفسر بعضها بعضًا.؛ ولذا قرأ أبي : (تُنَبِّئُهُمْ).
الثانية: ما جاء ذكره في حديث النبي : ((تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلام، فَتَخْطِمُ الْكَافِرَ بِالْخَاتَمِ، وَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا)) أخرجه أحمد. وقرأ ابن عباس: (تَكْلَمُهم).
وختامًا، من الآيات التي تنبأ بها النبي خروج نار من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم، ففي حديث حذيفة بن أسيد قال: اطَّلَعَ النَّبِيُّ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: ((مَا تَذَاكَرُونَ؟)) قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: ((إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ... وَثَلاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ)) رواه مسلم، وللبخاري: ((نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب)). ولا تعارض بين الروايتين؛ لأن أصل خروجها من اليمن.
ويحشر الناس على ثلاثة طرق، يقول نبينا : ((يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ ـ وفي رواية: راكبين ـ ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا)) أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية عند الطبراني في الكبير والأوسط: ((يكون لها ما سقط منهم)). وفي المسند لما ذكر النبي من يحشر ماشيًا سئل، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: هَذَانِ قَدْ عَرَفْنَاهُمَا، فَمَا بَالُ الَّذِينَ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ؟ فقَالَ: ((يُلْقِي اللَّه الآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ حَتَّى لا يَبْقَى ظَهْرٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ الْمُعْجِبَةُ فَيُعْطِيهَا بِالشَّارِفِ ـ وهي الناقة المسنة ـ ذَاتِ الْقَتَبِ فَلا يَقْدِرُ عَلَيْهَا)). وهذا الحشر سيكون بالشام؛ لقول النبي في الشام: ((ها هنا تُحشرون)) أخرجه أحمد.
وهذا الحشر يكون في الدنيا؛ فإنَّ الناس يُحشرون في الآخرة حفاةً عراةً غرلاً بهمًا، أما في هذا الحشر فقد ذكر النبي أنَّه يكون ممن يُحشر صاحب الحديقة المعجبة، وأن بعض الناس يُحشرون راكبين، وهذا لا يكون في حشر الآخرة، وهذا مما لا ينبغي أن يُنازع فيه. قال ابن حجر رحمه الله: "ومن أين يكون للذين يبعثون بعد الموت عراة حفاة حدائق حتى يدفعوها في الشوارف؟!".
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين المصدقين بحديث نبيه الأمين...
(1/5399)
إعصار قونو على الخليج
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
22/5/1428
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آيات ونذر. 2- كل شيء بقضاء الله وقدره. 3- إعصار جونو. 4- المعاصي سبب المصائب. 5- خطورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- تخويف الله تعالى عباده. 7- من أسباب منع العذاب. 8- نظرة المؤمن لمثل هذه الأحداث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله تعالى خيرُ زادٍ يُتزوَّد به للدار الآخرة، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197]
عباد الله، آياتٌ ونذر من الرحمن الرحيم للبشرية جمْعاء تتجدد يوما بعد يوم بلْ بكل لحظة من لحظات حياتهم؛ حروبٌ ومجاعات، أمراضٌ فتاكة مستعصية، حوادث سير في البر والبحر والجو، ينجم عنها موت الجماعات من الناس في لحظة واحدة، خسوف وكسوف، زلازل وبراكين وفيضانات، عواصف وأعاصير وغيرها. فالكونُ بإنسه وجنّه وسمائه وأرضه وكواكبه ونجومه ومخلوقاته ما علمنا منها وما لَمْ نعلم إنما هو مسخّر بأمر الله، يتصرف فيه كيف يشاء سبحانه، ولا معترض عليه.
والمسلم بما يحمل من عقيدة التوحيد يعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن ما يجري من هذه الآيات والنذر إنما هي بِقَدَرٍ من الله لحكمة يريدها الله، عَلِمَها البشر أو غابت عنهم، قُلْ هُوَ ?لْقَادِرُ عَلَى? أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?نْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ?لاْيَـ?تِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ?لْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 65-67]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور: 43].
عباد الله، ومن هذه الآيات والنذر إعْصَارُ غُونُو الذي انطلق من المحيط الهندي إلى منطقة الخليج العربي وبسرعة هائلة إلى أنْ وصل الإعصار إلى العاصمة الْعُمانِيّة مَسْقَط، حيث تسبب في فيضانات وانقطاع للتيار الكهربائي وتعْطيلٍ لِحَركة الملاحة والنقل والمواصلات ونَزْحِ آلاف السكان عن منازلهم، كما أُغلقت المؤسسات العامة والخاصة، كما تسبب الإعصار بارتفاع الأمواج على سواحل بعض المدن الإماراتية، مِمّا دفع السلطات المحلية لإخلاء قاطني المساكن القريبة من البحر تَحَسُّبًا لزيادة ارتفاع الموج. فسبحانك ربنا ما أعظمك! وما أحلمك! وما أعدلك.! شواطئُ جميلة يقصدها السائحون ومحط أنظار المستثمرين تُباع بأغلى الأثمان يتسابق إليها رجال الأعمال, وفي لحظة واحدة تحوّلت إلى أراضي بَوار لا تُساوي درهمًا ولا دينارًا، يبتعد عنها كل من رام الصحة والسلامة.
ما بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وانْتِبَاهَتُها يُبَدِّلُ الله مِنْ حالٍ إلى حَالِ
عباد الله، ومن باب الإنْذار والتّحذير نتكلم في هذه الخُطبة عن هذا الإعصار من خلال الوقفات التالية:
الوقفةُ الأولى:
المعاصي سبب المصائب، فإذا وقعت المنكرات وأُعلنت ولم تُغَيّر فَسُنّةُ الله تعالى حُلُولُ العقوبات والمصائب، كما قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى: أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل: 45، 46]، وقال الله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 52، 53].
ومنْ تأمّل ما قصّ الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك من سوء عواقب الذنوب.
كما أن الرسول حذّر من المعاصي عامة إلا أنه عليه الصلاة والسلام كرّر التحذيرَ والتنبيه بشأن بعضها، وبين عليه الصلاة والسلام أنها إذا وجدت تَبِعَتْها عُقوباتُها، ومن ذلك ما رواه الترمذي وصححه الألباني عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ)) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: ((إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ)). والعقوبة إذا حلّت شملت الجميعَ إلا من رحمه الله كما في حديث زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّ النَّبِيَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: ((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ! وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ)) وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَالَ: ((نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)) رواه البخاري.
وسببُ العقوبة للجميع حتى الصالحين هو السُّكوت وتَرْكُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر على المنبر يقول: يا أيها الناس، إني تقرؤون هذه الآية: يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُم أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، وإني سمعتُ رسولَ الله يقول: ((إنّ النّاسَ إذا عُمِلَ فِيهِم بِالْمَعاصِي فَلَمْ يُغَيِّرُوا أَوْشَكَ الله أنْ يَعُمّهُم بِعِقَاب)) أخرجه أبو داود والترمذي، وعن حُذَيفةَ قال: قال رسول الله : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ)) رواه الترمذي.
قال ابنُ القيم في إعْلام الْمُوَقّعِين: "وأيُّ دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنْتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟! وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ؟! ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجدّ واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل. وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله وغيره أثرا: أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب، كيف وفيهم فلان العابد؟! فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه في يوم قط".
الوقفة الثانية:
أن الله سبحانه وتعالى يحدث بعض الآيات والعقوبات تخويفا لعباده إذا غفلوا لعلهم يرجعون، قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. قال ابن كثير رحمه الله: قال قتادة: "إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون".
فهذا الإعصار قد نزل ببلاد قريبة لنا وتنحى إلى غيرنا، وما ندري فلربما نزل هو أو غيره بنا وتنحى عن غيرنا، فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، فعلينا ـ عباد الله ـ أن نحتاط لأنفسنا ونتجنب الكوارث والأضرار في الدنيا والآخرة عمومًا، وذلك بتقوى الله جل وعلا كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [الطلاق: 8- 10].
الوقفةُ الثالثة:
أن من أسباب منع العذاب ورفعه التوبة والاستغفار، وذلك بترك الذنوب والعزم على عدم العودة إليها مع الندم ورد المظالم والاستغفار، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33].
وكذلك الخوف من نقمة الله وعقوبته، وعدم الأمن من مكره وعذابه، فقد ذم الله أقوامًا أمنوا مكر الله فقال: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97-99].
فقد كان إمام المتقين ورسول رب العالمين إِذَا عَصَفَتْ الرِّيحُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ)) ، تقول عائشة رضي الله عنها: وَإِذَا تَخَيَّلَتْ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: ((لَعَلَّهُ ـ يَا عَائِشَةُ ـ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] )) والحديث رواه مسلم.
هذا خوفُه مع أنّ الله جل وعلا قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33].
وأخرج ابنُ أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في سُننه عن صفية بنت أبي عبيد رضي الله عنها قالت: زُلْزِلَت الأرضُ على عهد عمر حتى اصطفقت السُّرُرُ، فخطب عمرُ الناس فقال: (أحْدَثْتم لقد عُجّلْتُم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم). وكان بعض السلف إذا تغير عليه خلُق زوجته أوْ دابته رجع وحاسب نفسه وقال: "والله، ما حدث هذا إلا بذنب فعلته".
ويتأكد الخوف والحذر ـ عباد الله ـ كلّما كَثُرت المنكرات وتوالت علينا النذر مِمّن له الخلق والأمر ممن يقول للشيء: كُنْ فيكون سبحانه وتعالى.
الوقفة الرابعة:
أن من أسباب منع العذاب ورفعه التّضَرُّعَ واللُّجُوءَ إلى الله تعالى وحده لا شريك له كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ)) رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
اللّهُم إنا نعوذُ بِكَ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ وَمِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَمِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَمِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ.
أقولُ ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنْبٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبُوا إليْهِ، إنّهُ هو الْغَفُورُ الرّحِيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أن لاّ إله إلا الله تعظيمًا لِشَانهِ، وأشهدُ أن نبيّنا محمدًا عبدُه ورسولُهُ الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأعْوانِهِ، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: عِباد الله، عندما تمر على المسلم مثلُ هذه الأحداث العظيمة وغيرها المتعلقة بالكون ينبغي أن تكون له وقفة تأمل واعتبار تنطلق من العقيدة التي رَسَخَتْ في قلبه وانْعكست على تصوراته للكون من حوله، وهذا هو المهم، أما أهل المناهج المادية الأرضية البحتة فإنهم ينطلقون من تصوراتهم المادية لمثل هذه الأحداث، والمسلم له منطلقاته التي يحكم بها حياته هو، ونظرته إلى ما حوله من الأحداث، فقلب المسلم معلق دائمًا بالله، ما يرى من نعمة إلاّ ويعلم أنها من عند الله، وما يرى من مصيبة إلاّ ويعلم أنها بما كسبت يداه ويعفو عن كثير.
فالمسلم دائمًا يتأثر قلبه بالآيات الكونية التي يراها ماثلة أمام عينيه، وهذه الآيات تذكره بالله، وتحيي قلبه، وتجدد الإيمان فيه، وتجعله متصلاً بالله، ذاكرًا له، شاكرًا لنعمه، مستجيرًا بالله من نقمته وسخطه.
عباد الله، إن مما يحزن له المسلم أن يجد بعض المسلمين ينسى مثل هذه الحقائق الإيمانية العظيمة في خضم الأحداث التي قد تفجؤه، فترى البعض ينسب مثل هذه الأحداث الكونية إلى الطبيعة ومن ظاهرة الاحتباس الحراري بالذات، ناسيًا أو متناسيًا قدرة الله العظيمة، أو متأثرًا بالدراسات والتقارير التي تصدر عن الجهات التي لا تقيم للدين وزنًا.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، واحذروا سخط الجبار فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَنِي اللهُ وَإِيّاكُم ـ على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ فَقَال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال : ((مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
اللّهم صَلّ وَسَلّم على عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمّد، وعلى آلِه وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ: أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وَعَلي، وعن بقيةِ الْعَشَرَةِ المبشرينَ بالجنة، وعن صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ، وعَنِ التابعينَ وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، وعنّا مَعَهُم بِرحمتكَ يا أرْحم الراحمين.
اللهم أعِزّ الإسلامَ وانْصر المسلمين، وأذِلّ الشّركَ والْمُشْرِكينَ، وَدَمِّرْ أعداءَك أعداءَ الدّين...
(1/5400)
كفى بإعصار جونو واعظا
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
22/5/1428
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الكوارث في آخر الزمان. 2- كل أمر بتقدير الله تعالى وتدبيره. 3- إعصار قونو. 4- عظم قدرة الله سبحانه وعجز الإنسان وضعفه. 5- سنن الله تعالى. 6- الرياح جند من جنود الله تعالى. 7- التحذير من النظرات المادية لهذه الأحداث. 8- النهي عن سب الريح. 9- الحث على التقوى والتحذير من الذنوب والمعاصي. 10- انتشار المعاصي وفشوها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، تدرّعوا بها في الشدة والرخاء، في السراء والضراء، اعمروا بها أوقاتكم صباحًا ومساءً، فبها تدفع المحن والبلايا والفتن والرزايا، وصدق الله تعالى القائل: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2].
أيها الإخوة المؤمنون، الكوارث والمصائب من أقدار الله، وقد نبأنا الرسول بكثرتها في آخر الزمان، كالزلازل والخسف والمسخ والقذف، والملاحظ في الآونة الأخيرة أنه لا تكاد تخلو سنة أو شهر بل أسبوع من حوادث تهز العالم هزًا، ففي كل يوم يمر بالعالم أحداث محلية ودولية، بعضها له تأثير محدود على بلد معين، وبعضها له تأثير على العالم بأسره أو جزء منه. ولا زلنا بين كل آونة وأخرى نسمع من مصادر الأخبار العالمية أنباء فيها عبرة لمن اعتبر، وذكرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ؛ من فيضانات تغرق القرى وتخرب المدن وتزهق الأرواح وتتلف الأموال، ومن إعصارات جوية تنسف الجسور وتدك الحصون، ومن براكين أرضية، ومن سيول وفياضات جارفة تكتسح النخيل والزروع، ومن خسوف وكسوف، ومن كوارث أرضية وفتن ومحن، ومن زلازل تدمر المنازل وتقلب الأرض وتتلف النفوس والمتاع.
فيا أيها الإخوة المؤمنون، لا يخلو زمن من الأزمان إلا وفيه من مصائب الزمان ونوائب الحدثان، وليست أمة من الأمم مخصوصة بنوع من البلاء دون غيرها حتى يأمن الآخرون فجائع الدهر.
فجائع الدهر ألوان منوعة وللزمان مسرات وأحزان
وكل ينال حظّه من هذا الابتلاء، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، وقد تبتلى بعض الأمم بالسراء، ويُبتلى غيرها بالضراء، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
وكل أمر بتقدير الله جل وعلا وتدبيره، ويعفو ربنا برحمته ويعفو عن كثير، وقد تكون المصائب مرّة، فتكون للجاهلين علما وللغافلين عظة وعبرة، فهل من مدّكر؟! نعم يا عباد الله، تمر بنا عظيم العبر ونسمع شر الخبر مما يحدث حول العالم في هذا العصر، وكان آخر ما حدث بنا من إعصار حل بمن حولنا، فهل من معتبر؟! نمر بأيّامٍ عصيبَة وتداعيات أحداثٍ عاصِفة ومستجدّات قاصِفة؛ إعصار وعواصف أطبقَت غيومُها، فسالت الأرض شعابها ووديانها وشوارعها، طاف ببعض دول الخليج طائف الإعصار مبتدئا بسلطنة عمان، ولا زال بهم هذا الإعصار حتى الآن، مرورا بجيرانها وهم منا ليسوا ببعيد، فعند هذا الحدث المهول ـ أيها الإخوة ـ نقف على ما فيه من عبر واعتبار، جعلنا الله وإياكم من الذين إذا ذكِّر تذكر واعتبر وأناب.
نعم لقد تابع الكثير منا ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمقروءة منها عن هذا الإعصار الهائل الذي أطلق عليه اسم "إعصار جونو"، وتم متابعة مداره وسيره لحظة بلحظة عبر الأقمار الصناعية، ونقل أحداثه وحوادثه على الهواء مباشرة للعالم أجمع. وهذا الإعصار هو عبارة عن رياح شديدة مصحوبة بغيوم وأمطار غزيرة كثيفة تأذَّى منها الناس وتضرروا، وبان عجزهم عن ردها ودفع ضررها، ويعتبر هذا الإعصار من أشد العواصف ضررا على المناطق التي حلّ بها بأمر العزيز الحكيم، والذي حاصر في أول حدوثه دولة سلطنة عمان برياح سرعتها ما يقارب مائة وثمانين كيلومترا في الساعة، مصحوبا بأمطار غزيرة نتج عنها سيول جارفة وهائلة ورياح هادرة سحقت كل ما في طريقها، وشلت حركة الشوارع، وحاصرت جميع السكان في داخل منازلهم عدة أيام، حتى أصبحت جميع المدارس مأوى لكثير من المواطنين، وشلت حركة النقل عندهم، فأغلقت المواني والمطارات، وقل سير السيارات، وعطلت المدارس والجامعات, وأصبحوا غير قادرين على ممارسة أعمالهم اليومية المعتادة، فتقطعت بهم السبل بسبب المياه الجارفة والرياح العاتية والأمطار الحامية، وغمرت المياه الطرقات وسدّتها الأشجار المتساقطة، وتهاوت كثير من أعمدة الكهرباء، وأصبحت الشوارع عبارة عن أنهار جارية بالمياه في بعض المناطق الساحلية، وصل الماء إلى اليابسة، ودخل إلى مساكنهم وإن كانوا لها محكمين، فأعلنت الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، نسأل الله سبحانه أن يفرج كربتهم، وأن يحفظهم من كل سوء ومكروه.
الله أكبر، ما أهون الخلق على الله! وما أعظم قدرة الله! تختلّ برامجهم لأدنى حدث كوني، وتتأثّر حياتهم إذا هبّت ريح عاصف، إنها فيضانات قد أغرقت الشوارع بالماء، لقد أحدث هذا الإعصار دمارا هائلا على المنطقة التي يأتي عليها، ولنا عبرة في الأعاصير على الرغم من الاستعدادات وأخذ الاحتياطات اللازمة، يقول قائلهم: إنه أمر لا يصدّق، إنها قوة الله عز وجل، فلا تصمد أمامها قوة، وتبقى قوة الله فوق كل قوة، وإذا أراد الله شيئا فلا رادّ لقضائه سبحانه وتعالى.
إنها نذر ولكن أين المعتبرون؟! وآيات ولكن أين المؤمنون؟! قد طاف بهم طائف الإعصار فأحال الأمن خوفًا والحياة موتًا والعامر خرابًا، سائلين المولى أن يلهمهم الصبر ويكون عبرة لمن يعتبر، فلعلنا نتعظ ونعود إلى الله، متجردين من الذنوب تائبين مستغفرين الله.
نعم أيها الإخوة المؤمنون، لقد أراد الله أن يبين للعالم أنه مالك الملك، العزيز القهار الجبار، لا تقف قوة أمام قوته، ولا توازي عظمة عظمته، وهل يقدر غير الله أن يأمر الأرض فتهتز فتدك ما عليها؟!
لنا ـ يا عباد الله ـ مع هذا الحادث محطات تأمّل ومنازل تفكر واعتبار، منها بيان عجز الإنسان وضعفه وإحاطة قوة الله وقدرته به من كل الجهات: من فوقه ومن تحته، وفي أرضه وسمائه وهوائه، بيانُ عظيمِ بطش الله وقهرِه وجبروته وشدّته وقوة محاله وعظمته، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12]، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]. فإن الله سبحانه عزيز ذو انتقام، إنه سبحانه قوي عزيز، إنه سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير، إنه سبحانه شديد المحال، إنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، إنه هو الرزاق ذو القوة المتين.
ولا شك ـ يا عباد الله ـ أنّ هذه عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والفساد، وفيها لمن حولهم عبر وعظاتٌ لا يدركها إلا أولو الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك لبضع ثوان، فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب.
أيها المسلمون، إن تلك السنن الربانية التي قررها الله تعالى في الأمم السابقة لا تختلف زمانًا ولا مكانًا، فهي سنن مطردة في الأفراد والشعوب والمجتمعات والأمم؛ فمتى ما بغت وكابرت واستكبرت وعاندت أمهلها الله واستدرجها بالنعم المتعددة المتلونة، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182]، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. يقول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44]. قال الإمام ابن كثير في قوله تعالى: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ : "أي: فتحنا عليهم أبواب الأرزاق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم عياذا بالله من مكره؛ ولهذا قال: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أي: من الأموال والأولاد والأرزاق أخذهم على غفلة وغرة منهم، فإذا هم آيسون من كل شيء".
لا إله إلا الله القوي الجبار العزيز القهار، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. لا إله إلا الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وإن الرياح ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ جند من جنود الله تعالى التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة بإذن ربها دمرت المدن وهدمت المباني واقتلعت الأشجار وصارت عذابا على من حلت بدارهم، فلما عتا قوم عاد وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] أرسل الله عليهم الريح العقيم، فقال جل وعلا: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42]، قال البغوي: "هي التي لا خير فيها ولا بركة ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، ما تذر من شيء أتت عليه من أنفسهم وأنعامهم ومواشيهم وأموالهم إلا جعلته كالرميم أي: كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس، قال مجاهد: كالتبن اليابس". وقد سماها الله تعالى: عَاتِيَةٍ في قوله: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة: 6]، قال المفسرون: عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، وقيل: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب، كيف لا وهي جند من جنود الله ينصر بها من يشاء من عباده المؤمنين كما حصل في غزوة الخندق؟! قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9]، روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "هي الصبا كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم ـ أي: خيامهم ـ حتى أظعنتهم"، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله : ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)) ، والصبا: هي الريح الشرقية، والدبور: هي الريح الغربية. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّي عنه وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته، فقال: ((إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي)) رواه مسلم. وكان النبي إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) رواه مسلم.
وقد قال الله عن قوم صالح عندما أرسل عليهم الريح: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24]، فلم يظنوا في السحابة التي أظلتهم سوى أنها ظاهرة كونية قد تتسبب في نزول المطر، خاصة وأنهم كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، ولكن لم تكن هذه الغمامة سوى العذاب. ونقل ابن كثير في تفسيره عن عبد الله بن عمرو قال: (الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب: فالعقيم والصرصر ـ وهما في البر ـ، والعاصف والقاصف) وهما في البحر. فإذا شاء سبحانه وتعالى حرّكه بحركة الرحمة؛ فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب؛ فجعله عقيما وأودعه عذابا أليما، وجعله نقمة على من يشاء من عباده؛ فيجعله صرصرا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه.
أيها المسلمون، كما أن الرياح جند من جنود الله يسلطها على من يشاء فإنها أيضا خلق من خلق الله يسخرها لمن يشاء من عباده، قال المولى تبارك وتعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء: 81]، وقال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ: 12]. قال قتادة: "تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار؛ فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين".
إن كثيرا من الدول والأمم والمجتمعات غالبا ما تضرب لهذه الرياح والأعاصير ألف حساب؛ فتقرأ الأحوال الجوية، وتتنبأ بوقت ومكان حدوثها، وتتخذ من أجلها الاحتياطات وتشغيل الإنذارات وتجهيز الملاجئ، ومع هذا كله إلا أنها لا تتجاوزهم إلا بخسائر فادحة في الأرواح والأموال وتلف في الممتلكات.
أيها المسلمون، إن مما ينبغي الحذر منه هو نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة كما يسميها بعضهم: "غضب الطبيعة"! وكما يقول بعضهم: "إن هذه ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم"! كما يجرى ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها ولا يعتبرون بها. قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "ونحن لا ننكر أن يكون لها أسباب حسية، ولكن من الذي أوجد هذه الأسباب الحسية؟! إن الأسباب الحسية لا تكون إلا بأمر الله عز وجل، والله بحكمته جعل لكل شيء سببا؛ إما سببا شرعيا، وإما سببا حسيا، هكذا جرت سنة الله عز وجل" انتهى كلامه يرحمه الله تعالى.
أيها المسلمون، إن من الناس من يتذمر عندما يرى الريح والغبار، وربما تطاول فسبها وشتمها، وهذا أمر قد نهى عنه رسول الله حيث قال: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذا الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذا الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) رواه الترمذي، وقال: ((لا تسبوا الريح؛ فإنها من روح الله تعالى، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها)) رواه أحمد وصححه الألباني.
ومما ينبغي التنبيه عليه هو قول بعض الناس: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا. فهذا جاء في حديث ضعيف جدا، وهو في ضعيف الجامع للألباني، وإنما الثابت من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام هو ما ذكرناه آنفا.
أيها المسلمون، لقد جرت سنة الله عز وجل في عباده أن يعاملهم بحسب أعمالهم؛ فإذا اتقى الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم أنزل عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، كما قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16]. وإذا تمرد العباد على شرع الله وفسقوا عن أمره أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال. فإذا كان العباد مطيعين لله عز وجل معظمين لشرعه أغدق عليهم النعم، وأزاح عنهم النقم، وإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية ومن الشكر إلى الكفر حلت بهم النقم، وزالت عنهم النعم. فكل ما يحصل للعباد من محن وكوارث ومصائب فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ؛ كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30].
وإن ما نشاهده من هذه الآيات الكونية لآية من آيات الله، تجعل المؤمن متصلا بالله، ذاكرا له، شاكرا لنعمه، مستجيرا به، خائفا من نقمته وسخطه، قال عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105]، أي: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. فكم دعانا القرآن الكريم إلى الاعتبار بما حل بمن قبلنا وبمن حولنا لنتعظ ولنقف عند حدود الله فلا نتعداها، قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام: 11]؛ وذلك ترغيبًا منه في أن نصحح أحوالنا ونغير حالنا ونقلع عن ذنوبنا.
وقد علمتم ـ أيها الأحبة ـ أن مدار القرب من الله تقواه، علم ذلك ووعاه كل من تدبر كتاب الله تعالى وعرف معناه، وتجرد للحق ولم يتبع هواه. وكل من نظر في قصص الأولين رأى فيها ما كانوا عليه من قوة في الأبدان وسعة في السلطان، وكان بأسهم شديدا، لكنهم لما عصوا ربهم أخذهم بذنوبهم، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر: 21]، فقطع الله دابرهم، وأهلكهم عن آخرهم، فتلك بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل: 52]، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً [القصص: 58]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحى وَهُم يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 96-99].
وهذه موعظة وعبرة لنا يا عباد الله، والله قادر أن يبعث البحر في أي لحظة ويطم على البلد؛ ولذلك لا بد من الرجوع إلى الله والتوبة وأخذ العبرة والعظة، ولذلك القلب الحي يعيش مع هذه المشاهد بضوء القرآن والسنة.
استغفروا الله عباد الله، وتوبوا إليه، فذلك أمان من العذاب بإذن الله، لا سيما وقد ذهب الأمان الأوّل رسول الله ، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33].
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الذين إذا وعظوا اتعظوا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، فاستغفروا الله العظيم الجليل الكريم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا حسب, فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99]. هل تدعونا هذه الآيات والنذر لمراجعة أنفسنا وتصحيح أخطائنا؟! إنّ رغد العيش قد ينسي، وإنّ الأمن من مكر الله قد يُطغي.
انظروا ماذا عملنا لدين الله وقد أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وفي كلّ يوم يُنتَقَص الدين ويسخَر بأركانه وقِيَمه، وكيف حالنا في الدعوة وغيرنا من أصحاب الديانات والمذاهب الباطلة ينشطون لباطلهم ويتقدّمون بدعوتهم، ما نصيبنا من الشعيرة العظمى وعلامة الخيريّة في الأمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وكم من معروف يحتاج إلى أمر وإظهار؟! وكم من منكر يشيع ويحتاج منّا إلى ردّ وإنكار ومدافعة بالتي هي أحسن؟!
وتعالوا نكن أكثر صراحة؛ فما حالنا مع الفرائض الأساسيّة للإسلام؟! وخذوا مثالا للصلاة والزكاة، كم هم الذين هم عن صلاتهم ساهون؟! كم تشكو المساجد من ندرة المصلّين لا سيما صلاة الفجر؟! وإذا رأيت ثمّ رأيت وجدت رجالا يتخلّفون وهم مكتملون في صحّتهم آمنون في سربهم، لا عذر لهم في التخلّف إلا الكسل والسهر، أولئك ينامون حين ينامون على أنعُم الله، ويستيقظون حين يستيقظون على أنعُم الله، ما بالهم يتأخّرون عن المكتوبة؟! لا يشهدون صلاة الفجر إلا عددًا يسيرًا ونزرًا قليلاً من الرجال، وبقيّتهم يتقلبون في فرشهم غافلين عن دعاة الفلاح وأصوات المآذن، لا يجيبون داعي الله. وصنف آخر من المسلمين هجروا الصلاة مع الجماعة، وبذلك عطلوا بيوت الله، وما حالهم وبم يفكّرون إذا رأوا نذر السماء؟! إنها مصائب ورزايا, والنذر صباح مساء. وآخرون قد أغناهم الله وأعطاهم من المال ما أعطاهم، فإذا بهم يتخوضون في مال الله، يتجاوزون الحلال إلى الحرام, يتثاقلون الزكاة ويتأخّرون في الصدقات, وينسون أو يتناسون أن في أموالهم حقّا للسائل والمحروم، ولا يتحرّجون في أنواع من المعاملات والمساهمات وإن داخلها الحرام والربا. وكثير من الناس لا يخشون الله ولا يراقبونه في مكسبهم، وأكلوا بعض المال بالباطل، مستخدمين أصنافًا من الغش والخداع والاحتيال ونقص المكيال.
ألا تشهدون قطيعة الأرحام؟! ألا ترون عقوق الوالدين؟! ألا ترون قلة ذكر الله؟! ألا ترون الإعراض عن طاعة الله؟! وانتهك كثير من الناس المحرمات، وتساهلوا بالزنا والمخدرات، ناهيك عن روَّاد القنوات وأصحاب الفضائيات، فهم في عالم لا كالعالم، وفي خيالٍ لا كالخيال، إن سَلِمَ من فلمٍ ساقط وقع على رقصٍ فاضح، أو سَلِمَ من طَعنٍ في الدين وقع في شهواتٍ إلى الجبين، شباب قابعون وراء الفن الزائف، راقصون وراء الأغنية الماجنة، راكضون وراء الكرة الفارغة، أُمنيّة أحدهم أن يسجل هدفًا أو أن يفوز ناديه في التصفية، إذا تحدّث تحدث في أخبار اللاعبين أو الفنانين، وإذا خاصم خاصم من أجل أن هذا اللاعب أو هذا الفنان أو الفنانة أحسن من ذاك، فإذا كبُر همُه قليلاً أخذ يجمع أشرطة الساقطين والساقطات من المغنين والمغنيات، قد هام حبًا بهذه الفنانة أو اشتاط غضبًا من ذلك الفنان، فأين هؤلاء الشباب عن دينهم؟! أين شباب الإسلام عن المساجد؟! أين الشباب عن الذكر؟! أين الشباب عن القرآن؟! أين الشباب عن العفة والكرامة؟! أين الشباب عن قيام الليل؟! أين الشباب عن حفظ القرآن؟! أين الشباب عن التنافس في الطاعات وحفظ المتون والدعوة إلى اللّه؟! أين الشباب عن إنكار المنكر؟! أين الشباب عن طاعة الوالدين؟! أين الشباب عن حسن التعامل مع المجتمع؟! طائع لشيطانه، همه التفنن في قيادة السيارة، قد أزعج الخاصة والعامة، وجلب للناس الضجرَ والسآمة، فكم من داعٍ يدعو عليه، وكم من مبتلى به يتمنى زواله، لا يمشي إلا وهو حامل سلاحه، حتى إنهم تساهلوا بالدماء وقتل الأنفس بغير الحق، ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضًا إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلى ظهر فيهم الخسف، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يُسمع دعاؤهم.
إن الفتن كما تدفع بالدعاء تدفع بالدعوة، والمنكر إذا ظهر واستعلن فلا بد من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25].
فيا عباد الله، لقد أصيب أناس بفسادٍ في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهماهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم حتى ربا فيها الصغير وهرم عليها الكبير فلم يروها منكرًا، أقاموا البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الغلبة لهذه الأمور، فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت فباطن الأرض والله خير من ظهرها، وقمم الجبال خير من السهول، ومخاطبة الوحوش أسلم من مخالطة الناس.
اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر، وذهبت البركات، وقلّت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الفسقة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم، وكثرت الفواحش، وغلبت المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السيل بتوبة نصوح ما دام بابها مفتوحا.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله، وقفوا عند حدود الله، وعظّموا حرماته, فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5]. وإيّاكم أن تزيدوا فسوقًا كلّما زادكم الله نعيما وأنتم تقرؤون عن قوم قال الله فيهم: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 44، 45].
فلنتق الله أيها المسلمون، ولنأخذ بأسباب النجاة؛ فإن هلاك الإنسان ونجاته مقيد بما كسبت يداه، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا. كان عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد: (إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره).
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن الأرض التي تحملكم والسماء التي تظلكم مطيعتان لربكم، فلا تمسكان بخلاً عليكم ولا رجاءَ ما عندكم، ولا تجودان توجعًا لكم ولا زلفى لربكم، ولكن أُمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11]، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنه ليس من عبدٍ إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عملٌ صالحٌ في الأرض ولا عملٌ يصعدُ في السماء)، ثم قرأ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 29].
فاتقوا الله، واستقيموا على دين الله، يرزقكم الله يا عباد الله، وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16].
نسأل الله العلي القدير أن يحفظ بلادنا وجيراننا وكل بلاد المسلمين من كلّ سوء ومكروه, وأن يهدي ضالّ المسلمين، وأن يردهم إليه ردّا جميلا، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين.
اللهم يا من أودع في الكون روعته، وأرسل في الحياة إبداعها، ونشر في الأرجاء رحمته، لا تجعلنا من أشقياء الدنيا والآخرة، واهد لنا شيبنا وشبابنا، إنك على كل شيء قدير.
ثم اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من خير الأعمال في هذا اليوم العظيم الصلاةَ على نبيكم محمدٍ، فصلوا وسلموا على رسول الله امتثالا لأمر الله حيث أمركم ربكم بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا.
اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك واخذل المشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين...
(1/5401)
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
22/5/1428
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خيرية هذه الأمة. 2- حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثماره. 4- مفاسد ترك هذه الشعيرة. 5- التحذير من مجالسة أهل المعاصي. 6- الدفاع عن جهاز الهيئة من هجمات المغرضين.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد حبا الله تعالى أمة الإسلام منحًا ربانية وعطايا إلهية تفضل بها عليها؛ ما هيأها لتكون خير الأمم وأزكاها على الإطلاق، وقد ربط سبحانه عزة الأمة وشرفها بوجود تلك الخصال في أي زمان ومكان، بل ووعد بالعز والتمكين لمن تمسك بها. ولا تكاد خصال الخيرية هذه تُذكر إلا ويُذكر في مقدمتها شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الشعيرة العظيمة التي توافرت النصوص وتضافرت في الأمر بها والحث عليها وربط الخيرية بها ووعيد من أهملها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها عند الله" اهـ.
لقد حكم الله بخيرية الأمة إن كانت هذه الشعيرة من خصالها واتصف بها أفرادها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]. قال القرطبي: "في هذه الآية مدْح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم وكان ذلك سببًا لهلاكهم" اهـ.
كما أن هذه الآية تفيد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الجميع بدليل عطف الإيمان عليها؛ إذ ليس هناك من أحد يقول: إن الإيمان فرض على الكفاية لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أحد بحسبه.
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدؤه من أمر الإنسان نفسه ونهيه إياها؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها؛ إما بمعروف وإما بمنكر".
ولقد أذل الله أمة تركت تلك الشعيرة وأهملت شأنها، فكان عاقبة أمرها خسرًا، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].
أيها المسلمون، إن في إحياء هذه الشعيرة العظيمة ثمارًا كثيرة ومنافع عظيمة، فمن ذلك التمكين في الأرض، يقول الله جل شأنه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]. ومن ذلك أيضًا أنه علامة على فلاح الأمة، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
وهو من صفات المؤمنين المرحومين ومن علامة صلاح القائمين بها، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 114].
وإن من فضل هذه الشعيرة أنها من أعمال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى في وصف أكرم خلقه : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ الآية [الأعراف: 157].
ومن أعظم ثمار القيام بهذه الشعيرة أن سنة الله مضت في إنجاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، يقول الله جل شأنه عن أصحاب السبت: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165]. قال الشيخ ابن سعدي عند هذه الآية: "وهكذا سنة الله في عباده أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر" اهـ.
ويقول الله جل شأنه: فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 116، 117]. فأخبر سبحانه أنه أهلك الظالمين المجرمين الذين انغمسوا في الترف والنعيم والملذات وتركوا النهي عن الفساد في الأرض، وأنجى سبحانه الذين كانوا يقومون بهذه الشعيرة العظيمة فيهم، ثم أخبر سبحانه أنه لا يهلك البلاد التي أهلها مصلحون، فهم صالحون في أنفسهم مصلحون لما أفسد الناس. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "وفي هذا حث لهذه الأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصّرونهم من العمى، وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون إمامًا في الدين إذا جعل عمله خالصًا لرب العالمين" اهـ.
عباد الله، وإذا كانت هذه بعضَ فضائل القيام بهذه الشعيرة فإن تركها وإهمال شأنها نذير شر وبلاء وفرقة وتناحر بين أفراد الأمة، وفتحٌ لأبواب الفساد في الأرض: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251]. قال الغزالي رحمه الله: "ولو طوي بساطه وأُهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد".
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)).
كما أن ترك هذه الشعيرة العظيمة من الأسباب التي أحلّت لعنة الله على الذين كفروا من بني إسرائيل في زمان داود وعيسى بن مريم، كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]. قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود وعيسى بن مريم عليهما السلام بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه، وعن ابن عباس قال: لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان. ثم بين لهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم فقال: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي: كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يُرتكب مثلُ الذي ارتكبوه فقال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " اهـ.
وقد روى الأربعة إلا ابن ماجه من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) ، وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم)).
قال ابن العربي رحمه الله: "وهذا فقه عظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل به إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظَّلمة للخلق".
وإنما كان السكوت عن المنكر مع القدرة موجبًا للعقوبة لما فيه من المفاسد العظيمة فإن مجرد السكوت معصية، وهو دليل على التهاون بالمعاصي وقلة الاكتراث بها. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله وبما كان عليه هو وأصحابه رأى قلة ديانة الناس في جانب الأمر والنهي، وأيُّ دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدودَه تضاع ودينَه يُترك وسنة رسوله يُرغب عنها وهو بارد القلب وساكت اللسان؟! شيطان أخرس؛ كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بليّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟! وخيرهم المُتَلَمِّظ المتحزِّن، ولو أنه نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله لبدّل وتبدّل وجدّ واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتمّ كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل".
ومن المفاسد أن ذلك يجرّئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يُردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولاً. قال سفيان الثوري: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق".
ومن أعظم المفاسد أن بترك الإنكار للمنكر يندرس العلم ويكثر الجهل، فإن المعصية مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص وعدم إنكار أهل الإصلاح لها يُظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، أو على الأقل يستمرئها الناس حتى تكون عادة من العادات وقد كانت من المعاصي؛ بل ربما من الكبائر، وخذ من أمثلة هذا أكل الربا والدخان وحلق اللحى وإسبال الثياب وسماع الغناء والمعازف [1].
يقول ابن عقيل: "من أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح، فهذا أشقّ ما يحمله المكلف؛ لأنه مقام الرسل حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء للسنن وإماتة للبدع" إلى أن قال: "لو سكت المُحِقّون ونطق المبطلون لتعوّد النشء على ما شاهدوا وأنكروا ما لم يشاهدوا، فإذا أحيا المتديّن سنة أنكرها عليه الناس وظنوها بدعة" اهـ.
أيها المسلمون، ليحذر من يجالس أهل المنكر ويتعذر لنفسه ـ ولا عذر له ـ بأنه مُنكِرٌ لفعلهم بقلبه، وله ولأمثاله نقول: إن إنكارك بقلبك يستلزم مفارقتك للمنكر وأهله، أَوَما سمعت الله تعالى يقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140] ، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم. فليتق الله من يجالس أهل المنكر زاعمًا الإنكار عليهم بقلبه؛ فإنه مع تلبّسه بالإثم في عدم الإنكار يُخشى عليه أن ينجرّ معهم حتى يكون مشاركًا لهم بقوله وفعله.
اللهم اجعلنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] من قوله: وإنما كان السكوت... الخ، يراجع فيه تفسير ابن سعدي.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، لقد أنعم الله على هذه البلاد بنعمة عظيمة ليست في غيرها، وحُقّ لها ولأهلها الفخر بهذه النعمة، وهي وجود جهاز رسمي مستقل مرتبط بولي الأمر يقوم بهذه الشعيرة العظيمة، ويعمل فيه أناس من أهل الخير والغيرة والإصلاح، نحسبهم كذلك والله حسيبهم.
وإن هذا الجهاز المبارك ليتعرض هذه الأيام لهجمة شرسة من بعض المأفونين المخذولين من خلال وسائل الإعلام وغيرها، وهذه الهجمة تتكرر حينًا بعد حين؛ يسعى أولئك من خلالها إلى إسقاط هذا الجهاز وهدمه، ولنا مع هذه الهجمات المتكررة وقفات:
الوقفة الأولى: إن تسليط الضوء بالنقد الجارح على الهيئات ووضعها تحت مجهر الطعن والتجريح دليل على كمالها وعلو كعبها؛ إذ لو كان جهاز الهيئات مهترئًا متهالكًا لما تسلّطت عليه الأقلام المسمومة واصطاد أصحابها بالمناقيش في الماء العكر.
الوقفة الثانية: إن من يشنّ مثل تلك الهجمات حول الهيئات هم أحد ثلاثة أشخاص:
1- رجل ملوث العقل والقلب والفطرة تؤزّه شياطين الجن والإنس، قد سخّر لسانه وقلمه للطعن في الهيئات والنهش منها، فتراه يهاجم مرة بتهمة مصادرة الحريات، وأخرى بالتدخل في شؤون الآخرين.
2- ورجل ذو سابقة مع الهيئات، قد أخذت بُحجزته عن تحقيق نزوته وشهوته، فكرهها لأجل هذا.
3- وثالث ساذج مغفّل يهذي بما لا يدري ويهرف بما لا يعرف، يتبع كل ناعق، ويصدّق كل ما يقال دون تمحيص، وإنه ليصدق في هؤلاء قول القائل:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
الوقفة الثالثة: إن كل ما يُذكر من وقائع يُطعن بها في الهيئات ورجالها إما كذب مفترى أو صدق زيد فيه ونُقص، والحق فيه قليل، وما كان فيه من الحق فإنهم معذورون مجتهدون مأجورون، وقد قال النبي في المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)).
ثم إن تلك الوقائع لو ثبتت فإنها لا تقارن بجهود الهيئات وحسناتها التي لا تنتهي.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
فكم سِحر أبطلوه، وكم مصنع خمر أفشلوه، وكم من عرض حفظوه، وكم من أبٍ غافل أيقظوه؛ ولذا فإنا نقول لأولئك الطاعنين:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكمُ من اللوم أو سدوا المكان الذي سدّوا
أولئك هم خير وأهدى لأنَّهم عن الْحق ما ضلّوا وعن ضدّه صدّوا
الوقفة الرابعة: ولو سلّمنا جدلاً أنه قد وُجد في رجال الهيئات من أساء التصرف قصدًا وأراد الخطأ عمدًا فإن الخطأ ينبغي أن لا يتعدى المخطئ إلى غيره، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8].
وإني لأسألكم بالله: لو أن ضابطًا في قطاع عسكري أو موظفًا في دائرة حكومية أساء التصرف في موقعه وتجاوز حدوده وتعدى صلاحياته المنوطة به هل كانت الهجمة أو الطعنة ستطول دائرته المدنية أو العسكرية؟! وهل سيتقبل المجتمع تعميم تلك التهمة على كامل الجهاز؟!
وأخيرًا عباد الله، إن الواجب أن نشكر الله على وجود مثل هذا الجهاز المبارك، ونؤدي حق شكر النعمة بإعانة القائمين على الهيئات، فليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقفًا عليهم فحسب، وأن ندعو لهم، ونكف عن الحديث فيهم إلا بخير، وأن نغض عن أخطائهم، فإن كل بني آدم خطّاء، بل وندافع عنهم ونُلقم بالحجر كل من حاول تشويه جهودهم بلسانه أو قلمه، ونلتمس لهم العذر فما أرادوا إلا خيرا.
وإن من الواجب أيضًا أن نحرص ونجتهد في المحافظة على هذا الجهاز وإبقائه مستقلاً بشخصيته الدينية وصبغته الشرعية، وأن نرفض كل ما يقلّص دوره أو يضعف نشاطه أو يقلل من صلاحياته. وما يدريكم فربما كان حفْظ الله لهذه البلاد من الأخطار التي تحدق بها والبلايا التي تجتاح البلاد من حولها بسبب أدائها هذه الشعيرة؟!
اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم انصرهم وأيدهم، واخذل من خذلهم وتطاول عليهم، اللهم انصر من نصرهم واكبت من حاول كبتهم، اللهم من كادهم فكده وانتقم منه يا قوي يا متين...
(1/5402)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
محمد بن مبروك لعويني
وادي سوف
30/6/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النجاة في الاعتصام بالكتاب والسنة. 2- مفاسد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- صفات الآمر بالمعروف. 5- ضرورة التحلي بالصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- شروط الأمر بالمعروف وآدابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أسباب النجاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أسباب السقوط والهلاك السكوت عن المنكرات، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.
يا أمة الحق والآلام مقبلة متى الخلاص وقد لمت بنا العبر؟!
متى يعود إلى الإسلام مسجده؟! متى يعود إلَى محرابه عمر؟!
أَكُلّ يوم يُرى للدِّين نازلةٌ؟ وأمة الْحق لا سمع ولا بصر
عباد الله، ونحن نعيش زمنًا عصيبًا ووقتا دقيقًا وحرجًا، يتعلق بمصير أمتنا. إن النجاة في انقيادنا لكتاب الله وسنة رسوله ، فلقد كتب الله لهذه الأمة حين تبتعد عن كتاب الله أن تتقلب في ثنايا الإهانات، وتتنقل من هزيمة إلى هزيمة، فلنرفع الغطاء عن أعيننا، ولنكن صرحاء مع أنفسنا، كفانا نكبات وكوارث ونكسات، كفانا تلمس النصر في ثنايا البَشَر من دون الله، كفانا ابتعادا عن كتاب الله وسنة رسوله ، ولنعُد إلى الحق المبين يوم يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
فمن أعظم خصائص أمتنا أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فما نتيجة أن يُقَرَّ الناسُ على الجريمة ويُسْكتُ على الفاحشة ويُقَدَّم الفاسقُ العاصي ويُؤخَّر المؤمِن الطائع؟ ما نتيجة ترك الصلوات وتعاطي المخدرات والركون إلى الذين ظلموا وسماع الأغاني الماجنات والجري وراء الشهوات والمجاهرة بكل هذه المنكرات؟ ما نتيجة الرضا والسكوت عنها؟
إن نتيجة ذلك أنه سوف تختل الأمور، ويغضب الله تعالى علينا، معناه أن البركة نزعت؛ لأننا سمعنا ورأينا فما حرَّكنا ساكنًا، وإلا لماذا كنا خير أمة أخرجت للناس؟! كنا كذلك بالأمر والنهي؛ نأمر بالمعروف بالمعروف، وننهى عن المنكر بلا منكر، وإلا فإن العذاب والسوء ينتظرنا. جاء في صحيح الترغيب والترهيب عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليوشِكَنّ الله أن يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)).
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ. ذاك في بني إسرائيل، لكن والله قد وجد في مجتمعاتنا من يدعو إلى عدم التكلم عن الجرائم والمنكرات وعدم تشخيصها وتحذير الأمة منها، ووالله ما حصل ذلك إلا وهلكت الأمة وذهبت إلى الدمار والعار والنار.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ، الزنى ودور الخمر فشت، وقطيعة الرحم والعقوق ذاعت، وتَفْوِيت الجماعات شاع، والتطفيف في المكيال والميزان زاد، والرشوة والغش والرّبا وأكل أموال الناس بالباطل كثر، والمنكرات بأنواعها انتشرت في كل مكان.
أترضون أن يعم الشر فيُؤخَذ الصالح والطالح وأن تنزل لعنة الله علينا؟! أترضون أن يمقتنا الله من فوق سماواته؟! أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! أما اتكلنا على غير الله؟! أما عَمَّت الشعوذة والخرافة؟! أما انتشر الفحش؟! أما استبدل بالقرآن في بيوت كثير من الناس الأغاني الماجنة؟! أما ضيعت الصلوات إلا في بيوت من رحم الله؟! أما هانت صلاة الجماعة على كثير من الناس حتى إنهم لا يُبالون أَصلّوا في بيوتهم أو في المساجد؟! أما انتشر الربا وسُكت عليه بل يعُدُّهُ البعض فطنة وذكاء في كسب المال وما أكثر البنوك الربوية؟! أما قطعت الأرحام وعُقَّ الوالدان؟! أما أُعلن الإلحاد؟! أما سُبَّ الإله؟! أما سُبَّ رسول الله ؟! أما قُتل المسلمون في كثير من الدول ولا منكِر لذلك؟! أما أُحييت الليالي والسهرات على أصوات المغنين والمغنيات؟! أما أُكل ميراث كثير من النساء واليتامى بحُجَّة أو بغير حُجّة؟!
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ ـ أَوْ: نَقُولَ ـ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. رواه البخاري ومسلم.
ألا لا تأخذ المسلم في الله لومة لائم، يغضب مَنْ يغضب إذا رضي الله، ويسخط من يسخط إذا رضي الله، فاحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة. روى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قَالَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)). وهذا مثل من يترك المفسدين الفجرة الذين يلعبون بالأعراض والمبادئ والقيم ويقول: نفسي نفسي، يصلي ويخرس كالشيطان الأخرس، من بيته إلى المسجد، ويرى الأمم، ويرى الأجيال والشباب تائهين ضائعين حائرين، ثم لا يقول: هذا هو الطريق؛ ليبقى وديعًا هادئ البال مطمئنًا مرتاحًا، أما والله لو أن كل واحد منّا أَمَرَ بأمْرٍ بسيط أو نهى عن منكر في اليوم الواحد بالتي هي أحسن لَصَلَحَ حالُنا، مَن ننتظر أن يُصلح حالَنا إذا لم نكن نحن من يصلحه؟! قال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر خالصًا لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال: أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثرًا ولا فائدة ولا نفعًا، وأن يكون ذا علم، وأن يكون ذا بصيرة وحكمة، دْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وأن يكون عاملا بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس وهو واقع فيما ينهى عنه، لن تقبل دعوته. وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسن؛ بالتحبب إلى القلوب. إن الذي يأتي ليغير منكرًا بمنكر ما فعل شيئًا، بل أعان الشيطان على أخيه. إن من يجرح ويفضح الناس ويشتم الناس ويسب الناس لن يجد أثرًا لدعوته.
ألا يا عباد الله، مروا بالمعروف، لا تخشوا إلا الله، لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق، ولا خير فيمن لم يسمعها، ولا تظنوا أن الطريق مفروش بالورود لمن أمر ونهى، إنه طريق النبي ، أوذي فيه، ووضع سلى الجزور على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وأُدمي عقباه، وشُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما ضعف، وما استكان، وما هان، وما كان له ذلك، وللدعاة من بعده قدوة فيه.
وها هو أحد الصالحين، ذكر أهل السير أنه دخل على ابن مقلة وزير المجرم العباسي، سفك الدماء، ونهب الأموال، فاعترض عليه هذا الرجل الصالح، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر؛ فما كان منه إلا أن جلده عشر جلدات، فقال: أتجلدني يوم آمرك وأنهاك؟! أسأل الله أن يقطع يدك ولسانك. ويستجيبُ الله دعاء المخلصين الصادقين، ما مر عليه ستة أشهر حتى أُخِذت أمواله وقطعت يده وقطع لسانه، وأخذ يبكي ويكتب على الحيطان:
ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ يا حياتي بانت يميني فبِيني
يبكي ويكتب على الحيطان:
إذا ما مات بعضك فابكِ بعضًا فإن البعضَ من بعضٍ قريبُ
ها هو أبو الدرداء لما فتح المسلمون جزيرة قبرص رأى صراخ أهلها وبكاء بعضهم إلى بعض، فبكى كثيرًا، قيل له: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: ويحكم، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره! بينما هم أمة ظاهرة تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترون.
أسأل الله تعالى أن يوفق الأمة وولاتها إلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الذي يرضي ربنا، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس بأمرنا ونهينا، إنك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، إنه ما أصاب كثيرا من بلاد الإسلام من جهل وضلالات وبدع وخرافات وفشو المنكرات ومجاهرة بالمعاصي والفسوق وإعراض عن الحكم بشريعة الله العادلة في كثير من بلاد الإسلام إلا وكان مرد ذلك ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى نشأت أجيال مسلمة على تلك المنكرات فألفتها لكثرة ورودها على القلوب وتكرار رؤيتها في العيون، حتى لم تعد تنكر ولا يُبالى بارتكابها.
وإنه لا منقذ لأمة الإسلام مما هي فيه من تلك المنكرات إلا بالعودة إلى الدين الصحيح ورفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلاد الإسلام وبين أهل الإسلام، وإعلاء شأنه على جميع المستويات. فائتمروا ـ أيها المؤمنون ـ بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وتواصوا بالصبر عليه، وليجاهد كل مسلم ومسلمة نفسه على القيام به حسب القدرة والطاقة، وليكن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر مبنيا على قاعدة الشرع العظمى في جلب المصالح ودرء المفاسد، فليأمر بالمعروف ولْيَنْهَ عن المنكر حينما لا يترتب عليه تفويت مصلحة أكبر أو حصول منكر أعظم، فإن من فاته تطبيق هذه القاعدة في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر كان فساده أكبر من صلاحه وضرره أكثر من نفعه.
كما أن على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يراعي مراتب الإنكار التي أوضحها رسول الله لأمته بقوله: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) ، فالإنكار باليد لمن له ولاية كالأب في بيته وولي الأمر في ولايته وسلطانه ولمن أنابهم عنه، أما الإنكار باللسان فواجب على كل من تحقَّق المنكرَ وأيقنه عن علم وبصيرة، ويتأكد ذلك في حق العلماء والدعاة، أما الإنكار بالقلب فلا يعذر فيه أحد من الخلق؛ إذ ليس ثمة أحد يحول بين المرء وقلبه، وليس وراء ذلك مثقال ذرة من إيمان.
ولا بد لمن قام بهذا الأمر الجليل من التحلي بالرفق واللين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون تجريح للمأمور أو تشنيع عليه، بل على الآمر أن يكون ذا رحابة في الصدر وحرص على هداية الخلق، وأن ينظر للواقعين في المعاصي بعين الرأفة والشفقة، وأن لا ينظر إليهم نظر ازدراء واحتقار وإعجاب بالنفس، وليتذكر نعمة الله عليه إذ لم يقع فيما وقعوا فيه، وعليه الصبر على ما يلاقي في هذا السبيل من الأذى كما قال عز وجل حكاية عن لقمان في وصيته لابنه: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17]، وليتذكر من يقوم بذلك أن الأصل في دين الإسلام هو الستر على من وقع في معصية لعموم قوله : ((من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام لمن جاء إليه بصاحب معصية: ((لو سترته بثوبك كان خيرا لك)). إلا أن هذا في حقّ من لم يجاهر بالمعصية، أما المعلن بالفسق والمجاهر بالمنكر فلا حقّ له في ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) ، وقال الإمام أحمد رحمه الله: "الرجل المعلن بالفسق لا حرمة له"، وما ذاك إلا أن السكوت عن المجاهر والتغاضي عنه يحمله على المزيد من ارتكاب المنكر وانتهاك الحرمات وإشاعة الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.
وإن على المأمور أن يستجيب لأمر الله ورسوله، ويذعن للحق ويقبله ممن جاء به كائنا من كان، وليحذر من الإعراض عن ذلك خوفا من عذاب الله الأليم وبأسه الشديد، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 24، 25]، وقال تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك...
(1/5403)